المجلد الرابع

السيرة النبويَّة وأهل البيت


المحتويات


مقدمة

السيرة النبويَّة

أولاً: الولادة والنشأة

ثانياً: المبعث

ثالثاً: هجرة أصحابه(ص) إلى الحبشة

رابعاً: خروج الرسول(ص) إلى الطائف

خامساً: لقاء الرسول(ص) بأهل يثرب

سادساً: وفاة الرسول(ص)

سابعاً: منهجية السيد في قراءة السنّة النبوية

ثامناً: إضاءات على هامش السيرة

تاسعاً: إشكاليات حول الرسول(ص)

عاشراً: صورة الرسول(ص) في القرآن

 حادي عشر: أخلاقيات الرسول(ص)

ثاني عشر: علاقته(ص) بزوجاته

ثالث عشر: علاقته(ص) بأصحابه وبالناس من حوله

رابع عشر: الرسول الأسوة

خامس عشر: معجزات الرسول(ص)

خاتمة

مصادر


الإمام عليّ(ع) والإسلام

أولاً: موقع عليّ(ع) من رسول الله

ثانياً: تميّز علي

ثالثاً: عليّ في السياسة

رابعاً: تعاليم عليّ(ع)

الخلاصة

المراجع

خامساً:

سادساً:

سابعاً:


أهل البيت(ع)

أولاً: السيّدة الزهراء(ع)

ثانياً: الإمام عليّ بن أبي طالب(ع)

ثالثاً: الإمام الحسن(ع)

رابعاً: الإمام الحسين(ع)

خامساً: الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين(ع)

سادساً: الإمام محمّد بن علي  الباقر(ع)

سابعاً: الإمام جعفر بن محمّد الصادق(ع)

ثامناً: الإمام موسى بن جعفر الكاظم(ع)

تاسعاً: الإمام عليّ بن موسى الرضا(ع)

عاشراً: الإمام محمّد بن عليّ الجواد(ع)

حادي عشر: الإمام عليّ بن محمّد الهادي(ع)

ثاني عشر:

الإمام الحسن بن عليّ العسكري(ع)

ثالث عشر: الإمام المهدي(ع)


مدرسة الإمام الحسين(ع)

أولاً: عاشوراء، التعريف والتسمية

ثانياً: شخصية الحسين(ع)

1-الاتجاه العاطفي

2-الاتجاه الفكري

ثالثاً: عاشوراء بين العاطفة والفكر

رابعاً: عدم اختزال عاشوراء في البعد المأساوي

خامساً: قضايا عاشوراء

سادساً: تطوير أساليب إحياء الذكرى

سابعاً: السيدة زينب(ع)؛ شراكة في القضية

مقدمة

يتضمن المجلد الرابع دراسات عن السيرة النبوية، والإمام عليّ(ع)، ومدرسة الإمام الحسين(ع).

في السيرة النبوية، نقرأ مباحث عن الولادة والنشأة والمبعث وخروج الرسول(ص) إلى الطائف ثم لقائه بأهل يثرب، وصولاً إلى وفاته(ص). ونجد منهجية السيد في قراءة السنّة النبوية، وصولاً إلى ما يطرح من إشكاليات حول الرسول(ص)، وصورته في القرآن الكريم، وأخلاقياته ومعجزاته.

وفي الدّراسة المعنونة: "الإمام عليّ(ع) والإسلام"، نقرأ موقفه من الرسول(ص)، وتميزه، وسياسته وتعاليمه.

وفي الدراسة الخاصة بأهل البيت(ع)، نجد سيراً وتقويمات للسيدة الزهراء والإمام عليّ وأبناؤهما(ع)، وصولاً إلى الإمام المهدي(ع). وهناك دراسة خاصة تحت عنوان "مدرسة الإمام الحسين(ع)"، تتضمن مباحث عن عاشوراء وموقعها في الإسلام والسّيرة الحسينية، وأساليب إحياء ذكراها، ودور السيدة زينب(ع) فيها.

وكما المجلدات السابقة، استندت هذه الدراسات إلى أدبيات السيّد ومواقفه، وتمّت الإشارة إلى مراجعها ومصادرها عند الاقتضاء.



السيرة النبويَّة


                               موسى فضل الله

                             كاتب وشاعر لبناني، متخصص في الآداب


أولاً: الولادة والنشأة

ثانياً: المبعث

ثالثاً: هجرة أصحابه إلى الحبشة

رابعاً: خروج الرسول(ص) إلى الطائف

خامساً: لقاء الرسول(ص) بأهل يثرب

سادساً: وفاة الرسول(ص)

سابعاً: منهجية السيد في قراءة السنّة النبوية

ثامناً: إضاءات على هامش السيرة

تاسعاً: إشكاليات حول الرسول(ص)

أولاً: الولادة والنشأة

ثانياً: المبعث

ثالثاً: هجرة أصحابه إلى الحبشة

رابعاً: خروج الرسول(ص) إلى الطائف

خامساً: لقاء الرسول(ص) بأهل يثرب

سادساً: وفاة الرسول(ص)

سابعاً: منهجية السيد في قراءة السنّة النبوية

ثامناً: إضاءات على هامش السيرة

تاسعاً: إشكاليات حول الرسول(ص)

عاشراً: صورة الرسول(ص) في القرآن

 حادي عشر: أخلاقيات الرسول(ص)

ثاني عشر: علاقته(ص) بزوجاته

ثالث عشر: علاقته بأصحابه (ص) وبالناس من حوله

رابع عشر: الرسول الأسوة

خامس عشر: معجزات الرسول(ص)

خاتمة

مصادر




                                        






يبتني الإسلام على شهادتين؛ الشهادة بالوحدانية لله، والشهادة بالرسالة لرسول الله(ص). ولذلك تشكّل شخصية رسول الله مركزاً محورياً في البناء العقائدي الإسلامي، من خلال سيرته التي تمثّل التطبيق العملي للقرآن الكريم، والتي تفصّل ما أجمله القرآن من ناحية التشريعات الإسلامية في مستوياتها المختلفة؛ العبادية والأخلاقية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية..

وقد تعرّضت السيرة النبوية للتحريف والتغيير على يد أصحاب المصالح السياسية والدينية ذات الاعتقادات المختلفة، في محاولة لاكتساب الشرعية في تفسير نصوص القرآن، أو في توكيد الاعتقادات.

ولذلك، شكَّلت السيرة النبوية وشخصية النبيّ محوراً أساسياً في القضايا التي انشغل بها سماحة العلامة المرجع السيد فضل الله(رض) بحثاً وتحليلاً، وذلك في محاولة منه لإظهار الإسلام وتقديمه، بعيداً عن التشويه الذي أحدثه الزمن، وبعيداً عن الأفكار المختَرَقة بالثقافات غير الصافية إسلامياً، أو بالثقافات الإسلامية التي تسرّب إليها الانحراف؛ بالانغلاق على النصوص، أو بهجرها لمصلحة نصوص مستحدثة داخلة غير متوائمة مع المنظومة الإسلامية فعلاً.

ولذلك تشكّل هذه الورقة مدخلاً إلى فهم الاعتبارات الفكرية والعملية التي وجّهت مسيرة السيّد، من خلال ما اعتقده واعتمده من سيرة الرسول(ص)، وما بنى عليه من  تجربته في مستوياتها وأشكالها المختلفة، ولما اعتقده واعتبره - بالتالي - من قواعد تحكم الحركة الإسلامية في مجالات الفكر والعمل، والتي شكّلت رافداً للحركات الإسلامية عموماً، والشيعية خصوصاً، بل حتّى للحركات غير الإسلامية، في أواخر القرن المنصرم وبداية القرن الجاري، وذلك في مجالات مختلفة، ليس أوّلها التأصيل لفكرة مقاومة الاحتلال، وليس آخرها الإيمان بالإنسانية عامّةً كمدخل للتعاون في سبيل تحقيق قيم العدل والخير والحقّ والحرية التي نزلت بها الرسالات جميعها، والتي تعمل الأنظمة والقوانين الوضعية الحديثة في العالم اليوم ـ ولو من حيث الشكل ـ في سبيل الوصول إلى الصيغة الأفضل لها، من حيث الاهتمام بوضع النظريات وتطبيقها العمليّ في مساحات الواقع المتاحة.

وتبقى الإشارة إلى أنّ هذا العرض مستلّ من سائر كتب السيد، سوى تفسيره الكبير للقرآن والموسوم باسم: (من وحي القرآن)؛ وذلك لأنّ المجال لا يتسع لأكثر من هذه الصفحات. على أنّ هذا لا يخلُّ بموضوعية العرض وعلميّته، لأنّ السيد(رض) عندما كان يتحدث في خطبه ومحاضراته وكتبه، فإنّه كان يتحدّث من خلال خلاصة تجربته التفسيرية، وكان يضع ملخَّصات الأفكار التي استفادها في التفسير طيّ كتبه ومحاضراته.


أولاً: الولادة والنشأة


اختلف المسلمون الشيعة والسنَّة في التاريخ الصحيح ليوم ولادة الرسول(ص)، غير أنّ السيد يرى أنّ المسألة ليست خلافاً بين تاريخ لأهل السنة وهو يوم الثاني عشر من ربيع الأوّل، وتاريخ لأهل الشيعة وهو السابع عشر منه، فإنّ الشيخ الكليني (ت328هـ) ثقة الإسلام، يرى في (الكافي) أنّ المولد النبوي هو في الثاني عشر من ربيع الأول. ومن هنا، فإنّ المسألة ليست سنية - شيعية ليختلف الفريقان على أساس التاريخ، باعتبار أنهم قرروا الخلاف في كل شيء؛ لأن تاريخ الثاني عشر التقى فيه بعض علماء الشيعة مع بعض علماء السنة([1]).

عاش النبيّ طفولته يتيماً، فكان يتيم الأب وهو جنين، ثم يتيم الأم في الطفولة، فكفله جده عبد المطلب، ثم عمه أبو طالب، وتعهّده الله تعالى برعايته، حيث وكّل به عظيماً من أعظم ملائكته. ويوضح السيد ذلك في إحدى محاضراته، التي يفسّر فيها كلام  عليّ(ع) عن الرسول(ص)، قائلاً: "لأنّ أعظم الأنبياء يحتاج إلى أعظم الملائكة، فالمعادلة تفرض ذلك، "يسلك به طريق المكارم"، ليدلّه على كلّ المكارم الإنسانية بكلّ عناصرها الروحية، "ومحاسن أخلاق العالم"، بحيث يجمع له أفضل أو كلّ المحاسن التي يتميز بها العالم بأسره، "ليله ونهاره"، حيث كان يرضع عند حليمة السعدية، فكان الملك هو المربي للرسول(ص) نحو مكارم الأخلاق ليله ونهاره، على الأسس التي أراد الله سبحانه أن يركّزها في شخصيته".

اشتهر أنّ الرسول(ص) عمل في صباه في رعي الأغنام، غير أنّ بعض كُتّاب السيرة نَفَوا ذلك عن الرسول(ص)، واعتبروا هذه المهنةَ وضيعةً لا تليق بمقام النبيّ(ص). وقد أجاب السيد عن سؤال حول هذه الإشكالية، بأنّ "هناك بعض الأحاديث التي تقول: إنّ الله ما بعث نبياً إلا وهو يرعى الغنم، حيث يمكن أن يعود رعي الغنم على الإنسان بالكثير من المسؤولية في إدارة شؤون هذه المجموعة التي وأنت تراها، ترى أنّ واحدةً تخرج من هنا، وواحدةً تخرج من هناك... فيكون الإنسان الذي يرعى الغنم وكأنّه في عملية توجيه وتربية ورعاية، ما يجعله يعيش الصبر والمواصلة، وهذا الأفق الرحب المنفتح، ولا إشكال، فإنّ هذا يعين الإنسان على القيام بالرسالة التي تحتاج إلى كثير من الصبر والانفتاح. فالرّعي ليس مهنةً سيئةً إذا أضيفت إليها عناصر الشخصية الأخرى"([2]).

اعتزال الرسول(ص) في غار حراء

كان الرسول(ص) يعتزل في غار حراء، وهو غار في رأس جبل يعرف بهذا الاسم، ويقع شرق مكة المكرمة، ويبعد عن المسجد الحرام حوالى أربعة كيلومترات، وكان يختلي فيه ليتعبَّد لله، ولم يكن يصحب معه أحداً سوى علي بن أبي طالب. ولذلك يتعرّض السيد لهذه المسألة من خلال كلام عليّ(ع): "ولقد كان يجاور في كلِّ سنةٍ بحراء".. وكما ورد في كتب السيرة، أنّ النبيّ(ص) كان يقضي في كلِّ سنة شهراً في غار حراء للعبادة والتأمل.. "فأراه ولا يراه غيري"، حيث كان النبيّ(ص) يأخذ معه عليّاً للتأمّل والعبادة.. وكان(ص) لا يستقبل أحداً وهو في عزلته في حراء"([3])، "بل كان يستغرق في عزلته التأملية التي يناجي فيها ربّه، ويعيش فيها كلّ روحانيته وعبادته مع الله"([4]).

ثانياً: المبعث

اختلفت الآراء في تاريخ المبعث؛ هل هو في السابع عشر من شهر رمضان المبارك أم في الثامن عشر منه، أم في الرابع والعشرين منه، أم في الثاني عشر من ربيع الأول، أم في السابع والعشرين من رجب؟! ويختار السيد الرواية الأخيرة؛ لأنّها الرواية المنقولة عن أهل البيت(ع)، حيث اختار الله فيه نبيّه لرسالته، بعد أن عاش في مدى أربع سنين يتعهده الله تعالى بلطفه وعنايته.. حتى بعثه الله بالرسالة في الأربعين من عمره([5]).

على أنّ روايات المبعث كثيرة ومختلفة التفاصيل جداً، ولذلك فإنّ السيد أفرد لها مساحةً واسعةً في البحث، فاستعرضها ونقدها، رافضاً كلّ ما لا ينسجم فيها مع أجواء الاطمئنان التي يجب أن تتوفر في الرسول الذي يختاره الله لرسالته. وينقل السيّد روايةً من (الدر المنثور) للسيوطي (ت911هـ) عن عائشة زوجة الرسول وفيها: "إنّ أوّل ما بُدِىء به رسول اللّه(ص) من الوحي الرؤيا الصالحة... حتى جاءه الحقّ وهو في غار حراء، فقال له: اقرأ،  قال: فقلت، ما أنا بقارئ،  قال: فأخذني فغطّني حتى بلغ منّي الجهد ثُمَّ أرسلني...". وفي الرواية أيضاً أنّه قال لخديجة: "لقد خشيت على نفسي، فقالت خديجة: كلاّ واللّه، ما يخزيك اللّه أبداً؛ إنّك لتصل الرحم، وتحمل الكَلَّ...". وفي الرواية كذلك: "فانطلقت به خديجة حتى أتت ورقة بن نوفل ابن عمّها، وكان امرأً قد تنصَّر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فأخبر الرسول(ص) بما يراه، فطمأنه وبشَّره بالنبوّة".

ويعترض السيد على هذه الرواية، بأنّها لا تعرض جوَّ الهدوء والطمأنينة والوداعة التي تنسجم مع طبيعة القضية التي يناط بالنبيّ(ص) أمر القيام بها والدعوة إليها، وإنما تعرض الجو الذي يسوده الرعب والخوف والترويع. ولن تجد في الوقت نفسه النبيّ الذي يثق بنفسه، ويعي ما حوله، ويفكّر في ما رأى.. وإنما ترى أمامك الإنسان الخائف الوجل الذي يرجف فؤاده، ويخشى على نفسه لولا أن تثبته خديجة بكلامها. وهكذا يتمثّل لنا الرسول (ص) - في هذه الرِّواية - في موقف الحائر الذي لا يدري ماذا يصنع، فتقوده خديجة إلى "ورقة" الذي فرضته القصّة نصرانياً يكتب الإنجيل بالعبرانية.. حتى يجزم له بأنه نبيّ.. والواقع أنّنا لا نعقل أن يبعث اللّه النبيّ(ص)، وهو أفضل أنبيائه، بأفضل رسالاته، ثُمَّ يحوجه إلى أن يثبت نبوَّته لنفسه - لا للآخرين - بواسطة (خديجة) أو (ورقة)، من دون أن يظهر له البرهان الواضح من قبله تعالى شأنه.

ويمضي السيد في استعراض روايات المبعث ونقدها، فيرفض إحداها لأنّها تتحدث عن شقّ بطن النبي(ص) وغسل ما فيها في طست من ذهب، وفيها أنّ جبرائيل أخذه بالعنف حتى يختم في ظهره، فأجهش النبيّ بالبكاء، وأنّ جبرائيل صار يزنه بالرجال، فلما وازن(ص) مائة رجل، فقال ميكائيل: تبعته أمته وربّ الكعبة.

ويقول السيد معلّقاً على مضمون هذه الرواية: "كأنَّ النبوة تتوقف على عملية جراحية تطهّر الجسد من بعض الأشياء التي لا تتناسب ومقام النبوة"، ويضيف:  "ولا نعرف ما هو السبب لطريقة العنف، أن يطلب له أن يكشف عن ظهره ليختم عليه، بدلاً من هذه الطريقة التي اتّبعها مع النبيّ ليقرأ حتى أجهش بالبكاء؟". ويستغرب في النهاية عملية الكيل، كأنّ النبي لن ينجح في دعوته "إلا إذا بلغ وزناً مخصوصاً".

وينقل السيّد روايتين أخريين تبدو في إحداهما خديجة أعرف بصفات الملائكة من النبيّ(ص)، وأنّ الملائكة لا يدخلون على الرجل والمرأة إذا اجتمعا وخلعت المرأة سترها عن رأسها، ويرفضها السيد، لأنَّ الرسول يبدو فيها بمظهر الرجل الساذج الذي لا يعرف ماذا يصنع وينتظر أن تدلّه خديجة.

وفي ثانيتهما، يظهر الملك جالساً على عرش بين السّماء والأرض، فيخاف منه(ص)، ويذهب إلى بيته فيقول: زمّلوني.. وهنا ينقل كلاماً للشيخ الطبرسي (ت548هـ) في تفسير (مجمع البيان) تعليقاً على هذه الرواية، وفيه: "وفي هذا ما فيه، لأنّ الله تعالى لا يوحي إلى الرسول إلاَّ بالبراهين النيّرة، والآيات البيّنـة الدالَّـة على أنَّ ما يوحى إليه إنما هو من اللّه تعالى، فلا يحتاج إلى شيء سواه، ولا يفزع ولا يفـرق".

ويخلُصُ السيد أخيراً إلى أنّ الارتباك والوضع غَزَوَا تاريخنا الإسلامي، وأنّه يلزمنا التدقيق جيداً قبل أن نصدّق منها حرفاً واحداً، وأنّه علينا محاكمة تاريخنا محاكمةً دقيقة، لنستطيع جلاء مقوّماتنا التاريخيّة بوضوح واتّزان"([6]).

يقرأ السيد المجتمع القرشي الذي بعث فيه الرسول(ص)، فيرى أنّه كان مجتمعاً مشركاً، من خلال "الأصنام الكثيرة التي كان يعبدها الناس آنذاك عبادةً متنوعةً في طقوسها وتقاليدها، وامتدادها في حياة الناس في وعيهم وتفكيرهم، حتى أصبحت قداستها في النفوس شيئاً يشبه الحقيقة المطلقة، تصل إلى مستوى البديهيات الوجدانية التي يبادر الوجدان إلى رفض كلّ ما يخالفها ويعارضها من دون مناقشة أو تأمّل"([7]). غير أنّ هذا المجتمع - في رأي السيد - "هو مجتمع غير متدين حتى بالمعنى الوثنيّ للتدين، فلم نجد في سلوكهم العمليّ ما يوحي بالتصوّف الديني للأصنام، بل كان مجتمعاً تجارياً تحكمه المصالح المالية"([8]). وعلى صعيد آخر، يرى السيد أنّ المجتمع القرشي كان مجتمعاً لا يُحَكِّم العقل، وكان الناس فيه "يؤمنون بالخرافات، ولم يكونوا يفكّرون فيما ورثوه من آبائهم، ولا يناقشون ما كان آباؤهم يتحدثون به، وإنما كانوا يسمعون الأشياء، فيحكمون بما يسمعون، ولم يكونوا يحكمون بما يفكّرون، ولهذا قال سبحانه: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى القُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}"(الحج:46)([9]).

مراحل الدعوة

يسرد السيد تجربة النبيّ(ص) في الدعوة، ويرى أنّها تدرَّجت في مكّة بشكل طبيعي، فانقسم عمله فيها إلى مرحلتين:

1- سرية: فكان الرسول(ص) "يتصل بالأفراد واحداً واحداً، ويطلب منهم أن يتصل كلّ واحد منهم بغيره في سرية وخفاء، لأنّه كان يريد أن يوجد قاعدةً متماسكةً ولو صغيرة، ينطلق منها العمل بقوة، حتّى لا يزول العمل لدى أيِّ ضغط مفاجئ.

وقد نستطيع أن نفهم من خطوات بعض هؤلاء الذين خاطبهم النبيّ بالدعوة، أنّ إسلامهم قد بقي في إطار السرّية إلى نهاية حياتهم، حتّى خيِّل للكثيرين أنّهم لم يدخلوا الإسلام، وذلك مثل (أبي طالب) عمّ النبي، الذي كفله وربّاه وآواه ونصره. فَقَدْ كانت الرسالة بحاجةٍ إلى شخصية قوية تدعمها وتدعم النبيّ(ص)، فكان أبو (طالب) هو هذا الرجل وتلك الشخصية الفذة"([10]).

2- علنية: وقد تحدث السيد عنها في إحدى خطبه فقال: "انطلق رسول الله إلى عشيرته أولاً؛ لأنّ الله تعالى قال له: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ}(الشعراء:214)، وانطلق إلى "أم القرى" ومن حولها؛ لأنّ الله أراد له أن يتدرج في الدعوة، فأنذر عشيرته أولاً، فمنهم من آمن، ومنهم من كفر"([11]).

وفي موضع آخر يقول: "كانت طريقة رسول الله(ص) في الدعوة منذ إعلانه الرسالة في تحركه العلني، في مكّة، أنّه يوافي المواسم كلّ عام، يتبع الحاجّ في منازلهم في المواسم بـ (عكاظ) و(ذي المجاز)، يدعوهم إلى أن يمنعوه حتّى يبلّغ رسالات ربّه ولهم الجنة، فلا يجد أحداً ينصره ولا يجيبه. حتّى إنّه ليسأل عن القبائل ومنازلها قبيلةً قبيلة، ويقول: يا أيّها الناس، قولوا لا إله إلاّ الله تفلحوا وتملكوا بها العرب... وأبو لهب وراءه يقول: لا تطيعوه، فإنّه صابىء كاذب..

إننا نستوحي من هذه الطّريقة عدة جوانب:

الأوَّل: إيصال الدعوة إلى كلِّ مكان وجماعة بشكل شخصي..

الثاني: محاولة التعرف إلى قبائل العرب ورؤسائهم عن كثب، ليأخذ فكرةً واضحةً عنهم وعن عقلياتهم وأوضاعهم، هذا من جهة. ومن جهة ثانية، محاولة تعريفهم بنفسه ليأخذوا عنه الصّورة الصّحيحة، من خلال دعوته وطريقة تفكيره، وطبيعة القضايا الّتي يثيرها ويدعو إلى الإيمان بها.

الثالث: أنّه(ص) كان يفتش _ من خلال ذلك _ عن قاعدة إقليمية وبشرية للإسلام، لأنّ مكّة لم تكن صالحة للانطلاق منها إلى العالم، نظراً إلى القوة المضادَّة، فقد كانت قاعدةً للشرك والطّغيان، وليس من المستطاع _ من وجهة عملية _ تفجيرها وتحطيمها من الداخل"([12]).

ثالثاً: هجرة أصحابه إلى الحبشة

يقدِّم السيد(رض) المبرّر لهجرة أصحاب الرّسول(ص) إلى الحبشة من خلال نصّ ينقله من الطبقات الكبرى لابن سعد (ت230هـ)، فيه أنّ مشركي قريش لم يبالوا بقول الرسول(ص)، وكانوا يكتفون بالقول: "إنّ غلام عبد المطلب يكلَّم من السماء، فكان ذلك حتى عاب الله آلهتهم التي يعبدونها دونه، وذكر هلاك آبائهم الذين ماتوا على الكفر، فشنّفوا لرسول الله عند ذلك وعادوه"([13]).

ويضيف السيد: بدأ الاضطهاد القرشي الكافر للمسلمين بشكل عنيف وغير محتمل، بحيث وقف المسلمون بين خيارين: الخضوع للضغط الكافر في خروجهم عن دينهم، أو الهجرة إلى أيّ بلد آخر يأمنون فيه على دينهم.. ولكنّهم كانوا يريدون أن يعيشوا إسلامهم في أنفسهم، وفي حياتهم.. مما لا يتوفّر لهم، لو قُدّر لهم البقاء في مكّة؛ لأنهم سوف يظلّون يمارسونه في سريّة خانقة.. مع خوفهم من نقاط الضعف التي قد تقتحم على الإنسان حياته من دون شعور..

ولهذا قال لهم رسول الله - فيما ترويه السيرة - "تفرقّوا في الأرض، فقالوا: أين نذهب يا رسول الله؟ قال: ههنا، وأشار إلى الحبشة - وكانت أحبّ الأرض إلى رسول الله أن يهاجر قبلها -  فهاجر ناس ذوو عدد من المسلمين، منهم من هاجر بأهله، ومنهم من هاجر بنفسه. وخرجت قريش في آثارهم، حتى جاؤوا البحر حيث ركبوا، فلم يدركوا منهم واحداً، وقالوا: وقدمنا أرض الحبشة، فجاورنا بها خيرَ جارٍ، أمنّا على ديننا، وعبدنا الله لا نُؤذى ولا نسمع شيئاً نكرهه"([14]).

محاولات قريش مع الرسول(ص) وبعض أساليبه في الدعوة

وعن طريقة تعامل قريش مع الرسول(ص) ومواجهتها لدعوته، يقول السيد: "لقد حاولت قريش بكلّ أساليبها التهديدية والإغرائية أن تجعل النبيّ محمّداً يتنازل عن شيء من مواقفه، ولا سيما الموقف الذي عاب فيه الأصنام، وتسفيه عقولهم، وتخطئة آبائهم في تقاليدهم وعاداتهم؛ لأنّها - فيما يبدو لنا - كانت تخشى من ظهور أمر النبيّ وتعاظم دعوته، أن يقضيَ على امتيازاتهم القبلية التي كانت مصالحهم التجارية والمالية والسياسية تخضع لها وترتبط بها.

وينقل السيد محاولتين لقريش مع أبي طالب - حامي الرسول(ص) وكافله - من السيرة النبوية لابن هشام (ت218هـ)، وفيهما "أنّ أبا طالب ردَّ المشركين ردّاً رفيقاً في المرة الأولى، فانصرفوا عنه، ومضى رسول الله يدعو إلى دينه، فتذمَّروا منه وعادوا إلى أبي طالب وأغلظوا له القول، فاستدعى الرسول(ص) وأخبره بمقالتهم.. فقال له رسول الله(ص): "يا عمّ، والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهْلَكَ فيه، ما تركته". قال: ثم استعبر رسول الله(ص)، فبكى ثم قام، فلما ناداه أبو طالب فقال: أقبل يا بن أخي، قال: فأقبل عليه رسول الله فقال: اذهب يا بن أخي، فقل ما أحببت، فوالله لن أسلّمك لشيء أبداً"([15]).

ويعلق السيد على هذه الرواية، فيرفض ما ورد فيها من بكاء رسول الله، "ليُفسَّر تجاوب عمّه معه بالهزّة العاطفية التي حصلت لديه أمام هذا الموقف العاطفي الفريد؛ لأنّنا لا نجد هناك أيّ انسجام بين هذا الموقف القويّ الذي لا يخلو من شدّة وعزم وتصميم، والموقف الباكي الذي يجسّد الشعور بالضعف والوحدة، بل نجد تنافراً بين هذا وذاك.. ونستشعر أنّ موقف أبي طالب كان فعل إيمان وهزَّة انفعال بروعة موقف الرسول أمام كرامة الرسالة.

ثم ينقل السيد محاولات قريش مع الرسول نفسه، وما عرضوه عليه من المال والجاه، حتى العلاج، إن كان هذا الذي يأتيه رئياً لا يستطيع ردّه عن نفسه. وكان جواب الرسول أن "قال: فرغت يا أبا الوليد؟ قال: نعم، قال: فاسمع منّي، قال: أفعل، فقرأ من سورة فصِّلت إلى آية السجدة فيها، ثم قال: قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت، فأنت وذاك. فقام عتبة إلى أصحابه.. قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: ورائي أنّي سمعت قولاً والله ما سمعت مثله قطّ، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر، ولا بالكهانة. يا معشر قريش، أطيعوني واجعلوها بي، خلّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه.. قالوا، سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه، قال: هذا رأيي فيه، فاصنعوا ما بدا لكم"([16]).

ويلاحظ السيد في هذه الرواية: "قيمة الأسلوب النبويّ الذي واجه به النبيّ محمّد(ص) هذا الرجل، فقد استمع إليه بهدوء، حتى ظنَّ أنه سيناقش معه العروض التي عرضها عليه، ليصل إلى النتيجة المطلوبة في حلّ المشكلة بينه وبين قريش... ولكنّ النبيّ طلب من الرجل أن يستمع إليه، كما استمع هو إليه، وفاجأه بالآيات الكريمة التي قرأها عليه، لينقله من خلال قوله من جوّ العروض المادية، إلى جوٍّ روحيٍّ بعيد كلّ البعد عن ذلك.. وفارق عتبة النبيّ.. وانطلق إلى قومه، ليفتح عيون قومه على المستقبل الذي ينتظرهم بالتحدّي العظيم الصارخ.. وطلب من قومه أن يوفّروا على أنفسهم جهد هذا الصراع وقساوته.. فيجمّدوا إعلان الحرب عليه.. ولم يقبل منه قومه ذلك؛ لأنّهم كانوا لا يتطلّعون إلى المستقبل القويّ في موقع الرسالة، بل كانوا ينظرون إلى الحاضر من خلال عنجهياتهم وكبريائهم في بلاهة وصلف"([17]).

رابعاً: خروج الرسول(ص) إلى الطائف

بعد موت أبي طالب، اجترأت قريش على الرسول(ص)، فخرج إلى الطائف ومعه ربيبه زيد بن حارثة، حيث دعا الناس فلم يؤمنوا، فمكث عشرة أيّام ثم رجع إلى مكّة.

ينقل السيد قصة هذه الحادثة من الطبقات الكبرى لابن سعد ومن السيرة النبوية لابن هشام، ثم يعلق عليها فيقول: "ونقف مع هذه القضية وقفة التقديس لهذا الموقف الرسولي الّذي يبقى مع الرسالة في تجربة المواقف، وفي إقامة الحُجّة، فلا مجال للهدوء، ولا مكان للراحة ولحبّ السّلامة.. فإنّ هاجس الدعوة في قلبه وفي دمه، لا يتركه لحظةً في نومه وفي يقظته.. وليست القضيّة أن يستكمل عناصر النجاح منذ البداية سلفاً، بل يكفيه أن يلاحق احتمالات النجاح، حتّى إذا تمَّ له ذلك، كان هو الّذي أراده، وإذا لم يتمّ له ما يريد، فحسبه أنّه أدَّى الرسالة، وأقام الحجَّة، وتلك هي قضيّة الرسالة وقضيّة الرسل.

وهكذا، اندفع النبي إلى الطّائف وهو يحسب حساب الفشل على مستوى تحقيق الإيمان، لأنّه قد عرف طبيعة مواقفهم في محاولاته في مكَّة، ولكنّه أراد أن يثير الفكرة في داخل مجتمعهم، ليثير أحداثهم وشبابهم الّذين يتطلَّعون إلى المستقبل بعقلية منفتحة واعية، من خلال الشّعور بالحاجة إلى التجديد في الفكر والموقف والأسلوب، خلافاً للأجيال القديمة المحافظة الّتي لا تريد أن تترك ما يعبد آباؤها.

ولهذا، كان الحلّ الوحيد عندهم أن يخرجوه من بلدهم، حيث لم يكن لهم سبيل إلاّ منع شبابهم عنه، ولم يكن لهم قدرة على مناقشته في دعوته"([18]).

خامساً: لقاء الرسول(ص) بأهل يثرب

شكَّل لقاء الرسول(ص) بأهل يثرب حدثاً رئيساً استطاع من خلاله أن يطلق دعوته انطلاقةً جديدةً، تنتقل معها إلى مرحلة أخرى فيها من القوّة والمنعة ما يسمح بتحوّل الدعوة إلى الدعوة -الدولة.

ويتتبَّع السيِّد هذه الحادثة في كلمات المؤرّخين، فينقل نصّين كبيرين من "الطبقات الكبرى" لابن سعد ومن "السيرة النبوية" لابن هشام، فيهما أنّ الرسول التقى في موسم الحجّ بثمانية نفر من أهل يثرب في منى، وعرض عليهم الإسلام فأسلموا، وقال لهم رسول الله(ص): "تمنعون لي ظهري حتى أبلغ رسالة ربي". فاستمهلوه حتى يرجعوا إلى عشائرهم ليصلحوا بينهم ويرجعوا إليه متوادّين، فقدموا إلى المدينة، فدعوا قومهم إلى الإسلام، فأسلم منهم خلق كثير.

وفي العام التالي، التقى رسولُ الله باثني عشر رجلاً من أهل يثرب، فأسلموا وبايعوه على بعض أحكام الإسلام، أوَّلها عدم الشرك، وليس فيها القتال، ثم انصرفوا إلى قومهم، وانتشر الإسلام هناك، فأرسلوا إلى رسول الله(ص): أن ابعث إلينا مقرئاً يُقرِئنا القرآن، فبعث إليهم مصعب بن عمير، وعن ذلك يقول السيد: "إنّ اليهود كانوا يتحدَّثون مع المسلمين من أهل يثرب بأنّه سيأتي نبيّ.. فكانوا يحاولون أن يثقّفوا أهل المدينة بمجيء نبيهم، وكانوا يقولون لهم إننا سنكون معه وأنتم تكونون ضدَّه. وعـندما جاء النبي(ص) قالوا: هذا الذي كانت تحدّثنا به اليهود، وكان مصعب بن عمير الداعية الذي يملك ثقافة الإسلام، حيث كان يحدّثهم بالإسلام"([19]).

وفي العام القابل، جاء سبعون رجلاً إلى رسول الله(ص)، فقابلوه سرّاً، وعرض عليهم الإسلام ودعاهم إليه، وحذَّرهم من عداوة العرب ومن حربهم، ولكنّهم بايعوه على النصرة وعلى بذل المهَج دونه، ثم عادوا إلى قومهم.

ويعلِّق السيد على هذه القصة بتعليقات عدّة:

1- إنّ المحاولات الفاشلة المتكررة التي واجهت النبي(ص) في دعوته القبائل القادمة إلى مكة للإسلام، لم تدفعه إلى اليأس والاستسلام للفشل.

2- مواجهة النبيّ(ص) للموقف بعقلية هادئة واقعية، من حيث مواجهتهم بالصعوبات الشديدة التي تواجههم، وبالمعارك العنيفة التي تفرضها القوى الكافرة على المسلمين.. ومن حيث إمكانات وصول الموقف إلى أن تكون جبهتهم الإسلامية في مواجهة العرب كافةً.

3- تأكيد الجانب السريّ للتحرك من أجل المحافظة على سلامة العمل في الظروف الصعبة.

4- أسلوب قريش القلق في ملاحقة المؤمنين بالدين الجدّي، حتى الذين هم من غير أهل مكة، ما يدلّ على أنّها بدأت تعتبر نفسها مسؤولةً عن حرب الإسلام في الداخل والخارج.

وعن هذا يقول السيد: لقد استطاع النبيّ محمّد(ص) أن يفتح ساحةً جديدةً تملك قوةً اقتصاديةً، كما تملك قوة عسكرية وثقافية، لهذا شعرت قريش بالخطر.

ويقول في إحدى خطبه: ولذلك قرروا أن يقتلوه، فعرّفه الله ذلك([20]).

ويقول في موضع آخر: "وأراد له أن ينسحب، وأن يغطّيَ انسحابه، لقد انتهى عهد الدعوة في مكة؛ لأنّ الدعوة سوف لن تستطيع أن تتحرك بحرية.

وهكذا، رسم النبيُّ(ص) الخطَّة، وجاء إلى عليّ(ع)، وهو ابن عمِّه الذي ربّاه وعلّمه وأعدّه.. وطلب منه أن يبيت على فراشه. وهكذا انطلقت الهجرة، وانفتح الإسلام على مجتمع المدينة".

ينظر السيّدُ إلى سيرة الرَّسول(ص) بعد هجرته من منظار سيرة القائد المؤسِّس للدولة.

ولذلك، فهو يبحث فيها عن الأعمال التنظيمية في المستويين القانوني والاجتماعي، ليسلِّط الضوء عليها.

ويرى السيِّد أنَّ التَّجربة النبويَّة بعد الهجرة، "تتميّز بسعتها وتنوّعها وامتدادها بالنسبة إلى التجربة قبل الهجرة. فقد كانت للنبيّ(ص) في مكّة شخصية الرسول الداعية الذي يفتش عن مكان تتركز فيه الرسالة كقاعدة.. أما في المدينة، فقد وُجِدَت القاعدة، وولد المجتمع، وبدأ النبيّ يعمل، والمسلمون معه، في سبيل إغناء تلك التجربة التي أنتجت ذلك الواقع، بتجارب جديدة في أسلوب الدعوة، وفي طريقة الحكم، وفي تنظيم الحياة على أساس قانون جديد متوازن، يرعى جانب المادة، كما يرعى جانب الروح، وينظّم حقوق الفرد كما ينظم حقوق المجتمع، ويعمل لتركيز العدالة على أساس من الحقّ، ويدعو إلى المحبّة على أساس الرحمة، ويعمل للعزة والكرامة، كما يدعو إلى التسامح والعفو والصّبر الجميل، ويشرّع للحرب كما يشرّع للسلم، ويُحمّل المسلمين مسؤولية حمل الدعوة إلى العالم كلّه.

وقد كان من الطبيعي أن يهتمَّ النبيّ(ص) بتنظيم هذا المجتمع الرائد.. فكانت هناك بعض التجارب التي نتحدَّث عنها كنموذجٍ يحتذى ويقتدى به في كلّ حركة إسلامية معاصرة".

ويستعرض السيد خمس تجارب نبوية في المدينة، محلّلاً لها وسابراً أغوارها من خلال منطلقاتها ونتائجها:

1- مؤاخاة الرسول(ص) للمسلمين

ينقل السيد نصاً من الطبقات الكبرى لابن سعد جاء فيه: "قالوا: لما قدم الرسول(ص) المدينة، آخى بين المهاجرين بين بعضهم البعض، وآخى بين المهاجرين والأنصار، آخى بينهم على الحقّ والمساواة، ويتوارثون دون ذوي الأرحام.."([21]).

ويعلّق السيِّد على هذا النصّ، بأنَّه يفهم من دلالاته "طريقة عملية في توثيق العلاقات بين أتباع الدين الجديد"، وللقضاء على الرواسب النفسية والعقد التاريخية التي يختلف فيها المسلمون الجدد مع بعضهم البعض".. ويضيف السيد: "فكانت هذه التجربة ـ فيما يمكن أن يكون قد قصده النبي محمد(ص) ـ محاولةً لإيجاد رابطة عضوية.. ليتحقق للمجتمع الجديد التوازن والتماسك والارتباط، ولتبدأ عملية المواساة في إطار محدود، يشعر فيها الإنسان بحدود المسؤولية.. واستطاع المسلمون أن يكتشفوا ـ بفضل هذه التجربة ـ قيمة الأخوَّة في الله، التي تعتبر بديلاً عن الأخوة في النسب والرضاع.. فتجاوز كل واحد منهم الرابطة الخاصة إلى الرابطة العامة"([22]).

2- بناء المسجد

يقول السيد: "إن القيام ببناء المسجد كأول عمل قام به رسول الله في المدينة، يدل على ما كان يفكِّر فيه النبي(ص) من تخطيط لبناء المجتمع المتماسك الخالي من الحساسيات والعقد الذاتية والقبلية.

فقد قدم إلى هذا البلد المتنافر المنقسم على نفسه في تاريخه الدامي المملوء بالحروب والمنازعات القبلية بين عشيرتي الأوس والخزرج، إضافةً إلى اليهود الذين كانوا حلفاء لكلا الجانبين.. فربما أراد النبي محمد(ص) أن يفسح المجال لهم للتعايش الأخوي في ظل المعاني الروحية والمشاعر القدسية التي يوحيها الإيمان بالله، بعيداً عن كل ما له صلة بالتاريخ الدامي القبلي.

فكان المسجد الذي يجتمع فيه المسلمون للوقوف بين يدي الله، والخضوع له، والإقبال عليه.. هو المكان الذي أريد له أن يحقق هذا الهدف.. وهو المكان الذي يلتقون في رحابه، ليتحدثوا فيه بما ينفعهم ويفيدهم فيما ينبغي لهم أن يتعلموه، وفيما يجب عليهم أن يعرفوه من شؤون المعرفة بالله ورسالته، ومن شؤون المعرفة بالحياة في علومها العملية".

ويضيف السيِّد: "ويطيب لنا هاهنا أن نعايش الجوَّ الرائع الذي نشاهده في رسول الله(ص) وهو يعمل في بناء المسجد، لا ليرغّب المسلمين في العمل، كما يقول ابن هشام، بل لأنه يريد أن يكون قدوةً لهم في الشعور بالمسؤولية وممارستها، فلا يكتفي بإصدار الأوامر، فيما هو من شؤون الإسلام، بل يبادر إليه بنفسه، ليدلّل لهم من موقع الممارسة، أنّ العمل يقف في المستوى الذي يُحَبُّ، ويُرغَبُ فيه من كل واحد، حتى منه نفسه، وهو من هو في مستوى المسؤولية والرسالة".

ويتعرض السيد لقصة عمار بن ياسر، عندما كانوا يحملون عليه أكثر ما يطيقه من الثقل، "فيشكو أمره إلى رسول الله(ص)، فيتحدث إليه بالغيب الذي أعلمه الله إياه بأنه تقتله الفئة الباغية..

وينظر علي(ع) ناحية، فيرى بعض المسلمين يحيدون عن الغبار، ويبتعدون عن المشاركة، فيرتجز([23])، ويتلقَّفه عمار ويكرّره، ويلتفت ذلك البعض إلى نفسه، ويشعر بأنه مقصود به، فيثور على عمار بما يشبه التهديد.. ويقف النبي محمد(ص) من جديد مع عمار ليعبّر عن حبه له وعلاقته به وتقديره له، لما قدَّم من تضحية، ولما تحمل من عذاب؛ لأنه لا يريد للمجاهدين المخلصين أن ينالهم أحد بسوء"..

ويختم السيد: "وهكذا عشنا في جو بناء المسجد الأول في الأجواء النفسية التي كان يعيشها المسلمون يومئذٍ.. وكيف كانوا يفكرون ويتجادلون ويتنازعون، وكيف كان النبي(ص) يدير هذه الخلافات ويحلّها، أو يعلّق عليها بأسلوب رسالي حازم"([24]).


3- وثيقة المدينة:

وهي وثيقة وضعها رسول الله عند مقدمه إلى المدينة بين المسلمين أنفسهم، سواء فيهم أهل المدينة وغيرهم، وأدخل فيها اليهود باعتبارهم من سكان المدينة.

وقد سُئلَ السيد عن صِيَغِ التعايش التي جسدتها المسيرةُ النبوية، ونمط الاجتماع الإسلامي في عصر البعثة الشريفة. وأجاب: "لقد كانت صحيفة المدينة بمثابة دستور يجسّد المبدأ الإسلامي العام الذي يفتح الأبواب أمام عقد ميثاق مع كل الفئات المخالفة للمسلمين في الدين، وذلك على قاعدة المواطنة القائمة على العقد الاجتماعي في إطار (العهد) الَّذي يتحوَّل من خلال التزام الشرعية الإسلامية به إلى عهد الله وميثاقه، بما يعنيه من التزام الأمر الإلهي في الوفاء بالعقود والمعاملات".

ويضيف: "إنَّ قيمة صحيفة المدينة تتجلَّى في تطبيقها السليم على أرض الواقع.. بحيث لم يرتفع في كل تلك الفترة أي صوت يهودي يشكو من سوء المعاملة، ولم يحصل أي اختلال في النسيج الاجتماعي المتوازن بينهم وبين المسلمين، على الرغم من الدسائس الخفية التي كانوا يحركونها داخل المجتمع الإسلامي.. والأخطر، تحالفاتهم السرية مع المنافقين، من دون أن يتحرك المسلمون للقيام بأي عمل سلبي، كأن يتم إخراجهم من دينهم بالقوة، حتى مع معرفة خططهم ومحاولاتهم المستمرة لإيجاد الشك والريبة لدى المسلمين في دينهم. مع هذا، كان النبي محمد(ص) يستقبلهم ويستمع إلى حواراتهم، ويقبل الدعاوى الموجّهة ضد بعضهم البعض، بكل رحابة صدر وبكل مسؤولية، حتى إنه كان يرجعهم إلى أحكامهم الشرعية في التوراة، حذراً من أن يفرض عليهم أي حكم إسلامي لا يعترفون به"([25]).


4- كتبه(ص) إلى الملوك وغيرهم

يقول السيد عن هذه التجربة: "قام الرسول(ص) في ما ترويه كتب السّيرة النبوية الشّريفة، بإرسال وفود وكتب إلى ملوك زمانه، وإلى زعماء البلاد ووجهاء القوم، وإلى كثير من الناس، يدعوهم فيها إلى الدخول في الإسلام، بأساليب متنوعة، تأخذ بالإيجاز تارةً، وبالتفصيل أخرى، وقد يغلب عليها بعض الرفق، وقد يقرب بعضها الآخر من العنف، تبعاً لما تقتضيه المصلحة، ويفرضه الموقف.

وكتب إلى كثير من النّاس من العرب في أمور متعدّدة تتمثل فيها شخصية الرسول الداعية، كما تتمثّل فيها شخصية الحاكم الّذي يهدّد ويتوعّد، ويهب ويعطي ويمنع، ويقطع الأراضي، ويحدّد لكلِّ شخص حدوده.. وقد نلمح فيها شخصية المشرِّع الّذي يشرِّع أحكام الشّرائع المالية والعبادية، وغيرها".

ويتابع السيد تفاصيل الكتب من خلال استعراض بعضها، فيستوحي من خلال كتاب الرسول(ص) لأسقف بن الحارث بن كعب، وأساقفة نجران وكهنتهم، ما نسميه ، "بالحرية الدينية، وعدم التدخل في شؤونهم العامة والخاصة، وعدم تغيير أي شيء مما كانوا عليه، شريطة أن ينصحوا ويصلحوا فيما عليهم، من دون أن يظلمهم أحد أو يظلموا أحداً..".

وفي كتاب آخر إلى ضغاطر الأسقف، يلاحظ السيد التواضع النبوي، عندما يبدأ النبي(ص) "رسالته بالعقيدة الإسلامية في عيسى(ع)، إيذاناً باللقاء بينه وبينهم في احترام عيسى.. ثم يتبع ذلك ببيان ما يؤمن به من وحدة الرسالات وتآخي الرسل، من دون أن يضيف إلى ذلك شيئاً من دعوته.. ليترك الأمر له، ليفكّر فيقنع ويؤمن أو لا يؤمن، فيكون قد أقام عليه الحجة. وفي هذا الأسلوب الدلالة على التهذيب الإسلامي، في الشّكل والمضمون والروحية السّمحة"([26]).

5- وفود العرب عليه

عُرفَت السنة التاسعة من الهجرة بسنة الوفود، وذلك لكثرة الوفود التي وردت على رسول الله(ص) في المدينة، حتى تحاوره وتسمع منه، فتُسْلِمَ أو تعقد المعاهدات. وعن ذلك يقول السيد: "لقد كانت قوَّة الإسلام العسكرية أمام تحديات الكفر الكثيرة وعدوانه المتكرّر، وثبات المسلمين في كل تلك الحروب الّتي خاضوها مع الكافرين، سبباً في اندفاع العرب بشكل لا نظير له في الوفادة على النبي(ص) والدخول في الإسلام، لا سيَّما بعد فتح مكة... لزوال القوة الضخمة الّتي كان الناس يخشون سطوتها، فيمتنعون عن الإسلام.

وهكذا جاءت الوفود تتتالى... وكانت لرسول الله أساليبه المتنوعة في محاورتهم وإكرامهم بمختلف ألوان الإكرام، ودعوتهم إلى الإسلام... وقد تمثلت فيها أخلاق رسول الله(ص) العظيمة أصدق تمثيل".

ويلاحظ السيد نماذج مختلفة من الوفود، ليستنتج مرةً: "أن رسول الله استطاع أن يعرف من إلحاح هذا الرجل في المسألة، أنّ هذا الرجل جادٌّ في قضية الإيمان بالرسالة، فاستقبله بكل رحابة صدر، وأجابه عن كل سؤال مهما يكن محرجاً أو مضحكاً". ويلاحِظُ في حوار النبي مع وفد آخر، إسقاطَ النبي(ص) عنهم واجب الجهاد ضد قريش، "لأنهم يعيشون معهم في منطقة واحدة، ولا يريدون لأنفسهم أن يدخلوا معهم في حرب أو قتال، واستجاب النبي(ص) لهذه الرغبة، انسجاماً مع أسلوبه الواقعي الّذي سار به في أكثر من حادثة".

ويلاحظ في بعض الوفود، أن بعض الناس كانوا يسلمون اقتناعاً لا رغبةً ولا عن رهبة.

ويلاحظ كذلك من خلال بعض الوفود المثَلَ الحيَّ لأخلاق رسول الله(ص)، حيث يعلّق بعد نقله لقصة عدي بن حاتم بقوله: "إننا ننقل هذه القصة، لا لنؤكد عظمة رسول الله(ص) من خلال إخبار النبي(ص) لعدي بن حاتم بالمغيبات... بل إننا ننقل هذه القصة لنؤكّد عظمته في وقوفه الطّويل مع المرأة الضعيفة الّتي استوقفته في الطّريق طويلاً من أجل حاجتها، وفي تواضعه الرائع في بيته مع عدي بن حاتم الّذي جاء ليدخل في الإسلام، حيث جلس على الأرض، وأجلس ضيفه على الفراش"([27]).

سادساً: وفاة الرسول(ص)

في أحاديثه وكتاباته عن الرسول(ص)، يتوقَّف السيد كثيراً عند كلماته الأخيرة، حتى يستلهم منها آفاق الرسالة في المفاهيم التي أرادها الرسول(ص) أن تبقى وتستمر بعد وفاته. ولذلك لم ينشغل السيد كثيراً بتحديد تاريخ وفاة الرسول(ص)، بل اكتفى بالقول: "في اليوم الثامن والعشرين من صفر، كانت وفاة نبينا محمد رسول الله(ص) في الرواية المعروفة عند علماء المسلمين من الشيعة الإمامية. وهناك روايات أخرى تؤرخ وفاته في أوائل ربيع الأول بين أوله ومنتصفه".

وعن عُمْر الرسول(ص) يقول السيد: "عاش رسول الله في رسالته ثلاثاً وعشرين سنة، لأن الله بعثه بالرسالة وعمره أربعون سنة، وانتقل إلى جوار ربه وعمره ثلاث وستون".

ويتحول السيد سريعاً في محضر الحديث عن وفاة الرسول(ص) وعن مدة عمره، إلى الحديث عن لزوم أن نعيش في الآفاق القرآنية التي وضعنا الله فيها في مسألة وفاة الرسول(ص)، حيث يريد "أن نعيش اللحظات الأخيرة التي كان رسول الله(ص) يستعدُّ فيها للقاء الله، كيف كان يتحدث مع أمَّته، ما هي وصاياه الأخيرة، ما هي القضايا الأساسية التي تركها للأمة ولمن يتولون المسؤولية من بعده".

وهكذا يتتبع السيد كلام الله للرسول في القرآن، فيستحضر عدة آيات، منها: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الخَالِدُونَ}(الأنبياء:34)، ومنها: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ}(الزُّمر:30)، ومنها: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ}(آل عمران:144)، ويستوحي منها أن الله يريد أن يقول لرسوله: "إن الرسالة لا تمنحك الخلود في الدنيا، وأنت بشر كبقية البشر في الدنيا: تمرض كما يمرضون، وتموت كما يموتون، ولن يستطيع أحدٌ أن يشمت بموتك؛ لأن الّذين يشمتون بموت العظماء، وموت الأنبياء والرسل والأولياء والمجاهدين، لا يخلَّدون بعدهم).

ثم يستعرض السيد المواقف الأخيرة في حديث رسول الله، فينقل أولاً خطبته في حجة الوداع، وفيها: "أيها الناس، إنَّ حرمة دمائكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا لا ترجعنّ بعدي ضُلالاً يضرب بعضكم رقاب بعض، ألا هل بلّغت؟" ثم قال: "فليبلّغ الشاهد الغائب، فلعلّ من بلغه، يكون أوعى له من بعض من سمعه".. ويعلّق السيد على هذه الوصية فيقول: "هذه هي الوصية العامة للمسلمين، أن يشعر المسلمون جميعاً في كل واقعهم الاجتماعي، الذي ربما تثور فيه الخلافات، وربما تثور فيه النـزاعات، أنّهم إذا كانوا يحترمون زمناً معيناً، أو بلداً معيناً، فإن حرمة المسلم كحرمة هذا الزمن أو هذا البلد، بل ربما تكون أكثر".

ويضيف السيد، أنَّ على المسلمين أن يعيشوا هذه الوصية في "روحيتهم، كما أن رسول الله أراد من المسلمين أن يحترموا دماء غيرهم وأموال غيرهم ممن لهم به عهد، أو لهم به ذمة، حتى لو كانوا من غير المسلمين".

وينقل السيدُ آخِرَ خطابٍ لرسول الله(ص) خَطَبه في المدينة قبل وفاته، وفيه يطلب الرسول من الناس أن يقتصّوا منه إن كان لهم عنده حق. ويقول: "وهكذا نجد أن رسول الله وقف موقفاً آخر فيما يتعلَّق بعلاقته الشخصية بالناس، فيما يمكن أن يكون للناس عليه من حقوق. فهو رسول الله، نبي الله، وقائد الأمة الإسلامية كلها، ومع ذلك، يتعامل مع الناس كأيِّ مسلم آخر، ويريد للناس أن يتعاملوا معه على هذا الأساس. ولذلك، فإنه في الأيام الأخيرة، والمرض يشتدُّ عليه، دخل عليه الفضل بن العباس، وكان رسول الله مريضاً.. فاستند الرسول على الفضل وخرج إلى المسجد وقال: "أيّها الناس، إنه قد دنا مني خفوق من بين أظهركم، وإنما أنا بشر، فأيّما رجل كنت أصبت من عرضه شيئاً، فهذا عرضي فليقتصّ، وأيّما رجل كنت أصبت من بَشَره شيئاً، فهذا بَشَري فليقتصّ، وأيّما رجل كنت أصبت من ماله شيئاً، فهذا مالي فليأخذ. واعلموا أنّ أولاكم بي، رجل ٌكان له من ذلك شيء فأخذه، أو حلّلني فلقيت ربيّ وأنا محلّل لي، ولا يقولنّ رجل إني أخاف العداوة والشحناء من رسول اللّه، فإنّهما ليستا من طبيعتي ولا من خلقي... ألا وإن فضوح الدنيا أيسر من فضوح الآخرة".

ويعلّق السيد على هذا النص فيقول: "ومن هذه القصة نفهم عظمة الرسول(ص) في هذا التواضع النبويّ الذي يقف فيه أمام الناس كلّهم، ليطلب منهم أن يطالبوه بما لهم عليه من حقّ لو كان لهم حقّ، حتى يعلّم المسلمين من بعده، سواء كانوا قادةً أو رعية، أن لا يتهاونوا في ذلك، فإن على القادة أن لا يتكبّروا على الناس من خلال موقعهم، بحيث يمتنعون عن دعوة الناس ليطالبوا بحقوقهم، وعلى الرعية أن يتحرّكوا ليطالبوا قيادتهم بما لهم عليهم من حقوق"([28]).

ويتابع السيد فيقول: "وهناك لفتات أخرى في هذا الدرس، فمنها أن على الإنسان أن يعمل على أن لا يخرج من الدنيا إلاّ وهو محلّل له من حقوق الناس.. ومنها أن لا يتعقّد الإنسان الكبير في الموقع الاجتماعي المميّز، سواء كان كبيراً في مقام السلطة المادية، أو السلطة الشرعية الروحية، أو في مقام السلطة الاجتماعية، وأن لا يحمل العداوة للإنسان الذي ينبّهه على خطأ أو يطالبه بحقه"([29]).

وفي موضع آخر، يذكر السيد وصيّة الرسول(ص) لابنته فاطمة الزهراء(ع)، وفيها توجيه لها كيف تحزن، وأنها التزمت، "فكان حزنها إسلامياً إنسانياً روحياً في حجم المصيبة، ولكن في خطّ الإسلام، على الطريقة التي سنّها رسول الله في الحزن عندما فقد ولده إبراهيم"([30]).

ويقف السيد أمام وفاة الرسول(ص)، ليقرأ في الأحداث التي رافقت وفاته وتلك التي تبعتها، عندما قال الرسول(ص): "وهو في مرض الموت ـ: "آتوني بداوة وكتف أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعدي أبداً".. ولكنَّ القوم اختلفوا، خاف البعض أن يكتب الكلمة الصريحة، والكثيرون من الناس لا يحبون الكلمة الصريحة؛ لأنهم لا يستطيعون أن يلعبوا عليها، وقال بعضهم: "إنَّ النبي ليهجر، حسبنا كتاب الله"، وهو يعرف أن الله يقول: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}(النجم:3-4).. قالها ليثير الضجة، وثارت الضجة، وقال قوم: فلنأت لرسول الله بالدواة والكتف، وقال قوم آخرون ـ كما قال هذا القائل ـ ثم سألوا رسول الله: هل نأتيك بالداوة والكتف؟ فقال(ص): "أَبَعْدَ هذا!".. لو كتبت كتاباً لقال بعضكم إنه كتبه وقد غلبه الوجع وهو يهجر، وقال ابن عباس: "الرزية كل الرزية، في من منع رسول الله أن يكتب هذا الكتاب"([31]).

ويختم السيد دائماً كلامه عن وفاة الرسول، بما يمكن أن يستفيده المسلم من دروس، وما يمكن أن يؤصّله في حركته من المنهج، ومنها قوله: "يموت الرسول وتبقى الرسالة، فكونوا مع الرسالة، فإنّ رسول الله حي في رسالته ومستمر في دينه.. إن رسول الله الجسد قد غاب عنا، ولكنّ رسول الله الرسالة والروح والدعوة والحركة والجهاد والخلق باق فينا"([32]). وهذا هو المفهوم الذي عمل السيد طويلاً على تأصيله، وهو الدعوة إلى عدم عبادة الأشخاص أو تقديسهم، إلا في الأشياء التي ترتبط بالمفاهيم المقدسة التي ترتبط بالحق والعدل والخير، والتي يدعو إليها الإيمان.


سابعاً: منهجية السيد في قراءة السنَّة النبويَّة

1- مصادرها:

ينطلق السيد في دراسته لسنَّة الرسول(ص) منطلقاً عَقَدياً، حيث يعتبرُ القرآنَ المصدرَ الأول لها؛ لأنه "الوثيقة المعصومة التي حفظها الله من التحريف والزيادة والنقصان، كما جاء في قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}(الحجر:9). وفي ضوء ذلك، كان من الضروري أن يكون المصدرَ الأوّلَ للسيرة النبوية الشريفة"([33]). على أنّ اعتباره العقائدي ترفده اعتباراتٌ تاريخية علمية؛ لأن القرآن هو "كتاب الرسالة الذي يتحدث عن شخصية الرسول في طبيعته، وفي قدراته، وفي أخلاقه وأساليبه وحركته في الدعوة، وفي حياته العامة مع الناس، وفي حياته الداخلية، وفي علاقة المؤمنين به"([34]).

فالقرآن الكريم ـ كما يلاحظ السيد ـ "كان يتابع حركية الرسالة في كل ما يحيط بها من ظروف ويواجهها من تحديات.. فكانت المسيرة تتقدم، وكان القرآن يرعى هذه المسيرة من خلال نقدها تارةً، ومن خلال تأصيل الفكرة تارةً أخرى، فكان ذلك خلاصة التجربة، ولهذه الخصوصيات، كان القرآن الكريم أفضل مصدر للسيرة في إطاريها العام والخاص"([35]). والأمثلة التي يجدها السيد في ذلك عديدة، ففي سورة آل عمران، هناك عدة آيات تناقش (وقعة أحد)، وفي سورة الأنفال، هناك مناقشة لنقاط الضعف الموجودة لدى المسلمين في (معركة بدر) ([36]). ويقول في موضع آخر موضحاً أهمية القرآن كمصدر للسيرة: "وقد جاء في الحديث المأثور أنّ خُلُقَه القرآن. ولذلك كانت تجربته كإنسان لا تختلف عن تجربته كرسول، إذ لا ازدواجية بين الشخصيّتين في ذاته، بل هي شخصية واحدة. وبهذا، فإننا سنجد في القرآن تجربة محمد الإنسان الرسول، الذي تمتزج فيه شخصيتان؛ لأنهما كانتا ممتزجتين في خلق الإسلام كدين"([37]).

على أن هذا لا يعني أن السيد يدعو "إلى إهمال كتب السيرة واستبعادها عن دائرة البحث والدراسة للتاريخ الإسلامي؛ لأنها تساعد في كثير من الحالات، بل في أكثرها، على توضيح التفاصيل الدقيقة لبعض الصور والأحداث"([38])، ونجده لذلك يلجأ إلى كتب السيرة المعروفة، مثل كتاب السيرة النبوية لابن هشام (ت 218هـ)، وكتاب الطبقات الكبرى لابن سعد (ت 230 هـ)، وتاريخ الطبري (ت 310 هـ)، إضافةً إلى شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي (ت656هـ)، أو إلى ما نقلته الكتب الروائية، وكتب تفسير القرآن من أحاديث عن الصحابة، وبالأخص عن الإمام علي بن أبي طالب(ع) (ت40هـ)، وعن زوجات الرسول(ص)([39]).

2- نقد المصادر:

تنقسم مصادر السنَّة عند السيد إلى مصادر موثوقة مسلّمة هي القرآن، وأخرى غير موثوقة الصدور، وهي كل ما عدا القرآن.

1- فالقرآن، كما يقول السيد، هو "الوثيقة المعصومة التي حفظها الله من التحريف"([40]). ويقول في موضع آخر: (أما كتب السيرة، فإننا لا نجد الوثاقة المطلقة ولا الصورة الكاملة التي تنقل لنا الأجواء العامة للدعوة بصدق وأمانة؛ لأنها كانت عرضةً للتيارات المتنوعة التي فرضت نفسها على التاريخ الإسلامي، وللجوانب الذاتية التي تطبع شخصية المؤرّخ والمحدّث"([41]). ولهذا يعتبر السيد أنّ "علينا أن نوثّق التاريخ، بحيث عندما تُنقَلُ لنا قضية نسأل: من الذي نقلها؟ هل الناقل موثوق، أم أنه ليس ثقة؟ وحتى لو كان الناقل موثوقاً، فهل إن مضمون الرواية يتنافى مع العقل ومع طبيعة الظروف الموضوعية التي نعرفها في ذلك الوقت؟ علينا أن نحاكم التاريخ من خلال المتن، كما كانوا يقولون: توثيق الصدور من خلال المضمون. فعندما تُنقل قصة نناقشها، هل هذه معقولة أم غير معقولة؟ تتناسب مع المفاهيم والخطوط الأساسية الموجودة في ذلك العصر أم لا؟ وهل تتناسب مع العقل أم لا تتناسب؟ وهكذا علينا أن ندرس التاريخ، كما ندرس أي مادة قابلة للخطأ أو للصواب"([42])، "وأن نأخذه بطريقة حذرة، فلقد كذب الكذابون كثيراً، ووضع الوضّاعون كثيراً، ولا تستطيع أن تعرف شيئاً على نحو الصحة والدقة، ولذلك لا نستطيع أن نفهم السيرة من مصدر معصوم... إلا من القرآن"([43]).

3- فهم السنَّة:

يتأسَّس فهم السيد للسنَّة على موقف نقدي من المرويات التاريخية والحديثية، ويرى أننا "لا نستطيع أن نفهم السيرة من مصدر معصوم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، إلا من القرآن. أما بالنسبة إلى السيرة، فقد يكون هذا الراوي غير موثوق، وذاك قد يكذب على رسول الله(ص)، وهذا يضع الحديث، وهذا كذا"([44]). وهكذا يرى السيد أن "علينا أن نأخذ التاريخ بطريقة حذرة، فقد كذب الكذَّابون كثيراً، ووضع الوضّاعون كثيراً([45]). ولذلك، يطلق الدعوة إلى قراءة التراث الإسلامي كله، وتأسيس فهمه على أسس نقدية علمية، فعندما يتعلق التراث بمسألة فلسفية، فعلينا أن ندرسه بالطرق الفلسفية، وعندما يتصل التراث بقضية تاريخية، فعلينا أن نفكّر فيه بطريقة النقد التاريخي"([46]). وهكذا يطلق السيِّد الدعوة إلى قراءة التراث وفهمه من خلال موقعه في الحقل المعرفيّ. وفي ردٍّ على من قالوا إنّ للقرآن ظهراً وبطناً، وإن القرآن لا يفهمه إلا المخاطبون به وهم المعصومون، فإنّ السيد يقول: "قد يجد الإنسان المسلم في السنَّة والحديث معارضات، فهذا حديث صحيح وهذا غير صحيح، وهذا يحتاج إلى علم وخبرة، ولكنّ أصل فهم النص، هو أنّ أي إنسان يملك ثقافةً معينةً يمكنه أن يفهم النص، وإلا، فكيف كان القرآن حجةً على الناس، وكيف كان النبي(ص) يخاطب الناس؟ فإن كنَّا لا نفهم القرآن والسنَّة، فإنّ الحجَّة لا تقوم علينا بهما"([47]). فهو ينطلق في فهم النص من خلال مسألة حجية الظواهر والفهم العرفي، وينتقد التكلف في فهم النص المنطلق من الدقة الفلسفية.


ثامناً: إضاءات على هامش السيرة


يقارن السيد بين الأذى الذي تعرَّض له الرسول(ص) والجهد الذي بذله، وبين ما بذله الأنبياء وتعرَّضوا له، ويعتبر أن ما تعرض له الرسول(ص) خلال عمله في الدعوة، لم يتعرض له نبي قبله. ويؤسس لذلك من خلال قول النبي(ص): "ما أوذي نبي مثل ما أوذيت". ويقول: هناك الأذى الروحي، إبراهيم(ع) ألقي في النار، وقال الله تعالى للنار: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ}(الأنبياء96). وأيوب أصيب بأهله وجسده، وفرّج الله عنه.. أما رسول الله(ص)، فقد قوبل بالاتهامات وبالسخرية، وكانت مهمته بحجم العالم، فيقال عنه بأنه ساحر، كاذب، كاهن، {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا}(الفرقان:5). ثم إنه(ص) عندما كان يعرض نفسه على القبائل في مكة، كان أبو لهب يسير وراءه ويقول، لا تصدقوا ابن أخي، إنه مجنون.. وعندما خرج إلى الطائف، لاحقه الناس بالحجارة حتى دميت رجلاه، وكان(ص) تعرَّض إلى ما تعرَّض وهو في مكة من التآمر على قتله، حتى اضطر إلى أن يهاجر إلى المدينة، وما واجهه بعد ذلك من عدوان المشركين عليه وعدوان المنافقين، وعدوان اليهود.. بحيث إنه لم يستطع أن يستقرّ لحظةً واحدةً منذ أن بعثه الله بالرسالة حتى اختاره تعالى إلى جواره.. كانت حياته كلها حركة دعوة وتربية وتعليم، وحركة حربٍ وسلم وصراع ومواجهة، وما إلى ذلك.. حتى إنه ابتلي في داخل بيته، وأنزل الله سورةً يؤنب فيها نساءه بطريقة وبأخرى. لهذا عندما ندرس مجموع الأذى الذي أصاب رسول الله(ص)، وندرس الذي أصاب كل الأنبياء، فإننا نجد أن أذى كل واحد منهم كان جزئياً، أما أذاه(ص)، فقد كان متنوعاً في كل مواقعه وكل مجالاته([48]).

وعن كيفية مواجهة الرسول(ص) لهذا الأذى الكبير، يقول السيد: "كان يواجه العنف بكل رفق، حتى إنّ الله عزّ وجلّ علّمه الموقف عندما أطلقوا في وجهه كلمة الجنون {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ}(سبأ: 46). فأراد لهم أن يتمثّلوا المنهج، فلم ينف التهمة عن نفسه بشكل مباشر، ولكن قال لهم انفصلوا عن هذا الجوّ العدوانيّ العاصف الذي لا يملك الإنسان فيه عقله، وتفرّقوا مَثْنَى وفُرَادَى، واستحضروا فكركم، فإذا رجعت إليكم عقولُكم، أمكنكم أن تعرفوا أن ليس بي جِنَّة.. اقرأوني في كلماتي فهي العقل كلّه، وفي علاقاتي فهي الحكمة كلها، وفي رسالتي فهي الحق كله"([49]). ويقول في موضع آخر: "كان النبي(ص) يسمع ذلك كلّه.. يسمع الشتائم والتهم بأذنيه، وكان يلاقي ما يلاقي.. فهل ضاق صدره؟ هل تعقّد من الناس؟ هل وقف ليدعو على الناس؟

كان النبي(ص) يقول: " اللَّهمَّ اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون". لا تعذّبهم، لأنّ هؤلاء القوم قد عاشوا فترة طويلة من الزمن في ظلام الجهل والتخلّف، لهذا فقد تحجّرت قلوبهم، وتجمّدت عقولهم، وابتعدوا عن الصراط المستقيم..

يا رب، إني أصبر عليهم، سأدعوهم في الصباح والمساء وفي كل وقت، حتى استنفد كلّ التجارب.. كان(ص) يصبر على ذلك كلّه، ويدعو الله أن لا يعاجلهم بالعقوبة.. فأي قلب أكبر من هذا القلب!!"([50])

إن أول ما يلاحظه السيد في هجرة الرسول(ص)، هو الطمأنينة التي تحدَّث بها القرآن عنه، وعن ذلك يقول السيد: "كان القوم يقتربون منه خطوةً خطوة، وليست هناك إلا بضع خطوات بينه وبينهم، وكان صاحبه يهتزُّ ويرتعد ويخاف ويعيش الحزن، وكان رسول الله الإنسان الذي عاش السكينة الروحية في قلبه، والطمأنينة الإيمانية في عقله. كان يشعر بالفرح والقوم يتحاورون: هل ندخل؟ وكان الهادئ {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا}(التوبة:40)"([51]).

وعلى مستوى آخر، فإن قضية الهجرة في فكر السيد تعني "الخط الفاصل بين حركة الإسلام في ساحة الدعوة، وحركته في ساحة الدولة"، ويضيف السيد: كانت الهجرة تعني في أحد معانيها أن المسلمين كانوا ضعفاء فصاروا أقوياء. في الهجرة، كان المسلمون أذلاء فصاروا أعزة، وكانوا يعيشون الاستعباد من خلال واقع المستكبرين، فأصبحوا الأحرار في قرارهم وفي حركتهم".

ورداً على سؤال حول الدلالات الحركية لظاهرة الهجرة بالرجوع إلى التجربة النبوية، يوضح السيد فكرة الضعف والذلّة فيقول: "إن القضية في مسألة الهجرة، هي أنها كانت انطلاق المستضعفين لمواجهة المستكبرين، دون أن تكون هناك حالة ضعف، الهجرة لم تكن نتيجة حال خوف أو حالة ضعف، ولكنها كانت نتيجة خطة وصلت نهايتها، وجاءت التحديات لتمنحها ظروفها الطبيعية". وهكذا يوضح السيد أن الضعف والإذلال والاستعباد ليست أشياء تنطوي عليها نفوس المسلمين وأنّها تبدّلت بالهجرة، ولكنّها المفردات التي كان الواقع الضاغط يحاول أن يفرضها على حركتهم العملية.

ويتطرَّق السيد إلى موضوع التأريخ بالتاريخ الهجري، فيقول: إن علينا في كل تاريخ نؤرِّخ به قضيةً أو أيَّ حدث يمرَّ بنا، أن ننتبه للسنة الهجرية، لتعطينا هذه السنة إيحاءً دائماً؛ قبل 14 قرناً كيف كانت المسألة؟ هل نتذكر الذين سبقونا في الصدر الأول من الإسلام؟ وكيف استطاعوا أن يحوِّلوا ضعفهم إلى قوة، واستطاعوا أن يحوِّلوا عبوديتهم إلى حرية.

لهذا نريد أن يؤكِّد المسلمون التاريخ الهجري في كلّ ما يكتبونه، وفي كل ما يتحدثون به، أن يؤكّدوه، لا من موقع عصبيّة تريد أن تتعصّب لتاريخ ضد تاريخ، ولكننا نريد أن نجعل من التاريخ إيحاءً يومياً يتحرك في وعينا وفي أعماقنا، لتتأصل فيه شخصيتنا الإسلامية على مستوى التأريخ، كما تتأصل شخصيتنا الإسلامية على مستوى العقيدة وعلى مستوى المفاهيم.

لا يرى السيد أن النبوة تمثل التكريم والتشريف الذي يفترض إعطاء النبي أو الرسول قدراتٍ خارقةً تفوق تلك التي لدى الناس، "فالمسألة ليست مسألة تشريف وتكريم، ولا سيما في قضية الولاية التي تمثل موقعاً تنفيذياً في حاجة محلّها وموقعها إلى حركة ورعاية، كما هي الحال في الولاية الرسولية المتعلّقة بحياة الناس العامة التي يملك الرسول فيها أمر التشريع وأمر التّنفيذ، في دائرة الرسالة، أما الولاية على الكون، فهي ليست من شأنهم ولا من دورهم؛ لأن الله وحده الذي يملك الولاية الخالقية والفعلية على إدارة نظام الكون كلّه، وليس لأحد من خلقه شأن فيه. وإذا كانت المسألة مجرّد تكريم إلهي، فإنّ النبوَّة تمثِّل أعظم مظاهر التكريم من الله لرسله، وأية قيمة أعظم من أن يمنحهم الله الأمانة على رسالته، والسفارة في خلقه، والحجة على عباده!"([52]).

ثم إن السيد يرى أنّ النبي هو أفضل الأنبياء؛ "لأنه هو نبيّ الحياة كلها، وكانت رسالته ونبوته تتحرك منذ انطلاقته إلى آخر الزمان. ثم إن مسألة الفضل هي من الله سبحانه وتعالى {إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى العَالَمِينَ}(آل عمران:33)، فالله هو الذي يعطي الفضل، وهو الأعرف بخلقه، وقد أعطى رسولَه هذه المنـزلة العليا، وعلينا أن نسلّم بها؛ لأنّ الله هو الذي أعطاه ذلك؛ ولأنّ رسول الله في ملكاته وفي أخلاقه وفضائله وروحانيته وجهاده وشجاعته، اجتمع فيه ما لم يجتمع في نبي قبله، ويمكن أن ندرس ما وصلنا من خصائص النبي إبراهيم(ع) والنبي موسى(ع) والنبي عيسى(ع)، لنعرف أنهم إنما وصلوا إلى مرتبة الكمال لأنهم معصومون، ولكن عندما ندرس رسول الله(ص)، نجد أن الخصائص التي اجتمعت في شخصيته، لم تجتمع في شخصية نبي من قبل، وهذا هو الذي يوحي بأفضليته في ذاته من خلال عناصره الخاصة التي عاشها"([53]).  

وتكتمل فكرة السيد في تفضيل النبي(ص) على غيره من الناس، من خلال تعرّضه لما تبنَّاه بعض الغلاة من تفضيلٍ للإمام علي بن أبي طالب(ع) على النبي(ص)، ويرتكز السيد في ذلك إلى قول النبي(ص): "أنا مدينة العلم وعلي بابها"، "فمعنى ذلك، أن العلم كلّه اجتمع في ذاته، فهو المدينة، وهو الذي تجد العلم فيه، وعندما يتحدث علي(ع) عن علمه، فإنه يتحدّث عن التلمذة على رسول الله(ص). ولذلك علينا أن لا نغلو فنساوي علياً(ع) بالرسول(ص)، أو كما يغلو البعض فيرفعه فوقه، في حين أنه يقول: "علَّمني رسول الله ـ فأنا تلميذه ـ ألف باب من العلم، يفتح من كل باب ألف باب([54])" ([55]). إن استنتاج السيد واستدلاله هنا مبتنيان على السيرة التاريخية، وعلى الأحداث التي حكمت العلاقة بين النبي(ص) وعلي(ع)، وعلى واقع تلمّذ علي(ع) عند النبي(ص)، وإقراره بشمولية معرفة النبي وعمقها بحيث (يُفتح من كل باب ألف باب).

تاسعاً: إشكاليات حول الرسول(ص)

1- زوجاته

كانت حياة الرسول موضعاً لكثير من الإشكالات من قبل المستشرقين، وقد أثاروا مسألة عدد زوجاته اللواتي بلغن التسعة في وقت واحد، واللواتي تجاوزن ذلك في مجمل حياته، ولكن السيد يلاحظ أنّ ذلك ليس "من جهة ما يثيره المستشرقون من ناحية الرغبة الجنسية الذاتية، وإن كان ذلك أمراً طبيعياً بالنسبة إلى الجنس، فهي مسألة طبيعية في حياة الإنسان، كما هي الغرائز الأخرى، مثل الجانب الغذائي، والتي هي من شروط استمرار الحياة، لكن الله جعل تلك المسألة في خطٍ متوازن، كما قال سبحانه وتعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا}(الأعراف:31). كذلك بالنسبة إلى علاقة الرجل بالمرأة، فقد أجاز سبحانه للرجل أن يتزوَّج أربع نساء، كما في قوله تعالى: {مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً}(النساء:3)، وأبقى للنبي أن يحتفظ بنسائه كحكم خاص. وهكذا فالنبي تزوَّج في كثير من زيجاته حسب ظروف الرسالة التي فرضت عليه ذلك"([56]).

وهكذا يبرّر السيد تعدّد زيجات الرسول(ص) وكثرتها، بأنها كانت مما تقتضيه مصلحة الرسالة في الظروف التي كانت تتحرّك فيها، ولعلّه يقصد بذلك الإشارة إلى ما اشتهر من أنّ المصاهرات في ذلك المجتمع القبليّ، كانت تنتج الأحلاف التي تسهم في شدّ عصبيّة القبائل حوله، وما يتبع ذلك من تعبيد الطريق أمام الدعوة الإسلامية، ومن كفِّ الأذى عن الرسول(ص) خاصة، وعن أصحابه عامة.


2- حروبه


أثارت كثرة حروب الرسول من سرايا وغزوات، إشكاليةً مفادها أنّ الإسلام دين السيف، وأنّ الرسول رجل حرب. ولكن السيد يلاحظ أن رسول الله(ص) "أراد للدعوة أن تكون سلماً لا حرباً، وأراد لها أن تكون عقلاً لا غريزة، وقد أراد لها أن تكون محبةً لا عداوة، ولكن القوم زرعوا الألغام في طريقه، ونصبوا له الحواجز.. حتى جعلوا حياته بعد الهجرة حرباً دائمة متحركة"([57]). وهكذا، يخلُص إلى أنّه لم يكن هناك "مناص من اعتماد أسلوب يستمد خطوطه من قلب الواقع، ويستخدم فيه أسلحة الصراع، لأن القضية ـ حينئذٍ ـ ليست قضية فكر جديد يُرادُ إقناع الآخرين به، بل قضية حياة يُرادُ حمايتها من عدوان الآخرين، وقضية رسالة يريد الآخرون أن يعطِّلوا دورها في حرية الحركة، وبالتالي، هي قضية الإنسان الذي يتطلّع إلى قوة مؤمنة تحميه من ظلم أخيه الإنسان، ويجابه ـ لمصلحته ـ قوى الشر والطغيان؛ لأنّ أيّ فكر لا يملك القوة لتنفيذه، لا يستطيع أن يفسح المجال لنفسه بالحياة مع الأفكار الأخرى التي تحميها القوة الطاغية"([58]). ونتيجة هذا في رأي السيد، أنّ "الحرب في الإسلام لم تكن عدوانية، بل كانت حرباً وقائية ودفاعية"([59]).

ويقول في موضع آخر: "كان القتال الإسلامي ـ إن صح التعبير ـ خاضعاً للأهداف المتصلة بالواقع الإسلامي في ساحات الصراع، في مواجهة الذين يفرضون الحرب على المسلمين، أو ليضغطوا عليهم للفتنة عن دينهم بمختلف وسائل الضغط الجسدي والمعنوي، أو ليخرجوا المسلمين من ديارهم، أو لمصادرة الحرية الإسلامية في الدعوة، وذلك بإقامة الحواجز ضد دعوة الإسلام، والصدّ عن سبيل الله بغير حق، وهذا ما نستوحيه من الآيات القرآنية التالية:

1- {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ}(البقرة:190).

2- {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ القَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا * الَّذِينَ آَمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا}(النساء:75-76).

3- {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ للهِ}(الأنفال:39).

4- {وَقَاتِلُوا المُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ المُتَّقِينَ}(التوبة:36).

5- {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}(الحج:39-40).

وهكذا نجد أن هذه الآيات وأمثالها تؤكّد القتال الدفاعي أو الوقائي، مما لا يقترب من مسألة الإكراه على الدخول في الدين"([60]).

ويتعرَّض السيد للإشكالات المسوقة على هذا الكلام، ومنها أنّ المسلمين هم الذين بدأوا المعركة في بدر من خلال مهاجمة قافلة المشركين. ويردّ بأنّ المسلمين "لم يبدأوا بالقتال، لكنهم أثاروا الأجواء؛ لأن النبي(ص) بعد أن أُخرِجَ من مكة، وأُخرِجَ المؤمنون معه، فهذا يعتبر بطبيعة الحال عدواناً وإعلان حرب. فالمشركون أعلنوا حرباً على الإسلام قبل أن ينتقل الموضوع إلى الساحة القتالية. ثم إن النبي(ص) لا يمكن أن ينطلق إلى الواقع العربي آنذاك إلا إذا صار قوياً، وإلا إذا تحول الإسلام إلى قوة معترف بها في المنطقة؛ لأن قوة قريش كانت تصدّ الكثيرين عن الإسلام.

لذلك، أراد النبي أن يقطع الشريان الحيوي لقريش بين الشام ومكة، فأرسل جماعة يعترضون سبيل القافلة، لا كقطَّاع طريق، بل من قبيل ممارسة ضغط اقتصادي، ولم يكن النبي(ص) يريد إيصال القضية إلى حدّ القتال، لكن اعتراض القافلة التي كان فيها أغلب رؤوس أموال قريش أثار الجميع. وعندما سلمت القافلة، قال البعض: لماذا ترانا نحارب، لقد سلمت القافلة؟ لكن البعض كأبي جهل، أرادوا أن يقضوا على الإسلام بهذه الذريعة. نعم، لقد بدأ النبي عملية قد تؤدي إلى الحرب. وعندما انتصر الإسلام في (بدر)، ورأى أن المسلمين أصبحوا قوةً وأصبحت العرب تحترمهم، حاولت قريش أن تثأر في أحد، إلى أن {جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا}(النصر:1-2)"([61]).

ويسجّل السيد أن المسلمين في زمن رسول الله(ص) كانوا "فقراء تعوزهم آلة الحرب والجهاد. ولذلك، ففي غزوة (بدر)، لم يكن لديهم سوى جملين، ويفتقرون إلى السلاح والرماح والسيوف، حتى إنّ الرسول كان يركب مرةً ويمشي أخرى، كما أنه لم يكن هناك جهاز عسكري يهيئ وسائل القتال"([62]).

ويعرض السيد في موضع آخر لحروب النبي(ص)، محاولاً تكريس الفكرة الدفاعية فيها، فيقول: "وتتابعت حروب النبي مع الكفار بعد ذلك.. وامتدّت حتى آخر حياته الشريفة.. ولكنها كانت تختلف عن حرب بدر، بوضوح الطابع الدفاعي فيها، الذي يجعل من الحرب ضرورةً حياتيةً للوجود الإسلامي. كما يتبين منها خطأ الفكرة القائلة بأنّ الحرب كانت تستهدف الدعوة إلى دخول الناس في الإسلام قسراً وإكراهاً"([63]).

ويؤكِّد السيد فكرة الحرب الدفاعية من خلال لجوئه إلى القرآن الكريم، الذي هو مصدر التشريع الأول، فيقول: "ولن نعدم الآيات التي تدلنا دلالةً واضحةً على أنّ النبي(ص) لو تُركَ وشأنه، ولم يعرض له المشركون، ويقفوا أمام دعوته ويضطهدوا أتباعه، ويصدّوهم عن سبيل الله ويخرجوهم من أوطانهم، لما كانت هناك حرب، ولما كان هناك قتال"([64]).

ويبيّن الفكرة كذلك من خلال السيرة العملية، من خلال عرض "هذه الحروب عرضاً... يوضح الصورة التي نريد إعطاءها في حديثنا هذا"([65]).

ويبدو أن السيد يحاول أن لا يصرف جهده في الأعمال الفكرية التي يرضى عنها، والتي تتوافق مع أسلوبه الفكري ونمطه الاستدلالي، ولذلك فهو يكتفي بها، ويوجِّه جهده في الميادين غير المطروقة، أو المطروقة بشكل غير وافٍ، ولذلك ينقل عرضاً موجزاً لحروب الرسول(ص) من كتاب (الرحلة المدرسية)، للشيخ محمد تقي البلاغي، فيقول: "ولما كان العلامة المجاهد المرحوم الشيخ محمد جواد البلاغي، قد عرض لذلك في كتابه (الرحلة المدرسية)، في محاولته معالجة الفكرة التي نحن بصددها، أحببنا أن ننقل حديثه بكامله، لوفائه بالحديث الذي نريده"([66]).

ونقدّم هنا عرضاً لمعركتي بدر وأحد، كما جاء في كلام السيد، ومن ثم ننقل ما نقله عن كتاب (الرحلة المدرسية) للشيخ البلاغي.

3- معركة بدر

 خطَّط النبي لتحدّي قريش اقتصادياً... وهكذا أرسل جماعةً من المسلمين ليعترضوا القافلة التي كان يقودها أبو سفيان، فأحسَّ أبو سفيان بالخطر يتهدَّد القافلة، فأرسل إلى قريش بكل شخصياتها يستغيث بهم لحمايتها... واستطاع أبو سفيان أن يتَّخذ جانب البحر، في الوقت الذي ضرب المسلمون الحصار على البر. فنجا بالقافلة، ولكنّ القرشيين كانوا قد استنفروا كلّ عدتهم وعديدهم.

وهنا واجه النبيُّ أصحابه في حدثٍ جديد، فجمع أصحابه واستشارهم في العمل، فقال بعض المهاجرين: "يا رسول الله، هذه قريش جاءت بخيلائها وأفلاذ أكبادها، وإنها ما ذلّت منذ عزّت"، وقام المقداد بن عمر(رض) فقال: "يا رسول الله، امض كما أمرك الله، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ}(المائدة:24)، بل نقول لك اذهب أنت وربك فقاتلا إنَّا معكما مقاتلون...".  فدعا النبي له بالخير، ثم قال(ص) أشيروا عليّ أيها الناس.. وكان يقصد الأنصار الذين بايعوه على حمايته... فقال له سعد بن معاذ: "... امضِ يا رسول الله لما أُمرت، فوالذي بعثك بالحق، لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك...".

[ثم لما كان يوم بدر]، قيل إنَّ النبي لما نظر إلى كثرة عدد المشركين وقلة عدد المسلمين، استقبل القبلة، وقال: "اللهمَّ أنجز لي ما وعدتني، اللهمَّ إن تهلك هذه العصابة لا تُعبَدَ في الأرض". فما زال(ص) ينادي ربه، مادّاً يديه، حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأنزل الله هذه الآية: {فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ المَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ ـ إلى قوله تعالى ـ ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ}(الأنفال:9-14).

وهكذا انطلقت المعركة وانتصر المسلمون([67]).

4- معركة أحد

"حاولت قريش أن تثأر من هزيمتها في بدر، ولذلك هيأت كل القوة من أجل الهجوم والثأر من الهزيمة، والقضاء على الإسلام.. وانطلق رسول الله(ص) بالجيش، وكانت هناك ثغرة في ساحة المعركة في جبل يُدعى (عينين)، وقال النبي(ص) [لمجموعة من الرماة وضعهم أمام الثغرة]: إن انتصرنا فاثبتوا، وإن انهزمنا فاثبتوا، والغنائم تأتيكم.. ولكن القوم بعد أن انتصر المسلمون في الجولة الأولى وانهزم المشركون تفرَّقوا.. ليغنموا ما تركه الأعداء من غنائم، وانهزم البعض خوفاً من (خالد بن الوليد) الذي حانت منه التفاتة، فرأى فراغ الثغرة أو ضعفها، فقاتلهم وقتلهم، ثم بعد ذلك اندفع مع المشركين، ودارت الدائرة على المسلمين جميعاً، وكانت الهزيمة، حتى إن رسول الله(ص) نفسه تعرَّض للخطر، فشُجّت جبهته، وكُسِرَت رباعيته"([68]).

5- غزوة بني القينقاع

ولمّا قدم (محمد) في هجرته إلى المدينة، رأى أن موقع الإسلام والمسلمين بين اليهود في خطر، فقد كانوا محدقين بالمدينة، وهم بنو النضير وبنو قريضة وبنو قينقاع. فكان أول أعمال (محمد) في هجرته، أنه عاهد هؤلاء اليهود على السلم وأمانة الجوار، وأن لا يكيدوا للمسلمين ولا يخونوهم ولا يساعدوا عليهم عدواً، ولكنّ بني قينقاع غدروا بعد وقعة بدر، وصاروا يكاتبون المشركين، وأنشبوا حرباً بينهم وبين المسلمين، فغزاهم (محمد) وانتصر عليهم، فطلبوا النجاة بالجلاء عن بلادهم، فسمح لهم بذلك.

6- تأكيد العهد مع اليهود.. وجلاء بني نضير

ورأى محمد أن اليهود لا يكادون يثبتون على عهدهم، فقصدهم هو وأصحابه لتأكيد العهد وأخذ الميثاق منهم، فأبى بنو النضير، فعدل عنهم إلى بني قريضة، فأعطوه عهودهم مجدداً على أن لا يغدروا بهم ولا يساعدوا المشركين عليهم، فرجع عنهم إلى بني النضير، وحاصرهم على إعطاء العهد، فاختاروا الجلاء عن بلادهم، فسمح لهم بذلك حفظاً للسلام بين البشر، فحملوا كلَّ ما يقدرون على حمله، ونزل أكثرهم في (خيبر) لكي يكيدوا محمداً عن قرب.

7- حرب الأحزاب

ثم جمعت قريش في السنة الرابعة من الهجرة جموعها منها ومن أحلافها من القبائل، وكذلك «غطفان» وأهل نجد، وتحزّبوا على قتال (محمد) وأصحابه. وكان الساعي في هذا التحزّب غطفان وأهل نجد مع قريش على الحرب هم جماعة من يهود بني النضير الذين أجلاهم محمد ونزلوا خيبر، ومنهم آل أبي الحقيق وغيرهم، فقصدوا المدينة بجيش عظيم يعدّ بنحو عشرين ألفاً، فخندق (محمد) على المدينة وحاربهم. وقد كانوا كاتبوا بني قريضة على الغدر بمحمد والنهوض إلى حربه، فخفّ بنو قريضة إلى الغدر ونقض العهد، وبدا منهم الاعتداء، فأرسل إليهم (محمد) حليفهم سعد بن معاذ رئيس الأوس مع جماعة من الأوس والخزرج، فوجدهم على أقبح الغدر، حتى صار بعضهم يغير على بيوت المدينة ومجامع العيالات.

8- غزوة بني قريضة

وحينما انكسرت جيوش قريش، وانحلّ جيش الأحزاب، عطف محمد وأصحابه على الغدر ببني قريضة، فحاصرهم، فجعل بنو قريضة حكمهم إلى سعد بن معاذ رئيس الأوس، لأنهم كانوا حلفاءه قبل الإسلام، وظنوا أن سعداً يتساهل معهم، فوافقهم محمد على ذلك، ولم يصمّم على حربهم. فحكم سعد بقتلهم، فنفّذ حكمه بالغادرين. ولو أنهم اختاروا الجلاء إلى حيث يؤمن غدرهم، لسمح لهم (محمد) كما سمح لبني قينقاع وبني النضير، ولو شفّع فيهم سعد لتركهم له. فإن من المعلوم من حال (محمد)، أنه كان يحبُّ السلم وصلاح البشر والعفو إذا أمن فساده، ولم ينصبغ العفو بصيغة الضعف والوهن.

9- حرب بني المصطلق وصلح الحديبية

وفي السنة الخامسة أو السادسة، صار بنو المصطلق يستعدّون لحرب (محمد)، فغزاهم وظفر بهم.

وفي ذي القعدة من سنة ست، قصد مكَّة للحجّ والطواف بالبيت، ومعه من أصحابه نحو سبعمائة رجل، وقدّموا ذبائح العبادة سبعين بعيراً، جعلوا عليها علائم الهدي لكعبتهم ورسوم العبادة، ولكي يطمئنَّ أهل مكة بالسلم، فصدّه أهل مكة، واستعدُّوا لحربه، وطلبوا رجوعه، فسمح لهم بما طلبوا، وتساهل معهم بالصلح حسبما يقضيه حبّ السلم، ونحر في مكانه هديه للكعبة ورجع.


10- حرب خيبر

وإن بني النضير الذين نزلوا بعد جلائهم في خيبر، وخضع لهم أهلها، لم يزالوا يسعون في حرب (محمد) وقطع أثره. وهم الذين سعوا في حرب الأحزاب، ولم يزالوا على إثارة الفتن، فغزاهم في أواخر السنة السادسة، ففتح حصوناً لبني النضير، منها حصن ناعم، ومنها القموص حصن بني أبي الحقيق، ومنها حصن الصعب بن معاذ وباقي حصون خيبر، إلا حصنين «الوطيح، والسلالم»، فإن أهلهما طلبوا من (محمد) أن يسيِّرهم ويحقن دماءهم، فسمح لهم بذلك.


11- فتح مكَّة

وقد كان في صلح الحديبية، أن خزاعة دخلت في حلف (محمد)، وبني بكر دخلت في حلف قريش. فعدت بنو بكر وقريش على خزاعة بالحرب.. فجاء مستصرخُ خزاعة إلى محمد، فتوجَّه في سنة ثمان بجيشه إلى مكة في عشرة آلاف بعدّة كاملة. ولما خافت منه قريش وأحلافها، وضعفوا عن مقاومته، لم يحمله سوء أفعالهم معه على الانتقام منهم، بل دخل مكة بأرأف دخول وأكرم معاملة، فكأنه ساق إلى قريش جيش العفو وامتنان الرحمة والأخلاق.

12- حرب هوزان

ولمّا سمعت هوزان بفتح مكة، جمعت جموعها لحرب (محمد)، فقصدهم وحاربهم وغنم أموالهم وذراريهم، فوفد رجالهم عليه بعد أن أسلموا في هزيمتهم طوعاً، فاسترحموه، فخيّرهم بين ردّ السبي وردِّ الأموال، فاختاروا ردِّ السبي، فاسترضى المسلمين في ذلك فأجابوه، فردَّ السبي، وكان نحو ستة آلاف ما بين امرأة وطفل، وقد كانت ثقيف من جملة المنهزمين من جيش هوزان، فرجعوا إلى الطائف، وتحصّنوا بحصونهم لحرب (محمد)، فوجَّه إليهم بعض جيشه.

13- حرب مؤتة، حرب تبوك

وأما بعثه الجيش إلى الشام، حيث حاربوا جيش الروم والعرب والرومانيين في (البلقان) شرقي بحيرة لوط، ومسيره بجيشه إلى تبوك، فكان الداعي إلى ذلك، أن هؤلاء تظاهروا بالعداوة للإسلام و(محمد)، واستخفّوا بحرمته، وقتلوا رسله الذين أرسل معهم كتبه لدعوة التوحيد. مع أن العادة المستمرة، أن الرسول حامل الكتاب محترم لا يقتل، ولا يقتله إلا من تجاهر بالطغيان والعداوة لمن أرسله، فإن (محمداً) كاتب ملك الروم في الدعوة إلى صلاح الإسلام وتوحيده الحقيقي، حينما كان قيصر راجعاً مع جيشه من انتصاره على الفرس. فتجرّأ شرحبيل الغساني على قتل الرسول حامل الكتاب، واستعدّ الروم وأتباعهم لعداء (محمد) وحربه، فاستعدَّ لدفاعهم وعدم الخضوع لجرأتهم التي تهدد دعوة التوحيد والإصلاح.

14- سراياه وتجريداته

وأما سرايا (محمد) وتجريداته فكلّها كانت دفاعية. يردُّ بها كيد الغادرين، ويدافع بها من يستعد لحربه، ويسعى في الفساد والبغي، ولم تكن فيها مهاجمة ابتدائية على هادئ مسالم، كما يشهد بذلك معلوم التاريخ([69]).

 وهكذا يبيّن السيد من خلال محاضراته وكتاباته، أن تشريع الحرب في الإسلام لم يكن لحمل الناس على الدخول في الدين قسراً، وإنما كانت للدفاع عن حرية العقيدة من جهة، وعن الكيان الدولي للإسلام من جهة أخرى.

15_ أميَّته

شكّلت أميّة الرسول مورداً من موارد الاعتراض عليه، فإن قيل إنه أميّ، فإنها قيمة سلبية، وإن قيل إن أميّته بمعنى غير الجهل بالقراءة والكتابة، كان ذلك طعناً في نبوَّته؛ "لأنهم سيقولون: إنه قرأه في (التوراة) و(الإنجيل) وكان يكتب ويتعلّم، فألّف القرآن خلال أربعين سنة"([70]). وبين هذين المحذورين، ذهب السيد إلى تبني أميته بمعنى جهله بممارسة القراءة والكتابة. "فقد عرّفنا الله تعالى في كتابه الكريم، أن النبي(ص) كان لا يعرف التفاصيل، كما في قوله تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ}(العنكبوت:48).. وقال الله تعالى عنه: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا}(الشورى:52).

وكان(ص) يخاطب قومه وهم الشهود على تاريخه كلّه، فيقول: {قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ} ولم تسمعوا مني آيةً، ولم تعرفوا مني مضمونها؛ لأن الله تعالى لم يأذن بذلك، ولم يكن قد عرفني بذلك بعد. {أَفَلَا تَعْقِلُونَ}(يونس:16).

ونستطيع ـ أيُّها الأحبَّة ـ أن نعتبر هذه الآيات التي تلاها الرسول(ص) على الناس الذين عايشوه، ولم يرتفع منهم صوت واحد ليقول لقد رأيناك تقرأ، أو رأيناك تكتب، حجةً تاريخيةً على مضمون هذه الآيات..."([71]).

ثم يبيّن السيد أنّه "لم يُعرف للنبي بيئة ثقافية أخرى، في المدارس الثقافية الموجودة في ذلك الوقت؛ فلا يوجد في تاريخه أثر لأية رحلة طويلة سافرها إلى تلك المدارس، بل كل ما قام به رحلتان تجاريتان إلى بلاد الشام، لم تتجاوزا زمنياً المدة التي تفرضها طبيعة الرحلة التجارية السريعة. وكانتا في وقت متقدمٍ على الهجرة، بالإضافة إلى أن النبي(ص) لم يصل فيهما إلى بيروت ـ المركز العلمي آنذاك ـ بل توقف سفره في حدود بصرى، في ما تنقله لنا السيرة النبوية الشريفة"([72]).

وبذلك يُلاحظ السيد في سيرة النبي، أنه لم يقرأ أو يكتب، ولم يسافر خارج البيئة العربية الأميّة سفراً يتعلّم فيه القراءة أو الكتابة أو مضامين الكتب السماوية السابقة على القرآن. ولكن ذلك بالنسبة إليه، لا يعني "أنّ النبي(ص) كان لا يملك المستوى الثقافي العالي من خلال تأملاته، وتجاربه، والألطاف الإلهية عليه في ملكاته الفكرية والروحية من خلال إعداد الله له للمهمَّة الكبرى في الرسالة الإسلامية"([73]). وهكذا يَخْلُصُ السيد إلى أنّ هذه الأمية لم تمثّل قيمة سلبية في شخصية النبي؛ "لأنها لم تكن أميَّة الفكر، ولا أميَّة العقل أو القلب، بل كانت أميَّة الممارسة في عقلٍ يعطي الناس ما يقرأون ويعطيهم ما يكتبون... ولو درسنا كل تأريخه قبل الرسالة، لرأينا أنه لم يُنقَل عنه أيُّ عمل سلبي في أيِّ جانبٍ من جوانب القيم الإنسانية، ولم يُنقَل عنه أيُّ فكرٍ فيه للخطأ مجال"([74]).

فإنّ أميته ـ كما يرى السيِّد ـ لم تكن جهلاً ثقافياً، "فقد أعطى للقراءة والكتابة معيناً لا ينضب على مدى التاريخ؛ يكتبه الناس منذ ما يزيد عن أربعة عشر قرناً... ولا يزال الناس يقرأونه بحثاً وتحليلاً وفكراً، ويبقى الرسول الأميّ يعطي للعالم أعلى أنواع الثقافة، ويحرِّك فيه أعمق مواقف الفكر، بحيث يمتدُّ فكره حتى يرث الله الأرض ومن عليها"([75]).

16- عالمية الرسول(ص) والرسالة

إن انتشار الإسلام اليوم وطريقة انتشاره في بدايات الدعوة، طرحا بعض الأسئلة على عالميته، حيث إن عالميته محرك رئيس للحركات الإسلامية وللإسلاميين، وموجّه لهم في خط الدعوة. ولذلك يلاحق السيد الأسئلة التي أثارها المستشرقون حول حدود المنطقة التي أرسل إليها الرسول(ص)، وهل إنه أرسل لأم القرى ومن حولها، أو أنه أرسل للعالمين؟

وفي سبيل الرد على هذا السؤال، يعرض ما يمكن أن يُستَدَلَّ به على كون حدود منطقة الدعوة هي مكة وما حولها، وهي الآيات التالية:

1- {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ القُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا}(الشُّورى:7)، فقد يستوحى من ذلك، أنَّ الرسول قد انطلق لينذر أهل مكَّة وما حولها، بعد أن كانت الفكرة الأولى أن ينذر عشيرته الأقربين، وذلك قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ}(الشعراء:214). وهكذا يرى هؤلاء (المستشرقون)، أنَّ عالمية دعوة الإسلام لم تكن واردةً في فكر صاحب الدعوة من البداية، بل تطورت بفعل الانتصارات المتلاحقة التي حققها في حركته في الحرب والسلم.

2- {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}(الجمعة:2)، فيفسرون كلمة "الأميين" بالمنسوبين إلى أم القرى، ويستوحون فكرة محدودية الدعوة في النطاق الخاص.

وينقض السيد هذا الرأي، من خلال ملاحظة مكان نزول الآيات التي تتكلم عن عالمية الدعوة، وأنها نزلت في مكة قبل الانتصارات الإسلامية وقبل قيام الدولة، ويورد الآيات التالية كتأكيد للفكرة:

1- {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا}(سبأ:28).

2- {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}(الأنبياء:107).

3- {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا}(الأعراف:158).

فإنّ الآيات الثلاث المتقدمة، واردة جميعها في سور مكية، وهي سبأ والأنبياء والأعراف. ويضيف السيد: أما الحديث عن إنذار عشيرته الأقربين، وإنذار أم القرى ومن حولها، فإنه يتصل بالدعوة المباشرة التي تنطلق من خلال التدرّج الطبيعي في حركة أي رسالة وأي رسول، حيث ينطلق من القاعدة الصغيرة في مجتمعه، ليتحوَّل إلى المجتمع الأكبر بحسب مواقعه الضيقة والواسعة؛ لأنه قد يكون من غير الطبيعي أن يقفز الرسول إلى العالم الأوسع من دون أن يكون له في دعوته قاعدة انطلاق في مجتمعه؛ لأنّ الحركة لن تكون واقعية آنذاك([76]).

عاشراً: صورة الرسول(ص) في القرآن

1- السيرة الذاتية

يلاحق السيد المفردات التي تحدَّث بها القرآن الكريم عن النبي، حتى يستطيع أن يقدم صورة النبي(ص) في القرآن، فيجد أنه: "عندما يتحدث الله عن رسوله، فإننا نجد أنه لم يتحدث عن صفاته الجسدية، ولا عن صورته ولا لون عينيه، ولا لون جسده، ولا طوله وعرضه، ولم يتحدث لنا عن أية خصوصية من خصوصياته"([77]). ويجد ـ كما في موضع آخر ـ أنّ الله لم يحدّثنا "عن ولادته، ولكنه خاطبه وحدَّثنا من خلال خطابه عن بعض ألطافه به {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى}(الضحى:6-8).. حدثنا عن يتمه.. وكيف كان ضالاً، لا بمعنى الضلالة التي هي ضدّ الهدى، ولكن عدم الهدى في تفاصيل الهدى {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى}. فالله يحدِّثنا عن فقر النبي(ص)، وأنه كان اليتيم الفقير... وهكذا حدَّثنا الله عن رسول الله قبل الرسالة في أنه كان لا يقرأ ولا يكتب.. {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ}(العنكبوت:48). فالنبي لم يكن قارئاً ولم يكن كاتباً؛ لأن الله سبحانه وتعالى أراد له ذلك، لا ليكون ذلك مظهر ضعف في شخصيته، كما هو في شخصيّة كلّ إنسان لا يعرف القراءة والكتابة، بل ليكون قوةً في معنى رسالته"([78]). ويرى السيد أن الله لم يحدِّثنا عن الخصوصيات العائلية للرسول(ص) "إلا بما يتصل بحركته الرسالية، وحركة الناس معه في المنهج الذي يريده الله في تعامل الناس مع الرسول(ص). فما حدَّثنا عنه هو أخلاقه الرسالية"([79]).

ولذلك يلاحظ السيد "أنّ السيرة الذاتية ليس لها أية قيمة عملية في حساب الرسالة، بل ربما نفهم من خلال بعض الآيات الكريمة، أن عظمة الرسول(ص) تكمن في تجسيده الحيّ للإسلام، لكي لا نتوقَّف عند حياته في الدنيا، ونتجمَّد أمامها ونخشع لها، فإذا مات وانتقل إلى ربّه، ماتت الرسالة في حياتنا.. كما جاء في قوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ}(آل عمران:144). وتتَّضح هذه الصورة بشكل كبير في الآية الكريمة: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ}(الأحزاب:40)([80]).

2- الشخصيَّة الرسوليَّة:

وفي ما يخصّ الملامح الأصيلة لشخصيّة الرسول(ص) ومدى علاقتها بالخط العملي للرسالة، يرى السيد أنّ القرآن تحدَّث عن "خُلُقه العظيم، وعن أسلوبه في الحوار ومشاعره تجاه الآخرين، كما في الآيات:

1- {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}(القلم:4).

2- {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}(التوبة:128).

3- {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ القَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}(آل عمران:159).

4- {فَآَمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}(الأعراف:158).

* تتحدَّث الآية الأولى عن خُلُقه العظيم بصورة عامة، لتوحي إلينا أن الشخصية الرسالية لا بدَّ لها من أن تتسامى بخلقها في علاقتها بالآخرين.

* وفي الآية الثانية، نواجه الشخصية الرسالية من خلال الاهتمامات الذاتية بالآخرين في الداخل، حيث يعيش النبي بشكل شعوري عميق، كلّ المشاكل والآلام والمتاعب التي تواجه الناس وتُجهدهم، فنراه يحرص عليهم، من منطلق إحساسه الداخلي المفعم بالرحمة والرأفة، حرصَه على نفسه.

* وأما الآية الثالثة، فإنها تتحدث لنا عن صفتين أساسيتين في نجاح الرسالة:

الأولى: لِينُ الجانب ووداعةُ الكلمة وسماحتُها؛ لأنّ الإنسان الذي يعيش قسوة القلب لا يمكن أن يعيش الحبَّ للآخرين.

والثانية: رقّة القلب ورحمته؛ لأن الإنسان الذي يعيش فظاظة اللسان ونزق الكلمة وغلظة الأسلوب، لا يستطيع أن يدخل إلى وجدان الناس وضمائرهم.

* ونلتقي في الآية الرابعة بالصفة الأساسية في شخصية الرسول، وهي إيمانه بالله وكلماته، حيث تلتقي مع آية أخرى في موضعٍ آخر {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ}(الزُّمر:33)، لتؤكد انطلاقة الدعوة من موقع الإيمان العميق بمفاهيمها المنطلقة من المسؤولية في الداخل، لا من موقع المسؤولية من خارج الذات"([81]).

3_ بشريَّة الرسول(ص)

وتكتمل صورة النبي في القرآن لدى السيد في الحديث عن بشريته، وذلك لأن الحديث عن صفاته الرسالية ودوره الرسوليّ، يستتبعان السؤال عن طاقاته وإمكاناته وحجم دوره في الكون. وفي معرض توضيح ذلك، يرى السيد أن القرآن الكريم أكّد "بشرية الرسول(ص) بما لم يؤكد به أيَّ عنوان آخر من عناصر شخصيته، كما أكّد ذلك في الحديث عن بشرية الأنبياء، في مقابل الفكرة التي ترفض الجمع بين النبوة والبشريَّة. وأراد الله للنبي محمد(ص) في خطابه القرآني، أن يعلن ذلك للناس، كما في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} (الكهف: 110)، وقد أراد الله له أن يدخل في التفاصيل في هذا الاتجاه، ليبين مدى قدرته البشرية التي لا يملك فيها أيّ عناصر ذاتية ترتفع بها فوق مستواهم من الناحية التكوينية، أو من الناحية الشخصية الفعلية.. وذلك هو قوله تعالى: {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللهِ وَلَا أَعْلَمُ الغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ}(الأنعام:50)، ما يوحي بأنه لا يملك هذه الأمور بشكل فعليّ في تركيبته الذاتية، بل هو مُتَّبِعٌ لما يوحيه الله إليه مما يريد له أن يبيّنه للناس، أو ممّا يريد أن يعلّمه عن غيبه بالمقدار الذي يحتاجه في رسالته...

وتتعاظم الفكرة في ملامح الصورة الشخصية القرآنية للنبي محمد(ص) في الآية التالية، في قوله تعالى: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}(الأعراف:188)، فهي توضح أنَّ القدرة البشرية لديه، لا تملك أية عناصر غير عادية للقوَّة التي تحمي نفسها إلا من خلال القوانين الإلهية العامة، أو من خلال الألطاف الإلهية التي يرعى الله بها نبيّه...

وتزداد المسألة وضوحاً في الآية الكريمة، في مواجهة النبي للمشركين في اقتراحاتهم التعجيزية كشرط للإيمان، وذلك قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا * وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا}(الإسراء:90-94).

فإنّنا نلاحظ أنّ النبي(ص) ـ من خلال هذا النصّ القرآنيّ ـ لم يُجِبهم على اقتراحاتهم تلك بأنه ليس مخوّلاً أن يجيب على مقترحاتهم، لأنّ النبي لا ينطلق بالمعجزة إلا من خلال الأمور التي يرى أنها ضرورية للتحدي أو مواجهة التحدي، لا من خلال ما اقترحه الآخرون في طلباتهم، بل كان جوابه منطلقاً من أنّ تلك ليست قدرته؛ لأنّه بشر، لا يملك قدرةً غيرَ عادية بما تتطلبه الأشياء التي اقترحوها، وتلك ليست مهمته ودوره؛ لأنه رسول يحمل مسؤولية تبليغ الرسالة، لا مسؤولية التصرف في الكون بالطريقة التي يتطلبونها.

وعلى ضوء ذلك، فلا مجال ـ في النص القرآني ـ لفكرة (الولاية التكوينية) للنبي أو للأنبياء كافةً. وإذا كان الله قد أعطى للأنبياء القيام بالمعاجز، فإنها تتصل ـ بشكل مباشر ـ بحاجة النبوة إلى ذلك أمام التحديات الموجَّهة إليهم...

إن خلاصة الفكرة، أن الله قادر على أن يمنح أيّاً من عباده، ولا سيما الأنبياء، أية قدرة غير عادية، كما منح بعضهم إيجاد المعجزة... فإنه على كل شيء قدير. ولكنّ القضية المطروحة أمام البحث، هي أن القرآن دالّ على أن الله لم يمنحهم ذلك، بل كانوا يتحركون كما يتحرك البشر بقدرة عادية. فهم يعيشون تحت تأثير الضعف البشري في الخوف والحزن والألم والمرض والجوع والعطش وما إلى ذلك، كما كانوا يعيشون تحت تأثير عناصر القوة، إلا في بعض الحالات المتصلة بدورهم الرسالي في حاجتهم إلى المعجزة والآية الربانية، ونحو ذلك مما يكون في المستوى المحدود بمقدار الحاجة"([82]).

4- عصمة الرسول(ص)

يؤسِّسُ السيد لعصمة الرسول(ص) من خلال ملاحظة سيرته قبل النبوَّة، فيجد أنه جسّد "أعلى معاني إنسانية الإنسان في عقله، فكان المتأمّل الذي يعيش مع الله في صدقه وأمانته، حتى إنّ كلمة (الصادق الأمين) تحوَّلت إلى اسم له، وكان الإنسان الذي يلتقي عليه الجميع؛ لأنه وحده الذي لم يجدوا لديه أي خطأ في الفكر، وأي خطأ في الكلمة، وأي خطأ في السلوك والعلاقات. فلم يذكر أحد في تأريخه، وتأريخُهُ قبل البعثة أربعون سنة، أيَّ عيب له، أو نقصاً أو انحرافاً، ومن هنا، ففي الوقت الذي قال الله له: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ وَلَا الإِيمَانُ}(الشُّورى:52)، كان يعيش روحية الإيمان وروحية الكتاب... فكان المعصوم قبل النبوَّة، كما كان هو المعصوم بعد النبوة"([83]).

إنّ رسول الله(ص) في نظر السيد "إسلام كله، وهو القرآن الناطق، عقله عقل الإسلام، وقلبه قلب الإسلام، ومنطقه منطق الإسلام، وحركته حركة الإسلام.. حتى وهو يعيش في بيته مع عياله، وحتى وهو يتحدث مع الناس، فرسول الله(ص) لا يمكن أن يقترب من الباطل حتى في طريقة أكله وشربه"([84]). "فمعنى قوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى}(النَّجم:3)، أن ليس للنبيّ هوىً يدفعه إلى أن يتكلَّم أيَّ كلمة مخالفة لما يريده الله، ولذلك كانت كلماته شريعة، وكان فعله كذلك شريعة: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَاليَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا}(الأحزاب:21)([85]).

ولهذا يقول السيد: إنّ "الحديث عن أنّ رسول الله يخطئ في غير مجال التبليغ، حديث عن تقسيم شخصية رسول الله(ص)، فبعض الناس الذين يتحدَّثون عن عصمة في التبليغ، وعن خطأ يمكن أن يمتدّ إلى الانحراف العمليّ أو في واقع الحياة، لا يعرفون حقيقة الإنسانية، وهي أنّ الإنسان واحد فينا، فأنت إما أن تكون معصوماً بكلّك، وإما أن تكون غير معصومٍ بكلّك، أمّا أن تكون معصوماً في جانب وغير معصوم في جانب، فمن الذي جزّأ عقلك حتى يلتقي بالباطل تارةً ويلتقي بالحقّ أخرى... ومن الذي قسَّم قلبك فجعلك تنفتح في عاطفتك على الحقِّ تارة، وتنفتح على الباطل تارةً أخرى..

إننا نفهم معنى العصمة في النبوَّة من خلال فهم معنى النبوَّة في الدور، فهي ليست مجرد شخص يحمّله الله رسالةً ليكون بمثابة ساعي البريد للناس في إبلاغ الرسالة، ويرجع إنساناً عادياً كبقية الناس. وهي هنا في معناها: رسالة الله التي لا بدَّ من أن تتجسّد في الرسول كما في الوحي، بحيث إن الله يريد أن يغيّر العالم على أساس الحق، من خلال إنسان يتجسّد فيه الحقّ..

أمَّا أن يتحدث الناس عن بعض الآيات القرآنية التي تقول إن الله تعالى عاتب رسول الله(ص) كما في: {عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ}(التوبة:43)، ففي القرآن خصوصية لا بدَّ من أن ننتبه إليها، وقد حدَّثنا عنها أحد أئمة أهل البيت(ع)، وهو الإمام محمد الباقر(ع)، فقد روي عنه أنه قال: إنّ القرآن نزل "بإياك أعني واسمعي يا جارة"([86]). فالله إذ يخاطب نبيه يخاطب الناس من خلاله، ليقول لهم: إذا كان خطاب العنف في فرضية الانحراف يوجَّه إلى النبي، فكيف بكم؟! إنه يريد أن يصوّر عظمة القضية التي يَعْنُفُ فيها في خطاب النبي، لا لأنّ النبي(ص) يعيش أجواء هذه المسألة، ولكن ليعرّفنا سبحانه وتعالى أنّ المسألة بمستوى الخطورة التي لو صدرت عن النبي، لكان لله عزّ وجلّ منه موقف عنيف، كما في قوله تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ}(الزُّمر:65)، فهل إنّ فرضيّة أن يشرك الأنبياء الذين جاؤوا بالتوحيد هي فرضيّة معقولة؟ بالطبع لا. ولكن كما يقول الفلاسفة فإن "فرض المستحيل ليس مستحيلاً"، وكما في قوله سبحانه: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ}(الحاقة:44-46). ولذلك فإنّ الله تعالى أراد أن يؤكِّد بشريَّة النبي في حياته، ولكنها بشرية معصومة بالوحي وبالعلم الذي أعطاه الله سبحانه وتعالى له" ([87]).

5- مهمَّة النبي الرساليَّة

لقد تحدَّث القرآن عن صفة النبي في المهمة الرسالية الموكولة إليه، ويوضح السيد ذلك من خلال ما يستقرئه "في عدة آيات، منها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا{(الأحزاب/45-46).

ومنها قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}(الجمعة:2).

ومنها: {رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِ اللهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}(الطَّلاق:11)

وهكذا نجد أن دوره في الناس في معنى الرسالة، هو دور الشاهد الذي يشهد على الأمة من الموقع القيادي الذي يخطِّط لهم الطريق، ويحدِّد لهم الخطوط، ويراقبهم في تجربتهم العملية وانسجامهم مع منهج الله، وهو دور الرسول الذي يتلو عليهم آيات الله ويعلّمهم الكتاب"([88]).

ويرى السيد في موضع آخر، أنّ الرسول(ص) "لم يكتف بتلاوة آياته، بل أضاف إلى ذلك صفة المعلم. وعلى ذلك، نقول دائماً إن النبي استوعب الرسالة كلَّها في عقله وقلبه وإحساسه وشعوره وآفاقه، بحيث كان المعلم للرسالة في مفرداتها كلها، فلا يغيب عنه شيء منها، ولا يمكن أن يخطئ في شيء من ذلك. فكما أنه لا يخطئ في استيعاب الكلمات، فكذلك لا يخطئ في استيعاب المعاني، ولا في تفريعها، ولا في امتداداتها، ولا في تطبيقاتها على الواقع"([89]).

ويعتبر السيد أنّ من مهمات النبي الرسالية "أن يعلّم الحكمة. وليس المراد بالحكمة هي مضامين الكتاب؛ لأنّ كلمة الكتاب تكفي في الدلالة عليه، ولكنّ الحكمة فيما نستوحيه منها، هي حركية الكتاب في الواقع، فالكتاب يعطي النظرية، ولكنّ الحكمة تعطي التطبيق {وَلَقَدْ آَتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ}(لقمان:12). بمعنى أنه كان يملك ثقافةً يستطيع أن يحركها في الواقع، بحيث تصل إلى النتائج السليمة من خلال ما يملك من وضوح الرؤية للأشياء في حركة الفكرة والتطبيق.

وقد عرّف اللغويّون الحكمة بأنها وضع الشيء في موضعه، بمعنى أن لا تُبعَدَ الأشياء عن مواقعها، سواء في الفكر أو في الواقع"([90]).

ويستظهر السيد من الآيات دوراً آخراً "هو دور التزكية، وهي المهمة التربوية التي يشرف فيها النبي(ص) على حركة المجتمع، ليرصد الانحرافات التي تحدث هنا وهناك، ليندفع إليها فيصحح ما أخطأوا فيه، ويقوّم ما انحرفوا فيه. ولقد كان دور النبي(ص) هو أن يدخل إلى إنسانية الإنسان من أجل أن يزكّيها ويطهرّها وينميها، ويفتح لها آفاق الروح، بحيث يتروّح الإنسان وهو جسد. ولذلك فقد أراد الله للنبي(ص) أن يقوم بهذا الدور، وقد قام به على أكمل وجه"([91]).

وكخلاصة لهذا كله، يقول السيد: "ومن هنا نعرف أن الدور النبوي العظيم الذي كان يمارسه الرسول الله(ص)، هو الدور التربوي الذي يعيش فيه مع أصحابه كأحدهم، ليشعروا بعفوية العلاقة معه وببساطتها، لكي يتحسَّسوا روحه وطهارته وروحانيته وتواضعه وكل أخلاقه وأسلوبه في الحياة"([92]).

حادي عشر: أخلاقيات الرسول(ص)

1- أخلاقه الشخصية

إنّ المدخل الذي يدخل من خلاله الباحثون المسلمون في أخلاق الرسول(ص) ومَلَكاته الشخصية هو القرآن الكريم. وقد أسّس السيد لكلامه عن أخلاقيات الرسول من خلال هذه القاعدة، ثم عمل على ملاحظة السيرة العمليّة التي تشكّل مصدرها. وهكذا يقول السيد: إنّ الله "قدَّم لنا الرسول بأخلاقه، وقال له: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}(القلم:4)، ولم يبيِّن لنا أيَّ خلق من أخلاقه بشكل خاصّ، لأنّه أراد أن يعطينا أنَّ جوانب العظمة الّتي تتمثَّل في رسول الله(ص) تحيط بكلِّ أخلاقه، وإذا كان رسول الله عظيماً في كل خلقه، فإنّ علينا أن نتلمَّس جوانب العظمة في هذا الخلق، لأن الله أرادنا أن نقتدي به، وأن نتقرب من شخصيته ومن جوه"([93]).

ويلاحظ السيد ـ في كلام آخر له ـ في سيرة النبي العملية "علاقته بالناس كلهم، في العناصر الذاتية في حركته الذاتية، وفي العناصر المنفتحة على الناس في حركته الاجتماعية"([94]). ويستنتج من ذلك، أن النبي كان "القمة في الأخلاق الإنسانية"([95])، وذلك أنه "كان يحمل الحب للناس في إنسانيتهم، من حيث إنه يريد صلاحهم، فيحزن عليهم لإصرارهم على الكفر، وقد يشتدُّ الأمر به في هذا الشعور الإنساني الرّقيق، فيبلغ الدرجة التي تذهب فيها نفسه عليهم حسرات. ما يعني أن القضية لم تكن لديه ـ في هذا الحزن الإنساني ـ قضية شخصية، من خلال عدم استجابة الآخرين له في دعوته، بل كانت قضية الحزن عليهم لأنهم لم ينتفعوا بالدعوة.. [ويستوحي السيد هذا من خلال عدة آيات]:

1- {وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ}(النمل:70).

2- {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ}(فاطر:8).

3- {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا}(الكهف:6)"([96]).

ويتابع السيد المفردات الأخلاقية العمليّة للنبي(ص)، فيجد أنه "كان الصادق الأمين، وأن الناس كانوا يرون فيه الصدق كأفضل ما يكون الصدق، والأمانة كأفضل ما تكون الأمانة، حتى غلب ذلك على اسمه، فكانوا يقولون: جاء الصادق الأمين. والسؤال الذي يطرح هنا: لماذا أراد الله له أن يكون صدقاً كلّه وأمانة كلّه؟ ما ذاك إلا لأنّ الصدق والأمانة تجمعان الرسالة كلها. فالصدق يمثل الانفتاح على الحق، لأنَّ الكذب باطل، ومن هنا، فمن يكون صادقاً، لا يمكن أن يكذب على الله ولا على الناس وعلى الحياة...

أما الأمانة، فأن يكون الرسول أميناً، يعني أن يكون أميناً على رسالة الله وعلى مسؤوليته في الدعوة إلى الله، وفي رعاية شؤون الناس وأمورهم كلها، وأن يكون أميناً على الحياة كلّها"([97]).

ومن خلال كلام الإمام عليّ(ع) وشهاداته، يتعرَّض السيد لمفردة الزهد في شخصية الرسول(ص)، فينقل كلام علي(ع) ويشرحه. قال: "ويتحدث علي(ع) في شهادة أخرى عن زهد النبي المصطفى(ص)، فيقول: "لقد حقّر الدنيا وصغّرها"، فلم ينفتح عليها انفتاح الإنسان الذي تبطره زخارفها، وتصرعه أحجامها، وتجرّه شهواتها وأهواؤها إلى نفسها؛ ذلك لأنّ الدنيا لم تكن همّه ولا مبلغ اهتمامه، ولأن الدنيا عنده مجرَّد موقع لرسالته ينفتح من خلاله على الله، وليس لها قيمة ذاتية في كل طيباتها ومتاعها، وليس معنى ذلك أنه كان يحرّم ملذّات الدنيا، بل ينظر إليها بحجمها من خلال حركة الرساليين في نظرتهم إلى الدنيا المادية، ليرتفعوا من خلال هذه النظرة إلى آفاقها الروحية.. "وَأَهْوَنَ بَهَا وَهَوَّنَهَا، وَعَلِمَ أَنَّ اللهَ تعالى زَوَاهَا عَنْهُ اخْتِيَاراً"، فلقد كان النبي(ص) الفقير واليتيم  {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى}(الضحى:6-8)، فلقد كان يربط حجر المجاعة على بطنه كما تروي سيرته في أثناء حفر الخندق. "وَبَسَطَهَا لِغَيْرِهِ احْتِقَاراً"، لأنها لا تمثل عند الله كرامةً لأوليائه.

"فَأَعْرَضَ عَنِ الدُّنْيَا بِقَلْبِهِ، وَأَمَاتَ ذِكْرَهَا عَنْ نَفْسِهَ، وَأَحَبَّ أَنْ تَغِيبَ زِينَتُهَا عَنْ عَيْنِهِ، لِكَيْلاَ يَتَّخِذَ مِنْهَا رِيَاشاً أوْ يَرْجُوَ فِيهَا مَقَاماً"..

"قضم الدنيا قضماً، ولم يُعرهاً طرفاً"، أي أكلها أكلاً سريعاً، ولم يتلذَّذ بها تلذذ المتمهل في طعامه، ولم يتوقف عند ملذاتها طويلاً بحيث تستغرق نظره وهواه. "أهضم أهل الدنيا كشحاً"، والهضم هو خمص البطن، ومعناها خلوّها، والكشح هو ما بين الخاصرة إلى الضلع الخلفي. "وأخمصهم من الدنيا بطناً"، فالنبي(ص) كانت بطنه خالية ولم يكن يأكل كثيراً،  "عُرضت عليه الدنيا فأبى أن يقبلها"، فلقد قيل له: خذ الدنيا كلها ولا ينقص من أجرك شيء، ولكنه قال: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى}(القصص:60)"([98]).

وفي السيرة العملية، يجد السيّدُ العديدَ من السلوكيات التي تدلّ على تواضع النبي، كما في مسألة مبادرة من هو في مركز كبير وعالٍ لإلقاء السلام على من هم دونه في المركز الاجتماعي، كما في أعراف الناس في معاملاتهم. ولذلك، فإنّ النبي(ص) أعطى "الأمثولة في السلام على الصبيان والنساء، فيما روته السنة النبوية الشريفة في حديث أنس بن مالك: "إن رسول الله مرّ على صبيان فسلم عليهم"، وفي حديث آخر عن أسماء بنت يزيد: "إن النبي مرّ بنسوة فسلّم عليهنّ".

وقد اعتبره الإسلام دليلاً على التواضع، ففي الحديث عن الصادق(ع): "من التواضع أن تسلّم على من لقيت"([99]).

ومن سلوكيات التواضع التي يلاحظها السيد في الرسول(ص)، ما قاله الراوي عنه: "كان فينا كأحدنا، لا يميِّز نفسه في شيء، حتى كان يأتي الأعرابي وهو يقصد رسول الله(ص) ويقول: أيُّكم محمد"؛ لأنه(ص) لم يكن يميِّز نفسه عن قومه وعن المؤمنين بأي شيء... كان يسير في إحدى المرات في شارع من شوارع مكة أو المدينة، ورأته امرأة عرفت فيه رسول الله(ص) فارتعدت، قال لها: لماذا ترتعدين؟ "ما أنا إلا ابن امرأة كانت تأكل القديد في مكة!"([100]).

ومن سلوكيات التواضع كذلك، عدم التكلّف في اختيار مكان الجلوس. وهذا ما وجد له السيد أثراً في كلام الرسول(ص) الذي جرى مجرى القاعدة الأخلاقية، وذلك "في الحديث الشريف: "إذا أتى أحدكم مجلساً، فليجلس حيث ينتهي به المجلس". فالمهم أن تجد المكان الفارغ الذي تجلس فيه، من دون فرق بين أن يكون في الصف الأول أو الصف الأخير.

ولهذا كان النبي محمد(ص) يجلس مع أصحابه حتى لا يستطيع القادمون ـ ممن لا يعرفونه ـ أن يتعرفوا إليه؛ لأنه لم يكن يتميز بمكان معين أو بوضع خاص، حتى طلب أصحابه منه أخيراً أن يصنعوا له حجراً يجلس عليه، ليعرفه القادم، فلا يشتبه بغيره، ليس إلا، وفي بعض الأحاديث: "كان رسول الله إذا دخل منـزلاً قعد في أدنى المجلس"، وفي حديث الإمام الحسين بن علي في صفة النبي محمد(ص): "كان إذا انتهى إلى قوم جلس حيث ينتهي به المجلس، ويأمر بذلك""([101]).

وفي كلام آخر له، يتعرَّض السيد لصفة الرحمة التي أسبغها القرآن على النبي(ص)، وذلك في قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}(الروم:107)، "فقد كان رحمةً لهم في صفاته الروحية التي تتحرك في حياتهم بالمحبة والرفق والرعاية والتوجيه، وفي الرسالة التي تمثّل الرحمة في خصائصها وعناصرها المتصلة بالمصلحة المنفتحة على واقع الإنسان والحياة"([102]).

2- أخلاقه الاجتماعية

يتحدث السيد عن الأخلاق الاجتماعية للرسول في شقّيها الأسريّ الخاصّ والاجتماعيّ العام، ويرسم من خلال ذلك صورة الرسول الإنسان الذي يعطف على أهله وأصحابه وعلى الناس من حوله، من خلال إنسانيّته العالية ومن خلال صفته الرسولية.

لقد تحدَّث السيد عن الزهراء كثيراً، وجُمعت كلماته عنها في كتاب هو (الزهراء القدوة). ويجد القارئ في هذا الكتاب تفاصيل عن علاقة الرسول بالزهراء من خلال ما ينقله فيه من الروايات، ومنها ما ورد عن عائشة في قولها: "ما رأيت أحداً أشبه كلاماً وسَمتا ودَلاَّ وهَدياً برسول الله من فاطمة، وكانت إذا دخلت على رسول الله(ص) قام إليها فقَبّلها وأجلسها في مجلسه، وكانت إذا دخل عليها قامت إليه فأخذت بيده فقبَّلتها وأجلسته في مجلسها"، ويعلّق السيد على هذا الحديث فيقول: عندما ندرس هذا النص الوارد عن عائشة في الاستيعاب، فإنه يوحي لنا بأمرين:

1- بالوحدة والاندماج الكامل بين شخصية فاطمة وشخصية أبيها.. فقد كان رسول الله أباها والمربي لها ومعلّمها.. يناجيها وتناجيه، وتتلمذ على يديه، وتستمد من علمه وأخلاقه.

2- ويوحي لنا بعمق العلاقة الروحية بين رسول الله(ص) وابنته فاطمة(ع)؛ لأن رسول الله(ص) لم يفعل ذلك إلا مع فاطمة؛ يقوم لها كلَّما دخلت عليه، ويقبّلها ويجلسها في مجلسه، وكذلك كانت تفعل هي كلَّما دخل عليها، وهذا ما يؤكِّد أن الاندماج بينها وبينه لم يكن شكلياً فحسب، بل كان اندماجاً روحياً معمقاً.

وينقل السيد كذلك مجموعةً من الأحاديث التي تظهر علاقة الرسول بفاطمة، ومنها ما رواه الحاكم النيسابوري (ت405هـ) قال: "كان رسول الله إذا رجع من غزاة أو سفر، أتى المسجد فصلَّى فيه ركعتين شكراً لله على أنّه أرجعه من سفره، ثم ثنّى بفاطمة ثم يأتي أزواجه". هذا يعني أن فاطمة تقع في المركز الأوَّل لعلاقة النبي بالناس، حتى في علاقته بزوجاته. وفي موضع آخر، ينقل السيد كلمة رسول الله في حق فاطمة "فاطمة أم أبيها". ويستعرض معاناة الرسول في حياته، ويقول: "لم يكن هناك سوى فاطمة، تخفف من الأعباء والمعاناة، فهي التي ملأت بيته بعبق الأمومة وطهرها وعاطفتها، فأطلق كلمته هذه، مخلداً حركة الأمومة في ابنته"([103]).

وعن علاقة الرسول بعليّ(ع)، يفيض السيد في الحديث، وينقل في إحدى محاضراته كلاماً طويلاً لعلي(ع) يعرض فيه لمكانته عند الرسول يقول فيه: "ولقد علمتم موضعي من رسول الله(ص) بالقرابة القريبة والمنـزلة الخصيصة". ويعلّق السيد على ذلك، فيقول: باعتبار أنه ابن عمه وزوج ابنته فاطمة الزهراء(ع) سيدة نساء العالمين، حيث لم يوافق النبي(ص) على أحد أن يخطبها غير علي(ع)؛ لأنه كان ينتظر أمر الله في ذلك، ثم يكمل السيد نقل كلام علي(ع)، والذي يعرض فيه لعلاقته مع رسول الله التي يقول فيها السيد: "إنها كانت علاقةً أبويةً بكل ما للكلمة من معنى الرعاية والحماية والتوجيه والاندماج"، والتي ابتدأت منذ طفولة علي(ع) عندما كفله الرسول(ص) بسبب فقر أبي طالب، ويعقّب السيد قائلاً: "ويبدو من كلام علي ـ الآتي ـ أن حضانة الرسول له كانت في السنين الأولى من طفولته، ثم يصوَّر(ع) تفاصيل هذه الرعاية التي لقيها من رسول الله بقوله: "يضمّني إلى صدره"، يمنحه كل ما لديه من عاطفة وحنان.. "ويكنفني في فراشه"، يعني كان النبي ينيمه ويُرقده معه في الفراش، "ويُمِسُّني جسده"، إذ كان يحتضنه، بحيث يمسّه جسده تدليلاً على العلاقة بينهما.. ليشعر الطفل بالأمان عندما يلامس جسده جسد أبيه أو أمه أو الذي يرعاه.. "وكان يمضغ الشيء ثم يُلقمُنيه"، وذلك قبل نبات أسنانه، فكان الرسول يمضغ اللقمة ليُلقِمَهَا لعلي".

ويلاحظ السيد أن هذه العلاقة الأبوية استمرت حتى صار علي أول المسلمين بالرسول، "حيث كان النبي يأخذ معه علياً للتأمل والعبادة ـ في غار حراء ـ وكان يريد له أن يعيش هذه العزلة الروحية، وأن يرتفع إلى مستواها". وينقل من كلام عليٍّ قوله: "فأراه ولا يراه غيري". ويعلّق: "يعني كان لا يستقبل أحداً وهو في عزلته في حراء، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير الرسول وخديجة وعلي ثالثهما، وهم يمثلون بذلك المجتمع الإسلامي الأول في التجربة العائلية والعبادية والروحية".

ويسوق السيد حديث دعوة النبي أهله الأقربين إلى الإسلام، وكيف اعتمد على علي(ع) في تهيئة لوازم الدعوة من طعام وشراب، وكيف قال الرسول لهم: "هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا"، ثم يورد قول الرسول(ص) لعلي(ع): "أنت مني بمنـزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي"، ويخلص إلى أنّ مسألة الإعلان عن أن علياً خليفة للنبي، لم تكن مسألةً طارئةً أو مستحدثةً في أواخر عهد الرسول(ص)، بل كانت في بدايات الرسالة. وهكذا يرى السيد أن علاقة الرسول بعلي كانت "إعداداً روحياً وثقافياً وأخلاقياً، إضافةً إلى تنميته جسدياً، وبذلك كان [علي] في ملكاته صناعة رسول الله في البعد الإنساني لصناعة الرجال"([104]).

ثاني عشر: علاقته(ص) بزوجاته

لقد كان النبي متزوجاً من عدة زوجات، وهذا قد يثير الخلاف والنـزاع بين الزوجات، ويربك بيت النبي واستقرار حياته الداخلية، ولذلك يرى السيد أن الله سبحانه جعل "للنبي(ص) حرية التحرك بين زوجاته، وجعل الأمر تابعاً له، لا لخصوصية هذه الزوجة أو تلك الزوجة اللواتي يكون الخلاف والنـزاع بينهنّ؛ لأنّ كلّ واحدة منهنّ تفكر في ذاتها؛ لأن نساء النبي غير معصومات، بل إنّ البعض منهنّ قد أثرن المشاكل في حياة النبي(ص)".

ويلاحظ من خلال القرآن وما ورد في مطلع سورة التحريم في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}(التَّحريم:1)، أن النبي كان من جهة خُلُقه العظيم يمنع نفسه بعض ما يشتهيه من غذاء لأنّ نساءه لا يشتهين ذلك، أو من عطر معين لأنَّ نساءه لا يرغبن به، مع ما كانت عليه مسؤوليات النبي(ص) في ما كان يواجه من التحديات، حتى قال: "ما أوذي نبيٌّ مثل ما أوذيت" في حالات الحرب أو السلم، سواء في مكة أو بعدما هاجر إلى المدينة، حيث ابتلي بالمنافقين وما إلى ذلك. ولذلك فإنه كان يحتاج إلى مناخ نفسي هادئ، فعندما يجاهد نفسه حتى لا يأكل ما يشتهيه أو يتطيّب مما لا يشتهيه رعايةً لمشاعر أزواجه من موقعه الإنساني، فإنه سوف يجهد نفسه لأنه بشر، والبشر الذي يمنع نفسه من أشياء كثيرة يحبها ويشتهيها، وخصوصاً إذا لم يكن فيها إشكال، فإنّ هذا التأثير يثقله.. وقد ورد عن النبي(ص) في مقام التوجيه لأمته إلى حُسْنِ المعاشرة مع أهاليهم، قوله: "خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي". بمعنى أن أفضل الناس هو الأفضل مع عياله؛ زوجته وأولاده وما إلى ذلك.

ولذلك ـ يضيف السيد ـ أعطى الله للنبي الحرية في هذا الموضوع، يعني أن النبي(ص) في بعض الحالات قد يحتاج إلى أن تسافر معه امرأة معينة حسب ظروف السفر، من دون الإساءة إلى الأخريات، فكان يُقْرِعُ بين زوجاته، فمن تخرج عليها القرعة تسافر معه، وكما يقول سبحانه وتعالى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} يعني تؤخِّرها لوقت آخر {وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ} في وحدتها {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ} يعني أن الله أعطى الحرية للنبي(ص) في التصرف معهنّ، وإيكال الأمر إليه، من خلال المشاعر التي تحاول أن لا تؤذي أيَّ إنسان في شعوره {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ} فقد كان الاختيار بيده، وبما لا يسيء إلى أية واحدة منهنّ، {وَيَرْضَيْنَ بِمَا آَتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا}(الأحزاب:51)([105]).

إن رؤية السيد لعلاقة الرسول مع زوجاته، هي أنه كان يراعيهنّ في كل شؤونهنّ، ولو كان ذلك يؤدي به إلى التعب والجهد وحرمان نفسه ممّا يحبه ويميل إليه من المأكل أو الطيب، وأنه كان يحافظ على مشاعرهنّ من خلال تعامله الحسن معهنّ، وعدم إظهار تفضيل إحداهنّ على الأخريات، وأن الله كان يترك له الحرية في أسلوبه معهن بسبب خلقه العظيم، ولكنه يوحي إليه أن لا يُجهد نفسه في ذلك.

حادثة الإفك

ويطلّ السيد من خلال القرآن على إحدى أبرز المشاكل التي واجهت النبي(ص) مع زوجاته، والتي لم يتخذ فيها موقفاً حاسماً، بل انتظر فيها أمر الله، نظراً إلى ما كان لهذه الحادثة من انعكاس على المجتمع الإسلامي كله، فيقول: "في سورة (النور) قصة تتحدث عن واقع النبي العائلي، وهي قصة الإفك. هذه القصة التي انطلق فيها بعض المسلمين بالحديث عن اتهام بعض زوجات النبي(ص) ـ والمشهور أنها عائشة، وهناك رواية تقول إنها مارية القبطية ـ بأنها أتت بالفاحشة. وقد عاش المسلمون حالة اهتزاز في هذه المسألة، وعاش النبي(ص) هذه المشكلة بروحية الألم، ولكنها في الوقت نفسه كانت روحية الرسول(ص) الذي لا يبادر بالحديث عن أية قضية قبل أن ينـزل عليه الوحي لمعالجتها". ويضيف السيد: "لقد كان الرسول(ص) ـ كما ذُكِرَ في السيرة ـ يقول إنه ينتظر أمر ربّه في تلك الإشاعة".

ثم يسوق السيد الكلام في تفسير الآيات التي نزلت في سورة النور لحلّ هذه المشكلة، ويوضح أن الله ذكر في سورة (النور) عدة آيات لمعالجة هذه القضية، انطلاقاً من خصوصيتها، معتبراً "تداولَ المسلمين لتلك الإشاعة فيما بينهم، وعدم انسجام ذلك مع الخطوط الأخلاقية الإسلامية التي أرادها الله للمسلمين أن يسيروا عليها، هو من خطوات الشيطان، بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(النور:21). إذاً هذه القصة في كل مفاعيلها ونتائجها كانت تعيش في أجواء الشيطان، في إيجاد الحيرة في المجتمع الإسلامي بالمستوى الذي يترك بعض التأثير على الجو النبوي العائلي"([106]).


ثالث عشر: علاقته(ص) بأصحابه وبالناس من حوله:


يقرأ السيد علاقة الرسول(ص) مع أصحابه من خلال دوره الرسالي ومسؤوليته التربوية، حيث كان يعيش "مع أصحابه كأحدهم، ليشعروا بعفوية العلاقة معه وببساطتها".

ويلاحظ السيد من خلال القرآن، أن الله "صوّر العلاقة بين الرسول وبين أصحابه على أنها علاقة فريق واحد، وليست علاقة شخص يطلُّ عليهم من فوق"، ويستشهد بالتعبير القرآني: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ}(الفتح:29)، حيث يتحدث القرآن عن أصحاب الرسول(ص) "بأنهم (معه) لا (خلفه)؛ لأن الأتباع والأصحاب عندما يندمجون في الرسالة، وعندما ينطلق الرسول في كل المواقع، عند ذلك لا تكون هناك حواجز، ففي الساحة هم جميع، وفي مواقع الصراع هم جميع". ويستوحي السيد من آية أخرى هي: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ}(التوبة:128)، الاندماج بين الرسول والأمة، ويلاحظ أنه قال  {مِنْ أَنْفُسِكُمْ} ولم يقل (من بلدكم) أو (من عائلتكم) أو (من قرابتكم)، إنما قال {مِنْ أَنْفُسِكُمْ}، أي أن هناك وحدةً روحيةً تتمثل في هذا الرسول الذي يعيش معهم ويعيشون معه([107]).

وفي موقع آخر، يلاحظ السيد كلام الرسول(ص) وتصرفاته، ليستنتج من ذلك أخلاقه الاجتماعية مع أصحابه وبين الناس، ومنها عدم قطع حديث المتكلّم، ويورد حديثاً للرسول(ص) هو: "من عرض لأخيه المسلم المتكلّم في حديثه، فكأنمّا خدش وجهه".

وفي صفات الرسول ما يؤكِّد هذه الروح الإسلامية، ففي كتاب النبوة ـ صفة الرسول(ص):"ما صافح رسول الله أحداً قطُّ فنـزع يدَه من يده حتى يكون الذي هو ينـزع يده منه، وما فاوضه أحد قطُّ في حاجة أو حديث فانصرف حتى يكون الرجل هو الذي ينصرف". وكان يعطي كلاً من جلسائه نصيبه، حتى لا يحسب جليسه أن أحداً أكرم عليه منه، وكان يقسم لحظاته بين أصحابه، فينظر إلى ذا وينظر إلى ذا بالسوية([108]).

على أن هناك آيات في القرآن قد توحي بمنافاة ما أسّس له واستوحاه السيد ـ من القرآن نفسِه ـ من الخلق العظيم للرسول مع الناس كافةً، وهي آيات سورة عبس، حيث ورد فيها العتاب للنبي على إعراضه عن الأعمى ـ وهو ابن أم مكتوم ـ ولكنّ السيّد يقول في ذلك: "وقد عاتب الله نبيه عتاباً إيحائياً على إعراضه عن الأعمى وإقباله على الأغنياء ممن جاؤوا إليه، ولم يكن ذلك منه احتقاراً للأعمى وتعظيماً لهم، بل كان ذلك تأجيلاً للأعمى في مسألته؛ لأنه كان من خواصّه ممن يملك الدخول عليه في كل وقت، حتى إنه كان يدخل على النبي(ص) وهو جالس مع زوجاته، وتعجيلاً للتجربة في هداية هؤلاء الأغنياء أو دفع الضرر الصادر عنه، ومن هنا كانت الآيات معالجة في الشكل لا في المضمون". ويضيف السيد: "وهناك رواية أخرى تتحدث عن أن المقصود بها بعض الناس من بني أمية، وهو غير واضح عندنا". ثم يؤكد نزولها في النبي(ص) لا في غيره، بإيراد رواية عن الإمام جعفر الصادق(ع) أن النبي(ص) كان إذا أقبل عليه ابن أم مكتوم قال: "أهلاً بمن عاتبني فيه ربي"، ويعلِّق: "وهكذا كان ـ كما قلنا ـ عتاباً إيحائياً في الشكل"([109]).


رابع عشر: الرسول الأسوة


ينطلق السيد من القرآن من آية {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا}(آل عمران:144)، ليؤسِّس لقاعدة خلود الرسالة، و"أن الرسول يموت وتبقى الرسالة، ويموت القائد ويبقى خطُّ القيادة؛ لأن الرسول ليس شخصاً ترتبط حركة الرسالة به، بل هو شخص يطلق الرسالة ويدعو إليها. فالآية تؤكِّد أنَّنا يجب أن لا نرتبط بجسده، ولكن برسالته التي هي قوله وفعله وتقريره، بل هي كلُّ حياته، لذلك قال تعالى لنا: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}(الأحزاب:21)، قولوا كما يقول [الرسول] وافعلوا كما يفعل، وقفوا كما يقف في كل المواقف"([110]). ويركِّز السيِّد دائماً على الاعتبار من فعل الرسول(ص)؛ لأنّ رسول الله(ص) كان "يريد أن يرسم للناس القدوة الحسنة للسلوك الإسلامي الرفيع الذي ينبغي أن يسير عليه الإنسان المسلم"([111]). ومن هنا يلاحظ أن كثيراً "من الناس يملكون العلم الكبير، ولكنهم يغلقون عقول الناس عن علمهم؛ لأنهم لا يملكون الأخلاق الّتي تفتح الطّريق إلى قلوب الناس لهذا العلم، ولا يملكون الروحية لذلك، ولهذا كانت الأخلاق أساساً في رسالة الإسلام، وهكذا قال رسول الله(ص): "إنّما بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأخلاق"...".

ولذلك يحاول السيد أن يستخلص من مواقف الرسول الأخلاقية والعملية، ما يمكن أن يقتدي به الإنسان المؤمن في أخلاقه، أو الإنسان الداعية في دعوته، فعندما يتحدث مثلاً عن تواضع رسول الله، يخلُص إلى أنّ على كل من يتحرك في خط رسول الله(ص)، أن يكون المتواضع لله أولاً، وأن يشعر دائماً بالإنسان أمام ربوبية الله، وعندما يتحدث عن دور الرسول في التزكية، يستخلص أن على الداعية أن يحب الله ورسوله، ثم يحبّ الناس من خلال ذلك.

وعندما يتحدّث عن معارك الرسول، فإنَّه يستخلص منها الدروس التي يجب أن نستفيد منها في الواقع المعاصر، والتي ترتبط بأسباب النصر والهزيمة، ومسؤوليات القيادة ومواصفاتها، وأساليب الاستكبار وخططه([112]).

وفي المحصلة، فإنّ السيد يرى أن علينا أن "نقترب من الأجواء التي عاشها رسول الله(ص) وأثارها، لنأخذ منها بعض المواقف التي قد نتعلَّم منها الكثير، ونصحِّح الكثير"([113]).

خامس عشر: معجزات الرسول(ص):

1- تفسير المعجزة

يعتبر السيِّد "أن المعجزة ـ حتى في المناهج المادية ـ هي أمر ممكن وليست خرقاً للقانون، بل هي خرق للعادة؛ لأن اللّه سبحانه خلق هذا الكون على أساس القوانين التي أودعها في حركته ونظامه، وهو سبحانه يملك أسباباً أخرى وقوانين أخرى قد تكون استثنائيةً من خلال دعم النبوَّة أو من خلال حاجةٍ إلى ذلك، فالكون كله بيد اللّه.. بل إننا نقول إن الكون كله معجزة، ولكن بعض الناس قد لا يؤمن بتفسير بعض القضايا بطريق الغيب، مع أن تفسير هذه القضايا لا ينحصر بالطريق الغيبـيّ"([114]).

2- الحاجة إلى المعجزة

على أن المعجزة في نظر السيد لم تكن القاعدة في الرسالات، بل كانت استثناءً من خلال ظروف بعض الأنبياء، وذلك كما لاحظه "في حياة النبي نوح(ع)، إذ لم يذكر القرآن أنّه قدّم نفسه إلى الناس بالمعجزة، وإن كان الطوفان معجزةً، ولكنه كان كذلك بمستوى العقوبة لقومه..

وقد برزت المعجزة بشكلها الصارخ المتحدي في قصة النبي موسى(ع)، حيث إنها كانت هي الوسيلة التي يمكن أن يدخل بها النبي موسى(ع) على فرعون؛ لأنّ موسى(ع) كان من المستضعفين.. ولذلك فإنه لم يكن يملك أيَّ موقع يسمح له بالدخول إلى فرعون من موقع القوَّة، فضلاً عن تحديه له، فكانت معجزة موسى(ع) والآيات التي أعقبتها بعد ذلك، تتناسب مع جبروت فرعون ومع طغيانه وادّعائه الربوبية...
وكانت هناك بعض المعاجز، كما في ناقة صالح(ع)، ولكن المعجزة التي كانت مميزةً، هي ما جاء بها السيد المسيح(ع)، وكان عصره عصر الطب، فجاء بما أسقط كل عنفوان الأطباء، حيث أحيا الموتى، وأبرأ الأكمه والأبرص بإذن اللّه، وحدّثهم عمّا يدَّخرون في بيوتهم، وكانت معجزته(ع) في دائرة زمنية محدودة لأجل مواجهة التحدي، ولكنه(ع) عندما انطلق، لم يجعل معجزته هي المواجهة التي يدعو الناس إلى الإيمان من خلالها، ولكنه جاء بالإنجيل واعترف بالتوراة، لأجل أن يفتح قلوب الناس وعقولهم على ذلك"([115]).

3- من معجزات النبي(ص):

أ- القرآن

ويتحدَّث السيد بعد ذلك عن بعض معجزات الرسول(ص)، فيرى "أن المعجزة ـ التي تعتبر معجزة العصر ـ هي معجزة نبينا محمد(ص)، وهي القرآن؛ لأن الإسلام خاتم الرسالات، وقد أراد الله سبحانه له أن يكون ديناً للحياة يستمر معها.. فركَّز على العقل، وجعله حجةً على الإنسان أمام الله.. ولذلك فإن النبي(ص) لم يطرح المسألة في القضايا العامة على أساس المعجزة الكبرى كما حدث لموسى؛ لأنه أراد أن ينـزع الشرك من قلوب المشركين بالحجة والبرهان، وكان يقول لهم: {هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}"(البقرة:111)([116]).

ب- الإسراء والمعراج

يستحضر السيِّد هذه المعجزة من خلال القرآن الكريم "من خلال قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}(الإسراء:1). فنحن نقرأ أن هذا الإسراء كان يمثِّل المعجزة، باعتبار أنه اختصر الطريق في لحظة أو لحظات، حيث استطاع النبي أن يقطع تلك المسافة بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى أثناء الليل {لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا}.. فلقد أراد الله أن يوسّع آفاق النبي(ص) من الناحية الحسية، بعد أن وسّع آفاقه من الناحية الروحية، فجاء به إلى بيت المقدس ليطلَّع عليه وعلى المسجد الأقصى، وليلتقي ـ كما ورد في السيرة ـ بالأنبياء، ليصلِّي بهم، وليتحدَّث إليهم، وليتحدَّثوا إليه عن تجاربهم وعن تجربته بالذات؛ لأنه كان في وقت الإسراء قد مضى عليه في حركة الدعوة والرسالة ما يقرب الإثني عشر سنة.  

كما أن الله سبحانه أراد أن يرى رسولُه آياتِ الله الكبرى في السماء، كما أراد له أن يرى آياته في الأرض، ينطلق فيما يحدِّث به الناس عن السماء والجنة وعن النار وعن كل تلك المفردات القرآنية بشكل حسّي، فكما أن هنا قوله تعالى: {لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا}، هناك أيضاً قوله تعالى: {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى}(النجم:12)، إلى أن يقول: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى}(النجم:18)".

ويضيف السيد: "ومن كل ذلك نعرف أن الإسراء والمعراج يمثلان حركتين ثقافيتين أراد الله من خلالهما أن يرى النبي(ص) آيات ربه في الأرض وفي السماء، ليزداد بذلك معرفةً وقوّةً في الروح، ولينطلق في أكثر من إيحاء ليقول لهم: إن رسالة الإسلام هي الرسالة التي تجمع الرسالات كلّها: {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ}(البقرة:285)"([117]).

ج- معجزة الشجرة

يذكر السيِّد في بعض كلماته معجزةً للرَّسول(ص) تُعرف بمعجزة الشجرة، وقصّتها أن قريشاً تحدّت النبي(ص) في أن يأمر شجرةً بأن تنقلع من جذورها فتأتي إليه، فأمرها بذلك، فأتت حتى وقفت عنده، ثم طلبوا منه أن يأمرها أن يأتي نصفها إليه، فأمرها بذلك ففعلت ما أمرها به. غير أن مشركي قريش رفضوا الإيمان رغم أنَّ النبي استجاب لهم في تحديهم.

ويبدو للوهلة الأولى أن السيد يقبل بهذه المعجزة، على خلاف منهجه العقلي في محاكمة الروايات، كما فعل في معجزة (شقّ القمر)([118]).

ولكن السيِّد يبرّر ذلك، ليعود الأمر متوافقاً مع منهجيته؛ وذلك لأن النص منقول عن الإمام علي(ع) في (نهج البلاغة)، وعن ذلك يقول: "وهذا نص يمكن أن تختلف الأخبار وبعض الروايات بشأنه، ولكنَّنا نعتدّ بوثاقته؛ لأن علياً(ع) هو الشاهد الناقل للمعجزة، على أساس وثاقة نهج البلاغة. فالنص موثوق من ناحية السند"([119]).

وأما من ناحية إمكان هذه المعجزة، فإن السيد يشير إلى أن المعجزة عموماً ـ وهذه خصوصاً ـ أمر ممكن ـ حتى في المناهج المادية ـ "وليست خرقاً للقانون، بل هي خرق للعادة؛ لأن اللّه سبحانه خلق هذا الكون على أساس القوانين التي أودعها في حركته ونظامه، وهو سبحانه يملك أسباباً أخرى وقوانين أخرى قد تكون استثنائيةً من خلال دعم نبوة أو من خلال حاجة ما"([120]).

ويقدم السيد كذلك تبريراً آخر، هو أنّ الدافع لإجراء هذه المعجزة على يدي النبي(ص) ـ بقدرة الله ـ متوفر؛ وذلك لأنه لم يقدّم القرآن ـ الذي هو معجزة العصر ـ كمعجزة، بل كان يدعوهم من خلاله إلى التفكّر وإعمال العقل. ولذلك عندما طالبت قريش الرسول(ص) بتقديم معجزة، وتحدّته في ذلك، ردّ "التحدي بمثله، لإسقاط المشركين والكافرين، كما نلاحظ في هذا الحديث الذي تحدّث به أمير المؤمنين من خلال تجربته، ومنه نعرف أن القوم قرروا أن لا يقتنعوا وأن لا يؤمنوا، وقرروا أن يجادلوا وأن يغلقوا عقولهم وقلوبهم عن كل ما يقدَّم لهم من براهين"([121]).


خاتمة


تشكّل سيرة الرسول مادةً غنيّةً للدارسين، من حيث اشتمالها على تجربة ثرية متنوعة في أبعادها الإنسانية والرسالية. وقد استفاد السيد منها في تنوعها وفي ما تقدمه من تجارب، يقعّد من خلالها للأساليب والطرق "العملية" التي يجب أن تحكم حياة الإنسان المسلم وحتى غير المسلم، فيما تحتويه من فضائل وقيم وأخلاقيات عالية، يرى السيد أنها تشكل المثال الإنساني الأكمل.

ويرى السيد أن المصالح المتضاربة بعد وفاة الرسول(ص)، سواء تلك التي تتعلق بالعقائد الدينية أو بالصراع على السلطة والحكم، جعلت أصحابها يضعون الحديث المكذوب عن لسان الرسول(ص) من أجل تبرير معتقداتهم، وتشريع حكمهم، ولذلك فإنّ السيرة النبوية تعرضت للتحريف الذي لا يمكن من خلاله الوثوق في مضمونها إلا بعد محاكمته من خلال منهجية خاصة تستند أولاً إلى القرآن، لأنه كما يعبر السيد: هو النص المعصوم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. ولذلك نرى السيد في قراءته ومعالجته لسيرة الرسول(ص)، يعتمد في شكل أساس على القرآن، في ما ذكره القرآن من السيرة، وعلى بقية كتب السيرة والحديث والتفسير وأسباب نزول الآيات، مع الحذر في الأخذ منها، ومحاولة نقدها من خلال مقارنتها ببعضها البعض، وعرضها على القرآن وعلى الخلفية العقائدية التي ينظر السيد من خلالها إلى الرسول(ص).

ولأنّ الرسول(ص) في نظر السيد هو القائد والقدوة، فإن سيرته(ص) ـ فيما تقدمه ـ تصير منهج حياة وأسلوب عمل، ولعل حياة السيد حافلة بالأمثلة على هذا.

والناظر إلى ما سجَّله السيد، في كتبه، عن السيرة التاريخية للرسول(ص)، يجد أنه لم يسجِّل السيرة التقريرية التسجيلية التي تلاحق الحدث، وإنما سجّل السيرة من خلال ما تقدِّمه من منهجية في العمل للعاملين في حقل الدعوة، ومن أسلوب للمتحمّلين للمسؤولية العامة للمسلمين وللناس بشكل أعم.

ولهذا يتصدّى السيِّد للإجابة على ما يسجّله المؤرخون ـ مستشرقين وغيرهم ـ من ملاحظات وانتقادات على السيرة النبوية؛ فيما يتعلق بشخص الرسول وحياته الشخصية، وبعمله وأسلوبه في الدعوة والتبليغ. لتظلّ هذه الشخصية مثالاً يُحتذى في كل جوانبها الشخصية والعملية، وذلك لأنّها الشخصية المعصومة التي تجسِّد القرآن،  ـ المعصوم كذلك ـ في مفاهيمه الأخلاقية والتشريعية المختلفة، عملياً.

ختاماً، إنّ السيد ينظر إلى الرسول(ص) من خلال سيرته وتجاربه العملية؛ لأنّه ـ في نظره ـ يمثّل الإسلام من جهتي النظرية وتطبيقها؛ ولأنّ الرسول(ص) هو الناقل للنظرية التي تصله بالوحي، والمطبِّق لها على أرض الواقع، لأنّه أفضل من يحيط بها بتمام أبعادها. ولأجل ذلك، يجهد السيد في استخلاص "التجربة النبوية" من خلال دراسة السيرة النبوية، في سبيل إيجاد الأسلوب الأمثل الذي يمكن للإنسان المؤمن اعتماده في تجربته العملية في الدعوة، وفي إعادة إنتاج العالم على أساس مفاهيم العدالة والحرية والأخلاقيات والمثُل العالية التي يدعو إليها الإسلام.


مصادر:


- السيد محمد حسين فضل الله، الندوة، ج1، سلسلة ندوات الحوار الإسلامي الأسبوعية بدمشق، دار الملاك، ط5، 1998م.

- السيد محمد حسين فضل الله، الندوة، ج2، سلسلة ندوات الحوار الإسلامي الأسبوعية بدمشق، دار الملاك، ط4، 1998م.

- السيد محمد حسين فضل الله، الندوة، ج3، سلسلة ندوات الحوار الإسلامي الأسبوعية بدمشق، دار الملاك، ط1، 1998م.

- السيد محمد حسين فضل الله، الندوة، ج7، سلسلة ندوات الحوار الإسلامي الأسبوعية بدمشق، دار الملاك، ط1، 2000م - 1421هـ.

- السيد محمد حسين فضل الله، الندوة، ج5، سلسلة ندوات الحوار الإسلامي الأسبوعية بدمشق، دار الملاك، ط2، 2000م.

- السيد محمد حسين فضل الله، الندوة، ج6، سلسلة محاضرات ومطارحات في العقيدة والتربية والفقه والسيرة، دار الملاك، 1450 – 2000م.

- السيد محمد حسين فضل الله، الندوة، ج9، سلسلة ندوات الحوار الإسلامي الأسبوعية بدمشق، دار الملاك، ط1، 2002م – 1422هـ.

- السيد محمد حسين فضل الله، الندوة، ج12، ط1، 1424هـ ت 2004م.

- السيد محمد حسين فضل الله، صلاة الجمعة الكلمة والموقف، توثيق لخطب الجمعة 1997، دار الملاك، ط1، 1425هـ ت 2004م.

- السيد محمد حسين فضل الله، قضايانا على ضوء الإسلام، دار الملاك، ط8، 2004م ـ 1425هـ.

- السيد محمد حسين فضل الله، الحوار في القرآن قواعده وأساليبه معطياته، دار الملاك، ط6، 1421هـ - 2001م.

- ابن سعد، الطبقات الكبرى، دار صادر، بيروت ـ لبنان، لا ط، لا ت.

- ابن هشام، السيرة النبوية، تحقيق محمد يحيى الدين عبد الحميد، مكتبة محمد علي صبيح وأولاده، ميدان الأزهر ـ مصر، لا ط، 1383هـ 1963م.

- مجلة قضايا إسلامية معاصرة، السنة الثامنة، العدد 27، ربيع 2004م ـ 1425هـ.

- المعارج، العدد 28-31، 1997م ـ 1418م.

- السيد محمد حسين فضل الله، الرسول الداعية في القرآن الكريم، المركز الإسلامي الثقافي، ط1، 1428هـ - 2007م.

- السيد محمد حسين فضل الله، للإنسان والحياة، إعداد وتنسيق شفيق الموسوي، دار الملاك، ط3، 1421هـ - 2001م.

- السيد محمد حسين فضل الله، الندوة، محاضرات ومطارحات في العقيدة والتربية والفقه والسيرة، ج11، دار الملاك، ط1، 1424هـ - 2003م.

- السيد محمد حسين فضل الله، أسلوب الدعوة في القرآن، دار الملاك، بيروت، ط6، 1418هـ.

- السيد محمد حسين فضل الله، صلاة الجمعة 2005 الكلمة والموقف، دار الملاك، ط1، 1428هـ - 2007م.

- الشيخ الكليني، محمد بن يعقوب بن إسحاق الرازي (ت 328 هـ)، الكافي، دار الكتب الإسلامية، طهران ـ إيران، لا ط، 1375 هـ ش.

- السيد محمد حسين فضل الله، مفاهيم إسلامية عامة، دار الملاك، ط3، 1422هـ - 2001م.

- السيد محمد حسين فضل الله، الزهراء القدوة، إعداد حسين أحمد الخشن، دار الملاك، ط3، 1425هـ - 2004م.

- السيد محمد حسين فضل الله، من وحي القرآن، دار الملاك، ط3، 1428هـ - 2007م.

- السيد محمد حسين فضل الله، في رحاب أهل البيت، إعداد سليم الحسني، دار الملاك، ط4، 1425هـ - 2005م.


الإمام علي والإسلام


                                             محمد طي

                     كاتب لبناني، أستاذ جامعي في الحقوق            


أولاً: موقع علي من رسول الله

ثانياً: تميّز علي

ثالثاً: علي في السياسة

رابعاً: تعاليم علي

خامساً:

سادساً:

سابعاً:



إن الإمام عليّ(ع) أهمّ شخصيّة في الإسلام بعد رسول الله(ص)، فهو معلّم الإنسانية بجهاده وعلمه وحرصه على الإسلام وعلى الإنسان في شكل عامّ، وقد تجلّى ذلك في نهجه السياسي وعدله وتمسّكه بالحقّ وإحقاق الحقوق في أحرج الظروف، حتى ولو أدّى به الأمر إلى مزيد تضحية، بل وحتّى إلى فوات النصر في المعارك.


 كان هذا نتيجة لاستعدادات فطرية جبل عليها الإمام، وبفعل تربية رسول الله(ص) واحتضانه له.

 لهذا كان اهتمام المفكّرين به في العالم العربيّ والإسلامي، أو الذين أتيح لهم أن يتعرّفوا الإسلام، على الصعيد العالمي.

 وتأتي عناية سماحة العلاّمة المرجع، السيّد محمد حسين فضل الله، بالإمام، لتعريف الناس بعليّ(ع)، في مختلف جوانب شخصيته، حتى تتضح الصورة المشوّشة التي يحملها الكثيرون من محبّي عليّ(ع)، أو التي يحملها من عرف عليّاً(ع) من خلال ذلك الخليط من الروايات والأخبار، ومنها الغثّ والسمين، التي تناولت هذه الشخصية العظيمة، فيحبّ عليّاً(ع) من أحبّه عن بيّنة، ويتّخذ من لا يريد ذلك موقفه على ضوء المعرفة، لا انطلاقاً ممّا روّجته أقلام أعداء الإمام(ع)، الذين كانت تحرّكهم مصالحهم المادّية أو المعنوية.

 لقد كان عليّ(ع) الإسلام الحقيقيّ الصافي المنـزّه، متجسّداً في لحم ودم، في هذا الإنسان الكبير، من دون غيره من الناس، الذين لا يمكن أن يدانوه.

لذلك، فإن دراسة عليّ(ع) تأتي مساهمة في معرفة الإسلام عبادةً وسياسةً وفكراً وشريعةً وروحانيةً؛ ودليل ذلك، أنَّ كلّ من تعاطوا العلوم الإسلاميَّة كانوا عيالاً على عليّ(ع)، باستثناء بعض أصحاب الأغراض والأهواء.

 هذه أمور تصدّى لها السيّد، مستنداً إلى علم غزير، وفقاهة مجدِّدة، وحرص على وحدة المسلمين في ظلّ هذه الظروف التي تتعرّض لها الأمّة، بل وكلّ المستضعفين في العالم، على أيدي أعداء الإنسان، أعداء الشعوب، من المستكبرين والصهاينة ومن يسير في ركابهم، حفاظاً على عرشٍ أو طمعاً في الوصول إليه.

 وفيما يأتي، سنتناول، بعضاً من كتابات السيّد وخطبه، التي درست الإمام عليّاً(ع)، وما ستنناوله:

 أوَّلاً: نشأة عليّ(ع) وتربيته على يدي الرّسول(ص).

 ثانياً: أهمّ ميزات الإمام عليّ(ع).

 ثالثاً: السياسة التي مارسها عليّ(ع) أو علّمها.

 رابعاً: تعاليم عليّ(ع) المباشرة التي بثّها للمسلمين في خطبه وكتبه.



أوَّلاً: موقع عليّ من رسول الله


يسجّل السيد محمد حسين فضل الله ولادة علي(ع) في الكعبة المشرّفة، واستشهاده في المحراب، كما اصطفاء الرسول(ص) له ليربيه وينشئه على عينه، ويخلّقه بأخلاقه، فلم يتلوّث بأيِّ شوب من الجاهلية، بل استنار بسيرة معلّمه الصادق الأمين منذ نعومة أظفاره، وكان يتبعه إلى غار حراء حيث يسمع الوحي، فكان أول المسلمين.

ويعلّق السيّد على هتاف علي(ع) عند طعنه: "فزت ورب الكعبة"، فيرد ذلك إلى أن الإمام عرف أن حياته كانت لله، ومع الله، في المسجد، وفي الكعبة؛ وكانت حياته كلّها مسجداً يعبد الله فيه، بالجهاد والعلم والزهد وبالرأي يعطيه، وبالحركة والصلاة، حتى عاش ذلك الفوز الروحي.

فالرّسول(ص) قد اختاره كان شخصياً من بين إخوته، وهيَّأه لهذا. "لقد احتضن الرسول(ص) علياً(ع) قبل البعثة، ليخفّف عن عمّه أبي طالب ثقل العيال. وبذلك كان علي(ع) ربيب رسول الله(ص)، الذي كان يتأمل في آفاق الله، وآفاق الكون، وينفتح في ذلك على الله قبل الرسالة". وكان الرسول(ص) يشرك علياً(ع) في أجواء هذه التأملات، ويركِّز في نفسه كل أخلاقه، التي ميَّزت شخصيته، فكان رسول الله الصادق الأمين، وربَّى علياً على أن يكون كذلك.

أمّا كيف كان الرسول(ص) يعامل علياً(ع) في طفولته، فيستشهد السيد بقول علي(ع):"... وقد علمتم موضعي من رسول الله(ص) بالقرابة القريبة، والمنـزلة الخصيصة، وضعني في حجره وأنا ولد، يضمّني إلى صدره، ويكنفني في فراشه، ويمسّني جسده، ويشمّني عرفه، وكان يمضغ الشيء ويلقمنيه، وما وجد لي كذبةً في قولٍ ولا خطلةً في فعل". ويوضح السيّد هذا الكلام بقوله: "إنَّ علياً(ع) كان ابن سنتين أو أقلّ، وكان الرسول(ص) يحتضنه عندما ينام، كما تحضن الأم ولدها، فيشمّ رائحته الزكية. ولما كانت أسنانه لا تزال في البداية، فقد كان الرسول(ص) يمضغ الشيء ثم يلقمه إياه، ثم إنه لم يجد له كذبةً في قولٍ ولا خطلةً في فعل، لأنه كان معصوماً منذ طفولته عصمة وعي، وهو الذي عاش في بيئةٍ هي بيئة رسول الله، ولم يعش كسائر الأطفال، ولم يكتسب أيَّ عادة سيئة من هنا أو هناك، بل كان رسول الله(ص) فكره وقلبه وروحه.

وكان الله تعالى قد قرن برسوله(ص) أعظم ملاك يسدّده منذ أن كان فطيماً، كما يقول علي(ع) نفسه، وكان عليٌّ يتبعه اتباع الطفل، فغرف كل أخلاقه من نبع صاف يتدفّق من لطف الله ومن روحه. وهذا سرٌّ من أسرار الله. وراح الرسول(ص) يعلّم علياً(ع)، لا نظرياً فحسب، بل وعملياً أيضاً. وهذا أنجح أساليب العلم، لأنَّه يتحرّك في العقل، وينـزل إلى القلب، ويتحرّك في الجسد، ليتحوَّل إلى حياة تتحرك".

وهكذا، فقد صنع الرسول(ص) علياً(ع) على صورته، وبذر فيه بذور الحق في مرحلة الطفولة. وهذا تفسير مؤاخاته له بعد الهجرة.

ويرى السيّد أن علياً(ع)، لكلّ هذا، أسلم وهو طفل، لكنه كان طفلاً ناضجاً، استطاعت طفولته أن تختزن شباب رسول الله(ص)، لذلك كبر علي(ع) في طفولته، فكان شابّاً، لأن رسول الله(ص) أعطاه شباب عقله وروحانيته وقلبه.

وإذا كان بعضهم يعدّ علياً(ع) أوّل من أسلم من الصبيان، ليلوّح بعدم نضج في إسلامه، في مقابل إسلام غيره، فإن السيّد يفنّد هذا الرأي، فيقول : "إنه أول من أسلم، لا من الصبيان، بل من الشباب والرجال. فقد كان جسده جسد صبي، ولكن عقله كان عقلاً شاباً متحركاً". لقد كان الأوَّل، لا زمنياً وحسب، بل الأول في وعي رعاية الإسلام كلّه. وهذا ما لم يفهمه القوم.

إن قضية إسلام علي(ع) لم يفهمها على النحو الصحيح أغلب الناس؛ فعلي(ع) لم يكن مشركاً، وليس الشّرك شرط الإسلام، فالرَّسول(ص)، الذي أمر ليكون {أَوَّلَ المُسْلِمِينَ}(الزمر/12)، لم يكن في السابق مسلماً بالمعنى الحرفي، لعدم وجود الدعوة الإسلاميَّة. وحين أتت الدعوة، أصبح الرسول(ص) مسلماً، وأصبح علي(ع) مسلماً، من دون أن يكون قد سجد لصنم قطّ، فقد كرّم الله وجهه عن ذلك. وهو كان مسلماً في المعنى الإسلامي العام، كما كان النبي(ص) مسلماً في معنى إسلام إبراهيم(ع).

من هنا، كان علي(ع) أول من صلّى بعد رسول الله(ص). كان يصلّي معه، ويتعبّد معه، ويناجي ربه معه، لذلك كانت روحانيته روحانية رسول الله(ص). فقد كان يراه في حراء، فيكون معه في عزلته التعبّديّة. "كان يتأمّل من حيث يتأمّل الرسول، ويبتهل من حيث يبتهل، ولم يجمع بيتٌ واحد حينها من المسلمين، غير بيت رسول الله(ص)، الذي ضمّ إليه خديجة وعليّاً(ع). وكانوا جميعاً يصلّون في المسجد الحرام، إلى أن أمر أبو طالب ابنه جعفر أن: صل جناح ابن عمك، إذ كانت خديجة تصلي خلف محمد(ص) وعلي إلى جناحه. وتذكر روايةٌ أنّ علياً(ع) سئل: هل استشرت أباك عندما أسلمت؟ فكان فحوى جوابه: إنَّ الله لم يستشر أبي عندما خلقني، فهل أستشير أبي إذا كنت أريد أن أسلم؟". إلا أن السيّد ورغم تحفظه عن صحة هذه الرواية بقوله: إنَّ هذا الكلام ـ على فرض صحة الرواية ـ إلا أن يعتبر أنه يدلّ على وعي المسألة في كلِّ أبعادها الفكرية والروحيّة.

وكان علي(ع) يسمع رنة الوحي، فيقول له الرَّسول(ص): "إنك تسمع ما أسمع، وترى ما أرى، ولكنَّك لست بنبيّ". وكان علي(ع)، منذ طفولته يشعر بمسؤولية خاصَّة عن النبي(ص)، إذ انطلق كمسلم مسؤول عن حماية الرسول(ص). ويشير السيّد هنا إلى أنّه(ع) كان يدفع عن الرّسول الأولاد المكلَّفين إيذاءه، كما راح في شبابه يفدي الرسول بروحه. فعندما بدأ الرسول رحلة الهجرة، نام علي(ع) في فراشه، وكان القوم قد قرّروا قتل الرسول(ص) في شكل جماعي، ليضيع دمه في عشائر قريش. فغطّى انسحاب النبي والسيوف فوق رأسه، كما يقول السيد. فسلم الرسول(ص). وهذه كانت أمنية علي(ع)، الذي كان سأله: "أوتسلم يا رسول الله؟"، فأجاب(ص) بالإيجاب، فقرّ عليّ(ع) عيناً بذلك، فنـزلت الآية التي تختصر كل سرّ علي(ع)، في كلّ منطلقات حياته، وفي كل امتداداتها، وفي كل آفاقها، وفي كل روحانيتها وحربها وسلمها، تلك الآية الكريمة: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ وَاللهُ رَءُوفٌ بِالعِبَادِ﴾(البقرة:207).

ولقد بلغ من حرص عليّ(ع) على سلامة الرسول(ص)، أنه كان يقاتل في بدر، فيهجم وقلبه عند رسول الله(ص)، ولذا كان يقول ما معناه: كنت أقاتل وأرجع أطمئن إلى رسول الله(ص).

كلّ هذا جعله الأقرب إلى رسول الله(ص). فعندما آخى النبي(ص) بين المهاجرين والأنصار، ولم يؤاخِ بين عليّ(ع) وأيٍّ منهم، سأله عليّ(ع) في ذلك، فقال له(ص): "أنت أخي"، وآخاه بنفسه، ولم تكن تلك المؤاخاة كسائر ما حصل بين المسلمين، بل كانت مؤاخاةً في حمل الرسالة، كما حصل بين النبيَّين الأخوين موسى وهارون(ع)، إذ نقل عن رسول الله(ص) قوله لعليّ(ع): "أما ترضى أن تكون مني بمنـزلة هارون من موسى، إلا أنَّه لا نبي بعدي؟".

لقد كان عليّ(ع) مسلماً خالصاً لم يدانه الشرك، في رأي السيّد، الذي يقول: إن كلَّ المسلمين آنذاك عاشوا في بيئة الشرك، بطريقة أو بأخرى، قبل أن يسلموا، وقد تأثّروا بالكثير من مفاهيمها، من حيث إنها قد تمثل بعض الرواسب الخفية في الداخل، مما لا يمنع أن يكونوا مخلصين للإسلام، ولكنه يمنع أن تكون شخصيتهم مجسّدةً للإسلام. أما عليّ(ع)، فإنه لم يعش في أي بيئة سوى بيئة رسول الله.

وهكذا، يتميّز عليّ(ع)، فلا يقاس به أحد بعد رسول الله(ص)، بل إنّ من الظّلم مقارنة أحدٍ به. ولا نقول ذلك عاطفةً ولا حباً وعصبيةً، ولكننا نقوله حقيقةً لا تشوبها شائبة. فليس هناك من يقترب من عليّ(ع)، فضلاً عن أن يساويه، وهذا ما أكّده لنا الرسول(ص)، عندما قام بالمباهلة مع وفد نجران، استجابةً للآية الكريمة: ﴿فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الكَاذِبِينَ﴾(آل عمران:61)، حيث دعا الرسول(ص) الحسن والحسين وفاطمة وعليّاً(ع)، إلى جانبه، فكان "أولادنا" الحسن والحسين، و"نساءنا" فاطمة الزهراء(ع)، و"أنفسنا" الرسول(ص) وعلي(ع). وبناءً على هذا، فإن رسول الله(ص) كان يتعامل مع عليّ(ع) كنفسه، فيعطيه سرّه حين الهجرة، ليغطّي انسحابه، كما يقول السيّد، وكان الوحيد الذي ائتمنه رسول الله(ص) على أن يؤدي ودائعه للنَّاس. وقبل هذا وبعده، كانت ملازمته الرسول(ص) في كل مراحل حياته، إذ كانا يعيشان في بيت واحد، قبل زواج عليٍّ(ع)، وكان كلٌّ يلازم الآخر فيما بعد، حيناً في بيت عليّ(ع)، وحيناً في بيت الرسول(ص)، حتى قيل إن نساء النبي كنّ يغرن من عليّ(ع)، لأنه كان يشغل رسول الله(ص) عنهنَّ. ولعلّ السيد يقصد هنا ما روي من شكوى عائشة من انصراف الرَّسول(ص) عنها إلى عليّ(ع) عندما يكون في بيتها([122]).

وقد قضى الرسول(ص) أكثر وقته في بيت فاطمة وعليّ(ع)، لما كان فيه من أجواء رساليَّة، عابقة بالإيمان والأخلاق، ذلك أنَّ عليّاً وفاطمة(ع) عاشا للإسلام، وانطلقا مع الرسول(ص) في كل آلام رسالته وآمالها. وكان إذا سافر، ينطلق من بيت فاطمة(ع)، وإذا عاد من سفره، فإلى بيت فاطمة أوّلاً.

 لقد رافق علي(ع) رسول الله(ص) في الجهاد والعبادة. وهذا ما يؤكده السيّد بقوله : "كان علي(ع) مع رسول الله(ص) مجاهداً في كلَّ مواقع الجهاد، وكان مع رسول الله في عبادته".

من هنا، فإن العلاقة بين الرسول(ص) وعليّ(ع) لم تكن علاقة قرابة الدم، لأن للنبيّ قرابات أخرى، ولكنها قرابة الصفات والميزات، فأبو لهب عم النبي(ص)، وقد أنزل الله تعالى به السورة المعروفة، في حين أن عليّاً(ع) هو الإنسان المؤهّل الذي يملك فكر الإسلام بكلِّ امتدادته، كثقافة عقدية وشرعية ومنهجية، وتجربة عملية، وحركة جهادية".

وعليّ(ع) لا يلمّ بعلم الرسول(ص) فحسب، بل يحسُّ أيضاً بعواطفه، للصلة الخاصة بينهما. إنّه كان يتحسَّس نبضات قلب رسول الله(ص)، في قلبه ومشاعره، وبذلك كان يفهم معنى أنه نفس رسول الله(ص)، وأخوه.

من هنا، فانه عند فقد رسول الله(ص)، كان أكثر المسلمين حزناً عليه وافتقاداً له. ولذا، فعندما تولّى غسل النبي(ص)، راح يدلّل على فداحة الخسارة، بانقطاع أخبار السماء، وبفقدان الإنسان المتميّز المنفتح على الواقع، الذي ملأ الساحة، فكان السلوى التي لا يتعلّق بغيرها. ومع ذلك، فهو يصبر امتثالاً لإرادة الرسول(ص)، ولولا وصيّة الرسول، لبكى عليه طويلاً، لأنَّ الداء مستديم، والحزن ملازم، وهما قليلان بالنّسبة إلى الرسول(ص)، إذ يقول الإمام، كما يورد السيّد: "بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت غيرك من النبوّة والأنباء وأخبار السماء... خصصت حتى صرت مسلّياً عمن سواك، وعممت حتى صار الناس فيك سواء، ولولا أنك أمرت بالصبر ونهيت عن الجزع، لأنفدنا عليك ماء الشؤون، ولكان الداء مماطلاً والكمد مخالطاً، وقلا لك (هما قليل بالنّسبة إليك) ولكنّه ما لا يملك ردّه، ولا يستطاع دفعه. بأبي أنت وأمي، اذكرنا عند ربك، واجعلنا من بالك ".

لقد كان الرسول قوةً معنويةً، يلجأ إليها عند استعار الحرب، إذ يقول علي(ع): "كان إذا اشتدّ البأس لذنا برسول الله"، فيستمدون منه العزيمة ويلحقون بالمشركين شر هزيمة. ولم يكن الرسول(ص) يميّز نفسه عن سائر المسلمين في المهمَّات، فهو أيام حفر الخندق، لتحصين المدينة في وجه الأحزاب، كان، كما يقول السيّد، يشاركهم في ذلك، حتى قيل إنه بلغ من جوعه أنه كان يربط حجر المجاعة على بطنه. وهي الطريقة التي كان يلجأ إليها العربي عندما يجوع. وهكذا كان النبي يثبت مع المسلمين ويثبتون معه إلى أن دحر الأعداء.

فمن يعوّض عليّاً فقد النبيّ، ومن يسدّ مسدّه؟!

ضرورة علي(ع) للرَّسول(ص)

لقد كان الرسول(ص) يشعر بالوحدة من دون عليّ(ع)، لذلك كان، بقدر ثقته به، حريصاً عليه، لكنَّه لم يكن يبخل به على الله تعالى. فعند تصدّيه لعمرو بن عبد ودّ، وبعد قعود الآخرين، ألبسه درعه ذات الفضول، وأعطاه سيفه ذا الفقار، وعمّمه بعمامته السحاب، ودعا له، بعدما تقدم قليلاً، بقوله:

"اللّهمَ احفظه بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله، ومن فوق رأسه ومن تحت قدميه". ثم توجّه إلى الله تعالى، وقال: "اللّهمّ إنك أخذت مني عبيدة (ابن الحارث بن عبد المطلب بن عبد مناف، ابن عمّ الرسول) يوم بدر، وحمزة (عم الرسول) يوم أحد، فاحفظ عليَّ اليوم عليّاً، ﴿رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ﴾(الأنبياء:89).

دعاء عليّ(ع) للرسول(ص)

وفي المقابل، فان تعلّق عليّ(ع) بالرسول(ص) لم يكن يقلّ عن تعلّق الرسول بعلي، وها هو يدعو للرَّسول(ص)، فيقول: "اللّهمّ داحيَ المدحوّات (الأرض)، وداعمَ المسموكات (ما له سمك وحجم)، وجابل القلوب على فطرتها (على ما فطرتها)، شقيّها وسعيدها، اجعل شرائف صلواتك، ونوامي بركاتك على محمّد عبدك ورسولك، الخاتم لما سبق، والفاتح لما انغلق (فقد فتح مغالق الأزمان والأوضاع)، والمعلن الحقّ بالحقّ (بكلمات الحقّ)، والدافع جيشات الأباطيل، والدامغ صولات الأضاليل، كما حمّل فاضطلع (حمّل الرسالة فاضطلع بها)، قائماً بأمرك، مستوفزاً في مرضاتك (أي مستعجلاً فيها)، غير ناكل عن قدم، ولا واهٍ في عزم، واعياً لوحيك، حافظاً لعهدك، ماضياً على نفاذ أمرك، حتّى أورى قبس القابس (نوّر أمام الناس سبيلهم)، وأضاء الطريق للخابط، وهديت به القلوب بعد خوضات الفتن والآثام (اذ فتحت رسالته القلوب)، وأقام بموضحات الأعلام ونيّرات الأحكام، فهو أمينك المأمون، وخازن علمك المخزون، وشهيدك يوم الدين، وبعيثك بالحقّ، ورسولك إلى الخلق.

اللّهمّ، افسح له مفسحاً في ظلّك، واجزه مضاعفات الخير من فضلك. اللّهمّ وأعلِ على بناء البانين بناءه، وأكرم لديك منـزلته، وأتمم له نوره، واجزه من ابتعاثك له مقبول الشهادة (أن تكون شهادته عن أمّته مقبولة)، مرضيّ المقالة، ذا منطق عدل، وخطَّة فصل. اللّهمّ اجمع بيننا وبينه في برد العيش، وقرار النعمة، ومنى الشهوات، وأهواء اللذات، ورخاء الدعة، ومنتهى الطمأنينة، وتحف الكرامة".

عليّ والزهراء(ع)

وكما كان تعلّق عليّ(ع) بالرسول(ص)، كان تعلّقه ببضعة الرسول، الزهراء(ع)، سيدة نساء العالمين، التي بلغ اهتمامها برسول الله(ص)، أن دعيت "أم أبيها". كانت الزهراء(ع) دوماً إلى جانب النبي(ص) وعلي(ع)، قائمة بشؤون الرسالة لنشرها بين الناس، وكانت تساعد زوجها وأباها ومن تستطيع من أهلها.

وبعد التحاق الرسول(ص) بالرفيق الأعلى، وحتى وفاتها، كرّست حياتها من أجل أن تركِّز الحقّ، كما يريد الله سبحانه وتعالى. فهي كانت الصادقة الأصدق، وكانت العابدة الأعبد، وكانت الإنسانة التي تفكّر في النّاس قبل أن تفكر في نفسها، كما كانت المدافعة عن حق عليّ(ع) في الخلافة.

هذه الإنسانة العظيمة خطبها الكبار من المهاجرين، وكان النبيّ(ص) ينتظر أمر ربه بها، كما يقول الحديث. وكان عليّ(ع) فقيراً، بل من أفقر النّاس، وأتى الرسول(ص) خاطباً، فسرّ الرسول وكأنه كان ينتظر ذلك. وسأله: ماذا عندك؟ وهو يعرف ما عنده، لأنه هو الذي ربّاه، وهو الذي يسكنه في بيته، وكان عليّ(ع) يلازمه في اللّيل والنهار. فأجاب عليّ(ع): معي سيفي ودرعي والثياب التي ألبسها. فقال رسول الله(ص): أما سيفك، فلا تستغني عنه، لأنه السيف الذي تذبّ به عن الإسلام وعن وجه رسول الله(ص)، ولكن أعطني درعك.

وبيع الدرع بخمسماية درهم، وكان ذلك مهر الزهراء(ع). وتوضيحاً لذلك، يورد السيّد قول الإمام الصَّادق(ع): "لولا أنَّ الله تبارك وتعالى خلق أمير المؤمنين(ع) لفاطمة، ما كان لها كفء على وجه الأرض". ويعلّق السيّد على ذلك قائلاً: فلو كانت الكفاءة بالنسب، فما (كان) أكثر أبناء عمّ النبي(ص)، ولو كانت بالإسلام (فقط)، فما كان أكثر المسلمين.

ولكن كان هناك سرّ في عليّ(ع) وسرّ في فاطمة(ع) لا يعلمه إلا الله، فهو شيء من غيبه، ولعلّ ذلك، من وجهة نظرنا، ما يفسِّر كون الأئمة من أولاد فاطمة وعليّ(ع)([123]).

عاش علي وفاطمة(ع) كأفقر النّاس، وكابدت الزهراء الفاقة والجهد والتعب والمشقّة في بيتها، كما لم تعانِه امرأةٌ سواها. ولم يكن ذلك مفاجأةً للزهراء(ع)، فهي عرفت عليّاً، إذ عاشا معاً في بيت رسول الله(ص) ومعه علماً وروحاً وأخلاقاً، ما لم يعشه أيّ صحابي أو صحابية، لأن علياً وفاطمة كانا مع الرسول(ص) في الليل والنهار، وكانا يستلهمان منه. وكان هو ينطلق ليربّيهما على صورته، استجابةً لنداء الله: ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ﴾(الشعراء/214)، تلك العشيرة التي انكفأت عنه باستثناء (خديجة) وعلي وفاطمة.

ولقد تكافأت عبادة فاطمة وعبادة علي(ع)، "ما يعني أنهما كانا يعيان معنى القرب من الله سبحانه وتعالى معاً، بهذه الدرجة من المعرفة، ومن الانفتاح على كلّ أسرار قدسه، وعلى كل صفات غيبه. ولهذا فقد منع الله كبار القوم من الزواج بفاطمة، وزوجها عليّاً، الذي عرف الزهراء قبل أن يتزوّجها، عرف قيمتها وعظمتها في فكرها وروحها وكلّ خصالها ومناقبها، وفي كل قربها من الله ورسوله".

أما حياتهما الزوجية، فكانت تعاوناً مخلصاً، وقد قسَّم رسول الله(ص) العمل بينهما، فالزهراء(ع) تطحن وتعجن وتخبز، وأمير المؤمنين(ع) يكنس البيت ويستقي الماء ويحتطب. والمعروف شرعاً أن ليس على المرأة واجب العمل في البيت، لكنه مستحبّ، والله يحبُّ من يقوم بالمستحبّات، فممّا استحبّه للمرأة خدمة بيتها وزوجها، حتى إنه عدَّ ذلك جهاداً، إذ قال الرسول(ص): "جهاد المرأة حسن التبعّل".

وفي كلِّ هذا دروسٌ للمسلمين، فحياتهما جسّدت الحياة الإسلامية الحقّة، إذ كانت الرسالة أكبر همّهما؛ تحدّثه ويحدّثها عن حركة الإسلام في حربه وسلمه، ويتحدّثان عن آيةٍ نزلت على رسول الله(ص) هنا، وآيةٍ نزلت هناك، وعن مفعول الآية أو ترجمتها في الواقع.

لقد كانت أسرة علي وفاطمة(ع) أسوةً حسنةً لكل النّاس، لكل النساء ولكل الرجال. لقد حلّت فاطمة بالنسبة إلى علي محلّ الصديق والحبيب، فكانت سلوته الوحيدة في الزمن الذي عزّ فيه الصديق، وغدر فيه الزمان، وقلَّ فيه الناصر والمعين، كانت تجسِّد رسول الله(ص) أمام ناظريه في كل أقوالها وأفعالها، فكما كانت سكينته مع رسول الله(ص)، أصبحت سكينته مع الزهراء(ع).

فكم كانت مصيبة علي(ع) عظيمة بفقد الزهراء الّتي لم تلبث طويلاً بعد رسول الله(ص).

وكما جهّز عليٌّ(ع) رسول الله(ص) ودفنه، والقوم مشغولون، كذلك دفن الزهراء(ع) ورثاها، فإذا هي صفيّة رسول الله، التي هزّ فقدها كيانه، بعد أن استرجعها رسول الله استرجاع الوديعة، وبقي علي(ع) في حزن دائم مؤرق، لفقده إيّاها ولمظلوميتها ومظلوميته، فشكا ذلك إلى رسول الله(ص)، وسلَّم بقضاء الله عزّ وجل. وودّعها(ع) بقوله: "السلام عليك يا رسول الله، عني وعن ابنتك النازلة في جوارك (إشارة إلى دفنها قرب الرسول(ص))، والسريعة اللحاق بك. قلَّ يا رسول الله عن صفيّتك صبري (وذلك من ألم الفقد رغم أنه لا صبر كصبره)، ورقّ عنها تجلّدي، إلا أن في التأسّي لي بعظيم فرقتك (التي لا يوازيها فراق)، وفادح مصيبتك، موضع تعزّ. فلقد وسّدتك في ملحودة قبرك (للتّأكيد أنه هو الذي دفن الرسول(ص))، وفاضت بين نحري وصدري نفسك. فانَّا لله وإنا إليه راجعون (إذ فاضت روح الرسول(ص) وعلي(ع) محتضنه)، فلقد استرجعت الوديعة (التي حافظ عليها عليٌّ أعظم محافظة)، وأخذت الرهينة. أمَّا حزني فسرمد، وأمَّا ليلي فمسهّد (وهو زمن افتقاد الرسول ثم افتقاد الزهراء الذي حوّل النهار ليلاً بالنسبة إليه بذكراها التي لا تفارقه)، إلى أن يختار الله لي دارك التي أنت بها مقيم، وستنبئك ابنتك بتضافر أمتك على هضمها (فيما ظلمت به)، فأحفّها السؤال (أكثر سؤالها عمَّا حصل في غيابك من تنكّر)، واستخبرها الحال. هذا ولم يطل العهد ولم يخل منك الذكر (لم يمرّ على فراقك زمن طويل). والسلام عليكما سلام مودّع لا قال (كاره للبقاء بقربكما) ولا سئم. فإن أنصرف فلا عن ملالة، وإن أقم فلا عن سوء ظنّ بما وعد الله الصابرين".


الافتراء على عليّ(ع)


لما كان عليّ(ع) على النحو المبيّن من الميزات الشخصية، ولما كان المنافقون لا يخفون كرههم لعليّ(ع) الذي قتل صناديد قريش واليهود وغيرهم، وبعد أن توفّي رسول الله(ص) المدافع عنه، تكالب الأعداء عليه وعلى أهل بيته، مع تمادي الزمن، وراح هؤلاء الأعداء يؤلّفون الروايات للحطّ من قدر عليّ(ع)، فكانت فرية خطوبة ابنة أبي لهب، وفرية شرب الخمر.

فرية الرغبة في الزواج بابنة أبي جهل

وهي رواية تقول إنَّ علياً(ع) خطب بنت أبي جهل، فعلمت فاطمة(ع)، فتضايقت من الأمر، واصطحبت أولادها وتحوّلت إلى حجرة النبي(ص). علم النبي بالأمر الذي همّها، فأتى علياً مصطحباً فاطمة، وكان نائماً فأيقظه، وأبلغه عتبه ورفضه هذا الأمر.

وردّاً على هذه الرواية، يورد السيّد أنَّ علياً لم يزعج فاطمة(ع) قطّ، إذ يقول(ع): "ما أغضبتها مدَّة حياتي معها، ولم تغضبني، ولم تعص أمري مدَّة حياتها معي". والرواية تقول: أغضبها.

 ثم يتساءل السيّد: لو سلّمنا جدلاً بصحّة الرواية، فلماذا تنـزعج الزهراء(ع) وتغتمّ، وتترك بيتها مع أولادها؟ إنَّ الزهراء(ع) أعظم من أن تتنكّر للتشريع الإلهي الذي يسمح بتعدّد الزوجات، وهي سيّدة نساء العالمين؟! ثم كيف ينـزعج الرسول(ص) من علي(ع)، مع أنه قام بعملٍ لا يخرج عن دائرة الشرع؟!

إن ما يعصم علياً عن هذا الأمر، احترامه وتقديره للزهراء من جهة، وعيشهما معاً في بيت الرسالة من جهةٍ أخرى، وكون ابنة أبي جهل ابنة عدوّ الله، من جهة ثالثة، وانشغال عليّ(ع) بجهاده وربّه، وهو الذي لم ينقل عنه في تاريخه أن لديه اهتماماً كبيراً بالجانب النسائي في اهتماماته الذاتية وانطلاقاته العاطفية من جهة رابعة.

ويخلص السيّد إلى أن هذه الرواية موضوعة لتشويه صورة عليّ(ع)، التي لم يجدوا سبيلاً إلى تشويهها. ويضيف: إنها أسخف من أن يردّ عليها، لأن أصابع الوضع والاختراع بادية عليها.

فرية شرب الخمر

يفنّد السيّد فريةً أخرى استهدف بها عليّ(ع)، هي فرية شرب الخمر. فقد أوردت بعض الروايات عن عليّ(ع)، أنَّ عبد الرحمن بن عوف دعا بعض المسلمين، وفيهم عليّ(ع)، إلى طعام، وسقاهم خمراً، فسكروا وقدّموا عليّاً للصلاة فيهم، فأخطأ في القراءة، فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ}(النساء/43).

وورد في رواية أخرى عن عكرمة، أنَّ عليّاً(ع) صنع طعاماً، ودعا أبا بكر وعمر وعبد الرحمن بن عوف، وسقاهم شراباً، فسكروا، ثمّ صلّى فيهم عليّ(ع) المغرب، فأخطأ في القراءة. فنـزلت الآية.

ويرى السيّد أنَّ هناك تضارباً ظاهراً بين عناصر الروايتين، فواحدة تنسب إلى علي(ع) والداعي فيها عبد الرحمن بن عوف، والثانية تنسب إلى عكرمة، والداعي فيها عليّ(ع)، ثمّ تدّعي الأولى أنَّ عليّاً قرأ "يا أيّها الكافرون...نحن نعبد ما تعبدون". فيما تروي الثانية أنه قرأ: "... ليس لي دين وليس لكم دين".

ثمّ إن هناك روايةً أخرى مناقضة، وهي أوثق سنداً ومتناً وواقعاً، تقول: اجتمع عليّ(ع) مع آخرين في منـزل سعد بن أبي وقّاص، فقدّم لهم طعاماً، فأكلوا، ثمّ قدّم شراباً، فخرج عليّ(ع) وهو يقول: لعن الله الخمر، والله لا أشرب شيئاً يذهب بعقلي... "فنـزلت {إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ...} الآية.

هذه الرواية هي التي تنطبق على عليّ(ع) ربيب رسول الله(ص).

قضية الغدير

إنَّ قضية الغدير هي قضية تأكيد الرسول(ص) تعيين علي(ع) خليفةً من بعده، له كامل الصلاحية في إمامة المسلمين، بحيث يكون أولى بهم من أنفسهم. إلا أنَّ القوم راحوا يتهرّبون من موجبات هذه الولاية، تارةً بحرف حديث التولية عن معناه، وتارةً بالتشكيك فيه.

لكن السيّد يتصدّى لهذا الموضوع، فيكشف ما أريد من التنصّل، ويبيّن أهمية ما قام به الرسول(ص)، وما توخَّاه من تعميق الإيمان في النفوس، والسير بالإسلام على الجادة الصحيحة. ويؤكِّد أنه عند انصراف رسول الله(ص) من حجّة الوداع، وعند وصوله إلى غدير خمّ، أوحي إليه: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾(المائدة/67). فأوقف من كان متأخّراً من الحجيج وطلب رجوع من تقدّم، ووقف فيهم خطيباً، فقال في خطبته: "ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ فقالوا : بلى يا رسول الله، قال اللّهمّ فاشهد. ثم قال: من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه، اللّهمّ والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحق معه حيثما دار".

ومن أجل معرفة معنى هذا القول من الرسول(ص) للمسلمين، علينا، كما يقول السيّد، أن نرجع إلى معنى الآية الشريفة؛ فالآية تتحدّث عن شيء، لو لم يبلّغه الرسول(ص)، لكان كما لو لم يبلِّغ الرسالة، بحيث يكون حجمه في تأثيره في الواقع الإسلامي، في تبليغ الرسول(ص) أو عدم تبليغه، حجم تبليغ الرِّسالة كلها، علماً أن سورة المائدة، التي ضمّت هذه الآية، هي، كما يقول السيّد، آخر السور في القرآن نزولاً. فأيّ معنى لقول رسول الله(ص) هذا؟

ينقل السيد تأويلات بعض النّاس للحديث، حيث يقولون : من كنت مولاه، تعني من كنت محبه فعليّ محبّه، أو من كنت ناصره فعليّ ناصره... وقالوا إنها لا تعني الولاية.

ويفنّد السيّد هذه الآراء، فيسأل: هل جمع الرسول(ص) الناس، في ذلك اليوم، في وقت شديد الحرّ، لمجرّد أن يقول: إن الذي أحبّه أنا، يحبّه عليّ أيضاً، أو إن الذي يحبّني، لا بدّ من أن يحبّ علياً؟

إن هذا لا معنى له من خلال طبيعة الموضوع.

ثم إن قوله: "ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟"، يعطي معنى الولاية والحاكمية، بقرينة الاستشهاد بالآية القرآنية قبلها، وهذا يعني أن المراد بها "الأولى بالمؤمنين من أنفسهم"، أي الولي والحاكم.

فما الذي يستدلّ عليه من هذا الحديث؟

إن النبيّ، كما يقول السيّد، يمتلك صفتين: صفة المبشّر والنذير ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ﴾(الغاشية:22-21) ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا﴾(الإسراء/105)، وصفة الحاكمية التي وردت في آية التبليغ، ويدلّ عليها قوله(ص): "من كنت مولاه... "، ويكون معنى ولاية علي(ع) الحاكمية، ولا تحتمل أيّ معنى آخر. والدليل، إرداف الولاية بالقول: "اللّهمّ والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله"، وهذه أمور لا تستقيم مع معنى المحبة، ومعنى أن من كنت ناصره فعليٌّ ناصره، ولا تستقيم مع قول الرسول(ص): "وأدر الحق معه حيثما دار". ثم كانت البيعة لعليّ(ع). والبيعة تؤكّد التزام الأمة بالقيادة التي جرت مبايعتها، وهي تلزم، في المقابل القائد بأن يكون مسؤولاً.

لكن بعضهم اليوم يجادل حول طبيعة تنصيب يوم الغدير، هل هو ترشيح أم تعيين؟

ويجيب السيّد: إنَّ المسألة مسألة تعيين لا يقبل النقاش، وعدمه بمثابة عدم إبلاغ الرسالة بكاملها. ففي القضية جانب إلزامي، إذ بعد الإبلاغ، أنزل الله تعالى: ﴿اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا﴾(المائدة:3).

فالإمام علي(ع) متعيّن من قبل الله تعالى، ومن قبل الرسول(ص)، ومن قبل الحقّ والحقيقة.

وعمّا إذا كانت الآية حملت تهديداً للنبي، يجيب السيّد: إن آيتي التبليغ وإكمال الدين تحرَّكتا من خلال توجيه إلهيّ للنبي(ص)، على مستوى الطلب الحاسم الذي يحمل معنى التهديد، كأسلوبٍ يعبِّر عن قيمة المسألة، والله لا يهدّد نبيّه، لأن النبيّ(ص) عاش كل حياته لربّه ولرسالته في كل موقع من مواقعه. لكنّ الله أراد أن يبيّن للأمّة حجم الأمر، وأنه لو لم يتمّ التبليغ، "لضاع الإسلام كما ضاع الكثير منه بعد ذلك".

وإذا كان التبليغ حصل، فهل هو ملزم أم أنه يترك المجال للاجتهاد بحسب الظروف؟ يجيب السيّد: عندما يثبت لدينا أنَّ علياً(ع) نصبه النبي(ص)، بأمر من الله... وهو أمر ثابت، فليس هناك أيّ متغيّر، لأنّ القضية ليست قضية اختيار النبيّ(ص)، وإنما هي، بحسب ما عندنا من أدلّة، اختيار الله له... (إنها) من المسائل الثابتة بحسب طبيعتها، وبوجود الدليل عليها، ذلك أن الله تعالى قد رأى في عليّ(ع) الكفاءة، وأراد للنبيِّ(ص) أن يؤكّد ذلك. ولو كانت مسألة الإمامة تتمّ بالانتخاب، وكذلك غيرها من الأمور العظمى، لما نجح النبيّ في نبوّته، في أوَّل عهد الدعوة الإسلامية، "لأنه لم يكن له التأييد الكافي. فإذا كان المعصوم، نبيّاً أو غير نبي، لا يصل إلى مقامه إلا باقتناع الناس، لما وصل إلى هذا المقام أحد. لكن هذا لا يعني تجاهل النّاس بالكلية، فربما احتاج الإمام إلى اعتراف النّاس بالبيعة له. فالله يصطفيه والنّاس يبايعونه، تماماً كما حصل في غدير خم، عندما تمّت البيعة لعليّ.

أمّا الجدل الحاصل، فمردّه إلى اختلاف المسلمين حول الخلافة، وهو أمر بدأ يبرز في أواخر حياة النبي(ص)، وبعد وفاته. ولمّا رأى النبيّ أن الناس بدؤوا يبتعدون عما أمرهم به بوضوح، طلب الدواة والكتف، ليكتب لهم كتاباً لن يضلّوا بعده أبداً، ومع ذلك، قال بعض من عنده: "إن النبي ليهجر"، أو "غلبه الوجع". وذلك تشكيكاً في ما سيكتبه النبيّ الذي لا ينطق عن الهوى.

وهكذا عاش المسلمون، كما يقول السيّد، مشاكل كثيرةً وتعقيدات حجبت وضوح الحقيقة عندهم. وهذا ما جعل الشكّ يثور في عهد علي(ع)، أقوى مما ثار في عهد الرسول(ص)، وذلك من خلال التعقيدات الاجتماعية التي خلطت الأوراق، وأبعدت القضية عن وضوحها.

لقد تمّ التشكيك حينها، ويتمّ اليوم، رغم استفاضة الحديث، إذ نجد إجماعاً حوله عند الشيعة، وشهرةً عند السنَّة"، بل إنَّ بعض أهل السنَّة يعدّه متواتراً، ولهذا، فإن سند حديث الغدير ثابت لا شك فيه، وقد أعاد علي(ع) تأكيده بعد تولّيه الخلافة، عندما كان يشهد بين الحين والآخر الصحابة ممن سمع النبيّ(ص) وشهد يوم الغدير، وذلك في محاولة من علي(ع) لمواجهة التشكيك والإرباك الذي ما زالت آثاره ماثلةً حتى اليوم.

وإذا كانت مسألة سند الحديث محسومةً، فإن التشكيك راح ينصبُّ على المعنى، كما رأينا، وإلى جانب ذلك، كان هناك محاولات تتناول لفظة من هنا ولفظة من هناك، في محاولة لإفراغه من مضمونه، كنفي ورود "اللّهمّ انصر من نصره، واخذل من خذله".

وهناك اليوم من ينسب التشكيك إلى السيّد نفسه، ويبنيه على إجابته عن السؤال حول انخفاض عدد من شهدوا الغدير، من 120 ألفاً، ممن شهدوا الغدير، إلى أربعة أو خمسة يروونه؟ ويوضح السيّد: "قلت إن حديث الغدير لا إشكال فيه، وينبغي أن تدرس هذه الشبهة، إذ كيف أصبح ال(120) ألفاً أربعةً أو خمسةً، ولكنهم أرجعوا اسم الإشارة إلى السند، ولم يرجعوه إلى موضوع البحث (نظرة إصلاحية حول الغدير ، دار الملاك، 1424ص74)، أي إلى قضية انخفاض العدد لا إلى الرواة.

وإذا كان بعضهم يطرح اليوم التشكيك من باب آخر، فيقول مثلاً: لو أن حديث الغدير صحيح، لتحقّق. فإنّ السيّد يجيب: إن مسألة عدم التحقق لم تحصل في هذا الأمر فحسب، بل في الإسلام كلّه، فلم يتحقّق الإسلام كله، ولم يؤمن كل الناس بالنبيّ(ص)، هذا فضلاً عن أن النبي(ص) لم يطلق الروايات في حقِّ الإمام عليّ(ع) على نحو النبوءات، لنقول إنها تحقّقت أو لم تتحقّق، بل كان يثبت حقاً لصاحب حقّ، ومن موقع الأهليَّة والكفاءة والأرجحيَّة.

على أنَّ خصوم عليّ(ع)، في حينه، لم يجهلوا حديث الغدير، ولا وصية النبي(ص)، إذ يقول علي(ع): "والله لقد سمعوها ووعوها، ولكنَّهم حليت الدنيا في أعينهم، وراقهم زبرجها". ولهذا فقد أخفي حديث الغدير، "ذلك أنه كانت هناك عناصر قلقة، إلى جانب أمور أخرى كانت سبباً في إخفاء حديث الغدير، واستبعاد عليّ(ع)، رغم قول عمر: "لو وليها عليّ، لحملهم على المحجّة البيضاء". ذلك أن علياً(ع) في شبابه قتل صناديد قريش، ولذلك، فإن قريشاً لم تكن لتقبل بعليّ، وما إلى ذلك من حجج، نفهم على ضوئها كيف أخفي حديث الغدير، وكيف اختلطت الأوراق في هذا الموضوع". فالملتحقون الجدد حينها بالإسلام، بعد أن قتل آباؤهم وإخوانهم وأقاربهم على يدي علي(ع)، بقي الحقد في صدورهم ضدّ عليّ، والكثيرون منهم مارسوا النفاق في إسلامهم.

ويرى السيد أننا إذا عاينّا الواقع المعاصر، وكيف تخفى فيه الحقائق الواضحة كالشمس، نعرف سبب إخفاء حديث الغدير.

وحتى إذا عدنا إلى قضية الحسن والحسين(ع)، نجد أن النبي(ص) ربّى لهما حباً في نفوس المسلمين، وقد استطاعا أن يعمّقا هذا الحب من خلال سلوكهما وسيرتهما. وعندما انطلق الإمام الحسين(ع)، وقد بايعه أهل الكوفة، التقى الفرزدق، فسأله الحسين(ع) عن أهل الكوفة، فقال له الفرزدق: "قلوبهم معك وسيوفهم عليك".

أمَّا لماذا لم يستخدم عليّ(ع) حقّه في الحجاج، فإن السيّد يجيب: إن عليّاً تحدّث عن حقه أحياناً بطريقة الرمز، كما في خطبة الشقشقيّة، وأحياناً بطريقة صريحة، فقد جمع في الكوفة من كان موجوداً ممن شهدوا غدير خمّ، وطلب إليهم أن يشهدوا بما سمعوا، ، فقام ثلاثون صحابيّاً، فيهم اثنا عشر بدريّاً، وشهدوا.

أبعاد آية إكمال الدين

لم يكن حديث الغدير مجرّد أمر تنظيم إداري بسيط، ولا مجرّد حكم لدولة إسلامية، بل إكمالاً للدين، وإتماماً للتوحيد، من جميع الجوانب، يقول السيد: "... إن مسألة الولاية هي مسألة امتداد الخطّ الرسالي بالمستوى الذي يمكن فيه استكمال المشروع الرسالي، وخصوصاً إذا عرفنا أن المشروع الرسالي لا يستكمل بمجرّد إمارة تفتح لنشر السلطة الإسلاميَّة على الأرض، بل بأن تنطلق سلطة إسلامية تفتح الإسلام على العقل الإنساني، لأنَّ القضية ليست أن يحكم المسلمون، ولكن أن يدخل الإسلام فكراً وعاطفةً وحركةً ومنهجاً وشريعةً في عقول النّاس، وهذا ما سوف يظهر في سني حكم علي(ع)، حيث واجه، من المنطلق الذي أكدناه، مشاكل عديدة. ولعلّ سرّ هذه المشاكل، "أنه لم يكن حاكماً تقليدياً، بل كان حاكماً رسالياً. وكان يريد للإسلام وللتجربة الإسلامية أن يتعمَّقا، وكان لا يريد الحكم بأي ثمن". ذلك أنه كان يريد تطبيق القرآن والسنّة، ولم يكن يرضى بأن يحيد عنهما قيد شعرة، وكانت إذا وافته فرصة، ينظر: هل فيها ما يتعارض مع الدين بكل بنيته ومضمونه أم لا؟ فإذا وجد أيّ شيء من ذلك، يدعها. أمّا الآخرون، فكانوا يغتنمونها، مهما ارتكبوا في ذلك من آثام. ويستشهد السيد بقول علي(ع): "قد يرى الحوَّل القلّب(الذين يقلبون الأمور ويمحّصونها) وجه الحيلة ودونها مانع من أمر الله ونهيه، فيدعها رأي عين بعد القدرة عليها ، وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدين"، أي من لا يتحرّج أمام موانع الدين.

ولهذا، وأمام عظمة الولاية الّتي أراد الله تأكيدها، كان الرسول(ص) يتهيّب الإبلاغ، بسبب ما كان يتوقّعه من معارضة أو اتهام. لذلك خاطبه الله بألا يخاف، فسوف يعصمه من مثل هؤلاء، كما عصمه في مواضع أخرى. فكان الغدير هو اليوم الذي استجاب فيه رسول الله(ص) لأمر الله له، بأن يبلّغ الولاية التي تمثل القاعدة التي ينطلق فيها الإسلام من جديد، في امتداده في خطِّ الدعوة والحركة والثقافة والجهاد. إلا أن المنافقين أثاروا الغبار بتشكيكهم، لإضاعة الحقيقة وإرباك الوضع، وهم الذين كان عليّ(ع) قد وتر العديد منهم في شبابه.

أمّا الإصرار على أن يبلّغ الرّسول(ص) أمر خلافة عليّ له، بعد أن كان الرّسول(ص) قد بلّغ الرّسالة، فيعود إلى أنَّ العقيدة لم تكن قد تعمّقت في النفوس، ولم تتمثلها العقول. من هنا كانت ضرورة الإصرار على هذا التّبليغ، إذ يقول تعالى: ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾(الرعد:7). وقد فسّرت الآية بأنّ الرسول(ص) كان المنذر وعلي(ع) هو الهادي. (الميزان/ الأعلمي، 11/327).

ويؤكّد السيد أنَّ النبي(ص)، استكمل تبليغ رسالته، لكنَّه لم يستكمل تحقيق مشروعه، لأن الواقع الذي عاشه المسلمون، كان واقع انشغالهم بالتحدّيات التي فرضتها الحروب، والتي كانت تنتقل من موضع إلى آخر، كما كانت الفتنة تتحرّك في داخل المجتمع الإسلامي في المدينة، الّذي كان المنافقون واليهود يمثّلون حجماً كبيراً فيه. ولذلك لم تحصل هناك فرصة هادئة منفتحة، يمكن للنبي(ص) أن يحقِّق فيها مشروعه في إنتاج المجتمع الذي يريد إنتاجه، بشروطه الإسلامية القرآنية.

وقد كان الرسول يسعى أوّلاً إلى أن ينتشر الإسلام بين الناس، وأن يحيّدهم عن الشرك، ليدخلهم في المجتمع، حتى يتنفسوا الإسلام، ولو بعد حين، أي عندما يأتي دور عليّ(ع)، إذ كانت رسالة علي(ع) أن يعمّق الإسلام في نفس الإنسان وفي فكره، وكذا في قلبه وكلّ حركته، وأن يصنع إسلاماً يتجسَّد في الناس، ذلك أنَّ علياً كان يعيش رسول الله(ص) في العقيدة والعاطفة والحياة، فهو الذي يستشرف المستقبل، ويحيط علماً بالظّروف المستجدّة، فيخطّط لكلّ مرحلة، ويحلّ كلّ مسألة، ويجيب عن كلّ سؤال.

وهكذا تكون الولاية في خطّ النبوّة، وتبقى النبوَّة في خطِّ التوحيد، ويبقى الإسلام يضمّ ذلك كلَّه.

 وإذا كان الأمر كذلك، فمن للولاية؟ إنَّه عليّ(ع)، الذي كان الإسلام في حاجة إليه ليحقّق مشروع رسول الله(ص)، "الذي لا يحقّقه إلا من كان كل رسول الله(ص) في نفسه".

لقد كان غياب النبي(ص) عن المسرح الإسلامي يفرض أن يأتي شخصٌ يعيش رسول الله(ص) بكلّه، في معنى الإسلام؛ في العقيدة والعاطفة والحياة، ولم يكن غير علي(ع) مؤهّلاً لذلك. من هنا، أراد رسول الله(ص) للنّاس أن يكون عليّ(ع) مولاهم الّذي يحمل المسؤوليّة عنهم، كما الرسول(ص) مولاهم في ذلك. فالولاية في خطِّ رسول الله(ص)، في النبوّة الحركيّة الفاعلة، هي خط عليّ(ع) في الولاية الدينامية المتحركة الفاعلة، لأن الولاية لم تنفصل عن النبوّة في الخط، وإن انفصلت عنها في الدور.

والولاية ليست مسألةً في التاريخ، بل هي في امتداد الزمن كلّه، فلا يجب أن نحصرها في زمنها، بل من الواجب أن نعمّمها في حياتنا العملية، بحيث "لا يرتبط الفرد بعلي(ع) كخليفة في الإطار الزمني الذي عاش فيه فحسب، إنما يرتبط به في إطار إمامته "التي تقتحم الزمن تماماً كما تنطلق النبوّة... ولا يمحوره في زمن خاصّ، بل ليتحرّك في نطاق الزمن كلّه.. فالإمامة...تعيش في تفسير أحكام النبوّة وتخطيط مفاهيم الإسلام".

من هنا، فإن مسألة الغدير ليست مسألةً عابرةً في الإسلام، بل إنّها تمثّل مصير الإسلام. فإذا كان الرسول(ص) بلّغ كل ما جاء إليه من ربه، فإن الولاية تمثّل العمق في سلامة كلِّ ما أنزل إليه من ربّه، في الامتداد والاستمرار.

وهكذا، فالولاية تتجاوز كلّ حكم شرعي، ونظراً إلى أهميّتها وخطرها، فقد حاول النبي(ص) أن يؤكِّدها من جديد قبل وفاته، عندما طلب الدواة والكتف، إلا أنه حيل بينه وبين ذلك. لقد بدا أن المسلمين في وضع كأن لم يكن بينهم "شيء إسلامي"، كما يقول السيّد، وذلك ما عبّرت عنه كلمات المجتمعين في السقيفة: "منا أمير ومنكم أمير". فهل المسألة أن يكون هناك أمير كيفما كان؟

إنَّ هذا يبيّن لنا لماذا نصَّب الله علياً الذي كان أهلاً ليسير بالناس على المحجّة البيضاء. إننا عندما ندرس أوضاع الإسلام عند وفاة الرسول(ص)، ومسارعة القوم إلى السقيفة ، وعليّ(ع) مشغول بتجهيز الرسول، وندرس من هو الشخص المؤهَّل للقيادة، الذي "يملك فكر الإسلام بكلِّ امتداداته كثقافة عقيديّة وشرعيّة ومنهجيّة وتجربة علمية وحركة جهادية... نرى أنه ليس هناك أحد إلا علي(ع)".

وهكذا يتهافت ما يمكن أن يطلقه أي منافق، من انحياز الرسول(ص) إلى صهره وابن عمّه، على أساس: لماذا الإصرار على عليّ(ع) والصحابة كثر؟ والجواب: إن عليّاً كان الإسلام من لحم ودم، وهو، بهذا، القرآن الناطق؛ ذلك أنّ الكتاب الصامت وحده لا يجتذب من الناس ما يجتذب إن لم يكن إلى جانبه الكتاب الناطق. فمن هو المؤهَّل. في الموقع الذي أخلاه رسول الله(ص) في هذا الجانب، غير عليّ(ع)؟

وبكلمة، يقول السيد: «إنَّ قضية القيادة في الإسلام تفرض أن يكون هناك الإنسان الذي يتمرّس في وعي الفكرة التي تنطلق القيادة من خلالها، وفي ممارسة الفكرة التي تتحرّك القيادة في خطواتها، أو في طريقها. فالمسلمون لا يقودهم إلا العالم الذي يعيش روحية الإسلام وحركيّته وتقواه، لأنَّ القضية هي قضية المسلمين في إسلامهم، لا قيادتهم في أمورهم المادية بعيداً عن المبدأ. إنّها ليست قيادةً عاديّةً من النّوع الّذي يستلم الحكم عندما يُفتقد الشّخص العارف الورع؛ إنها إدارة الرسالة، وتعميقها، واستشراف المستقبل، والتهيؤ له من خلالها. والله تعالى، عندما خاطب نبيّه بالقول: إني أعصمك من الناس، كان يقول له: لا تخف مما قد يتحدّث به الناس عنك، لأن هذه القضية من القضايا التي لا بدّ لك من أن تواجهها بقوّة، لأن مسألة أن يكون هناك "وليّ للمسلمين يقول ما تقول، ويفعل ما تفعل، ويسير على النهج الذي تسير عليه، ويفهم الإسلام كما تفهمه أنت، هذه القضية ليست من القضايا التي تحتمل الجدل أو التنازل. وهذا الوليّ يكون أولى بالمؤمنين من أنفسهم، كما كان الرسول(ص) أولى بهم من أنفسهم"، بدليل سؤال الرسول(ص) وجوابهم، وتأكيده اللاحق. فقد سأل(ص): "ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟"، وما هذا إلا عنوان الحاكميّة، لأن الأولى منهم بأنفسهم هو حاكمهم. فقالوا: "بلى يا رسول الله". "فقال: "اللّهمّ فاشهد". ثم قال: "من كنت مولاه فعلي مولاه"، أي هو مولى بنوعيّة الولاية نفسها ودرجتها، وإلا لما كان من ضرورة لأيضاًح أنه(ص) أولى بالمؤمنين من أنفسهم.

وكي لا يتمادى المتمادون في المطالبة بمسؤول كيفما كان، نتيجة ما ساد في الوسط الإسلامي، راح عليّ(ع) يحدّد واجبات المسؤول، فهي:

    أن يقيم حقّاً، ويدفع باطلاً، كما أوضح لابن عباس، عندما كان يخصف نعله،  وسأله(ع): "ما قيمة هذه النعل؟"، فقال ابن عباس: لا قيمة لها، يا أمير المؤمنين، فقال له(ع): "والله لهي أحبّ إليَّ من إمرتكم، إلا أن أقيم حقاً أو أدفع باطلاً".
    ردّ معالم الدين، بعد أن راحت تختفي، حيث يقول(ع): "اللّهمّ، إنه لم يكن الذي كان منّا منافسةً في سلطان، ولا التماس شيء من فضول الحطام، ولكن لنردّ المعالم من دينك، ونظهر الصلاح في بلادك، فيأمن المظلومون من عبادك، وتقام المعطّلة من حدودك". أما الشروط المطلوبة للمسؤول، ليقوم بهذا الدور، فيحدّدها علي(ع) بطريقة غير مباشرة، بقوله: "وقد علمتم أنه لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج والدماء والمغانم والأحكام وإمامة المسلمين، البخيل، فتكون في أموالهم نهمته، ولا الجاهل، فيضلّهم بجهله، ولا الجافي (القاسي)، فيقطعهم بجفائه، ولا الحائف للدول (أي المال المتداول)، فيتّخذ قوماً دون قوم (أي يتلاعب بالأموال فيشتري الذمم)، ولا المرتشي، فيذهب بالحقوق، ويقف بها دون المقاطع (فلا يعطي كلَّ ذي حقّ حقّه)، ولا المعطّل للسنّة (الذي لا يعمل بسنّة الرسول(ص)، فيهلك الأمة"، (لأن خلاص الأمة هو بالسير على نهج الرَّسول(ص).

إنَّ هذه الميزات أكثر ما تتمثّل، بمعناها الكامل، في عليّ(ع)، وهي التي ترتقي بالأمَّة، كما رأينا. من هنا، يكون حقّه هو حقّ الأمّة، وليس حقاً شخصياً فقط.

وعندما آلت الخلافة إلى عليّ(ع)، هل قام بما كان مطلوباً، وحقّق الغاية من ولايته؟

إن تولّيه أتى متأخّراً، وبعد أن اضطربت الأحوال، وكادت معالم الدين تندرس. لذلك فقد تحمّل الكثير وتألّم، وواجه المشاكل، ولم يمكّنه أهل الجمل وصفّين والنهروان من أن يحقّق برنامجه، وينفّذ ما عنده.
دروس الغدير

إن الوقوف عند حديث الغدير وتأكيده، يجب ألا يؤدي إلى الفرقة بين المسلمين، بل هو يفرض علينا أن نكون مع الوحدة الإسلامية، ممارسين للحوار، وأن نضع سلامة الإسلام والمسلمين هدفاً لكلّ نشاطاتنا في هذا المجال. علينا ألاّ نتعصّب للمذهبيّة الطّائفية، بل أن نكون مع "المذهبية الفكرية والثقافية"، ذلك أن هناك كفراً عالمياً يريد أن يقضي على الإسلام من جذوره، وفي كل مواقعه.

إن أهمّ الدروس التي نستفيدها من الغدير، هي تأكيد الفكر الذي يجب أن يكون في أساس حياة القيادات، في عقلها وروحها وحركتها، بحيث تجسّد الإسلام كله، وتنطلق من واجب تقديم الأفضل في مواقع المسؤولية، وألاّ تأخذنا في الله لومة لائم، تماماً كما فعل الرسول(ص) عندما واجه التحديات السلبية التي كان من الممكن أن توجّه إليه في ولاية الإمام علي(ع)، بدعوى أنه ابن عمّه وصهره. علينا الاقتداء بعليّ(ع) بالمستوى المميّز الذي تمثلت به حياته، في كل القضايا الشائكة التي عاشت في كل واقعة قبل الحكم وبعده.



ثانياً: تميّز عليّ


ممّا وصلنا عن عليّ(ع)، استطعنا أن نكوّن هذه الصورة عن عظمته، إلا أنه لم يصلنا إلا القليل. وهنا يعتب السيّد على الشريف الرضيّ مع كل شكره له، فيقول: "إنه كان يستهدف الأسلوب الأدبي في نهج البلاغة، ولم يستهدف المسألة الثقافية المتنوّعة في النهج. لذلك اختصر الكثير من الخطب والكلمات"، فيما كانت الأمّة بحاجة إلى ثقافة عليّ(ع) كلها، فحرام أن تضيع كلمة من كلمات علي(ع)؛ فكلّ كلمة كانت تحمل فكرةً، وتشير إلى خطّ وإلى درب، وهي "خسارة للأمّة والتاريخ". وما وصل عن عليّ(ع) لا يعرفه الجميع، فقد يعرفون مسألة الخلافة، وهي حقيقة، وكيف ضرب علي(ع) عمرو بن عبد ود ومرحباً، وكيف كان يقدّ الأبطال نصفين... أما أن يعرفوا عليّاً(ع) بسائر صفاته، فأمر غير حاصل.

وممّا عرفنا عن عليّ(ع)، نجد أنه كان متميّزاً، فإذا ذكرت علياً "شعرت بأنّ اسمه يتجاوز الزمن، ويحلّق في الآفاق الواسعة التي تطلّ بك على المطلق، ويطوف بك في كلّ موقع من مواقع الحياة، حتى إنك تفتش عن شيء لم يتحدّث عنه تصريحاً أو إيحاءً أو إيماءً، فلا تجد شيئاً من ذلك. وعندما تدخل عقله، ترى العقل الذي كلّه شروق".

وبسبب هذا التميّز، وتدليلاً عليه، "يقول الرسول(ص) في علي(ع) ما لم يقله في غيره". فهل السبب عاطفي، كونه ابن عمّه؟ إن أبناء عمومة الرسول(ص) كثر. هل لأنه صهره؟ لقد كان لرسول الله(ص) أصهرة آخرون. وقبل هذا وبعده، فالرسول ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾(النجم:3-4). إنه بسبب دوره وميزاته التي يصعب أن تتحلى بها شخصية أخرى بعد الرسول(ص). فالرسول لا يمكن أن يقول إلا الحق. ولقد أورد السيّد من أقوال النبيّ(ص) في عليّ(ع):

_ "أنا مدينة العلم وعليّ بابها".

_"أنت يا عليّ وليّ كل مؤمن ومؤمنة".

_ "عليّ مع الحق والحق مع علي".

_"أما ترضى (يا عليّ) أن تكون منّي بمنـزلة هارون من موسى؟ إلا أنّه لا نبيّ بعدي". وهارون(ع) جعله الله وزيراً لموسى(ع)، وجعل عليّاً(ع) وزيراً للنبيّ(ص)، وخليفةً له من بعده.

وتكتمل الصورة بالأوصاف التي أطلقها الرسول(ص) على علي(ع) بمناسبة قتاله. ففي معركة بدر، ينقل الرسول(ص) عن جبريل(ع): "لا فتى إلا عليّ ولا سيف إلا ذو الفقار". ويوم الخندق، عندما برز عليّ، الشابّ العشريني إلى عمرو بن عبد ود، بطل قريش والأحزاب، قال رسول الله(ص): "برز الإيمان كلّه إلى الشرك كلّه".

 وعن الضربة التي وجَّهها علي(ع) إلى عمرو، راح رسول الله(ص) يتحدّث فيقول: "ضربة عليّ يوم الخندق تعادل عبادة الثقلين". ذلك أنه لو انتصر عمرو على علي(ع)، وانتصر المشركون على المسلمين، لما بقيت للمسلمين قائمة، كما يقول السيّد، لأنهم انطلقوا من أجل إنهاء الإسلام في المدينة، عاصمة الإسلام كلّه.

وفي خيبر، وبعدما أرسل رسول الله(ص) شخصاً ليهاجم الحصن الأوّل، فرجع من دون أن يفتحه، وأرسل شخصاً آخر، فرجع يجبّن أصحابه ويجبّنونه، قال: "لأعطينّ الراية غداً رجلاً يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله، كراراً غير فرار، لا يرجع حتى يفتح الله على يديه". وطلب في اليوم التالي علياً(ع)، فقيل: إنه يشكو من عينيه، فأصرّ(ص) على طلبه، وأتى عليّ(ع)، فمسح بريقه على عينيه، وانطلق علي(ع)، وبرز له مرحب، فقدّه نصفين، وهرب اليهود، ودخلوا القلعة، وأغلقوا الباب خلفهم. ولكنّ عليّاً(ع) اقتلع الباب، ووضعه جسراً فوق الخندق المحيط بالقلعة، ليمرّ عليه المسلمون. "لقد اقتلع علي(ع) الباب بساعده الممتلئ إيماناً بالله ورسوله". ويتحدّث الإمام عن اقتلاعه الباب، فيقول: "والله ما قلعت باب خيبر بقوة بشرية، بل بقوّة ربانية".

إن في أقوال رسول الله(ص) المذكورة في علي، كما يقول السيّد، تأكيداً لدوره الطليعي والكبير في عملية النصر. ولقد تحدّث عنه في المفاصل الأساسية للإسلام بما لم يتحدّث به عن صحابي آخر، مع احترامنا لكلّ الذين عاشوا مع رسول الله(ص) بإخلاص.

ويعيد السيّد التأكيد مجدّداً أنه لم يكن للقرابة النسبية دور في موقف الرسول(ص) من علي(ع)، ذلك أن الإمام يقول: "إن وليّ محمّد(ص) من أطاع الله وإن بعدت لحمته، وإن عدوّ محمّد من عصى الله وإن قربت قرابته". إنَّ القرابة هي قرابة الرسالة وقرابة الخطّ والعمل.

أما الهدف من أحاديث الرَّسول(ص) في علي(ع)، فهو أن يرسّخ في الضمير الإسلامي أنَّ عليّاً هو الخليفة لرسول الله، تؤهّله لذلك ميزات لم تتوافر لغيره، وفي هذا يقول السيّد: "لعلّ دراستنا لكلّ أحاديث النبيّ(ص) في حقّ عليّ(ع)، تفيد بأنها تمحورت حول تعميق الذهنيّة الإسلامية العامة، في اعتبار الإمام علي(ع) الشخص المتعيّن للخلافة، وذلك بسبب كفاءته وقابليّته ومؤهَّلاته، فقد كان عليّ(ع) الإمام المعصوم الأقرب إلى رسول الله(ص)، الذي ليس في نفسه شيء لنفسه، والذي لا يدانيه أحد، والّذي كان يأنس به رسول الله(ص) الَّذي خسرته الأمة...".

فعليّ يؤكّد أن رسول الله "ما وجد لي كذبةً في قول ولا خطلةً في فعل". ومعنى ذلك، في رأي السيّد، أن عصمته في طفولته كانت عصمة وعي، لأن بيئته كلها كانت رسول الله(ص).

وردّاً على سؤال، وتعقيباً على قول علي(ع): "فلا تكفّوا عن مقالة بحقّ، أو مشورة بعدل، فإني لست في نفسي بفوق أن أخطئ، ولا آمن ذلك من فعلي، إلا أن يكفي الله من نفسي ما هو أملك به منّي"، يقول السيّد: "هو فوق أن يخطئ، لأنه معصوم كما نعتقد، ولكنه أراد أن يشجّع الناس على متابعة تجربته في الحكم. وهي التجربة التي لا خطأ فيها، حتى يتعلّموا نقد من يأتي بعده ممن لا يكون معصوماً من قياداتهم. ولهذا السبب، كان علي يحثّ المسلمين على مصارحته، فيقول: "لا تظنّوا بي استثقالاً لحقّ يقال لي، أو لعدلٍ يعرض عليّ، فإن من استثقل الحقَّ أن يقال له، والعدل أن يعرض عليه، كان العمل بهما عليه أثقل".

أما بعد نومه في فراش رسول الله لتسهيل هجرته، فقد نزل قرآنٌ على رسول الله(ص) يقول: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾. وبيع نفسه لله هو أن يكون الله كلَّ شيء في حياته، بحيث يقترب من الرسول(ص)، باعتبار أنَّه رسول الله الذي بلَّغ رسالات الله، ويقترب من الناس من خلال أنهم أولياء الله، ويبتعد عن الناس من خلال أنهم أعداء الله.

وإذا كان الخلفاء الذين تولوا قبله، انتصروا في الفتوحات، إلا أن المسلمين قد خسروا الكثير فيما حدث، بالرغم من كل الايجابيات. فقد انتصروا في الامتداد، ولكنهم خسروا في العمق. وانتصار المسلمين ليس في امتدادهم في السلطة والقوة، ولكن انتصارهم هو في امتداداتهم الفكرية، التي يستطيعون أن يحوّلوا فيها العالم إلى الإسلام، وأن يحوّلوا الناس إلى أناسٍ يعيشون الإسلام، فكراً وعقيدةً وعاطفةً وحركةً في الحياة. فقد قال رسول الله(ص) لعليّ(ع): "لئن يهدِ الله على يديك رجلاً، خير لك مما طلعت عليه الشّمس". فإذا لم تكن الفتوحات للهداية، فهي تكون اعتداءً. فإذا كان بعض القادة لم يقبلوا إسلام أهالي البلاد المفتوحة([124])، خوفاً من انكسار الخراج، فما الذي يميّزهم عن المستعمرين الذين عانينا منهم ونعاني منهم اليوم؟!

لهذا، فإن الخلفاء لم يستطيعوا إكمال الدين في الوقت الذي امتدوا بالإسلام إلى العالم، فبقي امتداداً على السطح ولم يدخل إلى العمق، كما هو مطلوب.

 فقد برزت تحدّيات فكرية وثقافية، واجهت المشروع الإسلامي حينذاك، في الداخل والخارج، سواء في التشريع، أو في ما أثاره الكافرون من شبهات تحتاج إلى من يفنّدها. من هنا كانت ضرورة تولّي عليّ(ع).

لقد كان عليّ(ع) متفرّداً، ولكلّ صحابي ممن ساروا في خطّ الرسالة فضله، إلا أن عليّاً(ع) هو الوحيد الذي عاش مع رسول الله(ص) بكلّيّته، حتى إن طفولته، كما يؤكّد السيّد، تختزن شباب رسول الله(ص). وكذلك فقد كبر عليّ(ع) في طفولته، لأن رسول الله(ص) أعطاه شباب عقله وروحانيته وقلبه، وتميّز عليّ(ع) بجهاده وتجربته، فلم يكن هناك من يدانيه، ناهيك بأن يساويه.

من خلال ما تقدّم، فإن "واقعة الغدير لم تكن حدثاً استثنائياً...بل كان ذلك في السياق الطبيعي لتاريخ علي(ع)".
علم عليّ(ع)

كان عليٌّ(ع) متميّزاً في علمه، وهنا يردّ السيّد على من ينكر نسبة نهج البلاغة إلى عليّ، فيقول: "إنّهم يتحدّثون عن عليّ(ع)، كما يتحدّثون عن أيّ صحابي، وعلي(ع) ليس كذلك، لأن عليّاً(ع) كان كل رسول الله(ص) في علمه، فهو لم يكن متعلّماً فقط، بل كان نهج معرفة، إذ يقول(ع): "علّمني رسول الله ألف باب من العلم، يفتح لي من كلّ بابٍ ألف باب". إذاً علَّمه رسول الله، لا العلم فقط، بل المنهج الذي يكشف به العلم. فالإمام، كما يقول السيّد، لم يكن يتلقَّى العلم فحسب، بل كان ينتجه.

لقد كان عليّ(ع) تلميذ الرسول(ص) وتلميذ القرآن، فهو وعى القرآن في نزوله، كما لم يعِه أحد إلا رسول الله(ص)، فقد كان معه ليله ونهاره، الأمر الذي أتاح له، وعبر سماعه وسؤاله الرَّسول(ص)، ومبادرة الرسول إياه، أن يعرف كلَّ آية متى نزلت وأين وفي من؟

ولقد كان(ع) يقول: "إن ها هنا (في صدره) لعلماً جماً، لو أصبت له حملة"، ويقول: "لو كشف لي الغطاء، ما ازددت يقيناً". وفي أواخر أيّامه كان يقول: "سلوني قبل أن تفقدوني، فإني بطرق السماء أعرف مني بطرق الأرض". ويورد السيد هنا قول أحد المستشرقين: "لو كان علي موجوداً الآن، لرأيت مسجد الكوفة ممتلئاً بالقبعات الغربيّة". إننا نعرف بعض الأمور عن عليّ(ع)، أمّا الفيوضات التي أفاضها الله عليه، فهناك، كما يقول السيّد، "آفاق وامتدادات لا يعرفها الناس. لذلك، أن يتحدث عليّ(ع) عن المستقبل، وعمّا لا يألفه الناس من المعنويات ومن القضايا الأخرى، فهذا أمر لا غرابة فيه".

لقد حمل عليّ(ع) العلم وأنتجه، فقد كان، بعد رسول الله(ص)، أوَّل من يسمع كل آية ويعيها، وهو الذي تدرّب على التأمل والتعبد على يدي رسول الله، الذي كان يخلق لديه عادات وسلوكاً ولا يكتفي بتلقينه، بل كان يعدّه ثقافياً وروحانياً، هذه الرحلة الّتي بدأت قبل الإسلام واستمرّت معه، وهو كان تلميذ الليل والنهار في مدرسة الرسول(ص)، فسمع الوحي، ورأى نوره، وسمع رنّة الشيطان عندما يئس أن يعبد، وشمّ ريح النبوّة، وإن لم يكن نبيّاً. لقد رعاه رسول الله(ص) في عقله وروحه، في حركته وزهده وإخلاصه للإسلام، وانفتاحه على الواقع الإسلامي كلّه، لأن الرسول(ص) مكّنه من أن يرى ويسمع ما يسمع، ويتحرّك معه في كلِّ التجارب التي مرت عليه، وبهذا يكون علم عليّ(ع) علم رسول الله(ص) كله، فلم يسأل عن مسألة إلا وأجاب عنها. وفي تعليمه المسلمين، ربطهم عليّ(ع) بالتجربة، متحدّثاً عن المنهج القرآني الذي يزاوج بين الدليل العقلي، المستند إلى تفكير الإنسان وتأمّله، والدليل التجريـبي: ﴿فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَار﴾(الحشر/2). ويؤكد السيد أن علياً(ع) يقول لنا: "إذا أردت أن تفهم الأمور جيّداً، فادرسها في الواقع"، ادرس تجربتك، وافهم عناصرها، وافهم حركتها، وافهم الظروف التي تحيط بها، وبعد ذلك استنتج منها: "فقد جرّبتم الأمور وضرّستموها، كما يقول أمير المؤمنين، ووعظتم بمن كان قبلكم (ممن انحرفوا عن الخطّ الذي حدّده الأنبياء لهم)، وضربت الأمثال لكم (في القرآن، كأحاديث عاد و ﴿إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ﴾، (راجع الفجر/6 و7) ودعيتم إلى الأمر الواضح" (وضوحاً في العقل والقلب تميَّز به التشريع، وكذلك وضوحاً في واقع الحياة.

فعلينا، كما يرى السيّد، "أن ننتفع من الكثير من تجاربنا في الهزيمة والألم والفرح، وفي كل التجارب الأخرى، لأن ذلك يعطينا فكراًَ جديداً وعظةً جديدة. وقد قال عليّ(ع) في كلمة أخرى: "من العقل حفظ التجارب". فالتجربة تعطيك عقلاً إضافياً، وخير ما جرّبت من وعظك".

وإذا قسنا مصادر العلم في زمن عليّ(ع)، نرى أنه أخذ عن الرسول(ص) مباشرةً، بينما أخذ غيره عن الناس، أو أخذ عن رسول الله(ص) ولم يستوعب، أو شهد بعض الحديث عن الرسول(ص) ولم يحضر بعضه الآخر. ومن نتيجة ذلك، ما ينقله السيّد عن عليّ(ع)، حيث يقول: "وقد كان يكون من رسول الله الكلام له وجهان: فكلام خاصّ وكلام عامّ، فيسمعه من لا يعرف ما عنى الله سبحانه به، ولا ما عنى رسول الله(ص)، فيحمله السامع، ويوجّهه على غير معرفة بمعناه، وما قصد به، وما خرج من أجله. وليس كل أصحاب رسول الله(ص) من كان يسأله ويستفهمه. حتى إنهم كانوا ليحبُّون أن يأتي الأعرابي والطارئ ليسأله حتى يسمعوا. وكان لا يمرّ بي شيء من ذلك، إلا سألته عنه وحفظته".

ولقد وصلنا من علم عليّ(ع) الكثير من الخطب والرسائل والأحاديث، وكذلك الكلمات القصار الّتي هي تكثيف للحكمة وللعلم، لأنّ كلّ واحدة منها كانت تمثّل مفهوماً يشمل أكثر جوانب حياة الإنسان، إن لم يكن كلّها. إن كلّ كلمة قالها علي(ع) هي بمنـزلة ضربته عمرو بن عبد ود، وضربته مرحباً، لأن تلك الضربة عالجت قضيةً في تلك المرحلة، وإن امتدّت آثارها بعد ذلك، ولكن كلّ كلمة حكمة، وكل انطلاقة علم، وكل تجربة صائبة، تبقى مع الإنسان أبد الدهر، لتعلّم كل جيل كيف يمكن أن يسير إلى الله ومع الله وفي سبيل الله.

ولما كان عليّ(ع) يملك العلم كله الذي استقاه من رسول الله(ص)، كما يقول السيّد، وكان رسول الله(ص) الكتاب الناطق، إلى جانب الكتاب الصامت، القرآن، فإن عليّاً(ع) هو أيضاً الكتاب الناطق، إلا أنَّ علمه لم يرد(ع) حصره في شخصه، بل سعى إلى نشره وتنوير الناس به. فهو كان يشعر بعلمه الفيّاض الذي لم يجد من ينتفع به، وكان يتألم لذلك، ولم يكن يبحث عن (حملةٍ لعلمه) لأجل أن يعطي علمه عنفوانه، ولكنه أراده حتى يعطي علمه الامتداد. لقد كان يريد أن يعطي الناس كلّ ما عنده، ولما كان ذلك متعذّراً، فقد أراد أن يعطيهم بعضه. لقد أراد أن "يرفع مستواهم، وأن ينطلق بهم إلى الآفاق الواسعة، ولكنهم كانوا يعيشون في آفاق ضّيقة من خلال الرواسب الكثيرة. لم يستطع علي(ع) أن يعلّم الجميع، ولم يستطع بعضهم حتّى أن يأخذ كل ما أراد علي إعطاءه". فالعالم، كما يقول السيد ، "يعطي بحسب ما يحتاج الجوّ العام، في خطوطه العامّة، وفي الخطوط التفصيلية التي يتحمّلها المستوى الثقافي العام للناس. وهناك أشخاص بلغوا مستوى جيّداً من العلم والثقافة، فلا بدّ من أن يكون عطاؤه لهم أكثر وأعمق وأدقّ من عطائه لأولئك... (إنه) اختلافٌ في المستوى وبعض المفردات، لا في نوعية العلم، وفي تعليمه للناس".

وإلى هذا، كان علي(ع) يعلّم، ويحضّ على التعلّم، ومن يزعم أنه من شيعة عليّ(ع)، عليه أن يتعلّم. "إن عليّاً(ع) يريد لشيعته أن تكون الجماعة التي تتحرك في خطّ تصاعدي مع كل حركة التطور العلمي، ولا يريد لهم أن يكونوا الجاهلين الذين يلتقطون فتات موائد الآخرين فيما يريدون أن يأخذوه أو يتعلموه".

غير أنه لا بدّ من التنبّه إلى أنه ليس كل حامل علم عالماً، فلا بدّ من التمييز. وهذا ما يعلّمنا إيّاه عليّ(ع)، بقوله: "الناس ثلاثة: عالم ربّاني، ومتعلّم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق، يميلون مع كلّ ريح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق".

وفي مطلق الأحوال، فإن من يرد أن يعلّم الناس، لا بدّ له من ميزات معيّنة حتى ينجح في مهمّته:

فالعالم المعلّم يجب أن يكون صادقاً، يصدِّق فعله قوله. فإذا كان مسؤولاً، فيجب عليه، قبل أن يؤدّب الناس ويعلّمهم، أن يعلّم نفسه ويؤدّبها، إذ يقول عليّ(ع): "من نصّب نفسه للنّاس إماماً، فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره، وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه، ومعلّم نفسه ومؤدّبها أحقّ بالإجلال من معلّم الناس ومؤدّبهم".

وحتى ينجح العالم المعلّم في تعليمه، يجب أن يكون حليماً. فعن الإمام الرضا(ع)، وحديثه حديث آبائه وأجداده، وصولاً إلى علي(ع)، فإلى رسول الله(ص)، أنه قال: "إن من علامات الفقه الحلم". فالحلم هو سعة الصدر تجاه الأفكار المختلفة، التي تجعل الإنسان يعيش معنى الإنسانية".

على المعلّم أن يكون من الذين يقولون ما يفعلون ولا يقولون ما لا يفعلون. ومن لم يصدق فعله قوله فليس بعالم، "لأن قيمة العلم أن يتحوّل إلى حقيقة في وجود الإنسان، بحيث يدخل علمه عقله، فيكون عقله عالماً، ويدخل علمه قلبه، فينطلق القلب بالعمق، كما يقول السيّد، ليعمّق العاطفة في اتجاه ما يعلم، ويدخل العلم حياته ليحرّكها في الاتجاه الصحيح. فيجب أن يتأنسن العلم بحيث يكون عمقاً في إنسانية المتعلم."ولا بدَّ للعلماء من أن يخشوا الله، كما يقول تعالى : ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾(فاطر:28).

فإذا تمتّع العالم بهذه الميزات، فإن تعليمه الناس مرهون بأسلوبه. ويؤكّد السيّد: "إن الأسلوب هو الرجل". فالأسلوب يجب أن يكون حكيماً، يراعي، إلى المستوى الثقافي، الإمكانات الشخصية، والاستعدادات، ويراعي التباينات بين النّاس وأمزجتهم.

هذه الميزات التي يعلّمنا إيّاها عليّ(ع)، تميز بها شخصياً بشكل لا يقارن، وكان يعطي المسلمين من فكره الذي هو فكر الإسلام، ومن تجربته الغنية بعطاء الإسلام. ولولا علي(ع)، لما عرف رسول الله(ص). فقد كان يؤكّد الانفتاح على رسول الله(ص)، والالتزام به، ويدعو إلى أن نتعرّفه جيداً، لأن مشكلة المسلمين أنهم لا يعرفون رسول الله(ص)، في كل عناصر شخصيته في الداخل والخارج، وإنما يعرفون منه ما هو على السطح فقط.

علم تفرّد به علي(ع)

قال رسول الله : "يا علي، ما عرف الله إلا أنا وأنت، وما عرفني إلا الله وأنت، وما عرفك إلا الله وأنا". فعليّ(ع)، بعد رسول الله(ص)، تفرّد، من بين الناس، بمعرفة الله تعالى، ومعرفة الرسول معرفةً حقيقيةً:

معرفة علي بالله

ظهرت معرفة علي بالله في العديد من خطبه وكلماته، وقد ادَّعى الأخذ عنه علماء الكلام والمتصوّفة وغيرهم.

يرى عليّ(ع) أنَّ الله يستدلّ عليه من خلقه، والنظام المحكم الذي يسير عليه الكون: من تسديده المخلوقات لما خلقت له، ومن أفضاله على الإنسان، وعطاياه في كلّ المجالات. فلا معطي حقيقيّاً إلا الله تعالى، وكلّ معطٍ ظاهري، فمن نعم الله يعطي. فإذا أردت أن تشكر على العطاء، فاشكر الله دائماً. ويستشهد السيّد على ذلك بدعاء لعليّ، يقول: "وإن ترجَ (يا رب)، فخير مرجوّ (لأنك أهل الرجاء). اللّهمّ وقد بسطت لي (من الكلام) فيما لا أمدح به غيرك (لأنّ بعض الكلمات لا تليق إلا بك، ولأن كلّ مدح يشير إلى مدحك، لأننا عندما نمدح خلقك، فإننا نمدحهم فيما أعطيتهم من عندك. فما عندهم هو من عندك)، ولا أثني به على أحد سواك (أوحّدك في المدح وفي الثناء، فلا يمكن أن نثني على أحد بما نثني به على الله، ولا نمدح أحداً بما نمدح به الله، ﴿فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾(الجن/18)، ولا أوجهه (المدح) إلى معادن الخيبة (أي من تخيب الآمال عندهم)، ومواضع الريبة (أي من تحيط الشكوك بكلّ ما هم فيه)، وعدلت بلساني عن مدائح الآدميين، والثناء على المربوبين المخلوقين (فإذا مدحت غيرك أشعر بالذنب، وإذا مدحت من كان قريباً إليك، فاني أمدحك من خلاله، لأنه لا أحد إلا وأنت الخالق له والرب، وأنت الذي أعطيته كل شيء. ومن جملة عطايا الله الرحمة والمغفرة). اللّهمّ ولكل مثنٍ على من أثنى عليه مثوبة من جزاء (فالمادح له مثوبة)، أو عارفة من عطاء (وعندما أمدحك فبما أنت أهله، وأثني عليك فيما فيك من مجالات العظمة)، وقد رجوتك دليلاً على ذخائر الرحمة، وكنوز المغفرة، فأعطني من ذخائر رحمتك وكنوز مغفرتك (هذه هي جائزتي التي أرجوها عندك). اللّهمّ وهذا مقام من أفردك بالتوحيد، الذي هو لك (فأنت الواحد، والوحدانية صفتك، ولا وحدانية لغيرك. وأنا أقف من أجل أن يكون عقلي وقلبي وشعوري وإحساسي وكياني كله صرخةً تنفتح على وحدانيتك)، ولم يرَ مستحقاً لهذه المحامد والممادح غيرك. وبي فاقة إليك (أنا الفقير المحتاج إليك)، لا يجبر مسكنتها (فاقتي وفقري) إلا فضلك، ولا ينعش خَلَّتها (حاجتها) إلا منّك وجودك. فهب لنا في هذا المقام رضاك (رضاك هو مطلوبنا، فهو كلّ السعادة)، ﴿وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾التوبة:72) (لأنه الجنة ونعيمها)، وأغننا عن مدّ الأيدي إلى سواك". ويربط السيّد بكلام الإمام عليّ(ع) هذا، كلام الإمام زين العابدين(ع) الذي يقول : "وقلت سبحان ربي كيف يسأل محتاج محتاجاً، وأنّى يرغب معدم إلى معدم، فقصدتك يا الهي بالرغبة، وأوفدت عليك رجائي بالثقة بك...".

والله يعطي، ولكنه يأخذ أيضاً، وعليّ(ع) يمدحه على كل حال، ويعترف بالقصور البشري تجاهه، فيتابع في الجوّ الروحي نفسه، على ما يستشهد به السيّد، فيقول: "اللّهمّ لك الحمد على ما تأخذ وتعطي، (فإن عطاءك هو عطاء الكريم الذي يفيض كرمه على عباده، وإن أخذك أخذ الحكيم الذي لا يأخذ إلا عن حكمة، وحكمته لا تبتعد عن رحمته، وإن لم يدرك الناس ذلك)، وعلى ما تعافي وتبتلي (فمنك العافية، ومنك البلاء. ونحن نحمدك في الحالين)، حمداً يكون أرضى الحمد لك (يمتدُّ ليكون مبلغ رضاك) وأحبّ الحمد إليك (وأفضل الحمد عندك)، حمداً يملأ ما خلقت، ويبلغ ما أردت، حمداً لا يحجب عنك، ولا يقصر دونك (وكأنه يقول، كما يعلّق السيّد، أنا لا املك الكلمات الدقيقة التي يمكن أن تجمع كل ما تستحقه من حمد. لذلك، فعندما أتحدّث عن حمد هو أرضى من ذلك، وعن حمدٍ يبلغ ما عندك، فأنت تعرف يا ربّ آفاق ذلك الحمد)، حمداً لا يستقطع عدده، ولا يفنى مدده (يمتد في الوقت كلّه، في الصباح والمساء، في الانشغال وفي الفراغ). فلسنا نعلم كنه عظمتك (وإذا عرفنا بعض أسرار عظمتك، فلا نعرف حقيقتها)، إلا أننا نعلم أنك حيّ قيّوم (قائم على الكون والوجود)، لا تأخذك سنة ولا نوم، ولم ينتهِ إليك نظر، ولم يدركك بصر (وهذا قوله تعالى: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ﴾(الأنعام:103) ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾(الشورى:11). أدركت الأبصار، وأحصيت الأعمال، وأخذت بالنواصي والأقدام(سيطرت على الإنسان في كل شيء). وما الذي نرى من خلقك (من أسرار عظمتك)، ونعجب له من قدرتك، ونصفه من عظيم سلطانك، وما يغيب عنا منه (ما لم ندرك سرّه)، وقصرت أبصارنا عنه، وانتهت عقولنا دونه، وحالت ستور الغيوب بيننا وبينه، أعظم. فمن فرغ قلبه، وأعمل فكره، ليعلم كيف أقمت عرشك، وكيف ذرأت خلقك، وكيف علَّقت في الهواء سماواتك (التي لا ترتكز على أي شيء في الأرض)، وكيف مددت على مور الماء أرضك، رجع طرفه حسيراً (إشارة إلى قوله تعالى : ﴿فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ﴾(الملك/3-4)، وعقله مبهوراً، وسمعه والهاً، وفكره حائراً".

والله المعطي يملأ حضور المتوكلين عليه، ويكفيهم ويعرف ظاهرهم وباطنهم، كما يعرف ظاهر كلّ مخلوق وباطنه. وهو رفيقهم في الغربة، وهو المستجيب لطلباتهم حتى ولو عجزوا عن التَّعبير عنها. ويستشهد السيّد بأدعيةٍ لعليّ(ع)، يتبيّن منها أنه كان مثال الشوق إلى الله، ومنها هذا الدعاء:

"اللّهمّ، إنك آنس الآنسين لأوليائك (فعندما يستوحشون في غربتهم الروحية، كما يفسّر السّيد، وعندما يعيشون في ظلمات الواقع، فإنهم يتطلَّعون إليك ويأنسون بك، وربما يأنسون بمن يملك القربى إليك، لكن لا أنس كالأنس بك)، وأحضرهم بالكفاية للمتوكّلين عليك (فهم يحسّون كفايتك في كل أمورهم، وكل حاجاتهم في الدنيا والآخرة، كما يؤكّد الإمام زين العابدين(ع) بقوله: "يا من يكفي من كل شيء، ولا يكفي منه شيء". ويضيف الإمام علي(ع): تشاهدهم (أولياءك) في سرائرهم (والسرائر مكنونة في الصدور، ولكنهم يشعرون بأنك تراقب سرائرهم)، وتطّلع عليهم في ضمائرهم (فيما يضمرونه، لا بمعنى الضمير بالمصطلح العصري المعبر عن الوعي في علم النفس أو الوازع في علم الأخلاق، كما فهمه بعضهم، وراح يشكك في نسبة الكلام إلى عليّ(ع) على أساس أنَّ هذه المصطلحات لم تكن معروفةً في أيامه)، وتعلم مبلغ بصائرهم (فيما يملكونه من فكر يحذرون أن ينحرف)، فأسرارهم لك مكشوفة، وقلوبهم إليك ملهوفة (لأن قلوبهم تعيش الحب، ويملؤها الشوق إليك). إن أوحشتهم الغربة (غربة الروح أو الغربة عن الوطن أو الأهل)، آنسهم ذكرك، وإن صبّت عليهم المصائب (وكاد اليأس يزحف إليهم والسقوط يطبق عليهم)، لجؤوا إلى الاستجارة بك، علماً بأن أزمّة الأمور بيدك (فأنت الذي تديرها كما تشاء)، ومصادرها من قضائك (وقضاؤك يجري بالخير لأوليائك).

اللّهمّ، إن فههتُ عن مسألتي (عييت عن التعبير عنها)، أو عميت عن طلبتي (فعشت الحيرة، فلم أعد أعي جيداً، ولا أبصر ما أطلبه منك)، فدلّني على مصالحي (لأدرك ما يفيدني ويصلحني، فلا أطلب ما يفسدني في ديني ودنياي)، وخذ بقلبي إلى مراشدي، فليس ذلك بنكر من هداياتك (احملني إلى ما يرشدني ولا يضلّني، فأنت وليّ كل ذلك بهدايتك). اللّهمَّ احملني على عفوك (فاغفر لي ما قصَّرت في حقك)، ولا تحملني على عدلك" (بحيث تحاسبني على كل ما ارتكبت).

وينتقل عليّ(ع) إلى تعليم آخر، فيرشد الناس إلى محلّ النصيحة، فإذا هو الله تعالى، الذي نقتربُ منه بالعمل، فنأمن العذاب. يبدأ عليّ(ع) بتقديم النصيحة، كما يرى السيّد، بقوله: "أيُّها الناس، (جميع الناس في جميع العصور، وعقل عليّ يستوعب كل العصور)، إنه من استنصح الله وفّق (وأي ناصح أعظم من الله، فغيره قد يغشّ أو يضلّ بجهله، لكنَّ الله هو الحق، وهو الرَّحمن الرَّحيم، وقد قدّم إلينا نصائحه في القرآن، ومن أمثلته قول شعيب: ﴿وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ﴾(القصص:20)، ومن اتخذ قوله دليلاً، هدي للتي هي أقوم (فإذا كنت في الظلمات والمتاهات، فقول الله ينقذك)، فإن جار الله آمن، (ومجاورته ليست مكانيةً، لأنَّ الله في كلِّ مكان، لكنَّها مجاورة بالعمل)، وعدُّوه خائف (لأنّه ينتظر نار جهنّم. وهذا ما لا تقوم له السماوات والأرض. ولتقرأ في دعاء كميل: "فكيف بي وأنا عبدك الضعيف الذَّليل الحقير المسكين المستكين". هذا العبد يصبر عن مقاساة لظى جهنّم ولا يصبر عن مفارقة الله، فيقول: "هبني صبرت على حرّ نارك، فكيف أصبر عن النظر إلى كرامتك".


الذّكر والذّاكرون


ولكون الكثير من النَّاس لا يعرفون شخصيَّة عليّ(ع) المفسّر، ومنهجه المتميّز في تفسير آيات الله سبحانه وتعالى في القرآن، "رغم قلّة ما نقله لنا الشريف الرضيّ"، فلعلّنا نستوحي منهجاً جديداً في التَّفسير يتجاوز الأسلوب التقليدي الذي درج عليه المفسّرون"، لذلك ينتقل السيّد إلى موضوع الذكر، أي تذكير عليّ(ع) الناس بالله، في تفسيره للقرآن، لتعميق إيمانهم بالله. ذلك أنَّ الذّكر يجدّد قدرات الإنسان العقلية، فيحاسب نفسه، قبل أن يحاسب.

لقد استوحى الإمام علي(ع) من الآية الشريفة: ﴿رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾(النور/37)، كيف يكون الذكر، ومن هم هؤلاء الرجال الذين يذكرون الله في تجارتهم وفي بيعهم، وفي مجالات حياتهم الأخرى، فلا يغيب الله عن وجدانهم، لأنَّ ذكر الله هو الأهم عندهمّ.

 إن هؤلاء الذاكرين يمتازون بميزتين:

ـ الأولى: "إحساس الذاكر بمسؤوليّته عن معرفة النّاس بالله، وعن انفتاحهم عليه، ودعوته إليهم، فلا يكون الذكر بالنسبة إلى الذاكر حالةً ذاتيةً منفعلةً، أو حالةً سطحيةً باللّسان فقط، بل يسترسل مع الذكر، حتى يكون الله حاضراً في مواقع عظمته ونعمته وامتداده في الكون كله، في وجدان الناس، بحيث يتمثلونه في كل وعيهم الفكري، وحركتهم العملية.

ـ الثانية: امتلاء شخصية الذاكر بالله، في عقله وقلبه وحياته، وانفتاحه على المصير، ثواباً أو عقاباً، جنةً أو ناراً.

والذكر يجب أن يمثل حركة الذاكر في دعوة الناس إلى الارتباط بالله، فيكون الذاكر عند ذلك داعيةً إلى الله سبحانه وتعالى، فتذكره في دعوتك للناس بأن يؤمنوا به ويرتبطوا به".

وإلى جانب ذكر الدعوة، للذّكر دورٌ في "بناء الشخصية، وانفتاحها على الله، إذ يقول عليٌّ(ع): "إنَّ الله سبحانه جعل الذكر جلاءً للقلوب (يزيل صدأها، لأنّ القلوب تصدأ كما يقول رسول الله(ص)، وصدؤها يأتي من الذنوب، وتعقيدات الحياة، والانشغال عن الله. فيتحرَّك الذكر ليزيل، كما يقول السيّد، كلَّ صدأ عن هذا القلب، الذي يصدأ عندما يغيب ذكر الله عنه)، تسمع به بعد الوقرة، (والوقرة هي الثقل في الأذن، فيعيد الذكر قوّة السمع إلى القلوب، لأنَّ للقلوب آذاناً تسمع بها الأحاسيس والمشاعر، فإذا عجزت بسبب التشويش، فإنَّ الذّكر ينقذها فتعود إلى السمع)، وتبصر به بعد العشوة (وللقلوب أبصار كما يقول تعالى: ﴿فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾(الحج/46)، فبعد ضعف البصيرة (بصر القلب)، يأتي الذكر ليجدّدها)، وتنقاد به بعد المعاندة (فقد يتسلَّط العناد على قلب الإنسان بفعل الشيطان، فيعميه عن الحق، ويصرفه إلى الباطل، فإذا ذكر الله انقاد القلب إلى الإيمان). وما برح لله ـ عزت آلاؤه ـ في البرهة بعد البرهة، وفي أزمان الفترات، عباد ناجاهم في فكرهم (وهذا، كما يقول السيّد، من أدقّ التعابير. فمناجاة الله للإنسان في فكره، هي بما يلهمه سبحانه، فكأنه يحدثهم بين الحين والحين، وفي أزمنة انقطاع الرّسل)، وكلّمهم في ذات عقولهم (بما أودعه فيها من أفكار وأحاسيس ومشاعر)، فاستصبحوا بنور يقظة الأسماع والأبصار والأفئدة. (أصبحوا في نور يقظة تستيقظ به أسماعهم، فتسمع الحق، كما يقول السيّد، وتنفتح به أبصارهم، فتتحرَّك البصيرة فيها، وتنفتح به أفئدتهم، لتعي حقائق الأمور)، يذكرون بأيام الله (التي يعيش الإنسان فيها بكلِّ ما يتصل بالله في إنعامه وعظمته وسخطه)، ويخوّفون مقامه (بما يذكرون من غضبه عند معصيته)، بمنـزلة الأدلة في الفلوات، (فدورهم الإصلاحيّ كمن يهدي النَّاس عندما تغيب علامات الهداية، إذ يردّون الناس إلى الطريق المؤدية إلى الله)، ومن أخذ القصد، حمدوا إليه طريقه، وبشّروه بالنّجاة، ومن أخذ يميناً وشمالاً، ذمّوا إليه الطريق (هم لا يقفون موقف الحياد، بل يشعرون بالمسؤوليَّة تجاه كلِّ إنسان منحرف، ليبيّنوا له أنّه قادم إلى المشاكل والتعقيدات في حياته وأوضاعه)، وحذّروه من الهلكة (من النار)، وكانوا كذلك مصابيح الظلمات، وأدلة تلك الشبهات (عند حيرة الناس، يدلّونهم على الحلول للخلاص من الشبهات). وإن للذّكر لأهلاً أخذوه من الدنيا بدلاً (فليس كلُّ ذاكر لله هو من أهل الذكر، بل إنَّ أهل الذكر هم الذين استغرقوا في الذكر، فكان عندهم بديلاً من الدنيا)، فلم تشغلهم تجارة ولا بيع عنه (بل يذكرون فيها الله، حتى لا تكون تجارة باطل وبيعاً حراماً)، يقطعون به أيام الحياة (أيام حياة تمر بالذكر)، ويهتفون بالزواجر عن محارم الله (يردعون الناس عن ارتكابها) في أسماع الغافلين (ليقرّبوهم إلى الله سبحانه وتعالى)، ويأمرون بالقسط (عندما يأخذ الناس بأسباب الظلم)، ويأتمرون به، وينهون عن المنكر (مما حرَّمه الله)، ويتناهون عنه (فلا يخالفون ما يأمرون الناس به ولا ينهونه عنه). فكأنما قطعوا الدنيا إلى الآخرة (هم في الدنيا بأجسادهم، وفي الآخرة في عقولهم وقلوبهم)، فشاهدوا ما وراء ذلك (فكأنهم شاهدوا الآخرة حقيقة)، فكأنما اطلعوا غيوب أهل البرزخ (الفاصل بين الدنيا والآخرة، المفضي إلى الجنة أو إلى الجحيم) وحققت القيامة عليهم عداتها (ما وعد الله فيها)، فكشفوا غطاء ذلك لأهل الدنيا (فحدثوهم عما وراء يوم القيامة)، حتى كأنهم يرون ما لا يرى الناس، ويسمعون ما لا يسمعون (لأن الإنسان، كما يقول السيّد، عندما يعظم ذكر الله في قلبه، فإنه يتوجَّه إلى كل ما عند الله سبحانه وتعالى)".

فلو مثلتهم لعقلك في مقاومهم المحمودة (مقاماتهم)، ومجالسهم المشهودة، وقد نشروا دواوين أعمالهم (يتفحّصون ما فعلوا، ويستشرفون ماذا سيفعلون)، وفرغوا لمحاسبة أنفسهم عن كلّ صغيرة وكبيرة، أمروا بها فقصّروا عنها، أو نهوا عنها ففرّطوا فيها (يحاول أحدهم أن يحاسب نفسه في دنياه، قبل أن يحاسب في آخرته، فيزيل السيئات بالاستغفار، ويزيد الحسنات)، وحملوا ثقل أوزارهم على ظهورهم (أي سيّئاتهم التي أتوها وإقرارهم بالتّقصير)، فضعفوا عن الاستقلال بها (رأوا أن لا طاقة لهم بحملها)، فنشجوا نشيجاً، وتجاوبوا نحيباً (اختنقوا بدموعهم، وأجاب بعضهم بعضاً بصوتٍ مرتفعٍ بالبكاء، أي أنّهم جلسوا جلسة توبة واستغفار) ويعجّون إلى ربهم من مقاوم ندم واعتراف (إذا مثلتهم لعقلك في كلّ ذلك، فماذا ترى؟).

لرأيت أعلام هدى، ومصابيح دجى (يعيشون الهدى في حياتهم ونشاطهم، ونور المحبة لله والإحساس بعظمته). قد حفَّت بهم الملائكة (فهي تتنـزل على المؤمنين في الدنيا، كما في الآخرة)، وتنـزّلت عليهم السكينة (لأنهم أصحاب النفوس المطمئنّة)، وفتحت لهم أبواب السماء (لدعائهم وابتهالاتهم)، وأعدّت لهم مقاعد الكرامات، في مقامٍ اطّلع الله عليهم فيه (فرأى عبادتهم وذكرهم)، فرضي سعيهم، وحمد مقامهم، يتنسّمون بدعائه روح التجاوز (يستروحون رائحة العفو بتجاوز الله تعالى عن سيّئاتهم). رهائن فاقة إلى فضله (هم بمثابة رهائن يحتاجون الفضل من الله لإطلاقهم)، وأسارى ذلٍّ لعظمته (يشعرون بذلّهم أمام عظمته). جرح طول الأسى قلوبهم، وطول البكاء عيونهم. لكلّ باب رغبة إلى الله منهم يد قارعة (يدقّون كل باب يوصلهم إلى مرضاة الله)، يسألون من لا تضيق لديه المنادح (من تتّسع عنده الحظوظ، ولا يضيق عليه عطاء)، ولا يخيب عليه الراغبون. فحاسب نفسك لنفسك (حاسبها لمصلحة نفسك)، فإن غيرها من الأنفس لها حسيب غيرك"، وليكن شغلك بنفسك، ولا تشتغل بحساب غيرك، لأنَّ له من يحاسبه.

أمَّا الذكر في شهر رمضان، فله مثوبة خاصة، فهو الشهر "الذي أرادنا الله سبحانه أن نذكره فيه بعقولنا لتكون عقول الحقّ، وبقلوبنا لتكون قلوب الخير، وبعملنا ليكون عمل العدل. هذا الشهر" الذي أراد الله لنا أن نذكره فيه، بأن نقرأ كتابه قراءة تدبّر وتأمّل.. وأرادنا...أن نذكره بصلاتنا لنصلّي إليه أكثر مما نصلّي في أيِّ شهر آخر".

"فإنَّ الشقيّ ـ كما يقول رسول الله ـ من حرم غفران الله في هذا الشهر العظيم". لذلك يقول علي(ع) في العيد: "إنما هو عيدٌ لمن قبل الله صيامه وقيامه. وكلّ يوم لا يعصى الله فيه فهو عيد". فبإمكاننا أن نجعل كل أيامنا أعياداً بطاعة الله، والحصول على رضاه. فلنعمل على كسب هذا الرضا، حتّى نستحقّ تلك الهمسة الحبيبة في آخر لحظات الحياة، وهي، كما يقول السيّد: ﴿ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾(الفجر27-30).


زهد عليّ(ع)


عاش الإمام عليّ(ع) فقيراً زاهداً في حطام الدنيا، حتى عندما كان يتوافر له المال، إذ كان يتصدّق به. ويذكر السيّد طريقة عيش عليّ(ع) هذه، فيقول: "كان عليّ(ع) الإنسان الذي عاش الفقر كلّه والزهد كلّه، حتى إنه عندما خطب السيدة فاطمة الزهراء(ع) من رسول الله(ص)، قال له: "ما عندك؟"، قال له: "ليس عندي إلا سيفي ودرعي". وباع درعه الذي كان مهر الزهراء.
كان عليّ(ع) لا تهمّه الدنيا، يتقبّل حلوها ومرّها، ويخاطبها أن "غرّي غيري". وكان يعلّم الناس ألاّ يسرّوا بالمكاسب ويستاؤوا من الخسائر، فذلك لا يفيدهم، لأنه قضاء من الله. ويورد السيّد وصيّة عليّ(ع) لابن عبّاس، فيقول: "ولقد قال لابن عبّاس كلمةً قيّمة، بعثها إليها في كتاب، قال عنها ابن عباس: ما انتفعت بكلمة كما انتفعت بهذه الكلمة، وهي: "وليكن سرورك بما قدَّمت وأسفك، على ما خلّفت (من الفرص) وهمّك فيما بعد الموت".
ولقد كان عليّ(ع) يخصف نعله، ويرقع ثوبه حتى يستحي من راقعه، كما يقول(ع). إلا أنه لم يكلّف الناس أن يمارسوا الزهد كما يمارسه هو، لأنه إمام الناس، ويجب أن يتأسّى به فقراؤهم، "كي لا يتبيّغ (يثور) بالفقير فقره". أمَّا الآخرون، فليس مطلوباً منهم ذلك، لأنَّ الرسالة الإسلاميَّة كانت رسالة الحياة، فهي وحي فيما يحتاجه الناس، وفيما يؤمّن لهم شروط حياتهم. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾(الأنفال:24).


علي(ع) والقرآن


لقد جاء الرسول(ص) بالقرآن لتكريس التوحيد، فكانت فيه الأسس المعنوية للإنسان، وكان من الواجب على الجميع أن يتبعوا القرآن قولاً وفعلاً، إلا أن الواقع غير ذلك، فقد راح بعضهم يخترع أحاديث ليلتفَّ على تعاليم السماء، كما راح بعض آخر يدّعي أن القرآن لزمان مضى، كلّ ذلك في محاولات لإخفاء الحقّ: ﴿فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ﴾(يونس/32) ، فكلّ حكم غير حكم الله هو حكم الطاغوت.

يشرح السيد كلام علي(ع) في هذه المواضيع، فيورد :

يقول الإمام(ع): "فبعث الله محمداً(ص) بالحقّ ليخرج عباده من عبادة الأوثان إلى عبادته (جاء الرَّسول بالحقّ التوحيدي. وهو رسالة كلّ الأنبياء، الذين دعوا إلى عبادة الإله الواحد)، ومن طاعة الشيطان إلى طاعته (والعبادة طاعة)، بقرآن قد بيّنه وأحكمه (ووسيلة ذلك القرآن الذي يثقّف الإنسان حتى يتحوَّل إلى كيان توحيدي، لا يرى إلا الله في عقله وعاطفته وحركته، والقرآن واضح أحكمت آياته، فلا خلل فيها)، ليعلم العباد ربهم إذا جهلوه (فقراءة القرآن بوعيٍ تعلّم الإنسان معرفة ربّه، من خلال براهينه ودلائله)، وليقرّوا به بعد إذ جحدوه (حيث جاءهم الحقّ، وكما يقول تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ﴾(الحج/62) ﴿أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾(إبراهيم/10)، وليثبتوه بعد إذ أنكروه (لينغرس ذلك في وجدانهم)، فتجلّى لهم سبحانه في كتابه (فكأننا في القرآن نرى الله جهراً)، من غير أن يكونوا رأوه، بما أراهم من قدرته (فهو الذي لا يرى بالعين، بل بالعقل من خلال آياته)، وخوّفهم من سطوته، وكيف محق من محق بالمثلات (بضربه الأمثال عن الأمم السابقة كعاد وثمود...) واحتصد من احتصد بالنقمات"(بعد أن كابروا وجحدوا).

ثمّ يتحدث الإمام عن المستقبل حيث لا يبقى موجوداً، وإن وجد الأئمة من أبنائه، فإنّ الناس يكونون معرضين عنهم، متّبعين لغيرهم. ويصف الإمام هؤلاء، فيقول: "وليس عند أهل ذلك الزمان سلعة أبور من الكتاب إذا تلي حقّ تلاوته (فهم يقرأون القرآن ويسمعونه، لكن لا يفهمونه على حقيقته، لأن قلوبهم مغلقة عنه، فيسمعونه إذا حرّف ليخدم مصالحهم، ويؤكّدوا ضلالهم من خلال الآيات المتشابهات) ولا أنفق منه (وهو بضاعة تنفق عندما يحرّف فيروّج) ولا في البلاد شيء أنكر من المعروف، ولا أعرف من المنكر (فراحوا يبرّرون الانحرافات تحت حجّة التقدم، وأن زماننا مثال على ذلك. لكنَّ الزمان لم يفسد بل فسد الناس)، فقد نبذ الكتاب حملته (فالمكلفّون حمله، أو المتظاهرون بحمله، رموه خلفهم، عندما وجدوه لا يلبي رغائبهم)، وتناساه حفظته (فلم يعملوا به، ولم يدلّوا الناس على أحكامه). فالكتاب يومئذٍ وأهله طريدان (لا مكان لهما في بعض المجتمعات. فأحد خلفاء المسلمين الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان، عندما كان يقرأ في القرآن تهديداً لكل جبار عنيد (إبراهيم:15)، يضع القرآن هدفاً يرمي عليه السّهام، ويقول:

تهدّد كل جبّار عنيد
إذا لاقيت ربّك يوم حشر

    


    

فها أنا ذاك جبّار عنيدُ
فقل يا ربّ مزَّقني الوليدُ)


وصاحبان مصطحبان (فأهل القرآن لا يفارقونه) في طريق واحد، لا يؤويهما مؤوٍ. فالكتاب وأهله في ذلك الزمان في الناس، وليسا فيهم (فالمصاحف في البيوت مهجورة، وإذا قرئت فبدون تفهّم)، لأن الضلالة لا توافق الهدى (فالناس في ضلال والقرآن هو الهدى، والضلال والهدى نقيضان لا يجتمعان). وإن اجتمعا، فاجتمع القوم على الفرقة (فكثرت أحزابهم وفرقهم، كما الحاصل اليوم)، وكأنهم أئمَّة الكتاب (يحرّفون الكتاب باتجاهاتهم)، وليس الكتاب إمامهم، فلم يبقَ عندهم منه إلا اسمه، ولا يعرفون إلا خطّه وزيره (أي حروفه)، ومن قبل ما مثّلوا بالصَّالحين كلَّ مثلة (كم قتلوا من الصالحين ومثَّلوا بأجسادهم وكراماتهم)، وسمّوا صدقهم على الله فريةً (اتهموهم بالكذب على الله وهم الصادقون)، وجعلوا في الحسنة عقوبة السيّئة (أي أبدلوا الحسنة بالسيّئة فعاقبوا عليها). وإنما هلك من كان قبلكم بطول الأمل، وتغيّب آجالهم (ويفسر السيّد هذه الجملة بقول رسول الله(ص): "إن أخوف ما أخاف عليكم اثنتان: الهوى، وطول الأمل. أمّا الهوى فيصّد عن الحقّ، وأما طول الأمل فينسي الآخرة")، حتى نزل بهم الموعود، الذي تردّ عنه المعذرة (حيث لا يقبل عذر)، وترفع عنه التوبة (التي تبقى مع الإنسان حتى يأتي أجله، فحينها لا تعود تنفع)، وتحلّ القارعة" (التي تقرع النفوس والضمائر). هذا مصير القرآن عند هؤلاء الذين نسوا أحكامه الحقيقية.

أمّا بالنسبة إلى عليّ(ع)، فالقرآن، كما يرى السيّد، هو الأساس في العقيدة، في عمقها وامتدادها، وهو الأساس للخطوط العامة للشريعة، وهو الأساس للخطوط العامة للأخلاق، وهو الأساس للخطوط العامة في الروحانية والعرفانية. "فالفقيه ـ كما يقول علي ـ لم يرخص في معاصي الله (على أساس الغفران اللاحق)، ولم يترك القرآن رغبةً عنه إلى غيره (لأن غيره الضّلال، وإن كان هناك من لجأ إلى الأحاديث التي عدَّت سنّة، فإنّ في هذه الأحاديث الغث والسمين. والسنّة الحقيقية لا تنفصل عن القرآن، لكن هناك الكذب والنّحل على رسول الله. لذا علينا، كما علّمنا أهل البيت، أن نجعل كتاب الله هو المعيار، فما وافق كتاب الله نأخذه، وما خالفه نتركه. هذه القاعدة الأساسية تركها بعضهم، وراح يؤوّل القرآن حسب الحديث المدّعى، فدخل في الغلوّ والانحراف، والسيّد لا ينكر التأويل، فهو "موجود في اللَّغة العربيَّة، ولكن بشرط أن يكون منسجماً مع قواعد اللَّغة، وليس ضدّها، أو بما لا يتَّفق معها".

ولا مناص للمسلم من أن يتّبع القرآن، وإلا فهو صاحب بدعة أو متبنّيها، إذ يقول الإمام(ع): "إنما الناس رجلان: متّبع شرعة، ومبتدع بدعة" (إمّا أنّه مع القرآن والشرع، وإما أنه مع إدخال ما ليس من الدين في الدين، ولا ثالث لهما. والمبتدع) ليس معه من الله سبحانه برهان سنّة، ولا ضياء حجّة" (لذا فهو متخبّط حائر). ويعيدنا علي إلى القرآن فيقول: "وإن الله سبحانه لم يعظ أحداً بمثل هذا القرآن، فإنه حبل الله المتين، وسببه الأمين، وفيه ربيع القلب، وينابيع العلم (هو شباب القلب ونماؤه، كالربيع للأعشاب. فإذا قرأته بتروٍّ، شعرت بأن العلم يتفجَّر من كلّ آية). ما للقلب جلاء غيره (إذا صدئ من متعلّقات الدنيا)، مع أنه قد ذهب المتذكّرون، وبقي الناسون أو المتناسون. فإذا رأيتم خيراً، فأعينوا عليه. وإذا رأيتم شرّاً، فاذهبوا عنه". (لقد ذهب أصحاب عليّ وأحباؤه، من كان بقي منهم، في الحروب، وبقي الذين نسوا القرآن أو تظاهروا بنسيانه. وفي مطلق الأحوال، فلنفتّش في كلِّ مكان، فإذا رأينا خيراً في حياة الناس أو فكرهم أو في المجتمع عامّةً، فلنساعد عليه، وإذا رأينا شراً، فلنبتعد عن أن نقع فيه.

على أنَّ القرآن ليس لزمانٍ دون زمان، بل هو لكلّ زمان، فهو يمثل، كما يقول السيّد، الكتاب الذي لا يزال الناس، مع كلّ هذه القرون، ينفتحون عليه ويستوحونه ويفهمونه، كما لو كان كتاباً نزل حديثاً، فهو يتجدَّد باستمرار، ويجري مجرى الليل والنهار... فكلّ جيلٍ من الأجيال يرى أنَّ القرآن يتحدّث عن قضاياه كلّها، كما لو كان نزل عليه).

أما تعاملنا مع القرآن، فهو كما مرّ، يجب ألاّ يكون سطحيّاً أو بالتجاهل، بل يجب أن يتجسّد في حركتنا، وأن يطبّق. ويرى السيّد في تفسير الآية الكريمة ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾(البقرة/129)، أنَّ الكتاب (القرآن) هو خطّ النظرية، والحكمة هي خطُّ التطبيق، لأن الحكمة من الإحكام، وهو وضع الأمر في موضعه.

 ولا بدَّ لعلماء الإسلام من ثقافة الواقع، فلا يكفي أن تكون لديهم ثقافة القرآن والسنَّة حتى يعرفوا كيف يحرّكون الإسلام في واقع الناس. ويخطئ الكثيرون منهم حينما يعيشون في أجواء المفاهيم والنظريات، ولكنهم لا يفهمون من الواقع شيئاً.

هذا، كما يرى السيّد، نداء عليّ(ع) في كل زمان ومكان، أن على المسلم القرآني أن يعمل بكتاب الله، وعلى المسلم المحمّدي أن يعمل بسنَّة رسول الله(ص)، وعلى المسلم العلويّ أن يعمل بخط علي والأئمَّة من أولاده.

تواضع عليّ(ع)

كان علي(ع) يمتلك أهمّ ميزة وهي التواضع، تلك الميزة التي كان يعدّها ميزةً للعلماء، حيث يتحدّث، فيما يعلّق عليه السيّد، عن المتكبّرين الذين إذا حصلوا على شيء من العلم، انتفخوا، فإذا حصلوا على شيء من المال تعاظموا، وإذا امتلكوا السلطة تكبّروا وتجبّروا، بينما يقول علي(ع)، كما يشرح السيّد، اعرفوا عظمة الله، فعندها لا يمكن أن تشعروا بعظمة أنفسكم : "وإنه لا ينبغي لمن عرف عظمة الله أن يتعظّم، فإن رفعة الذين يعلمون ما عظمته أن يتواضعوا له". لأنهم يشعرون بأن كلّ ما عندهم هو من عند الله، وأنهم لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً. لذلك فهم، كما يقول السيّد، "لا يشعرون بأيِّ حجم من القوة في الجانب الذّاتي... إن العظمة تنطلق من خلال ما لديكم من عناصر العظمة الذاتية، لا أن تكون مستعارةً. ولذلك فإذا أحسست ببعض عناصر العظمة في شخصيتك، فاشكر الله على ذلك، فهي مستمدّة منه".

ويبيّن السيّد تواضع عليّ(ع)، الذي لا يرى لنفسه ميزةً على سائر الناس في المعاملة، ويؤكّد فضله وسوء التكبّر.

في فضل التواضع، ينطلق السيّد من حادثة غسل السيّد المسيح(ع) أقدام حوارييه، وقوله: إن أحقّ النّاس بالخدمة "العالم، إنما تواضعت هكذا لكيما تتواضعوا بعدي في الناس كتواضعي لكم"، وقوله: "بالتواضع تعمر الحكمة لا بالتكبّر"، لأن المتكبّر يطغى تكبره على عقله، فيصبح عقله خادماً لأنانيته، كذلك في السهل ينبت الزرع لا في الجبل، فإلى السهل تجري المياه منحدرةً من الجبال، فترى السهول مخضرّةً، بينما تكون الجبال (قربها أحياناً) جرداء، لأن السهل يتواضع للماء كي ينفذ إلى أعماقه.

أمّا المتكبّر الذي ينظر إلى الناس من فوق، فهو مبتلى بشخصيّةٍ "ورميّة" تعيش في داخله. ومشكلة المتكبّرين الجبّارين هي عبادة الإنسان لنفسه، وهي النرجسية. من هنا وصية عليّ(ع) التي تقول: "ولا تكونوا علماءَ جبَّارين، فيذهب باطلكم بحقّكم". فباطل الجبروت يذهب بما قد يحمله المتكبّر من حقّ. وكذلك قوله(ع): "وإنَّ من أسخف حالات الولاة، عند صالح الناس، أن يظنّ بهم حبّ الفخر، ويوضع أمرهم على الكبر (أي إذا تصرّف الولاة بما يوحي إلى النّاس أنهم يحبون الفخر، ويميلون إلى التكبّر، فذلك من أسخف حالاتهم، لذلك) قد كرهت أن يكون جال في ظنّكم أني أحبّ الإطراء واستماع الثناء، ولست بحمد الله كذلك. (فهو(ع) يشكر الله على أنه ليس من محبّي هذا الأمر). ولو كنت أحبُّ أن يقال ذلك، لتركته انحطاطاً لله سبحانه، عن تناول ما هو أحقّ به من العظمة والكبرياء (أي لو لم أكن أكره أن أطرى ويثنى عليّ، وكنت أحبّ ذلك، كما هو ديدن عامة الناس، لتركته تواضعاً أمام عظمة الله. وفي هذا تعليم لمن يميل إلى حبّ الإطراء والثناء).

وربما استحلى الناس الثناء بعد البلاء (قد يحبُّ أحدهم أن يثنى عليه بعد إنجازات حقّقها. أما أنا) فلا تثنوا عليَّ بجميل ثناء، لإخراجي نفسي إلى الله (إني تركت ذلك، فأنا مشغول بأمر آخر؛ بحقوق الناس وكيف أقوم بها، وحقوق الله وكيف أحافظ عليها) وإليكم من التقية (اتقاء العقاب)، في حقوق لم أفرغ من أدائها، وفرائض لا بدّ من إمضائها. فلا تكلّموني بما تكلّم به الجبابرة، ولا تتحفظوا مني بما يتحفظ به عند أهل البادرة (كما يخاف الناس من الحديث في حضرة أهل السلطة والسيف)، ولا تخالطوني بالمصانعة..." (بالمجاملة والمداهنة، بل استخدموا الصراحة).

يعلّم الإمام الإنسان وجوب أن يكون متواضعاً، لكن بشكل دائم، إذ يرد في دعاء كميل، أن يجعله الله تعالى في جميع الأحوال متواضعاً، فلا يجوز للإنسان أن يخرج عن حال التواضع، بل عليه أن يترك الأنانية إلى رحاب الإنسانيَّة. وليس أمر الإمام عليّ(ع) كلاماً، بل هو سلوك وممارسة، ويدلّل السّيد على ذلك برفض الإمام(ع) أن يشيّعه بعض الناس ماشين وهو راكب. فقد "خرج حرب بن شرحبيل الشبامي، وكان من وجوه قومه، يمشي معه وهو(ع) راكب. فقال: "ارجع، فإن مشي مثلك مع مثلي فتنة للوالي، ومذلّة للمؤمن". فقد كان يخاف أن يصبح ذلك سنّةً في الولاة يضخّم شخصيّتهم ويشعرهم بالفوقيَّة على الناس. كما ينقل السيّد عن نهج البلاغة، أن الإمام لقي عند مسيره إلى الشام، "دهاقين الأنبار ـ وهم زعماء الفلاحين من العجم ـ فترجّلوا له وهو راكب، واشتدّوا بين يديه (بانسحاق وتواضع ورهبة)، فقال لهم : "ما هذا الذي صنعتموه"؟ فقالوا : "خلق منَّا نعظِّم به أمراءنا"، فقال: "والله ما ينتفع بهذا أمراؤكم. وإنكم لتشقّون على أنفسكم في دنياكم، وتشقون به في آخرتكم. وما أخسر المشقّة وراءها العقاب، وأربح الدعة معها الأمان من النار!"، أي أنَّ هذا التكريم المخلّ بمبدأ المساواة هو خطيئة تؤدِّي إلى النار.

كما ساوى الإمام نفسه بأحد الخوارج؛ فقد حصل أن كان الإمام(ع) جالساً مع أصحابه، فمرّت امرأة، فرمقها القوم، فوعظهم عليّ (ع)، وصادف وجود خارجيّ، فقال: "قاتله الله كافراً ما أفقهه!". فوثب أصحاب عليّ(ع) ليقتلوه، فقال لهم الإمام: "رويداً، إنما هو سبّ بسبّ، أو عفو عن ذنب"، أي إما أن أسبّه كما سبّني، أو أعفو عنه.

هذا ولم يكن الإمام يحبّ المتزلّفين، فقد جاء شخصٌ يمدحه، وهو يعلم أنه لا يؤمن بما يقوله فيه، فردّ عليه الإمام: "أنا دون ما تقول، وفوق ما في نفسك".

وبلغ من تواضع علي أنّه كان يخرج إلى العمل من أجل كسب رزقه، لا لأنه، كما يقول السيّد، كان يمرّ في ضائقة مالية، بل ليعطي من نفسه المثل في أن موقع المسؤوليَّة لا يعفي الإنسان من العمل والكسب من كدّ يده.

هذا وقد نسب إلى عليّ(ع) قوله: "بناتنا لبنينا". لكنَّ السيّد يفنّد هذا الزعم ويقول: "إن المؤمن كفء المؤمنة في الإسلام، وقد كانت عند الإمام زين العابدين أمة فأعتقها وتزوّجها، ولم يأخذ بهذا الحديث المزعوم.

ورغم أنّ الإمام كان يتصرّف مع أصحابه كواحدٍ منهم، إلا أن هيبته كانت تملؤهم، كما يقول السيّد، نقلاً عن ضرار: إنَّ المتطلّع إلى عليّ(ع) لا يملك إلا أن يخشع أمام هذه الشخصيّة العظيمة.

جهاد علي(ع) بالسّيف

يحثّ عليّ على الجهاد، ويبيّن أهميّته بالنسبة إلى قضايا الإسلام، فيقول: "والجهاد (جعل) عزّاً للإسلام"، لأنه يمثّل التحدّي للكفر، والهزيمة للكافرين، ونحن اليوم أحوج ما نكون إلى الجهاد في مواجهة الاستكبار والصهيونيّة، والمسلمون لم يذلّوا إلا بعد ترك الجهاد، "وذلاّ لأهل الكفر والنفاق".

وانطلاقاً من هذا المبدأ، كان عليّ(ع) بطل كل المعارك أيام الرسول(ص) (من بدر، إلى أحد، إلى الخندق، إلى خيبر، إلى حنين). وكان سيفه هو الذي حمى رسول الله(ص)، وحمى الإسلام.

لقد خاض عليّ(ع) القتال، ولم يكن، كما يقول السيّد، قد تدرّب على أيّ فن من فنونه، وذلك بقوة ربّانية مشهودة. فبدأ في مكّة عندما كان يحمي الرسول(ص) من الصبيان الذين كانوا يؤذونه في أزقّة مكّة، ثم حمى الرسول(ص) بنومه في فراشه، كي يوهم من اجتمعوا من قريش لقتله أنه ما زال في منـزله. وفيما غادر الرسول(ص) في رحلة الهجرة، نام عليّ(ع) في فراش الرسول بعد أن سأله: "أوتسلم يا رسول الله؟"، وأجاب الرسول(ص) بالإيجاب. كما كلّفه الرسول(ص) بردّ الأمانات التي كانت مودعةً عنده. وبعد وصوله إلى المدينة، هاجر عليّ(ع) مع الفواطم، ليحميهنَّ في الطريق إلى المدينة، وتلك كانت بدايات جهاده شاباً.

وفي المدينة، راح علي يخوض المعارك الحربية:

ففي معركة بدر، حيث كانت إمكانات قريش تفوق إمكانات المسلمين أضعافاً في الرجال والسلاح، انتصر الإسلام، وكان لعليّ(ع) السهم الأوفر في هذا النصر، وهو، كما يقال، لم يكن قاتل قبل ذلك، فقتل نصف القتلى من المشركين، وشارك المسلمين في قتل النصف الآخر. لذلك يقال إنه سمع جبرائيل يقول بين السماء والأرض: "لا فتى إلا عليَّ، ولا سيف إلا ذو الفقار". وتنقل سيرة الرسول(ص) أنَّ عليّاً(ع)، في بدر، كان يقاتل، ثم يعود ليطمئنَّ إلى الرسول(ص).

وفي أحد، كان عليّ(ع) البطل، حتى إذا دارت الدائرة على المسلمين، وقف يدافع عن الرسول(ص)، ويحميه بنفسه. وكان الرسول(ص) كلما هجمت عليه كتيبة، يقول له: ادفع عني هذا، ادفع عني هذا. وقد نال عليّاً من الإصابات في أحد، ما أبكى فاطمة على جراحاته.

وفي معركة الأحزاب، وقف عمرو بن عبد ودّ، وكان، كما يقال، "يعدّ بألف فارس"، وراح يطلب المبارزة متهكّماً على المسلمين، قائلاً: من ذا الذي يحبّ أن يذهب إلى الجنة؟ من يشتهي الجنة، فأنا أنقله إليها؟ والنبي يحثُّ أصحابه قائلاً: من لعمرو، وقد ضمنت له على الله الجنة؟ فلا يتحرّك إلا عليّ(ع)، ويقول: أنا له. ويقول له الرَّسول(ص): اجلس يا عليّ، إنه عمرو، وعليّ(ع) في بدايات شبابه، لم تضرّسه الحروب. ثم يعيد النبي الكلام، ولا يتحرك إلا عليّ، لأن الآخرين، بالرغم من إسلامهم، أخذ منهم الرعب من عمرو كلّ مأخذ. أما عليّ(ع)، فكان ينتظر أن يسمح له رسول الله(ص). ثم قال له الرَّسول(ص): "أنت له". ودعا الرسول ربّه قائلاً: ﴿رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ﴾(الأنبياء:89). ذلك أنه إذا ذهب عليّ(ع)، فلن يكون هناك أحد يملأ فراغه.

ثم قال(ص): "برز الإيمان كلّه إلى الشرك كلّه"، فقد كان عليّ(ع) تجسيداً للإيمان، وكان عمرو تجسيداً لكلّ قوَّة الشرك.

والتقى الرَّجلان، وسأل عمرو عليّاً(ع): "من أنت"، فأخبره، فقال له: إني لا أحبّ قتلك، لأن أباك كان صديقي. فردّ عليّ(ع): "لكني أحبُّ أن أقتلك". فأعاد عمرو عليه القول: يا بن أخي، إني لأكره أن أقتل الرجل الكريم مثلك، فارجع وراءك خير لك، ما أمن ابن عمّك حين بعثك إليّ أن أختطفك برمحي هذا، فأتركك شائلاً بين السماء والأرض، لا حيّاً ولا ميتاً؟

فقال علي(ع) له: "قد علم ابن عمّي إن قتلتني دخلت الجنَّة، وأنت في النار، وإن قتلتك فأنت في النار وأنا في الجنة، . وخيَّره عليّ(ع) بين ثلاثة خيارات:

1- الإسلام، فقال: دع عنك هذا أو نحِّ عنّي هذا.

2- الرجوع بمن معه إلى مكّة، قائلا له: فإن يكن محمّد(ص) صادقاً، فأنتم أعلى به عيناً، وإن يكن كاذباً، كفتكم ذئبان العرب أمره.

 فقال: إذاً تتحدّث نساء قريش عنّي أن غلاماً خدعني، ونكصت وجبنت، وخذلت قوماً رأّسوني عليهم.

3- المبارزة، لكن راجلاً.

فحمي عمرو، وقال: ما كنت أظنّ أحداً من العرب يرومها منّي.

وقصد عمرو عليّاً، وضربه بالسيف، فاتَّقاه بالدرقة، فقطعها، ووصل السيف إلى رأس عليّ(ع)، فضربه عليّ(ع) على عاتقه، فسقط. وقيل: ضربه على رجليه، فوقع، وثار الغبار. وحاول عليّ(ع) قطع رأسه، فجلس على صدره، فتفل في وجه الإمام(ع)، فغضب الإمام(ع)، وقام عن صدره كي لا يقتله انتقاماً لنفسه، وراح يمشي حتى سكن غضبه، ثمّ عاد إليه، فقطع رأسه.

وبعد مقتل عمرو، هرب من معه، وجاءت الريح فاقتلعت الخيام، ولم يستطع أحد أن يرى صاحبه. عندها قرّر أبو سفيان، القائد العام للمشركين، الرحيل.

أمّا حديث نصرة الملائكة، فالملائكة لم يكلّفوا بقتال، بل كان حضورهم لتثبيت قلوب المؤمنين، يوم بدر ويوم الأحزاب.

لقد اجتمعت قوّة الإسلام في عليّ(ع)، في معركة الأحزاب، أو الخندق، وتجسّدت قوّة الشرك في عمرو، وكان انتصار أحدهما انتصاراً لخطّه، لذلك قال الرسول(ص)، بعد قتل عليّ(ع) عمراً: "ضربة عليّ يوم الخندق تعدل عبادة الثقلين". فلو أن عمراً انتصر على عليّ(ع)، لاندفع جيش الأحزاب إلى المدينة، ليستأصل شأفة الرسول(ص) والمسلمين. لذلك تعدل ضربة عليّ(ع) عبادة الثقلين. ومن اعترض على هذا الحديث، لم يفهم مغزاه.

وبعد الخندق، لم يغب عليّ(ع) عن معارك الإسلام التي خاضها الرسول(ص)، إلاّ غزوة تبوك، حيث خلّفه في المدينة. وشعر عليّ(ع) بالغبن، كما يقول السيّد، فقال له الرسول(ص): "أما ترضى أن تكون منّي بمنـزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبيَّ بعدي".

فكما خلّف موسى هارون(ع) في أهله، عندما ذهب لميقات ربّه، كذلك ترك الرسول(ص) عليّاً(ع) في المدينة، ليخلفه في أهله وفي المسلمين الذين بقوا في المدينة. علماً أنَّ غزوة تبوك لم يحصل فيها قتال، وهذا ما أخبر به الرسول(ص) عليّاً(ع)، وقال له: أريدك أن تبقى في المدينة لتشرف على توازن النظام فيها.

ولم يتوقّف جهاد الرسول(ص) ومعه عليّ(ع)، بل استمرّ، وكان عليّ(ع) دائماً بطل المعارك. وهذا ما عبّرت عنه الزَّهراء(ع)، في حديثها إلى المسلمين، بعد خذلانهم عليّاً(ع)، حيث تحدّثت عن دوره مع الرسول(ص)، فقالت: "وبعد أن مني ببهم الرجال (الشجعان)، وذؤبان العرب (لصوصهم وصعاليكهم)، ومردة أهل الكتاب (العتاة المتكبرين). كلَّما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله، أو نجم قرن للشيطان (كناية عن جنود الشيطان وتابعيه)، قذف أخاه في لهواتها (أرسله إليها وكأنه أدخله في أفواهها التي كانت فاغرةً)، حتى يطأ صماخها بأخمصه، ويخمد لهيبها بسيفه، مكدوداً في ذات الله، متعباً مجهداً مجتهداً في أمر الله، قريباً من رسول الله، سيِّد أولياء الله، مشمراً عن ثيابه (أي معرّضاً حياته)، ناصحاً مكدّاً كادحاً".

على أن حديث الزهراء عن عليّ(ع)، لم يكن حديثاً عنه بصفته زوجاً، بل هو، كما يقول السيّد، بصفته إماما ووليّاً.

النصر بين الكثرة والقلّة

يرى عليّ(ع)، حسبما يفهمه السيّد وينقل عنه، أن النصر على الأعداء ليس مشروطاًً بالتفوّق العددي أو المادي عليهم، بل بالإيمان بالله، والثبات والمدد الإلهي.

ففي بدر، انتصر المسلمون "انتصاراً فوق العادة" بفعل قوّة الإيمان، بالرّغم من اختلال ميزان القوّة بين قريش والمسلمين، سواء بالرجال أو بالسلاح؛ فقد كان القرشيون مدجّجين بالسلاح، وكان عددهم أضعاف عدد المسلمين الجياع العراة.

ويتحدّث عليّ(ع)، جواباً لعمر، عن عوامل نصر الإسلام، فيقول: "إن هذا الأمر لم يكن نصره ولا خذلانه بكثرة ولا بقلّة". ويأتي هذا الكلام مصداقاً لقوله تعالى: ﴿لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ﴾(التوبة/25). علماً أنَّ عدد المسلمين في حنين كان يقارب عشرة آلاف. ويتابع الإمام(ع)، في جوابه لعمر: "وهو دين الله الذي أظهره، وجنده الذي أعدّه وأمدّه، حتى بلغ ما بلغ، وطلع حيث طلع. ونحن على موعودٍ من الله، والله منجز وعده، وناصر جنده".

وإذا كانت هناك خشية على العرب، بسبب قلّتهم بالنّسبة إلى الفرس والروم، فكما يقول عليّ(ع): "فهم كثيرون بالإسلام، عزيزون بالاجتماع".

اغتيال علي(ع)

لقد اغتال أشقى النَّاس خير الناس بعد رسول الله(ص). فكان ذلك مصيبةً على الإسلام، بل على البشرية. إلا أن عليّاً(ع) لم يمت، وعاش رغم الاغتيال الماديّ الذي نفَّذه ابن ملجم، والاغتيال المعنويّ الذي تمّ على أيدي حكّام بني أمية بسبّه على منابرهم، ورغم نكران فضله قبل خلافته، إلا ما ظهر رغم الحجب. ومع ذلك، فإن عليّاً(ع) بقي حيّاً على الدهر.

فليلة السابع عشر من رمضان، كانت ليلة ارتكاب الجريمة الكبرى التي اقترفها عبد الرحمن بن ملجم، والتي أبعدت أعظم شخصية، بعد رسول الله(ص)، عن الواقع الإسلامي، في الوقت الذي كان الواقع في أمسّ الحاجة إليها.

ولم تكن الجريمة بنت ساعتها، فالمسألة تعود إلى مكيدة رفع المصاحف على الرماح التي نفّذها جيش معاوية، عندما شارف على الهزيمة، بعدما نصح عمرو بن العاص الوالي المتمرّد، معاوية، بذلك. وكشف عليّ(ع) المكيدة لجيشه، وأفهمهم أن قادة جيش الشام ليسوا أهل دين ولا قرآن، إلا أن فريقاً من جيشه هدّد بالتمرّد إن لم يستجب، وحفاظاً على الوحدة داخل الجيش، وافق عليّ(ع)، وإن كان في الموقف ضعف، على أساس أنه بتحكيم القرآن، ستكون الغلبة له، لأنه على الحقّ، وهو الخليفة الشرعيّ بكل المعايير، وأن اتهامه بدم عثمان تهمة زائفة ساقها معاوية، وراح يحرّض أهل الشام عليه، ناشراً قميص عثمان على منبر المسجد في دمشق لمدة سنة كاملة، وهو القميص الذي حمل من المدينة ملطَّخاً بالدم، حتى ضرب المثل بقميص عثمان على كلّ ذريعة واهية تستخدم لتحقيق أغراض خاصة، وكلّ شعار يرفعه بعضهم من أجل تبرير موقفه، من دون وجه حقّ.

لكنّ فريقاً من الذين كانوا أصرّوا على علي(ع) كي يقبل بالتحكيم، وبعدما وقّّع الفريقان وثيقةً بذلك، عادوا يطلبون من عليّ(ع) العودة إلى القتال. ولكنّ عليّاً(ع) أفهمهم أنه لا يجوز الحنث بالعهود. عندها انشقّوا عن الجيش، وأسّسوا فرقة "الخوارج" التي كفّرت عليّاً بسبب قبوله التحكيم، على أساس أنه تحكيم للرجال في دين الله.

في موضوع التحكيم، عيّن جيش الشام ممثّلاً لهم هو عمرو بن العاص، وسمّى عليّ(ع) عبد الله بن عباس. إلا أن القادة، الذين ضغطوا للقبول بالتحكيم، رفضوا، وأرادوا شخصاً من غير قريش، لأنَّ رئيسي الجيشين المتقاتلين من قريش. لذلك طرحوا أن يمثّلهم أبو موسى الأشعري. وأوضح الإمام لهم أنَّ أبا موسى لا يصلح، لأنه ليس من رأيه، إلا أنهم أصرّوا، فتركهم وما يريدون. لكنّ الحكمين لم يعملا بالقرآن الذي رفع على الرماح، بل طرح أبو موسى عزل عليّ(ع)، واستبعاد معاوية، لتعود الأمور إلى المسلمين. ورشّح عبد الله بن عمر بن الخطّاب. وتظاهر عمرو بن العاص بالموافقة، وأعلنا التوصّل إلى اتفاق، وقدّم عمرو بن العاص أبا موسى، بسبب كبر سنّه، ليتكلّم أوَّلاً. فخطب وقال: "إني خلعت صاحبي (عليّاً)، كما أخلع هذا الخاتم من يدي".

 وتقدّم عمرو بن العاص، وقال: "إني أثبّت صاحبي (معاوية)، كما أثبت هذا الخاتم في يدي. فتسابّا وافترقا.

عندها أعلن عليّ(ع) أن الحكمين لم يتَّفقا، لذا لا بدّ من العودة إلى القتال. وطلب من الخوارج الانضمام إليه من أجل قتال معاوية، فأجابوه: حتى تشهد على نفسك بأنك كفرت وتتوب. ورفض الإمام. واستمرّ الوضع، وتعامل عليّ(ع) مع الخوارج بصبر غير عاديّ، إلى أن راحوا يفسدون في الأرض، فأعذر إليهم، وقاتلهم، وقتل منهم مقتلةً كبيرةً، وهزمهم. وراح بعضهم يعمل للثأر، وأخذ عبد الرحمن بن ملجم على عاتقه مهمة اغتيال عليّ(ع)، ونفّذها.

حصل الاغتيال الماديّ لعليّ(ع)، والاغتيال يمكن أن يكون معنويّاً، عندما تجري محاولة تشويه سمعة شخص، أو القضاء على أفكاره ومبادئه. وهذا ما حصل مع عليّ(ع)، حيث أنكرت أفضليته بعد وفاة الرسول(ص)، ثم جرى العمل الدؤوب على إخفاء كلَّ فضائله، بل واتهامه والإساءة إليه في عهد بني أمية.

ومع ذلك، فإن عليّاً(ع) بقي حيّاً. ويوضح السيّد هذا المعنى فيقول : "إننا، أيّها الأحبَّة، لا نشعر بأن عليّاً(ع) غائب عنَّا، وإنني لأنقل إليكم تجربتي في ذلك، فلم أستطع أن أشعر، في حياتي كلها، بأن عليّاً(ع) ميّت مع الأموات، بل هو أكثر حياةً من الكثير من الأحياء، فهو يعيش معنا، لأن عقله وروحانيته وفكره لا تزال معنا".

وفي حديثه عن رسول الله(ص) وأهل البيت، يقول علي(ع): "يموت منا الميت وليس بميت". فأهل البيت عاشوا للحياة كلّها، من حيث عاشوا للإسلام كله، ولله أبداً.

وكان علي في حياته يتوقّع أن يدعى المسلمون إلى سبّه والتبرّؤ منه، فكان يقول: "أمّا السبّ فسبّوني، فإنه لي زكاة ولكم نجاة، وأمّا البراءة، فإني ولدت على الفطرة، وسبقت إلى الإيمان والهجرة"، فمن يتبرّأ منه فكأنما يتبرَّأ من الإيمان والإسلام.

ولقد سُبَّ علي(ع) طيلة عهد بني أمية، ما عدا خلافة عمر بن عبد العزيز، ولكن أين عليّ(ع)، وأين الذين سبّوه؟ عليّ(ع) الذي لم يساوم، بقي في مشرق الشمس نوراً ينير الحياة كلّها للناس. أمّا غير عليّ(ع)، فأين هو في التاريخ؟ وأين هو في الواقع؟ أين عليّ(ع) وأين معاوية؟ أين الحسين(ع) وأين يزيد؟

أهل البيت(ع) يحملون الرسالة بعد عليّ(ع)

يقول عليّ(ع): "...هكذا يموت العلم بموت حامليه، اللّهمَّ بلى، لا تخلو الأرض من قائم بحجَّة، إمّا ظاهراً مشهوراً، وإما خائفاً مغموراً، لئلا تبطل حجج الله وبيّناته".

والقائم بالحجَّة بعد عليّ(ع)، هم أهل بيت النبي(ص)، من ذريته وذرية علي(ع). فهم الأئمّة الذين يجب الاقتداء بهم، وهم صنو القرآن الذي يجب أن يبقى وإياهم في تلازم، فآيات القرآن بحاجة إلى بيان وتجسيد. "وكان النبيّ هو الّذي يجسّدها، بحيث إن الناس كانوا يستمعون الآية من فم النبيّ(ص)، فتدخل في آذانهم، وكانوا يرون الآية متجسّدة في سيرته، فتدخل في كيانهم". فكان الرسول(ص) الأسوة للناس. وبعد غياب الرسول(ص)؛ هل ينتهي الأمر ويصمت القرآن على مكنوناته؟ يقول الإمام الصّادق(ع)، كما ينقل السيّد: "إن القرآن تأويله يجري كما يجري اللّيل والنهار، وكما تجري الشمس والقمر"، فهو مستمرّ، ولا بدّ له من ترجمان، وهذا الترجمان هو شخص من العترة يكون بمثابة القرآن الناطق.

إنَّ أهل البيت هم أهل القرآن، والمؤتمنون على الإسلام وعلى الوحدة الإسلامية، إذ يقول عليّ: "وإمامتنا أمانٌ من الفرقة"، فقد أذهب الله عنهم الرجس وطهَّرهم تطهيراً، لا يرضون إلا بما يرضي الله، ولا يسخطون إلا لما يسخط الله. فهم، كما يقول عليّ(ع): "عيش العلم وموت الجهل"، فبهم يعيش العلم وتهزم الأباطيل، "هم الذين يخبركم حكمهم عن علمهم" الثابت بالحجَّة والدليل، "وظاهرهم عن باطنهم"، فباطنهم الحقّ والخير، "لا يخالفون الدين، ولا يختلفون فيه"، لأن الحقيقة، كما يقول السيّد، واحدة، فهو (القرآن) "بينهم شاهد صادق، وصامت ناطق" بما ينطقون، فحديثهم حديث الرسول(ص)، إذ يقول الإمام الصَّادق(ع): "حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدّي، وحديث جدّي حديث الحسين، وحديث الحسين حديث الحسن، وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين، وحديث أمير المؤمنين حديث رسول الله، وحديث رسول الله عن قول الله عز وجلَّ".

وإذا كان التآمر يمكن أن يخفي الحديث إلى حين، كما أخفي حديث الإمام الصّادق، إلاّ أنّه ظهر في كتب التفسير والفقه ثم فيما بعد عند الأئمة من ولده.

ولا موجب لاتخاذ أيّ كان موقفاً سلبياً من أئمّة أهل البيت، لأنهم يمثّلون الإسلام، ولا يحملون نظرةً معيّنةً اجتهاديةً إلى الإسلام، فهم ليسوا أصحاب مذهب؛ فمذهب أبي حنيفة يمثّل وجهة نظر، ولكنَّ مذهب الإمام الصادق(ع) ليس وجهة نظر يمكن أن تخطئ وتصيب، بل هو على صواب دائماً، لأنه يستقي من النبع. أمّا أئمّة المذاهب فليسوا كذلك، بل يخطئون ويصيبون، في حين أنَّ أئمّتنا معصومون، وأفئدة الناس تهوي إليهم، لأنَّ هناك معنى روحانيّاً، وسرّاً إلهيّاً (في شخصياتهم)، إضافةً إلى حركتهم في خطّ الدعوة إلى الله، ورعاية أمور الناس، والإحسان إليهم (ومحبّتهم). ولهذا فذكراهم خالدة بخلود علمهم وإحسانهم وجهادهم. لذلك يقول علي(ع): "أيّها النَّاس، خذوها من خاتم النبيّين (وعن الوحي)، أنه يموت من مات منا وليس بميت"، فإن ماتت أجسادهم، يبقون بروحانياتهم وعقولهم وتراثهم وأرواحهم الطاهرة، "ويبلى من بلي منّا وليس ببال"، بل يبقى في حياة الناس.



ثالثاً: علي(ع) في السياسة


نعرض في ما يأتي نقاش السيّد مسألة السقيفة، وطبيعة ما حصل فيها، وموقف الإمام علي(ع) منها ومن الخلافة، ثم نتناول موقف علي(ع) مما كان يحصل أيام الخلفاء، وحرصه على الوحدة الإسلامية، على النحو الآتي:

علي(ع) والخلافة

بعد وفاة الرسول(ص)، تمّ تجاهل الوصيّة والتبليغ، وعقد اجتماع في سقيفة بني ساعدة، حيث حصل خلاف بين ستة من المهاجرين وجماعة الأنصار حول مسألة الخلافة، انتهى بتولّي أبي بكر خلافة رسول الله(ص). ولم يحضر علي(ع) الاجتماع ولا أيّ من بني هاشم، خاصةِ الرسول(ص)، الذين كانوا منشغلين بتجهيز النبي(ص) ودفنه، عن التصدي لوراثته.

ونتيجة ما حصل في السقيفة، وربما كان في أساسها، هو أن نهجاً في قيادة الإسلام أبعد، ونهجاً آخر اعتمد، كما يؤكد السيّد، إذ التفّت قريش بمعظمها حول أبي بكر، وساعدتها قبائل أخرى، وسارت عجلة الحكم. وينقل السيّد كلام عليّ(ع) حول هذا الأمر ويوضحه، فيقول: "إن عليّاً يشكو إلى الله ما يلقى من قريش، فقد أثقلته في حياة النبي(ص) بحروبها، وقد أثقلته بعد رسول الله بجحودها".

يقول عليُّ(ع): "إني أستعديك على قريش ومن أعانهم، فإنهم قطعوا رحمي (فهم عشيرتي)، وصغَّروا عظيم منـزلتي (التي وفقتني إليها يا ربّ) ، وأجمعوا على منازعتي أمراً هو لي (وأنت أمرت به رسولك في آية التبليغ)، ثم قالوا: ألا إنّ في الحق أن تأخذه، وفي الحق أن تمنعه (أي قالوا إن أخذته فذاك حقّ، وإن نمنعك من أخذه، فذاك أيضاً حقّ). فاصبر مغموماً، أو مت متأسّفاً (لأننا لا نعطيك هذا الحق). فنظرت، فإذا ليس لي رافد ولا ذابّ ولا مساعد إلا أهل بيتي، فضننت بهم عن المنيّة (لم أرد أن أعرّضهم جميعاً للموت)، فأغضيت على القذى (سكتُّ على ما يشبه وقوع أي شيء في العين ليوجعها)، وجرعت ريقي على الشجا (الهم والحزن)، وصبرت من كظم الغيظ على أمرّ من العلقم، وآلم للقلب من وخز الشفار" (لا بسبب الكرسي بل بسبب القضية ، ذلك أنه كان المؤهل لإكمال الخط الرسالي الذي بدأه الرسول(ص)، لكنهم أبرموا الأمر من دونه. ولنا أن نتساءل: لماذا لم يستشيروا عليّاً(ع)، وهو من هو سابقةً وصحبةً وقرابةً، على فرض أنه ليس معنيّاً بالوصية.

وحول ما يقال عن شورى في السقيفة، يسأل السيّد: هل ما جرى في السقيفة يمثّل الشورى؟ ولو أن أحداً في كل العالم المعاصر، حاول أن يتحرّك سياسياً بطريقة الشورى، وقد طرح الشخص المؤهل لقيادة الأمَّة بهذه الطريقة التي جرت في السقيفة، فهل يوافق الآخرون على أن ذلك شورى حقيقيّة؟

إن السقيفة أحدثت خلافات عميقة بين المسلمين، وأدّت في المحصّلة إلى بروز خطين في المنهج الإسلامي، وهما ما سمّاهما بعضهم "مدرسة الإمامة" و"مدرسة الخلافة".

"إن في استبعاد علي(ع)، وقبله التمرّد على الرسول(ص)، هو سرّ ما يعيشه الإسلام من مشاكل ثقافية وفكرية"، وهو، حسبما يرى السيّد أيضاً، "سرّ ما تحرّك به الواقع الإسلامي الذي تحوّل إلى ملك عضوض. وهذا ما نعيشه اليوم أيضاً".

وإذا كان هناك من يقول: كيف يتخلّى عليّ(ع) عن تكليف كلَّفه الله به؟ فان السيّد يردّ بأن عليّاً لم يلغِ حقّه، أو يتنازل عنه، بل جمّد المطالبة به بسبب الظروف.

ولم يكن عليّ(ع) ينظر إلى الخلافة لكسب شخصيّ، بل لإتمام الرسالة التي كان يراها مسؤوليةً باهظة الأعباء والتكاليف، وأنه يطالب بها لإحقاق الحقوق. وينقل السيّد قصة خصف عليّ(ع) نعله، فيقول: دخل عليه ابن عباس، وهو يخصف نعله، فقال له ابن عباس: أنبذها عنك واتركها لمن يصلحها لك، فأنت خليفة المسلمين، وأمير المؤمنين، ولا يليق بك أن تخصف نعلك. فقال له أمير المؤمنين: "ما قيمة هذه النعل؟" فقال: لا قيمة لها. فقال(ع): "والله، لهي أحبّ إلي من إمرتكم، إلا أن أقيم حقاً أو أدفع باطلاً".

فلقد نهض بالخلافة لأنها واجب، ولأنّ النهوض بها أصبح إلزاميّاً، بسبب توفر النصرة، وإلا فهي لا قيمة لها، فقد قال في خطبته الشقشقية: "لولا حضور الحاضر، وقيام الحجّة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء، أن لا يقارّوا (يهدأو) على كظَّة (تخمة) ظالم، ولا سغب (جوع) مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها (كما يرخى الحبل للدابة، فتذهب حيث تريد)، ولسقيت آخرها بكأس أولها (لتعاملت معها اليوم عندما آلت إلي، كما تعاملت معها يوم انتزعها آخرون)، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنـز".

إذا كان عليّ(ع) يتحرّك ليصلح أمر الناس، ويركّز الإسلام في مواقعه، فلقد انطلق ضدّه الناكثون (وهم طلحة والزبير، اللذان بايعا في المدينة، ثم تحرّكا إلى البصرة، في حرب ضدّ الخليفة الشرعي)، والقاسطون (جند الشام بقيادة معاوية الذين تنكّروا للحقّ وواجهوه)، والمارقون (الذين تجاوزوا الهدف من الحقّ إلى باطل جديد، وهم الخوارج).

وفي كل هذا، لم يكن الحكم عند عليّ(ع) مسألة شهوة إذاً، بل كان ينطلق من عمق الرسالة. وقد شرح موقفه مراراً بالقول: "اللَّهمّ، إنك تعلم أنه لم يكن الذي كان منَّا منافسةً في سلطان، ولا التماس شيء من فضول الحطام، ولكن لنردّ المعالم من دينك، ونظهر الإصلاح في بلادك، فيأمن المظلومون من عبادك، وتقام المعطَّلة من حدودك". وهذا ما سوف يطرحه الحسين(ع) يوم تحرّكه إلى الكوفة، ثائراً ضدّ الحكم الأمويّ. إنه الخطّ والبرنامج وليس المنصب، إنه تقويم الاعوجاج.

ويصرّ بعضهم على رؤية تناقض بين سعي عليّ(ع) للخلافة، وزهده فيها. ومرّةً أخرى يجيب السيّد: إن السلطة بالنسبة إلى عليّ(ع)، هي كالنعل البالية، عندما تكون ذاتاً (أي عندما تطلب لذاتها)، وهي كالقطب من الرحى، عندما تكون حقاً (أي لإحقاق الحق). على أنَّ دور عليّ(ع) لم يتوقف على الخلافة، بل كان "أعظم دور"، فهو يرى نفسه مسؤولاً عن الإسلام، سواء كان هو على رأس المسؤولية، أو لم يكن. فهو أمير المؤمنين في كلّ حال، والخلافة بالنسبة إليه ليست حكماً يتطلب الإدارة، ولكنها رسالة تتطلب العمق والامتداد، بما لم تسمح به ظروف الرسول(ص). لقد تحمّل عليّ(ع) مسؤولية القضية بسيفه دفاعاً عن الإسلام، وبعقله دفاعاً عن الحقّ، وبحركته في الخط الذي ينطلق منه واليه.



إيجابية علي(ع) رغم سلب حقّه

ورغم أن عليّاً(ع) سلب حقّه في الخلافة، فقد أغمد سيفه ولم يقاتل من أجل ذلك، وخصوصاً أنه فقد النصرة، إذ رأى المسلمين تهافتوا على أبي بكر يبايعونه، فامتنع عن المبايعة، واستمرّ على موقفه، إلى أن راحت الردّة تهدّد الإسلام نفسه، فعندها تحرّك للدفاع عن الإسلام. ويقول الإمام(ع) في هذا، على ما ينقل السيّد عن رسالته مع مالك الأشتر إلى أهل مصر: "فما راعني إلا انثيال الناس على فلان (أبي بكر) يبايعونه، فامسكت يدي (لم أبايع)، حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام، يدعون إلى محق دين محمّد(ص)، فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله، أن أرى فيه ثلماً أو هدماً، تكون المصيبة به عليَّ أعظم من فوت ولايتكم... فنهضت في تلك الأحداث، حتى زاح الباطل وزهق، واطمأنَّ الدين وتنهنه".

وهنا، قد يرى بعضهم أن الأغلبية لم تكن مع عليّ(ع)، بل إنّها بايعت غيره، فهذا ال"غير" هو الأحقّ. على هذا الذي يظنّ أن الحقّ يكون مع الكثرة في مواجهة القلّة، يعلّق عليّ(ع)، حسبما يورد السيّد: "يا هذا، إنك نظرت تحتك (إلى الناس)، ولم تنظر فوقك (إلى الله) فحرت".

من كل هذا، يتبيّن أنّ عليّاً(ع) كان الحريص على الإسلام والمسلمين، إذا كانت هذه قضيته الأولى والأخيرة التي تهون أمامها كل تضحية.

ويوم الشورى التي أقامها عمر بعد طعنه، من أجل خلافته، ورغم أن الإمام كان يعرف أن من وضع معهم لا يدانونه، وحتى لا يتّهم بأنه أخرج نفسه، في جو كان بدأت الأجيال الجديدة تجهل، إلى حدّ ما، جهاده وسابقته، نتيجةً للتعتيم على دوره، بحيث أصبح يعيش وكأنه وحيد، لهذا فقد قبل بها، رغم تقويمه السلبي لها. فهو يعلّق عليها بقوله: "فيا لله وللشّورى؟ متى اعترض الريب فيّ مع الأوَّل منهم، حتى صرت أقرن إلى هذه النظائر، لكنني أسففت إذ أسفّوا، وطرت إذ طاروا" (أي كأنه طائر مع طيور، يدنو من الأرض عندما تدنو، ويرتفع عندما ترتفع).

وفي خطبته الشقشقية، وهذا ما يردّده السيّد، يؤكّد عليّ(ع) حقّه، فيقول: "لقد تقمّصها (أي لبسها كالقميص) فلان (أبو بكر)، وإنه ليعلم أنَّ محلّي منها محلّ القطب من الرحى، ينحدر عني السيل، ولا يرقى إليَّ الطير..."، أي أني واحدها، لأنَّ للرحى قطباً واحداً تدور حوله، فالسيل ينحدر دونه، والطير لم يبلغ ذراه، لأنه القمة التي لا يقترب منها أحد.

لكنه عاش التجربة الصعبة كأقسى ما تكون، ولم يكن يبحث عن نفسه فيما كان يريده من الولاية، ولكن كان كلّ همّه الإسلام الذي كان يراه يضيع وينحرف، وهو الذي يشعر بالمسؤولية عن الدين، تماماً كما كان يشعر الرسول(ص)، ولكنه ليس بنبي. وانفتح(ع)، كما يقول السيّد، على الذين أبعدوه، يمحضهم النصيحة والمشورة، وكانت كلمته الخالدة: "لأسلمنّ ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جورٌ إلا عليَّ خاصة".

وهكذا، فلم يتّخذ موقفاً سلبياً، بل كان الملاذ في القضايا المستعصية على الآخرين، حتى قال فيه عمر بن الخطاب، الخليفة الثاني، كما ينقل السيّد: "لولا علي لهلك عمر"، و"قضية ولا أبا حسن لها".

فعندما أشكلت على الخليفة الثاني الأمور، بعد أن أصبح موقف الجيش، في بلاد فارس، في وضع حرج، وأشار عليه بعضهم أن يذهب بنفسه ليعالج الوضع، نصحه عليّ(ع) قائلاً: "ومكان القيّم بالأمر (يعني الخليفة) مكان النظام (الخيط) من الخرز (يجمعه ويضمّه)، فإن انقطع النظام، تفرَّق وذهب... فإنك إن شخصت من هذه الأرض، انتقضت عليك العرب من أطرافها وأقطارها".

لقد كان عليّ(ع) يعدُّ نفسه أمير المؤمنين، سواء كان خليفةً فعلاً أو لم يكن، فنصح كلّ الخلفاء الذين تقدموه. وينقل السيّد أن عليّاً ": دافع عن عثمان، وأرسل ولديه لحمايته".

كلّ هذه التضحية ونكران الذات والخدمة للإسلام والمسلمين، تكشف، بما لا يقبل الشكّ، أن عليّاً(ع) كان الرسول من دون رسالة. فالرسالة بالنسبة إليه، تأتي قبل الإمارة.

لقد كان هاجس عليّ(ع) إحقاق الحقّ، وهزيمة الباطل، لا الانتقام. وهذا ما كان يوصي به ابن عباس، إذ يقول له: "لا يكن أفضل ما نلت في نفسك من دنياك، بلوغ لذّة أو شفاء غيظ، ولكن انطفاء باطل أو إحياء حقّ".

عليّ(ع) والوحدة الإسلامية

كان علي(ع) الحريص على الإسلام، حريصاً على الوحدة الإسلامية، كما يؤكّد السيّد، لذلك لم يعتكف في عهود الخلفاء الذين سبقوه، وبعد تولّيه الخلافة، راح يعمل على جمع كلمة المسلمين بالحوار، حتى إذا لم ينفع ذلك، وبعدما حصل ما يهدّد وحدة المسلمين، اضطرّ إلى قتال رؤوس الفرقة والفتنة.

لقد أصرّ عليٌّ(ع)، كما يؤكد السيّد، على الوحدة الإسلامية في كل خطواته على مدى الخمس والعشرين سنةً، أعطى فيها كل فكره وكل طاقته ضدَّ المرتدّين... خرج علي(ع) يرابط مع المقاتلين دفاعاً عن المدينة، وكان يعلّم بسلوكه أن "من أصبح ولم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم". فاللامبالاة هي سرّ الهزائم.

لقد كان عليّ(ع) يحسّ بالمسؤولية تلك، في خلافته وقبل خلافته، وكان أسلوبه الأساسي هو الحوار؛ الحوار الحر دون إكراه أو تحديد. ولم يمنع الناس من نقده، بل كان يحضّهم على ذلك. لقد كان، كما يقول السيّد "قوياً وشديداً وحاسماً، ولكنه كان يؤمن بمنطق الحوار".

فقد حاور طلحة والزبير، عندما طلبا تمييزهما في العطاء عن سائر المسلمين، كما كان الأمر في عهد عمر بن الخطاب، الذي قسّم المسلمين طبقات في العطاء.

فردّ الإمام، فيما ينقل السيّد: "وأما ما ذكرتما من أمر الأسوة (المساواة في العطاء)، فإن ذلك أمر لم أحكم أنا فيه برأيي، ولا وليته هوى مني، بل وجدت، أنا وأنتما، ما جاء به رسول الله(ص) قد فرغ منه ، فلم أحتج إليكما فيما فرغ الله من قسمه، وأمضى فيه حكمه".

وحول إهماله، كما شكوا، استشارتهما، ينقل السيّد ردّ عليّ(ع)، حيث يقول: "والله ما كانت لي في الخلافة رغبة، ولا في الولاية إربة، ولكنكم دعوتموني إليها، وحملتموني عليها، فلما أفضت إلي، نظرت إلى كتاب الله، وما وضع لنا وأمرنا بالحكم به فاتّبعته، وما استنّ النبي(ص) فاقتديته، فلم أحتج في ذلك إلى رأيكما ولا رأي غيركما، ولا وقع حكم جهلته فأستشيركما وإخواني المسلمين. ولو كان ذلك، لم أرغب عنكما، ولا عن غيركما...".

ومع معاوية، لم يدخل الإمام الحرب، إلا بعد تمرّد معاوية، ووقوفه ضد الخليفة الشرعي الذي بايعه المهاجرون والأنصار، وبعد مراسلات وافية ووفود متعددة.

أمّا الخوارج، فلم يتعرّض لهم بسوء، بل كان يتركهم يؤمّون المساجد، ويحصلون على عطائهم، إلى أن أفسدوا في الأرض. وكان حاورهم، وكلّف ابن عباس بمحاورتهم، ولمّا أعيت الحيلة، قاتلهم، "ليعيد النظام إلى نصابه، بعد أن تحولوا إلى قطّاع طرق".

لقد صبر الإمام إذ اتهموه بالكفر، على أساس أنه كلّف من يمثّله في التحكيم، وقالوا له: "حكّمت الرجال في دين الله"، و"لا حكم إلاَّ لله". لكنه ناقشهم وضرب لهم الأمثلة من القرآن والسنّة على جواز تحكيم الرجال، وقال كلمته التي ذهبت مثلاً في موضوع طرحهم ألاّ حكم إلاّ لله، حيث قال : "كلمة حقّ يراد بها باطل".

لقد رفعوا شعاراً لم يفهموه، وتمسّكوا به بسطحية، فيما كانت صلاتهم تحقر أمامها صلاة الآخرين، فكانت على جباههم كثفنات البعير، إلا أن المشكلة في العقول المغلقة.

قاتلهم عليّ(ع)، بعد أن أعذر إليهم، وهزمهم، إلا أنهم في النهاية اغتالوه، بمؤامرة نفّذها عبد الرحمن بن ملجم.

لقد كان عليّ(ع) يشجّع على الحوار، إلا أنه كان يكره السباب، فعندما سمع جماعةً من جنده يسبّون أهل الشام، خطب فيهم قائلاً: "إني أكره لكم أن تكونوا سبّابين، ولكنّكم لو وصفتم أعمالهم، وذكرتم حالهم، كان أصوب في القول، وأبلغ في العذر". ثم يشجّعهم على نشدان الوحدة الإسلامية، فيقول: "وقلتم مكان سبّكم إياهم: اللّهمّ احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالتهم، حتى يعرف الحقّ من جهله، ويرعوي عن الغيّ والعدوان من لهج به".

في هذه المسألة، يحضّنا السيّد على أن نتعلّم من عليّ(ع)، لنؤسّس لوحدتنا الإسلامية ونرسيها ونبنيها بالحوار والتفاهم: "علينا أن نتعلّم من عليّ سعة الأفق، فنفكّر في الإسلام، برحابة الصدر واستقامة الخط، لأن عليّاً علّمنا ذلك، قبل خلافته وبعدها".

ويحذّرنا علي من النفاق، لتكون الوحدة وحدة الدين، فيقول، كما ينقل السيّد: "فإياكم والتلوّن في دين الله" (والتلوّن نفاق، بحيث يظهر المرء شيئاً ويبطن غيره، والنفاق انحراف عن الحقّ وعن إنسانية الإنسان. فعليّ(ع) يدعو إلى التوحّد في دين الله، والاجتماع عليه، فما يجمعه الله بينكم من خلال دينه، لا يفرقكم عنه أحد "و﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾(الحجرات:10) إخوة في الإيمان، لا في النسب. فأخوّة النسب لحم ودم، أمّا أخوّة الإيمان، فتنطلق من فكر ينفتح على الله، ومن خطّ يتحرّك في طريق الله، ومن شرع يجمع الناس على حكم الله. فعلينا أن نلتقي على أخوّة الإيمان وأخوّة الإسلام، حتى لو اختلفنا في بعض التفاصيل، فعندما يجمعنا الله على كلمته، فإن كل تفاصيل الكلمات لا يمكن أن تفرقنا".

إن الوحدة الإسلامية، وحدة تحافظ على الخصوصية، وتواجه الخطر المحدق بالجميع. وهي لا تعني أن يكون السنيّ شيعيّاً، أو أن يكون الشيعي سنيّاً، بل ليبقَ كل على مذهبه، ونقيم الحوار فيما بيننا، فنكون مع المذهبيّة الفكريّة والثقافيّة، لا طائفيّة التعصّب التي تهدم الهيكل فوق رؤوس الجميع، ولنواجه العدوّ معاً، ذلك أن الاستكبار لا يميّز بين سنّيّ وشيعيّ، والكفر العالمي قد أعلن الحرب على الإسلام كلّه؛ فعلى الإسلام كلّه أن يبرز إلى الكفر كلّه.

إن الحوار ضرورة، ويجب أن يجري بصدقٍ وإخلاص، فلا يدعو البعض إلى وحدة المذاهب الإسلامية، بينما يطعنون بالملتزمين بخطِّ أهل البيت(ع).

وإذا كان بعضهم يدعون إلى الحوار بين المسلمين والمسيحيين، أو بينهم وبين الملحدين، أفليس حريّاً بهم أن يدعوا قبل ذلك، إلى الحوار الإسلامي ـ الإسلامي؟! إن هذا هو التخلّف الذي لا يريده أمير المؤمنين القائل: "لأسلمنّ ما سلمت أمور المسلمين، ولم يكن فيها جورٌ إلا عليّ خاصة". فلنعمل لتسلم أمور المسلمين، ولو ظننّا أن الغبن قد يلحق بنا.

 السياسة والحقّ

كان عليّ(ع) دائماً مع الحقّ، كما وصفه رسول الله(ص)، ولم يحد عن الحق في السياسة قيد أنملة، حتى في أقسى الظروف، فالسياسة في الإسلام دين والدين سياسة، كما يقول السيّد، الذي يضيف: "إن عظمة السياسة الإسلاميَّة تتجلّى في انطلاقها من خلال مفاهيم الإسلام الحقيقية القرآنية، وهذا ما رسّخه الرسول(ص)، وعندما بايع المسلمون عليّاً، ومارس الحكم، فإن حكمه كان يمثّل الحكم الذي يريده رسول الله(ص؛ ليقف حيث وقف رسول الله(ص)، وليتحرّك من خلال شريعة الله".

وانطلاقاً من موقف عليّ(ع) هذا، أوصى الحسن والحسين(ع) بأن يكونا "للظالم خصماً وللمظلوم عوناً". ومن وحي وصايا علي(ع) في طاعة الله وحثّه على الخير، يوصي السيّد الناس بقوله: " اتقوا الله تعالى، وراقبوه في أنفسكم وفي كل ما تتحمَّلون مسؤوليته، وفي كل ما تعيشونه في علاقاتكم بالناس والحياة. وتقوى الله هي أهم الضرورات للسياسة. ومن تقوى الله أن تواجهوا مسؤولياتكم في الحياة، وأن تتابعوا مسيرة الإسلام... وأن تحملوا هموم المسلمين، لأن من لم يهتمّ بأمور المسلمين، فليس بمسلم".

وفي حكمه، كان عليّ(ع) يمثّل العدل بأسمى معانيه، لأنه رأى في العدل، كما يقول السيّد، "رسالة الله إلى الناس". فعلى الإنسان أن يعدل مع نفسه، فإنه يفكّر من خلال ذلك أن يعدل مع الناس. واتباع القرآن كفيل بكل ذلك؛ ففي وصفه الإنسان الرسالي، يقول عليّ(ع): "قد أمكن الكتاب من زمامه"، فهو يقود حركته في الحياة، وانطلاقته فيها، كما يأمره القرآن الكريم، "فهو قائده وإمامه"، يستنير به، ويستنطقه في كل ما يعرض له.

 إن عليّاً(ع) كان يريد للناس الإسلام الخالص الذي لا يشوبه شيء من الشرك، الإسلام الحقّ الذي لا يدانيه جور. من هنا كانت معركته الكبرى مع الباطل، "لقد واجه الباطل في الكفر، فوقف ضد الكفر، وحارب كل الكافرين، وواجه علي(ع) الباطل في داخل المسلمين. وكانت مشكلته، بعد الرسول(ص)، أنه كان يرى الإسلام يضيع وينحرف، فعلى الرّغم من أنّه كان يمتدّ بين الشّعوب، إلاّ أنّه كان يبحث عن امتداد الإسلام في وعي الإنسان في العمق".

إن عليّاً(ع) كان يرى أنه حتى الذين حملوا الكتاب، تركوه وجعلوه وراء ظهورهم: "فقد نبذ الكتاب حملته"، عندما أغرتهم الشهوات التي لا يقرّها الكتاب، كما يقول السيّد، وعندما غرقوا في الامتيازات، حتى إن بعض من أصبحوا خلفاء، وصل بهم الأمر إلى الاستهانة بالقرآن وتمزيقه. ومنهم من راح يخضع القرآن لرأيه، فيفسّره (أو يفسَّر له) بما يخدم مصالحه، فبدّلت بالحسنة السيئة، وأصبح أغلب الناس في غير خط عليّ(ع). وبعد أن كان النفاق كامناً أيام رسول الله(ص)، برز غبّ وفاته.

وهذا ما لاحظته الزهراء(ع)، فراحت توبّخ أصحابه. فبعد أن بيّنت جهاد عليّ(ع) وسابقته، خاطبتهم بقولها: إنه كان يعرّض نفسه للموت "وأنتم في رفاهية من العيش وادعون فاكهون آمنون، تتربصون بنا الدوائر (تنتظرون الفرص)، وتتوكّفون الأخبار (تتوقّعونها)، وتنكصون عند النـزال، وتفرّون عند القتال. فلمّا اختار الله لنبيّه دار أنبيائه ومأوى أصفيائه، ظهر فيكم حسكة النفاق (أي عداوته)، وسمل جلباب الدين (اهترأ)، ونطق كاظم الغاوين (الذي كان ساكناً من الغواة)، ونبغ خامل الأقلين (الإنسان الذي كان لا قيمة له)، وهدر فينق المبطلين (الفينق من الإبل الذي يركب ولا يهان، أي الأشخاص الكبار في أهلهم الذين كانوا يعادون الدّين، فقد انطلق صوتهم اليوم)، فخطر في عرصاتكم (في ساحاتكم)، وأطلع الشيطان رأسه من مغرزه هاتفاً بكم، فألفاكم (وجدكم) لدعوته مستجيبين، وللغرّة (الاغترار) فيه ملاحظين، ثم استنهضكم، فوجدكم خفافاً (تخفّون معه)، وأحمشكم فألفاكم غضاباً (أي أغضبكم، فتحركتم بانفعالاتكم كما يريد). فوسمتم غير إبلكم، ووردتم غير مشربكم (أي سرتم في غير الطريق الذي أراده الله لكم، فانتزعتم الخلافة من صاحبها الشرعي). هذا والعهد قريب (فلم يمض على وفاة رسول الله(ص) إلا أيام)، والكلم رحيب (والجرح كبير)، والجرح لما يندمل (بفقد رسول الله(ص)، والرّسول لمّا يقبر، ابتداراً زعمتم خوف الفتنة (بادرتم قبل دفن الرسول(ص). فلماذا استعجلتم؟). ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين. فهيهات منكم (كم ابتعدتم)، وكيف بكم، وأنّى تؤفكون (تصرفون عن الحق)، وكتاب الله بين أظهركم، وأموره ظاهرة، وأحكامه زاهرة (بيّنة مشرقة)، وأعلامه باهرة، وزواجره لائحة، وأوامره واضحة. قد خلّفتموه وراء ظهوركم، أرغبةً عنه تريدون، أم بغيره تحكمون، بئس للظالمين بدلاً!".

إن الناس قد حليت الدنيا في أعينهم، فمالوا عن الحق الذي عرفوا، فأصبحت القاعدة مهتزّةً، بعد أن أثَّرت رواسب الجاهلية تأثيرها، حتى لكانوا يتذرّعون، في تخاذلهم، بالحرّ والبرد، لذلك عطّلوا خطة عليّ(ع)، وأجهضوا إصلاحه. وكان يتذمّر منهم قائلاً لهم ": أريد أن أداوي بكم وأنتم دائي".

لقد شوّهت السياسة الناس وقد كان همّ عليّ(ع) تربية الناس وتعميق وعيهم للقضايا الكبرى، لا استمرار تشويههم واستغلالهم لمشاريع خاصّة. لقد كان يعمل كي يؤكّد الحقّ، حتى يبيّن للناس الحكم الإسلامي، فكان يؤصّل القيم الإسلامية في تجربته، فلم يكن يساير الكبار في ظلمهم ضد الصغار، وكان يقول: "الذليل عندي عزيز حتى آخذ الحقّ له (من ظالمه)، والقويّ عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه"، كما كان يقول: "وأيم الله، لأنصفنّ المظلوم من ظالمه، ولأقودنّ الظالم بخزامته (الخزامة حلقة توضع في أنف البعير لشدّه بها)، حتى أورده منهل الحقّ ولو كان كارهاً".

ويرى السيد أن موقف عليّ(ع) من الآخرين مرتبط بالحقّ. فليس مهمّاً من يكون قوياً أو يكون ضعيفاً، بل من هو صاحب الحقّ ليقف معه، ومن عليه الحقّ ليقف ضدّه. ذلك أن قضايا الحقّ والباطل ليست متعلقّةً بمراكز الأشخاص، بل هي متعلّقة بمواقع الحقّ في حركة هؤلاء الأشخاص ومواقعهم.

ولهذا، كانت مشاكل علي(ع)؛ فهو لم يكن حاكماً تقليدياً، بل كان حاكماً "رسالياً"، لا يساير الناس في أهوائهم وشهواتهم. وكان يقول للناس: "ليس أمري وأمركم واحداً، إنني أريدكم لله، وأنتم تريدونني لأنفسكم". كان يريد أن يوجّه الناس باتجاه الله لا باتجاه الدنيا، وهم كانوا يريدونه ليحقّقوا منافعهم، بعيداً عن مقتضيات رسالة الدين، وكانت نفوسهم مختلفةً ومواقفهم مشتتةً. لذلك، سهل على أعداء الدين أن يتطاولوا ويناصبوا الحقّ أهله. وقد وعظهم عليّ(ع) وشخَّص حالهم فقال: "أيّها النّاس، لو لم تتخاذلوا عن نصر الحق، ولم تهنوا عن توهين الباطل، لم يطمع فيكم من ليس مثلكم، ولم يقوَ من قوي عليكم، لكنكم تهتم متاه بني إسرائيل. ولعمري ليضعفنّ لكم التيه من بعدي أضعافاً، بما خلّفتم الحقّ وراء ظهوركم، وقطعتم الأدنى، ووصلتم الأبعد".

ويتساءل السيّد: "أليست هذه صورتنا الآن، عندما نتحرّك لنطلب النصر من المستكبرين والكافرين والظالمين؟ أليس هناك من يصفِّق لأميركا لأنها، في ظنّه، تدافع عن المسلمين؟

إن هؤلاء المنحرفين، الواقعين في التيه، تستغلّهم الغوغائية السياسية والفكرية، ذلك الأسلوب الذي يحسّ أصحابه أن الناس أصحاب ذهنيات إسلامية، فيستميلونهم بطرح مفاهيم ذات مظهر إسلامي، ولا يستطيع الكثيرون أن يكشفوا التلاعب"، ذلك أن الناس في نظر علي(ع)، كما يؤكد السيّد، ليسوا متساوين في الإمكانات العقلية، من هنا يقول علي(ع): "الناس ثلاثة؛ فعالم ربانيّ (يأخذ الإسلام من مصادره الأصيلة، فيستوثق من المصدر ويدقّق)، ومتعلّم علي سبيل نجاة (يتعلّم لينجو من الهلاك، فيستفسر عن الطريق المستقيم ليتبعه)، وهمج رعاع أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم (لجهلهم وعدم سعيهم للتعلّم ومعرفة الحق)، ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق" (من القواعد التي يعتمد عليها لمعرفة الحقّ من الباطل).

ومن أهم المصائب التي ابتلي بها عليّ(ع) في هذا الصدد، محنة الخوارج، الذين راحوا يتأوّلون بعض آيات القرآن بما يخدم أفكارهم الضيّقة، لذلك أوصى(ع) ابن عباس بإعادتهم إلى سنّة الرسول(ص)، ومناقشتهم على أساسها، لأن "القرآن حماّلٌ ذو وجوه، تقول ويقولون، ولكن حاججهم بالسنة، فإنهم لن يجدوا عنها محيصاً". فالقرآن، كما يرى السيّد، يطرح الخطوط العريضة التي يستطيعون تفسيرها على هواهم، أمّا السنّة، وهي في بعضها تطبيق للقرآن، فلا يمكن حملها على المعاني المختلفة، لأنها ليست حمّالة أوجه. لكنَّ ابن عباس ناقشهم بالقرآن، فلم يصل إلى نتيجة.

وقد رأينا أنهم كفّروا عليّاً، وكانوا يقولون: "إن الحكم إلا لله"، وقد ردّ الإمام عليهم: إنَّ الحكم حكم الله، ولكن الإمرة للبشر الذين عليهم أن يطبّقوا حكم الله. وهكذا، فلا يكفي أن تسمع كلمة الحقّ لتزحف إليها، ولكن عليك أن تعرف ما هي الخلفية التي تختبئ وراء الصوت، إلا أنّ الكثيرين ساروا وراء من أطلقوا الشعار، دون أن يتفهمّوه على حقيقته.

إنها، كما يقول السيّد، مصيبة العقول المغلقة، والتي لا نزال نعاني منها اليوم على أيدي من يكفّرون المسلمين، تحرّكهم الاستخبارات الدولية التي لا تفتأ تحوك المؤتمرات ضدّ الإسلام والمسلمين، وتستغلّ من يتصرّفون اليوم على هذا النحو. لقد أحدث أصحاب هذه الذهنية الفوضى في معسكر الإمام(ع) في صفّين، "بحيث أصبح الاستمرار في الحرب صعباً جداً، الأمر الذي اضطر الإمام(ع) إلى القبول بالتحكيم، خوف الفتنة، فوافق على الاحتكام لكتاب الله، وهو يعلم أنها مكيدة. فحاول الاحتياط لها بانتداب ابن عباس، لأنه القادر على كشف ألاعيب عمرو بن العاص، لكن الضاغطين من أجل فرض القبول بالتحكيم رفضوا، وفرضوا أبا موسى الأشعري مندوباً للإمام. فخدعه عمرو. على أن الحكمين لم يحكما بكتاب الله، فكان علي(ع) في حلّ من حكمهما.

باختصار، لقد كان عليّ مع الحقّ، لا يتزحزح عنه قيد شعرة، فلم يترك له الحقّ من صديق، كما يقول، من هنا كان شعوره بالوحدة والغربة بعد الزهراء(ع). فكان "يشعر بأنّه وحده، يفكّر وحده، ويواجه التحدّيات وحده"، رغم أن محلّه من القضيّة محلّ القطب من الرحى.

إن في كلّ هذا عبراً للمسلمين اليوم، يجب أن تدفع بهم إلى اليقظة، وإلى التنبّه من الاستغلال علي أيدي من يخطّطون للاستيلاء على بلادنا وخيراتنا، بعد محو ديننا. فلنواجه الانحراف باستمرار، فلا نتخلى عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، على أساس أن الناس تخلّوا عن هذا الواجب.

الغدر

كان الإمام علي(ع) عارفاً بشؤون السياسة، ولا سيّما بعد تلك التجربة الطويلة مع الرسول(ص)، وبعده طوال خمس وعشرين سنةً، إلاّ أنّه كان يؤمن بالحقّ والصدق في كل أقواله وأعماله، من هنا كان عدم استخدام ذكائه للغدر بالناس، ولمجانبة الحقّ.

لقد كان عليّ(ع) يسعى ويعمل لتعميق الرسالة الإسلامية في النفوس، ولا يريد الحكم بأي ثمن؛ ألم يرفض أن يبايع على سيرة الشيخين (أبي بكر وعمر)؟ ولو أراد الوصول بأيّ وسيلة، لربّما كان وصل. إلا أنه كان يقول: "قد يرى الحوّل القلّب (الذين يقلّبون الأمور على وجوهها المختلفة) وجه الحيلة (الوسيلة النافعة)، ودونه مانع من أمر الله ونهيه، فيدعها رأي عين بعد القدرة عليها ، وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدين". إذا، هناك حدود وضعها الله تعالى، فلا يجوز العمل بلا مبالاة بها. فبعض الوسائل يمنع الله اللجوء إليها، فلا يجوز استخدامها، والغاية لا تبرر الوسيلة.

إن الفرق بينه وبين الآخرين، كما يقول السيّد، أنهم إذا رأوا الحيلة، أخذوها بقطع النظر عن أية نتائج سلبية أو إيجابية إزاء تكليفهم والتزامهم. وهكذا فإنهم يلجؤون إلى كلّ أسلوب، بما فيه الغدر، والغادر لا يمكن أن يكون صادقاً. فإذا كنت صادقاً، لا بدَّ من أن تكون وفيّاً، ذلك أن عليّاً(ع) يقول: "الوفاء توأم الصدق". فالأمر حقّ وباطل، والصدق من الحقّ، والغدر من الباطل، والباطل في النهاية لا يجلب إلا الضرر، إذ يقول علي(ع): "ألا وإنّ من لا ينفعه الحقّ يضرّه الباطل". فمن يظنّ أنه بالباطل يتخلّص من مشكلة، أو يحرز مصلحةً له، فهو مخدوع. فأنت إذا تركت الحقّ إلى الباطل، "فإنك سوف تعيش الضرر في الباطل، لأنه لا نفع (منه) في العمق، وإن خيّل إليك أن هناك نفعاً فهو في السطح منه. والغدر لا قيمة له عند الله، بل هو ضدّ القيمة".

ولقد كان علي مصرّاً على إحقاق الحقّ، مهما واجه من صعوبات، وكان يقول: "فلأنقبنّ الباطل، حتى يخرج الحقّ من جنبه". أمّا بعضهم، فيظنّ أن الغدر ذكاء، لكن عليّاً يقول: "ولا يغدر من علم كيف المرجع (فقد أعطيت العهد من نفسك وغداً ستلقى الله)، ولقد أصبحنا في زمانٍ قد اتخذ أكثر أهله الغدر كيساً (يعني فطنة) ونسبهم أهل الجهل فيه إلى حسن الحيلة. ما لهم، قاتلهم الله".

يردّ عليّ(ع) بهذا على أولئك الذين كانوا ينصحونه بالأخذ بأسباب الحيلة أو الضبابية، وإلا فإنه سيفشل، حسب رأيهم. ولكن عليّاً كان متمسّكاً بموقفه، لأنه يعدّ الغدر شيمة اللئام، فاللئيم هو الذي لا يحترم كلمته في عهده، ولا يراعي القيمة الإنسانيّة في علاقته بالآخر.

والغدر يضاعف السيئات، بما يترتّب عليه من نتائج ومن مشاكل، وربّما خطايا يقع فيها المغدور به. لذلك فإياك والغدر، لأنه "أقبح الخيانة"، ذلك أن من أعطيته العهد، ورتَّب أموره على أساس ثقته بكلامك، فإنك عند غدرك به، تربك حياته، كما يقول السيّد. ويتابع: "ويروى عن علي(ع) قوله: "أسرع الأشياء عقوبةً رجلٌ عاهدته على أمر، وكان من نيتك الوفاء له، ومن نيته الغدر بك". لذلك يوصي عليّ(ع) مالك الأشتر، في عهده له، عندما ولاّه مصر، بقوله: "واجعل نفسك جنّةً دون ما أعطيت (والجنّة الدرع الذي يمنع من الاختراق)، فإنه ليس من فرائض الله شيء، الناس أشدّ عليه اجتماعاً، مع تفرّق أهوائهم، وتشتّت آرائهم، من تعظيم الوفاء بالعهود (إذاً هو خلق عام في الناس، مسلمهم وكافرهم، لأن ذلك يحفظ الثقة بين الناس)، وقد لزم ذلك المشركون فيما بينهم دون المسلمين لما استوبلوا من عواقب الغدر (أي لما استثقلوه ووجدوا الوبال فيه). فلا تغدرنّ بذمتك (التي أعطيتها لمن عاهدته)، ولا تخيسنّ بعهدك (لا تنقضه)، ولا تختلنّ عدوّك (لا تمكر به)، فإنّه لا يجترئ على الله إلا جاهل شقيّ (فالوفاء بالعهد مما أمر الله به، والذي ينقضه متجرئ على الله). وقد جعل الله عهده وذمّته أمناً (فإذا جعلت ذمّة الله للناس، فيجب أن يأمنوا، لأنهم يجب أن يشعروا "بوجود عروة وثقى يتمسَّكون بها في أمورهم كلّها، فيما دخلوا فيه من عهد الله)، أفضاه بين العباد برحمته، وحريماً يسكنون إلى منعته (يصبحون إذا حصلوا على ذمة الله في منعة. فلا يتعرّضون لأذى)، ويستفيضون إلى جواره (أي ينتشرون لطلب حاجاتهم في سكينة وأمن)، فلا إدغال (أي فساد) ولا مدالسة ولا خداع فيه".

وإلى هذا، ينقل السيّد هنا الحديث القدسي: "ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر..."،

والغدر محرّم تجاه المسلمين وتجاه غير المسلمين. وإذا كان الغدر من أيّ إنسان قبيحاً، فأقبحه من ذي القدرة والسلطان: "لأن الخلق الإسلامي يتمثّل في العفو عند المقدرة"، لا أن تستخدم القوّة للبطش بمن لا يملك قوّةً ولا نصرةً.

وإذا كان بعضهم أعجب بدهاء معاوية الذي يستخدمه في باطله، ورأى أن الإمام يعوزه ذلك، فإن الإمام يجيب: "والله ما معاوية بأدهى منّي، ولكنه يغدر ويفجر، ولولا كراهية الغدر لكنت من أدهى النَّاس". أما عن جزاء الغدر في الآخرة، فيقول الإمام(ع): "ولكن كلّ غدرة فجرة (من الفجور)، وكلّ فجرة كفرة، ولكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة"، لأن الفجور كفر، والغدر والفجور خيانة، كما يقول(ع)، وكل خيانة في النار.

وإذا كان الإمام لا يغدر، فإنه لا يخدع. فهو يقول، كما ينقل السيّد : "والله لا أستغفل بالمكيدة، ولا أستغمز بالشديدة" (لا أحد يستطيع أن يمرّر عليّ مكائده، ولا أن ينتقص من شأني بالشدة تجاهي)".

هذا ما تمسّك به عليّ(ع)، فهو لم يسمع لمن نصحه بإبقاء معاوية، ولم تنطلِ عليه خديعة عمرو بن العاص برفع المصاحف على الرماح، بعد أن شارف جيش الشام على الهزيمة، وهو لم يقبل بتوزيع المال على رؤساء القبائل والعشائر، ليكسب ودّهم ونصرتهم على حساب الحقوق.

 وإذا كان غدر بني أميّة بالناس قد مكّنهم من النجاح، فهو لن يدوم لهم، إذ يقول الإمام: "... حتى يظنّ الظانّ أن الدنيا معقولة على بني أمية (أي محبوسة عليهم ومرتبطة بهم)، تمنحهم درّها، وتوردهم صفوها (ماءها العذب)، ولا يرفع عن هذه الأمة سوطها ولا سيفها، وكذب الظانّ لذلك، بل هي مجّة من لذيذ العيش، يتطعّمونها برهةً، ثم يلفظونها جملةً". وهذا ما حصل عندما استولى العباسيون على الحكم.

وانطلاقاً من تمسّك الإمام(ع) بالحقّ، كما رأينا، يتّهم بعدم الإلمام بالسياسة. ويجيب السيّد: "إن بعض الناس لا يفهم السياسة في خط الرسالة بعمق... قد لا يكون الإمام عليّ(ع) سياسياً بمعنى السياسي الذي يحافظ على حكمه ويتشبّث به كيفما كان... ولو بالتعامل مع الشيطان... في حين أن عظمة الإمام عليّ(ع)... (أنه) يعطي الرسالة واقعيتها، ويثبت أن هناك حاكماً يريد أن يطبق الإسلام، حتّى لو كان ذلك على حساب بقائه في الحكم. كان همّ الإمام أن يحمي الإسلام، ولذلك كان تعاونه مع الخلفاء الذين سبقوه. إن السياسة التي لم يتبعها علي(ع)، ولم يوافق عليها، هي سياسة اللعب على الحبال.

إن علياً يعلّمنا الوفاء في كل نواحي نشاطنا، سواء في الحياة الزوجية أو في الحياة الاجتماعية، أو في تصرفاتنا الاقتصادية والسياسة، فإفشاء سرّ من ائتمنك على سرّه، من الغدر، والغشّ في المعاملة من الغدر، والألاعيب السياسية والمكائد القائمة على حنث العهود، من الغدر. وكلّ هذا مما يزعزع أوضاع المجتمع، ولا شيء يقي المجتمع من المخاطر والمشاكل والنتائج السلبية، كالوفاء.

إن ما حذّر منه عليّ(ع)، نعاني منه اليوم، نحن وشعوب العالم الثالث، على أيدي المستكبرين، حيث يتحلّل القويّ من التزاماته إزاء الضعيف، في الجانب السياسي أو الاقتصادي. فعلينا أن نواجهه أيضاً بالتحلّل من التزاماتنا تجاهه، فننبذ إليه على سواء ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ﴾(الأنفال/58)".

إنسانية عليّ(ع)

لقد نذر عليّ(ع) نفسه للإنسان، لأنه نذر نفسه للإسلام، الذي نزل لإنقاذ الإنسان وإسعاده في الدنيا والآخرة، فلم يكن يقبل للحاكم أن يكون سبعاً ضارياً يسعى إلى افتراس الناس، بل كان يريد أن يعمّ الخير والعدل، ويستقيم النظام، وينكفئ الأعداء. وكان يرى أن ذلك يتأمّن، إذا التزم المحكومون والحكّام بأحكام الله تعالى. هذا ما يعلّمه عليّ(ع) إذ يقول: "فإذا أدّت الرعية إلى الوالي حقّه، وأدى إليها الوالي حقّها، عزّ الحقّ بينهم، وقامت مناهج الدين، واعتدلت معالم العدل، وجرت على أذلالها السنن، فصلح بذلك الزمان، وطمع في بقاء الدولة، ويئست مطامع الأعداء".

غير أن قيام الدين، وإحقاق الحقوق، لا يجريان بسهولة، بسبب اصطدامهما بمن يتضررون معنوياً ومادياً من قيامهما، فإذا تصدّى هؤلاء للدعوة، فلا بدّ من الدفاع عنها، وهذا ما مارسه الرسول(ص) والإمام عليّ(ع). فالرسول قاتل المشركين، بعدما مارسوا أنواع الاعتداءات على المؤمنين، وأصبحوا خطراً داهماً يتهدد الدين الجديد، فقد أصبحت قريش بقوتها المادية والسياسية مصدر التهديد الدائم للدعوة الوليدة، لما شكّله الدين الجديد من خطرٍ على نفوذها وتقاليدها. وقد كانت تتعامل مع المسلمين في مكّة على أنهم ضعفاء لا يقدرون على المواجهة، الأمر الذي زاد من ضراوتها تجاههم. ذلك في الوضع الذي كانت تقدّس فيه القوة، ويحترم القوي، ممّا كان سائداً بين العرب الجاهليين بأوضح مظاهره. فكيف كان للدعوة أن تنجح، لو لم تمتلك القوة وتواجه بها؟! وهذا ما تحقّق بعد الهجرة إلى المدينة، فلجأ المسلمون إلى القوة، "ليحطموا الحاجز الماديّ والمعنويّ الذي (كان) يقف حائلاً بين دعوتهم والآخرين". وقد تحقّق شيء من هذا في معركة بدر التي قضت على تفرّد قريش بالقوة في مواجهة المسلمين، حيث فرض المسلمون نفسهم قوةً مقابلةً، ولم تستكن قريش، بل تحالفت مع اليهود، الذين اعترفوا لها بأنها أكثر هدًى من المسلمين.

لقد كانت معركة بدر الفاصلة بين مرحلتين: مرحلة استضعاف المسلمين، ومرحلة بروزهم قوَّةً صاعدةً في جزيرة العرب. وتميّزت المرحلة الثانية بالحروب التي كان (رجال) قريش يتسبّبون بها. وما أمّنته معركة بدر، كما يرى السيّد، هو فتح الباب للدخول في الإسلام، بعد كسر حاجز الخوف. غير أنها لم تكن تهدف إلى إدخال الناس في الإسلام بالقوة.

أمّا ما يأخذه بعض المستشرقين على الإسلام من أنه يحمل روحاً عدوانيةً، فهو يندرج في حملة ظالمة، تتجاهل أسباب حروب الإسلام التي لم يكن هو المتسبّب بها، بل كانت حروباً دفاعيةً، كما رأينا.

وإذا كان بعضهم، من جهة أخرى، يتّهم المسلمين بالسلب والنهب، بسبب تعرّضهم لقوافل قريش، (فالردّ هو أن) ذلك مظهر "بدائي للحرب الاقتصادية التي كانت من قبيل المعاملة بالمثل"، بدليل عدم تعرض المسلمين لغير قريش.

وكذلك علي(ع)، فهو لم يكن في حروبه مبادراً، بل مجبراً يتحرّك من "موقع ضرورة"، بينما كان قلبه مع الله ويريد السلام، فهو عندما سمع بعضاً من جنده يسبّون أهل الشام، قال لهم: "... وقلتم مكان سبّكم إيّاهم: اللّهمّ احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالتهم، حتى يعرف الحق من جهله، ويرعوي عن الغيّ والعدوان من لهج به".

من هنا، فإن عليّاً لم يحارب إلا مكرهاً، فهو لم يحارب معارضاً لمجرّد كونه معارضاً، لكن عندما كان يرى التّهديد موجَّهاً إلى النّظام، كان يتحرّك لردعه. فهو لم يحارب الخوارج لأنهم لا يؤيّدونه أو لأنّهم يجهلون حقه، بل لأنهم هدّدوا النظام الاسلامي، وأفسدوا في الأرض، وقتلوا النفس التي حرّم الله، ثم قال للمسلمين: "لا تقاتلوا الخوارج بعدي، فإنه ليس من طلب الحق فأخطأه، كمن طلب الباطل فأدركه".

وهكذا، فان عليّاً لم يكن قتّالاً، بل كان المحاور الأول بعد رسول الله(ص)، فكان غالباً ما يؤخّر الحرب من أجل مزيد من الحوار، أملاً في هداية الخصم، فقد كان يقول في صفين؛ "والله ما دفعت الحرب يوما، إلاّ وأنا أطمع أن تلحق بي طائفة، فتهتدي بي، وتعشو إلى ضوئي، وذلك أحبّ إليَّ من أن أقتلها على ضلالها، وإن كانت تبوء بآثامها".

ومن أهم دلائل إنسانية عليّ(ع)، سماحه لجيش الشام بورود الماء، عندما سيطر جيشه عليه وانتزعه، بعد أن كان تحت سلطة جيش معاوية، الذي كان منع جيش عليّ(ع) من وروده. ومن هنا، فهو، كما يقول السيّد، كان رساليّاً في الحرب، كما كان رساليّاً في السلم. وكان(ع) عندما يسأل عن تأخير حربه في صفّين، هل هو بسبب الشكّ في ضلال أهل الشام، أم كراهية الموت، وكان يجيب بأنّه يأمل في هداية بعضهم. فهو يقاتلهم من أجل الرسالة، وليس شفاءً للغيظ. وأما في موضوع كراهية الموت، فكان يقول : "فوالله ما أبالي أدخلت إلى الموت أو خرج الموت إلي".

ومن دلائل رحمته وإنسانيته في الحرب أيضاً، دعاؤه ألا يبغي إذا انتصر، وأن يستشهد إذا هزم جيشه، فيقول: "اللّهمّ، ربّ السقف المرفوع (السماء)، والجوّ المكفوف (المجموع بعضه على بعض)، الذي جعلته مغيضاً للّيل والنهار (حيث يختفي كل منهما)، ومجرى للشمس والقمر، ومختلفاً للنجوم السيارة، وجعلت سكّانه سبطاً (قبيلة) من ملائكتك، لا يسأمون من عبادتك، وربّ هذه الأرض التي جعلتها قراراً للأنام (مهّدتها تمهيداً)، ومدرجاً للهوامّ (الحشرات) والأنعام، وما لا يحصى مما يرى وما لا يرى، وربّ الجبال الرواسي التي جعلتها للأرض أوتاداً (تقوى بها الأرض وتصلبها)، وللخلق اعتماداً (أي ملجأ يلجأون إليه)، إن أظهرتنا (نصرتنا) على عدوّنا، فجنّبنا البغي، وسدّدنا للحق، وإن أظهرتهم علينا، فارزقنا الشهادة، واعصمنا من الفتنة"(التراجع عن الموقف). وهكذا يكون في الحالين "متوازناً في خط الله".

وحتّى عند لقاء العدوّ، لم يكن عليّ(ع) ينسى الحقّ، رغم تكالب الأعداء بعد وفاة الرسول(ص). فمن دعائه في هذه الحال: "اللّهمّ، إليك أفضت القلوب (وصلت إليك)، ومدّت الأعناق، وشخصت الأبصار، ونقلت الأقدام (سارت في طريقك، في صراطك المستقيم)، وأنضيت الأبدان (تعبت)، اللّهمّ، قد صرح مكتوم الشنآن (أظهر المعتدون عداوتهم)، وجاشت مراجل الأضغان (قدور الأحقاد فكأنما تطبخ)، اللّهمّ، إنا نشكو إليك غيبة نبيّنا (فهو الذي كان يجمعنا)، وكثرة عدوّنا، وتشتّت أهوائنا، ربّنا افتح بيننا وبين قومنا بالحقّ، وأنت خير الفاتحين". فهو لا يريد إلا الحقّ.

وأمّا أخيراً، بخصوص المتخلّفين عن نصرة الله ، فكان يستشهد الله تعالى عليهم، فيقول: "اللَّهمّ، أيّما عبد من عبادك سمع مقالتنا العادلة غير الجائرة، المصلحة غير المفسدة في الدين والدنيا، فأبى بعد سمعه لها إلا النكوص عن نصرتك، والإبطاء عن إعزاز دينك، فإنا نستشهدك عليه، يا أكبر الشاهدين شهادة، ونستشهد عليه جميع ما أسكنته أرضك وسماواتك، ثم أنت بعد المغني عن نصره، والآخذ له بذنبه"، لأنه لا عذر لأحد في الهروب من نصرة الحق.

ويسأل اليوم بعضهم: لماذا لم يقاتل عليّ(ع) في الخارج؟ ويجيب السيّد: "لم يمكّنوه من ذلك، فهو(ع) يقول: "فلما نهضت بالأمر، نكثت طائفة (طلحة والزبير وجماعتهما)، ومرقت أخرى (الخوارج)، وقسط آخرون (معاوية وأهل الشام)، كأنهم لم يسمعوا كلام الله حيث يقول: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا﴾(القصص/83). بلى والله، لقد سمعوها ووعوها، ولكن حليت الدنيا في أعينهم، وراقهم زبرجها". فكيف يحارب في الخارج والفتنة ناشبة في الداخل؟ على أنه(ع) قاتل المشركين قبل ذلك، كما هو معروف. وفي هذه المرحلة، كان يريد تركيز حكمه لتعميق الإسلام في النفوس.

"لقد كانت مشكلة عليّ(ع) هي تلك التركة الثقيلة المتنوّعة في سلبياتها وفي إيجابياتها، وفي مشاكلها وفي الألغام المزروعة التي كانت تنفجر بين حين وآخر".

ولهذا، فقد كان عليّ(ع) يركِّز على بناء الإنسان، فقد كان يأخذهم بالحكمة والموعظة الحسنة، لينقلهم من الضلال إلى الهدى ليحييهم، فمن نقل الإنسان من العمى إلى الهدى فقد أحياه. فعليّ، حتى عندما واجه عمرو بن عبد ود، دعاه إلى الإسلام، وإلا فالرجوع بمن معه إلى مكة. وعندما بصق عمرو في وجهه، بعد أن صرعه عليّ(ع)، تروّى كيلا يحزّ رأسه في سورة الغضب، فيخالط عمله لله الانتقام لنفسه.

باختصار، كان عليّ(ع) يتحرّك، كما يقول السيّد، من أجل أن يخترق الكفر في الإنسان بعقله، قبل أن يفكر في أن يخترق جسد الكافر بسيفه.

 وفي هذا السياق، يأتي نهيه عن السبّ والشتم، لما يورثه هذا الأسلوب من الحقد والانغلاق عن سماع صوت الحقّ، ودعوته إلى تبيان الأخطاء، لعلّ الخصم يقتنع، أو نكون قد تقدّمنا بالعذر. إن الانفتاح بالمحبّة على المسلمين الآخرين الذين ابتلوا بالصراع معنا، أولى من اللجوء فوراً إلى القتل والتدمير.


دروس عليّ(ع) للمسلمين

لم يعطِ أحدٌ المسلمين، بعد رسول الله(ص)، ما أعطاهم إيّاه علي(ع)، فهو الذي قاتل المشركين في الجزيرة العربية، كما لم يقاتلهم أحد، وهو الذي نصب راية العدل بمعناها الأكمل، ولمّا غادرهم مستشهداً، ترك فيهم القرآن وعترة الرسول(ص).

من هنا، يقول علي(ع) فيما ينقل السيد: "... واعذروا من لا حجّة لكم عليه، وأنا هو. (إذ هو قام بواجبه كاملاً) ألم أعمل فيكم بالثقل الأكبر (بالقرآن، وبكل ما كان يملك من العلم والأفق الواسع)، وأترك فيكم الثقل الأصغر (العترة)؟ وركزت فيكم راية الإيمان (بكل حقائقه، وهي كانت ارتفعت بجهدي)، ووقفتكم على حدود الحلال والحرام (حتى لا يختلط الحلال والحرام بالشبهات)، وألبستكم العافية من عدلي (أعطيتكم حقوقكم بالطريقة العادلة. فالعدل عافية والظلم مرض)، وفرشتكم المعروف من قولي وفعلي (بسطت في نفوسكم المعروف بالكلام والسيرة)، وأريتكم كرائم الأخلاق من نفسي". (عشت معكم كأحدكم لا أميّز نفسي عنكم لتتعلموا محاسن الأخلاق).

ويعلق السيّد في هذا الصدد، فيقول : "لقد كانت نفسه (علي) لله، وكان عقله في خدمة الحقّ، وقلبه في خدمة الخير، وحياته في خدمة الإنسان كلّه، باعتبار أن الناس كلهم عيال الله. فهو يقول: "الناس صنفان: إمّا أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق".


رابعاً: تعاليم علي(ع)

كانت حياة عليّ(ع) كلّها تعليماً للمسلمين وللإنسانية، وكان كلامه تعاليم ثمينةً لتحقيق السعادة في الدارين. وما نقله السيّد عن عليّ(ع)، كان أهمّ ما اخترناه من مواضيع تعاليمه؛ فقد نقلنا وصيته الشاملة للحسن والحسين(ع)، والموجّهة من ورائهما إلى المسلمين عامةً، وكلامه في التحذير من الفتنة، ثم تأكيده عدم تبدّل الشريعة الإسلامية مع الزمان، فتوصيفه حال أهل الإيمان للترغيب بانتهاج نهجهم، وأهل الضلال لكشفهم وتلافي الوقوع في ضلالتهم، وأخيراً كلامه في الدعوة إلى إعمال الفكر في كل الشؤون.

الوصية

هي التي توجّه بها علي(ع) إلى الحسن والحسين(ع)، بعدما طعنه ابن ملجم، فجر التاسع عشر من شهر رمضان، في محراب الكوفة. عاش الإمام ثلاثة أيام يغالب أوجاعه، ومع ذلك، فقد أراد ألاّ يتأخر عن إرشاد أمّته، ولم تشغله جراحه عن النصح للإسلام والمسلمين، ذلك أنّ خطابه، كما يرى السيّد، كان موجّهاً إلى الإمامين الحسنين، لأنهما الإمامان المعصومان اللذان يتحمّلان مسؤولية الإسلام، فتكون موجّهةً إلى سائر الأمة من خلالهما(ع).

يقسم السيّد الوصيّة إلى قسمين، هما:

الوصية العامّة التي يتوجّه بها الإمام علي(ع) إلى ولديه(ع) وعبرهما إلى الأمّة.

والوصية الخاصّة التي تتوجّه إلى بني عبد المطّلب، فيما يخصّ معاقبة قاتله.

الوصية العامة:

يقول علي(ع): "أوصيكما بتقوى الله، (والوصية بالتقوى وصية الأنبياء. والتقوى، حسبما ينقل السيّد عن الإمام الصادق(ع)، هي "ألاّ يفقدك الله حيث أمرك، ولا يراك حيث نهاك"، "وأن لا تبغيا الدنيا وإن بغتكما" (وبغية الدنيا هي الاستغراق فيها ونسيان الآخرة، وليست الاقتصار على إشباع الحاجات اللازمة لدى الإنسان، إذ يقول الله تعالى: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾(القصص/77). لكن النصيب من الدنيا ليس الانسياق وراء الشهوات والملذّات التي قد تقدّمها الدنيا إغراءً لبعض الناس، وامتحاناً لهم. فالمطلوب الوقوف على خط التوازن الذي قرّره الإسلام في موضوع المعيشة.

"ولا تأسفا على شيء منها زوي عنكما" (فهناك أسباب للربح وأخرى للخسارة، فإذا خسرت، أو لم تستطع تحصيل ما تريد، فلا تذهب نفسك حسرات عليه، كما يجب ألاّ تفرح بالربح، إذ يقول تعالى: ﴿لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ﴾(الحديد: 23). "وقولا بالحق" (فعلى الإنسان الالتزام بالحق قولاً كما فعلاً، وقول الحق لا يكون في مجال دون مجال، أو في ظرف دون ظرف، فالله، كما يقول السيّد ، خلق السموات والأرضين بالحقّ، ويريد للإنسان أن يتمسّك بالحقّ في علاقته بالآخرين، لأن ذلك يؤمّن الثبات والاستقرار في التعامل، فلا يكون للعداوة والصداقة موقع في مواقفنا، فنكون مع الحقّ ولو كان مع أعدائنا أو عرّضنا للخسارة.

"واعملا للأجر" (والأجر مرتبط برضا الله تعالى، والله قد جعل لكلّ جهد يبذله الإنسان في رضاه أجراً، فعلى الإنسان أن ينظر: هل إن عمله مأجور، أي في الخط الذي يريده الله، أم لا؟ فإذا كان الإنسان يقوم بالعبادات، فله أجر، وإن كان يعمل ليكفي عياله، فله أجر. أما المتلهّي والمتشاغل باللعب، وإرجاء الواجبات، وتقديم الأمور الأقل أهميةً على الأكثر أهميةً، فلا أجر له، بل هو آثم.

"وكونا للظالم خصماً، وللمظلوم عوناً " (فهذا الأمر يجب أن يحكم كل حركة الإنسان، سواء في المجال الاجتماعي أو الاقتصادي أو السياسي، فقد أمرنا الله تعالى بقوله: ﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ﴾(هود: 113). ولا يجوز للإنسان أن يكون حياديّاً بين الظالم والمظلوم، بل عليه أن يقاوم الظلم باليد، فإن لم يستطع، فباللسان، فإن لم يستطع، فبالقلب وهو أضعف الإيمان. على أن الظلم لا يقتصر على ظلم فرد لفرد، بل، وهذا هو الأخطر، ظلم دولة لشعب، في المجال العسكري أو السياسي أو الاقتصادي... ونحن مبتلون، إلى الأنواع المختلفة من الظلم، بأفدح الظلم في فلسطين. ويلفت السيّد إلى أن واجب معاونة المظلوم لا يقتصر على المظلومين من المسلمين، بل هو يشمل كل مظلوم، مهما كان دينه، وحتّى لو كان الظالم مسلماً. فعدالة الإسلام لكل الناس، الأمر الذي يوجب علينا مخاصمة العدوّ الظالم ومعاونة إخواننا في قتالهم ضده.

"أوصيكما وجميع ولدي وأهلي ومن بلغه كتابي، بتقوى الله، ونظم أمركم"، وهنا يتوجّه الإمام بأوضح الكلام إلى كل من سمع الوصية، وكل من قرأها في كل زمان ومكان. وقد ربط الإمام بين نظم الأمر والتقوى، كما يلاحظ السيّد، فبنظم الأمر، يقوم التوازن والتنظيم في المجتمعات، فيعرف كل إنسان ما له وما عليه، وتسير الحياة بطريقة هادئة سلسة، فيكون الحفاظ على النظام واجباً شرعياً، ويكون المخلّ بالنّظام آثماً. وينبّه السيّد إلى بعض المظاهر الخطيرة من التنكّر للنظام ممّا قد يقوم به البعض، كتخريب المرافق أو سرقتها، على أساس أنها مال الدولة، ومال الدولة مباح، لأنها ليست الدولة التي أمر الله بقيامها، أو أنه مال مجهول المالك. وهذا خطأ كبير، لأن المالك الحقيقي لهذا المال هو الشعب. وحتى لو كان المال مجهول المالك، فلا يجوز التصرّف فيه، ولا بدّ من الرجوع فيه "إلى الحاكم الشرعي، الأمين على المصالح العامة، وهو لا يبيح التصرّف بالنحو الذي يستسيغه بعض الناس".

"وصلاح ذات بينكم، فإني سمعت جدكما(ص) يقول: صلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام". فالإسلام ينظر إلى الحياة الاجتماعية نظرةً واقعيةً، فيجد فيها المشاكل العديدة، فيأمر بالإصلاح، سواء على الصعيد الفردي أو العائلي أو بين الفئات الاجتماعية، كالعمّال وأصحاب العمل مثلاً، أو بين الجماعات المختلفة، إثنية أو قومية... والإنسان هنا لا ينجيه أن يكون حيادياً، تاركاً حلّ المشاكل لغيره، لأنه، حتى وإن كان لا علاقة مباشرة له بها، فإنها قد تطاوله بما تفرزه من سلبيات اجتماعية. ونحن مأمورون دائماً بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

والإصلاح يبيح بعض الأحيان خرق القواعد التقليدية في التعامل، كالكذب، أو اللجوء إلى السرية، أو ما إلى ذلك. وعندما يقول الرسول(ص): "صلاح ذات البين أفضل من عامّة الصلاة والصيام"، فإنه يعني أنه أفضل من المستحبات، لا من الواجبات، كما يرى السيّد (على ضفاف الوصية، دار الملاك، ط، 2004م، ص33).

"الله الله في الأيتام، فلا تغبوا أفواههم، ولا يضيعوا بحضرتكم"، أي لا تتركوهم يأكلون يوماً ويجوعون يوماً، ويضيعوا بسبب فقدهم آباءهم الذين يحضنونهم ويصونونهم من عوامل الضعف والقهر المحيطة بهم. ومن هنا، حمّل الإسلام المسلمين واجب كفالة اليتيم، وحرَّم بشدّة الاعتداء على ماله، وفرض إصلاح أموره في جوانب حياته المختلفة، وفي علاقته مع الله. وباختصار، يقول السيّد: "إن على المجتمع أن يحلّ بديلاً ممّا كان يمكن أن يقوم به آباء الأيتام في تدبير شؤونهم، بناءً على قوله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ﴾"(البقرة:220).

"والله الله في جيرانكم، فإنهم وصية نبيّكم، وما زال يوصي بهم حتى ظننّا أنه سيورّثهم".

فالجيرة، وهي أربعون داراً من كلِّ جهة من دارك، قد تخلق علاقات معقّدة فيما يخص المحلّة المشتركة، ما يستدعي أن يكون هناك تعاون فيما بين الجيران ومحافظة على حقوق بعضهم بعضاً. من هنا ارتقت الواجبات تجاه الجيران إلى مستوى الالتزام الديني، وفرض المواساة، فلا يبيت المسلم شبعان وجاره جائع، وإذا استغاثك الجار فأغثه، ولا تؤذه أو تتسبّب بالإضرار به.

وإذا برزت مشاكل حقيقية بين الجيران، فيجب الإصلاح بينهم؛ فإن لم تحلّ كلّ المشاكل، فلا بدّ من الصبر والتعايش، ما أمكن، معها. وفي مطلق الأحوال، فان هذه الوصية "تجعل الحياة الاجتماعية أكثر هدوءاً وأكثر استقراراً وراحةً".

"والله الله في القرآن، لا يسبقكم بالعمل به غيركم"، فالقرآن، كما يقول السيّد، نورٌ تستنير به عقولنا، وتستضيء به قلوبنا، وتستقيم به حياتنا، فلا تكفي قراءته، بل لا بدّ من تطبيق أحكامه، ومن العمل به ارتباطاً بالله تعالى.

ولما كان القرآن نزل علينا، نحن الذين آمنَّا به بعد نزوله، فيجب أن نكون أول العاملين به، فلا يكون الآخرون، الذين ربّما لا يعرفون القرآن، أكثر اهتماماً بالمبادئ التي حملها القرآن منا.

"والله الله في الصلاة، فإنها عمود دينكم". إن الصلاة هي العمل الذي يتمثّل الإنسان فيه حضور ربّه بشكل دائم "خمس مرات في اليوم، لذلك كانت عمود الدين، فتكرار الصلاة يذكّرنا بالله من صباحنا حتى مسائنا، فنكون قريبين إلى الله معنوياً، أوفياء لعهده باستمرار"، فإذا انغمسنا في عملنا، ونسينا، فيأتي وقت الصلاة فنتذكّر. وهكذا، فالصلاة، كما ينقل السيّد عن رسول الله(ص)، "كنهر جار على باب أحدكم، فما يظنّ أحدكم لو كان في جسده درن، ثم اغتسل في ذلك النهر خمس مرات في اليوم، أكان يبقى في جسده درن؟".

وأهمية الصلاة تبتدئ من أنَّ أوَّل ما ينظر في عمل العبد في يوم القيامة، صلاته، فإذا قبلت، نظر في غيرها، وإن لم تقبل، لم ينظر في عمله بشيء.من هنا ضرورة التمسّك بالصلاة، وحثّ الأقربين على أدائها على أصولها: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا﴾(طه:132)، وإلا فإن الإنسان تارك الصلاة، هو إنسانٌ ناكر للجميل، لأنها ذكرٌ لله، وشكرٌ له على أنعامه.

"والله الله في بيت ربكم، لا تخلوه ما بقيتم"، فالحجّ عبادة، ولقاءٌ يتعارف الناس فيه من مشارق الأرض ومغاربها، كما يقول الإمام الصادق(ع)، فهم يلتقون في مكان واحد، في بقعة مباركة، ذلك أن الله تعالى حدّد لنبيّه إبراهيم هذا المكان بالذات لبناء الكعبة، بينما ترك المساجد الأخرى لما يراه الناس. وفي الحجّ، يشهد الناس منافع لهم، معنوية ومادية، يشكرون الله عليها، فهم يطوفون حول بيت الله تعالى، كيلا يطوفوا ببيوت الظالمين، كما يقول السيّد، من أجل تأييدهم، ولا ببيوت اللهو والفجور وما شابهها. ويؤكّد أنّ للحج "معنى عميقاً"، حيث ورد عن الإمام السجّاد(ع): "حق الحج، أن تعلم أنه وفادة إلى ربّك، وفرار من ذنوبك، وبه قبول توبتك، وقضاء الفرض الذي أوجبه الله عليك".

والحج يجمع كثيراً من مضامين العبادات الأخرى، فقد ورد في الحديث أنه "ما يعبأ بمن يؤم هذا البيت، إذا لم يكن فيه ثلاث خصال: خلق يخالق به من صحبه، حلم يملك به غضبه، أو ورع يحجزه عن محارم الله". "فإنه (الحج) إن ترك لم تناظروا"، إذ يجب ألاّ يخلى بيت الله طوال العام، من حاجّ أو معتمر. فلو أنّ الناس تركوا الحجّ، لكان على الوالي، كما يقول الإمام الصادق(ع) أن يجبرهم على ذلك، وعلى المقام عنده، فإن لم يكن لهم أموال، أنفق عليهم من بيت مال المسلمين.

"والله الله في الجهاد بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم في سبيل الله". يرى السيّد أن الجهاد المقصود لا يقتصر على جهاد العدو، بل يشمل جهاد النفس، كما يرى أن الإمام عليّاً(ع) أدخل نوعاً جديداً من الجهاد، هو الجهاد باللسان. والجهاد متعدّد الأوجه، يمكن أن يشمل الجهاد السياسي والثقافي والمالي، والجهاد بالنفس، والجهاد بالكلمة.

    فالجهاد السياسيّ، واجبٌ لمواجهة التحدّيات السياسية، التي توجب على أهل الحلّ والعقد أن يخطّطوا لمعارك الأمة السياسية، فلا تكون السياسة لعبةً، أو تصفية حسابات، أو وسيلةً لتحقيق منافع خاصة، بل تكون عملاً مسؤولاً لحماية الأمة المهدّدة بحريتها وشخصيتها. إن كل فئة تجد القدرة في نفسها، عليها أن تساهم في هذا الواجب، فلا يترك الأمر لمن لا يمتلكون الكفاءة اللازمة، بل يجب الوقوف في وجه تسلّط هؤلاء أيضاً.
    الجهاد الثقافي دفاعاً عن العقيدة في وجه التحريف وتضليل الجاهلين بإسلامهم، فلا بدّ من التوعية في هذا المجال. يجب ألاّ يكون للحياد دور، وعلى العلماء أن يظهروا علمهم، لأن هذا العلم أمانة عندهم. فيجب أن يبذلوه للناس، مستغلّين كلّ الوسائل المتاحة في هذا العصر للتواصل مع المتعلّمين، ليثقّفوا الناس. والثقافة المقصودة تشمل، فيما تشمل، الثقافة السياسية لبيان الخطّ المستقيم من الخطّ المنحرف، والخطّ الحلال من الخطّ الحرام.
    الجهاد المالي، فالله قد أعطى بعض أفراد الأمة إمكانات ماليةً، لا ليكنـزوها، بل ليستثمروها فيما ينفع الناس، فهناك محتاجون يجب أن يجدوا الوسائل لسدّ حاجاتهم، من خلال تأمين العمل لهم، إضافةً إلى الإنفاق على العاجزين والفقراء ومن لا يجدون حيلةً. فالإسلام يأمر بالتكافل الاجتماعي، ويؤمّن التكافل في الجهاد، ذلك أن الكل مسؤول، عندما لا يكون في موقع الجهاد القتالي، عن دعم المجاهدين، وتوفير العيش الكريم لأطفال الشهداء وأراملهم. إن الجهاد المالي، كما يؤكّد السيّد، يعصم الأمة من الارتهان، نتيجة الحاجة لمن يؤمّنها. وحال التنظيمات المقاتلة والدول في الارتهان، نتيجة العوز، لا تحتاج إلى أمثلة.
    الجهاد بالنفس، وهو أعلى أنواع الجهاد، فـ ﴿الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الفَائِزُونَ}(التوبة:20). ويصف عليّ(ع) الجهاد بالنفس، فيقول : "أما بعد، فإن الجهاد بابٌ من أبواب الجنة، فتحه الله لخاصّة أوليائه، وهو لباس التقوى، ودرع الله الحصينة، وجنّته الوثيقة. فمن تركه رغبةً عنه، ألبسه الله ثوب الذلّ وشملة البلاء، وديّث بالصغار والقماءة".
    الجهاد بالكلمة، من طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بالطريقة الممكنة والحكيمة التي تؤدي إلى النتيجة بأقل الخسائر، على النفس وعلى المجتمع.
    "وعليكم بالتواصل والتباذل، وإيّاكم والتدابر والتقاطع". فعلى المسلمين أن يلتقوا ويتحاوروا ويتشاوروا في أمورهم العامّة، وأن يبذل كلّ للآخر ما يستطيع، متعاونين على البرّ والتقوى، دون رياء أو مظهرية، في عملية تكامل بين الطاقات والخبرات، بحيث يكون كلّ واحد قوةً للآخر. وينهى الإمام عن التدابر، بحيث يدير كلّ ظهره للآخر، وينقطع التواصل، الأمر الذي يسهّل الطريق للدس والافتراق والعداوة. ولا يبرّر التقاطع اختلاف وجهات النظر، بل يجب أن يدفع هذا الاختلاف إلى الحوار، لكشف المشتركات، لا أن يفاقم المشاكل ويعمّقها.
     ومما ابتلينا به اليوم، دعوات إلى الحوار علنية، وطعن في الظهر بعيداً عن العلن، وضياع للأولويات، بحيث يتمّ الحوار مع غير المسلمين والملحدين، ولا يتمّ بين المسلمين. وإن تمّ، فلتسجيل المواقف، أو ليبقى حبراً على ورق.
     "ولا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيولّى عليكم شراركم، ثم تدعون فلا يستجاب لكم". هذه وصية الله في القرآن. والمنكر هو ما ينكره الله، سواء كان سلوكاً خاصّاً أو اجتماعياً أو سياسياً أو عسكرياً، وهو الّذي فيه مفسدة. أمّا المعروف، فهو ما يرضاه الله ويحبّه للعباد، ولا بدّ من أن يكون فيه صلاح أمرهم. وإذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من واجبات الدولة الإسلامية داخلياً وخارجياً، فهو من واجبات الجماعات والأفراد أيضاً، لأن الدولة لا يمكنها أن تلمّ بكلّ التفاصيل في الحياة الاجتماعية. وإن كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب كفاية، فإنه عندما تنتشر المنكرات وتتفاقم، يمسي على الجميع التحرك.
     ولا يجوز هنا التذرّع بالأمور الشخصية، لمنع تدخّل الآخرين، فإن مفهوم الأمور الشخصية يجب ألاّ يغطّي حالات المعاصي التي تضرّ بالنفس والجماعة. والحرية الشخصية ليست ما يستنسبه الناس، بل ما حدّده الله تعالى. ونحن نرى، في الغرب وفي بعض زوايا مجتمعاتنا، منكرات يدرجونها في باب الحريات الشخصية، كالمثلية الجنسية والدعارة وغيرهما، ما يدمّر المجتمع بتدمير قيمه.

10- إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يجب أن يتّبع الأسلوب الطيّب، مع التحلّي بالصبر، على ألاّ يستغنى، عند استعصاء الأمور المنكرة، عن مقاومتها باليد، فآخر الدواء الكيّ.

الوصية الخاصّة

وفيها يتوجّه الإمام(ع) إلى بني عبد المطّلب بخاصّة، وينبّههم إلى أحكام الشرع، حتّى لا يلجؤوا إلى العقاب الجماعي، فيمعنوا قتلاً في الناس.

"يا بني عبد المطلب، لا ألفينّكم تخوضون دماء المسلمين خوضاً، تقولون: قتل أمير المؤمنين". على أساس أن دم ابن ملجم ليس شيئاً بالنسبة إلى دم عليّ(ع)، فيعمد أقرباء الإمام إلى قتل أقارب ابن ملجم الأبرياء. "ألا لا تقتلنّ بي إلا قاتلي"، فالحكم الشرعي أن يقتل القاتل فقط. وما أحرانا اليوم بالأخذ بهذا المبدأ، فلا تحمّل المسؤولية إلا للمذنب، من دون أهله وعشيرته وجماعته، مهما عظم شأن المجني عليه. هذه هي الحضارة. وليست الأخذ بالمخترعات الحديثة، فيما النفوس جاهلية لا تلتزم بموازين الشرع.

 "انظروا، إذا أنا متُّ من ضربته هذه، فاضربوه ضربةً بضربة. ولا تمثّلوا بالرجل، فإني سمعت رسول الله(ص) يقول : "إيّاكم والمثلة ولو بالكلب العقور". وأعظِم بها من كلمة تخرج من فم إنسان يحتضر! فهو يدعو إلى عدم الانتقام، بل إنّه يأمر بالتريّث، حتى إذا توفي، فلجماعته أن يقتلوا القاتل، وينهاهم عن تعذيب الرجل حيّاً، أو تشويه جثته ميتاً، وذلك أن الرسول(ص) نهى أن يمثّل حتى بالكلب الذي اعتاد أن يعضّ الناس.

إن هذا درس سبق به الإمام كلّ القوانين الإنسانية الحديثة، التي تقرّ مثل هذا المبدأ، ولكن لا يعمل بها غالباً.

أهل الإيمان (أحبّاء الله)

يحدّد السيّد خصائص أهل الإيمان، كما يبيّنها عليّ(ع)، فيوردها على الشكل الآتي:

يقول عليّ: "عباد الله، إنَّ من أحبّ عباد الله إليه، عبداً أعانه الله على نفسه". يبدأ الإمام بنداء "عباد الله" وهو كما يقول السيّد، نداء يهدف إلى استثارة إحساس الإنسان بعبوديته لله تعالى. ثمّ يذكر الإمام معونة الله لبعض عباده، وهم من أحبّهم إليه، فيمدّهم بالقوّة، ويحصّنهم ضدّ المعاصي، ويمنحهم الألطاف الروحية والفكرية، ليتغلّبوا على نقاط الضعف في الإنسان، ذلك {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي}(يوسف/53). فالنفس تدفع بالإنسان إلى مهاوي السوء، وتستثير غرائزه، فتكون المعونة على أساس توجّه الإنسان إلى الله، فتغدو مكافأةً له، إذ يقول تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ}(العنكبوت:69). وقد ورد في الدعاء: "وأعنّي على نفسي بما تعين به الصالحين على أنفسهم". فإذا أعان الله العبد، نظر إلى ما فرّط، "فاستشعر الحزن" على ما فاته من طاعة الله ومن فرص الجهاد التي لم يغتنمها،  "وتجلبب الخوف" من وسوسات الشيطان، ومن إعراض الله عنه، "فزهّر مصباح الهدى في قلبه"، والقلب هو المنطقة الداخلية، التي قد تتمثّل بالعقل، فأضاء قلبه، وخرج من الظلمات بنور الله، فازداد هدى على هدى، "وأعدّ القرى ليومه النازل به"، أي أعدّ الضيافة ليومه الموعود الذي سيفارق فيه الدنيا، وذلك بتأديته فرائض العبادة التي تشكّل زاداً، مصداقاً لقوله تعالى: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ﴾(البقرة/197)، "فقرّب على نفسه البعيد"، ما يظنّه الناس بعيداً ، وهو الموت، جعله نصب عينيه، فلم يعلّل النفس بطول الأمل، كما جاء في دعاء الإمام زين العابدين(ع): "اللّهمَّ اكفنا طول الأمل، وقصّره عنا بصدق العمل، حتى لا نؤمل استتمام ساعة بعد ساعة، ولا استيفاء يوم بعد يوم".   

لكن قد يرى بعضهم أن ذكر الموت، على هذا النحو، قد يقعد الإنسان عن السعي والجدّ والابتكار، إلا أن عليّاً يقول: "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً"، فذكر الموت يحثّ على العمل والإنجاز قبل حلول الأجل، في مهمّة إعمار الأرض التي استخلفنا الله فيها، وذكر الموت يبعد عن ارتكاب الآثام والخطايا، ويدفع إلى عمل الخير دون تأجيل. ويستشهد السيّد بقوله تعالى: ﴿وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ﴾(الزمر/55).

"وهوّن الشديد"، هوّن على نفسه المشقّة والجهد في طاعة الله، ذلك أن العمل في سبيل الله يحتاج إلى الكثير من الصبر، فالمؤمن لا ينكسر عند الشدة، فقد حفّت الجنّة بالمكاره، وحفّت النار بالشهوات.

"نظر فأبصر"، نظر بفكره، تأمّل، فأضاءت أمامه السبيل، وانكشفت حقائق الأشياء وبواطنها، ذلك أن الدنيا تنكشف لمن يتبصّر فيها، فيما تضلّ من يتطلّع إلى زخارفها، إذ يقول عليّ(ع): "ومن أبصر بها بصّرته، ومن أبصر إليها أعمته".

"وذكر فاستكثر" من ذكر الله، بلسانه وعقله وقلبه، والذكر هو سرّ النجاة في الدنيا والآخرة، كما يقول السيّد، ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ﴾(الحشر:19).

"وارتوى من عذب فرات، سهلت له موارده فشرب نهلاً"، ارتوى من حب الله الصافي، وانفتح عليه، فجعله الله أهلاً لوروده. وحبّ الله نناله بالتفكير في عظمته. "وسلك سبيلاً جدداً"، أي طريقاً مستقيماً، فمن ينفتح الله عليه "يفتح له الطريق المستقيم"، إذ يقول المثل: "عند الصباح، يحمد القوم السرى"، أي أن الواصل إلى مبتغاه، بعد مكابدة المسير ليلاً، لا بدّ من أن يحمد المسير الذي أدّى به إلى غايته، وهي هنا المغفرة والرحمة.

"قد خلع سرابيل الشهوات"، تخلّى عنها فلم يلبسها، ولم يعد عبد الدنيا ولا عبد نفسه، بل أصبح عبد الله وحده.

"وتخلّى عن الهموم إلا همّاً واحداً انفرد به"، لم يعد يهتمّ لما يفوته من الدنيا، أو يرجوه من حاجاتها، بل جعل نصب عينيه رضا مولاه والدار الآخرة.

"فخرج من صفة العمى"، فانفتحت بصيرته على الحقيقة وآفاق الخير."ومشاركة أهل الهوى"، حتى خرج من الشراكة مع عبيد أهوائهم وملذّاتهم.

"وصار من مفاتيح أبواب الهدى"، أصبح ممن يفتح أمام الناس أبواب الهدى، يدلّهم عليها، ويحثّهم على دخولها. "ومغاليق أبواب الردى"، يدفع الناس عنها، ويكشف مخاطرها والهلاك الذي ينتظر داخليها؛ فهو لا يمنع نفسه عن إتيان الشر، بل ويعمل على منع الآخرين من إتيانه.

"قد أبصر طريقه"، وذلك بعد أن خرج من صفة العمى، فانكشف له الطريق، فأبصره بقلبه لا بعينه، "وسلك سبيله"بعد أن أصبحت واضحةً أمامه، "وعرف مناره"، أي ما ينير له الدّرب أمامه لمتابعة المسير، "وقطع غماره"، والغمار عظيم البحر أو لجّته. أي قطع بحار المهالك إلى سواحل النجاة، "استمسك من العرى بأوثقها، ومن الحبال بأمتنها"، أي تمسّك بحبل النجاة المتين الذي لا ينقطع.

"فهو من اليقين على مثل ضوء الشمس"، أي عرف الحقيقة في الموقف والغاية والإيمان، وحقيقة موقعه من ربّه، فلم تغشّه أي حالة ضبابية.

"قد نصب نفسه لله سبحانه في أرفع الأمور"، أصبح من جنود الله وأوليائه الذين يتطلّعون إلى المستوى الأسمى من الأهداف، مستوى اليقين، "من إصدار كلّ وارد عليه"، فهو يجيب على كلّ سؤال يطرحه الناس، ويعلّمهم ويرشدهم، "وتصيير كلّ فرع إلى أصله"، أي وصل إلى درجة أن يربط الفروع بالأصول من الشريعة، فيستنبط أحكامها، وهو شأن الفقيه.

"مصباح ظلمات"، فبعد أن ربّى نفسه وثقّفها، أصبح بمثابة المصباح ينير للناس طريقهم في الظلمات.

"كشّاف عشوات"، يكشف ما يشتبه على الناس أمره، فكأنما يزيل الغشاوات عن العيون.

"مفتاح مبهمات"، هو القادر على أن يكشف للناس الأمور المبهمة الغامضة، ويوضحها لهم.

"دفّاع معضلات"، يتصدّى من خلال إحساسه بالمسؤولية، ليدفع الأمور المعقدة التي تدهم الناس، فيشعروا بالطمأنينة.

"دليل فلوات"، يدلّ الناس على الطّريق عندما تختفي من أمامهم الطرق، ويصبحون كالسائرين في الصحارى.

"يقول فيفهم"، يتحدّث بوضوح، لأن الأمور أمامه واضحة، يفهمها ويفهّمها، "ويسكت فيسلم". وذلك عندما لا يستطيع إنفاذ كلامه إلى العقول، أو لا يكون من شأن الكلام إلا خلق المشاكل، أو ارتكاب المحارم. وربّما يسكت ليستجمع أفكاره، فلا يتسرّع، ولا ينطق بخفَّة.

"قد أخلص لله فاستخلصه"، أخلص في فكره وعقله وقلبه وعمله، وأعطى الله نفسه، فقرّبه الله واصطفاه، وجعله من أوليائه.

"فهو من معادن دينه"، من قواعده الصلبة كالمعادن، "وأوتاد أرضه"، التي تثبّت الأرض فلا تهتزّ. "قد ألزم نفسه العدل"، لأن العدل رسالة الله إلى الناس. "فكان أوّل عدله نفي الهوى عن نفسه. يصف الحقّ ويعمل به"، هو يقول الحقّ ويفعل الحقّ، فلا يعظ الناس به ويعفي نفسه منه.

"لا يدع للخير غايةً إلا أمّها"، لم يترك محلاّ يعتقد أن فيه الخير إلا توجّه إليه. فهو في تفتيش دائم عن الخير. "ولا مظنّةً إلا قصدها"، ولا مكاناً يحتمل وجود الخير في إتيانه إلا أتاه.

"قد أمكن الكتاب من زمامه، فهو قائده وإمامه"، أسلم قياده للقرآن، وسار على هديه، "يحلّ حيث حلّ ثقله"، يحلُّ حيث حلّ الكتاب وأنزل حمله."وينـزل حيث كان منـزله"، فلا يفارق الكتاب الكريم في صغيرة ولا كبيرة.

أهل الضلال

في مقابل أهل الإيمان، يختار السيّد من أقوال الإمام(ع)، خصال أهل الضلال، فهي على الشكل الآتي:

"وآخر قد تسمّى عالماً وليس به"، أي ادّعى العلم أو تزيّا بزيّ العلماء، كما يحصل في أيامنا مع بعضهم، فكيف ملأ فراغ نفسه؟ "فاقتبس جهائل من جهّال، وأضاليل من ضلاّل"، أخذ علماً من جهلة، فازداد جهلاً، وراح ينشر الضلال، كما يحصل عندما تنعدم الموازين. ولعلّ أوضح مثال على ذلك، ما نراه في من "يرتدي الزيّ الدينيّ، ويفرض نفسه، من خلال بعض الأوضاع الاجتماعية، على الإسلام وأهله، أو من ألمّ ببعض العلوم، ولكنه لا يملك وعي الانفتاح على الجوانب الحضارية للإسلام، وعلى مفاهيم الإسلام الأصيلة".

والإمام عليّ(ع) يحذّرنا من الانجرار وراء المظاهر، ويحثّنا على الاختبار وقياس الأشخاص على معايير الحقّ، فلا نثق إلا بعد التجربة.

"ونصب للناس أشراكاً"، اتخذ العلم والدين الذي يحرّفه، وسيلةً لابتزاز الناس، كأمثال أولئك الذين استخدموا ما يعرفونه من الدين لتكفير المسلمين، أو لحشو رؤوسهم بالأضاليل، وكالمشبّهة الذين يفسّرون ما يرد في القرآن من مثل "يد الله" و"وجه الله "و"جنب الله"... تفسيراً مادياً، متجاهلين الآيات التي تنـزّه الله عن الشبيه.

"من حبائل غرور"، هذه الأشراك يستخدمها للتغرير بضعاف الفكر، "وقول زور"، دون أن يخاف الله. "قد حمل الكتاب على آرائه"، أخضع تفسير القرآن لرأيه النابع من مصلحته، "وعطف الحقّ على أهوائه"، فصوّر للناس ما يهواه ويحقّق مصالحه على أنه الحقّ، فحرّف الكلم عن مواضعه، كالكثيرين الذين يستشهدون بآيات القرآن لتغطية ظلمهم وطغيانهم.

"يؤمن من العظائم، ويهوّن كبير الجرائم"، يطمئنهم فيسهّل عليهم ارتكاب الكبائر على أساس أن لا عقاب عليها، أو أن الله لا بدّ من أن يغفرها.

"يقول أقف عند الشبهات وفيها وقع"، يتظاهر بالاحتياط والورع والابتعاد عمّا فيه شبهة حرام، لكنه متورّط فيها. "وأعتزل البدع وبينها اضطجع"، يدّعي اتباع السنّة والابتعاد عن كل ما ينسب إلى الدين وليس منه، فيما هي تحيط به من جميع الجهات.

"فالصورة صورة إنسان، والقلب قلب حيوان"، هو لا يخضع للمنطق، بل يتصرّف كمن تسيّره الغريزة، ويصدق فيه قوله تعالى: ﴿إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا﴾(الفرقان/44).

"لا يعرف باب هدى فيتّبعه"، لأن علمه أخذه عن جهَّال، فهو في متاهات الضلال، لا يستطيع الخروج منها، ولا باب عمى فيصدّ عنه"، لأن قلبه أعمى: ﴿فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى القُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾(الحجّ/46). "فذلك ميت الأحياء"، تدبّ الحياة في جسده، ولكنه فقد الحياة في عقله وقلبه.

الفتنة والموقف منها

يحدّد السيّد الفتنة، فيقول إنها ليست الاقتتال والصّراع بين فئات من الناس، بل هي الحالة التي تسود فيها الضبابية، فيلتبس الحقّ بالباطل. وحول نشوء الفتنة، ينقل السيّد عن عليّ(ع) قوله: "إنما بدء وقوع الفتن أهواء تتّبع، وأحكام تبتدع"، أي هي حيث تسود البدع إرضاءً للأهواء، "يخالف فيها كتاب الله، ويتولّى عليها رجال رجالاً على غير دين الله"، فيختلط الحقّ بالباطل لدى الناس، فيتحيّرون، "فلو أن الباطل خلص من مزاج الحقّ"، أي تميز بوضوح عن الحق، "لم يخفَ على المرتادين، ولو أن الحق خلص من لبس الباطل، لانقطعت عنه ألسن المعاندين. ولكن يؤخذ من هذا ضغث ومن هذا ضغث" جزء من الحق وجزء من الباطل، "فيمزجان. فهناك يستولي الشيطان على أوليائه، وينجو الذين سبقت لهم من الله الحسنى". ومن هنا، فإن "الفتن إذا أقبلت شبّهت، وإذا أدبرت نبهت، ينكرن مقبلات ويعرفن مدبرات"، أي أن الفتنة في أول ظهورها تتشابه مع الحقّ، لكنها عندما تؤدّي الغرض الذي أطلقت لتحقيقه، تتوضّح، فتعرف. فهل يتحيّد من تلتبس عليه الأمور ويبتعد؟

إن على الإنسان أن يعرف أنه أمام نجدين؛ نجد خير ونجد شر، وعليه الاختيار؛ فلا حياد ولا جلوس على التل، فإما أن يكون على نجد الخير، أو يكون على نجد الشرّ. ومن هنا، فعليه أن يتحرّى، وعلى العلماء أن يساعدوا عامّة الناس، إذ ورد في الحديث أنه : "إذا ظهرت البدع في أمتي، فليظهر العالم علمه، فمن لم يفعل فعليه لعنة الله". و"ما أخذ الله على الجهّال أن يتعلّموا، حتى أخذ على العلماء أن يُعلّموا".

غير أنه ورد في نهج البلاغة القول: "كن في الفتنة كابن اللبون، لا ظهراً فيركب، ولا ضرعاً فيحلب". وابن اللبون، كما يفسّر السيّد، ولد الناقة الذي بلغ السنتين؛ فليس يحمل ظهره من يريد الركوب، ولا هو يدرّ اللبن. ومعنى قول علي(ع)، ألاّ تدع أصحاب الفتنة يستغلونك لأغراضهم، وعليك ألاّ تدخل في أي صراع، ما لم تتّضح الرؤيا أمامك، فيكون عند ذلك إقدامك حيث يرضى الله تعالى. إذاً يجب عدم الهروب، بل التحرّي والدرس. وقد عرض للإمام(ع) بعد معركة صفين أن أتاه بعض من وقفوا على الحياد يطلبون عطاءهم، فمنعه عنهم، وأجابهم أنهم: "خذلوا الباطل ولم ينصروا الحقّ". وكان واجبهم نصرة الحقّ، فلا يكفي ألاّ تنصر الباطل، بل عليك أن تقاومه، وألاّ تكون متخاذلاً متهرباً من تحمّل مسؤوليتك.

وكم نعاني اليوم، في صراعنا مع أعدائنا، من مثل مواقف المتخاذلين، ذلك أن من لم ينصر الحقّ، يضعفه في مواجهة الباطل، والذين يتعلّلون بعدم وضوح الرؤيا، من دون أن يتحرّكوا لاستيضاحها، مستقيلون من واجبهم، ولا عذر لهم.

وقد يحصل الصراع بين فريقين، يتبيّن أنهما من أهل الباطل. فما الموقف؟

يجيب السيّد أن لا اقتحام مبدئياً في هذا الصّراع حتى تتبيّن الأمور؛ فإذا انجلت عن أن الفريقين على باطل، كان عليك أن تدرس ماذا يجب أن تفعل. عليك أن تنظر في جزئيات الصراع لتعرف "الانعكاسات"، فتتّخذ الموقف ربما ضد الشرّ الأكبر. يقول السيّد : "فإذا كانت هذه الخطورة تمثّل أهميةً في القضايا الإسلاميَّة، بحيث إنه لو انتصر هذا الباطل القويّ أو الباطل الخطر على ذلك الباطل الأقلّ خطورةً، لكانت كارثةً على الإسلام، عند ذلك، يدخل المسلمون الصراع مع الباطل الأصغر. وهذا مبدأ ينطبق على حالات الصراع الداخلي والعالمي على السواء. أما أن تترفع عن الجزئيات، فذلك يعني أنك لا تعيش الواقع المتصل بحياة الناس الثقافية أو السياسية أو الاقتصادية أو الأمنية، فإذا سقطت أمام جزئيات الأمور، فستسقطك الأمور الكبيرة دون شكّ.

ويحدّثك بعضهم عن ضرورة الابتعاد عن الصراع حتّى عندما يكون مفروضاً عليك، ولكنّ عليّاً(ع) لم يكن مع الحياد بين الحقّ والباطل، فلنحاول أن نكون كذلك.

وإضافةً إلى مشكلة الحياد، هناك مشكلة كبيرة أخرى، هي انجرار بعض الناس وراء بعض الرموز التاريخية التي توحي إليهم بالمكانة، فيعتقدون أن الحقّ يكون حيث كانت هذه الرموز، أي هم يتعرّفون الحقّ من خلال الرجال. ويعبّر السيّد عن حال هؤلاء الناس، فيقول: "مشكلتنا أننا نتجمّد في التاريخ عند الأشخاص كأشخاص، ولا ننطلق في حياتنا معهم كنماذج، بالعنوان الذي يتحرّكون فيه، ذلك أن الحقّ، كما يقول عليّ(ع)، لا يعرف بالرجال، بل يعرف الرجال بالحق. إن عليك ألاّ تنساق مع الناس دون إعمال فكرك، فلا تكن إمّعة، كما يقول الإمام الرضا(ع)، أي لا تكن مع هذا أو ذاك كأشخاص، بل استخدم عقلك، وتحرَّ الموقف الذي أراد لك الله أن تتخذه، فإذا نظرت إلى الله، تعرف مواقع أقدامك، أمّا إذا نظرت إلى الناس فقد تتحيّر". وهذا ما أوضحه عليّ(ع) لأحد المتحيّرين، حين قال له : "إنك نظرت تحتك ولم تنظر إلى فوقك فحرت. إنك لم تعرف الحقّ فتعرف أهله، ولم تعرف الباطل فتعرف من أتاه".

كما يرى السيّد أن الإمام عليّاً(ع) يعدّ من لا يواجه في الصراع ميتاً، بالدور لا بالجسد، بل هو خائن للإنسانية وللحياة، فهو من الأكثرية الصامتة التي يخسرها الحقّ، فيقوى الباطل عليه. ويخاطب عليّ(ع) أمثال هؤلاء، فيقول: "أيها الناس، لو لم تتخاذلوا عن نصر الحق، ولم تهنوا عن توهين الباطل، لم يطمع فيكم من ليس مثلكم، ولم يقوَ من قوي عليكم، ولكنكم تهتم متاه بني إسرائيل. ولعمري ليضعفنّ لكم التيه من بعدي أضعافاً، بما خلَّفتم الحقّ وراء ظهوركم، وقطعتم الأدنى ووصلتم الأبعد".

ويرى السيّد أن "هزائمنا اليوم، على كلِّ المستويات، هي في أغلبها هزائم المتخاذلين، وليست هزائم من يقاتلوننا"، لأن ضعفنا ناجم عن تخلّي المتخلين الجالسين على التلّ، تشبيهاً لهم ببعض المسلمين في معركة اليرموك، حيث صعدوا تلاً يراقبون من فوقه المعركة.

إن قوّة الظالم تتضاعف بالنسبة إلى قوَّة الحقّ، بحياد المتخاذلين، ومن يقوّه، ولو بطريقة غير مباشرة، يشاركه في ظلمه، ذلك أن "الراضي بفعل قوم كالداخل فيه معهم". فالذين خلّوا بين الأمويين بجيشهم وأنصارهم، وبين الحقّ الذي يمثّله عليّ(ع) وأبناؤه، مكّنوهم من غصب حقّ أهل البيت(ع). والحيادي اليوم في مواجهة الاستكبار والصهيونية، مساعد لهما ضدّ أمّته. وإذا أصرّ أمثال هؤلاء على نكوصهم، فلا حاجة بالحقّ إليهم، فالحقّ ينصره أهل الحقّ.


ضرورة التفكر


يبيّن الإمام عليّ(ع) فيما ينقل السيّد ويفسّر، أنّ الله خلق الإنسان كتلة من طين. ثم يركّز(ع) على الفكر، فيقول: "ثم نفخ فيها من روحه، فمثلت إنساناً ذا أذهان يجيلها" في القضايا التي يتعقّلها الإنسان عادةً، "وفكر يتصرّف بها، وجوارح يختدمها"، يستخدمها في ما يريد، "وأدوات يقلّبها"، وهي أعضاؤه، "ومعرفة" ناجمة عن إجالة الفكر "يفرّق بها بين الحق والباطل"، يميّز بينهما، "والأذواق والمشامّ والألوان والأجناس"، يميّزها بالبصر، "معجوناً بطينة الألوان المختلفة، والأشياء المؤتلفة، والأضداد المتعادية"، خصائص بعضها ضدّ خصائص بعضها الآخر، "والأخلاط المتباينة، من الحرّ والبرد والبلّة (السيولة) والجمود. واستأدى الله سبحانه الملائكة وديعته لربهم"، طلب منهم أداءها، "وعهد وصيته إليهم في الإذعان والسجود له، والخشوع لتكرمته، فقال سبحانه: اسجدوا لآدم"، وهذا "وصف للإنسان بالعناصر التي تمثّل منطقة الوعي الداخلي، والعناصر التي تمثّل الحواسّ الخمس، كما تمثّل ما يحيط بالإنسان من الأشياء المختلفة والمؤتلفة".

يرى السيّد أنّ عليّاً يحثّ على التفكير والاستفادة من التجربة والصبر، وعدم إطلاق الأحكام المتسرّعة، فالفكر عبادة، والعبادة يجب ألاّ تكون آليةً، بل يجب أن "تنطلق من العقل ومن القلب والإخلاص والشعور"، أن تكون عبادةً عن علم. فقد ورد في القول المأثور: "ركعتان يصلّيهما العالم، خير من عبادة سنة يصلّيها العابد".

فالتفكير يجب أن يكون دائماً، والعقل يجب ألاّ يعطل، إذ يقول عليّ(ع): "فاتقوا، عباد الله، تقية ذي لبّ، شغل التفكير قلبه"، و"الفكر في ملكوت السماء والأرض عبادة المخلصين"، لأنه يشعر الإنسان بالذوبان في الله والخوف منه وتحسّس مسؤولية ذلك. إن العقل هو ما يميّز الإنسان، وما إرسال الأنبياء إلاّ لتقويم العقل وإكماله، وهذا ما يبيّنه عليّ(ع) بقوله: "إن الله سبحانه أنزل كتاباً هادياً، بيَّن فيه الخير والشر"، فالعقل ربما يخطئ، وربما لا يستدلّ على المصلحة في الأمور كافَّة، لذلك كان من رحمة الله بالإنسان، أن أرسل الرسل، وأنزل الكتب. فعلى الإنسان أن يستفيد منها بكلّ قواه، لأن فيها النور والهداية. يقول لنا عليّ(ع): "فخذوا نهج الخير تهتدوا، واصدفوا عن سمت الشرّ تقصدوا"،

إذاً لا بدّ من الكتاب، وهو القرآن، ولا بدّ من النصوص الأخرى التي أتى بها الوحي، وهي أقوال الرسول(ص)، إذ يقول السيّد: "من الطبيعي أن تكون النصوص هي الأساس، فلدينا كتاب الله وسنّة رسوله، والله تعالى يقول: ﴿ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا﴾(الحشر/7).

وإذا كان طريق الوحي هو العقل الذي يخاطبه، لذلك يعود الإمام عليّ(ع) إلى العقل والتفكير، فيقول : "رحم الله امرءاً تفكّر فاعتبر، واعتبر فأبصر". بالتفكير يجب أن يصل الإنسان إلى العبرة، وعندها يبصر ببصيرته، "فكأنما هو كائن من الدنيا عن قليل لم يكن"، لأنه يرى زوال الدنيا شيئاً فشيئاً. "وكأنما هو كائن من الآخرة عمّا قليل لم يزل"، فكأنما ارتحل بفكره إلى الآخرة قريباً، وفيها يقيم، "وكل معدود منقض"، فأيام الدنيا معدودة، والمعدود ينتهي، "وكلّ متوقّع آت"، وما تتوقّعه بعلمك سوف يأتي، "وكلُّ آتٍ قريب دان"، يقترب شيئاً فشيئاً". وفي هذا الصدد يقول عليّ(ع) عن الإنسان الذي يواجه أجله حين لا يعود ينفعه التفكر: "ثم ازداد الموت فيهم ولوجاً، فحيل بين أحدهم وبين منطقه"، اعتقل لسانه "وإنه لبين أهله، ينظر ببصره، ويسمع بأذنه"، يراهم ويسمعهم "على صحّة من عقله، وبقاء من لبّه، يفكّر فيما أفنى عمره"، من خير أو شر "وفيما أذهب دهره، ويتذكّر أموالاً جمعها"، ينظر إلى رصيده "أغمض في مطالبها"، تغاضى عن حلالها وحرامها، "وأخذها من مصرّحاتها ومشتبهاتها"، من الأشياء الواضحة والملتبسة بالحرام، "قد لزمته تبعات جمعها"، هو مسؤولٌ عن جمعها، فعليه أن يردّ ما أخذه من حرام، "وأشرف على فراقها"، فيكون المهنأ لغيره، والعبء على ظهره، فلماذا لم يفكر ويتوب؟

لهذا "فلينتفع امرؤ بنفسه"، فيما يكون ما زال مالكاً لها، فليحاسبها ويوجّهها في خط الاستقامة قبل فوات الأوان.

وإذا كان من مصادر العلم ما يسمعه الإنسان، فعليه أن يتفكّر فيما يسمعه. ومما قد يسمعه الإنسان تقويمٌ للرجال، وهنا أيضاً عليه أن يفكر ويقارن. فقد يسمع ذمّاً بإنسان يعرفه فاضلاً، فهل يقتنع بما يسمع؟ إن عليّاً(ع) يعلمه، فيما ينقل السيّد، أن "من عرف من أخيه وثيقة دين وسداد طريق، فلا يسمعنّ فيه أقاويل الرجال"، لأن بعض الرجال قد يكذبون أو ينحرفون أو قد يكونون ممّن يحملون العقد النفسية. ولهذا، فإن الإمام(ع) عندما ميّز بين الحقّ والباطل، قال: "أما إنه ليس بين الحقّ والباطل إلاّ أربعة أصابع" هي مسافة ما بين عينه وأذنه، "إن الحق فيما ترى، والباطل فيما تسمع"، ما لم تستعمل عقلك.

"وأصل السلامة من الزلل، الفكر قبل العمل"، فخطّط لما تريد عمله، "والروية قبل الكلام"، لتعرف ماذا ينتج من أقوالك من خطر، ربما يهدّد حياة الآخرين، أو حياتك أو قضيتك. فـ"إذا قدّمت الفكر في جميع أفعالك، حسنت عواقبك في كل أمر"، لأنّ "فضل فكر وتفهّم، أنجع من فضل تكرار ودراسة"، ذلك أن هناك طريقتين لتحصيل العلم : التكرار والتفهّم. فالتفهّم والتفكّر يعمّقان الفكرة في كل كيانك، أما ما تحفظه وتكرّره، فإنه يبقى مجرّد شيء على السطح، ذلك أنَّ "من أكثر الفكر فيما تعلَّم، أتقن عمله وفهم ما لم يكن يفهم ".

وقد تطغى العاطفة على الفكر، و"لربما أهلك الأهل والأصدقاء الإنسان بفعل العاطفة، وذلك بتعسّف في حقّ، "كأن يطلب لأهله وأصدقائه فوق حقّهم"، أو تحريفٍ في نطق كلام غير مستقيم محرّف، أو تخوّف من صديق، "يخوّفه منه الشيطان، ويضرّ به بالكذب لمصلحة صديق أو قريب".

"فأفق أيُّها السامع من سكرتك"، لأن السكرة تمنع من التفكير، "واستيقظ من غفلتك"، لتنفتح على الحقّ "واختصر من عجلتك"، فلتكن الأناة شعارك، "وأنعم الفكر فيما جاءك على لسان النبي الأمّي(ص)، ممّا لا بدّ منه، ولا محيص عنه"، ففكّر فيما أتى النبيّ(ص) به، لأنه لا فرار منه، "وخالف من خالف ذلك إلى غيره"، خالف أولئك الذين تركوا كلام النبيّ وراء ظهورهم، "ودعه وما رضي لنفسه"، لأن الكلام لا ينفع معه".

وإذا أراد الإنسان أن ينتفع القريبون منه، فعليه أن يتحرّى لهم الصواب، "فليصدق رائد أهله"، ولا يكذبهم، "وليحضر عقله"، فلا يعطيه إجازة، "وليكن من أبناء الآخرة، فإنه منها قدم، وإليها ينقلب"، بدأ من الله وإليه يعود، "فالناظر بالقلب"، الذي يبصر بعقله، "العامل بالبصر"، حسبما أبصر، "يكون مبتدأ عمله أن يعلم أعمله عليه أم له، فإن كان له مضى فيه، وإن كان عليه وقف عنه"، لأن الإنسان قد يقوم بما يضرّه. فليتروّ، ويفكّر، قبل أن يقوم بالعمل، "فإن العامل بغير علم، كالسائر على غير طريق"، لأنه يتخبّط. فتحديد الطريق جزء من العمل، "فلا يزيده بعده عن الطريق الواضح إلا بعداً عن حاجته، والعامل بالعلم، كالسائر على الطريق الواضح. فلينظر ناظر أسائر هو أم راجع"، أي هل يتقدم أم يتأخر في سيره؟

حول المنهج

ويعود السيّد إلى المنهج، فيرى أنّ المنهج هو بالعقل (المسترشد بالوحي) وبالتجربة، فليس العلم مجرّد استنباطات عقلية، بل لا بدّ من الاستقراء والتجربة. من هنا يقول: "هناك مصدران للمعرفة: أحدهما التأمّل العقلي، والثاني التجربة". فقد تقدّم العلم الحديث بواسطة التجربة، بل بالتجربة المتواصلة والمتكرّرة، فلا نيأسنّ إذاً حاولنا مرةً أو مرتين، بل علينا أن نثابر فنصل إلى النتيجة. والتجربة برهان، علينا ألاّ ننكص دونه، فقد قال ابن سينا، حسبما ينقل السيّد: "كلّ ما قرع سمعك فذره في بقعة الإمكان (أي عدّه ممكناً)، حتى يذودك عنه واضح البرهان "(أي حتى يثبت لك البرهان عكسه).

ويقول علي(ع) : "ومن التوفيق حفظ التجربة"، لأنها توفر عليك مشقة الإعادة، فتبني عليها، وتتقدّم إلى غيرها، فهناك من المعارف ما لا يتحقق إلا بالتجربة، كما يقول السيّد، مستشهداً بقول علي(ع): "في تقلّب الأحوال، علم جواهر الرجال"، وهذه هي التجربة في الإطار الاجتماعي، ويمكن تعميمها. وهذا تدليل على قيمة التجربة في النهج المعرفي الإسلامي.

كما يقول علي(ع): "أخبر تقله"، فإذا أعجبك ظاهر شخص، فاختبره، فربما اكتشفت ما ينفّرك منه. وترك التجربة عجز، إذ يقول(ع): "الطمأنينة إلى كل أحد قبل الاختبار عجز". وفي كتابه إلى أبي موسى الأشعري: "فإن الشقيّ من حرم نفع ما أوتي من العقل والتجربة"، لأن أحدهما يكمل الآخر. كما يقول(ع): "إذا كان في رجلٍ خلّةٌ رائقة، فانتظروا أخواتها"، فلا يكتفي الإنسان بنظرة، بل عليه أن يجرّب، ليكتشف سائر الصفات.

والتجربة ليست مجرّد لعبة لإحراز معرفة، بل هي مجال للدرس والاتّعاظ. وعلي(ع) يدعو إلى المنهج القرآني الذي زاوج بين الدليل العقلي والدليل التجريبـي، إذ يقول: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ}(الحشر:2). فلندرس الواقع، ولندرس التجربة، ونفهم كيفية تحرّكهما والظروف، ثم نستنتج الدرس. يقول علي(ع): "لقد جرّبتم الأمور وضرّستموها (أطبقتم عليها)، ووعظتم بمن كان قبلكم (الذين انحرفوا عن الخطّ الذي رسمه الأنبياء)، وضربت الأمثال لكم"، من قبل الله تعالى، كقوله: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ العِمَادِ}(الفجر: 6-7) "ودعيتم إلى الأمر الواضح"، الى سبيل الله البيّن الذي لا خفاء فيه. "... ومن لم ينفعه الله بالبلاء والتجارب، لم ينتفع بشيء من العظة"، فالإنسان الذي لا تعلّمه معاناته وحركته في الحياة، لا يمكن أن يعلّمه شيء، فنحن بحاجة إلى أن ننتفع من تجاربنا، حسنة كانت نتائجها أو سيئة، أن ننتفع من الانتصارات ومن الهزائم. هذه التجارب يجب أن تبقى ماثلةً أمام عيوننا. فـ"العقل حفظ التجارب"، لأنها تمدّك بفكر إلى فكرك. فمن لم ينفعه كل ذلك، لم يستفد، "وأتاه التقصير من أمامه، حتى يعرف ما أنكر وينكر ما عرف"، أي أنّ من لم يستفد من التجارب، تنقلب الأمور أمامه، فيصبح المعروف منكراً والمنكر معروفاً.

وهكذا، فإنه إذا كان العقل يجمع المعارف، فعلى الفكر أن يتأمّل ويدرس ويستخرج القواعد والمبادئ العامَّة التي تفيد الإنسان في حياته في الدنيا والآخرة. لكنه يجب ألاّ يكتفي بنفسه، بل عليه أن يستند إلى الأصول.

"وإنّما الناس رجلان: متّبع شرعة، ومبتدع بدعة"، الأول عقائده عقائد الإسلام، لا يحيد عنها، والآخر يبتكر لنفسه منهجاً مختلفاً، ليس من الإسلام في شيء، "ليس معه (المبتدع) من الله سبحانه برهان سنّة ولا ضياء حجّة".

دراسة التاريخ

وإذا كنا ملزمين بدراسة تجربتنا وتجربة غيرنا، فالأمر لا يقتصر على زماننا، بل واجب علينا أن نعود إلى تجارب الماضين أيضاً. علينا أن ندرس التاريخ، ولكن دراسةً نقديةً، كما يقول السيّد، "لأن بعض الناس قد ينقل إلينا التاريخ الخرافي على أنه حقيقة، خصوصاً في بعض جوانب التاريخ التي تملك قداسةً عاطفيةً بين الناس". والدراسة النقدية تتناول الظروف التي أحاطت بالحوادث المنقولة، وإخضاعها للعقل؛ هل تنسجم مع طبيعة الأمور أم لا؟ ثم علينا الاستيثاق من الناقل؛ هل نقل بأمانة، أم نقل على هواه؟ ثم ندرس المضمون إلى جانب ذلك. فإذا تحقّق كل ذلك، عندها نثبّت التاريخ ونتّعظ به. إذ يقول تعالى: {فَاقْصُصِ القَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}(الأعراف:176)، ونتعلم من سير السابقين {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الأَلْبَابِ}(يوسف:111). فإذا استوعبنا التاريخ، كنّا كمن عاشه. هذا ما يعلّمنا إيّاه عليّ(ع) في إحدى وصاياه، حيث يقول: "يا بنيّ، إنّي وإن لم أكن عمّرت عمر من كان قبلي، فقد نظرت في أعمالهم، وفكرت في أخبارهم، وسرت في آثارهم، حتى عدت كأحدهم". وكذلك بالفكر نكتشف أنفسنا، كما نكتشف أسرار الكون. فلنعمل فكرنا في آيات الله {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}(البقرة/242)، ولننظر إلى ما في السموات والأرض، إذ يقول تعالى عن المؤمنين حقاً: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا}(آل عمران:191)، بل خلقته بالحقّ، فلندرس الحقّ.

والفكر بما هو بحث عن الحق هو عبادة، فالعبادة، كما يقول السيّد، ليست شيئاً محصوراً في حركة الجسد، بالصلاة والصوم أو الحج، إذ يقول عليّ(ع): "والفكر في ملكوت السماء والأرض، عبادة منه". فالفكر، ولو في ساعات قليلة، ربما يرسم لك منهج الحياة إلى نهاية عمرك. أمّا العبادة الفارغة من الفكر، فهي التي يصفها الحديث الشريف: "من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر، لم يزدد من الله إلا بعداً، وليس لك من صلاتك إلا ما أقبلت عليه بقلبك".

فإذا جرت العبادة على النحو المذكور، كانت العبادة الصحيحة، وعندها فليستكثر الإنسان منها. وهذا ما يوصي به عليّ(ع) بقوله: "الفرائض الفرائض، أدّوها إلى الله، تؤدِّكم إلى الجنة". فمن يؤدِّ صلاته وصيامه وحجّه وزكاته وخمسه، بالطريقة التي يريدها الله، فإنها تمنعه من الفحشاء والمنكر، وبذلك تمهّد الطريق إلى الجنَّة أمامه. فلتكن العبادات همنا، فبيت لا صلاة فيه ولا صوم، هو بيتٌ لا ينظر الله إليه. وتارك العبادات، الذي لا تأمنون دينه، لا تعاملوه، لأنه قد يغشّ ويغدر.

على أنَّ العبادات تزكو في شهر رمضان، شهر الله، الذي أمرنا الله أن نذكره فيه، وأن نقرأ كتابه فيه قراءة تدبر وتأمّل، لأنه الشهر الذي عظّمه: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ القُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الهُدَى وَالفُرْقَانِ}(البقرة:185)، وأن نصلّي فيه أكثر مما نصلِّي في غيره، إذ يصفه رسول الله(ص) بقوله إنه "شهرٌ دعيتم فيه إلى ضيافة الله، وجعلتم فيه من أهل كرامة الله؛ أنفاسكم فيه تسبيح، ونومكم فيه عبادة، وعملكم فيه مقبول، ودعاؤكم فيه مستجاب. فاسألوا الله ربّكم بنيّاتٍ صادقة، وقلوبٍ طاهرة، أن يوفّقكم لصيامه وقيامه وتلاوة كتابه؛ فإن الشقيّ من حرم غفران الله في هذا الشهر العظيم". وقد ورد في حديث عليّ(ع) في عيد الفطر: "إنما هو عيد لمن قبل الله صيامه وقيامه، وكلُّ يومٍ لا يعصى الله فيه فهو عيد".

غير أن عليّاً، الداعي إلى التفكّر والتدبّر، يؤكِّد لنا أننا يمكن أن نتعرّف الكثير من الأمور، إلا أن عقلنا المحدود لا يمكن أن يحيط بقدرة الله وسائر صفاته، إذ يقول عن الله تعالى: "القادر الذي إذا ارتمت الأوهام (الأذهان) لتدرك منقطع قدرته (إلى أين تصل قدرته)، وحاول الفكر المبرّأ من خطرات الوساوس أن يقع عليه في عميقات غيوب ملكوته، وتولّهت القلوب إليه لتجري في كيفية صفاته، وغمضت مداخل العقول في حيث لا تبلغه الصفات لتناول علم ذاته، ردعها، وهي تجوب مهاوي سدف الغيوب متخلّصة إليه سبحانه، فرجعت إذ جبهت معترفة بأنه لا ينال". كما يقول في السياق نفسه أيضاً: "وإنك أنت الله، الذي لم تتناهَ في العقول، فتكون في مهبّ فكرها مكيّفاً (محدّدة كيفيّتك)، ولا في رويّات خواطرها فتكون محدوداً مصرّفاً". أي أنّه لا يمكن أن يدخل في العقول حتى تصوّرك وتكيّفك، لأن العقول محدودة، وأنت غير محدود.

هذا من علم عليّ(ع) الغزير، وهو الذي كان يقول : "لو كشف لي الغطاء، ما ازددت يقيناً"، لأنه حصّل اليقين كله، فيما الآخرون قصَّروا عنه. لذا كان يخشى على الإسلام، وكان(ع) يقول: "لأسلمنّ ما سلمت أمور المسلمين، ولم يكن فيها جور إلا عليّ خاصة".

وأخيراً، علينا أن نكون دائماً الباحثين عن الحقيقة، والمستزيدين من الحقائق، بجهدنا الخاصّ، وبحوارنا مع الآخرين. فالمتحاورون يعلم كلٌّ منهم الآخر، وقد يلجأ المحاور إلى عدم القطع باليقين، ليفسح في المجال لمحاوره أن يتابع معه الحوار. وفي هذا يقول السيّد: "إن الله يريد من المؤمن أحياناً أن يبحث القضيَّة مع محاوره كما لو كان شاكّاً، إذ يعلّم الله تعالى رسوله أن يقول، مثلاً، في حواره مع الآخرين: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}(سبأ/24)، علماً أنّ النبي(ص) معصوم يعلّمه الله، فلا يمكن أن يكون على ضلال.

فإذا حصَّلنا العلم والمعرفة والثقافة والوعي، نكون قد حقّقنا ذاتنا، وتمكّنا من لعب دورنا الذي يعطينا قيمتنا في الحياة، ذلك أن "قيمة كلِّ امرئ ما يحسنه"، أي ما يجيده.

هذا ما يعلّمه الإمام عليّ(ع) لكلِّ الناس، وخصوصاً لشيعته الذين يريدهم أن يتحرّكوا في خطِّ تصاعدي مع كلِّ حركة التطوّر العلمي، ولا يريد لشيعته أن يكونوا الجاهلين الذين يلتقطون فتات موائد الآخرين.

العقاب والمغفرة

يعلّمنا عليّ(ع)، فيما ينقل إلينا السيّد، أن الله يثيب ويغفر ويعاقب، غير أن عقابه ليس مفاجأةً للإنسان، بحيث لا يعرف لماذا عوقب؛ فالله أنذر وحذّر، والإنذار والتحذير إنّما هما لتقويمه قبل أن يحين أوان العقاب. فالتهديد بجهنّم، وهي حقّ، يهدف إلى أن يخلق للإنسان من داخل إيمانه الدافع "ليلتزم بالخطّ المستقيم"، وهو مصلحة له ولسائر الناس.

والعالِم لا يزرع اليأس في نفوس الناس، ولا يعدهم برفع العذاب: هو "من لم يقنّط الناس من رحمة الله، ولم يؤمنهم من عذاب الله". وهكذا، فالأمر بين الرغبة والرهبة حتى ينضبطوا، كما يقول السيّد، ويلتزموا ويستقيموا.

إنّ المطلوب من الإنسان الانضباط والاستقامة على خطّ الله تعالى، والتّرغيب والتّرهيب إنّما هما لإحداث توازنٍ عنده، فلا يثقلنّ الإنسان نفسه بالسيئات، بل عليه دائماً أن يتذكّر الموت، "وإنَّّ الساعة تحدوكم (تسوقكم)، من خلفكم. تخفّفوا (من المعاصي) تلحقوا، فإنما ينتظر بأوّلكم آخركم"، لتجتمعوا معاً للحساب، فـ"اتقوا الله في عباده وبلاده، فإنّكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم". وهنا يبيِّن لنا علي(ع) موارد ارتكاب المعاصي حتى نتفاداها. فنحن مسؤولون عن معاملة العباد، من أولاد ونساء وجيران، وكلّ من نتعامل معهم، وعن البقاع من الأرض التي استخلفنا الله فيها؛ هل عمَّرناها أم خرَّبناها، هل سكنّاها بحلال أم بحرام، هل أبحناها للكفر والشرك والظلم أم للإيمان والتّوحيد والعدل؟ ونحن مسؤولون كذلك عن معاملة البهائم، فلا نعذّبها بالأحمال والاستعمالات الأخرى المختلفة، وحتى بطريقة الذبح.

وإذا أخطأ الإنسان في ما يوصي به عليّ(ع)، أو في غيره، فهل ينتهي به الأمر إلى الجحيم؟ إنَّ التوبة، كما يجيب السيّد في تفسيره لأقوال عليّ(ع)، تبقى مفتوحةً لك حتى يأتي أجلك، أمّا بعده فلا. وشفاعة رسول الله(ص) تبقى قائمةً لمستحقّيها، فلندعُ الله من كلِّ قلوبنا، كما كان يدعوه عليّ(ع)، ليغفر لنا ما يعرفه الناس وما لا يعرفونه، لأنَّ الله يعرفه. فعلي يدعو الله بقوله: "واغفر لي ما لا يعلمون". ذلك أن عليّاً وأهل البيت معصومون، وأولياء الله ولو لم يذنبوا، يستغفرونه، ليعفو عن تقصيرهم، وأهل البيت وأولياء الله يعلّموننا كيف ندعو، وكيف لا نعتدّ بحسناتنا فنضخّمها، فيما نقزّم سيّئاتنا.

ثمّ إنَّ أدعية عليّ(ع)، إلى جانب طلب الغفران، هي فيضٌ روحيٌّ كان يعيشه في عقله وقلبه وحياته كلِّها، كما يقول السيّد، فمن أدعيته(ع): "اللّهمّ اغفر لي ما أنت أعلم به مني، فإن عدت، فعد عليَّ بالمغفرة. اللّهمّ اغفر لي ما وأيت من نفسي، ولم تجد له وفاءً عندي"، ما وعدت به ولم أف بوعدي. وعليّ(ع) هنا يعلّمنا طلب المغفرة من كلِّ ذنب، والإلحاح به، ومعاودة طلبها عند تكرار الخطأ، ويقول: "اللّهمّ اغفر لي ما تقرَّبت به إليك بلساني، ثم خالفه قلبي"، فقد أكون خاطبتك بالكثير من كلمات الخير والثناء، ولكنَّ قلبي لم يكن حاضراً، بل ينبض لنقض العهد الذي عاهدتك إيّاه.

 ويقول عليّ(ع) في مكان آخر: "اللّهمّ، أنت أهل الوصف الجميل، والتعداد الكثير (في الجمال والكمال والعظمة)، إن تؤمَّل، فخير مأمول (بإطلاق الآمال كلِّها من عندك) وإن ترجَ فخير مرجوّ. اللّهمّ، قد بسطت لي فيما لا أمدح به غيرك (فبعض الكلام لا يليق إلا بك)، ولا أثني به على أحد سواك (أوحّدك في المديح والثناء)، ولا أوجّهه (المدح) إلى معادن الخيبة (من تخيب عندهم الآمال)، ومواضع الرّيبة، وعدلت بلساني عن مدائح الآدميين، والثناء على المربوبين المخلوقين (فإن كنت معك، فلا أحد يكون معي غيرك، وإن مدحت غيرك من الصالحين، فأمدحك من خلاله، لأنك أنت ربّه وخالقه). اللّهمّ ولكل مثنٍ (مادح) على من أثنى عليه مثوبة من جزاء، أو عارفة من عطاء (أجر له). وقد رجوتك دليلاً على ذخائر الرحمة، وكنوز المغفرة". فامنحني منها، فهي جزائي.

"اللّهمّ، وهذا مقام من أفردك بالتوحيد الذي هو لك"، فأنت الواحد ولا وحدانية لغيرك، "ولم يرَ مستحقّاً لهذه المحامد والممادح غيرك، وبي فاقة إليك (أنا أحتاجك حاجةً)، لا يجبر مسكنتها (فقرها) إلا فضلك، ولا ينعش من خلتها إلا منّك وجودك. فهب لنا في هذا المقام رضاك (ورضاك هو كلُّ شيء، وأنا محتاج إليه)، وأغننا عن مدّ الأيدي إلى سواك"(اجعلها ممدودةً إليك وحدك. وقد عبّر حفيد عليّ(ع) الإمام زين العابدين(ع) عن هذا الموقف، حين قال: "وقلت سبحان ربي، كيف يسأل محتاج محتاجاً، وأنّى يرغب معدم إلى معدم، فقصدتك، يا إلهي، بالرغبة، وأوفدت عليك رجائي بالثقة بك".

العبودية والحرية

يدعو عليّ(ع) الإنسان إلى أن يكون حرّاً، وأن لا يكون عبداً لأحد: "لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً". إلا أنه يفخر بأن يكون عبداً لله، بل عبداً ضعيفاً ذليلاً: "وأنا عبدك الضعيف الحقير المسكين المستكين". فعلى الإنسان، أن يؤكّد حريته كشيء يعيش في ذاته، مما لا يحقّ له أن يتنازل عنه لأحد، بل أن يتمسّك به أمام كلِّ النَّاس، بمن فيهم الحاكمون، باستثناء من أراد الله سبحانه وتعالى أن يتنازل الإنسان عن حريته لإرادتهم، لأن إرادتهم مستمدّة من إرادة الله.

من هنا، فعلى أتباع عليّ(ع) أن يتمسّكوا بحريّتهم، فـ "من لا يكون حراً، لا يكون شيعياً، لأن الحرية هي عمق خطّ عليّ(ع)، في حركة الواقع السياسي". ونحن نؤمن بأنّ العبودية لله وحده هي التي تحرر الإنسان، لأنها تمنع عبادته لغير الله من الآدميين الذين يحكمون بما لم ينـزل الله. وطاعة هؤلاء اعترافٌ بسلطتهم التي لا يستمدّونها من الله تعالى، وبالتالي، فإن فيها شوباً من الشّرك علينا أن نواجهه بما نستطيع.

محبّة علي(ع)

إن الإنسان لا يملك إلا أن يحبّ عليّاً، بسبب تأثيره الروحي فينا كلَّما تذكّرناه، سواء في يوم ولادته، أو في أطوار حياته المختلفة. وحبّنا لعلي(ع) ليس عصبيةً مذهبيةً، بل هو تعلّق بشخصيته التي بينّا ملامحها، وتقديرٌ لجهاده وعلمه ونصحه للإسلام والمسلمين، وذوبانه في الله. فكلّ من يحبُّ الله لا بدّ من أن يحبّه. ونحن عندما نعدّد مآثر علي(ع)، فإن ذلك ليس مدحاً، بل هو تسجيل لواقع يشهد به التاريخ، الذي يكشف عن أنَّ عليّاً جسَّد الإسلام بكلِّ معانيه، فكان انجذاب المؤمنين إليه. لهذا، فإنَّنا لا نستطيع إلا أن نحبّ عليّاً. كن شيعياً أو سنياً أو مسيحياً، كن أيّ شيء، فإنك إذا تطلعت إلى عليّ(ع)، في جميع آفاقه الروحية، وإخلاصه وجهاده وعلمه، لا تملك إلا أن تخشع أمام هذه الشخصيَّة العظيمة.

إنَّ هذا الحبّ حبّ موضوعيّ، وليس حبّ العاطفة العمياء، لأنَّ الحبّ العاطفي، كما البغض، لا يسمح بالموقف الصحيح، والحبّ والبغض لا يعرفان "الخطوط المستقيمة أو المتوازنة"، فـ"يمكن للمنافق أن يحبّ عليّاً بسبب العديد من صفاته الإنسانية، ولكن هذا الحبّ ليس الحبّ الصحيح، وهو ما لم يرده الرسول(ص)، الذي أراد تركيز المسألة على العقل وعمق الوعي، لأن عليّاً كان إيماناً كلّه، حتى لم يعد في شخصيته أيّ شيء ذاتيّ"، وهذا ظاهر في شجاعته وزهده وعدله وعلمه، والمنافق لا يحب عليّاً لهذه الصفات. ولهذا كان عليّ(ع) يقول: "لو ضربت خيشوم المؤمن (رأس أنفه) بسيفي هذا على أن يبغضني ما أبغضني، ولو صببت الدنيا بجمّاتها على المنافق على أن يحبّني ما أحبّني، ذلك أنه قضي فانقضى على لسان النبيّ الأميّ(ص) أنه قال : يا عليّ، لا يبغضك مؤمن، ولا يحبّك منافق".

فمن يبغض عليّاً(ع) هو كمن يبغض الورد ويحبُّ الشوك، وكمن يبغض العطر ويحبُّ النتانة، وكمن يبغض النور ويحبُّ الظلمة، فهؤلاء لا يعيشون معنى الإنسانيَّة.

على أن الحبّ الذي يستحقّه عليّ(ع)، يجب أن يكون حبّاً لعليّ الإنسان، وألاّ يتجاوز ذلك فيؤدي به إلى الهلاك، كما يقول عليٌّ نفسه: "هلك فيَّ رجلان: محبّ غالٍ، ومبغض قالٍ"، أي المحبّ المغالي في حبّه، والمبغض له، فالمغالون يقتربون بعليّ(ع) من الألوهيّة، ومبغضوه يتنكّرون للإسلام نفسه، عندما يناصبون عليّاً العداء.



في الغلوّ

لم يكن عليّ(ع) يقبل أن يقترب به أحد من مقام الله عزّ وجلّ، في أي مجال من المجالات، وكان يخاطب الله تعالى بقوله: "أنا عبدك الضَّعيف الذَّليل الحقير المسكين المستكين".

والمغالون، لا يحبّون أهل البيت(ع) حقيقةً، لأنَّ أهل البيت، وفي مقدمهم عليّ(ع)، لم يريدوا أن يبتعد محبّهم عن دائرة الإسلام، بل كانوا يطلبون التوازن في الحبّ.

وردّاً على من يقولون إنه لولا عليّ(ع) لما خلق رسول الله(ص)، يجيب السيّد : "هذا كلام غير مفهوم، لأن عليّاً(ع) تعلّم من رسول الله(ص)... والنبيّ هو سيّد ولد آدم، بمن فيهم عليّ(ع)، وكان عليّ(ع) نفسه يقول: "كنّا إذا اشتدّ البأس، لذنا برسول الله". فإن كلّ ما عند عليّ(ع) من رسول الله(ص).

وهكذا، فكما كان عليّ(ع) لا يريد أن يقترب أحدٌ به من الله، لم يكن كذلك يقبل بأن يقترب به أحدٌ من رسول الله(ص). من هنا قول أهل البيت: "من كان لله مطيعاً فهو لنا وليّ، ومن كان لله عاصياً فهو لنا عدوّ".

وإذا كان المغالون يعتمدون على أحاديث منسوبة إلى المعصومين، فإن هذا الأمر يقتضي منا التدقيق في هذه الأحاديث لجهة السند، ثمّ لجهة المضمون، ذلك أن بعض الناس أتوا بالأحاديث الموضوعة في الأئمة سلباً للانتقاص منهم، وإيجاباً في المغالاة، ليخلقوا حالةً سلبيةً لدى الناس تجاههم. وقد سئل الإمام الرضا(ع) عن أحاديث رواها مخالفو أهل البيت في فضائل أهل البيت، فأجاب أن رسول الله(ص) قال: "من أصغى إلى ناطق فقد عبده، فإن كان الناطق عن الله عز وجلّ، فقد عبد الله، وإن كان الناطق عن إبليس فقد عبد إبليس..."، "إنّ مخالفينا وضعوا أخباراً في فضائلنا، وجعلوها على أقسام ثلاثة: أحدها الغلوّ، وثانيها التقصير في أمرنا، وثالثها التَّصريح بمثالب أعدائنا. فإذا سمع الناس الغلوّ فينا، كفَّروا شيعتنا، ونسبوهم إلى القول بربوبيتنا، وإذا سمعوا التقصير، اعتقدوا فينا، وإذا سمعوا مثالب أعدائنا بأسمائهم، ثلبونا بأسمائنا".

استلهام عليّ(ع)

إن محبّة عليّ(ع) والانتماء إليه مسألة جيّدة، إلا أنها يجب ألاّ تبقى مجرّد موقف ذاتيّ، بل يجب أن تدفعنا إلى الاقتداء به في كل أشكال جهاده لأعدائه، الذين عادوا فظهروا اليوم. فعليّ، كما يقول السيّد، ليس كلمةً نهتف بها، بل هو موقف ورسالة لا بدّ من أن نلتزمهما ونتبعهما، "لأنَّ عليّاً(ع) هو الإسلام، وليس فيه شيء غير الإسلام. فإذا أردت أن تكون مع عليّ(ع)، فاختصر المسافة، وكن مسلماً حقيقياً". والمسألة ليست شخص عليّ(ع)، بل ما تعنيه هذه الشخصيَّة. ونحن مشكلتنا أننا نتجمّد في التاريخ عند الأشخاص كأشخاص، سواء في النظر إلى عليّ، أو إلى غيره.

وعندما ننظر إلى عليّ(ع)، يجب أن لا نكتفي بجانبٍ واحدٍ من شخصيَّته، ككونه أهم الأبطال وأشجعهم مثلاً، بل أن ندرسه كلّه؛ في الحروب، وفي الفكر، وفي الموقف. بهذا نفهم النهج، ولا نلتزم بالشخص لمجرّد كونه فلاناً. وإذا احتفلنا بمولد عليّ مثلاً، فلكي نولد بولادته، ولنسير على هديه. فنحن نعيش في زمان يعيد تكرار الكثير مما كان في زمانه، ولكي نحلّ مشاكلنا، يجب أن نتعرّف كيف واجه(ع) مشاكله. فلنبقَ معه، وليكن حبّنا ائتماماً بهذا الذي نحبّ، بعلي(ع).

علينا الائتمام بعليّ على قدر ما نستطيع، فهو يقول لنا : "وإن لكلِّ مأموم إماماً يقتدي به، ويستضيء بنور علمه، ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعمه بقرصيه، ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع واجتهاد، وعفّة وسداد".

 وعليه، يقول السيّد: "أن تكون مع عليّ(ع)، وأن تكون من محبّيه، فذلك شيء متعب جدّاً... فعليّ(ع) يكلّفك الكثير، تقوى وورعاً وعلماً واجتهاداً واستقامةً". أن تكون مع عليّ(ع)، يعني أن تكون مع الحق، فـ"عليّ مع الحق والحقّ مع عليّ"، أن تعيش فكر عليّ وروحه وصدقه ومحبّته لله ولرسول الله(ص).

على أن تقديرنا لعليّ، لا يعني أن نثير النـزاع حول سابقيه، فقد أصبح عليّ(ع) ومن تقدّمه في رحاب الله، إنما ما يجب التوقُّف عنده، هو الخطُّ الفكريّ والجهاديّ والروحيّ، لأن قضايانا تحتاج إلى منهج عليّ(ع)؛ فلا يخلد بعضنا إلى الحياد، على أساس أن لا علاقة له بما يجري، فعليّ(ع) يعلّمنا، كما رأينا، أن لا حياد بين الحقّ والباطل، ولا حياد تجاه قضايا الأمة.

وإلى هذا، يقول السيّد: "ليست المسألة أن نزور عليّاً في التاريخ، بل يجب أن ندعوه... (كي) يدخل في فكرنا وسياستنا واقتصادنا وإدارتنا". وعلينا أن لا نكتفي بالدراسة الأكاديمية، بل أن نرى قضايانا من خلال القضايا التي عرفها التاريخ.

إن في تراث عليّ(ع) ما يكشف لنا أسباب هزائمنا، كما يقول السيّد، ويبيّن لنا لماذا ينهش الآخرون واقعنا قطعةً قطعةً، ويعلّمنا كيف نواجه الكفر العالمي الذي يريد أن يقضي على الإسلام. والوقوف مع عليّ(ع) يعني أن نواجه الباطل كما واجهه. علينا استلهام عليّ(ع) في صلابة موقفه أمام الانحراف، فلا تأخذنا في الله لومة لائم، وعلينا أن نقف كما عليّ(ع)، ليكون العزيز القويّ عندنا ضعيفاً حتى نأخذ الحقّ منه، وليكون الضعيف الذليل قوياً حتى نأخذ الحق له. إن الانتماء إلى عليّ يفرض علينا أن نكون الصادقين والأمناء، وأن نكون المحقّين، ولقد واجه عليّ(ع) الباطل، كما يقول السيّد، في الكفر، كما في داخل المسلمين.

 لنترك العصبيّات التي تفرّقنا، نحن المسلمين، ولنتوجّه جميعاً ضدّ أعدائنا. فعليّ(ع) يعلّمنا أننا إذا وقعنا بين مصلحة الإسلام العليا وخصوصياتنا فيما نلتزمه، فإن علينا أن نجمّد خصوصياتنا، وأن نراعي المصلحة الإسلامية العليا. بذلك نكون مع عليّ(ع)، ويكون معنا بعقله وروحانيته وفكره.

إنَّ الانتماء إلى عليّ(ع) ليس بالأمر السهل، كما أسلفنا، فلا يكفي فيه مجرّد إعلانات النيات، بل الجهاد. فالانتماء إليه، كما يقول السيّد: "يكلّف كثيراً؛ من عقلٍ نحمله من خلال عقله، ومن قلبٍ نعيشه من خلال سعة قلبه، ومن خطّ مستقيم نتحرّك فيه من خلال خطّه المستقيم. فلنرتفع إلى عليّ(ع)، حتى نرتفع إلى الإسلام".

ومن هنا، علينا أن نتنبّه لأعداء عليّ(ع) الذين يعيشون بيننا. فكم من ابن ملجم نلتزمه (من دون أن ندري)، لأن هناك عاطفةً عائليةً أو حزبيةً أو قوميةً أو وطنيةً تربطنا به. فبعض الذين يلتزمون عليّاً(ع) في الولاية عنواناً، لم يدرسوه، ولم يتبنّوا منهجه، لذلك بقي التخلّف معشّشاً بينهم، بينما هم يهتفون باسمه صباح مساء، وربّما وصل الأمر ببعضهم إلى أن يفرض تخلّفه على عليّ(ع) ليعطيه صورته. لقد بقوا يتحرّكون من خلال عصبياتهم، ومن خلال العقد النفسية والاجتماعية. إنهم لا يحاولون أن يتعلّموا عليّاً(ع) المحاور الدالّ على الحقّ، الذي ناقش الخوارج وطلحة والزبير ولم يكفّرهم، وكان يناقش من يختلف معه بفكرة ما، وهو يعرف أنها باطلة. "فليس من حقّ أحد اليوم أن يكفّر أو يزندق أو يضلّل أيّ مسلم، لمجرّد اختلافه معه في فكرة ما، بل عليه محاورته، وإقناعه بالحسنى ما أمكن".

بهذا نرسّخ الوحدة الإسلامية، وهي الوحدة الضرورية، كما قلنا، في مواجهة أعداء الإسلام.


المشكلة اليهوديَّة بين الأمس واليوم

إن المشكلة اليهودية، المقصودة هنا، ليست مشكلة اليهودية بصفتها ديناً، لكن مشكلة فئات معيّنة من اليهود، يستخدمون الدين للتغرير بالبسطاء من أبناء دينهم، ويدفعونهم إلى الاعتداء على حريّات الناس في نشر أديانهم، أو على حقوقهم في أوطانهم.

ففي زمن الرَّسول(ص)، التقى اليهود بالمشركين، وقد أفتى اليهود للمشركين من قريش أنهم على هدى، وأن محمداً(ص) على ضلال، كما أثبته تعالى بقوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا سَبِيلًا}(النساء/51).

وكان يهود المدينة قد دخلوا في معاهدةٍ مع الرَّسول(ص) في ما سمّي "الصحيفة" عند هجرته إلى المدينة، لكنَّ المشركين استمالوهم، وهاجموا المدينة في ما سمّي معركة "الخندق". ولكن الله نصر المسلمين بفضل شجاعة علي أساساً وبفضل الخطة التي رسمها الرسول(ص)، والتي زرعت الشكوك بين المشركين واليهود من بني قريظة، فلم يشارك هؤلاء في القتال.

واليوم، لا ضرورة لشرح ما يعانيه المسلمون من اليهود الصهاينة في فلسطين، ولو استفدنا من تاريخ الرسول(ص)، ومن بطولة عليّ(ع) في المعارك مع اليهود في المدينة، وفي خيبر، لكنّا في الطريق الصحيح.

في التشيّع

إنَّ الشيعة يحبّون أهل البيت(ع)، لكن أهل البيت(ع) يريدون أن يكون التشيّع في طول خطّ الإسلام، فهم يحدّدون طريقة حبّهم بالقول: "من كان لله مطيعاً فهو لنا وليّ، ومن كان لله عاصياً فهو لنا عدوّ. والله ما تنال ولايتنا إلا بالعمل والورع". فمحبّهم يجب أن يلتزم النّهج الذي يحدّدونه، فهم يقولون : "حبّنا حبّ الإسلام"، فلا يبتعد عن العقيدة المحدّدة في الكتاب والسنّة. فعلى الشيعيّ أن يحمل الإسلام في قلبه، كما حمله عليّ(ع)، وأن يبيع نفسه لله، كما باع عليّ(ع) نفسه لله، وأن لا يكون حبّه في الواقع حبّاً لمعاوية ويزيد، كما يقول السيّد، لا حبّ عليّ والحسين(ع).

من هنا ضرورة تحديد خطّ التشيّع، فلا يكون ارتباطاً بشخص من دون اتّباع نهجه وخطّه، ورفض النّهج والخطّ المخالفين. إن حركة الإنسان في التشيّع حركة تشمل الحياة كلّها، وليست حركةً تتوقّف عند حقبة تاريخية معيّنة. "أن تكون شيعيّاً، كما يقول السيّد، يوجب أن تعيش في قلب التاريخ، من دون أن تسحب التاريخ إلى حركة الحاضر".

وفي الخلاصة، كان علي(ع) مدرسةً متكاملةً علينا التعلم منها، فلنتعلّم منه العبادة، ولنتعلّم منه ماذا يكون موقفنا منه، ولنستلهمه في تعاملنا مع إخواننا، وفي تعاملنا مع أعدائنا، وخصوصاً اليهود الصهاينة، ولنستعجل التعلّم قبل فوات الأوان.





الخلاصة

لقد كشف لنا السيّد جوانب من شخصية عليّ(ع)، المولود في الكعبة، الذي كانت حياته تفانياً في الله تعالى، واندماجاً بالإسلام، والذي أتى استشهاده في المحراب، ليختم كلّ ذلك بالفوز، كما أكّد عليّ(ع) نفسه.

ولقد عمل أعداء عليّ(ع) للتعتيم على شخصيَّته ما أمكنهم، ولمّا اكتشفوا عجزهم، راحوا يشوّشون عليه باختلاق الحكايا المتهافتة التي لا تصمد أمام أقلام الناقدين، ولكنّها أثّرت في بعض العقليات وخدعتها، فأصبح من واجبنا دحضها، وإنقاذ الأذهان منها؛ لا إنصافاً لعليّ(ع)، وهذا واجب أساسيّ، بل إجلاءً لتلك السيرة التي كانت مواجهةً مع الباطل، وترسيخاً للحقّ في مختلف جوانبها، الأمر الذي أمسينا في أمس الحاجة إلى أن نترسّمه نحن اليوم في مواجهة التراخي واللامبالاة، وحتّى الخيانة، في الداخل، وكذلك في التصدّي للطامعين في خيراتنا ومواقعنا الاستراتيجية، الذين يجدون الإسلام الحقيقيّ عقبةً كأداء في طريقهم، تمنعهم من إنفاذ مشاريعهم. لذلك، فإن تآمرهم راح يتصاعد بقدر ما راحت تبرز قوّة الإسلام وفعله في الأمّة.

من هنا، يمسي علينا أن نعمّق حقيقة الإسلام، ليفعل فعله في شكل أكثر تأثيراً، وذلك من طريق دراسة عليّ(ع)، كما فعل السيّد، وإعادة دراسته، لأنه يتكشّف لنا دائماًً عن جديدٍ خالد على مدى الزمن، وهذا لا يتأتّى لنا من خلال العصبية المذهبية، أو الموقف العاطفيّ، أو التعلّق بالشخص بسبب هذه الميزة أو تلك، بل فقط من خلال التفكير المجرّد المنـزّه عن الهوى والعقد النفسية، والذي لا يسقط قيمه الخاصّة، وهي قيم غالباً ما تكون متخلّفةً، على عليّ(ع)، بل يحاول تبنّي قيم عليّ(ع) ما استطاع، معيناً هذا الإمام العظيم "بورعٍ واجتهاد، وعفّة وسداد"، كما يطلب منّا.

بهذا نوفّر الخلاص لأنفسنا، ونؤمّن المنعة لأوطاننا وأمّتنا، وننصر مُثُلَ السماء وقيمها على مُثُلِ المادّة، كالتشبّث بزخارف الحياة الدنيا، التي خاطبها عليّ(ع) بقوله: "يا دنيا، يا دنيا إليك عنّي، أبي تعرّضت، أم إلي تشوّقت؟ لا حان حينك، هيهات! غرّي غيري، لا حاجة لي فيك، قد طلّقتك ثلاثاً لا رجعة فيها؛ فعيشك قصير، وخطرك يسير، وأملك حقير. آه من قلّة الزاد، وطول الطريق، وبعد السفر، وعظيم المورد!".






المراجع


1- في رحاب أهل البيت(ع)، سماحة آية الله العظمى السيّد محمد حسين فضل الله، إعداد سليم الحسني، دار الملاك، ج1، ط 1، 1425هـ، 2005م.

2- عليّ ميزان الحقّ، سماحة آية الله العظمى السيّد محمد حسين فضل الله، إعداد وتنسيق صادق اليعقوبي، دار الملاك، ط2، 1423هـ، 2003م.

3- الندوة، سلسلة ندوات الحوار الأسبوعية بدمشق، سماحة آية الله العظمى السيّد محمد حسين فضل الله، 19 جزءاً، إعداد عادل القاضي، ج2, 3، دار الملاك، ط2، 1421هـ، 2000م؛ ج4، 5، 7، دار الملاك، ط2، 1421هـ، 2000م؛ ج8، 9، دار الملاك، ط1، 1422هـ، 2001-2002م.

4- نظرة إسلامية حول الغدير، سماحة آية الله العظمى السيّد محمد حسين فضل الله، دار الملاك، 1424هـ، 2004م.

5- الكلمة الموقف، صلاة الجمعة، سماحة آية الله العظمى السيّد محمد حسين فضل الله، إعداد شفيق الموسوي، دار الملاك، ط2، 1428هـ، 2007م.

6- الإمام عليّ، وقفة مع الوحدة الإسلامية، سماحة آية الله العظمى السيّد محمد حسين فضل الله، لا.م، لا.ط، لا.ت.

7- على ضفاف الوصية، شرح لوصية الإمام عليّ للحسن والحسين(ع) قبل استشهاده، سماحة آية الله العظمى السيّد محمد حسين فضل الله، دار الملاك، 1425هـ، 2004م.


أهل البيت(ع)



                                          محمد طي

                                      كاتب لبناني، وأستاذ جامعي في الحقوق


أولاً: السيدة الزهراء

ثانياً: الإمام علي بن أبي طالب

ثالثاً: الإمام الحسن

رابعاً: الإمام الحسين

خامساً: الإمام زين العابدين

سادساً: الإمام محمد الباقر

سابعاً: الإمام جعفر الصادق

ثامناً: الإمام موسى الكاظم

تاسعاً: الإمام علي الرضا

عاشراً: الإمام محمد الجواد

حادي عشر: الإمام علي الهادي

ثاني عشر: الإمام الحسن العسكري

ثالث عشر: الإمام المهدي


أئمة أهل البيت هم علي(ع)، وولداه من فاطمة(ع)، الحسن والحسين(ع)، ثم سلسلة الأئمة من نسل الحسين(ع) حتى التاسع منهم، وجدهم هو النبي(ص)، لذلك عدّوا أبناء رسول الله(ص)، ورثوا العلم منه عبر علي بن أبي طالب ، فكان كل منهم الأعلم في زمانه بشهادة أهل ذلك الزمان، وبشهادة الكثيرين من علماء المسلمين حتى اليوم.

اهتمَّ السيد محمد حسين فضل الله(قده) بالأئمة، وأفرد لكل منهم العديد من الكتابات والخطب، تعريفاً بهم، وكشفاً لقداستهم، وتبياناً لخطهم، ودعوةً للمسلمين للسير على هديهم، لأن بذلك خلاصهم في الدنيا والآخرة، وذلك لاعتبارات عديدة يتوقَّف عندها السيد(ره)، ومنها عصمتهم وعلمهم وسيرتهم وجهادهم.

عصمتهم(ع):

عصمة أئمة أهل البيت(ع) ثابتة بالنقل والعقل.

ففي النص القرآني، تطهّرهم الآية الشريفة: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾(الأحزاب/33)، كما ترفعهم إلى أعلى الدرجات آية المباهلة المباركة التي تقول: ﴿فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الكَاذِبِينَ﴾(آل عمران/61)، حيث أتى الرسول بعليّ وفاطمة والحسن والحسين، ليباهل بهم وفد نصارى نجران، وسموا أهل الكساء، وهم أفضل خلق الله.

وإذا كانت الآية المباركة اقتصرت على الخمسة أصحاب الكساء، فإن العقل يقضي بأن يكون وارثو إمامة المسلمين، كما الرسول(ص)، معصومين من الذنوب، ومبرئين من الوقوع في الخطأ، لأن ذلك يطعن في مقبوليتهم، ويسمح للشك فيهم بأن يتسرب إلى النفوس.

دورهم(ع):

أما دور أهل البيت(ع)، فكان متابعة مسيرة الرسالة بعد الرسول(ص) الذي انتقل إلى جوار ربه، والإسلام لمّا يرسخ في نفوس الكثير من النّاس، كما أنه لم ينتشر خارج جزيرة العرب، وحتى لا ينحرف بالرسالة أصحاب الأهواء والمصالح. وهذا ما يبينه السيد(قده)، إذ يقول: وظيفة الإمام هي أن يتابع الخط الإسلامي والنهج الإسلامي بعد النبي(ص)، لأن النبي لم تتح له الظروف أن يبسط الإسلام في العالم كله، وأن يحمي الإسلام ممن يسيء إليه أو ينحرف به، ليبقى الإسلام مصوناً من الخلل والتحريف، وبهذا تكون الإمامة واجبة، لأن الإمامة تمثِّل الامتداد العملي للنبوة، وهي ليست نبوة. وإذا كان القرآن كتاب المسلمين الإلهي الذي "فيه تبيان كل شيء (نهج البلاغة، خطبة 18) ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾(الأنعام/38)، إلا أنَّ القرآن إجمالي في بعض القضايا، وقد يبدو على شيء من الغموض بالنسبة إلى النّاس، من هنا كانت السنّة النبوية المطهرة.

غير أن السنَّة لم تنج من الدسِّ والتحريف، الأمر الذي يقتضي أن يكون لها حراس يصوّبون الأمور وأعلم الناس بالسنَّة هم أئمة أهل البيت(ع)، من هنا كانوا هم المؤهلين للتصدي لذلك.

ومن جهة ثانية، فإن القرآن والسنَّة لا بدَّ لهما من تفسير وإيضاح، ولا بد من كفاءة لاستخراج أحكامهما، وهذا هو الدور الطبيعي للأئمة؛ فالأئمة كما يقول السيد(ره)، "هم أمناء الرسل وأمناء الله في حلاله وحرامه"، وخطهم "يتمثَّل في أن يبلغوا الناس ما جاء عن رسول الله(ص)، وأن يرصدوا الانحرافات التي يمكن أن يقع الناس فيها من تفسيرٍ للقرآن، أو من اجتهادٍ في الشريعة، أو من حركةٍ في الواقع... فالإمامة في دورها القيادي تتحرك في خط الرسالة، ولكن من دون نبوة". إنَّهم أمناء الرسول(ص) على شريعته، وخلفاؤه في أمته، يوضحون للناس دينهم، ويقرّبونه إليهم.

إنهم بهذا أعلام الدين، ونظام الملَّة التي يمكن أن تضيع لولا قيادتهم. وهم الذين يعلمون الناس كيف يستخدمون عقولهم، انطلاقاً من الوحي بالمناهج التي يرسمونها للتفكير.

علمهم(ع):

استمدَّ الأئمة علمهم من رسول الله(ص) الذي علَّمه الله، وقد حفظ علمه الإمام علي بن أبين طالب(ع)، أبو الأئمة، الذي كان يلازم الرسول(ص) ليلاً نهاراً، فإما هو في بيت الرسول(ص)، وإما الرسول في بيته الذي يضمه وفاطمة(ع)، "ومن هنا، كان علي(ع) وحده، ولا أحد غيره، المؤهل لأن يكون الولي بعد رسول الله(ص)، ويستشهد السيد(قده) بالخليل بن أحمد الفراهيدي، عندما سئل لماذا فضَّل علياً، فقال: "احتياج الكل إليه، واستغناؤه عن الكل، دليل على أنه إمام الكل" (الندوة، ج. 9، دار الملاك 2002، ص. 208). وقد ورَّث علي(ع) العلم لذريته، فكان الأئمة(ع) استمراراً للرسول(ص) في هذا العلم، فأصبح حديثهم "يعتبر امتداداً لحديث النبي(ص) ومتفرعاً عنه ومستمداً منه. كما أن تراثهم هو "التراث الذي يمثل الحقيقة الصافية، لأنه ينطلق في عمقه من رسول الله(ص) ورسول الله(ص) ينطلق في كل ما تحدث به عن الله سبحانه وتعالى".

مزاياهم(ع):

كان أئمة أهل البيت(ع) يتحلّون بكلّ المناقب الخلقية، إذ يصفهم أمير المؤمنين بقوله: "إني لمن قوم لا تأخذهم في الله لومة لائم، سيماهم سيماء الصدّيقين، وكلامهم كلام الأبرار، عمَّار الليل، ومنار النهار، متمسكون بحبل القرآن، يحيون سنن الله وسنن رسوله، لا يستكبرون ولا يعلون ولا يغلون ولا يفسدون. قلوبهم في الجنان، وأجسادهم في العمل".

وعلى رغم عصمتهم من ارتكاب الذنوب، فإن أهل البيت كانوا في خوفٍ من غضب الله ورجاءٍ لرحمته، ذلك أن الإنسان المتوازن يجب أن يكون "في قلبه نوران؛ نور خيفة ونور رجاء"، "لو وزن هذا لم يزد على هذا، ولو وزن هذا لم يزد على هذا".

وإلى ذلك، كان من أخلاق الأئمة(ع) تعرّف أحوال الفقراء والتحسس لآلامهم، حيث كانوا يحملون إليهم الطعام على عواتقهم، ولا يرسلونه إليهم مع غيرهم، ليحتكوا بهم، ويكتشفوا معاناتهم.

خطّهم(ع):

ولكن هل يشكل أئمة أهل البيت مذهباً من المذاهب؟

يجيب السيد(قده): "من الخطأ أن نقول إن هناك "مذهباً جعفرياً" في مقابل غيره من المذاهب"، لأن خط الأئمة(ع) هو خط رسول الله(ص)، خط القرآن، "اقرأوا القرآن الكريم، تعرفوا مذهب أهل البيت(ع)، لأن أهل البيت(ع) ليس لديهم شيء غير القرآن الكريم بشرط أن نفهمه"، إنهم "يرضون بما يرضي الله، ويغضبون لما يغضب الله".

على أن أئمة أهل البيت(ع) ليسوا نقلةً للحديث الشريف، بل هم كعلي(ع) منبع علم، "إنهم ليسوا رواةً كبقية الرواة، ولكنهم اختزنوا علم رسول الله(ص) تماماً كما اختزنه أبوهم وجدهم الإمام علي بن أبي طالب(ع)، الذي جاء عنه: "علَّمني رسول الله ألف باب من العلم، فتح لي كل باب ألف باب"، ولكن الأئمة ليسوا مجتهدين أيضاً كسائر المجتهدين الذين يصيبون ويخطئون، بل هم يملكون الحقيقة الصافية.

إلا أن سؤالاً يطرح حول ما ذهب إليه بعض كبار الفقهاء، من أن الأئمة يتبنون خطةً متكاملة، يجيب السيد(قده) على هذا الرأي بالقول: "إن الدراسة التفصيلية لحياة الأئمة، لا توحي بوجود خطّةٍ متكاملةٍ بالمعنى التفصيليّ الذي يضع لكلّ واحدٍ منهم أسلوباً خاصاً وموقعاً معيناً في دائرة الخطة، بل كل ما هناك، أن الخط الرسالي المتمثل بالإسلام الأصيل، هو العنوان العام الذي كان يحكم حركتهم من خلال رساليتهم... من دون تواصل عضوي خاضع لدراسة مسبقة وتخطيط مرسوم"، لأن هذا لا تقتضيه وحدة الإمامة، "لأن وحدة الإمامة تفرض وحدة الرسالة ووحدة الهدف، ولكنها لا تفرض وحدة الخطة"، ذلك لأنه من الواجب الاستجابة لاختلاف "طبيعة المعطيات المتنوعة التي قد تجعل الحكم الشرعي هنا مختلفاً عن الحكم الشرعي هناك تبعاً لاختلاف الموضوعات... فقد تمس الحاجة إلى الصلح والمهادنة، كما فعل الإمام الحسن(ع)... وقد تمس الحاجة إلى القتال والتضحية، كما فعل الإمام الحسين(ع).

سنَّتهم(ع):

غير أن الخط الإسلامي الأصيل راح يتعرض في جانبه النظري إلى محاولات التشويه، ولا سيما في ما يخص الأحاديث المروية عن أهل البيت(ع)، تماماً كما تعرَّضت أحاديث الرسول(ص)، فظهرت أحاديث ما زالت تتناقل وتروى حتى اليوم، ومنها أحاديث تخالف القرآن والسنَّة، ومنها ما لم يثبته التاريخ، مثل حديث: "ما منا إلا مسموم أو مقتول"، إذ إن بعضهم(ع) لم يثبت أنه سُمَّ أو قتل.

وقد نبَّه الأئمة إلى هذا، فقالوا: لا تقبلوا علينا حديثاً إلا ما وافق القرآن والسنة، أو تجدون معه شاهداً من أحاديثنا المتقدمة... فاتقوا الله ولا تقبلوا علينا ما خالف قول ربنا تعالى وسنة نبينا.

وهذا ما يدفعنا إلى دراسة الأحاديث متناً وسنداً، علينا أن ندقِّق في هذا التراث، بحيث نستوثق من سلامته من الدسِّ والوضع والكذب"، وأن نحذّر من الغلوّ. لقد وضع الأئمة لنا منهجاً نقدياً علينا اتباعه.

على أن التَّدقيق يجب ألا يقتصر على الأحاديث التي يعتمدها الفقه، بل يجب أيضاً أن يتناول أحاديث المناقب التي يتساهل فيها بعضهم، علماً أن الصدق صدق والكذب كذب، وهناك من لا يقدِّر خطورة بعض الأحاديث، "فرُبَّ نظرة واحدة مدسوسة في بعض الأحاديث، تكون كافيةً لتهديم مجتمع كامل".

طاعة الأئمة(ع):

إذا كان مطلوباً من كل إنسان أن يطيع الله فيما يأمر به وينهى عنه، فإن الأئمة لا يستطيعون أن يعفوا أحداً من هذه الطاعة، مهما كان مخلصاً في ولايته لهم. فلا "تتقرب إلى الله إلاَّ بالطاعة، فمن كان مطيعاً لله تنفعه ولايتنا، ومن كان منكم عاصياً لله لم تنفعه ولايتنا"، ذلك أن التشيع لهم(ع) خلق وسلوك وعبادة: "والله، ما من شيعتنا إلا من اتقى الله وأطاعه، وما كانوا يعرفون إلاَّ بالتواضع والتخشع والأمانة وكثرة ذكر الله والصوم والصلاة والبر بالوالدين والتعاهد للجيران من الفقراء وأهل المسكنه والغارمين والأيتام، وصدق الحديث وتلاوة القرآن وكفّ الألسن عن الناس إلاَّ من خير".

ويعالج السيد(قده) هنا مسألتين:

مسألة اقتدائنا بالأئمة(ع)، فقد ذهب بعضهم إلى أن الأئمة حالة خاصة، ليس مطلوباً أن نسير بسيرتهم. ويردُّ السيد(قده) على هذا القول بأنه على العكس من ذلك، يجب أن نقتدي بهم حسب استطاعتنا، لأن الإمام علياً(ع) يوصينا بقوله: "ألا وإن لكل مأموم إماماً يقتدي به ويستضيء بنور علمه... ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفة وسداد...". فعلينا إذاً أن نتحرك في خطهم، ونسير على هديهم، وأن نجعل سيرتهم أمامنا. "هذا هو معنى التمسك بالعترة، التمسك بقيادتهم ومنهجهم وسيرتهم وفكرهم وخطهم في الحياة"، وعلى زائريهم ألا يكتفوا بقراءة الزيارة المكتوبة، "بل عليكم أن تزوروهم بكل ما تحفظونه من كلماتهم، وأن تقفوا أمام أضرحتهم لتسترجعوا سيرتهم وحياتهم ووصاياهم، وبذلك تكون الزيارة ثقافيةً وفكريةً وروحيةً وعملية، علينا عندما نقرأ الحسين(ع)، أن نتعلَّم منه الثورة على الظلم، "لئلا تتجدد مسألة كربلاء في الواقع السياسي والإسلامي، فيقتل الضَّالون والطغاة أكثر من حسين في الساحة".

أما الاكتفاء بالغيبيات وبالبكاء والتفجع على مآسي الأئمة(ع)، فهو، وإن كان مطلوباً، ليس بكافٍ، فإذا كان الوعاظ والخطباء يقدمون للوسط الشعبي "جانب الغيب في شخصيته(ع)، فيما هي الأسرار الغامضة، وفيما هي المعاجز الخارقة، والمأساة التي تستنـزف الدمع، بحيث تتحرك المسألة في حشد أكبر عدد ممكن من العناصر المأساوية، كيفما كانت، للإيحاء بشخصية الضحية"، ففي ذلك تضيع شخصية البطل التي يتمتع بها الإمام. و"لعل الأساس في ذلك، هو أن هناك استغراقاً في الذات، على أساس تأكيد عظمة الإمام من خلال الغيب، وتأكيد العاطفة في العلاقة من خلال المأساة. إلا أن هذا يجب أن لا يمنع الحديث عن الشجاعة والبطولة، بل عن القضية التي جاهد الإمام من أجلها كي نقتدي به اليوم.

إلا أنه للأسف، "وصل الانحراف في هذا الجانب إلى مستوى خطير جداً، بحيث فقدت سيرة الأئمة في نظر بعض العلماء مضمونها الإسلامي العام، الذي يمكن أن يكون مصدراً لاستلهام الحكم الشرعي منه.

إن المطلوب التوازن بين المسألتين، وهذا ما يعبر عنه السيد(قده) بقوله: "إننا لا نريد أن نرفض إثارة الجو المأساوي، فيما عاشه الأئمة(ع) من المصائب والآلام، ولكننا نرفض اعتباره عنصراً أساسياً في القضية، بحيث تغرق الجوانب الأخرى الحية من حياتهم في الدموع".

"إن الأئمة(ع) لم يأتوا من أجل تأكيد ذواتهم، وإن كانت ذواتهم تحمل كل معاني الرسالة... (بل) كان اهتمامهم بالإسلام وبأن نتبعهم، لا أن نستغرق في أفراحهم وأحزانهم".

وهكذا، فعلينا أن "نستعيدهم (الأئمة) من الكتب إلى الحياة، أن يتحركوا معنا، وأن ننطلق في المفاهيم التي تواجه الإنسان المعاصر، لنقدم له رأياً إمامياً في قضايا الحرية والعزَّة...".

علينا أن نرفض العصبية العمياء، فالتشيع انفتاح واستيعاب للإسلام، وليس انغلاقاً وتحجراً وابتعاداً عن الآخرين.


أولاً: السيدة الزهراء(ع)


أمُّ الأئمة(ع) وغيرهم، فاطمة الزهراء البتول(ع)، خير نساء المسلمين، وخير نساء العالمين، هي سيدة أهل البيت ﴿لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾(الأحزاب/33)، فهي التي اختارها الرسول(ص) ليباهل بها وزوجها وولديها إلى جانبه وفد نصارى نجران. وقد وصفها(ص) بأنها سيدة نساء العالمين، أو في حديث بأنّها سيدة نساء أهل الجنة. وعندما تكون سيدة نساء أهل الجنة، فلا بدَّ من أن تكون سيدة نساء العالمين، كما يؤكد السيد فضل الله(قده)، لأن نساء أهل الجنة هنَّ خير النساء.

إنها، كما يقول السيد "نور على نور"، وفي حياتها الكثير من الكرامات التي أعطاها الله إياها، إذ كان الرسول(ص) يدخل عليها "كما ينقل... فيجد رزقاً، كما كان يدخل زكريا على مريم(ع) فيجد عندها رزقاً". كل هذا ولم يتجاوز عمرها المبارك، على أبعد التقديرات، الثّامنة والعشرين عاماً، وهي بذلك "قد تصل بحسب الميزان البشري إلى ما يشبه المعجزة الحركية الإنسانية".

لقد عاشت الزهراء(ع) طفولتها مع رسول الله(ص)، وكذلك شبابها، فكانت "تتعلم منه في كل يوم ما لا يتعلمه غيرها، لأنها كانت تملك عقلاً مفتوحاً وقلباً واعياً وانفتاحاً على الرسالة".

لم تعش الزهراء في طفولتها حياة الأطفال ولهوهم، بل كانت حياتها منذ نعومة أظفارها هي "الرسالة" كلها، فالرسالة أصبحت جزءاً من ذاتها، في حين أن النساء المؤمنات غيرها كن ينفتحن على الرسالة الوافدة من خارجهن. كان "الفرق بينها وبين بقية النساء، أنّ الرّسالة كانت تأتي من خارج ذاتهن، أما هي فكانت رسالتها تنبع من داخل عقلها وقلبها وروحها، لأنها عاشت حياتها كلها مع الرسالة وفي حضن الرسالة"، حتى إنها كانت تخرج مع والدها بين وقتٍ وآخر إلى بعض مواقع الجهاد "لتعاون وتساعد في ذلك كله".

ميزات الزهراء(ع):

يصف السيد(قده) الزهراء بقوله: "كانت تمثل الطهر كأعظم ما هو الطهر، والصفاء كأصفى ما يكون، وكانت تتمثل بعقلها عقل رسول الله(ص) المنفتح على الحقيقة وعلى الثروة الفكرية، وفي روحها روح رسول الله(ص) التي ارتفعت في روحانيتها إلى مواقع القرب من الله عزَّ وجلّ. كما أنها، وهي لم تتعدَّ، حسب أشهر الروايات الثمانية عشر ربيعاً من عمرها، كانت الإنسانة المعصومة في فكرها، فلم يخطئ لها فكر، وفي عاطفتها، فلم تنحرف لها عاطفة، وفي كلماتها وفي كل سلوكياتها، فكانت الحق كله".

وأما عبادتها، فكانت السيدة عائشة تصفها بقولها: "ما رأيت في هذه الأمة أحداً أعبد من فاطمة إلا أباها"، كما تقول فيها: "ما رأيت اصدق منها إلا أباها"، وتقول: "ما رأيت من الناس أحداً أشبه كلاماً وحديثاً برسول الله من فاطمة".

وأما علاقتها بأبيها، فكانت علاقةً مميزة، فقد فقدت أمها مبكراً، فكان النبي(ص) أباها وأمها، وقد "انفتحت في طفولتها على أبيها، فكانت تعطيه وهو في الخامسة والأربعين" من كل قلبها الطاهر أعمق المشاعر والعواطف... حتى قال عنها: "إنها أم أبيها". وكانت تلك أول كنية أعطاها إياها، كأنَّه(ص) شعر بأنّ أمه بعثت في شخص الزهراء(ع). كانت تشاركه المعاناة منذ طفولتها، فحينما كان المشركون يضعون على ظهره أمعاء الشاة، كانت(ع) تأتي وهي تبكي لتزيل ذلك عنه.

لذلك ولغيره، كان الرسول(ص) يشعر بأنها جزء عضوي منه، "هي قطعة من عقل رسول الله(ص) وروحه وأحاسيسه ومن حركة رسالته"، "فاطمة شجنة (غصن مشتبك) مني، يؤذيني ما أذاها، ويسرُّني ما سرَّها"، و"فاطمة بضعة مني، من أغضبها أغضبني، ومن أغضبني فقد أغضب الله". وهكذا إذاً، وكما يقول الإمام الرضا(ع): "إن الله ليغضب لغضب فاطمة ويرضى لرضاها". ذلك أنها لم تكن تغضب لنفسها بل لدينها، للرّسالة، للمؤمنين، للأمة، فهي لم تكن تذكر هجوم القوم على بيتها، بل تذكر ما حلَّ بالمسلمين، هي مع الإسلام، ومع وحدة المسلمين، وتتحمل في سبيل ذلك الظلم من بعض هؤلاء المسلمين، ذلك أن أهل البيت(ع) "هم الأمناء على الإسلام، والمسؤولون عن قوته، وعن المسلمين وخلاصهم. من هنا كانت تطلب الخير للمسلمين، فقد روى الإمام الحسن(ع)، على ما ينقله السيد(رض): "إنها كانت تقوم الليل حتى تتورَّم قدماها، وكانت تدعو للمؤمنين والمؤمنات، ولا تدعو لنفسها، وهي الضعيفة النحيلة، فقال لها: "يا أمَّاه، لمَ لا تدعين لنفسك؟ فقالت(ع): يا بني، الجار ثمَّ الدار".

لهذا كان احترام الرسول لفاطمة، فهي إذا وفدت عليه قام من مكانه وأجلسها فيه، وكان بيتها آخر بيت يودِّعه رسول الله(ص) عندما يسافر، وكان أول بيت يدخله عندما يعود من سفره.

وكانت الزهراء تبادل أباها حبه لها، إلى درجة أنها سرَّت وابتسمت عندما علمت أنها أول لاحقة به من أهل بيتها بعد وفاته، وهي التي كانت حزنت لما أخبرها بقرب أجله.

وكانت بعد وفاة الرسول(ص)، تزور ضريحه مع ولديها الحسن والحسين(ع)، لتؤكّد تعلّقهما به، عبر تذكيرهما بآثاره، فكانت "تستعيد رسول الله في حزنها، وتحاول أن توحي لمن حولها بذلك".

كانت الزهراء العالمة، وكانت تقدِّر العلم وتهتم به أيما اهتمام، ويستعيد السيد(قده) بهذا الخصوص ما نقله السيد محسن الأمين(ره) من "أنها فقدت أوراقاً كتبت فيها ما لديها من علم، وقالت لخادمتها (فضة): "ابحثي عنها، فإنها تعدل عندي حسناً وحسيناً"، وهي تعرف قيمة الحسن والحسين، لكن العلم المقصود هنا علم رسول الله الذي تركه للمسلمين مع العترة الطاهرة.

ولم تكن الزهراء تحتفظ بعلمها لنفسها، بل كانت تنشره، وما خطبتها في المسجد إلا الدليل على ما تختزنه من العلم، ذلك أن تلك الخطبة كانت محاضرة "تتحدث عن كل فلسفة التشريع، وعن كل الواقع التاريخي للجاهلية، وعن التطور الإيجابي الذي حصل من خلال رسالة رسول الله. ثمَّ تدخل في جدل قرآني فقهي مع الخليفة الأول".

هذا العلم ما كانت الزهراء لتبخل به على متعلم، بل كانت تعلّم منه نساء المهاجرين والأنصار ما يستطعن تعلّمه.

الزهراء وعلي(ع)

تلك هي الزهراء التي لم يكن لها كفؤ إلا علي(ع)، فـ"لولا علي لم يكن لفاطمة كفؤ". وذلك لا بسبب النسب، لأن العديدين كانوا يمتُّون إلى الرسول بالنسب نفسه، لكن بسبب العقل والروح والوعي والانفتاح والعبادة والإخلاص لله تعالى.

ولكم كان علي وفاطمة(ع) منسجمين، فقد عاشت مع علي(ع) كأعظم ما تكون الحياة الزوجية، ولذلك قالت له عند وفاتها: "ما عهدتني كاذبةً ولا خائنةً ولا خالفتك منذ عاشرتني"، وكان علي(ع) يقول عنها وهو يمثل انسجامهما الزوجي، إنها "كانت تطيعني في كل شيء، ولم تخالفني في شيء، لأنها كانت تفهم معنى علي، فهو ليس مجرَّد زوج، ولكنه يمثِّل القمة في كل شيء".

وعاش الزوجان حياة الفقر وحتى الشقاء المادي، ولما طلبا المساعدة من رسول الله، منحهما المساعدة الروحية ذهنياً، وكان علي(ع) يقول عنها(ع): "استقت بالقربة حتى أثَّر في صدرها، وطحنت بالرحى حتى مجلت يداها، وكسحت البيت حتى اغبرَّت ثيابها... فقلت لها: لو أتيت أباك فسألته خادماً". فذهبا إلى رسول الله(ص)، وعرف منهما ذلك، فقال: "أفلا أعلّمكما ما هو خير لكما من الخادم؟ قالا: بلى يا رسول الله، فقال: إذا أخذتما منامكما، فكبرا أربعاً وثلاثين مرةً، وسبِّحا ثلاثاً وثلاثين، واحمدا ثلاثاً وثلاثين. قالا: رضينا عن الله ورسوله".

ومع ذلك الفقر، كانت فاطمة وأهل بيتها يتصدقون بطعامهم الذي أعدوه لإفطارهم بعد الصيام، وينامون على الطوى، "فيطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً".

وكان رسول الله(ص) يتعاهدهما بالروح، فلما رأى ستاراً مزركشاً على باب بيت فاطمة، استاء حتى أزالته، فقال: "فداها أبوها، فداها أبوها، فداها أبوها. ما لآل محمد والدنيا، إنهم خلقوا للآخرة".

موقعها(ع) بين النبوة والإمامة

كانت الزهراء(ع) بنت النبي(ص) وزوجة علي(ع) أبو الأئمة، وكانت أم الأئمة، فهي التي ربَّت الحسنين السبطين، فإذا هي صلة الوصل المقدَّسة بين النبوة والإمامة، وهي التي أكدت موقف الرسول(ص) من الإمامة عندما دافعت عن حقِّ عليّ فيها، "لأنها كانت تعتقد أن قضية الإسلام هي قضيتها، لأنها تدافع عن إمامها وإمام المسلمين، وكانت تنظر إلى مستقبل الإسلام من خلال قيادة علي(ع) للمسيرة الإسلامية... لأن الإسلام بحاجة إلى من يكمل رسالة رسول الله في الجانب التنفيذي". وكانت تقول لنساء الأنصار والمهاجرين: "أصبحت والله عائفةً لدنياكن، قاليةً (مبغضة) لرجالكن... وما الذين نقموا من أبي الحسن؟ نقموا منه والله نكير سيفه، وقلة مبالاته لحتفه".

أما دفاعها عن حقّها في فدك، التي نحلها إيّاها أبوها رسول الله(ص)، فلم يكن دفاعاً عن ملك، بل كان دفاعاً عن الحق بإمرة المسلمين، بل "أرادت أن تثبت أن غصب فدك، يعني غصب الحق، وأن غصب فدك، يلتقي مع غصب الخلافة". فقد كان أحفاد الزهراء عندما يسألون عن حدود فدك، يحددونها بما يشمل البلاد الإسلامية بكاملها. أما فدك الملكية الزراعية، فكان علي(ع) يقول عنها: "كانت في أيدينا فدك... فشحت عليها نفوس قوم، وسخت عنها نفوس آخرين، وما أصنع بفدك وغبر فدك، والنفس مظانها في غد جدث".

لم تسكت الزهراء(ع) عن حقِّ علي(ع) بالخلافة، فقد ذكر بعض كتَّاب السيرة، أن علياً(ع) كان يطوف بها على جموع المهاجرين والأنصار لتدافع عن حقه أمام الذين سلبوا حقه".

وكان امتداد الزهراء في العترة الطاهرة؛ كان في زينب(ع) التي كانت في كربلاء القائد في غياب القائد، وكانت الصابرة كأعمق وأرحب ما يكون الصبر، وكانت البطلة أمام المأساة، وهي القائلة: "اللهمَّ تقبَّل منَّا هذا القربان"، "فأي أخت تعيش هذه المأساة... وهي لا تتوجه إلا إلى الله"، كانت صامدةً رغم عبراتها، "كصمود الحسين(ع)، وقد تجلَّى ذلك في عدة مواقف، حيث استطاعت أن تقف بكل عنفوان وبكل شموخ أمام ابن زياد، عندما قالت له: "إنما يفضح الفاجر ويكذب الفاسق، وهو غيرنا، ثكلتك أمك يا بن مرجانة". وعندما وقفت أمام أهل الكوفة وأنَّبتهم بكلّ عنفوان المرأة المسلمة البطلة القوية التي تنظر إلى كل هؤلاء الذين باعوا أنفسهم للشيطان، وعندما وقفت أمام يزيد وتحدثت معه بأسلوبٍ من أروع الأساليب التي مزجت فيها القوة بالعاطفة، وقالت له: "فكد كيدك، واسعَ سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا ولا تميت وحينا".

إن عظمة الزهراء(ع)، وعظمة زينب(ع) أكبر من أن نحدَّها بالمأساة، وإن كانت رهيبة، بل علينا تجاوز ذلك، لتبيان الميزات الكبيرة المتجاوزة للزمان والمكان، وإن كنا على حق حينما نبكي. يجب أن نرى الزهراء بحجم الرسالة، (وكذلك زينب)، يقول السيد(قده): "حتى ونحن نحزن عليها، نفرح بها، حتى ونحن نبكي عليها، نبتسم لها".

فلنكن مع عظمائنا رجالاً ونساءً من حيث كانوا مع الرسالة، ذاتهم ذات رسالية، فلننطلق مع ذاتهم الرسالية لا ذاتهم الشخصية، وإن كانت الرسالة قد امتزجت بالذات".

وهذا ما أكّده الإمام الخميني(قده)، عندما جعل يوم مولد الزهراء، يوماً عالمياً للمرأة.


ثانياً: الإمام علي بن أبي طالب(ع)


وليد الكعبة، وربيب النبي(ص)، وأول مصلٍّ بعد رسول الله(ص) ومع أم المؤمنين خديجة(ع)، وبطل الإسلام وخزَّان علمه، وولي المسلمين ووصي رسول الله(ص) وملازم الحق، ذلك هو علي بن أبي طالب(ع).

انفتح علي(ع) على الإسلام في العاشرة من عمره، فاقتنع به وآمن مستجيباً لدعوة رسول الله(ص) بعد تفكير بعقله الكبير في العمر الصغير، وبدأ يصلي مع رسول الله(ص) وخلفهما خديجة، عندما أمر أبوه أبو طالب ابنه جعفر أن يصل جناح رسول الله(ص)، أي إلى جانبه الثاني مقابل علي(ع).

تميَّز علي(ع) بحبه لله تعالى الذي يبدي عدم صبره على فراقه، فلا يشغله عنه شيء، إذ يقول كما ينقل السيد(قده): "فهبني يا إلهي وسيدي ومولاي وربي صبرت على عذابك، فكيف أصبر على فراقك، وهبني صبرت على حر نارك، فكيف أصبر عن النظر إلى كرامتك".

احتضن الرسول(ص) علياً(ع) وهو طفل صغير، فراح يعلمه ويخلّقه بأخلاقه. وفي هذا يقول(ع) مخاطباً المسلمين: "ولقد علمتم موضعي من رسول الله بالقرابة القريبة، والمنـزلة الخصيصة؛ وضعني في حجره وأنا ولد، يضمني إلى صدره، ويكنفني فراشه، ويمسني جسده، ويشمني عرفه. كان يمضغ الشيء ثم يلقمنيه" (عندما كان لا يزال طفلاً لا يستطيع المضغ).

وكان يصطحبه إلى حراء، حيث يشاهد ما يشاهد الرسول(ص) دون نبوة، ويعلّمه ويخلّقه بأخلاقه: "ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء ـ كما يقول علي(ع) ـ فأراه ولا يراه غيري... أرى نور الوحي والرسالة وأشم ريح النبوة". وفي كل هذه المسيرة، كان علي(ع) منذ طفولته معصوماً في القول والفعل، فما وجد له رسول الله(ص) كذبةً في قول ولا خطلةً في فعل. وكان يتبع رسول الله(ص) في حركاته وسكناته، وكان(ص) كما يقول علي(ع): "يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علماً ويأمرني بالاقتداء به".

ومن هنا، أصبح عقله عقل رسول الله، كما يقول السيد(قده)، فلما قرر رسول الله(ص) المباهلة مع وفد نجران، طلب إليهم يأتوا بأبنائهم مقابل أبنائه (الحسن والحسين)، ونسائهم مقابل نسائه (الزهراء)، وأنفسهم مقابل نفسه (نفسه ونفس علي(ع) (راجع: آل عمران/61 وكافة تفسيراتها).

ولقد وصف علي(ع) نفسه وأهل بيته، كما يثبت السيد(قده) فيقول: "وإني لمن قوم لا تأخذهم في الله لومة لائم، سيماهم سيماء الصديقين، وكلامهم كلام الأبرار، عمار الليل، ومنار النهار، ومتمسكون بحبل القرآن، يحيون سنن رسول الله، لا يستكبرون ولا يعلون ولا يغلون (يسرقون من الغنائم) ولا يفسدون، قلوبهم في الجنان، وأجسادهم في العمل".

وإلى هذا، كان عليٌّ(ع) يوصي بترك الدنيا وعدم الندم على ما فات منها. وكان أزهد النساك، ولم يكن هذا الزهد يضعفه عن جهاد العدو، وكأني بقائلكم يقول: "إذا كان هذا قوت ابن أبي طالب، فقد قعد به الضعف عن قتال الأقران ومنازلة الشجعان... والله لو تظاهرت العرب على قتالي لما ولَّيت عنها، ولو أمكنت الفرص من رقابها لسارعت إليها". وكان علي(ع) يجاهد ليبين الحق الصراح، فيقول: سأسعى بكل قوَّة لأميز الخبيث من الطيب، وأخلص الناس من الشر، "وسأجهد في أن أطهر الأرض من هذا الشخص المعكوس، والجسم المركوس، حتى تخرج المدرة من بين حب الحصيد".

في كل هذا، أصبحت ثقافة علي هي القرآن، وكان يوصي الحسنين بالتمسك به: "والله الله في القرآن، لا يسبقكم بالعمل به غيركم". ولكل هذا، آخى الرسول(ص) بين نفسه وعليّ(ع)، عندما آخى بين المهاجرين والأنصار، وبلغ من حرص علي على الرسالة وعلى الرسول، أنه عندما كلفت قريش جماعةً بقتل النبي، نام علي في فراشه فادياً إياه بنفسه، وقد عدَّ الله تعالى هذا الفعل تضحيةً بالنفس قربةً إلى الله تعالى، إذ نزل قرآن يقول: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ وَاللهُ رَءُوفٌ بِالعِبَادِ﴾(البقرة:207)، كما كان حتى في القتال مشغول البال برسول الله(ص) رغم بلائه العظيم، إذ كان يقاتل ثم ينعطف إلى حيث الرسول ليطمئن عليه، ثم يعود إلى المعركة.

وحتى عندما أمره الرسول في صلح الحديبية بكتابة الاتفاق، ومحو صفة الرّسول، من مندرجات العقد، تردَّد علي(ع) ضنّاً بهذه الصفة للنبي، حتى محاها الرسول بنفسه.

ولقد حصَّل عليٌّ من الرَّسول ومن القرآن العلم الوفير الذي كان يتأسَّف ألا يجد الكثير من المستعدين لاستيعابه، فكان يشير إلى صدره ويقول: "إن ها هنا لعلماً جماً لو وجدت له حملة". ومع ذلك، كان لا يبخل بهذا العلم، محاولاً رفع مستوى الناس بتعليمهم ما يستطيعون تعلمه. وكان(ع) يطرح شيئاً من الغيب. ويشكك بعضهم اليوم في ذلك، على أساس أن الغيب لا يعلمه إلا الله، ولكن الله يعلّمه رسوله، ورسولنا علَّمه لأهل بيته، وفي مقدمهم علي، فكان علمه مستمداً من عليم.

ويبقى السؤال: من علَّم عليَّاً القراءة والكتابة، والرسول أمي، ولم يؤثر أنه(ع) درس على معلّم؟


بطولة علي(ع) وتضحياته


أما في الجهاد، فكان عليَّ(ع) بطل الإسلام، بل معجزته، فكان فارس بدر، يلقي بنفسه في لهوات الموت، حتى قتل أكثر من نصف القتلى من المشركين، وحتى صدح "الصوت الملائكي": "لا فتى إلا علي، ولا سيف إلا ذو الفقار"، وكان النصر المؤزر للمسلمين.

وفي أُحد، وعندما دارت الدائرة على المسلمين، بعد أن خالفت إحدى السرايا أوامر الرسول(ص)، كان(ع) هو الذي تولَّى الدفاع عن رسول الله، عندما كسرت رباعيته (سنه) وجرحت جبهته".

ويوم الخندق، "كفى الله المؤمنين شرَّ القتال بعليّ(ع)، عندما جاء عمرو بن عبد ودّ العامري وهو يتحدَّى المسلمين ورسول الله(ص)، ولثلاث مرات يقول: "من لعمرو وقد ضمنت له على الله الجنة". ولم يقم إلا علي في المرات الثلاث. وعندما برز إليه، قال رسول الله(ص): "برز الإيمان كله إلى الشرك كله". وعندما صرعه علي(ع) قال(ص): "ضربة علي يوم الخندق تعدل عبادة الثقلين".

أما في خيبر، فبرز عليٌّ عندما تحدى "مرحب" المسلمين، وفشل قادةٌ مسلمون في انتزاع النصر، فقال رسول الله(ص): "لأعطينَّ الراية غداً رجلاً يحبُّ الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، كراراً غير فرار، لا يرجع حتى يفتح الله على يديه". فأعطاها علياً الذي انطلق، "فصرع مرحباً ودخل الحصن وكان يقول: "والله ما قلعت باب خيبر بقوة جسدية، بل بقوة ربانية"... ويقول ابن أبي الحديد، شارح نهج البلاغة، وهو يتحدث عن موقف علي في اقتلاعه الباب:

يا قالـع البـاب الذي عـن هـزّه
    


    

عجـزت أكـفٌّ أربـعون وأربـع

وفي حنين، كان عليٌّ البطل بين يدي رسول الله(ص) كما في كل المعارك.

كان علي(ع) المجاهد، وكان يحثُّ على الجهاد بكل أشكاله، فيوصي الحسنين بقوله: "والله الله في الجهاد، بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم في سبيل الله".

ومع كل ذلك، هناك من يشكك في شجاعة علي(ع) أو يهوّن منها، على أساس أن علياً كان أخبره الرسول متى سيستشهد. ويردّ السيد(قده) على ذلك فيقول: إنه "من غير المعلوم أن النبي أخبره بذلك، بل المعروف أنه في أواخر حياة النبي، إذا كانت الرواية صحيحةً، فبينما كان النبي يخطب بمناسبة استقبال شهر رمضان، بكى رسول الله(ص). فقال علي(ع): "ما يبكيك يا رسول الله(ص)، فذكر له أنه سيأتي شقيق عاقر ناقة صالح. ولم يذكر اسمه، فيقتله في هذا الشهر... فالنبي لم يخبر الإمام علياً(ع) منذ البداية عن موته. وإذا كان أخبره بذلك، فقد أخبره بشكل عام عما يحدث له في أواخر حياته، وهذا عنوان شجاعته ودليلها أن يتلقى الموت بقلب قوي".

إن علياً، كما يقول السيد(قده) لم يكن لنفسه، بل كان كله لله.

ولم يكن علي يرضى بأن يرفعه أحد فوق درجته، ناهيك بتأليهه بما يسمَّى الغلوّ فيه، فكان يتذلل لله تعالى ويتواضع له: "فكيف بي وأنا عبدك الحقير المسكين المستكين". كان يتواضع لله ويسجد على التراب، حتى سماه رسول الله "أبا تراب".

الولاية والخلافة

أمر الله تعالى رسوله(ص) بتولية علي(ع) أمور المسلمين بعده، فإذا أخر ذلك تفادياً لمعارضة بعض كبار قريش، فكأنه لم يبلّغ كل رسالة الإسلام: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾(المائدة/67)، أي "بلّغ ما أنزل إليك من ربك في ولاية علي، لأن الأجل حان، وعليك ألا تترك هذه الدنيا إلا وقد نصبت علياً خليفةً على المسلمين، فوقف رسول الله، ورفع يد علي حتى بان بياض إبطيهما للناس وقال: "... من كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه. اللهمّ والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحق معه حيث دار". وقد كان هذا الحديث أمام يزيد على مئة ألف من الحجيج.

ويشكك بعضهم في هذا الحديث، على أساس أنَّ من نقل عنهم الحديث كانوا عدداً قليلاً، فلماذا لم يروه الباقون؟ ويجيب السيد(قده): "عندما ندرس كيف تتبدَّل الأوضاع، وكيف تتغير الأفكار، وكيف تختلط الأوراق، فإننا نجد الكثير من هذا في واقعنا. والسبب في ذلك، هو أن المؤثرات التي يمكن أن تتحرك في الواقع الاجتماعي أمام أية قضية، لا تتحرك في المجرى الاجتماعي الذي يرضاه الناس أو يحبونه، فلا بد أن تتحرك الكثير من الأساليب والوسائل من أجل إبعاد القضية عن خطها المستقيم ولو بالقول".

ولكن هل إن علياً استحق ذلك بقرابته من الرسول؟

يجيب السيد: إن علياً(ع) يعرف أنَّ القرابة لا تمثل شرعيةً للخلافة، ولو كانت قرابته من رسول الله(ص) هي التي تمثل شرعية خلافته، لكان هناك من يساويه في هذه القرابة... (العباس) عم النبي كان موجوداً، وهو أقرب إلى رسول الله من علي..."، وقد قال علي(ع) رداً على هذا الزعم: "وا عجباه، أتكون الخلافة بالصحابة والقرابة؟!" (قصار الحكم/190). إن الأمر هو "تقديم الأفضل في موقع القيادة" على المفضول. لذا فإن رسول الله(ص) لم "تأخذه في الله لومة لائم أمام الحق الّذي كانت تجسّده شخصية علي(ع)، في المستوى المميَّز الذي تمثلت به حياته في كل القضايا الشائكة التي عاشت في كل واقعه قبل الحكومة (الحكم) وبعدها".

وإذا كان المسلمون بايعوا علياً عند غدير خم، فتلك "البيعة تعني الالتزام بالقيادة التي قد تزيد الإنسان إحساساً بالمسؤولية".

وبعد وفاة رسول الله(ص)، طلب عليٌّ الخلافة لنفسه كما أوصى الرسول(ص)، إلا أنه حيل بينه وبين ذلك. ويشرح علي(ع) موقفه في المطالبة، فيؤكد أنه لم يسع إلى التأمّر على الناس، بل سعى لإقامة حكم الإسلام الحق الذي لا يقوم إلا به: "اللّهمّ، إنه لم يكن الذي كان منا منافسةً في سلطان، ولا التماس شيء من فضول الحطام، ولكن لنرد المعالم من دينك، ونظهر الإصلاح في عبادك، وتقام المعطلة من حدودك، فيأمن المظلومون من عبادك..."، وبدون هذا، فلا قيمة للخلافة، فعندما خاطبه ابن عباس في خصفه نعله، أجابه(ع): "أترى يا بن عباس هذه النعل؟ والله لهي أحبُّ إليَّ من إمرتكم هذه، إلا أن أقيم حقاً أو أدفع باطلاً". إنه كان يريد للأمة، كما يريد رسول الله(ص)، "أن ينطلق القوي فيها من أجل أن يحضن الضعيف، وكان(ع) يقول: "لن تقدَّس أمة لا يؤخذ للضعيف حقه من القوي غير متعتع".

ولم يفارق علي(ع) العدل والحق حتى عندما ضربه ابن ملجم تلك الضربة التي أدَّت إلى استشهاده، حيث خاطب أهله وأقاربه بقوله: "يا بني عبد المطلب، لا ألفينَّكم تخوضون دماء المسلمين خوضاً، تقولون: قتل أمير المؤمنين، ألا لا يقتلن بي إلا قاتلي، فاضربوه ضربةً بضربة، ولا تمثّلوا بالرجل، فإني سمعت رسول الله(ص) يقول: إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور".

أبعد علي(ع) عن الخلافة، ودافع عن حقه، إلا أنه لم يدر ظهره للإسلام، فهو استغرب مبايعة الناس أبا بكر، ولم يبايعه لدى توليته، ولكنه عندما رأى ارتداد القبائل، لم يسعه أن يتجاهل الوضع، فاندفع يدافع عن الإسلام، وهو(ع) يصف كل هذا بقوله: "ما راعني إلا انثيال الناس على فلان يبايعونه، فأمسكت يدي، حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام، يدعون إلى محق دين محمد(ص)، فخشيت، إن لم أنصر الإسلام وأهله، أن أرى فيه ثلماً أو هدماً، تكون المصيبة به عليَّ أعظم من فوت ولايتكم... فنهضت في تلك الأحداث، حتى زاح الباطل وزهق، واطمأن الدين وتنهنه". وكان شعاره: "لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين، ولم يكن فيها جور إلى عليَّ خاصة".

ثم راح يمحض الخلفاء المشورة والنصح، وقام بمسؤوليته في الواقع الإسلامي خير قيام، لأنَّ علياً لم يكن يفكر ذاتياً، بل كان يفكر رسالياً؛ كان يفكر ألا تقع الفتنة بين المسلمين، وأن لا يضعفوا أمام الكافرين والمشركين.

ولمَّا آلت الخلافة إليه، بدأت المشاكل تثار في وجهه من قِبل الطامعين بالمغانم، والخائفين على المكاسب، ومحدودي العقل، واضطروه إلى قتالهم. ويشرح السيد(قده) هذا الوضع بقوله: "... عندما استلم(ع) الخلافة، وأراد أن يرتفع بالواقع الإسلامي ليطبّق منهجه الذي لا منهج مثله، انطلق الناكثون (الذين بايعوا ونكثوا، وبخاصّة طلحة والزبير)، والمارقون (الخوارج)، والفاسقون (الظالمون: معاوية وأعوانه)، وهو يقول: "كأنهم لم يسمعوا كلام الله حيث يقول: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾(القصص/83). بلى والله، لقد سمعوها ووعوها، ولكنهم حليت الدنيا في أعينهم، وراقهم زبرجها".


علي(ع) والفتنة

لم يكن علي(ع) يدعو إلى الحياد عندما تثور الفتن، وإذا كان يقول: "كن في الفتنة كابن اللّبون، لا ظهر فيركب، ولا ضرع فيحلب"، فإن هذا، كما يفسره السيد(قده)، يعني: "كن حيادياً في الفتنة، فلا تدع أحداً يركبك، يستغل قوتك ويستغل موقعك... للوصول إلى مقاصده"، بل عليك أن تتبين الحق من الباطل. فإذا اتَّضحت لك سبل الحق، فعليك أن تسير فيها، "لأن سرّ علي في كل حياته، أنه كان مع الحق في كل صراعاته... كان خياره مع الحق ضد الباطل، ومع الله ضد الشيطان... (و)كانت وصيته للحسن والحسين(ع): "كونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً". ويأخذ علي(ع) على شخصين اعتزلا صفين... "أنهما خذلا الحق ولم ينصرا الباطل". وكان رسول الله(ص) يقول: "علي مع الحق، والحق مع علي، يدور معه حيثما دار". لذلك، لم يكن علي ينتهز الفرص إلا بالحق، حتى إذا سنحت فرصة، وكان الحق يمنع اغتنامها، كان يتركها طائعاً مختاراً. يقول(ع) في ذلك: "قد يرى الحوّل القلّب وجه الحيلة ودونها مانع من أمر الله ونهيه، فيدعها رأي عين بعد القدرة عليها، وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدين".

وكان علي(ع) ينصر المظلوم ويوصي بنصره، "كونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً"... كما يلازم الحق ويوصي دائماً بقوله: "قولا الحق"، كما في وصية لولديه(ع).

غير أن قول الحق لا يأتلف مع السباب، لذلك كان(ع) ينهى عنه: "إني أكره لكم أن تكونوا سبابين، ولكنكم لو وصفتم أعمالهم، وذكرتم حالهم، لكان أصوب في القول وأبلغ في العذر".

وإلى كل هذا، كان يوصي بنظم أمر المؤمنين، كما يوصي بالأيتام والجيران وبعمارة بيت الله بالزيارة، وكذلك بالتواصل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

لقد كان عليٌّ للناس جميعاً لا لفريق منهم، مع كل مسلم، ومع كل إنسان في العالم، أياً كان دينه واتجاهه.

القيّم على القرآن

يقول منصور بن خازم: "... قلت للناس: تعلمون أن رسول الله(ص) كان هو الحجة من الله على خلقه. قالوا: بلى. قلت: فحين مضى رسول الله(ص)، من كان الحجة على خلقه؟ فقالوا: القرآن. فنظرت في القرآن، فإذا هو يخاصم به المرجئ والقدريّ والزنديق الذين لا يؤمنون به، حتى يغلب الرجال بخصومته (لأن القرآن حمال وجوه). فعرفت أن القرآن لا يكون حجةً إلا بقيِّم (يقوم عليه ويفسره). فما قال فيه من شيء كان حقاً. فقلت لهم: من قيِّم القرآن؟ فقالوا: ابن مسعود، قد كان يعلم، وعمر يعلم، وحذيفة يعلم. قلت: كله؟ قالوا: لا. فلم أجد أحداً يقال إنه يعرف ذلك كله إلا علياً. وإذا كان الشيء بين القوم، فقال هذا: لا أدري، وقال هذا: لا أدري، وقال هذا: لا أدري، وقال هذا: لا أدري، فأشهد أن علياً كان قيِّم القرآن، وكانت طاعته مفترضة، وكان الحجة على الناس بعد رسول الله(ص)، وأن ما قال (علي) في القرآن فهو حق".

بعض وصايا علي(ع) وتعاليمه

يوصي علي(ع) المسلمين بقوله: "اتقوا الله، ولا تكونوا لنعمه عليكم أضداداً ـ أي لا تتعاملوا مع ما أفاض الله عليكم من النعم بالكفران ـ ولا لفضله عندكم حسّاداً ـ أي لا تتمنّوا زوال النعمة عمَّن أنعم الله عليه ـ ولا تطيعوا الأدعياء  ـ الذين يدَّعون ما ليس لهم من المكانة والسلطة ـ الذين شربتم بصفوكم كدرهم ـ أي حملتم آثامهم  ـ وخلطتم بصحتكم مرضهم ـ لأن في نهجهم أمراضاً اجتماعية وعقلية، لأنها قد تتسرب إليكم ـ وأدخلتم في حقكم باطلهم" أي تحملتم وزر باطلهم بعد أن كنتم على الحق.

أما بخصوص معرفة الحق، فيقول علي(ع):

"لا يعرف الحق بالرجال، ولكن يعرف الرجال بالحق". ويقول السيد(قده): "فإذا لم يكن الشخص معصوماً، سواء كان عالماً أو قائداً أو شخصيةً اجتماعيةً تملك المسؤولية، فعليك ألا تعتبر كل أفعاله وقراراته وخطواته هي الحق، بل عليك أن تدرس عناصر الحق ومفاصله وقاعدته، ثم تدرس الشخص على أساس ذلك.

ويصف عليٌّ الأدعياء بقوله: "وهم أساس الفسوق ـ لأنهم لا يملكون قاعدةً للقيم الإنسانية"، لذلك هم استسلموا لشهواتهم وأطماعهم وانحرافاتهم الفكرية والعملية ـ وأحلاس العقوق ـ الملتصقون به، يسيئون إلى من أحسن إليهم... ويكفرون بنعم الله عليهم... عقوقاً لله في إحسانه إليهم ـ اتخذهم إبليس مطايا ضلال ـ جعلهم آلةً تدفع بالناس إلى الضلال مثلهم مثل المطايا ـ وجنداً بهم يصول على الناس ـ يستغل إبليس قوتهم المالية والسلطوية والعددية ليعتدوا على الناس ـ وتراجمةً ينطق على ألسنتهم ـ يوسوس إليهم، ويزيِّن إليهم القبيح، فيترجمون أفكاره وخططه، ويتحدثون بمنطقه ـ استراقاً لعقولكم، ودخولاً في عيونكم ـ فهم ينفذون إلى عقول الناس، فيبصرون كما شاء لهم أن يبصروا ـ "ونفثاً في أسماعكم ـ لتنقلوا ما يريد إلى العقول لدفعها إلى الضلال ـ فجعلكم مرمى نبله ـ أي هدفاً له ليقتلكم روحياً وأخلاقياً ـ وموطئ قدمه ـ لتسيروا حيث سار إبليس ـ ومأخذ يده" كناية عن سيطرته عليكم.

العبرة

ويتابع السيد(قده) إيراد بعض كلمات الإمام علي(ع) التي تحث على استفادة الدروس مما سبق من كلامه: "فاعتبروا ـ من تلك الصورة التي رسمها للأدعياء ـ من بأس الله وصولاته ـ فقد عاقب الله المستكبرين، مثل فرعون وقوم عاد وثمود ـ واتعظوا بمثاوي خدودهم ومصارع جنوبهم ـ انظروا إلى قبور أولئك الذين مضوا ـ واستعينوا بالله من لواقح الكبر كما تستعينونه من طوارق الدهر ـ لأن الكبر والاستكبار (يدمران) كيان الإنسان الروحي والفكري، ويدفعان به للتعرض لغضب الله سبحانه وتعالى ـ فلو رخَّص الله في الكبر لأحد من عباده، لرخّص فيه لخاصة أنبيائه وأوليائه"، وهنا يدين الإمام الكبر لأنه مرفوض جملةً وتفصيلاً، ولو قبل سبحانه الكبر لأحد، لرخَّص به لأفضل خلقه.

بيت الله الحرام والعبرة من وضعه:

ينقل السيد(قده) عن الإمام(ع) قوله:

"ألا ترون أن الله سبحانه اختبر الأولين من لدن آدم، صلوات الله عليه، إلى الآخرين من هذا العالم، بأحجار لا تضرّ ولا تنفع، ولا تبصر ولا تسمع"، أي ليس فيها أي نسمة من حياة. "فجعلها بيته الحرام الذي جعله للناس قياماً" أي عماداً، فالله سبحانه وتعالى قدم بيته على أساس أنه مؤلف من أحجار صماء... ولكنها اعتبرت رمزاً للإيمان، ودليلاً عليه، وموضع اختبار الناس على ذلك". "ثم وضعه في أوعر بقاع الأرض حجراً"، أي في أشدّ مناطق الأرض وعورةً في مسالكها. "وأقّل نتائق الدنيا مدراً"، أي في أقل أنواع الأرض إنتاجاً. "وأضيق بطون الأودية قطراً". كناية عن ضيق جوانبها. "بين جبال خشنة، ورمال دمثة" لا يستقر فيها الزرع. "وعيون وشلة" شحيحة. "وقرى منقطعة" لا رابط بينها. "ولا يزكو بها خف، ولا حافر ولا ظلف"، لا يكثر فيها جمال ولا خيل ولا حمير ولا شياه. "ثم أمر آدم وولده أن يثنوا أعطافهم نحوه" أن يقصدوه. ويعلق السيد فيقول: إن في قول الإمام، "إشارة إلى أن الناس منذ آدم(ع) حتى يومنا هذا عرفوا البيت الحرام. "فصار مثابةً لمنتجع أسفارهم"، أي صار البيت مكاناً يقصدونه للانتفاع. "وغايةً لملقى رحالهم" التي يضعونها عنده. "تهوي إليه ثمار الأفئدة"، أي تتشوّق إليه النفوس. "من مفاوز قفار سحيقة" الفلوات البعيدة التي لا ماء فيها. "ومهاوي فجاج عميقة" طرق بين الجبال. "وجزائر بحار منقطعة"، وهناك طرق إلى البيت الحرام بحراً. "حتى يهزوا مناكبهم ذللاً"، يحركهم الشوق فيأتون خاشعين. "يهللون لله حوله" يصدحون بـ"لا إله إلا الله". "ويرملون على أقدامهم شعثاً غبراً له"، أي يمشون مسرعين قليلاً، لم يغتسلوا أو يسرحوا شعورهم، "قد نبذوا السرابيل وراء ظهورهم"، نزعوا الثياب العادية واقتصروا على ملابس الإحرام."وشوهوا بإعفاء الشعور محاسن خلقهم"، أي تركوا شعرهم ولحاهم دون حلاقة. "ابتلاءً عظيماً وامتحاناً شديداً واختباراً مبياً"، بسبب الأخطار والمشقات التي يتكبّدونها إلى الحج. "وتمحيصاً بليغاً جعله الله سبباً لرحمته، ووصلةً إلى جنته" لمن تحمَّل وصبر.

"ولو أراد سبحانه أن يضع بيته الحرام ومشاعره العظام بين جنات وأنهار، وسهل وقرار، جمّ الأشجار، داني الثمار..."، حيث يستطيع الإنسان أن يعيش رغداً "وأرياف محدقة" أراضٍ محيطة بالمساكن، "وعراص مغدقة" غزيرة الينابيع، "ورياض ناضرة، وطرق عامرة، لكان قد صغر قدر الجزاء على حسب ضعف البلاء"، لأن الثواب على قدر المشقة، و"التجربة التي يمارسها الإنسان بغير مشقة، لا يستحق عليها ثواباً كبيراً".

"ولو كان الأساس المحمول عليها، والأحجار المرفوع بها" البيت الحرام، "بين زمرّدة خضراء، وياقوتة حمراء، ونور وضياء، لخفَّف ذلك مسارعة الشك في الصدور"، لأن الشيطان يوسوس حال الصعوبات بالتشكيك، "ولوضع مجاهدة إبليس عن القلوب"، لأنه إذا سهَّل الله الأمور، لا يستطيع الشيطان أن يغري الإنسان كما يستطيع فعله حال الشدة، "ولنفى معتلج الريب من الناس"، فلا يجد إبليس سبيلاً إلى نفوسهم، "ولكن الله يختبر عباده بأنواع الشدائد، ويتعبدهم بأنواع المجاهد، ويبتليهم بضروب المكاره، إخراجاً للتكبر من قلوبهم" حتى يخشعوا، وتضعف حالات العنفوان والتكبر عندهم، "وإسكاناً للتذلل في نفوسهم" إقراره فيها نتيجةً للتعب، "وليجعل ذلك أبواباً فتحاً إلى فضله" لما يقومون به من جهد امتثالاً لأمره، "وأسباباً ذللاً لعفوه"، أي "بالأسلوب الذي يعيش فيه الإنسان تذللاً لله سبحانه وتعالى".

التاريخ ـ الحاضر صورة الماضي

"فإذا تفكرتم في حاليهم"، حالي الأمم الماضية، السلبي والإيجابي، "فالزموا كل أمر لزمت العزة به شأنهم"، أي تمسكوا بما حقق لهم "مواقع العزة في تاريخهم". "وزاحت الأعداء له عنهم"، حيث انتصروا على الأعداء، "ومدت العافية فيه عليهم"، أي حصلوا فيه "على العافية، سواء كانت صحيةً أو اجتماعيةً أو أمنية... "وانقادت النعمة له معهم"، حيث جعلوا مجتمعهم منتجاً: "ووصلت الكرامة عليه حبلهم"، أي ربطت فيهم بين موقعٍ وموقع، "من الاجتناب للفرقة"، فكانوا متوحدين، "واللزوم للألفة" بما يجمعهم ويوحّدهم. "والتحاضّ عليها والتواصي بها، واجتنبوا كل أمر كسر فقرتهم"، "اجتنبوا كل أمر حطّم قوّتهم وصلابتهم، "وأوهن منتهم"، أي أضعف قوتهم، "من تضاغن القلوب" حقدها، "وتشاحن الصدور" حملها الشحناء، "وتدابر النفوس" أي التقاطع، "وتخاذل الأيدي"، فلا تمتد يد بالمساعدة إلى يد.

"وتدبروا أحوال الماضين من المؤمنين قبلكم، كيف كانوا في حال التمحيص والبلاء" من قبل الله تعالى ليعرف صدقهم. "ألم يكونوا أثقل الخلائق أعباءً، وأجهد العباد بلاءً" إبان المسيرة الأولى من حياة الرسالة. "وأضيق أهل الدنيا حالاً"، فيما كانوا فيه، "اتخذتهم الفراعنة عبيداً، فساموهم سوء العذاب، وجرّعوهم المرار"، كما في حال قوم موسى، "فلم تبرح الحال بهم في ذل الهلكة وقهر الغلبة" باستمرار ما يفرض عليهم، "لا يجدون حيلةً في امتناع" لا يجدون الوسائل للرفض، "ولا سبيلاً إلى دفاع"، لا يملكون أي عنصر من عناصر القوة. "حتى إذا رأى الله سبحانه جدَّ الصبر منهم على الأذى في محبته"، حيث صمدوا ولم يتراجعوا، "والاحتمال للمكروه من خوفه"، يخافون الله فيتحملون المكروه في سبيل مرضاته، "جعل لهم من مضائق البلاء فرجاً"، نقلهم من الضعف إلى القوة، "فأبدلهم العز مكان الذل، والأمن مكان الخوف".

"فصاروا ملوكاً حكاماً، وأئمةً أعلاماً، وبلغت الكرامة من الله لهم ما لم تبلغ الآمال إليه بهم"، وكان ذلك، كما يؤكد السيد مرةً أخرى، في زمن موسى، حيث خلَّصهم الله من فرعون ثم جعلهم حكّاماً، "فانظروا كيف كانوا حيث كانت الأملاء مجتمعةً" أي الجماعات مجتمعة، "والأهواء متّفقة" متفقة، "والقلوب معتدلة" لا انحراف فيها، "والأيدي مترادفة" يساعد بعضها بعضاً، "والسيوف متناصرة" ينصر واحدها الآخر، "والبصائر نافذة" وعياً وعمقاً في النظر إلى الأمور، "والعزائم واحدة" لوحدة الإرادة.

"ألم يكونوا أرباباً في أقطار الأرضين" أصحاب القوة والقرار، "وملوكاً على رقاب العالمين". ثم دارت الأمور، "فانظروا إلى ما صار إليه في آخر أمورهم"، ليعتبر المسلمون، فيما إذا سيطر عليهم المستكبرون والكافرون، "حين وقعت الفرقة، وتشتّتت الألفة، واختلفت الكلمة والأفئدة" فأصبح لكل شعاره وعناوينه... "وتشعبوا مختلفين، وتفرقوا متحازبين"، فتعددت الأحزاب المتناحرة، "قد خلع الله عنهم لباس كرامته"، حينما تخلوا عن المسؤولية في الأمة، "وسلبهم غضارة نعمته" سعتها، "وبقي قصص أخبارهم فيكم عبراً للمعتبرين"، "لتأخذوا منهم الدروس والعبر".

بين واقع الأمة زمن علي وواقعها اليوم ـ التشابه

يرى السيد(قده) أنَّ "التعقيدات" التي واجهت علياً "هي نفسها التعقيدات التي نواجهها في عصرنا الآن. ولذلك فعلينا أن نقرأ نص الإمام علي(ع) كما لو أنه كان حاضراً بيننا". ويورد السيد(قده) بعضاً من تشخيص علي للواقع وعلاجه على النحو الآتي:

يخاطب علي المسلمين فيقول: "ألا وإنكم قد نفضتم أيديكم من حبل الطاعة" بالانحراف والتمرد، "وثلمتم حصن الله المضروب عليكم بأحكام الجاهلية"، أي نفضتم أحكام الإسلام، وأخذتم بأحكام الجاهلية في عصبياتها، "فإن الله سبحانه قد امتنَّ على جماعة هذه الأمة، فيما عقد بينهم من حبل الألفة التي ينتقلون في ظلها، ويأوون إلى كنفها، بنعمةٍ لا يعرف أحد من المخلوقين لها قيمة، لأنها أرجح من كل ثمن" يدفع مقابلها، "وأجلُّ من كل خطر"، أجل من كل شيء كبير معهم، وذلك بعد أن كانوا قبائل متناحرةً لا يأمن الإنسان في ظل ذلك على نفسه إذا تحرك.

"واعلموا أنكم صرتم بعد الهجرة أعراباً"، ذلك أن كل من آمن بالنبي(ص) كان يدعوه للهجرة إلى المدينة المنورة ليتفقَّه في دينه، ومن لم يهاجر يكن من الأعراب، الذين لا يأخذون التعاليم من النبي مباشرةً، ولم يشارك في تأسيس المجتمع الرسالي الذي كان الرسول(ص) يعمل لتأسيسه. وعلي(ع) يقول للمسلمين إنهم انفصلوا، بعد أن كانوا هاجروا، عن أجواء الرسالة، بعدما ابتعد بهم الزمن من عند الرسول(ص)، "وبعد الموالاة أحزاباً..."، أي بعد أن كنتم كوَّنتم مجتمعاً يوالي بعضه بعضاً، تحزَّبتم أحزاباً متخاصمة، وكما عليه الأمر اليوم، يكفّر بعضكم بعضاً، "تقولون النار ولا العار، كأنكم تريدون أن تكفئوا الإسلام على وجهه"، فحسب المنطق الجاهليّ، إذا دار الأمر بين ارتكاب المحارم دفعاً للعار ودخول النار، وبين تحمّل ما يعدّونه عاراً على أساس دخول الجنة، فضّلوا الأول. ونحن اليوم يفضل الكثيرون منا مسايرة تقاليدهم على حساب الدين، وإلا فحسب منطقهم يركبون العار، ويُعدُّ هذا "انتهاكاً لحريمه (الدين)" بالتمرد، "ونقضاً لميثاقه الذي وضعه الله لكم حرماً في أرضه، وأمناً بين خلقه"، لأنه ينظم علاقاتكم بعضكم ببعض لتستقرَّ حياتكم، "وإنكم إن لجأتم إلى غيره حاربكم أهل الكفر"، لأنكم تستهلكون قوَّتكم بعضكم ضد بعض، "ثم لا جبرائيل ولا ميكائيل ولا مهاجرون ولا أنصار ينصرونكم إلا المقارعة بالسيف حتّى يحكم الله بينكم"، فلا يبقى لكم إلا السيف دون المعنويات الإسلامية.

"وإن عندكم الأمثال من بأس الله وقوارعه، وأيّامه ووقائعه"، فيما فعل بمن سبقكم في سننه، "فلا تستبطئوا وعيده جهلاً بأخذه"، فتقوموا بما يغضبه تعالى، على أساس أنه غفور رحيم، "وتهاوناً ببطشه، ويأساً من بأسه"، فلا تأمنوا مكر الله، فلن يفلت أحد من وعيده. "فإن الله سبحانه، لم يلعن القرن الماضي بين أيديكم، إلا لتركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، فهو لعن الأقوام قبلكم، لا لذاتهم، بل لتركهم واجباتهم، فإن تصرفتم مثلهم، نالكم اللعن الذي نالهم، "فلعن الله السفهاء لركوب المعاصي، والحلماء لتركهم التناهي"، فالفريقان ملعونان؛ الأول لأنهم عصوا، والثاني لأنهم أهملوا النهي عن المنكر.

"ألا وقد قطعتم قيد الإسلام، وعطَّلتم حدوده، وأمتُّم أحكامه"، أي قطعتم الصلة بالإسلام بتمردكم.

في تاريخ علي(ع) الجهادي

يقول(ع)، على ما ينقل السيد(قده):

"ألا وقد أمرني الله بقتال أهل البغي والنكث والفساد في الأرض"، أي الذين يتجاوزون حدودهم، وينقضون عهودهم، ويخرّبون ويعتدون. "فأمّا الناكثون، فقد قاتلت"، وهم طلحة والزبير اللّذان بايعاه في المدينة، ثم انسلاّ إلى مكة، ومنها سارا إلى البصرة واحتلاها، واضطر الإمام لقتالهما، فانتصر عليهما، "وأما القاسطون فقد جاهدت"، وهم معاوية وأصحابه، الذين "جاروا على الواقع الإسلامي... بإيقاع الفتنة بين المسلمين، "وأما المارقة فقد دوَّخت"، وهم الخوارج الذين مرقوا من الإسلام.

أما عن جهاده(ع) مع رسول الله(ص)، فيقول، على ما ينقل السيد:

"أنا وضعت في الصغر بكلاكل العرب"، أي أخضعت وجهاء العرب في حروب الرسول(ص)، "وكسرت نواجم قرون ربيعة ومضر"، أي ما ارتفع من قرون هاتين القبيلتين الكبيرتين.


ثالثاً: الإمام الحسن(ع)


يتحدث السيد(قده) عن الإمام الحسن(ع) فيقول:

إن الحديث عن الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب(ع) هو سرُّ الروح في آفاقها الواسعة الصافية النقية المنفتحة على الله... وعمق الإنسانية المتحركة بالخير كله والحق كله والعدل كله... ومعنى الحكمة في مواجهة حركة الواقع في سلبياته وإيجابياته... وشمولية العطاء في رعاية المحرومين من حوله... وسمو الأخلاق التي تحتضن كل مشاعر الناس بكل اللهفة الحانية في مشاعرها، وتتحرك في مواقع العصمة في سلوكه في نفسه ومع ربه ومع الناس ومع الحياة.

ويضيف أنه:

وجاء في كتب السيرة، أنَّ الحسن(ع) كان أشبه الناس برسول الله خَلْقاً وخُلُقاً، وكان الناس إذا اشتاقوا إلى رسول الله(ص) بعد غيبته، نظروا إلى الحسن(ع) ليجدوا فيه شمائل رسول الله.

ولد الإمام الحسن(ع) في بداية الهجرة النبوية، عندما كان الإسلام يتحرك بقيادة رسول الله(ص) من أجل أن يركّز قواعده كدين يحكم الحياة، لأن الهجرة كانت تمثل البداية التي أريد لها أن تحول الإسلام ـ الدعوة، إلى الإسلام ـ الدولة. وكان أول مولود لعلي وفاطمة(ع).

وعدَّ رسول الله(ص) الحسن والحسين(ع) ابنيه، وكان دائماً ما يعلن حبه له ولأخيه الحسين(ع) ويدعو له: "اللهمّ إني أحبهما فأحبهما وأحب من يحبهما"، ويقرن محبتهما(ع) بمحبته(ص): "من أحبهما فقد أحبني، ومن أبغضهما فقد أبغضني"، وكان، إذا صعد أحدهما على ظهره أثناء السجود، يطيل السجود حتى لا يزعجه.

ولم تكن محبة رسول الله(ص) نابعةً من صلة القربى فقط، بل أيضاً بسبب موقعهما عند الله تعالى ودورهما المستقبلي في خدمة الرسالة الإسلامية، ما أهَّلهما ليطلق الرسول(ص) عليهما لقب "سيّدي شباب أهل الجنة". ومن يكن "سيد شباب أهل الجنة، لا بدَّ من أن يكون معصوماً في فكره وفي حركته وفي كل منطلقاته"، لأن في الجنة يقيم "الذين اصطفاهم الله تعالى للقرب منه، "وعندما يتحدث النبي(ص) عن سبطيه بحديثٍ فيه القيمة كأرفع ما تكون القيمة، أو فيه المحبة كأعمق ما تكون المحبة، فإنَّنا لا نجد في ذلك إلا معنى الحقيقة في معناه، وإلا عاطفة الحق في عاطفته".

ومنذ نعومة أظفاره، ظهرت النجابة في عقل الإمام الحسن، فهو كان في السابعة من عمره عندما كان يحضر مجلس رسول الله(ص)، فيسمع الوحي، عندما يبيِّنه رسول الله للناس، فيحفظه، ويأتي أمه فيلقي إليها ما حفظه، وكان كلما دخل عليها علي(ع)، وجد عندها علماً بالتنـزيل، وهي لم تكن حاضرةً في المسجد، فيسألها عن ذلك، فتقول من ولدك الحسن(ع).

لقد تربَّى الإمام الحسن (كأخيه الحسين) في حجر رسول الله(ص) وفي كنف علي وفاطمة(ع)، فارتوى من عقل الثلاثة وروحهم وأخلاقهم. وكان رسول الله(ص) يعدُّه وأخاه إمامين: "ولداي هذان إمامان إن قاما أو قعدا"، والرسول في هذا "لا ينطق عن الهوى"، بل عن أمر الله بالوصية للحسن بعد أبيه، وكان علي(ع) يعدُّه لإمامة المسلمين بعده، فـ"يناجيه بكل أسراره في الليل والنهار، ويدفعه إلى أن يتحمَّل المسؤولية معه في خارج الحكم وداخله، ويعتمد عليه في إفتاء الناس بكل ما يشكل عليهم أمره من أحكام الله تعالى، لأنه يريد أن يعرف الناس بأنه الحجة بعده، والعالم بالإسلام كله، فلا يخطئ في حكم، ولا ينحرف في فتوى. "فلكم كان أمير المؤمنين يقول عندما يسألونه عن أمور الإسلام: اسألوا ابني الحسن، فإن عنده ما يحل مشاكلكم ويعرفكم الحق كما هو.

عبادته(ع)

لقد كان الإمام الحسن "أعبد الناس في زمانه، وأزهدهم وأفضلهم"، ويتجلى ذلك في العديد من أموره، ففي وضوئه، كانت ترتعد فرائصه، ويصفرّ لونه، وقد قيل له في ذلك، فقال: حق على كل من وقف بين يدي رب العرش أن يصفرَّ لونه وترتعد فرائصه. وكان إذا دخل المسجد ووقف ببابه مستأذناً، رفع رأسه وقال: "إلهي ضيفك ببابك، يا محسن قد أتاك المسيء، فتجاوز عن قبيح ما عندنا بجميل ما عندك يا كريم. وكان إذا حجَّ، حج ماشياً، وربما يمشي حافياً، وكان إذا ذكر الموت، بكى، وإذا ذكر القبر، بكى، وإذا ذكر البعث والنشور، بكى، وإذا ذكر الممر على الصراط، بكى، وإذا ذكر العرض على الله تعالى ذكره، شهق شهقةً يُخشَى عليه منها، وكان إذا قام في صلاته ترتعد فرائصه بين يدي ربه عزَّ وجلَّ، وكان إذا ذكر الجنة والنار اضطرب اضطراب السليم (الملدوغ)، وسأل الله الجنة وتعوَّذ به من النار، وكان لا يقرأ من كتاب الله عزَّ وجلَّ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا﴾ إلا قال: "لبيك اللهم لبيك"، لأنه يتحسَّس أن الله يناديه كما لو كان يلقي النداء إليه الآن، ولم يُرَ في شيء من أحواله إلا ذاكراً الله سبحانه".

لقد كان الإمام الحسن(ع) يريد أن يعرّف الناس من خلال البكاء هنا والبكاء هناك، أن على الإنسان إذا ذكر الموت أن لا يذكره ذكر الغافلين، وإذا ذكر القبر أن لا يذكره ذكر اللامبالين، وإذا ذكر المرور على الصراط والوقوف بين يدي الله سبحانه، أن لا يمر على ذلك مرور الكرام، وأن يبكي بكاء الوعي لا بكاء السقوط. وكان الإمام الحسن(ع) مثالاً في التواضع، يساوي نفسه بضعاف الناس وفقرائهم، ويتواصل معهم كأنه أحدهم. فقد روي أنه مرَّ على فقراء وقد وضعوا كسيرات على الأرض وهم قعود يلتقطونها ويأكلونها، فقالوا له: "هلم يابن بنت رسول الله إلى الغداء، فنـزل وقال: "إن الله لا يحب المتكبرين"، وجعل يأكل معهم، ثم دعاهم إلى ضيافته وأطعمهم وكساهم.

وكان الحسن(ع) أحلم الناس، فقد كان(ع) يسير في المدينة، ومعه أبناؤه وإخوانه وأهل بيته في موكب كبير، فالتقاه شيخ من الشام ممَّن ثقَّفهم معاوية على بغض عليّ وأولاده(ع) ، باعتبار أنَّه كان يخطِّط لهذا، فوقف هذا الشّامي وقال: من هذا؟ قيل له: هذا الحسن بن علي بن أبي طالب، فبدأ يسبّ عليَّاً وأبناءه، حتى أثار أعصاب كلّ الذين كانوا حول الإمام الحسن، وتركه الإمام(ع) حتى انتهى من سبابه، والتفت إليه بكلِّ حنان وعاطفة، وقال له: "أظنك غريباً؛ فإنْ كنت جائعاً أشبعناك، وإن كنت عرياناً كسوناك، وإن كان لك حاجة قضيناها لك"، ثم أمر مَنْ حوله بأن يصطحبوه إلى المنـزل، ويُحسنوا ضيافته، فذهبوا به إلى المنزل وأحسنوا ضيافته وإكرامه، إلى أن خرج هذا الرجل وهو يقول: "الله أعلم حيث يجعل رسالته".

وإلى هذا، فقد كان الإمام الحسن يراعي حساسيات الناس، فلا يظهر فضله عليهم، بل كان يعمد إلى أساليب محببة لا تنفر في تعليمهم عندما يقتضي ذلك. فقد نقل عن الحسن والحسين(ع) أنَّهما رأيا شيخاً كبير السن يتوضأ وضوءاً خاطئاً، وأرادا أن يعلِّماه، ولم يكن الشيخ يعرف صفتهما، فجاءا إليه بالأسلوب الذي يحفظ له شيخوخته وسنّه، فقال له: "يا شيخ، إنني أريد وأخي أن نتوضَّأ أمامك لترى أيّنا أفضل في وضوئه"، فقبل منهما ذلك، وتوضَّآ أمامه والشيخ يراقبهما، فعرف أنَّ وضوءه هو الوضوء الخطأ، وأن ليس وضوء أحدهما بأفضل من الآخر، فالتفت وقال لهما (ما مضمونه): إنكما أردتما أن تعلِّماني، فأنا المخطئ في وضوئي، وجزاكما الله خيراً.

إلا أن أعداء الإمام الحسن(ع) الذين شوَّهوا الإسلام وقضوا على صورته الناصعة، كانوا يحاولون إسقاط هيبة الإمام(ع) واحترامه من قِبل المؤمنين، فكانوا لا يجدون في سيرته مغمزاً، فراحوا ينسجون حول بعض شؤونه الأكاذيب، فزعموا أنه كان ينصرف إلى لذائذ الحياة الدنيا، وأنه كان مزواجاً مطلاقاً. ويردُّ السيد(قده) على هذه الفرية بالقول:

إن الإمام الحسن(ع) لم يكن الإنسان الذي تشغله لذائذ الحياة وشهواتها، بل كان الإنسان الذي يعيش التوازن الأخلاقي الإسلامي في الحياة، فلا يحرم نفسه طيبات الحياة الدنيا، ولا يستغرق فيها، بل يأخذ منها بالمقدار المتوازن.

وعلى ضوء هذا، فإننا لا نتفق مع بعض الرواة الذين تحدَّثوا عن كثرة زوجاته بشكل خيالي، من هؤلاء الذين لا يملكون الوثاقة في السلوك، ممن يستغلهم السلطان لتشويه الصورة بطريقة وبأخرى، كما كان الحكم الأموي الذي أراد أن يصوِّر الإمام الحسن(ع) بالشخص الذي يستسلم للشهوات، بحيث يعيش حياته ليتزوَّج هذه ويطلّق تلك بشكلٍ عشوائيّ مزاجي، ليقدِّم معاوية في مقابله شخصاً جاداً في الموقع القيادي المميَّز الذي يتحرك من أجل إدارة شؤون البلاد.

لقد كان الإمام الحسن(ع) يعيش في الموقع الأعلى من السلوك الإسلامي، المشغول بالله وبرضوانه وبالانفتاح عليه وبالدعوة إليه، وكانت زيجاته في هذه الدائرة الطبيعية التي كانت بحدود الظروف التي عاشها الواقع آنذاك، مما يسير عليه الناس بشكل طبيعي. ولو كان الأمر كما يقولون، لكان أولاده بالمئات، بينما لم يُذكر من أولاده إلاَّ ثلاثة عشر ممن يمكن أن يولدوا من أم واحدة.

ومن خلال ذلك كله، لا بدَّ من التدقيق في الروايات التي يرويها لنا المؤرخون، فقد تكون من وضع الرواة غير الموثوقين، الذين كانوا يضعون الحديث لإرضاء شهوات السلطات الحاكمة، من خلال ما يدفعونه من أثمان، تماماً كما هي الأخبار التي تنقلها الوكالات الإعلاميّة التي تخضع لأكثر من سلطة أو جهاز مخابرات.

أما هيبته، فقد تحدَّث عنها محمد بن إسحاق، فقال: "كان يبسط له (الإمام الحسن(ع)) على باب داره، فإذا خرج وجلس، انقطع الطريق، فما يمرّ أحد من خلق الله، إجلالاً له. فإذا أعلم، قام ودخل بيته، فيمرُّ الناس".

لقد كان الإمام الحسن(ع) قدوةً للمؤمنين، كبيرهم وصغيرهم، لدينه وهيبته، فقد روي أنه كان في طريق مكة، فنـزل عن راحلته فمشى، فما من خلق الله أحد إلا نزل ومشى، حتى إن سعد بن أبي وقاص، وهو ممن رشّحهم عمر بن الخطاب للشورى، وكان القائد في معركة القادسية، نزل ومشى إلى جنبه".

وكان الإمام الحسن(ع) رفيقاً بالمؤمنين، فقد أوصى قبل وفاته بأن يدفن إلى جانب رسول الله، لكن شرط ألا يثير الأمر المشاكل من خلال تصدي أخصام أهل البيت، فقال للحسين(ع) في وصيته:

"أوصيك يا حسين بمن خلَّفت من أهلي وولدي وأهل بيتك، أن تصفح عن مسيئهم، وتقبل من محسنهم، وتكون لهم خلفاً ووالداً، وأن تدفني مع رسول الله، فإني أحق به وببيته، فإن أبوا عليك، فأنشدك الله بالقرابة التي قرَّب الله عزَّ وجلّ منك، والرحم الماسة من رسول الله، أن لا تهرق في أمري محجمةً من دم، حتى نلقى رسول الله، فنخصمهم إليه، ونخبره بما كان من الناس إلينا".

وبعد استشهاد الإمام علي(ع)، بايع الناس في العراق الإمام الحسن(ع)، فراح يعدُّ الجيش لاستئناف المواجهة مع معاوية، وأرسل طليعةً من اثني عشر ألفاً إلى النخيلة لتتصدى لجيش الشام الزاحف، وكان بقيادة عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب، ونائبه قيس بن سعد بن عبادة، فيما راح يستكمل جمع الجيش ليلتحق به. غير أن قائد الطليعة، وهو ابن عم أبيه، ارتشى من معاوية بمليون درهم والتحق به. أما جيشه الذي قاده بنفسه، فراح يتآمر عليه، وقد طعنه أحدهم بفخذه، وكان معاوية قد طرح عليه الصلح على أن يسلم الأمر إليه ويكون الحسن(ع) من بعده، فوافق الإمام بعد أن وجد أن مصلحة الإسلام تقتضي ذلك.

لقد بدأ الإمام الحسن بعد أن بايعه المسلمون بالطريقة نفسها التي بويع فيها من سبقه في عاصمة الخلافة، بنظم أموره، ومعالجة أمور المسلمين ومواجهة معاوية؛ عدوّ أبيه وعدوّه.

راسل الإمام الحسن(ع) معاوية لإقامة الحجة عليه وعلى المسلمين، فدعاه إلى طاعته بعد أن أصبح خليفة المسلمين، وأن يلتزم الجماعة، وجاء في إحدى رسائله: "سلام عليك"، وإن كان لا يستحقه، إلا أنّها تحية الإسلام. "أمّا بعد: فإنّ الله جل جلاله، بعث محمّداً رحمةً للعالمين، ومنّةً للمؤمنين، وكافّةً للناس أجمعين، لينذر من كان حياً، ويحقّ القول على الكافرين، فبلّغ رسالات الله، وقام بأمر الله، حتّى توفاه الله غير مقصّر ولا وانٍ، وبعد أن أظهر الله به الحقّ، ومحق به الشرك، وخصّ به قريشاً خاصّةً، فقال له : {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ}، فلما توفّي، تنازعت سلطانه العرب، فقالت قريش: نحن قبيلته وأسرته وأولياؤه، ولا يحلّ لكم أن تنازعونا سلطان محمّدٍ وحقّه، فرأت العرب أنّ القول ما قالت قريش، وأنّ الحجّة في ذلك لهم، على من نازعهم أمر محمّدٍ، فأنعمت لهم، وسلّمت إليهم. ثمّ حاججنا نحن قريشاً، بمثل ما حاججت به العرب، فلم تنصفنا قريش إنصاف العرب لها، إنّهم أخذوا هذا الأمر دون العرب بالإنصاف والاحتجاج، فلمّا سرنا ـ أهل بيت محمّدٍ وأولياءه ـ إلى محاججتهم، وطلب النصف منهم، باعدونا، واستولوا بالاجتماع على ظلمنا ومراغمتنا، وللعنت منهم لنا، فالموعد الله، وهو الوليّ النصير. ولقد كنّا تعجّبنا لتوثّب المتوثّبين علينا في حقّنا وسلطان نبيّنا، وإن كانوا ذوي فضيلة وسابقةٍ في الإسلام، أمسكنا عن منازعتهم، مخافةً على الدين أن يجد المنافقون والأحزاب في ذلك مغمزاً يثلمونه به، أو يكون لهم بذلك سبب إلى ما أرادوا من إفساده. فاليوم، فليتعجّب المتعجّب، من توثّبك يا معاوية على أمرٍ لست من أهله، لا بفضلٍ في الدين معروفٍ، ولا أثرٍٍ في الإسلام محمودٍ، وأنت ابن حزبٍ من الأحزاب، وابن أعدى قريشٍ لرسول الله(ص) ولكتابه الكريم، والله حسيبك. فسترد فتعلم لمن عقبى الدار، وبالله لتلقينّ عن قليلٍ ربّك، ثمّ ليجزينّك بما قدّمت يداك.

إنّ علياً لمّا مضى لسبيله ـ رحمة الله عليه يوم قبض، ويوم منّ الله عليه بالإسلام، ويوم يبعث حيّاً ـ ولاّني المسلمون الأمر من بعده، فأسأل الله أن لا يؤتينا في الدنيا الزائلة شيئاً، ينقصنا به في الآخرة، ممّا عنده من كرامةٍ. وإنّ ما حملني على الكتابة إليك، الأعذار فيما بيني وبين الله عزَّ وجلّ في أمرك، ولك في ذلك إن فعلته الحظّ الجسيم، والصلاح للمسلمين. فدع التمادي في الباطل، وادخل فيما دخل فيه الناس من بيعتي، فإنّك تعلم: أنّي أحقّ بهذا الأمر منك عند الله، وعند كلّ أوابٍ حفيظٍ، ومن له قلب منيب، واتّق الله، ودع البغي، واحقن دماء المسلمين، وادخل في السلم والطاعة، ولا تنازع الأمر أهله، ومن هو أحقّ به منك، ليطفئ الله النائرة بذلك، ويجمع الكلمة ويصلح ذات البين، وإن أنت أبيت إلاّ التمادي في غيّك، سرت إليك بالمسلمين، فحاكمتك حتّى يحكم الله بيننا، وهو خير الحاكمين".

وهكذا يربط الإمام الحسن(ع) إمامته بعلي، ثم بالرسول، ثم بالله تعالى، ليظهر بغي معاوية ومنازعته الحق أهله. إلا أن الظروف سارت ضد مشروع الإمام الحسن(ع)، فإيمان عامة الناس ضعف بعد الأحداث الجسام، والساحة كانت مزروعةً بالألغام، كما يقول السيد(قده)، والجيش تنتهشه الولاءات المتباينة، فكان قسم منه مع الخوارج الذين اندفعوا معه، لا حباً به، بل لأنهم يريدون قتال معاوية بأية وسيلة مع أي شخص. ولقد كان بين جيشه الأشخاص الذين دخلوا من أجل الغنائم، وكان بينهم الأشخاص الذين عاشوا مع عصبيات عشائرهم... وكانت رسائل الكثيرين تذهب إلى معاوية: إن شئنا سلمناك الحسن حياً أو ميتاً، وكان معاوية يعدهم ويمنيهم ويرسل إليهم الأموال، وكان الجيش والناس قد تعبوا من الحروب.

في هذه الظروف، وافق الإمام الحسن(ع) على الصلح، لا اقتناعاً بشرعية حكم معاوية، بل بفعل العوامل المختلفة التي جعلت الهزيمة أرجح من النصر، وإمكانية الغدر بالإمام واردة إلى أبعد الحدود.

ويرى بعضهم أنَّ الإمام الحسن(ع) كان "شخصيةً مسالمةً وليس شخصية صدامية أو ثائرة، بعكس الإمام الحسين(ع). هو شخصية لا تأخذ بأسباب الثورة، ولا تميل إلى العنف، ولا تدخل ساحة الصراع بل تجتنبه. ويذهب بعضهم إلى تبني أخبار كاذبة حول اختلافه مع أبيه حول معركتي البصرة وصفين... ويتناسى هؤلاء أنه خاض تينك الحربين بكل شجاعة، حتى كان علي(ع) يقول، عندما رأى اندفاع الحسن في الحرب: "املكوا عني هذا الغلام لا يهدني، فإني أنفس بهذين ـ يعني الحسن والحسين(ع) ـ على الموت، لئلا ينقطع بهما نسل رسول الله(ص)" (نهج البلاغة، الخطبة 207).

إنَّ صلحه(ع) كان في مصلحة المسلمين، وهو شرعي بكل أبعاد الشرعية، فقد "وازن بين الموقفين (القتال والصلح)؛ فإذا استمر بالمعركة بهذا الجيش، فسيسقط الخط تماماً، بسقوط كلّ الناس الذين يمكن أن يتحركوا من أجل أن يكونوا الشاهد الحي الذي يواجه الانحرافات بالنقد وبالمعارضة. فبين أن يسقط الخط، وأن يبقى الخط، ويكون الضلم الذي يمكن أن يكون استراحةً تنطلق فيها الثورة بعد ذلك، اختار أن يبقى الخطّ. لقد كان(ع) يريد للمعارضة أن تبقى من أجل أن تفتح وعي الأمة على الحق، وكان يريد الحفاظ على المسلمين وعلى الخلّص من أصحابه ممن كان يعدهم ليكونوا المعارضة لهذا الحكم الفاسد، وليكونوا القاعدة التي ينطلق منها الإمام الحسين(ع) في حركته، حتى قيل: إن حركة الإمام الحسين(ع) كانت صدى لصلح الحسن(ع).

وعلى الادّعاء بأنّ الحسن(ع) كان شخصية مسالمة وشخصية الحسين ثورية، يرد السيد(ع): إن "الحسن والحسين(ع) انطلقا من قاعدة واحدة، هي قاعدة الإسلام، فهما يتحركان في مصلحة الإسلام، سلماً إن كان السلم هو ما يصلح أمر الإسلام، وحرباً إن كان الحرب هو ما يصلح أمر الإسلام. ويضيف السيد(قده) أن "الأسلوب الحسني هو أسلوب حسيني في مرحلة الحسن، والأسلوب الحسيني هو أسلوب حسني في مرحلة الحسين، لأنهما يغرفان من نبع واحد، ولأنهما ينطلقان من خط واحد".

حرصه على تعليم المسلمين

كان الإمام الحسن(ع) حريصاً على تعاليم الإسلام، وحريصاً على إيصالها إلى المسلمين.

فمن جهة أولى، اهتم، كما أبوه علي(ع)، بتدوين سنَّة الرسول(ص) كما يذكره السيوطي. فقد كان عمر بن الخطاب منع من تدوين السنة كي لا تختلط بالقرآن، "وبذلك خسر الناس الكثير من تراث الرسول(ص) مما ضاع في صدور الناس الذين فارقوا الدنيا دون أن يدونّوا ما حفظوه".

"لكنَّ علياً وولده الحسن(ع)، رأيا أن في ذلك خطراً على الإسلام والمسلمين، لأن سنة الرسول تمثل عدل كتاب الله في القاعدة الإسلامية على مستوى العقيدة".

ومن جهة أخرى، راح الإمام الحسن إلى جانب تعليمه أركان الدين وأصوله، يبث الحكمة والموعظة الحسنة في الناس في نواحي السلوك الإنساني المختلفة.



ومن تعاليمه في القناعة:

"يابن آدم، عفّ عن محارم الله تكن عابداً"، فالعبادة تكفي فيها تقوى الله، "وارضَ بما قسم الله تكن غنياً"، فالقناعة مال لا ينفد، بينما الطّمع هو الفقر. "وأحسن مجاورة من جاورك تكن مسلماً"، لأن المسلم من أحسن إلى الناس، وصاحب الناس بمثل ما تحب أن يصاحبوك به تكن عدلاً"، فإذا اعترفت للناس بحقوقهم كما تتمسك بحقوقك تكون عادلاً. "إنه كان بين أيديكم أقوام يجمعون كثيراً ويبنون مشيداً ويأملون بعيداً، أصبح جمعهم بوراً (كالأرض القاحلة)، وعملهم غروراً، ومساكنهم قبوراً. يابن آدم، لم تزل في هدم عمرك منذ سقطت من بطن أمك"، لأن العمر أمام الإنسان أطول ما يكون عند ولادته، وكل يوم يقرّبه من أجله. "فخذ مما في يديك" من ثروةٍ وقوةٍ وجاه، "لما بين يديك"، أمامك من الآخرة. "فإن المؤمن يتزوَّد والكافر يتمتع"، الأول يجهّز للآخرة، والثاني لا يعرف إلا الدنيا.

ومن كلماته(ع) في المودة:

"القريب من قربته المودة وإن بعد نسبه"، لأن الناس يلتقون بمشاعرهم وأحاسيسهم، لا بقرابة الدم، "والبعيد من باعدته المودة وإن قرب نسبه"، لذلك يجب علينا أن نعرف من نعاشر معرفةً كاملةً قبل أن نتخذه صديقاً.

ومن يجب أن تؤاخيه، يصفه الإمام الحسن عن طريق وصف أخ له(ع)، فيقول:

"كان من أعظم الناس في عيني، وكان رأس ما عظمه في عيني، صغر الدنيا في عينه"، لأن الدنيا وسيلة لبلوغ السعادة في الآخرة، وموقع المسؤولية، لا فرصة للذة والشهوة. "كان لا يشتكي" من مكابدة الآلام والمشاكل، "ولا يسخط ولا يبرم"، كان هادئاً أمام الأمور، راضياً قانعاً، "كان أكثر دهره صامتاً" صمت الفكر والتأمل، "فإذا قال بزَّ القائلين" غلبهم، "وكان اذا جالس العلماء، على أن يستمع أحرص منه على أن يقول"، فقد كان جلوسه إلى العلماء جلوس تعلم يريد أن يأخذ كل شيء عنهم. "وكان إذا غلب على الكلام، لم يغلب على السكوت"، فقد يغلبه الناس بكثرة الكلام، لكن لا يغلبونه على الاستماع. "كان لا يقول ما لا يفعل، ويفعل ما لا يقول"، فلا يكثر من الكلام على فعله، يترك الفعل يتكلم عن نفسه. "كان إذا عرض له أمران لا يدري أيهما أقرب الى ربه"، وكلاهما قريب، فلكي يحدد الأقرب، "نظر أقربهما من هواه فخالفه"، لأن عليه أن ينهى النفس عن الهوى. "كان لا يلوم أحداً على ما قد يقع العذر في مثله"، فإذا رأى بعض الناس يخطئ، فإنه يعدّ له عذراً فلا يلومه.

ومن كلماته(ع) في المروءة والتدين والعقل: "شحّ الرجل على دينه" أن يتمسك به ولا يتنازل عنه، "وإصلاحه ماله"، فلا يفسده بالإسراف والتبذير، "وقيامه بالحقوق"، أي حقوق الناس عنده، "ولا أدب لمن لا عقل له"، فالأدب سلوك في الحياة لا ينظمه إلا العقل. "ولا مروءة لمن لا همة له"، أي لا مروءة للعاجز الكسول، فهو يرضى بالمواقع السفلى، "ولا حياء لمن لا دين له"، لأن الدين يمنع الإنسان أن يأتي بما يستحيي الناس منه، "ورأس العقل معاشرة الناس بالجميل". لأن من يعاشر بالقبيح يعزل نفسه في محيطه، ومن يعاشر بالجميل يفتح الناس له عقولهم وقلوبهم، "وبالعقل تدرك الداران جميعاً" الدنيا الآخرة، لأنه يخطط لك كيف تكتسب الحسنات وتتلافى السيئات، "ومن حرم العقل حرمهما جميعاً"، لأنه يسير على غير هدى.

أما عن الشورى، فيقول(ع): "ما تشاور قوم إلا هدوا إلى رشدهم"، لأنها تضم عقلاً إلى عقل، وخبرة إلى خبرة. وأسوأ سلوك الحاكم الاستبداد بالرأي، وهو أسوأ سلوك أي إنسان.

موعظته الأخيرة: في مرضه الذي توفي فيه، أتاه جنادة بن أمية وقاله له: عظني يابن رسول الله، فقال له: "استعدّ لسفرِك، وحصِّل زادك قبل حلول أجلك. واعلم أنَّك تطلب الدنيا والموت يطلبك، ولا تحمل همَّ يومك الذي لم يأت على يومك الذي أنت فيه.

واعلمْ أنَّك لا تكسب من المال شيئاً فوق قوتك إلاَّ كنت فيه خازناً لغيرك.

واعلم أنَّ الدنيا في حلالها حسابٌ، وفي حرامها عقابٌ، وفي الشبهات عتابٌ.

فأنزل الدنيا بمنزلة الميتة، خُذ منها ما يكفيك، فإن كانت حلالاً كنت قد زهدت فيها، وإن كانت حراماً لم يكن في وزرٍ، فأخذت منه كما أخذت من الميتة، وإن كان العقاب فالعقاب يسيرٌ.

واعمل لدنياك كأنَّك تعيش أبداً، واعمل لآخِرتك كأنَّك تموت غداً.

وإذا أردتَ عزّاً بلا عشيرة، وهيبةً بلا سلطان، فاخرج من ذلِّ معصية الله إلى عزِّ طاعة الله عزَّ وجل.

وإذا نازعتك إلى صحبة الرجال حاجة، فاصحب من إذا صحبته زانك، وإذا أخذت منه صانك، وإذا أردت منه معونةً أعانك، وإن قلت صدَّق قولك، وإن صلت شد صولتك، وإن مددت يدك بفضلٍ مدَّها، وإن بدت منك ثلمةٌ سدَّها، وإن رأى منك حسنةً عدَّها، وإن سألته أعطاك، وإن سكتَّ عنه ابتداك، وإن نزلت بك إحدى الملمَّات واساك، مَن لا تأتيك منه البوائق، ولا تختلف عليك منه الطرائق، ولا يخذلك عند الحقائق، وإن تنازعتما منقسماً آثرك".

"إنها كلمات الحق والحكمة والخير والسداد، التي لا بد لنا من أن نحركها في حياتنا، لتكون برنامجاً للموعظة، وخطةً للسير، ومنطلقاً للحركة، لنحصل منها على خير الدنيا والآخرة.

وهذه هي ذكرى الإمام الحسن(ع) التي تربطنا بالله، وبالحياة، وبالإنسان، وبكل ما يحقِّق لنا السعادة في الدنيا والآخرة.


رابعاً: الإمام الحسين(ع)


الحسين(ع)؛ ثالث أئمة أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، وهو خامس أصحاب الكساء، وأحد الذين أتى بهم رسول الله للمباهلة.

والحسين ثاني وليد لعلي وفاطمة(ع)، عاش في طفولته كأخيه الحسن(ع) في كنف علي وفاطمة(ع)، وبرعاية رسول الله(ص)، وكان رسول الله يعدّه ابنه كما أخوه الحسن، ويعامله المعاملة نفسها بالرفق والمحبة، النابعة من الدور المؤهل له، لا من القرابة. فالحسن والحسين إمامان منصوبان من الله تعالى، "إبناي هذان إمامان إن قاما وإن قعدا"، فإمامتهما(ع)، "لا تأخذ شرعيتها من حركتهما، فهما يملكان الشرعية من الله تعالى، وبذلك فإنهما يسيران على نهج الله، لأن الله عندما اختارهما للإمامة، فلأنه يعرف أنهما يعيشان الإمامة فكراً وروحاً وحركةً وجهاداً".

ويعود السيد(قده) إلى تفسير: "إن قاما وإن قعدا"، فيقول: "... إنهما ينفتحان على خط الإسلام بالقعود إن كانت مصلحة الإسلام هي بالقعود، وبالقيام، إن كانت مصلحة الإسلام في القيام".

غير أن ما خصَّ به رسول الله(ص) الحسين، إنّما هو قوله فيه: "حسين مني وأنا من حسين، أحب الله من أحب حسيناً". ونحن نفهم أن يكون الحسين(ع) من رسول الله(ص)، لكن كيف يكون الرسول من حسين؟ يشرح السيد(قده) ذلك فيقول: "نفهم من هذه الكلمة، هذا اللّون من الاندماج بين الحسين ورسول الله(ص)، لا اندماج القرابة، ولكنه اندماج الرسالة، فقد تجسدت الرسالة في النبي(ص) وتجسّدت في الحسين، ولذلك أصبح هناك تفاعل وتكامل بين الجدِّ والسبط".


حياة الإمام الحسين(ع):

توفي رسول الله(ص) والحسين طفل ابن بضع سنوات، ثم توفيت أمه الزهراء(ع)، فعاش في حضن أبيه إلى جانب أخيه الحسن(ع)، وخاض مع أبيه(ع) ما كان يعترضه من مشاكل وعانى ما عاناه، ثم شارك في الحروب التي فرضت على والده من البصرة إلى صفين إلى النهروان. وبعد التحكيم، كان علي(ع) يعلن أنه إذا استمرَّ أهل العراق في تخاذلهم، سيسير بأهل بيته إلى معاوية، فيكون الحسين في ذلك بالطليعة.

وبعد استشهاد علي(ع)، كان الحسين إلى جانب أخيه الإمام الحسن، خير معين، شارك في استعداداته لحرب معاوية المتمادي في غيه وعدوانه، كما شارك في صلح الحسن مع معاوية في الظروف التي بيَّناها في حديثنا عن الإمام الحسن، والتزم الحسين(ع) بالصلح كما التزم الحسن(ع).

وبعد استشهاد الإمام الحسن(ع) بالسمّ، أوصى الحسين(ع) بآل علي(ع)، وأصبح الحسين إمام المسلمين، وتابع الالتزام بشروط الصلح مع معاوية إلى أن نكث معاوية.

فالشروط كانت تقضي بأنه عندما يهلك معاوية، يؤول الأمر إلى الحسن(ع)، وإذا لم يكن الحسن، فإلى الحسين(ع).

غير أن معاوية عهد إلى ابنه يزيد، وكان سكيراً مستهتراً يلاعب القرود، ولا يعرف من الإسلام شيئاً، وإذا عرف فلا يطبقه.

وبعد هلاك معاوية، راح يزيد وعماله يطلبون البيعة من الناس، وطلبوها في المدينة من كبار التابعين، وعلى رأسهم الحسين(ع)، إلى جانب كل من عبد الله بن عمر وعبد الرحمن بن أبي بكر وعبد الله بن الزبير، فرفض الحسين وتوجه إلى مكة، إلى جوار قبر جده رسول الله(ص)، وهناك، أخذت تتوالى عليه كتب أهل الكوفة تبايعه وتطلب منه العجلة في موافاتهم إلى العراق.

تحرك الحسين إلى العراق، وكان أرسل قبله مسلم بن عقيل، ابن عمه، ليستطلع الأمر ويأخذ البيعة، وبعد أن أخذها من عدد كبير من أهل الكوفة، انقلبوا عليه لما قدم عبيد الله بن زياد من البصرة والياً على الكوفة، وانتهى الأمر بمقتل مسلم وبعض كبار مبايعيه، وكان الحسين(ع) قد أصبح في طريقه إلى الكوفة، فأكمل طريقه بعد أن خيَّر أصحابه بين المسير أو العودة، فاستمر معه خلَّص أصحابه، إلى أن وصل إلى مشارف العراق، حيث لقيته طليعة جيش عبيد الله بن زياد بقيادة الحر الرياحي، فأوقفه في مكان قرب الفرات، ولم يسمح له بالوصول إلى شريعة النهر.

ثم قدم الجيش، ولما دارت المعركة، انحاز الحر إلى الحسين واستشهد معه، واستشهد كل رجال الحسين(ع)، وسبيت نساء النبوة والذراري، وسيقوا إلى الشام، حيث أعيدوا من هناك إلى المدينة.

ويصف السيد(قده) شخصية الحسين(ع) فيقول: الحسين "ملأ الدنيا بشخصيته المميزة، لأنه حبيب رسول الله(ص)، وكان النبي(ص) يريد من المسلمين أن يمحضوه الحب، هو والإمام الحسن(ع)، باعتبار أنهما، في كل عناصر شخصيتهما، بلغا القمة في المعرفة بالله، والإخلاص له، والجهاد في سبيله، وحياطة الإسلام. وقد روى المسلمون جميعاً عن النبي(ص): "الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة"، وهذه القيمة الروحية تؤكد المستوى الذي بلغاه في قربهما من الله تعالى".

لكن هل يختلف الحسين عن الحسن(ع) لجهة الاستعداد للصلح عندما يكون فيه لله رضا، أو لجهة القتال عندما يكون هو الحل الشرعي؟

لقد قيل إن الحسين كان مستعدّاً للثورة، بينما لم يكن الحسن كذلك، ويوضح السيد(قده) الأمر بعد تناول حديث الرسول(ص) عن كون الحسنين إمامين قاما أو قعدا، فيقول: "كلاهما قاما وكلاهما قعدا، تبعاً للمرحلة. فالإمام الحسين(ع) قعد طيلة تلك المدة السابقة على ثورته، وكان مع أخيه الحسن(ع)، ووقّع الصلح معه، وكان يدافع عن موقف الحسن(ع). أما الحسن، فكان قبل أن تدور الدوائر ثائراً، وقد انطلق ودفع بالجيوش لمحاربة معاوية، ولكن الأمور سارت بغير الاتجاه الصحيح. ولذلك كان الحسن(ع) قائماً ثائراً، وكان قاعداً مصالحاً، تبعاً للمرحلة فيما هي المصلحة الإسلامية. وكان الحسين(ع) قائماً وقاعداً أيضاً تبعاً للمصلحة الإسلامية، ولذلك عاش الحسين مع الحسن(ع) عندما وقف معه في مسألة الصلح".

ثم يعالج السيّد(قده) الثَّورة التي التبس معناها في أذهان البعض الّذي عدّ الحسين(ع) ثائراً والحسن(ع) مسالماً، فأكَّد أن الثورة ليست قتالاً وحسب، بل هي تخطيط استراتيجي من أجل التغيير الجذري. "إن الثورية ليست في الاندفاع والانفعال، فقد تكون ثائراً وأنت هادئ، لأنك تخطط وتنتظر استراتيجيتك في النهايات. وقد تكون ثائراً في البداية، ولكنك لست ثائراً في معنى الاستراتيجية، في حين أن بعض الناس ينظرون إلى التكتيك فقط، فيما كان الحسن والحسين(ع) ينظران إلى الاستراتيجية".

تحرك الحسين(ع) العسكري:

تحرك الحسين(ع) من مكة باتجاه الكوفة، بعد أن أكد له رسوله مسلم بن عقيل بيعة الناس، ومنعاً من تأويل هدفه، أعلن ما يريد فعله قائلاً: "اللهمَّ إني لم أخرج أشراً ولا بطراً، ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر"، ذلك أن دور الإمام هو القيادة لتسير الأمة في الخط الصحيح، فالأئمة(ع) مكلّفون أولاً بالأمر بالمعروف ليتجسد الإسلام واقعاً، وبالنهي عن المنكر للقضاء على المظالم والمفاسد والانحرافات. ويتابع الحسين(ع): "فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحقّ"، لأن الحق لله تعالى، وليس حالةً شخصية، "ومن ردّ علي"(رفض دعوتي) أصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين"، كل ذلك بعد أن نسفت معالم الإسلام، وعطّلت الحدود، وانتشر الفساد، وتوارى الحق، وظهر الباطل.

واجه الحسين في ثورته أولئك "الذين استعبدهم يزيد بماله واستعبدهم ابن زياد بطغيانه، وهؤلاء خيَّروه بين الموت والذل، فرفض بكل إباء وعزة، فقال: "لا والله، لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقر لكم إقرار العبيد، ألا وإن الدعيّ ابن الدعي قد ركز بين اثنتين: بين السلة والذلة، وهيهات منّا الذلّة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وجحور طابت، وجدود طهرت، من أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام". فآل زياد أدعياء في انتسابهم المزعوم إلى أبي سفيان، لأن أبا سفيان زنى بأمهم، فادّعوا أنها ولدت زياداً. وهؤلاء الأدعياء يتحكمون بمصائر الناس في العراق، فكيف لمثل الحسين أن يقبل عروضهم؟!

لذا كان شعار الحسين(ع):

"الـموت أولـى من ركوب العار
    


    

والعار أولـى مـن دخول النار"

فالإنسان الأبيّ "لا يمكن أن يعيش الذلّ (العار)، وإنَّ الموت أفضل من العار"، لكن الانحراف والفسوق المؤدي إلى دخول النار هو أسوأ من العار.

وقدَّم الحسين(ع) "نفسه وصفوةً من أهل بيته وأصحابه من أجل الإسلام ومن أجل الله تعالى"، واقتحم الموت بهذه الثلة غير هيَّاب، حتى إنه لم يُرَ، كما يذكر المؤرخون، إنسان فقد كل أهله وأصحابه من المقاتلين، أربط جأشاً، وأشدّ قوةً من الحسين في أرض المعركة، حيث كان يقاتل جيشاً يربو على العشرين ألفاً بمفرده.

العباس(ع) حامل راية الحسين(ع)

العباس كان مع أخيه الحسين حامل لوائه، ويصفه السيد(قده) بـ"الشخصية الإسلامية البطولية العظيمة". ويضيف السيد(قده): "كان همُّ العباس(ع) حماية الإسلام... ولذلك كان يفكر في أن يتحرك في خط الجهاد، من أجل الإسلام وحمايته، وأن يتحرك من أجل حماية الإمام الحسين(ع)، ولم تكن الأخوَّة هي التي تحركه، بل ولاؤه لإمامه(ع).

ويصف الإمام زين العابدين علي بن الحسين عمَّه العباس(ع)، على ما ينقل السيد(قده) فيقول: "رحم الله العباس، فلقد آثر وأبلى وفدى أخاه بنفسه". ويبين الإمام الصادق(ع) مزايا العباس(ع) في علمه وإيمانه وصلابته في الحق فيقول: "كان عمنا العبَّاس بن علي نافذ البصيرة (بعلمه الغزير الذي يمكنه من النفاذ إلى عمق الأمور) صلب الإيمان"، فلا تأخذه في الله لومة لائم.

وكانت بين العباس وإخوته من أمه صلة قرابة بالشمر بن ذي الجوشن، فلم يجيبوه، ولكن الحسين(ع) طلب منهم أن "أجيبوه وإن كان فاسقاً، فإنه بعض أخوالكم". فسألوه عما يريد، فأعطاهم الأمان، "ولكنهم رفضوا أمانه رفضاً عميقاً".

وكان الحسين(ع) قد أحلَّ أهل بيته وأصحابه من البيعة أكثر من مرة، لأنه هو الذي يقصده يزيد وأعوانه، إلا أن العباس رفض التخلي عن الحسين قبل الموت دونه، قائلاً: "أنهض بعدك يا بن رسول الله؟ لا والله حتى نجاهد بين يديك"، وجاهد وأبلى بلاء حسناً ورفعه الله شهيداً.

فعلينا أن نتحدث عن بطولة العباس(ع)، لا القتالية وحسب، بل الروحية والعلمية أيضاً، "ليكون العبَّاس قدوةً لشبابنا في مواجهة الباطل والاستكبار والظلم".

أما الحسين(ع)، فلا بدَّ لنا، كما يقول السيد(قده): "من أن نحمل شعاراته ومبادئه، ولا بدَّ لنا من أن نواجه الباطل كما واجهه، وأن ننصر الحق كما نصره، لأن ثورة الإمام الحسين(ع) لم تكن ثورة مأساة، وإن كانت المأساة تقرِّح القلب، ولكنها ثورة الحقيقة والإصلاح والتغيير والإسلام في كل مجالاته".


خامساً: الإمام علي بن الحسين زين العابدين(ع)


هو الإمام الرابع من أئمة أهل البيت، ولد قبل استشهاد الإمام علي بعامين، وانفتح على الحياة في ظل حكم بني أمية، وإمامة عمه الحسن(ع) التي قضى في ظلها عشر سنوات، حيث شهد "ذلك الواقع الصعب... والظروف القاسية" التي أحاطت بالإمام الحسن(ع).

وعاش ما تبقَّى من حياته مع أبيه الحسين(ع) في كل مرارة تجربته مع معاوية، إلى أن هلك معاوية وتولَّى يزيد حكم المسلمين بعهدٍ من أبيه، خلافاً لاتفاقه مع الإمام الحسن(ع)، إلى أن كانت واقعة كربلاء.

شهد الإمام علي بن الحسين الواقعة، وكان مريضاً لا يقوى على السير، وقد قتل خيرة أصحاب أبيه وأهل بيته، ولم يبق من الرجال غيره مع الحسين(ع). وحاول المشاركة، ولكنه كان عاجزاً عن ذلك؛ إذ طلب أن يعطى السيف والعصا، وعندما سألته عمته زينب عن السّبب، قال: "أما العصا فأتوكأ عليها، وأما السيف فأذبُّ به عن ابن بنت رسول الله". ولم يقل عن أبي، ذلك أن "المسألة تتصل بالعلاقة برسول الله، لا بالنسب".

ولكن العقيلة أقنعته بترك ذلك، لأنه غير قادر بوضعه على أن يفعل ما يفيد الحسين(ع) في المعركة، فبقي، إلا أنه كان رابط الجأش، لم يغلب عليه الحزن أمام هول ما رآه. وفي وصفه نهاية المعركة والهجوم على خيم النساء وإحراقها وما جرى نتيجة ذلك، يقول: "ما نظرت إلى عماتي وأخواتي، إلا وذكرت فرارهن يوم كربلاء من خيمة إلى خيمة"، ويسأل: "هل سمعت أذناك أو رأت عيناك هاشميةً سبيت لنا قبل عاشوراء؟".

إلا أنه مع كل ذلك ما كان ليجزع، وما يذهب إليه بعضهم عن صيحة ذل أطلقها الإمام، فإنّ السيد(قده) يرى أن عليهم أن يتراجعوا عن ذلك، لأنهم بذلك يسيئون إلى "المكانة الحقيقية للسجاد".

ويقول بعضهم إنه لم يوضع "بين يديه طعام أو شراب إلاَّ وملأه بدموع عينيه... وإنه كان يقضي وقته باكياً". ويعلق السيد(قده) على ذلك فيقول: "أي إهانة للإمام هي تلك، وهو الذي يعلّم الناس كيف يصبرون وكيف يواجهون المصيبة، بكل صبرهم وبكل احتسابهم لله".

لقد كان الإمام(ع) يبكي لهول المصيبة، ولكنّ بكاءه كان تعبيراً عن الحزن الرصين المسؤول. كما كان(ع) يريد بذلك أن يذكّر الناس بالحسين(ع)، ليبكي الناس واقعهم الذي يشابه الواقع الذي قتل الحسين(ع)، وليبكينا على الأمة التي ضلَّت الطريق وتخاذلت عن نصرة الحق، الأمة التي تنكرت لإمامها، والتي "تقتل مخلّصها ومنقذها وسيدها وتنحني للطاغية الذي يتخذ مال الله دولاً وعباده خولاً".

كان زين العابدين(ع) إماماً في المصيبة، "فقد رأيناه في (كربلاء) يتحرك بكل هدوء العقل وبكل ثبات العاطفة... ولم ينقل عنه في كربلاء أي موقف انفعالي لا مضمون له". كان هادئاً صلباً، "يصدر التعليمات لعمته زينب(ع) التي كانت تعتمد عليه".

وفي مجلس ابن زياد في الكوفة، وكان(ع) مريضاً يكاد لا يقوى على الوقوف، تحدَّث بكلّ صلابة بعد أن نال ابن زياد من الحسين وأصحابه، فقال(ع) له: "هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم، فتحاج وتخاصم، فانظر لمن الفلج يومئذٍ". ولما أراد ابن زياد قتله، وقفت دونه زينب وقالت: "إن عزمت على قتله فاقتلني معه".

وفي مجلس يزيد، حين رآه ينكت بقضيب خيزران ثنايا الحسين(ع)، قال الإمام: "ويلك يا يزيد، إنك لو تدري ماذا صنعت، وما الذي ارتكبت من أبي وأهل بيتي وأخي وعمومتي، إذاً لهربت في الجبال وافترشت الرماد ودعوت بالويل والثبور، أن يكون رأس أبي الحسين بن فاطمة وعلي منصوباً على باب مدينتكم، وهو وديعة رسول الله فيكم، فأبشر بالخزي والندامة غداً. إذا جمع الناس ليوم القيامة".

وبعد مدَّةٍ طويلة، صمد الإمام(ع) في وجه عبد الملك بن مروان الذي طلب إليه إعطاءه سيف رسول الله(ص)، وهدّده بقطع عطائه إن لم يفعل، فقال له(ع): "... إن الله ضمن للمتقين المخرج من حيث يكرهون، والرزق من حيث لا يحتسبون، وقال جلّ ذكره: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ﴾(الحج/38)، فانظر أينا أولى بهذه الآية". لقد كان الإمام عزيزاً، وكان أعداؤه "يتمثلون عنفوان العزة في عينيه فيخشعون له". ولقد كان يثقف النّاس بالثورة على الظلم، لأن "الثورة على الظلم جزء من إسلام الإنسان وإيمانه ومما يتقرب به إلى الله"، وحوَّل الحزن "إلى حركة رسالية تذكّر الناس بين وقتٍ وآخر بأن كربلاء كانت ثورة المظلومين على الظلم كله، وثورة المحقين على الباطل كله". لقد أراد(ع) "لكربلاء أن تكون الجرح النازف الذي يبقى ينـزف، من أجل أن يتحوَّل هذا النزيف من هذه الجراح إلى ثورة ضد الذين يصنعون المأساة في حركة الإنسان في التاريخ".

كان يذكِّر الناس بثورة الحسين(ع) وبظلامته، كان يسأل القصَّاب في سوق القصابين: هل سقى الخروف قبل أن يذبحه، "ويستحضر استشهاد أبيه عطشان... ليتحسس الناس في وجدانهم معنى القضية الحسينية على مستوى المأساة وعلى مستوى الرسالة".

ميزات الإمام علي بن الحسين(ع)

تميَّز الإمام زين العابدين بعمق عبادته، وبعلمه وطاعته ومساواة نفسه بضعاف النّاس، وحبه للفقراء وعتقه الأرقاء، ورفقه بالحيوان.

عبادته:

كان الإمام(ع) أعبد الناس في زمانه، وأخشى الناس لله، فقد "دخل عليه ابنه الباقر(ع)، فإذا هو قد بلغ من العبادة ما لم يبلغه أحد، فرآه قد اصفرّ لونه من السهر، ورمضت عيناه من البكاء، ودبرت جبهته وانخرم أنفه من السجود، وورمت ساقاه وقدماه من القيام في الصلاة، فقال أبو جعفر (الباقر)(ع): فلم أملك حين رأيته في تلك الحال من البكاء، فبكيت رحمةً له، وإذ هو يفكر، فالتفت إلي بعد هنيهة من دخولي، فقال: يا بني، أعطني تلك الصحف التي فيها عبادة علي بن أبي طالب، فأعطيته إياها، وقرأ فيها شيئاً يسيراً، ثم تركها من يده تضجراً وقال: من يقوى على عبادة علي(ع)".

عطفه على الفقراء:

كان(ع) يشقُّ على نفسه من أجل الإحسان إلى الفقراء، "إذ كان يحمل جراب الخبز على ظهره في الليل، فيتصدَّق به"، وعن عائشة أيضاً أنها سمعت أهل المدينة يقولون: "ما فقدنا صدقة السر حتى مات علي بن الحسين(ع)"، ولما مات "فغسلوه، جعلوا ينظرون إلى آثار سواد في ظهره، فقالوا: ما هذا؟ فقيل: كان يحمل جراب الدقيق ليلاً على ظهره، يعطيه فقراء المدينة".

تحريره الأرقاء:

وكان الإمام(ع) عتّاقاً للعبيد، ولا سيما في شهر رمضان وفي موسم الحج، فهو كان يشتري العبيد والإماء ويحرّرهم بعد أن يتعهدهم بالتربية والتوجيه لينطلقوا إلى المجتمع، وخصوصاً في عبد الفطر، بعد أن يغنيهم بحيث لا يحتاجون إلى الناس. كما كان يشتري العبيد في الموسم (الحج) في عرفات، ثم يحررهم بعد نهاية الحج بعد أن يحفظ ماء وجوههم.



رفقه بالحيوان:

كان(ع) إذا أراد أن يضرب ناقته بالسوط عندما تمتنع عن السير، تراجع وقال: "آهٍ لولا القصاص"، أي أن الإنسان الذي يضرب الحيوان قد يقتص منه الله يوم القيامة. هذا إضافةً إلى حثه على سقي الحيوان قبل ذبحه.

حلمه:

إذ كان يتحمل الإساءة ولا يرد عليها بمثلها، بل بالتي هي أحسن، وكان بذلك يكسب قلوب المسيئين إليه. ففيما كان في رحلة السبي من الكوفة إلى الشام، عرض له شيخ فقال له: "الحمد لله الذي قتلكم وأهلككم، وأراح الرجال من سطوتكم، وأمكن أمير المؤمنين منكم". فقال له علي بن الحسين(ع): يا شيخ! هل قرأت القرآن؟ قال: نعم، قال: فهل عرفت هذه الآية: ﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى﴾(الشورى/23)، قال الشيخ: قد قرأت ذلك، فقال له علي: فنحن القربى يا شيخ. فهل قرأت هذه الآية: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القُرْبَى﴾(الأنفال/41) قال: نعم، قال علي: فنحن القربى يا شيخ، وهل قرأت هذه الآية: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾(الأحزاب/33)، قال الشيخ: قد قرأت ذلك، قال علي: نحن أهل البيت الذين خصَّصنا بآية الطهارة يا شيخ. فبقي الشيخ ساكتاً نادماً على ما تكلَّم به، وقال: بالله إنكم هم؟ فقال علي بن الحسين: تالله إنا لنحن هم، فبكى الشيخ وقال: اللهم إني أبرأ إليك من عدو آل محمد من جن وإنس، ثم قال: هل لي من توبة؟ فقال له: نعم.

وكان في المدينة والٍ يسيء إلى الإمام وأهله، فغضب عليه الخليفة، وأعطى الناس الحرية في أن يشتموه ويضربوه، لكنَّ علياً(ع) أوصى أهله ألا يسيئوا إليه، وأتاه فقال له: "إن كان عليك دين فأنا أفي دينك"، فلم يتمالك الرجل نفسه إلا أن قال: "الله أعلم حيث يجعل رسالته".

وحصل أن شتمه أحد أقربائه أمام الناس، وانصرف، فطلب الإمام من الناس أن يصحبوه ليأتيه في داره، فانطلقوا معه، وطرقوا الباب، فخرج الرجل متوثباً للشر. إلا أن الإمام خاطبه قائلاً: "يا أخي! كنت قد وقفت عليَّ آنفاً فقلت وقلت. فإن كنت قلت ما فيَّ (حقيقة) فأستغفر الله منه، وإن كنت قلت ما ليس فيَّ فغفر الله لك". فقبَّل الرجل ما بين عينيه وقال: بل قلت فيك ما ليس فيك، وأنا أحق به.

ويبلغ حلم الإمام الذّروة مع مروان بن الحكم، الذي كان اقترح على والي المدينة عندما استدعى الحسين(ع)، ألا يتركه حتى يبايع يزيد، وأن يقتله إن رفض ذلك. ولكن في يوم وقعة الحرة، راح أهل المدينة ينتقمون من بني أمية، ولم يقبل أحد أن يؤوي عيال مروان بن الحكم، وكانوا أربعمئة نفس، إلا علي بن الحسين(ع).

تعففه:

حاول بعض أقربائه الاستيلاء على صدقات أمير المؤمنين علي(ع) في عهد الوليد بن عبد الملك، فقيل له: لو ركبت إلى الوليد ليردَّ هذا الإنسان عن فعلته، وكان الوليد بمكة، والإمام فيها، فقال الإمام لمن أشار عليه بذلك: "ويحك، أفي حرم الله أسأل غير الله عز وجل؟ إني آنف أن أسأل الدنيا خالقها، فكيف أسأل مخلوقاً مثلي؟".

حسن الخلق:

يقول الإمام(ع) نقلاً عن رسول الله(ص): "ما يوضع في ميزان امرئ يوم القيامة أفضل من حسن الخلق"، فمهما تعبّدت الله، لا يرتفع ميزان حسناتك إذا كنت سيّئ الخلق. كما ينقل عن الرسول(ص): "إن أحب الأعمال إلى الله إدخال السرور على المؤمنين".

ويقول الإمام(ع): "ثلاث  خصال من كنَّ فيه أو واحدة منهنّ، كان في ظلّ عرش الله يوم لا ظلّ إلاّ ظلّه"؛ رجلٌ أعطى الناس من نفسه ما هو سائلهم (أي عاملهم كما يريد أن يعاملوه)، ورجلٌ لم يقدّم رجلاً ولم يؤخّر أخرى حتى يعلم أنّ     ذلك لله رضى، ورجلٌ لم يعب أخاه المسلم بعيب حتى ينفي ذلك العيب عن نفسه... وكفى بالمرء شغلاً لنفسه عن عيوب الناس".

ويخاطب علي بن الحسين(ع) الله تعالى فيقول: "وقد علمت أنه ليس في حكمك ظلم، ولا في نقمتك عجلة، وإنما يعجل من يخاف الفوت (تغلبه الأمور) وإنما يحتاج إلى الظلم الضعيف، وقد تعاليت يا إلهي عن ذلك علواً كبيراً".

"وتبقى كلمات السجَّاد(ع) تأخذ طابع التوجيه القائم على أساس البشارة والحصول على الدرجة العليا عند الله، فيقول(ع): "إذا كان يوم القيامة، نادى منادٍ: ليقم أهل الفضل ـ الذين لهم التميّز ـ فيقوم ناسٌ من الناس، فيُقال لهم: انطلقوا إلى الجنَّة، فتتلقَّاهم الملائكة وتسألهم إلى أين؟ فيجيبون: إلى الجنَّة، قالت الملائكة: قبل الحساب؟ قالوا: نعم، قالوا: مَنْ أنتم؟ قالوا: أهل الفضل، قالوا: وما كان فضلكم؟ قالوا: كنا إذا جهل علينا حَلمنا، وإذا ظُلمنا صبرنا، وإذا أسيء إلينا غفرنا، قالوا: ادخلوا الجنَّة بغير حساب... ثم ينادي منادٍ: ليقم أهل الصبر، فتتلقَّاهم الملائكة، فيُقال انطلقوا إلى الجنَّة، ويحدث مثل ذلك، فيُقال لهم: وما كان صبركم؟ قالوا: صبَّرنا أنفسنا على طاعة الله ـ فالتزمنا بكلِّ ما أمرنا الله، وكنا نصبِّر أنفسنا رغم ما كنّا نعانيه من ضغوط اجتماعيَّة تحاول أن تدفعنا للتخلي عن مسؤولياتنا ـ وصبَّرناها عن معصية الله عزَّ وجلّ ـ فإذا اتجهت نفوسنا إلى الشهوات وارتكاب المعاصي، كنا نلزمها بالامتناع عن كلِّ ذلك ـ قالوا: ادخلوا الجنَّة فنِعمَ أجرُ العاملين، ثم ينادي منادٍ: ليقم جيران الله في داره، فيقوم ناسٌ من النَّاس وهم قليل، فيقال لهم: انطلقوا إلى الجنَّة، فتتلقَّاهم الملائكة ويحدث مثل ذلك، فيُقال لهم: بم جاورتم الله في داره؟ قالوا: كنا نتزاور في الله عزَّ وجلّ ـ كنا نلتقي، لا لعلاقة عاطفيَّة أو شخصيَّة، بل قربةً إلى الله ـ نتجالس في الله ـ نتجالس على أساس علاقة الإيمان ـ ونتباذل في الله ـ يبذل كلٌّ منا نفسه في الله ـ قالوا ادخلوا الجنَّة فنعمَ أجرُ العاملين".

ويريد الإمام(ع) بذلك أن يبيِّن لنا أنَّ هذه الأخلاق الإسلاميَّة من حلم وصبر ومغفرة وتواصل وبذْلٍ، تمثّل الخطَّ الإسلاميَّ الذي يمنح الإنسان الجائزة الكبرى، فيدخل إلى الجنَّة بغير حساب... وأيَّة جائزة أعظم من ذلك؟ صحيحٌ أنَّ الإنسان قد يعيش الشعور بالحرمان إذا ابتعد عن المطامع، لكن إذا كان ثمن ذلك الجنَّة، فإنَّ كلّ شيءٍ يهون أمام هذا النعيم...".

صبره وتسليمه لله:

يحدّد الإمام(ع) أسس الطاعة لله، فيرى أنها في الصبر والرضا بالقضاء: "الصبر والرضا عن الله رأس طاعة الله"، لأن الصبر هو الذي يؤكد إرادتك في الاتجاه الإيجابي الصحيح، "ومن صبر ورضي عن الله فيما قضى عليه فيما أحبّ أو كره، لم يقضِ الله عزَّ وجلّ له فيما أحبّ أو كره إلا ما هو خير له"، لأنه يعطيه الخير في الدنيا والآخرة جزاءً له على صبره وتسليمه. ويضيف الإمام أن "الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، ولا إيمان لمن لا صبر له"، فالصبر هو الأساس الذي يمنح الحياة الحركية حيوية الإيمان، لأن الإنسان "قد يلتقي في تكاليف الإيمان كلها بالضعف أو الحرمان أو ما إلى ذلك، فلا بدَّ له من أن يصبر". ولقد صبر الإمام في كربلاء، وكان دائماً ديدنه الصبر. فقد توفي له ولد "وعنده جماعة، فنهض الى منـزله، ثم رجع إلى مجلسه" بشكل طبيعي، "فعزّوه وتعجبوا من صبره"، فقال لهم: "إنا أهل البيت نطيع الله عزَّ وجلّ فيما نحب، ونحمده في ما نكره".

فالله افترض الصبر و"من عمل بما افترض الله عليه فهو من خير الناس".

وصنو الصَّبر القناعة، وبهذا يقول الإمام(ع): "رأيت الخير كلَّه قد اجتمع في قطع الطَّمع عمّا في أيدي الناس"، لأنَّ ذلك يذلُّ الإنسان... ويجعله خاضعاً لهذا الطمع، فيستغلك من يشبع طمعك، فيما لا تؤمن به ولا تريده. ويضيف الإمام: "من لم يرجُ الناس في شيء، وردَّ أمره إلى الله عزَّ وجلّ في جميع أموره (لأن الرزق منه)، استجاب الله عزَّ وجلَّ له في كلِّ شيء".

علمه:

لقد أعطى الإمام السجاد(ع) الإسلام تراثاً متنوّعاً في كل مجالاته، ولم يقتصر على جانب واحد كالدعاء مثلاً، ويدلك على ذلك عدد تلاميذه، فهم "يتنوّعون، فهناك من يختصُّ بالتاريخ، ومنهم من يختصُّ بالتفسير، ومن يختص بالفقه، ومن يختص بالثقافة الاجتماعيَّة".

وقد روى عن الإمام؛ الطبري وابن البيّع وأحمد وابن بطة وأبو داود وأبو الفرج الأصفهاني في الأغاني، وروى عنه في "ياقوت القلوب" و"شرف المصطفى" و"أسباب النـزول" و"الفائق" و"الترغيب والترهيب"، وروى عنه "الزهري" و"سفيان بن عيينه" و"نافع" و"الأوزاعي" و"مقاتل" و"الواقدي" و"محمد بن إسحاق". وروى عنه الفقهاء، ما لا يعدُّ كثرةً. وإلى هذا، "كان القراء لا يخرجون إلى مكة إلا إذا خرج معهم زين العابدين، وانتظروه في وقت حتى خرج، فخرج معه ألف راكب من القراء".

ومن عيون ما ترك لنا أيضاً رسالة الحقوق، التي حاول فيها مواجهة جهل الناس بالحقوق المتوجبة عليهم من حقوق الله وحقوق ذواتهم وحقوق بعضهم عند بعض، وحقوق الأبناء والآباء والمتعلم والمعلّم والسلطان والرعية... كلّ على الآخر.

وفي كل هذه العلوم، لم يكن الإمام منقطعاً عن مجتمعه، بل "كان(ع) يقضي النّهار مع النّاس، وكان يعلّمهم ويرشدهم ويعظهم ويجيب عن أسئلتهم... وكان(ع) يأتي المسجد في كل يوم جمعة، ويلتف الناس حوله، وكان يعظهم ويرشدهم ويقربهم إلى الله ويبصّرهم بمسؤولياتهم... وكان يريد أن يثقّف المجتمع بالثورة على الظلم".

ولم يكن علمه نظرياً فقط، بل كان مقروناً بالعمل، وهذا ما كان يحثُّ عليه، فقد قال لمتعنت بالسؤال: "مكتوب في الإنجيل: لا تطلبوا علم ما لا تعلمون ولما تعملوا بما علمتم"، أي تعلَّم العلم، وحاول أن تحوّله بحسب حاجات الحياة، "فإن العلم إن لم يُعمل به، لم يزدد صاحبه إلا كفراً"، لأنه إذا بقي مجرد فكرة لا تدخل إلى وجدانك، فقد تقود إلى الكفر، "ولم يزدد من الله إلا بعداً".

هذا، على أن لا يكون العمل على شكل هبّاتٍ متقطّعه، بل يجب أن يثابر عليه: "إني لأحب أن أداوم على العمل وإن قلّ"، لأن ذلك يحقق النتائج الكثيرة على المدى الطويل. ومن أنواع العمل، العمل مع الناس، وأهمه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، و"التارك للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كالتارك لكتاب الله وراء ظهره (لأنه يأمر بذلك) إلا أن يتَّقي تقاةً..." (أي) يخاف جباراً عنيداً أن يفرط عليه أو يطغى عليه.

وأخيراً، يعلّم الإمام النَّاس النظرة الناقدة، فلا يخدعون بالمظاهر، فيقول:

"إذا رأيتم الرجل قد حسن سمته، وتمادى في منطقه، وتخاضع في حركاته، فرويداً لا يغرّنّكم، فما أكثر من يعجزه تناول الدنيا وركوب الحرام منها لضعف نيته ومهانته وجبن قلبه، فنصب الدنيا فخاً لها، فهو لا يزال يختل الناس بظاهره، فإن تمكن من حرام اقتحمه، وإذا وجدتموه يعفُّ عن المال الحرام فرويداً، لا يغرّنكم، فإن شهوات الخلق مختلفة، فما أكثر من يتأبى عن الحرام، وإن كثر، ويحمل نفسه على شوهاء قبيحة فيأتي منها محرماً!

فإذا رأيتموه كذلك فرويداً، لا يغرّنكم حتى تنظروا عقدة عقله، فما أكثر من ترك ذلك أجمع... ثم لا يرجع إلى عقل متين، فيكون ما يفسده بجهله أكثر مما يصلحه بعقله.

فإذا وجدتم عقله متيناً فرويداً، لا يغرنكم حتى تنظروا أمع هواه يكون على عقله، أو يكون مع عقله على هواه، وكيف محبته للرئاسات الباطلة وزهده فيها، فإن في الناس من خسر الدنيا والآخرة، يترك الدنيا للدنيا، ويرى أن لذة الرئاسة الباطلة أفضل من لذة الأموال والنعم، المباحة المحللة، فيترك ذلك أجمع طلباً للرئاسة، حتى إذا قيل له: اتق الله، أخذته العزة بالإثم، فحسبه جهنم ولبئس المهاد، فهو خبط عشواء، يقوده أول باطل إلى أبعد غايات الخسارة، ويمدّه ربّه بعد طلبه لما لا يقدر عليه في طغيانه، فهو يحلُّ ما حرَّم الله، ويحرّم ما أحلَّ الله، لا يبالي ما فات من دينه، إذا سلمت له رئاسته التي قد يشقى من أجلها. فأولئك الذين غضب الله عليهم وأعدَّ لهم عذاباً أليماً.

ولكنَّ الرَّجل كلّ الرجل، نعم الرجل، هو الذي جعل هواه تبعاً لأمر الله، وقواه مبذولةً في رضى الله، يرى الذلّ مع الحقّ أقرب إلى عزِّ الأبد من العزِّ في الباطل، ويعلم أن قليل ما يحتمله من ضرَّائها، يؤديه إلى دوام النعيم في دار لا تبيد ولا تنفد.

العصبية والقرابة:

نبَّه الإمام من العصبية السيئة التي كانت تتفشى في المجتمع العربي منذ زمن، وهي ما زالت تتفشى حتى يومنا هذا، وستبقى إلى ما شاء الله، فعرّفها بقوله: "العصبية التي يأثم عليها صاحبها، أن يرى الرجل شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين، وليس من العصبية أن يحب الرجل قومه، ولكن من العصبية أن يعين قومه على الظلم". فلك أن تحبَّ "عائلتك وأهل بلدك ومنطقتك وقوميتك... فإذا وصلت عاطفتك إلى الحدِّ الذي تريد أن تسقط مبدأك ورسالتك، فاجعلها تقف ليتحرَّك المبدأ أوَّلاً، فإذا كان أهلك، أياً كان أهلك، هم الظالمين، فقف ضدهم، وإذا انطلق خصومك وكانوا المظلومين فكن معهم"، لأن القرابة لا تنفع عند الله مع الظلم، حتى ولو كانت القرابة مع رسول الله(ص). فقد شوهد الإمام يبكي عند البيت الحرام، فقال له أحد أصحابه: أنت تبكي وتتضرع إلى الله وجدك محمد(ص) وجدك علي(ع) وجدتك فاطمة(ع) وعمك الحسن وأبوك الحسين(ع)؟ فأجابه: "دع عنك حديث أبي وأمي وجدي، خلق الله الجنة لمن أطاعه ولو كان عبداً حبشياً، وخلق النار لمن عصاه ولو كان ولداً قرشياً... والله لا ينفعك غداً إلا تقدمة تقدمها من عمل صالح".

ويركّز الإمام على مسألة المساواة في الإسلام، فيرى أن الشرف بطاعة الله، "فإن الشريف من شرفته طاعتك (يا الله)، وإن العزيز من أعزته عبادتك".

ولقد تزوج الإمام بسرية كانت لعمه الحسن(ع)، "فبلغ ذلك عبد الملك بن مروان، فكتب إليه في ذلك كتاباً: إنك صرت بعل الإماء. فكتب علي بن الحسين(ع): "إن الله رفع بالإسلام الخسيسة، وأتمَّ به الناقصة، وأكرم به من اللؤم، فلا لؤم على مسلم، إنما اللؤم لؤم الجاهلية، وإن رسول الله(ص) أنكح عبده ونكح أمته، حيث زوج زينب بنت جحش، وهي ابنة عمته، من عبده زيد، وتزوَّجها بعد ذلك".

وكان عليّ بن الحسين(ع) مثالاً في التواضع، فكان مثلاً "لا يسافر إلى مع رفقة لا يعرفونه، ويشترط عليهم أن يكون من خدم الرفقة في ما يحتاجون إليه. فسافر مرَّةً مع قوم، فرآه رجل فعرفه، فقال لهم: أتدرون من هذا؟ فقالوا: لا. قال: هذا علي بن الحسين(ع)، فوثبوا إليه، فقبلوا يده ورجله"، ولما سألوه في ذلك قال: "إني كنت سافرت مرةً مع قوم يعرفونني، فأعطوني برسول الله(ص) ما لا أستحق، فإني أخاف أن تعطوني مثل ذلك، فصار كتمان أمري أحب إلي".

دعاؤه:

كان الإمام زين العابدين(ع) يخطط لثقافة الدعاء، ليجعل الدعاء منهج فكر وحركة جهاد، ومصدر معرفة لله وللرسول ولكل الخطوط الإسلامية، ذلك أن "الدعاء في الإسلام ليس شيئاً يبعد الإنسان عن الحياة، بل يدخله في الحياة، ليعيش الحياة بكل قوة وهو ضارع بين يدي الله تعالى". ومن هنا كان الإمام(ع) مجدداً "في أسلوب الدعاء، لأنه أدخل إلى الدعاء المفاهيم الإسلامية"، كل ذلك في قيمة فنية مبدعة، "في الفكر والأسلوب والعرض وجمالية الجو والإيحاء واللفتة والإيحاء وروحية الفكرة، (وهي) توحي كلها بأن الإمام(ع) كان يدعو من كل روحه وقلبه وشعوره، وكل وجوده وكيانه".

دعاؤه لنفسه لردّ كيد الظالم:

يتضرَّع الإمام(ع) إلى الله فيقول:

"وسدّدني لأن أعارض من غشَّني بالنصح، وأجزي من هجرني بالبر، وأثيب من حرمني بالبذل، وأكافي من قطعني بالصلة، وأخالف من اغتابني إلى حسن الذكر، وأن أشكر الحسنة وأغضي عن السيئة. اللَّهمَّ وعمّرني ما كان عمري بذلةً في طاعتك، فإذا كان عمري مرتّعاً للشيطان ـ يصول فيه ويجول ـ فاقبضني إليك قبل أن يسبق مقتك إليَّ، أو يستحكم غضبك عليَّ"، "واجعل الحياة زيادةً لي في كلّ خير، والوفاة راحةً لي من كل شرٍّ".

ويقول في مكان آخر: "اللهم وفّقنا في يومنا هذا، وليلتنا هذه، لاستعمال الخير وهجران الشر، وشكر النعم واتباع السنن، ومجانبة البدع، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحياطة الإسلام، وانتقاص الباطل وإذلاله، ونصرة الحق وإعزازه، وإرشاد الضال، ومعاونة الضعيف، وإدراك اللهيف.

ويضيف في مكانٍ آخر: "اللهمَّ وبلِّغ بإيماني أكمل الإيمان، واجعل يقيني أفضل اليقين، وانته بنيتي إلى أحسن النيات، وبعملي إلى أحسن الأعمال". إذاً يقول لك علي بن الحسين(ع): ادرس إيمانك إن كان ناقصاً أو كاملاً، وادع الله أن يكمله. "اللّهمّ لا ترفعني في الناس درجةً إلا حططتني عند نفسي مثلها، ولا تحدث لي عزاً ظاهراً إلا أحدثت لي ذلةً باطنةً عند نفسي بقدرها". وفي موضوع الظلم يتابع الإمام: "اللّهمّ ولا أُظلمَنَّ وأنت مطيقٌ للدفع عني، ولا أَظلِمنَّ وأنتَ القادر على القبض مني". ويعبر عن تجرُّده لله فيقول: "اللهم إني أخلصت بانقطاعي إليك، وأقبلت بكلي عليك، وصرفت وجهي عمن يحتاج إلى رفدك، (الناس المحتاجين معونتك) وقلبت مسألتي عمن لم يستغن عن فضلك (وهو أي إنسان، فلا أسأله)، ورأيت أن طلب المحتاج إلى المحتاج (طلب الإنسان من الإنسان الآخر) سفه من رأيه، وضلة من عقله". فأي سفه أشد من "أن يطلب المحتاج حاجته من المحتاج؟".

"فكم قد رأيتُ يا إلهي من أناسٍ طلبوا العزَّ بغيرك فذلُّوا، وراموا الثروة من سواك فافتقروا، وحاولوا الارتفاع فاتَّضعوا، فصحَّ بمعاينة أمثالهم حازمٌ وفَّقه اعتباره، وأرشده إلى طريق صوابه اختياره، فأنت يا مولاي دون كلِّ مسؤول موضعُ مسألتي، ودون كل مطلوبٍ وليُّ حاجتي".

وعن قيمة الفقر والغنى يتابع الإمام: "اللّهمّ اعصمني من أن أظن بذي عدم خساسة، أو أظن بصاحب ثروة فضلاً".

ثم يقول الإمام(ع) في موضوع المال: "اللهمّ صلِّ على محمد وآله، وهب لي العافية من دَيْنٍ تخلق به وجهي (يذلني أمام الدائن)، ويحار فيه ذهني، ويتشعب له فكري (يتشتت)، ويطول بممارسته شغلي (لأن الدَّيْن يشغل بال الإنسان)، وأعوذ بك يا ربي من همِّ الدين وفكره، وشغل الدين وسهره. فصلِّ على محمد وآله، وأعذني منه، وأستجير بك يا ربي من ذلته في الحياة، ومن تبعته بعد الوفاة (لأن الإنسان سيسأل عمَّا للآخرين في ذمته)، فصلِّ على محمد وآله، وأجرني منه بوسع فاضل (سعة المال)، أو كفاف واصل" (أي بقدر حاجتي).

وفي موضوع صرف المال يقول الإمام(ع): "اللهمَّ صلِّ على محمد وآله، واحجبني عن السرف والازدياد، وقوّمني بالبذل والاقتصاد (لأوازن بينهما)، وعلّمني حسن التقدير، واقبضني بلطفك عن التبذير (امنعني منه)، وأجر من أسباب الحلال أرزاقي، ووجّه في أبواب البر إنفاقي، وازوِ عني (أبعده عني) من المال ما يحدث لي مخيلةً (انتفاخ شخصية)، أو تأدياً إلى بغي، أو ما أتعقَّب منه طغياناً (أتحول إلى طاغية)، وما زويت (أبعدت) عني من متاع الدنيا فادخره لي في خزانتك الباقية (امنحنيه في الآخرة)، واجعل ما خوَّلتني (أعطيتني) من حطامها، وعجّلت لي من متاعها، بلغةً (ما يبلغني) إلى جوارك، ووصلةً إلى قربك، وذريعةً (طريقاً) إلى جنّتك".

ويستعيذ الإمام من فتنة المال فيقول: "الحمد لله رضىً بحكم الله، شهدت أن الله قسم معايش عباده بالعدل، وأخذ على جميع خلقه بالفضل... اللهم لا تفتنّـي بما أعطيتهم، ولا تفتنهم بما منعتني، فأحسد خلقك، وأغمط حكمك".

وفي كلّ هذا، لا يرجو(ع) غير الله، كما قال في دعاء سابق:

"الحمد لله الذي أرجوه ولا أرجو غيره ولو رجوتُ غيره، لأخلف رجائي، والحمد لله الذي أدعوه ولا أدعو غيره، ولو دعوت غيره لم يستجب لدعائي، والحمد لله الذي وكلني إليه فأكرمني، ولم يكلني إلى الناس فيهينوني، والحمد لله الذي تحبّب إليَّ وهو غني عني، فربي أحمدُ شيء عندي وأحقّ بحمدي".

وفي مكان آخر يقول الإمام(ع): "فأنت يا مولاي دون كل مسؤول موضع مسألتي، ودون كل مطلوب إليه وليُّ حاجتي، أنت المخصوص قبل كل مدعوّ بدعوتي... ربّ كم من نعمة أنعمت بها علي قلَّ لك عندها شكري، وكم من بليةٍ ابتليتني بها فقلَّ لك عندها صبري. فيا من قلَّ عند نعمته شكري، فلم يحرمني ولم يؤاخذني بذلك، وقلَّ عند بلائه صبري، فلم يخذلني، يا ذا المعروف الذي لا ينقطع أبداً ويا ذا النعماء التي لا تحصى عدداً، صلِّ على محمَّد وآل محمَّد، وادفع عني شرَّه، فإني أدرأ بك في نحره، وأستعيذ بك من شره".

ومن كلامه في التوحيد: "إن الله عزَّ وجل علم أنه يكون في آخر الزمان أقوام يتعمقون، فأنزل الله تعالى: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ (التي تمثل الوحدانية في بساطتها المتعمقة) ﴿اللَّهُ الصَّمَدُ﴾ (الذي يرجع إليه في كل حاجات المخلوقين) ﴿ لَمْ يَلِدْ﴾ (فلا يكون له وارث) ﴿وَلَمْ يُولَدْ﴾ (لم ينفصل عن موجود آخر) ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾(سورة الإخلاص) (فهو واجب الوجود ولا يماثله أحد في وجوب وجوده) والآيات من سورة الحديد إلى قوله ﴿وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾(الحديد:6)، ومن رام وراء ذلك هلك".

والآيات التي ذكرها(ع) هي: ﴿سَبَّحَ للهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾(الحديد:1)، ﴿للهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾(المائدة:120) ﴿هُوَ الأَوَّلُ وَالآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾(الحديد:3)، فعلمه "اتّسع لكل شيء، فلا يمكن أن يغيب عن علمه أي شيء... فعلينا أن نأخذ صفات الله من الله، وألاّ نأخذها من غير الله (كالفلاسفة).

وفي تنزيه الله يقول(ع): "إن الله لا يوصف بمحدودية"، أي الحدود والجسمانية، أو... بالحدود التي تعرض للصور الذهنية المحتاجة للتركيب العقلي.

وسمع الإمام في المسجد قوماً يشبّهون الله بخلقه، فارتاع، وقصد قبر الرسول(ص)، وراح يناجي ربه: "إلهي، بدت قدرتك ولم تبد هيئة جلالك فجهلوك، وقدّروك بالتقدير على غير ما به أنت، شبّهوك وأنا بريء يا إلهي من الذين بالتشبيه طلبوك، ليس كمثلك شيء إلهي، ولم يدركوك، وظاهر ما بهم من نعمة دليلهم عليك لو عرفوك، وفي خلقك يا إلهي مندوحة أن ينالوك، بل ساووك بخلقك، فمن ثم لم يعرفوك، واتخذوا بعض آياتك رباً، فبذلك وصفوك، فتعاليت يا إلهي عما به المشبهون نعتوك".

خشيته من الله

كان الإمام(ع)، كما يقول طاووس الفقيه، يطوف من العشاء إلى السحر ويتعبَّد، فلما لم يرَ أحداً، رمق السماء بطرفه وقال: "إلهي غارت نجوم سماواتك، وهجعت عيون أنامك، وأبوابك مفتَّحات للسائلين، جئتك لتغفر لي وترحمني وتريني وجه جدي رسول الله(ص) في عرصات القيامة"... ثم بكى وقال: "وعزَّتك وجلالك، ما أردت بمعصيتي مخالفتك، وما عصيتك إذ عصيتك وأنا بك شاكٌّ، ولا بنكالك جاهل، ولا لعقوبتك متعرّض، ولكن سوَّلت لي نفسي وأعانني على ذلك سترك المُرخى به عليَّ، فالآن من عذابك مَنْ يستنقذني؟ وبحبل مَنْ أعتصم إن قطعت حبلك عني؟ فوا سوأتاه غداً من الوقوف بين يديك، إذا قيل للمُخفّين جوزوا، وللمثقلين حُطوا، أمع المخفِّين أجوز، أم مع المثقلين أحطّ؟ ويلي، كلما طال عمري كثُرت خطاياي ولم أتب، أما آن لي أن أستحيي من ربِّي؟"، ثم بكى وأنشأ يقول:

أتـحرقنـي بالنار يا غاية الـمنـى
    


    

فأيـن رجائـي ثـم أيـن مـحبتـي

أتـيـت بأعمـال قـبـاح زريَّـة
    


    

وما فـي الورى خلق جنـى كجنايتـي

ثم بكى وقال: "سبحانك تُعصى كأنَّك لا تُرى، وتَحْلُم كأنَّك لم تُعْص، تتودَّد إلى خلقك بحسن الصنيع، كأنَّ بك الحاجة إليهم، وأنت سيدي الغنيُّ عنهم...". ثم خرَّ إلى الأرض ساجداً، فدنوت منه وشلت برأسه، ووضعته على ركبتي، وبكيت حتى جرت دموعي على خدِّه، فاستوى جالساً وقال: "مَن الذي أشغلني عن ذكر ربِّي؟"، فقلت: أنا طاووس يا بن رسول الله، ما هذا الجزع والفزع؟ ونحن يلزمنا أن نفعل مثل هذا ونحن عاصون جانون، أبوك الحسين بن عليّ، وأمُّك فاطمة الزهراء، وجدُّك رسول الله(ص)، فالتفت إليَّ وقال: "هيهات هيهات يا طاووس، دع عني حديث أبي وأمي وجدّي"، إلى أن يقول: "أمَا سمعت قوله تعالى: ﴿فإذا نُفِخ في الصُّورِ فلا أنسابَ بينَهُم يومئذٍ ولا يتساءَلون﴾(المؤمنون/101)، والله ما ينفعك غداً إلاَّ تقدمة تقدِّمها من عمل صالح".

أنسه بالقرآن:

كان(ع) يقول: "لو مات من بين المشرق والمغرب، لما استوحشت بعد أن يكون القرآن معي"، لأنه "عندما يقرأ القرآن، يعيش مع الله".

الصباح في نظر الإمام(ع)

يناجي الإمام ربه عند طلوع الصباح فيقول:

"أصبحنا وأصبحت الأشياء كلها بجملتها لك، سماؤها وأرضها، وما ثبت في كل واحد منها سكانه ومتحركه، ومقيمه وشاخصه، وما علا في الهواء، وما كنَّ تحت الثرى". إذاً الصباح ليس للإنسان وحده، فهو جزء من الكون المملوك لله الذي طلع عليه الصباح. "فأصبحنا في قبضتك، يحوينا ملكك وسلطانك، وتضمنا مشيئتك، ونتصرف عن أمرك نتقلب في تدبيرك، وليس لنا من الأمر إلا ما قضيت، ولا من الخير إلا ما أعطيت، وهذا يوم حادث جديد، وهو علينا شاهد عتيد، إن أحسنا ودعنا بحمد، وإن أسأنا فارقنا بذنب".

كلامه في كظم الغيظ:

يقول(ع): "ما أحبُّ أن لي بذلِّ نفسي حمر النعم (وكانت من الثّروات المهمة)، وما تجرَّعت من جرعةٍ أحبّ إليّ من جرعة غيظ أعقبها صبر"، فهو لا يتحرك بردّ الفعل تجاه صاحب الإساءة، وهذا ليس ذلاً، بل هوموقف عزٍ أن تنتصر على نفسك.

رسالة الحقوق:

ويقتبس السيد من رسالة الحقوق للإمام(ع):

حق النفس: يقول الإمام زين العابدين(ع): "وأمَّا حقُّ نفسك عليك، فأن تستوفيها في طاعة الله عزَّ وجلَّ، فتؤدي إلى لسانك حقَّه، وإلى سمعك حقَّه، وإلى بصرك حقَّه، وإلى يدك حقَّها، وإلى رجلك حقَّها، وإلى بطنك حقّه، وإلى فرجك حقَّه، وتستعين بالله على ذلك".

حق اللّسان: "وأما حقّ اللّسان، فإكرامه عن الخنى (الغش والسباب)، وتعويده على الخير، وحمله على الأدب، وإجمامه (إمساكه) إلا لموضع الحاجة والمنفعة للدين والدنيا، وإعفاؤه عن الفضول (الكلام الذي لا داعي له) الشنعة القليلة الفائدة التي لا يؤمن ضررها، مع قلة عائدتها، ويعدّ شاهد العقل والدليل عليه، وتزين العاقل بعقله، حسن سيرته في لسانه" (لأن اللسان دليل العقل).

حق السمع: "وأما حق السمع، فتنـزيهه عن أن تجعله طريقاً إلى قلبك (لأن السمع نافذة إلى العقل والقلب)، إلا لفوّهة كريمة تحدث في قلبك خيراً، أو تكسب خلقاً كريماً، فإنه (السمع) باب الكلام إلى القلب (العقل)، يؤدي إليه ضروب المعاني على ما فيها من خير أو شرّ" (فخذ ما يهديك).

حق البصر: "وأما حق بصرك، فغضّه عمّا لا يحل لك، وترك ابتذاله (استعماله) إلا لموضع عبرة، تستقبل بها بصراً، أو تستفيد بها علماً، فإن البصر باب الاعتبار".

حق الرجلين: "وأما حق رجليك، فألا تمشي بهما إلى ما لا يحلُّ لك (الأماكن المحرمة)، ولا تجعلهما مطيتك في الطّريق المستخفّة بأهلها فيها (فلا يستهزأ بك)، فإنها حاملتك، وسالكة بك مسلك الدين والسبق لك".

حق اليد: "وأما حق يدك، فأن لا تبسطها إلى ما لا يحل لك (كأن تضرب إنساناً ظلماً)، فتنال بما تبسطها إليه من الله العقوبة في الآجل (يوم القيامة)، ومن الناس اللائمة في العاجل، ولا تقبضها ممّا افترض الله عليها (لا تمسك عن المسؤوليات)، ولكن توقرها بقبضها عن كثير مما لا يحل لها، وبسطها إلى كثير ممّا ليس عليها، فإذا هي قد عقلت وشرفت في العاجل، ووجب لها حسن الثواب من الله في الآجل".

حق البطن: "وأمّا حقُّ بطنك، فأن لا تجعله وعاءً لقليلٍ من الحرام ولا لكثير، وأن تقتصد له في الحلال (فلا تسرف في أكلك)، ولا تخرجه من حدّ التقوية إلى حدّ التهوين وذهاب المروءة (تأكل ما يقوّي جسمك لا ما يجعلك تصل إلى حدّ البطنة)، وضبطه؛ إذا همّ، بالجوع والظّمأ، فإن الشبع المنتهي بصاحبه إلى التّخم مكسلة ومثبطة ومقطعة عن كل بر وكرم، وإن الري المنتهي بصاحبه إلى السكر، مسخفة ومجهلة ومذهبة للمروءة".

التعاطي مع الشهوات: "وأما حق فرجك، فحفظه مما لا يحل لك (كالزنا)، والاستعانة عليه بغض البصر (فبغض البصر يسيطر على الشهوة)، فإنه من أعون الأعوان، وضبطه، إذا همَّ، بالجوع والظمأ (أن تحاول كبحه بالجوع والعطش)، وكثرة ذكر الموت، والتهدد لنفسك بالله (تهديدها)، والتخويف لها به، وبالله العصمة والتأييد".


سادساً: الإمام محمد بن علي الباقر(ع)


خامس أئمة أهل البيت(ع)، عايش الإمام الباقر مرحلة الصراع بين الحكم الأموي والحراك العباسي، ما أتاح له الفرصة للنشاط العلمي والتعليمي والتثقيفي والتأديبـي.

يصف الشيخ المفيد الإمام الباقر(ع) فيقول: "وكان أبو حعفر محمد بن علي بن الحسين(ع) من بين إخوته، خليفة أبيه علي بن الحسين ووصيه، والقائم بالإمامة من بعده، وبرز على جماعتهم بالفضل في العلم والزهد والسؤدد، وكان أنبههم ذكراً، وأجلّهم في العامة والخاصة، وأعظمهم قدراً، ولم يظهر عن أحد من ولد الحسن والحسين(ع) من علم الدين والآثار والسنَّة وعلم القرآن والسيرة وفنون الآداب، ما ظهر على أبي جعفر(ع)، وروى عنه معالم الدين، بقايا الصحابة ووجوه التابعين ورؤساء فقهاء المسلمين، وصار بالفضل به علماً لأهله تضرب به الأمثال، وتسير بوصفه الآثار والأشعار.

وكان الإمام(ع) كريماً معطاءً، يذكر المؤرّخون أنه "كان مع ما وصفناه به من الفضل في العلم والسؤدد والرئاسة والإمامة، ظاهر الجود في الخاصة والعامة، مشهور الكرم في الكافة، معروفاً بالفضل والإحسان مع كثرة عياله وتوسّط حاله". ويتحدث عن عطائه فيقول: "ما لقينا أبا جعفر(ع) إلا وقد حمل إلينا النفقة والصلة والكسوة، ويقول: "هذه معدة لكم قبل أن تلقوني". ويقول آخرون: كان أبو جعفر يجيزنا بالخمسماية درهم إلى الثمانية إلى الألف، وكان لا يملُّ من صلة إخوانه وقاصديه ومؤمليه وراجيه".

سعة علمه:

كان الإمام الباقر(ع) "شخصيةً معصومةً فذّةً عاشت مرحلتها وعصرها، فأغنت الواقع الإسلامي كلَّه، وأجابت عن الكثير من الأسئلة التي قد تكون جواباً على أكثر من سؤال معاصر"، ويقول الشيخ المفيد عن علم الإمام الباقر: "وقد روى أبو جعفر أخبار المبتدأ، ـ يعني ابتداء خلق العالم ـ وأخبار الأنبياء، وكتب عنه الناس المغازي، وأثروا عنه السنن، واعتمدوا عليه في مناسك الحج التي رواها عن رسول الله(ص)، وكتبوا عنه تفسير القرآن، وروت عنه الخاصة والعامة الأخبار، وناظر من كان يرد عليه من أهل الآراء، وحفظ الناس عنه الكثير من علم الكلام". وروى عنه ابن حجر في الصواعق المحرقة، وهو من علماء السنة، فقال: "أظهر من المخبآت كنوز المعارف، وحقائق الأحكام والحكم واللطائف، ما لا يخفى إلا على منطمس البصيرة، أو فاسد الطوبة والسريرة... هو باقر العلم وجامعه، وشاهر علمه ورافعه". وقال محمد بن مسلم، أحد الرواة من أصحابه: "لقد سألته عن ثلاثين ألف حديث فأجابني عن ذلك"، كما روى آخرون عنه ما يقارب ذلك في أكثر من موضوع".

هذا العلم لم يكن الإمام الباقر(ع) يدَّخره، بل كان يطرحه لطلابه ولسائر الناس، ولم يكن يقصره على فئةٍ معيّنةٍ أو اتجاهٍ معيّن، فقد ضمَّت مدرسته "مختلف المذاهب والاتجاهات الفكرية، علماً أنَّ المذاهب بالمعنى الحديث لم تكن قد تكوّنت بعد، فالطبري يسند الكثير مما ينقله (في تاريخه) إلى الإمام محمد الباقر، ويذكر كتاب سيرته، أن العلماء عندما (كانوا) يلتقون عنده، فإنهم (كانوا) يتصاغرون أمامه كما لو كانوا تلامذته بين يديه، حتى إن بعضهم يقول: "رأيت الحكم بن عتيبة، وهو من العلماء المبرزين في ذلك الوقت، عندما دخل على الإمام الباقر(ع) جلس بين يديه، كما لو كان تلميذاً من تلامذته"، وهذا يدلُّ على أنه كان ملتقى كل الواقع الإسلامي من خلال مثقفيه، فلقد كان محل الثقة المطلقة في علمه، كما كان محل الثقة المطلقة في الجوانب الأخرى من شخصيته".

وفي تعليمه الناس، كان الإمام(ع)، كسائر أئمة أهل البيت(ع)، يحترم إنسانية الإنسان كما يقضي القرآن، ولهذا كان يرغب في منحهم العلم الصحيح، ففي تفسيره للآية الكريمة: ﴿فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ﴾(عبس:24)، يقول(ع): "هو علمه الذي عليه أن يفكر ممن يأخذه". وكان يعلّم أصحابه التحري عن مصادر العلم، حتى ولو كان هو الذي يبثه، فيقول: "إذا حدثتكم بشيء فاسألوني من كتاب الله". ثم نصحهم نصيحته حول طريقة العلم فقال: "إن رسول الله(ص) نهى عن القيل والقال، وفساد المال وكثرة السؤال"، فقيل له: "يا بن رسول الله، أين هذا من كتاب الله؟" فقال(ع): "فإنّ الله عزّ وجلّ يقول: ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾"(النساء:114) وما غير ذلك من حديث لا خير فيه. وأما الدليل على النهي عن كثرة السؤال، فقوله تعالى: ﴿لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾(المائدة:101)، أي اسألوا عن الأشياء التي تتعلق بالعقيدة والشريعة والمنهج وبما تحتاجونه في أمر معاشكم.

وإلى هذا، ينصح الإمام(ع) بتذاكر العلم لا بمجرد حفظه، لأن التذاكر يؤدي إلى تلاقح الأفكار وتخصيبها وإلى الإبداع.

ويتوجَّه الإمام(ع) إلى من يتصدَّون لتعليم الناس، فيضعهم أمام مسؤوليَّاتهم، فهم يتحمَّلون تبعات ما يعلمون، "فإنّ من علّم باب هدى، فله أجر من عمل به، ولا ينقص أولئك من أجورهم شيئاً، ومن علم باب ضلال، كان عليه مثل أوزار من عمل به، ولا ينقص أولئك من أوزارهم شيئاً". ثم إن العلم يجب أن يقصد به أن ينير المتعلم ذاته ومجتمعه، لا أن يبتغي الفخر وطلب السمعة، إذ يقول الإمام(ع): "من طلب العلم ليباهي به العلماء، ويماري به السفهاء، أو يصرف وجوه الناس إليه (حتى يعظموه)، فليتبوّأ مقعده من النار".

ومن جهة أخرى، فإن العلم ليس لمجرد المعرفة، بل هو أداة لتوعية الناس، فيجب أن نعيه ونتمثله ونعطي كلاً بقدر ما يحتمل: "فإذا سمعتم العلم فاستعملوه (حولوه إلى واقع عملي)، ولتتسع له قلوبكم، فإنَّ العلم إذا كثر في قلب رجل لا يحتمله، قدر الشيطان عليه".

وعلى المعلّم أن يكون أكيداً مما يعلّم، وإلا فعليه أن يتوقف عن التعليم: "ما علِمتم فقولوا، وما لم تعلموا فقولوا: الله أعلم، إن الرجل ينتزع الآية من القرآن (محاولاً تفسيرها دون علم) يخرُّ فيها أبعد ما بين السماء والأرض".

مساوئ الكذب

ويبين الإمام(ع) خطر الكذب، فيجد فيه تدميراً للإيمان، حيث يقول: "إن الله جعل للشر أقفالاً، وجعل مفاتيح تلك الأقفال الشراب، والكذب شر من الشراب، والكذب خراب الإيمان، أي شيء أشد من الكذب، إن الكذاب كلما أفنى أحدوثةً (انتهى منها) مطَّها بأخرى"، فيتواصل الكذب منه.

وعلى كلّ من لا يعلم الحكم في أمر، أن يتوقَّف عن إتيانه وإلا هلك: "الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة، وتركك حديثاً لم تروه خير من روايتك حديثاً لم تحصه" (لم تعرف كافة عناصره وأبعاده).

وحتى لو كان الإنسان يحفظ الحديث ويعيه، فعليه أن يعرضه على القرآن، فإن وافقه يكون صحيحاً، فـ"ما جاءك من رواية (حديث) من برّ أو فاجر يوافق القرآن فخذ به، وما جاءك من رواية من بر أو فاجر يخالف القرآن فلا تأخذ به"، لأن القرآن هو الأساس الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

عبادته:

يذكر المؤرّخون أنَّ الإمام(ع) "كان دائم الذّكر لله، وكان لسانه يلهج بالذكر في أكثر أوقاته، فكان يمشي ويذكر الله، ويحدِّث القوم وما يشغله ذلك عن ذكر الله، وكان يجمع ولده ويأمرهم بذكر الله حتى تطلع الشمس، كما كان يأمرهم بقراءة القرآن، ومن لا يقرأ منهم، أمره بذكر الله". وكان(ع) يوصي بالحب بالله والبغض بالله، فيقول: "ودُّ المؤمن للمؤمن في الله أعظم شعب الإيمان، ألا ومن أحب في الله وأبغض في الله وأعطى في الله ومنع في الله، فهو من أصفياء الله"، وهذه درجة رفيعة من درجات الإيمان.

وهكذا، فإن الخير والشر متعلّقان بطاعة الله ومعصيته، "إذا أردت أن تعرف أن فيك خيراً، فانظر إلى قلبك، فإن كان يحب أهل طاعة الله ويبغض أهل معصيته، ففيك خير والله يحبك، وإن كان يبغض أهل طاعة الله ويحب أهل معصيته، فليس فيك خير والله يبغضك، والمرء مع من أحب".

ويعلّم الإمام الناس مواجهة الشيطان، فيقول: "إذا خاصمكم الشيطان (بوسوساته لكم وشبهاته) فأقبلوا عليه بما تعرفون... خاصموه بما ظهر لكم من قدرة الله عز وجل، (واجهوه بما تعرفونه عن قدرة الله)، لأن كيد الشيطان كان ضعيفاً".

الأخلاق في نظر الإمام(ع)

يرى الإمام(ع) أن الأخلاق على قدر الإيمان: "إن أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً"، لأن الله يؤكد الأخوّة الإيمانية.

وفي رأس الأخلاق الصّدق، لذا كان الإمام(ع) يقول: "تعلّموا الصدق قبل الحديث"، لأن النّاس عندما يستمعون إلى المحدّث، فإنّهم يحملون أحاديثه، فإن كان كاذباً دفعهم إلى تبني الكذب، فأثم عنهم وعن نفسه، ومن يعتد الصدق يرفعه الله: "إن الرجل ليصدق حتى يكتبه الله صدّيقاً"، فيحشره الله مع الصدّيقين في درجتهم.

ومن وصاياه: "عليكم بالورع (عن الحرام)، والاجتهاد (في طاعة الله)، وصدق الحديث، وأداء الأمانة إلى من ائتمنكم عليها برّاً كان أو فاجراً. فلو أن قاتل علي(ع) ائتمنني على أمانة لأدَّيتها إليه" فلا تمييز في حفظ الأمانة بين أن تكون لمؤمن أو لكافر. ويضيف الإمام(ع) في الأمانة قوله: "ألا أنبئكم بالمؤمن؛ من ائتمنه المؤمنون على أنفسهم وأموالهم".

وإلى هذا، يأمر الإمام(ع) بالتوادّ والمواساة، فهو يسأل من حدَّثه عن الشيعة في منطقته، بقوله: "فهل يعطف الغني على الفقير؟ وهل يتجاوز المحسن عن المسيء ويتواسون؟"، فقال: لا، فقال: "ليس هؤلاء شيعة". كما سأل بعض أصحابه قائلاً: "أيجيء أحدكم إلى أخيه فيدخل يده في كيسه فيأخذ حاجته، فلا يدفعه"، فقال: ما أعرف ذلك فينا. فقال أبو جعفر(ع): "فلا شيء إذاً ـ من التشيع ـ فالهلاك إذاً. إن القوم لم يُعطوا أحلامهم بعد"، أي لم تكتمل عقولهم.

وإلى هذا، كان الإمام يوصي بحسن الأداء في الحديث مع الناس كما نحب أن يتحدثوا معنا: "قولوا للناس أحسن ما تحبون أن يقال لكم (فاختر كلماتك وأسلوبك ورد الفعل الذي تتوقعه)، فإن الله تعالى يبغض اللعان السباب الطعان على المؤمنين السائل الملحف (الذي يلحّ في السؤال فوق العادة) ويحبُّ العفيف المتعفف"، ذلك أن اللسان إنما يتسبَّب بالخير والشر، "ألا إن هذا اللّسان مفتاح كلّ خيرٍ وشر، فينبغي للمؤمن أن يختم على لسانه كما يختم على ذهبه وفضته (فاقفله بقفل التقوى)، فإن رسول الله(ص) قال: رحم الله مؤمناً أمسك لسانه من كل شرٍّ، فإن ذلك صدقة منه على نفسه".

جاء في إحدى الرّوايات، كما ينقل السيّد(قده): أساء يهودي إلى رسول الله(ص)، وذلك بكلام عدواني مموَّه، فردَّ عليه الرسول، فثارت عائشة على اليهودي، إلا أن الرسول(ص) وعظها بقوله: "إن الفحش لو كان ممثلاً لكان مثال السوء". وضبط اللسان الذي يوصي به الإمام الباقر(ع) يستلزم سعة الصَّدر عندما يستفزُّ الإنسان، فلا يردُّ الإساءة بالإساءة. فكان(ع) يقول: "ثلاثٌ لا يزيد الله بهم المرء إلاّ عزاً؛ الصفح عمّن ظلمه، وإعطاء من حرمه، والصلة لمن قطعه"، وكان(ع) يوصي بكظم الغيظ ويمارسه في أصعب الحالات: "من كظم غيظة وهو يقدر على إمضائه (على رد الإساءة) حشا الله قلبه أمناً وإيماناً". وهكذا، فـ"إنَّ الله عزَّ وجلَّ رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف". ويمكن اختصار ذلك بالمحبة، وأن تعطوا كلَّ ذي حقّ حقّه، واعترفوا بما للناس، وخصوصاً إخوانكم، ولا تتسبّبوا لهم بأذى: "عظّموا أصحابكم ولا تحقّروهم ووقّروهم، ولا يتهجّم بعضكم على بعض، ولا تضاروا (لا يضر أحدكم الآخر)، وإياكم والبخل، وكونوا عباد الله المخلصين". أما في مجال الموقف ممّن يقدم لنا النصيحة أو ممن يغشّنا، فيقول الإمام: "اتبع من يبكيك وهو لك ناصح، ولا تتبع من يضحكك وهو لك غاش".

وأما الموقف من المحتاجين، فيحدِّده الإمام(ع) بقوله: "لئن أعول أهل بيت من المسلمين؛ أسدّ جوعتهم، وأكسو عورتهم، وأكف وجوههم عن الناس، أحب إلي من أن أحجّ حجةً وحجةً وحجةً مثلها (حتى بلغ عشراً) ومثلها ومثلها (حتى بلغ السبعين حجة). فالمسألة الاجتماعية في الإسلام فيما له علاقة بإعالة المحتاجين "تتفوق على مستحبات العبادة". ومن هنا، كان(ع) يوصي بقوله: "أوصى الله إلى موسى(ع) أنَّ من عبادي من يتقرَّب إليَّ بالحسنة، فأحكمه في الجنة (يدخل الجنة ويختار موقعه فيها). قال: وما تلك الحسنة؟ قال: يمشي مع أخيه المؤمن في قضاء حوائجه".

على أن بذل المساعدة أمر، والتبذير أمر آخر، فإن رسول الله(ص)، كما ينقل الإمام الباقر، نهى عن فساد المال، وذلك بأي طريقة كانت.

وكان الإمام(ع) يحثُّ على العمل لكسب الرزق، ويضرب المثال بذلك، فقد شوهد ذاهباً إلى العمل في الأرض في ساعة حارَّة، فسئل ماذا لو جاءه الموت وهو على هذه الحالة، فأجاب بقوله: "لو جاءني الموت وأنا في هذه الحالة، جاءني وأنا في طاعة من طاعات الله، أكف بها نفسي عنك وعن الناس، وإنما كنت أخاف الموت لو جاءني وأنا على معصية من معاصي الله".

ثمن الجنة: كان الإمام(ع) يعلّم الناس أن الجنة لا تقدَّم هديةً للعاصين، فيقول(ع): "الجنة محفوفة بالمكاره والصبر، فمن صبر على المكاره في الدنيا دخل الجنة، وجهنم محفوفة باللذات والشهوات، فمن أعطى نفسه لذتها وشهوتها، دخل النار".

ولم يكن الإمام(ع)، بعد كلّ ذلك، وبعد كلّ ما ألحقه الحكام بأهل البيت(ع)، ليتوانى عن النصيحة للإسلام وأهله، ففي عهد عبد الملك بن مروان، أراد عبد الملك تبديل العملة، وكانت الدولة الإسلامية تستخدم العملة الرومية، فهدد ملكُ الروم بإصدار عملة فيها سبّ الرسول(ص) فاحتار عبد الملك ماذا يفعل، فأشير عليه أن يرسل في طلب الإمام الباقر(ع) ليستشيره في الأمر، ففعل. فأشار عليه الإمام بقوله: "تدعو في هذه الساعة بصناع، فيضربون بين يديك سككاً للدراهم والدنانير، وتجعل النقش صورة التوحيد وذكر رسول الله(ص)؛ أحدهما في وجه الدرهم، والآخر في الوجه الثاني، وتجعل في صدر الدرهم والدينار ذكر البلد الذي يضرب فيه، والسنة التي يضرب فيها". وطلب إليه أن يلزم المسلمين آنذاك باستخدام هذه العملة.


الإعلام في مواجهة الظالمين:

بمواجهة الإعلام القويّ، كان الإمام يحثُّ على نظم الشعر بحق أهل البيت(ع)، وكان يشجع الكميت بن زيد المعروف بحبه لأهل البيت(ع) وولائه لهم، والذي "دفع ثمن هذا الحب سجناً وتشريداً وشهادة". فقد حرص هذا الشاعر، وبإيحاء من الإمام الباقر(ع)، على أن يدعو في شعره إلى إسقاط الحكم الأموي. "وكان نظم عدداً من القصائد في هذه المواضيع".

موعظة الإمام لعمر بن عبد العزيز

زار عمر بن عبد العزيز المدينة، وطلب المناداة على أهل المظالم لينصفهم، ودخل عليه الإمام الباقر(ع)، فرآه يمسح عينيه من الدموع، وسأله الإمام عما يبكيه، فأخبره، فوعظه بقوله:

"إنما الدنيا سوقٌ من الأسواق، منها خرج قوم (بالموت) بما ينفعهم، ومنها خرجوا بما يضرهم (كمن اشترى من سوق إما ما ينفعه وإما ما يضره)، وكم من قوم قد غرتهم حتى أتاهم الموت، فاستوعبوا فخرجوا من الدنيا ملومين، لما لم يأخذوا ما ينفعهم في الآخرة عدة، ولا مما كرهوا جُنة (درعاً يقيهم النار)، فقُسم ما جمعوا لمن لم يحمدهم (للورثة)، فاتق الله، واجعل في نفسك اثنتين: انظر إلى ما تحب أن يكون معك إذا قدمت على ربك، فقدمه بين يديك (فكر مع من تريد أن تحشر)، وانظر الذي تكره أن يكون معك فارمه وراءك. ولا ترغبنّ في سلعة قد بارت على من كان قبلك فترجو أن تجوز عنك، واتَّق الله يا عمر، وافتح الأبواب، وسهل الحجاب، وانصر المظلوم، وردّ المظالم، ولا تغلق بابك عنهم، وأن ترد ظلامة كل مظلوم... ثلاث من كن فيه استكمل الإيمان بالله، نعم يا عمر: من إذا رضي لم يدخله رضاه في باطل (فإذا كانت عواطفك مع أقربائك وأصدقائك، فلتقف عند الحق ولا تتجاوزه)، ومن إذا غضب لم يخرجه غضبه من الحق (إذا اختلفت مع إنسان، فلا تنسب إليه من السوء ما ليس فيه)، ومن إذا قدر لم يتناول ما ليس له" (لا يستغل قدرته فيصادر مثلاً ما ليس له).

عند ذلك، أمر عمر بدواة وبياض، وكتب بعد البسملة: "هذا ما ردَّ عمر بن عبد العزيز ظلامة محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب".

ما التشيع؟

يؤكّد الإمام أنَّ الولاء اللّفظيّ لأهل البيت(ع) لا يغني ما لم يقترن بالورع وفعل الخير، فقد أوصى(ع) أحد أصحابه أن يوصي مواليه بعد السلام، "بتقوى الله العظيم، وأن يعود غنيّهم على فقيرهم، وقويّهم على ضعيفهم، وأن يشهد حيُّهم جنازة ميتهم، وأن يتلاقوا في بيوتهم (أي يزور بعضهم بعضاً)، فإنَّ لقيا بعضهم بعضاً حياة لأمرنا، رحم الله عبداً أحيا أمرنا (لأن في الالتقاء تذاكر للقضايا الحيوية التي تجمع المسلمين، وهذا من إحياء أمر أهل البيت(ع). "يا خيثمة، أبلغ موالينا أنا لا نغني عنهم من الله شيئاً إلا بالعمل، وأنهم لن ينالوا ولايتنا إلا بالورع، وأنَّ أشدّ الناس حسرةً يوم القيامة مَن وصف عدلاً ثم خالفه إلى غيره".

ويخاطب الإمام الشيعة بقوله: "يا معشر الشيعة، كونوا الخرقة (الوسادة) الوسطى، يرجع إليكم الغالي (يجد الاعتدال عندكم)، ويلحق بكم التالي"، فسأله رجل عن الغالي فقال(ع): "قوم يقولون فينا ما لا نقوله في أنفسنا (يرفعوننا إلى ما يقرب من الخالق) ونحن المخلوقون، فليس أولئك منا ولسنا منهم"، وسئل عن التالي فقال: "المرتاد يريد الخير، يبلغه الخير يؤجر عليه. والله، ما معنا من الله براءة، ولا بيننا وبين الله قرابة، ولا لنا على الله حجة، ولا نتقرَّب إلى الله إلا بالطاعة، فمن كان منكم مطيعاً لله تنفعه ولايتنا، ومن كان عاصياً لله لم تنفعه ولايتنا. ويحكم لا تغتروا ، ويحكم لا تغتروا".

ويخاطب الإمام جابر بن عبد الله الأنصاري موضحاً معنى التشيع فيقول: "يا جابر، أيكفي من ينتحل التشيع أن يقول بحبنا أهل البيت، والله ما شيعتنا إلا من اتقى الله وأطاعه، وما كانوا يعرفون إلا بالتواضع والتخشع والأمانة وكثرة ذكر الله، والصوم والصلاة وبرّ الوالدين، والتعاهد للجيران من الفقراء وأهل المسكنة والغارمين (المديونين)، والأيتام وصدق الحديث وتلاوة القرآن وكف اللسان عن الناس إلاَّ من خير، وكانوا أمناءَ عشائرهم، (وهذه القضايا هي أسس التشيُّع، لأن التشيع هو في الإسلام كله في خطِّه الأصيل). حَسْبُ الرجل أن يقول أحبُّ علياً وأتولاَّه ثم لا يكون مع ذلك فعالاً، فلو قال إني أحبُّ رسول الله، فرسول الله خيرٌ من عليّ، ثم لا يتَّبع سيرته ولا يعمل بسنَّته، ما نفعه حبّه شيئاً. فاتَّقوا الله واعملوا لما عند الله، ليس بين الله وبين أحد قرابة، أحبُّ العباد إلى الله عزَّ وجلَّ وأكرمهم عليه، أتقاهم وأعلمهم بطاعته. يا جابر: والله ما يُتقرَّب إلى الله تبارك وتعالى إلاَّ بالطاعة... منْ كان لله مطيعاً فهو لنا وليّ، ومَنْ كان لله عاصياً فهو لنا عدوّ، وما تُنال ولايتنا إلا بالعمل والورع عن محارم الله".

ويضيف الإمام(ع): "إنما شيعة علي المتباذلون في ولايتنا (الذين يبذل كل منهم نفسه للآخر) المتحابون في مودتنا، الذين إذا غضبوا لم يظلموا، وإذا رضوا لم يسرفوا (بحيث يعطون من أحبوا أكثر ممّا يستحق)، بركة على من جاوروا (خير على جيرانهم)، سلم لمن خالطوا".


سابعاً: الإمام جعفر بن محمد الصّادق(ع)


عاش الإمام الصادق نهايات العصر الأموي وبداية العصر العباسي، حيث استطاع أن يتحرك بسهولة فيما كان الأمويون مشغولين بصعود العباسيين، وكان العباسيون في البداية مشغولين عنه بترسيخ سلطتهم. فاستطاع، بعد حملات التزييف والتغريب، التي تعرَّض لها الفكر الإسلامي، أن يكون باعث هذا الفكر، أو كما يقول السيد(قده) في مرحلة الإمام الصادق، "نستطيع أن نطلق عليها أنها مرحلة تجديد الفكر الإسلامي وتأصيله"، وهو الجدير بذلك، لأننا "لا نجد هناك مشكلةً أو سؤالاً أو مفهوماً لم يتحدث الإمام الصادق عنه. وحيث يمكننا أن نقدم الإمام الصادق(ع) إلى عصرنا، ونجد في أحاديثه الكثير من الحلول لمشاكل الإنسان المعاصر". وقد وصفه والده الإمام الباقر(ع) بقوله: "هذا من الذين قال الله عزَّ وجلَّ (فيهم) ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوَارِثِينَ﴾(القصص/5).

وقد تحدَّث مالك بن أنس، إمام المذهب المالكي عن عبادته فقال: "جعفر بن محمد اختلفت إليه (ترددت عليه) زماناً، كنت لا أراه إلا على إحدى ثلاث خصال: إمَّا مصلٍّ، وإمَّا صائم وإما يقرأ القرآن. وما رأت عين ولا سمعت أذن ولا خطر على قلب بشر أفضل من جعفر بن محمد الصادق علماً وعبادةً وورعاً".

أما ابن أبي العوجاء، ويتَّهم بالزندقة، فيقول عن الإمام(ع): "ما هذا بشر، وإن كان هناك في الدنيا روحاني تجسّد إذا شاء، وتروَّح (يصبح روحاً) إذا شاء، فهو هذا" (وأشار إلى الإمام الصادق).

ويقول عمرو بن أبي المقدام: "كنت إذا نظرت إلى جعفر بن محمد، علمت أنه من سلالة النبيين".

علمه: كان الإمام الصادق(ع) أعلم أهل زمانه، فقد درس على يديه أبو حنيفة النعمان، إمام المذهب الحنفي، سنتين، وكان يقول: "لولا السنتان لهلك النعمان". وقد قال عنه ابن حجر الهيثمي، وهو من المتعصبين في بعض كلماته، في كتبه "الصواعق المحرقة": جعفر الصادق نقل الناس عنه العلوم ما سارت به الركبان، وانتشر صيته في جميع البلدان، وروى عنه الأئمة الأكابر، كيحيى بن سعيد، وابن جريح، وكذلك روى عنه، حسبما يقول أبو نعيم، أحمد بن عبد الله الأصفهاني: أبان بن تغلب، وأبو عمرو بن العلاء، ويزيد بن عبد الله بن الهاد، ومالك بن أنس، وأبو حنيفة، وشعبة بن الحجاج، وأيوب السخيتاني، وسفيان الثوري، وروح بن القاسم، وسفيان بن عيينه، وسليمان بن بلال، وإسماعيل بن جعفر، وحاتم بن إسماعيل، وعبد العزيز بن المختار، ووهب بن خالد، وإبراهيم بن طحمان، "وأخرج عنه مسلم وابن الحجاج في صحيحه محتجاً بحديثه". وقال الوشا: "أدركت في هذا المسجد (مسجد الكوفة) تسعماية شيخ (أستاذ) كل يقول: حدثني جعفر بن محمد". ولم يكن علمه يقتصر على العلوم الدينية، بل يتجاوز ذلك إلى العلوم الطبيعية، إذ كان أستاذ جابر بن حيان، أشهر الكيميائيين في عصره.

أما حديثه، فهو المرجع الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، لأنه حديث رسول الله(ص) عن الله تعالى. يقول(ع): "حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدي، وحديث جدي حديث الحسين، وحديث الحسين حديث الحسن، وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين، وحديث أمير المؤمنين حديث رسول الله(ص)، وحديث رسول الله قول الله تعالى".

"وفي التواريخ، أن ابن عقدة صنَّف كتاباً في الرجال لأبي عبد الله(ع) عدَّدهم فيه (من رووا عنه). وكان حفص بن غياث، إذا حدَّث عنه، قال: حدثني خير الجعافر، جعفر بن محمد، وكان علي بن غراب يقول: حدثني الصادق جعفر بن محمد". وقد أفرد الحافظ أبو العباس، محمد بن عقدة الكوفي الزيدي، كتاباً في من روى عنه جمع فيه أربعة آلاف رجل.

وسئل القاضي ابن أبي ليلى إذا كان يترك رأياً رآه لقول أحد، فقال: لا، إلا رجلاً واحداً (هو)... جعفر بن محمد.

"هذا، ولا تخلو كتب أحاديث وحكمة، وزهد وموعظة، من كلامه... ذكره النقاش والثعلبي والقشيري والقزويني في تفاسيرهم. وذكر في كتب الحلية والإبانة وأسباب النزول، والترغيب والترهيب، وشرف المصطفى، وفضائل الصحابة، وفي تاريخ الطبري والبلاذري والخطيب ومسند أبي حنيفة واللالكاني، وقوت القلوب ومعرفة علوم الحديث لابن البيع".

ويقول زيد بن علي الذي ينسب إليه المذهب الزيدي: "في كل زمان رجل منا أهل البيت، يحتجُّ الله به على خلقه، وحجة زماننا ابن أخي جعفر بن محمد، لا يضلُّ من تبعه، ولا يهتدي من خالفه".

وسئل أبو حنيفة، عن أفقه الناس في زمانه، فقال: جعفر بن محمد.

هذا وقد حاول الخليفة العباسي المنصور أن يحشر الإمام(ع) في مناظرة يفشل فيها، فأتى بأبي حنيفة وقال له: "يا أبا حنيفة، إن الناس قد فتنوا بجعفر بن محمد، فهيئ لنا من مسائلك الشداد" (لمناظرته). يقول أبو حنيفة: فهيأت له أربعين مسألة... ودخلت عليه وجعفر جالس عن يمينه. فلما بصرت به، دخلني من الهيبة لجعفر ما لم يدخلني لأبي جعفر (المنصور)، فسلَّمت عليه، فأومأ إليّ فجلست، ثم التفت إليه، فقال: يا أبا عبد الله، هذا أبو حنيفة، قال: نعم أعرفه، ثم التفت إلي، فقال: يا أبا حنيفة، ألقِ على أبي عبد الله من مسائلك، فجعلت ألقي عليه فيجيبني، فيقول: أنتم تقولون كذا، وأهل المدينة يقولون كذا، ونحن نقول كذا، فربما تابعنا، وربما تابعهم وربما خالفنا جميعاً، حتى أتيت على الأربعين مسألة، فما أخلَّ منها بشيء".

وكان(ع) يحثُّ على تعليم الناس، كما يحثُّ الناس على التعلم، وقد روى عن علي(ع): "ما أخذ الله على الجهال أن يتعلّموا، حتى أخذ على العلماء أن يعلّموا".

إلا أن التعليم يجب أن ينصبَّ على الحقائق، من هنا، كان تركيز الإمام على المعيار الذي يكشف الحقيقة من الزيف، بعد أن أمعن الوضاع في اختراع الأحاديث خدمةً للحكام، فيقول(ع):

"لا تقبلوا علينا حديثاً إلا ما وافق القرآن والسنَّة، أو تجدون معه شاهداً من أحاديثنا المتقدِّمة، فإنَّ المغيرة بن سعيد ـ لعنه الله ـ دسَّ في كتب أصحاب أبي أحاديث لم يحدِّث بها أبي، فاتقوا الله، ولا تقبلوا علينا ما خالف قول ربِّنا تعالى وسنَّة نبينا".

ويقول(ع) لمحمد بن مسلم: ما جاءك من رواية من برٍّ أو فاجر يوافق القرآن فخذ به، وما جاءك من روايةٍ من برٍّ أو فاجر يخالف القرآن فلا تأخذ به". وفي كثير من الروايات عنه: "وما خالف قول ربِّنا لم نقله".

فالمعيار هو إرجاع كل حديث "إلى كتاب الله وسنة نبيه(ص)، في كل ما ينسب إليهم"، لأنهم حفظة القرآن والسنة والقائمون عليهما. وهذا هو المقياس أيضاً في أحاديث الآخرين: "كلّ شيء مردُّه إلى الكتاب والسنَّة، وكلّ حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف".

ويشدِّد الإمام على ضرورة التعلم، فيما ينقل عنه السيد(قده)، فيقول: "أحسنوا النظر في ما لا يسعكم جهله، وانصحوا لأنفسكم، وجاهدوا في طلب معرفة ما لا عذر لكم في جهله، فإن لدين الله أركاناً، لا ينفع مَنْ جهلها شدة اجتهاد في طلب ظاهر عبادته، ولا يضرُّ من عرفها، فدان بها حسن اقتصاده، ولا سبيل لأحد إلى ذلك إلا بعون من الله عزَّ وجلَّ".

ومن أولى العلوم الّتي على الإنسان أن يأخذ بها، المعرفة المعمَّقة بالدين قدر المستطاع، فقد قيل له: "جعلت فداك، (هناك) رجل عرف هذا الأمر، (أي أصبح موالياً لأهل البيت(ع))، فسأل(ع): "كيف يتفقّه هذا في دينه"؟ ويتابع: "لوددت أن أصحابي ضُربت رؤوسهم بالسياط حتى يتفقهوا"... "تفقهوا في الدين، فإنه من لم يتفقه منكم فهو أعرابي"، كناية عن الإنسان الذي لا يعرف الدين.

وإذا كان كل علم جاوز القرطاس ضاع، فقد كان الإمام الصادق(ع) ينصح بكتابة العلم كي لا يضيع، فكان(ع) يقول: "اكتب وبثَّ علمك في إخوتك، فإنْ متَّ، فأورث كتبك بنيك، فإنه يأتي على الناس زمان هرج لا يأنسون فيه إلا بكتبهم"، لأنهم قد لا يجدون من يعلّمهم. ويقول(ع): "احتفظوا بكتبكم، فإنكم سوف تحتاجون إليها"، فهي تنقل الثقافة من جيل إلى جيل.

القرآن: يولي الإمام(ع) القرآن اهتماماً كبيراً، بعد أن يلفت النظر إلى كونه المقياس الذي يجب أن تقاس عليه الأحاديث. فيؤكد الإمام(ع) ضرورة العودة الدائمة إليه، لأنه الكتاب الإلهي الجامع الذي يجيب عن كل سؤال: "إن الله تبارك وتعالى أنزل في القرآن تبيان كل شيء، حتى والله ما ترك ما يُحتاج إليه إلا بيَّنه للناس، حتى لا يستطيع عبد أن يقول: لو كان هذا أنزل في القرآن، إلا وقد أنزله الله فيه" و"ما من أمر يختلف فيه اثنان إلا وله أصل في القرآن، ولكن لا تبلغه عقول الرجال". والقرآن يدفع الإنسان المسلم إلى الأخلاق الحميدة: "من جمع القرآن (في عقله)، لا يجهل مع من يجهل عليه، ولا يغضب فيمن يغضب عليه، ولا يحدّ في من يحدّ، ولكنه يعفو ويصفح ويغفر ويحلم لتعظيم القرآن. و"من ختم القرآن، فكأنَّما أدرجت النبوّة بين جنبيه"، لأن النبوة تحمل القرآن في عقلها، والإيمان متعلق بالقرآن، فـ"من خالف القرآن وسنة نبيه فقد كفر".

إلاَّ أنَّ حامل القرآن يجب أن يكون واعياً له، عاملاً بأحكامه، لا مجرَّد حامل سطحي يردد آياته ببغاوياً. يقول(ع): "الحافظ للقرآن العامل به، مع السفرة الكرام البررة"، أي مع الملائكة، ذلك أنَّ "أحق الناس بالتخشع في السر والعلانية لحاملُ القرآن، وإنَّ أحق الناس في السر والعلانية بالصلاة والصوم لحاملُ القرآن. يا حامل القرآن، تواضع به يرفعك الله، ولا تعزز به فيذلك الله (إذا تكبرت لأنك تحفظه). يا حامل القرآن، تزين به لله يزينك الله به (فيشرق به وجهك)، ولا تزين به للناس فيشينك الله به (لا تتظاهر به أمام الناس)، ومن أوتي القرآن فظنَّ أن أحداً من الناس أوتي أفضل مما أوتي، فقد عظَّم ما حقَّر الله (لأنه متاع الحياة الدنيا)، وحقّر ما عظَّم الله (وهو القرآن). فالناس أربعة: "رجل أوتي الإيمان ولم يؤت القرآن، فمثله كمثل الثمرة طعمها حلو ولا ريح لها، ورجل أوتي القرآن ولم يؤت الإيمان، فمثله كمثل الآس ريحها طيب وطعمها مر، ورجل أوتي القرآن والإيمان، فمثله كمثل الأترجة (وهي ثمرة من نوع الليمون)، ريحها طيب وطعمها طيب، ورجل لم يؤتِ القرآن ولا الإيمان، فمثله كمثل الحنظلة طعمها مر ولا ريحة لها"، وكأنه يقول اختاروا لأنفسكم.

غير أن القرآن حمال وجوه، فأي وجه يختار من يريد العمل بالقرآن؟ هذا ما يطرح ضرورة وجود قيِّم على القرآن، وهو الإمام المعصوم الذي سنرى تفصيلياً ضرورته ودوره.

الحوار: كان الإمام مؤمناً بالحوار، حتى مع الذين لا يؤمنون بالإمامة، أو حتى مع من يدَّعون إنكار وجود الله أو لا يدركون صفاته.

والإمام لا يكفِّر حتى الزنادقة، لأنه يرى أن هؤلاء ليسوا متيقنين من عدم وجود الله، كما هم غير متيقنين من وجوده، فكان يقول: "لو أنَّ الناس إذا جهلوا (وجود الله أو النبي) وقفوا ولم يجحدوا، لم يكفروا" وجاءه شخص فقال له: رجل شكَّ في وجود الله، قال: "كافر؟"، قال: شك في رسول الله. قال: "كافر؟"، ثم قال: "إنما يكفر إذا جحد"، فالكفر جحود، والشك عندما لا يتحول إلى جحود يبقى جائزاً، والحوار إنما هو لتبديد حالة الشك.

ولهذا كان يعلّم أصحابه مضامين الحوار إلى جانب آدابه، "فقد علَّم هشام بن الحكم، وهو من تلاميذه"، كيف يناقش في بعض الأحكام. فقد سأل ابن أبي العوجاء هشام بن الحكم، فقال: "أليس الله حكيماً؟ قال: بلى، وهو أحكم الحاكمين. قال: فأخبرني عن قول الله عزَّ وجلَّ: ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا﴾ (النساء/3)، أليس هذا بفرض؟ قال: بلى. قال: فأخبرني عن قوله عزَّ وجلَّ: ﴿وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ المَيْلِ﴾ (النساء/29) أي حكيم يتكلم بهذا؟ فلم يكن عنده جواب، فقصد أبا عبد الله(ع) في المدينة، فسأله فقال(ع): أما قوله عزَّ وجلَّ: ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً﴾ فيعني في النفقة، وأما قوله: ﴿وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ المَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالمُعَلَّقَةِ﴾(النساء:129) يعني في المودة".

فلما عاد، زاره ابن أبي العوجاء، فأخبره هشام، فعرف أن هذا ليس من عنده.

وكان(ع) يصوِّب أجوبة أصحابه ويقوّمها، فيأمرهم بتحري الحقيقة دائماً، وعدم اللواذ بالباطل ولو علي سبيل الجدل: فقد قال(ع) لبعض أصحابه:

"تمزج الحق مع الباطل، وقليل الحق يكفي عن كثير الباطل". وقال(ع) في حديث آخر يتناول فيه الفرق بين الجدال بالتي هي أحسن والجدال بغير التي هي أحسن: "أما الجدال بغير التي هي أحسن، أن تجادل مبطلاً فيورد عليك باطلاً، فلا تردّه بحجة قد نصبها الله، ولكن تجحد قوله، أو تجحد حقاً يريد ذلك المبطل أن يعين باطله، فتجحد ذلك الحق مخافة أن يكون له عليك فيه حجة، لأنك لا تدري كيف المخلص منه، فذاك حرام على شيعتنا أن يصيروا فتنة على ضعفاء إخوانهم وعلى المبطلين. أما المبطلون، فيجعلون ضعف الضعيف منكم إذا تعاطى مجادلته، وضعف ما في يده حجة له على باطله. وأما الضعفاء منكم، فتغم قلوبهم لما يرون من ضعف الحق في يد المبطل".

هذا وكان(ع) يجلس إلى بعض أصحابه، فيقوِّم جدالهم واحداً واحداً، وفي إحدى المرات، راح يخاطبهم، فقال لحمران: "تجري الكلام على الأثر فتصيب"، أي عما أثر عن رسول الله(ص). وقال للأحول: "قيّاس رواغ (أي تأخذ بالقياس المنطقي وتراوغ، كما يفعل الخصم)، تكسر باطلاً بباطل (أي لا تلجأ إلى الحق دائماً) إلا أن باطلك أظهر" (تسقط بباطلك باطل الخصم). وقال لقيس الماصر: "تتكلم، وأقرب ما تكون من الخبر عن رسول الله(ص)، أبعد ما تكون منه (أي تقترب بالجدل من حديث رسول الله(ص) ثم تنحرف عنه)، لا تمزج الحق مع الباطل، وقليل الحق يكفي عن كثير الباطل. أنت والأحول قفازان حاذقان" (أي تثبان على الخصم). ثم قال: "يا هشام، لا تكاد تقع، تلوي رجليك (كمن يريد أن يهجم) إذا هممت بالأرض طرت (أي أنك توحي إلى الخصم أنك ستقع، وإذ بك تطير)، مثلك فليكلّم الناس (بأسلوبك الناجح) فاتّقِ الزلة (أي انتبه جيداً حتى لا تزلّ)، والشفاعة من ورائها إن شاء الله".

وإلى هذا، كان يوصي بعدم تعالي الأكثر إيماناً على من دونه إيماناً. فقد خاطب أحدهم بقوله: "يا عبد العزيز، إن الإيمان عشر درجات بمنزلة السلَّم يصعد منه مرقاةً بعد مرقاة، فلا يقولن صاحب الاثنين لصاحب الثلاثة لست على شيء (والتعداد هنا تنازلي يبدأ من الأول، أي من الأعلى إلى الثانية فالثالثة وهكذا)، فلا تسقط من هو دونك فيسقطك من هو فوقك، وإذ ا رأيت من هو أسفل منك، فارفعه إليك برفق (كلمه على مستوى عقله)، ولا تحملنَّ عليه ما لا يطيق فيكسره (كمن يكسر ظهره من ثقل الحمل)، فإن من كسر مؤمناً عليه جبره"، أي رمِّم بالتؤدة ما آذيته به.

العقل، المعرفة، العمل: إن قيمة الإنسان، بل وإنسانيته، بعقله، وهذا ما يعلّمنا إياه أبو جعفر وأبو عبد الله(ع)، إذ يقولان: "لما خلق الله تعالى العقل قال له: أدبر فأدبر. ثم قال له: أقبل فأقبل . فقال: وعزتي وجلالي، ما خلقت خلقاً أحسن منك، إياك آمر وإياك أنهى، وإياك أثيب وإياك أعاقب"، لأننا بالعقل نعرف الله ورسوله، وهو يدلنا على الصدق فنتبعه.

وكان(ع) يأمر بمصاحبة العقل وباستشارته الدائمة،" ورافقه في عملك، فالعمل يحتاج المعرفة، والمعرفة من نتاج العقل. يقول(ع): "اجعل قلبك قريناً براً (صاحباً يسير معك ويحسن إليك)، واجعل عملك والداً تتبعه (أي يمشي أمامك إما إلى الجنة وإما إلى النار)، واجعل نفسك عدواً تجاهدها (لأنها أمَّارة بالسوء)، واجعل مالك عاريةً تردُّها (شيء مستعار ترده إلى أصحابه). أقصر نفسك عما يضرها من قبل أن تفارقك (تجنب ما يضرها في الدنيا قبل أن تذهب إلى الآخرة)، واسع في فكاكها كما تسعى في طلب معيشتك، فإن نفسك رهينة بعملك" (عليك أن تفك نفسك من الرهن فتحررها)، ويقول في حديث آخر: "خذ لنفسك من نفسك، خذ منها في الصحة قبل السقم، وفي القوة قبل الضعف، وفي الحياة قبل الممات".

والعمل لا يستقيم إلا بمعرفة، والمعرفة لا تثمر إلا بعمل: "لا يقبل الله عزَّ وجلَّ عملاً إلا بمعرفة، ولا معرفة إلاّ بعمل (لأن العبادة ليست حركات رياضية أو غير ذلك، بل تدبُّر)، فمن عرف، دلّته المعرفة على العمل، ومن لم يعمل فلا معرفة له، إن الإيمان بعضه من بعض" (فلا يقوى فيه جانب الفكر على جانب العمل أو العكس)، والمعرفة تكتسب كما مرَّ معنا بالسؤال.

المذهب الجعفري: عرف المذهب الشيعي الإثني عشري بالمذهب الجعفري، لأن الإمام جعفر الصادق(ع)، هو الذي استطاع نشره. ولا يعني أن سائر الأئمة لا علاقة لهم بالمذهب، بل هو تعاليمهم جميعاً، على أننا نستعمل لفظة مذهب هنا مع شيء من التساهل، لأن التشيع هو الإسلام، فهو يوصي أصحابه، كي يكونوا شيعة أهل البيت الحقيقيين، بقوله(ع): "أوصيكم بتقوى الله، والورع في دينكم والاجتهاد لله (العمل بكل الطاقة)، وصدق الحديث (بعد انتشار الكذب على الله ورسوله)، وأداء الأمانة (حتى للأعداء)، وطول السجود (ليكون الإنسان منسحقاً أمام عظمة الله) وحسن الجوار به".

وفي حديث آخر يقول(ع): "أدوا الأمانة إلى من ائتمنكم عليها براً كان أو فاجراً، فإن رسول الله(ص) كان يأمر بأداء الخيط والمخيط (الإبرة والخيط) وصلوا عشائركم (حتى ولو اختلفتم معهم في المذهب)، واشهدوا جنائزهم، وعودوا مرضاهم، وأدوا حقوقهم، فإن الرجل منكم إذا ورع في دينه، وصدق الحديث، وأدَّى الأمانة، وحسن خلقه مع الناس، قيل: هذا جعفري، ويسرني ذلك. وقيل هذا أدب جعفر، وإذا كان غير ذلك، دخل علي بلاؤه وعاره".

وكان قوم يقولون في أهل البيت مقالات ترفعهم إلى ما يقارب الألوهية، وهم الغلاة، وكان الأئمة يحذّرون منهم، ويقول الإمام جعفر(ع) لأحد الغلاة، وهو صالح بن سهل: "يا صالح، إنا والله عبيد مخلوقون، لنا ربّ نعبده، وإن لم نعبده عذَّبنا".

وكان هناك، وما زال، من يزعم أن موالاة أهل البيت(ع) تعتق من النار دون أي عمل، ويردُّ الإمام أن موالاة آل محمد أساسية، ولكن مع الفعل. ويتابع(ع): "إنا كلّفنا بالعمل... فإذا عرفت آل محمد (واليتهم)، فافعل من قليل الخير أو كثيره فإنه ينفعك".

العصبية، كما عرفها الإمام زين العابدين، "أن ترى شرار قومك خيراً من خيار قوم آخرين"، فهي تبعد الإنسان عن أن يكون منصفاً وعقلانياً في تعامله مع الغير، فهو ينصر عشيرته أو جماعته أو حزبه أو مذهبه على الحق وعلى الباطل، لذلك يقول الإمام الصادق(ع) نقلاً عن رسول الله(ص): "من تعصَّب أو تُعصِّب له (أي شجع الآخرين على التعصب له)، خلع ربقة الإيمان من عنقه" (أي خلع قيد الإيمان). ويقول(ع) نقلاً عن رسول الله(ص) أيضاً: "من تعصَّب، عصبه الله بعصابة من نار".

الإمام الصادق والعمل السياسي: لم يكن الإمام الصادق(ع) يتعاطى السياسة مباشرةً، ولكنه لم يكن بعيداً عنها، فقد "تحدث في السياسة كما لم يتحدث أحد في ذلك العصر، ولكنه(ع)، بسبب الظروف الخانقة يومذاك، لم يعط الفرصة المناسبة، "فلم يجد القاعدة الواسعة" التي توفر له النصرة الكافية، ومع ذلك، فقد عانى الأمرين مع المنصور العباسي، "حتى إنه(ع) حوصر في بعض الأحيان. وقد نقل المؤرخون ذلك، فقد كان المنصور قد "همَّ بقتل أبي عبد الله(ع) غير مرة، ومنع الناس عنه، ومنعه من القعود للناس، واستقصى عليه أشد الاستقصاء"، ولكن الصادق(ع) كان يخترق هذا الحصار بتسديد من الله وبحكمته". وكتب إليه المنصور: "لِمَ لا تغشانا كما يغشانا سائر الناس؟"، فأجابه: "ليس لنا ما نخافك من أجله، ولا عندك من أمر الآخرة ما نرجوك له، ولا أنت في نعمة فنهنئك، ولا نراها نقمةً فنعزّيك بها، فما نصنع عندك؟" فكتب إليه: "تصحبنا لتنصحنا". فأجابه(ع): "من أراد الدنيا لا ينصحك، ومن أراد الآخرة لا يصحبك".

أما لِمَ لم يتصرف كما تصرف الإمام الحسين(ع) في ثورته، فيجيب السيد(قده) أن مسألة حركة الثورة ليست عنفاً كلها، فقد تكون الثورة في التغيير على مستوى حركة العنف عندما تفرض الظروف العنف كحلّ وحيد لحركة التغيير، وربما تكون الثورة بالمعنى التغييري، وذلك بتغيير المفاهيم، وتغيير العادات والتقاليد والخطوط العملية، لأننا عندما نغير فكر الناس، نغير واقعهم".

الظلم: ويتحدث أبو جعفر(ع) عن الظلم وما يجره على الظالم، فيقول: "من أصبح لا ينوي ظلم أحد، غفر الله له ما أذنب ذلك اليوم، ما لم يسفك دماً أو يأكل مال يتيم حراماً". ويضيف(ع): "من ظلم مظلمةً، أُخذ بها في نفسه أو في ماله أو في ولده"، عقاباً له في الدنيا إضافةً إلى عقاب الآخرة. ويقول الإمام(ع): "ما من مظلمة أشد من مظلمة لا يجد صاحبها عليها عوناً إلا الله"، وهي ظلم من لا يجد من يدافع عنه. ويفصِّل الإمام(ع) فيقول: "من أكل مال أخيه ظلماً ولم يردّه إليه، أكل جذوةً من النار يوم القيامة". "والله تعالى لا يرضى بالظلم حتى للكفار، "فقد جاء عن الإمام(ع): "إن الله عزَّ وجلَّ أوصى إلى نبي من أنبيائه في مملكة جبار من الجبارين، أن ائتِ هذا الجبار فقل له: إنني لن استعملك على سفك الدماء واتخاذ الأموال، وإنما استعملتك لتكف عني أصوات المظلومين، فإني لن أدع ظلامتهم وإن كانوا كفاراً. ذلك أن من روع مؤمناً بسلطان (بالسلطة) ليصيبه منه مكروه، فلم يصبه، فهو في النار، ومن روَّع مؤمناً بسلطان ليصيبه منه مكروه فأصابه، فهو مع فرعون وآل فرعون في النار".

عقوبة الظالم ومن يعينه: يقول(ع): "أما إنه ما ظفر بخير من ظفر بالظلم... وأما إن المظلوم يأخذ من دين الظالم أكثر مما يأخذ الظالم من مال المظلوم، ومن يفعل الشر بالناس، فلا ينكر الشر إذا فعل به... أما إنه يحصد ابن آدم ما يزرع، وليس يحصد أحد من المرِّ حلواً ومن الحلو مرَّاً".

والمعين على الظلم يعاقب كما الظالم: "العامل بالظلم والمعين له والراضي به شركاء ثلاثتهم"، و"من عذر ظالماً بظلمه، سلَّط عليه من يظلمه، فإن دعا لم يستجب له، ولم يأجره الله على ظلامته" (التي تعرض لها). وإذا كانت هذه عواقب الظلم، فإن عواقب الإنصاف كلها خير. وهكذا، فإن الإمام(ع) يقول: "سيد الأعمال ثلاثة: إنصاف الناس من نفسك حتى لا ترضى بشيء إلا رضيت لهم مثله (قد تكون أنانياً لا ترضى لنفسك ما ترضاه لغيرك)، ومواساتك الأخ في المال (يمكنك أن تؤثره بفائض مالك)، وذكر الله على كل حال، وهو ليس سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، ولكن إذا ورد عليك شيء أمر الله عزَّ وجلَّ به أخذت به، وإذا ورد عليك شيء نهى الله عزَّ وجلَّ عنه تركته".

التقية: وهي أسلوب يستخدم لتلافي الظلم، على غرار ما تفعل الأحزاب السرية اليوم في مواجهة الاستبداد والقمع، حيث تخفي أفكارها وخططها لئلا يقضي عليها الطاغوت، ما دامت لا تمتلك الوسائل الكافية للمواجهة. وقد التزم الشيعة التقية بسبب ظروف الاضطهاد والظلم والمذابح التي تعرضوا لها في تاريخهم، فذهب بعض المسلمين إلى اتهامهم بالكذب لأنهم يلوذون بالتقية، ويردُّ السيد(قده) على ذلك بالاستناد إلى القرآن الكريم والسنَّة المطهَّرة.

ففي القرآن، هناك قصة عمار بن ياسر الذي درأ الموت عن نفسه بعد أن قُتِل أبواه، فقال كلمة الكفر التي أرادتها منه قريش، وروى القصة للنبي، فنـزل فيها قرآن يقول: ﴿إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ﴾(النحل/106).

وفي حديث رسول الله(ص) قوله: "ما من شيء إلا وأحله الله لمن اضطر إليه".

ويرى الإمام الصادق(ع)، أنَّ القرآن تحدَّث عن التقية في نطاق الرخصة (الترخيص بقول غير الحقيقة)، وقد استوحى(ع) من قصّة عمّار "قاعدةً فقهيةً عامةً في نطاق الأوضاع التي يقف فيها الإنسان بين القتل وبين أن يقول الكلمة التي لا يؤمن بها. فإذا اختار الإنسان أن يقتل دون قول كلمة الكفر (كالبراءة من علي)، فإن الإمام الصادق(ع) يرى أنه ليس ملزماً بذلك. وعن رجلين من أهل الكوفة طلب منهما البراءة من أمير المؤمنين، فبرئ أحدهما ونجا، ورفض الآخر فقتل، يقول الإمام الصادق(ع): "أما الذي برئ فرجل فقيه في دينه، وأما الذي لم يبرأ فرجل تعجَّل إلى الجنة"... واليوم، كما يرى السيّد(قده): فـ: "إذا كانت القضية قضية الخطر على القيادة أو الجماعة المعارضة، فإن التقية تكون هي الخيار الوحيد الذي لا يجوز للمؤمن العدول عنه إلى التضحية" بالقيادة أو الجماعة.

من هنا يقول الإمام الصادق(ع):

"... والله، ما الناصب لنا حرباً بأشدّ علينا مؤونةً من الناطق علينا بما نكره، فإذا عرفتم من عبد إذاعةً، فامشوا إليه وردّوه عنها، فإن قبل منكم، وإلا فتحملوا عليه بمن يثقل عليه ويسمع منه، فإن الرجل منكم يطلب الحاجة فيلطف فيها حتى تقضى له، فالطفوا في حاجتي كما تلطفون في حوائجكم، فإن هو قبل منكم وإلا فادفنوا كلامه تحت أقدامكم، ولا تقولوا: إنه يقول ويقول، فإن ذلك يحمل علي وعليكم، أما والله لو كنتم تقولون ما أقول، لأقررت أنكم أصحابي.

ويخاطب(ع) أحد أصحابه فيقول:

"يا معلَّى، اكتم أمرنا ولا تذعه، فإنه من كتم أمرنا ولم يذعه أعزه الله به في الدنيا، وجعله نوراً بين عينيه في الآخرة يقوده إلى الجنة. يا معلى، من أذاع أمرنا ولم يكتمه، أذلّه الله به في الدنيا، ونزع النور من بين عينيه في الآخرة، وجعله ظلمةً تقوده إلى النار. يا معلَّى، إن التقية ديني ودين آبائي، ولا دين لمن لا تقية له. يا معلَّى، إن الله يحب أن يعبد في السر كما يحب أن يعبد في العلانية. يا معلَّى، إن المذيع بأمرنا كالجاحد له".

ويأخذ الإمام على بعض الشيعة عدم التزام التقية، فيقول: "أُمر الناس بخصلتين فضيعوهما، فصاروا منهما على غير شيء: الصبر والكتمان". ويقول في مكان آخر: "وددت والله، أني افتديت خصلتين في الشيعة ببعض لحم ساعديّ: النـزق، وقلة الكتمان". فربَّ كلمة أسقطت دعوة، وربَّ اندفاع أدى إلى ذهاب الحق.

"فحتى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لم يوجبهما الفقهاء المسلمون في حالة الحرج، وهو المشقة الشديدة، أو في حالة الضرر، وقد استندوا إلى الآيات والأحاديث في تأصيل قاعدة نفي الحرج وقاعدة نفي الضرر، كقاعدتين فقهيتين في تفريع موارد الرخصة في أجواء أحكام الإلزام والحرجية الضرورية.

على أن التقية لم تكن محصورةً بالشيعة، بل هي كما يؤكد السيد: "عاشها بعض العلماء من المذاهب الإسلامية الأخرى. منهم من كانوا يمارسون التقية أمام الحاكم، ولا سيما عندما طرحت قضية خلق القرآن أيام المأمون، حيث أجاب جميع الفقهاء لذلك ولم يمتنع إلا نفر قليل".

إلا أن التقية بصفتها رخصةً، لا تجوز في جميع الأحوال، فقد تصل المسألة في القضايا المصيرية التي تسيء التقية إلى مواقعها وعناصرها الحية، إلى الضياع وابتعاد الناس المسلمين عن وعي الحقيقة الشرعية، وتتحول إلى نوع من الحذر والاسترخاء في الواقع السياسي، الأمر الذي يجعل الحركة السياسية والجهادية خاضعةً للخائفين، فيتحول الموقف الإسلامي إلى موقف استسلامي خاضع للظلم والجور. وأكثر من ذلك، قد تدفع التقية الكثيرين من الناس إلى أن يكونوا أداةً قمعيةً في يد الظالمين.

إن المسألة ليست بهذا الحجم في حديث الإمام الصادق(ع)، وفي توجيهاته الحركية للسائرين في خطه الحركي الإسلامي، فإن التقية تقتصر على الجزئيات الصغيرة التي لا تقترب من القضايا الكلية الكبيرة، وتتحرك في نطاق الخط الذي يصلح أمور الأفراد والجماعات، ويحمي للدين قوته وسلامته، وللخط استقامته، ولا يؤدي إلى فسادٍ في الدين أو اهتزاز في الخط، وهذا هو الذي تحدَّث به الإمام جعفر الصادق(ع): "وتفسير ما يتقى، مثل أن يكون قوم سوء ظاهر حكمهم وفعلهم على غير حكم الحق وفعله، فكل شيء يعمل المؤمن بينهم لمكان التقية مما لا يؤدي إلى الفساد في الدين فإنه جائز".

ولعلَّ هذه الفقرة "مما لا يؤدي إلى فساد في الدين"، تمثل الحد الشرعي الذي لا بدَّ للتقية من أن تقف عنده، بحيث لا تترك تأثيرها على الخط الفكري العام أو النهج السياسي، أو الروحية الشعبية العامة في خط الدعوة والحركة والجهاد. "فتقديم التنازلات في حالة أو وضع معين، لا بدّ من أن تقابله نتائج إيجابية لمصلحة الإسلام والمسلمين، من خلال حالة أخرى أو وضع آخر، فإن ما يدَّعى أنه تقية، يرى الإمام أنه "ينظر فيه، فإن كان ليس مما يمكن أن تكون التقية في مثله، لم يقبل منه ذلك، لأن للتقية مواضع، من أزالها عن مواضعها لم تستقم له"، ويوضح الإمام الأمر بقوله: "إنما جعلت التقية ليحقن بها الدم، فإذا بلغت الدم (أي تسببت بسفك دم الآخرين) فلا تقية".

"إن مسألة التقية، كما يرى السيد(قده) ليست ذهنيةً تستغرق الذات في امتداداتها الواسعة، بل هي حالة طارئة في حدودها المرسومة التي تتهاوى أمام القضايا الكبرى".

وقد يطرح بعضهم مسألة ضرورة التقية اليوم، بعد أن زال اضطهاد الشيعة، ويوضح السيد(قده): أنّ "التقية تمثل الأسلوب العملي للتحرك لحماية الخط وسلامة الهدف، باعتبارها التجسيد الواقعي للمرونة السياسية والجهادية التي تراقب الظروف والأوضاع بدقة وحذر، لتخفّف من كثير من وسائل الضغط الجديدة في حركة المخابرات الإقليمية والدولية التي تنفذ إلى الساحة لتحتويها أو تدمرها أو تعبث فيها بأساليبها الخاصة. فإننا نرى التقية السياسية والأمنية تحكم كل مكان في العالم".

التقية والباطنية: يقول السيد(قده): أما الباطنية، فهي منهج عقائدي لا يسمح لأتباعه بنشره بين الناس مطلقاً، كما يختزن أفكاراً تختلف عن الخط العام الظاهر للتفكير الإسلامي في المفاهيم والشريعة والمنهج.

بينما يؤمن الذين يمارسون التقية بالإسلام من خلال الخطوط العامة التي يؤمن بها المسلمون، مع اختلاف مذهبي في بعض المفردات الكلامية والفقهية، فتتحدد التقية في ظرف خاص، فإذا تجاوز الواقع إلى الساحة الطبيعية المفتوحة، حرمت التقية من خلال العناوين الإسلامية العامة التي لا يجوز تجاوزها إلا في حالات الاضطرار أو ما يشبهها".

عزَّة المؤمن: يرى الإمام أن المؤمن غير مخول أن يتخلى عن عزته لأي سبب، وعليه أن يتحمل في سبيلها، فهو يقول: "إن الله فوَّض إلى المؤمن أموره كلها، ولم يفوِّض إليه أن يكون ذليلاً، إن الله يقول: ﴿وَللهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾(المنافقون:8)، فكما أنك جزء من مجتمع المؤمنين، فعندما تذلُّ نفسك، تكون قد أذللت مجتمعك المؤمن.

فالمؤمن يكون عزيزاً ولا يكون ذليلاً، "إن المؤمن أعزّ (أصلب) من الجبل. إن الجبل يستقلُّ منه (ينقص منه)، والمؤمن لا يستقل من دينه شيء". ولا يجوز التذرع بالضعف في البدن ليذل الإنسان، لأنه "ما ضعف بدن عما قويت عليه النية". وعلى المسلم ألا يضع نفسه في موضع الخطأ ليستغفر الناس فيما بعد: "لا ينبغي للمسلم أن يذل نفسه بأن يدخل في شيء يعتذر منه".

والعزة تتم بالحرية، من هنا يقول الإمام: "إن الحر حرٌ في جميع أحواله، إن نابته نائبة صبر لها، وإن تداكَّت عليه المصائب لم تكسره، وإن أسر وقهر واستبدل باليسر عسراً، كما كان يوسف الصدّيق الأمين، لم يضرر حريته أن استعبد وقهر وأسر، ولم تضرره ظلمة الجب ووحشته، وما ناله أن منَّ الله عليه، فجعل الجبار العاتي عبداً له بعد أن كان مالكاً، فأرسله ورحم به أمَّة، وكذلك الصّبر يعقب خيراً. فاصبروا ووطنوا أنفسكم على الصبر تؤجروا". هذا النوع من المزاوجة بين الصبر والحرية مطلوب، لأن الذين يسقطون أمام استعباد الآخرين لهم، هم الذين لا يصبرون على الحرمان الذي يفرضه الآخرون عليهم، وهم الذين لا يصبرون على الآلام التي يسلطها المستكبرون عليهم، وهم الذين لا يصبرون على مواقف التحدي التي تفرضها الحرية عليهم.

"إنك قد تكون عبداً، كما يقول السيد(قده)، حتى ولو كنت تملك حرية الحركة في الساحات كلها، وذلك عندما لا تملك إرادتك، وقد تكون حراً وأنت لا تستطيع أن تحرك رجليك في الزنزانة، لأنك تملك إرادتك".

الأخلاق عند الإمام الصادق(ع): يأمر الإمام(ع) بالأخلاق الحميدة، ويرسم صورة المؤمن الرسالي لنتأسَّى به، فيقول: "المؤمن حسن المعونة (يعيش مع الناس ويتعاون معهم)، خفيف المؤونة (لا يثقل على الناس)، جيد التدبير لمعيشته (في الحلال ودون إسراف أو انكماش)، لا يلسع من جحر مرتين (يستفيد من تجاربه). المؤمن له قوة في دين، وحزم في لين (لا يخرج عن الدين مهما قوي وهو حازم لا يقسو) وإيمان في يقين، وحرص في فقه (يعرف تكليفه ويحرص عليه) ونشاط في هدى (لا في الضّلال)، وبرّ في استقامة، وعلم في حلم (واسع الصدر عندما يواجه التحديات)، وكيس في رفق (متعقل في غير شدة)، وسخاء في قصر، وقصر في غنى (لا يبذر ولا يسرف)، وتحمل في فاقة (إذا افتقر لا يظهر فقره ولا يتذلل)، وعفو في قدرة، وطاعة في نصيحة، وانتهاء في شهوة، وورع في رغبة (لا يندفع مع شهواته ورغباته)، وحرص في جهاد، وصلاة في شغل، وصبر في شدة. في الهزاهز وقور، وفي المكاره صبور، وفي الرخاء شكور، لا يغتاب ولا يقطع الرحم. ليس بواهن ولا فظّ غليظ، ولا يسبقه بصره، ولا يفضحه بطنه، ولا يغلبه فرجه (شهوته)، ولا يحسد الناس".

"والمؤمن من طاب مكسبه، وحسنت خليقته، وصحت سريرته، وأنفق الفضل من ماله، وأمسك الفضل من كلامه، وكفى الناس شرَّه، وأنصف الناس من نفسه".

ويحضُّ الإمام أصحابه على أن يكونوا القدوة في سلوكهم لا بكلامهم فقط، فيقول: "كونوا دعاةً للناس بغير ألسنتكم، ليروا منكم الصدق والخير والورع، فإن ذلك داعية" ويقول: "كونوا زيناً لنا ولا تكونوا شيناً علينا، حتى يقول الناس: رحم الله جعفر بن محمد فلقد أدَّب أصحابه".

ويدعو الإمام إلى المبادرة إلى فعل الخير دون تردد: "إذا همَّ أحدكم بخير فلا يؤخره، فإن العبد ربما صلى الصلاة أو صام اليوم، فيقال له: اعمل ما شئت بعدها فقد غفر الله لك" (إذ ربما تكون هذه الساعة من الساعات التي يجري الله فيها نفحاته على عباده)، ومن همَّ بسيّئة فلا يعملها، فإنه ربما عمل العبد السيئة، فيراه الربُّ تبارك وتعالى فيقول: وعزتي وجلالي، لا أغفر لك بعد أبداً". وهناك حديث يقول: "لا تستصغرنَّ حسنةً فربما أدخلتك الجنة، ولا تستصغرنَّ سيئة فربما أدخلتك النار". وفي مكان آخر يقول(ع): "افتتحوا نهاركم بخير (قولاً وعملاً)، وأملوا على حفظتكم في أوله خيراً (أي أبلغوا الكرام الكاتبين على أنفسكم خيراً)، وفي آخره خيراً، يغفر لكم ما بين ذلك إن شاء الله".

ويقول في توجيه آخر: "ولا تستقلّ ما يتقرب به إلى الله عزَّ وجل ولو بشق تمرة" (لأن الحرمان أقل منه). وفي المبادرة إلى التقرب من المخالفين لنا، يأمر الإمام الصادق(ع) أن "عودوا مرضاهم، وشيِّعوا جنائزهم، وصلُّوا جماعتهم"، ترسيخاً للوحدة بين المسلمين.

ولا يجوز في نظر الإمام أن يسيء أي إنسان إلى المؤمن أو ينال منه، فـ"من روى على مؤمن رواية يريد بها شينه وهدم مروءته، أخرجه الله من ولايته إلى ولاية الشيطان". فلا يلتقطنَّ أحد عيوب المؤمنين، وكذلك لا يجوز إذاعة أسرار المؤمنين. وللتّدليل على كرامة المؤمن على الله، فقد قال عزَّ وجل، كما يروي الإمام الصادق(ع): "ليأذن بحربٍ مني من آذى عبدي المؤمن، ولو لم يكن من خلقي في الأرض ما بين المشرق والمغرب إلا مؤمن واحد مع إمام عادل، لاستغنيت بعبادتهما عن جميع ما خلقت في أرضي، ولقامت سبع سماوات وأرضين بهما، ولجعلت لهما من إيمانهما أنساً لا يحتاجان معه إلى أنس سواه".

وفي الحثِّ على التعاون بين المؤمنين، يقول الإمام(ع): "إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ: أين الصَّدود لأوليائي؟ ـ الذي لا يقضي حاجة المؤمنين ويحتقرهم ولا يحترمهم ـ فيقوم قوم ليس على وجوههم لحم. فيقال: هؤلاء الذين آذوا المؤمنين، ونصبوا لهم (العداوة)، وعاندوهم وعنفوهم في دينهم، ثم يؤمر بهم إلى جهنم". كما يقول الإمام(ع): "من حقَّر مؤمناً مسكيناً أو غير مسكين، لم يزل الله عزَّ وجلَّ حاقراً له ماقتاً، حتى يرفع عن محقرته إياه". وعن الله تعالى يقول الإمام(ع): "من أهان لي ولياً، فقد أرصد لمحاربتي، وأنا أسرع شيء إلى نصرة أوليائي". ويعود الإمام إلى تأكيد حرمة التجسس، فيقول: "أقرب ما يكون العبد إلى الكفر أن يؤاخي الرجل على الدين، فيحصي عليه زلاته ليعنفه بها يوماً". ويروي(ع) عن لسان رسول الله(ص) قوله: "يا معشر من أسلم بلسانه ولم يخلص الإيمان إلى قلبه، لا تذموا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عوراتهم، تتبع الله عوراته، ومن تتبع الله تعالى عوراته، يفضحه ولو في بيته".

وعن اتهام المؤمنين يقول الإمام(ع): "إذا اتهم المؤمن أخاه انماث (مات) الإيمان في قلبه كما ينماث الملح في الماء" (يذوب)، و"من اتهم أخاه في دينه فلا حرمة بينهما" و"من عامل أخاه بمثل ما عامل به الناس (لم يعامله بشكل مميز) فهو بريء مما ينتحل" (أي بريء من الإيمان).

أما سباب المؤمن، فقد يؤدي إلى الهلاك، إذ يقول الصادق(ع) نقلاً عن رسول الله(ص): "سباب المؤمن كالمشرف على الهلكة" و"سباب المؤمن فسوق، وقتاله (بغير حق) كفر، وأكل لحمه (بالغيبة) معصية، وحرمة ماله كحرمة دمه"، بل "إذا قال الرجل لأخيه المؤمن أف، خرج من ولايته (أي إذا تذمر منه)، وإذا قال: أنت عدوي كفر أحدهما (لأن الله جعل المؤمنين أخوة)، ولا يقبل الله من مؤمن عملاً وهو مضمر على أخيه المؤمن سوءاً".

وعلى المؤمن أن يواسي أخاه المؤمن في مصائبه، فـ"من شمت بمصيبة نزلت بأخيه، لم يخرج من الدنيا حتى يفتتن" (وذلك قبل عقاب الآخرة) فـ"لا تبدِ الشماتة لأخيك، فيرحمه الله ويصيرها بك". وأخيراً، يحثُّ الإمام على بر الوالدين، سواء كانوا مؤمنين أو كافرين، فقد أمر مسيحياً أسلم وبقيت أمه على دينها فقال له: "فانظر أمك فبرها، فإذا ماتت فلا تكلها إلى غيرك"، وأمره أن يوافيه في موسم الحج. فلما عامل أمه المعاملة التي أمره بها الإمام، أسلمت ثمَّ توفيت.

اجعلوا أموركم إلى الله

وفي نهاية ما يعالجه السيد(رض) عن الإمام الصادق(ع)، أنه ينصح المؤمنين بإيكال الأمور إلى الله: "اجعلوا أمركم لله (فكل ما تقومون به من فعل الخير اجعلوه لله) ولا تجعلوه للناس، فإنه ما كان لله فهو لله، وما كان للناس فلا يصعد إلى الله". ويأمر(ع) بالتصرّف كما لو كان المتصرف يرى الله عزَّ وجلّ: "يا شيعة آل محمد، ليس منا من لم يملك نفسه عند غضبه، ومن لم يحسن صحبة من صحبه، ومخالفة من خالفه، ومرافقة من رافقه. يا شيعة آل محمد، اتقوا الله ما استطعتم، ولا حول ولا قوة إلا بالله". ويقول(ع): خف الله كأنك تراه، وإن كنت لا تراه فإنه يراك، وإن كنت تعلم أنه يراك، ثم برزت له بالمعصية، فقد جعلته من أهون الناظرين إليك" (لأن الإنسان يستحيي من الإنسان الذي يقيم له أي وزن إذا ما قارف الشر، فمن لم يستحِ من الله يكن مستهيناً به).

حوارات الإمام الصادق(ع)

هذه الحوارات كانت تجري مع منكري الألوهية ومنكري الإمامة:

حواره مع مستخف بالحج:

ففي الإرشاد للشيخ المفيد: "أنَّ ابن أبي العوجاء وابن طالوت وابن الأعمى وابن المقفع في نفر من الزنادقة، كانوا مجتمعين في الموسم (موسم الحج) بالمسجد الحرام، وأبو عبد الله جعفر بن محمد(ع) فيه إذ ذاك يُفتي الناس، ويُفسِّر لهم القرآن، ويجيب عن المسائل بالحجج والبيِّنات.

فقال القوم لابن أبي العوجاء: هل لك في تغليط هذا الجالس وسؤاله عما يفضحه عند هؤلاء المحيطين به؟ فقد ترى فتنة الناس به، وهو علاَّمة زمانه. فقال لهم ابن أبي العوجاء: نعم، ثمَّ تقدَّم، ففرَّق الناس وقال: فتأذن في السؤال؟ قال له أبو عبد الله(ع): "سل إن شئت"... فقال له ابن أبي العوجاء: "إلى كم تدوسون هذا البيدر، وتلوذون بهذا الحجر (الأسود)، وتعبدون هذا البيت المرفوع بالطوب والمدر (الكعبة)، وتهرولون حوله هرولة البعير اذا نفر (إشارة إلى الطواف حول البيت الحرام)؟ من فكَّر في ذلك وقدَّر، علم أنَّه فعلٌ غير حكيم ولا ذي نظر، فقُل، فإنَّك رأسُ هذا الأمر وسنمه، وأبوك أسُّه ونظامه".

فقال له الصادق(ع): "إنَّ مَنْ أضلَّه الله وأعمى قلبه، استوخم الحقُّ فلم يستعذ به، وصار الشيطان وليَّه وربَّه، يُوردُه مناهلَ الهَلَكَة، وهذا بيتٌ استعبد الله به خلقه ليختبر طاعتهم في إتيانه، فحثَّهم على تعظيمه وزيارته، وجعله قبلةً للمصلِّين له، فهو شُعبةٌ من رضوانه، وطريقٌ يؤدي الى غفرانه، منصوبٌ على استواء الكمال، ومجمع العظمة والجلال، فأحقُّ مَنْ أُطيعَ في ما أمر، وانتُهي عمَّا زَجَر، الله عزَّ وجلَّ، المنشئ للأرواح والصُّور".

فقال له ابن أبي العوجاء: ذكرت ـ أبا عبد الله ـ فأحلْت على غائب. فقال الصادق(ع): "كيف يكون ـ يا ويلك ـ عنَّا غائباً مَنْ هو مع خلقه شاهد، وإليهم أقربُ من حبل الوريد؟ يسمع كلامهم، ويعلم أسرارهم، لا يخلو منه مكانٌ، ولا يشتغل به مكانٌ، ولا يكون الى مكانٍ أقرب من مكان، تشهد له بذلك آثاره، وتدلُّ عليه أفعاله، والذي بعثه بالآيات المحكمة والبراهين الواضحة، محمد(ص) جاءنا بهذه العبادة، فإن شككت في شيءٍ من أمره، فاسأل عنه أُوضِحُه لك".

ويسأله منكرٌ: كيف يعبد الله الخلقُ ولم يروه؟ فيقول(ع): "رأته القلوب بنور الإيمان، وأثبتته العقول بيقظتها إثبات العيان، وأبصرته الأبصار بما رأته من حُسن التركيب وإحكام التأليف، ثم الرسل وآياتها، والكتب ومحكماتها، واقتصرت العلماء على ما رأت من عظمته دون رؤيته". ثم سأله: "أليس هو قادراً أن يظهر لهم حتى يروه ويعرفوه فيُعبد على يقين؟" قال(ع): "ليس للمحال جواب"، قال: "فمن أين أثبتَّ أنبياء ورسلاً؟" قال(ع): "إنَّا لما أثبتنا أنَّ لنا خالقاً صانعاً متعالياً عنا وعن جميع ما خلق، وكان ذلك الصانع حكيماً لم يجز أن يشاهده خلقه، ولا أن يلامسوه، ولا أن يباشرهم ويباشروه، ويحاجّهم ويحاجّوه، ثبت أنَّ له سفراء في خلقه وعباده، يدلُّونهم على مصالحهم ومنافعهم، وما به بقاؤهم وفي تركه فناؤهم، فثبت الآمرون والناهون عن الحكيم العليم في حكماء مؤدَّبين بالحكمة، مبعوثين عنه، مشاركين للناس في أحوالهم على مشاركتهم لهم في الخلق والتركيب، مؤدِّين من عند الحكيم العليم بالحكمة والدلائل والبراهين والشواهد".

حواره مع الزنديق المصري:

قصد هذا الزنديق أبا عبد الله، وكان في الطواف إبان الحج، "فلمَّا فرغ أبو عبد الله، أتاه الزنديق، فقعد بين يدي أبي عبد الله والناس مجتمعون عنده، فقال أبو عبد الله للزنديق: أتعلم أن للأرض تحتاً وفوقاً؟ قال: نعم: قال: فدخلت تحتها؟". أي هل نزلت الى أعماق الأرض حتى ترى ماذا هناك؟ وهل هناك فراغ تحت الأرض؟ "قال: لا، قال: فما يدريك ما تحتها؟" فإذا كنت لم تنفذ الى تحت الأرض، فكيف يمكن أن تحكم عليها؟ "قال: لا أدري، إلا أني أظن أن ليس تحتها شيء"، فأنا أظن وأحتمل، وليس لي دراية حقيقية بما هو موجود في باطن الأرض وتحتها. قال أبو عبد الله: "فالظنّ عجز، فلم لا تستيقن". فأنت عندما تقول أظن، فذلك أنك لا تتيقن، ولا تملك القدرة على الحكم، ولا تملك على معرفة الأشياء دليلاً واضحاً يجعلك قادراً على أن تعطي رأياً في هذا الأمر.

"ثم قال أبو عبد الله: أفصعدت إلى السماء؟ قال: لا، قال: أفتدري ما فيها؟". من مخلوقات وظواهر. "قال: لا، قال: عجباً لك، لم تبلغ المشرق ولم تبلغ المغرب ولم تنـزل الأرض ولم تصعد إلى السماء، ولم تجز هناك فتعرف ما خلفهن، وأنت جاحد بما فيهنّ، فهل يحجد العاقل ما لا يعرفه؟ قال الزنديق: ما كلمني بهذا أحد غيرك، فقال أبو عبد الله(ع): فأنت من ذلك في شك، فلعله هو ولعله ليس هو؟ فقال الزنديق: لعله ذلك، فقال أبو عبد الله: أيها الرجل، ليس لمن لا يعلم حجة على من يعلم، ولا حجة للجاهل. يا أخا أهل مصر، افهم عنّا، فإنّا لا نشك في الله أبداً؛ أما ترى الشمس والقمر والليل والنهار، يلجان فلا يشتبهان ويرجعان، قد اضطرّا ليس لهما مكان إلاّ مكانهما، فإن كانا يقدران على أن يذهبا، فلم يرجعان؟ وإن كان غير مضطرّين، فلم لا يصير الليل نهاراً والنهار ليلاً؟ اضطرا والله يا أخا أهل مصر إلى دوامهما، والذي اضطرّهما أحكم منهما وأكبر. فقال الزنديق: صدقت! ثم قال أبو عبد الله(ع): يا أخا أهل مصر، إن الذي تذهبون إليه وتظنونه من الدهر، إن كان الدهر يذهب بهم، فلم لا يردّهم، وإن كان يردّهم، لِمَ لا يذهب بهم؟ القوم مضطرون يا أخا أهل مصر! ألم تر السماء مرفوعة والأرض موضوعة؟ لم لا تسقط السماء على الأرض، ولم لا تنحدر الأرض فوق ما تحتها؟!.. قال الزنديق: أمسكهما الله ربهما وسيدهما. قال: فآمن الزنديق على يدي أبي عبد الله".

حول إنكار وجود الله تعالى:

ومرةً أخرى، يقصد الإمام(ع) ابن أبي العوجاء، ويدور النقاش حول وجود الله تعالى. وقبل أن يبادر ابن أبي العوجاء إلى الكلام، بادره الإمام فقال: "إن يكن الأمر على ما يقول هؤلاء (الحجيج الذين تعدّونهم رعاعاً)، وهو على ما يقولون (بوجود الله)، فقد سلموا وعطبتم (بإنكاركم)، وإن يكن الأمر على ما تقولون، وهو ليس كما تقولون، فقد استويتم وهم (إذا لم يكن هناك ألوهية، والعياذ بالله، فأنتم وهم سواء: لا أحد يحاسبكم) فقلت له: يرحمك الله، وأي شيء تقول، وأي شيء يقولون؟ وما قولي وقولهم إلا واحداً (ينكر إلحاده)، فقال: "وكيف يكون قولك وقولهم واحداً، وهم يقولون إن لهم معاداً وثواباً وعقاباً، ويدينون بأن في السماء إلهاً وأنها عمران، وأنتم تزعمون أن السماء خراب ليس فيها أحد". يقول ابن أبي العوجاء: "فاغتنمتها منه (أي وجدت فرصتي) فقلت له: "ما منعه إن كان الأمر كما يقولون، أن يظهر لخلقه ويدعوهم إلى عبادته حتى لا يختلف منهم اثنان؟ ولمَ احتجب عنهم وأرسل إليهم الرسل؟ ولو باشرهم بنفسه كان أقرب إلى الإيمان به؟"، فقال لي: "ويلك، وكيف احتجب عنك من أراك قدرته في نفسك؛ نشوءك ولم تكن، وكبرك بعد صغرك، وقوتك بعد ضعفك، وضعفك بعد قوتك، وسقمك بعد صحتك، وصحتك بعد سقمك، ورضاك بعد غضبك، وغضبك بعد رضاك، وحزنك بعد فرحك، وفرحك بعد حزنك، وحبك بعد بغضك، وبغضك بعد حبك، وعزمك بعد أناتك، وأناتك بعد عزمك، وشهوتك بعد كراهتك، وكراهتك بعد شهوتك، ورغبتك بعد رهبتك، ورهبتك بعد رغبتك، ورجاءك بعد يأسك، ويأسك بعد رجائك، وخاطرك بما لم يكن في وهمك، وعزوب ما أنت معتقده في ذهنك". وما زال يعدِّد على قدرته التي هي في نفسي التي لا أدفعها". فأنا أشعر بمواقع القدرة والمتغيرات التي تحدث للإنسان داخلياً وخارجياً مما لا بدَّ له فيها، "حتى ظننت أنه سيظهر فيما بيني وبينه"، أي الله سبحانه وتعالى.

حواره حول ضرورة الإمامة وحواره مع الشامي

قدم إلى أبي عبد الله رجل شامي، وطلب أن يناظر أصحابه، فسأله أبو عبد الله(ع): "كلامك من كلام رسول الله أم من عندك؟" فقال: من كلام رسول الله(ص) ومن عندي. فقال له أبو عبد الله: "فأنت إذاً شريك رسول الله؟"، قال: لا، قال: "فسمعت الوحي من الله عزَّ وجلَّ يخبرك؟". قال: لا. قال: "فتجب طاعتك كما تجب طاعة رسول الله(ص)؟"، قال: لا. فقال له أبو عبد الله(ع): "كلِّم هذا الغلام". وأشار إلى هشام بن الحكم. فوافق الشامي، وتوجه إلى هشام بالقول: "يا غلام، سلني في إمامة هذا (الإمام الصادق). فغضب هشام، لكنه تمالك نفسه وقال له: يا هذا، أربُّك أنظر لخلقه أم خلقه لأنفسهم؟" (أي هل الله يهتم بعباده أكثر من اهتمامهم أم العكس"، فقال الشامي: بل ربي أنظر لخلقه، فقال هشام: ففعل بنظره لهم ماذا؟ قال هشام: أقام لهم حجةً ودليلاً كيلا يتشتتوا أو يختلفوا. قال هشام: فمن هو؟ قال الشامي: رسول الله. قال هشام: فبعد رسول الله إمام؟ قال الشامي: الكتاب والسنة. قال هشام: فلمَ اختلفنا أنا وأنت وصرت إلينا من الشام في مخالفتنا إياك؟ فسكت الشامي. فقال أبو عبد الله للشامي: "مالك لا تتكلم؟" فأقرَّ أنه أفحم، لكنه أخذ المبادرة وسأل هشاماً: من أنظر للخلق؛ أربهم أو أنفسهم؟ فقال هشام: ربهم أنظر من أنفسهم. فقال الشامي: فهل أقام لهم من يجمع لهم كلمتهم ويقيم أودهم ويخبرهم بحقهم من باطلهم؟ قال هشام: في وقت رسول الله أو الساعة (الآن)؟ قال الشامي: في وقت رسول الله والساعة من؟ قال هشام: هذا القاعد الذي تشدُّ إليه الرّحال (الإمام الصادق)، ويخبرنا بأخبار السماء والأرض وراثةً عن أب وجدّ. قال الشامي: فكيف لي أن أعلم ذلك؟ قال هشام: سله عمَّا بدا لك. قال الشامي: قطعت عذري فعليَّ السؤال. فقال أبو عبد الله(ع): "يا شامي، أخبرك كيف كان سفرك وكيف كان طريقك؟ كان كذا وكذا". فأقبل الشامي يقول: صدقت، أسلمت الساعة.

ثامناً: الإمام موسى بن جعفر الكاظم(ع)

سابع أئمَّة أهل البيت(ع). عاش الإمام الكاظم حياةً متحرِّكةً في الواقع الإسلامي الذي كان ينفتح في عهدي المنصور وهارون على تطورات ومشاكل وحركات متنوِّعة انطلقت من خلال أكثر من موقع من مواقع الهاشميين، وتمثَّلت فيها أكثر من مجزرة تقترب في بعض مشاهدها من مجزرة كربلاء.

وكانت الحركة الثقافية في ذلك الوقت تنطلق لتثير الكثير من علامات الاستقهام حول مفردات العقيدة من جهة، وخطوط الشريعة من جهة أخرى، والواقع السياسي من جهة ثالثة. وكانت المرحلة لا تخلو من العنف في الجانب السياسي والأمني، لأنَّ السلطة التي كانت تتمثل في الخلفاء، ولا سيما المنصور والمهدي والهادي والرشيد، كانت لا تزال تخشى الاتجاهات المضادة.

عاش الإمام الكاظم(ع) في هذه المرحلة، وقد استطاع أن يملأها علماً وفكراً وروحانية، وأن يرصد الانحرافات التي كانت تفرض نفسها على حركة الفكر الإسلامي، ليصحّحها ويقوّمها في الاتجاه الصحيح.

كانت مدرسة الإمام الكاظم(ع)، كمدرسة أبيه، تتميز بتنوع مشارب من تتلمذوا عليها، ولم تكن مدرسةً مذهبيةً تقتصر على الذين يلتزمون إمامته.

"وقد روى الناس عن أبي الحسن موسى(ع) فأكثروا، وكان أفقه أهل زمانه، وأحفظهم لكتاب الله، وأحسنهم صوتاً بالقرآن، وكان إذا قرأ يَحْدُرُ ويبكي، ويبكي السامعون لتلاوته، وكان الناس بالمدينة يسمّونه زين المتهجِّدين، وسمّي بالكاظم لما كظمه من الغيظ وصبر عليه من فعل الظالمين به".

وروى عنه الخطيب البغدادي في (تاريخ بغداد)، والسمعاني في (الرسالة القواميَّة)، وأبو صالح أحمد المؤذن في (الأربعين)، وأبو عبد الله بن بطَّة في (الإنابة)، والثعلبي في (الكشف والبيان).

وكان أحمد بن حنبل ممن روى عنه، قال: "حدثني موسى بن جعفر، قال: حدَّثني أبي جعفر بن محمَّد"، وهكذا إلى النبي(ص) ثم قال أحمد: "وهذا إسنادٌ لو قُرِئ على المجنون لأفاق".

وقد نقل عنه الرواة من الفقه والتفسير والمواعظ والوصايا الكثير مما يوحي بالنشاط الكبير في إغناء المجتمع الإسلامي بالفكر والتربية والتفقه. وهكذا نجد المؤرخين يتحدثون عن سعة نشاطه العلمي، فقد جاء في المناقب أنه أخذ عنه العلماء ما لا يحصى كثرةً.

وذكر السيد ابن طاوس في الأنوار البهية، أن أصحاب الإمام وخواصه كانوا يحضرون مجلسه، ومعهم في أكمامهم ألواح آبنوس لطاف وأميال، فإذا نطق بكلمة أو أفتى في نازلة، بادروا إلى تسجيل ذلك.

غير أن الإمام كسائر أئمة أهل البيت(ع)، لم يكن في نهجه العرفاني وأدعيته ليغرق في تعقيدات الفلسفات العرفانية الواردة إلى التفكير الإسلامي، (بل) نرى فيها انسجاماً مع النهج القرآني في الحديث عن الله وصفاته، وعن نعمه وآفاق عظمته".

عبادته

كان الإمام أعبد أهل زمانه، حتى إنه لما سجنه الرشيد، كان يقول في سجنه: "اللّهمّ إنك تعلم أني كنت أسالك أن تفرّغني لعبادتك، اللهم وقد فعلت فلك الحمد"، فهو لا يتذمر من السجن، بل شكر الله على إتاحة الوقت له لمزيد من العبادة، ففي سجن البصرة، لم يُرَ مهتماً بأي أمر من أمور الدنيا، ولا يدعو إلا بالمغفرة والرحمة له ولجميع المسلمين، مع ملازمته الصّيام والعبادة، ونقل إلى سجن بغداد، فكان في سجوده كالثوب المطروح أرضاً. وقد أخبر عنه من راقبه أنه كان "يصلي الفجر، فيعقب ساعةً في دبر صلاته إلى أن تطلع الشمس، ثم يسجد سجدةً، فلا يزال ساجداً حتى تزول الشمس (وقت الظهر)، فيثب فيبتدئ الصلاة. فلا يزال كذلك حتى يفرغ من صلاة العصر، فإذا صلى العصر سجد سجدةً، فلا يزال ساجداً إلى أن تغيب الشمس، فإذا غابت الشمس، وثب من سجدته فصلَّى المغرب من غير أن يُحدث حَدثاً، ولايزال في صلاته وتعقيبه إلى أن يصلِّي العتمة، فإذا صلَّى العتمة، أفطر على شويٍّ (تصغير شواء، أي شواء قليل) يُؤتى به، ثم يجدِّد الوضوء، ثم يسجد ثم يرفع رأسه، فينام نومةً خفيفةً، ثم يقوم فيجدِّد الوضوء، ثم يقوم، فلا يزال يصلِّي في جوف الليل حتى يطلع الفجر، فلست أدري متى يقول الغلام إنَّ الفجر قد طلع، إذ وثب هو لصلاة الفجر.

إلا أنه مع كل ذلك، لم يكن يرغب بالتهرب من مسؤولياته، فينفصل عن الحياة في قضاياها وأوضاعها المسؤولة، بل كان يتابع مهماته القيادية الدينية، ويمارس مهمات إمامته من داخل السجن بواسطة أشخاص يتصلون به.

أما عن وصفه بـ"راهب بني هاشم"، فهذا لا يعود حسب السيد(رض) إلى انعزاله عن الناس في قمة جبل أو في كهف أو مغارة... وإنما هو باعتبار أنه رمز الرهبانية ورمز العبادة... في التفرغ لعبادة الله".

ورغم عصمته، كان كغيره من الأئمة(ع)، يطلب العفو والمغفرة. ففي دعاء لنفسه يقول: "اللّهمّ إني أسألك الراحة عند الموت، والعفو عند الحساب"، كما كان يقول: "عظم الذنب من عبدك، فليحسن العفو من عندك". وكان يبكي حتى تخضلَّ لحيته.

كما كتب دعاءً في قرطاسه: "اللّهمّ أردد إلى جميع خلقك مظالمهم التي قِبَلي، صغيرها وكبيرها، في يسرٍ منك وعافية، وما لم تبلغه قوَّتي، ولم تَسَعْه ذاتُ يدي، ولم يَقْوَ عليه بدني ويقيني ونفسي، فأدِّه عني من جزيل ما عندك من فضلك، ثم لا تخلف عليَّ منه شيئاً تقضيه من حسناتي، يا أرحم الراحمين"...

"أشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله، وأنَّ الدين كما شرَّع، وأنَّ الإسلام كما وصف، وأنَّ الكتاب كما أنزل، وأنَّ القول كما حدَّث، وأنَّ الله هو الحقُّ المبين، ذكر الله محمداً وأهلَ بيته بخير، وحيَّا محمداً وأهل بيته بالسلام".

وهذا الدعاء كما يصفه السيد(رض) يمثل أسلوباً تربوياً... في التحرر من كل نقاط الضعف الإنساني فيما يمكن أن يقود الإنسان إلى العدوان على الآخرين "لذا فهو يبتهل إلى الله ليمكّنه من ردِّ المظالم"، حتى إذا شعر بالعجز عن ذلك، رفع أمره إلى الله ليعوِّض أصحاب المظالم عنها، فيرضيهم بما يمنحهم من فضله ليتخفَّف من ذلك بشكل نهائي.

وفي العلاقة مع الإخوان، يدعو الإمام لهم، ويعلِّم أصحابه الدعاء لهم، فـ"من دعا لأخيه بظهر الغيب نودي من العرش: ها، ولك مئة ألف ضعف مثله". ونظراً إلى ذوبانه في الله تعالى، فقد كانت له كرامات دفعت إلى نعته بـ"باب الحوائج إلى الله"، فنحن، كما يقول السيد(رض) "نعرف أن الكثيرين من الناس الذين يقصدونه ليتوسلوا إلى الله بكرامته، تقضى حوائجهم من الله ببركته".

تعليمه الناس طاعة الله عزَّ وجلَّ

كان الإمام كغيره من أئمة أهل البيت(ع) معلّماً في موضوع طاعة الله والتسليم بقضائه، ويبرز ذلك في الكثير من وصاياه وتعاليمه:

ففي موضوع الرزق، كان يعلّم الصبر حتى يقضي الله في ذلك، إذ يقول: "ينبغي لمن عقل عن الله (عرفه)، أن لا يستبطئه في رزقه (لأن الله إذا منعك أو رزقك، فذلك بناءً على معرفته بمصلحتك)، ولا يتهمه في قضائه" (بالظلم).

وفي موضوع الطاعة، كان ينصح بعدم استكثار ما نطيع الله به، لأنه لا يعادل شيئاً أمام نعمه التي وهبنا إيّاها. فقد أوصى الفضل بن يونس قائلاً له: "أكثر من أن تقول: اللّهمّ لا تجعلني من المعارين (كأنما استعار الدين الآن ليخرج منه فيما بعد)، ولا تخرجني من التقصير (أن أرى نفسي مقصراً)... فإن الناس كلهم في أعمالهم، فيما بينهم وبين الله مقصرون، إلا من عصمه الله عزَّ وجلَّ". فوسائلنا لعمل الخير مدَّنا بها الله، وكذلك ما نقدمه فمن خيره سبحانه وتعالى، وإلى هذا، فلا يكن همنا كله الدنيا، لنلوم الله سبحانه على ما لم يعطنا، وعلى العلماء أن يكونوا القدوة في هذا المجال، فقد كان الإمام(ع) يروي عن رسول الله(ص) قوله: "الفقهاء أمناء الرسل" (يحفظون الرسالة ويمارسونها ويبلغونها)، ما لم يدخلوا في الدنيا (أي) اتباع الشيطان، (فيكونوا مثلاً في خدمة السلطان الجائر) فإن فعلوا ذلك فاحذروهم على دينكم".

وقد يعيش بعضهم عالةً على الأمة، إذا لم ينحرف، فلا يعمل، وينتظر أن يعطى من الحقوق الشرعية، فيما هو يقضي عمره في الفراغ العابث، والبطالة اللاهية، متزيياً بالزيِّ الديني ليحصل على المساعدات.

إن أي عمل، حتى يتقبله الله، يجب أن يكون في سبيل الله، وإلا فهو يجب أن يطلب أجره ممن يوجه إليه هذا العمل، فحتى العلاقات الاجتماعية يجب أن تخضع لهذه القاعدة، فقد روى أبو حمزة قال: "سمعت العبد الصالح (الإمام) يقول: "من زار أخاه المؤمن لله، لا لغيره، يطلب به ثواب الله، وينجز ما وعد الله (إذا كانت الزيارة قربةً إلى الله لا لمصلحة خاصة)، وكل به سبعين ألف ملك من حين يخرج من منزله حتى يعود إليه، فينادونه: ألا طبت وطابت الجنة، تبوأت من الجنة منزلاً".

وعلى الإنسان أن يستعيذ بالله من كلّ ما يخيفه أو يوسوس له، كالطيرة وما إلى ذلك. ويعالج الإمام هذا الأمر، كما درج عليه بعض الناس، فيقول: "الشؤم للمسافر في طريقه في خمسة: الغراب الناعق عن يمينه، والكلب الناشر لِذَنبه، والذئب العاوي الذي يسوي في وجه الرجل وهو مقعٍ على ذنبه، ثم يعوي، ثم يرتفع، ثم ينخفض ثلاثاً، والظبي السانح عن يمين إلى شمال، والبومة الصارخة، والمرأة الشمطاء تلقى فرجها، والأتان العضباء، يعني الجدعاء، فمن أوجس في نفسه منهن شيئاً، فليقل: اعتصمت بك يا ربّ من شرِّ ما أجد في نفسي، فاعصمني من ذلك". فيُعْصَمُ من ذلك".

إن الظاهر من هذا الحديث، أنَّ الإمام(ع) لا يريد أن يؤكِّد وجود حقيقة التشاؤم في هذه الأمور، بل يشير إليها من حيث الاعتقاد الشعبي بها، وما غلب على العامة. إلا أنه لا بدَّ من أن يرجع الإنسان المسلم أمام هذه الأمور إلى إيمانه بالله، "فلا يهزُّه الخوف أو يسقطه التطير، ولا يتجمد في مشاريعه العملية، من سفر أو غيره تحت وطأة ذلك... لا بدَّ من مواجهة الموقف بالتحدي العنيف للخوف... بالاعتصام بالله، الذي يعصم عباده المؤمنين من كل شر".

"ولا بد، كما يقول السيد(رض) من التدقيق بتعبير الإمام(ع) الذي يقول: "فمن أوجس في نفسه منها شيئاً"، فالمسألة تدخل في نطاق المشاعر النفسية التي قد تتحرك نتيجة التربية الذاتية القائمة على أساس التقاليد الشعبية.

ويعلم الإمام ضرورة محاسبة النفس باستمرار، لردعها عن المساوئ، وتثبيت المحاسن فيها، لتتحول إلى ملكات ثابتة، فيقول: "ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم (في صباحه ومسائه)، فإن عمل حسناً استزاد الله، وإن عمل سيئاً استغفر الله منه وتاب إليه".

وأخيراً، يوصي الإمام(ع) بتنظيم الوقت، فيقول: "اجتهدوا أن يكون زمانكم أربع ساعات: ساعة منه لمناجاته، وساعة لأمر المعاش، وساعة لمعاشرة الإخوان الثّقات، والذين يعرّفونكم عيوبكم، ويخلصون لكم في الباطن، وساعة تخلون فيها للذاتكم في غير محرَّم". أي ساعة للصلاة ومناجاة الله، وساعة لتحصيل المعاش، وأخرى لمعاشرة الإخوان الذين يدلُّونه على عيوبه ولا يغشونه بالتملق، وتبقى له ساعة لغرائزه وشهواته المحللة.

وبعد بيان كل هذه العلاقة بالله تعالى، يعرّف الإمام الإنسان الشيعي، فإذا هو الذي يخاف الله ويتميز بما حدّده الإمام في هذا المجال، فهو الورع الذي يتحدث الجميع بورعه، فـ"ليس من شيعتنا من لا تتحدث المخدَّرات بورعه في خدورهن"، فعليه أن يصل إلى مرتبة من الورع عن الحرام، "بحيث إن أمره ينتشر بين الناس، "حتى إن المخدَّرات المحجبات اللاتي لا يتحركن في المجتمع، تصلهن أخبار ورعه، "وليس من أوليائنا من هو في قرية فيها عشرة آلاف رجل، فيهم من خلق الله من هو أورع منه".

موقفه من الحكم الظالم: لم يكن الإمام مستكيناً للحكم الظالم، إلا أنه لم يثر أو يتبنى ثورةً ضده، لأنه كان يرى أن لا أمل في انتصار ثورة كهذه، نتيجةً لضعف تأييدها، من جهة، ولم يكن يرى أنها، في حال هزيمتها، يمكن أن يكون لها أثر إيجابي للمستقبل، على طريقة ثورة الحسين(ع)، من جهةٍ أخرى.

إلا أنَّ هذا لم يكن يمنعه من تبيان حقِّ أهل البيت(ع) في ولاية أمر المسلمين، فقول الحق يعدُّه واجباً مهما كانت النتيجة، حتى لا تختلط الأمور على الناس، عند اللّواذ الدائم بالتقية. فهو يقول لبعض أصحابه: "اتقِ الله وقل الحق وإن كان فيه هلاكك (في الدنيا)، فإن فيه نجاتك (في الآخرة) اتقِ الله ودع الباطل وإن كان فيه نجاتك (الوقتية في الدنيا)، فإن فيه هلاكك" (في الآخرة).

وفي سيبل تبيان حق أهل البيت(ع)، يمكننا الاستشهاد بحادثتين تنقلهما كتب التاريخ:

الأولى: مسألة تبيان حدود فدك للرشيد: استدعى الرشيد الإمام يوماً، وأخبره برغبته بإعادة فدك إليه، بصفته وريثاً لفاطمة الزهراء(ع)، طالباً منه أن يحددها. فقال الإمام(ع): "إن حدّدتها لم تردها"، فأصر هارون عليه وقال: "بحق جدك، إلا فعلت".

ولما لم يجد الإمام(ع) بدّاً من التحديد، قاله له:

"أماالحد الأول، فعدن. والحد الثاني، سمرقند. والحد الثالث أفريقيا. والحد الرابع سيف البحر مما يلي الخزر وأرمينيا".

قال هارون: لم يبقَ لنا شيء.

فقال الإمام(ع): "قد علمت أنك لا تردّها".

ففدك في رأي الإمام(ع)، "تمثل ولاية أمور المسلمين، وبذلك فإنها تمثل شرعية الإمامة وشرعية الحكومة الإسلامية"، فالزهراء(ع) "عندما طالبت بفدك"، كانت من خلالها تطالب بحق علي(ع) في الولاية، ولم تكن بالنسبة إليها أرضاً في المسألة الجغرافية فحسب".

عندها عزم الرشيد، كما ينقل التاريخ، على قتل الإمام(ع).

الثانية: مسألة القرابة من رسول الله(ص)

زار الرشيد المدينة، ووقف أمام قبر رسول الله(ص) وقال: "السلام عليك يا رسول الله، السّلام عليك يا بن العم". محاولاً أن يبين للناس شرعية حكمه استناداً إلى القرابة من رسول الله(ص).

فتقدم الإمام الكاظم، فقال: "السّلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبتاه"، فغضب الرشيد وسأل الإمام(ع): "لِمَ جوَّزْتم للعامة والخاصة أن ينسبوكم إلى رسول الله(ص) ويقولون لكم: يا بَني رسول الله، وأنتم بنو عليّ، وإنَّما يُنْسَبُ المرءُ إلى أبيه، وفاطمة إنَّما هي وعاء، والنبيّ جدُّكم من قِبَل أمّكم؟ فقال(ع): "لو أنَّ النبيّ(ص) نُشر (عاد إلى الحياة من جديد)، فخطب إليك كريمتك هل كنت تجيبه؟ فقال: سبحان الله، ولِمَ لا أُجيبه؟ بل أفتخر على العرب والعجم وقريش بذلك. فقال(ع): لكنَّه لا يخطب إليَّ ولا أزوّجه، فقال: ولِمَ؟ قال(ع): لأنَّه ولدني ولم يَلِدْك". وجاء في وفيات الأعيان، أنَّ الإمام(ع) أراد أن يدعم قوله ببرهان آخر. فقال لهارون: "هل كان يجوز له أن يدخل على حرمك وهُنَّ متكشَّفات؟ فقال هارون: لا، قال(ع): ولكنه كان ليدخل على حرمي".

لم يكن الإمام(ع) يريد أن يركِّز على مسألة الخلافة والإمامة من موقع القرابة، علماً أن الإمام وأهل البيت كانوا يثيرون مسألة القرابة، ليجادلوا من يدعي الشرعية بالقرابة، أما قناعتهم، فهي أن مسألة الإمامة قائمة من خلال النص الإلهي... وما فعله الإمام كان بقصد إسقاط "العنفوان والاستكبار" لهارون الرّشيد.

هذا علماً أنَّ الرشيد لم يكن يجهل هذا الحق، بل كان يصرّح به أمام خاصة خاصته، وهذا ما ذكره المأمون بن الرشيد الذي سئل: من أين تعلمت التشيع؟ وكانت هذه الكلمة تُطلق على الذين يحبُّون أهل البيت(ع) ويعظِّمونهم. فقال كما رُوي عنه: لقد تعلَّمته من أبي هارون الرشيد، ولكن ما لقيه الإمام الكاظم(ع) من تعظيم عند استقبال هارون الرشيد له، ما أدَّى إلى اعتراض المأمون على أبيه لجهله بالإمام، فقال له: إنَّ النَّاس لو عرفوا من فضل هذا وأهل بيته ما نعرفه، لما تركونا في مواقعنا. فقال له المأمون: لِمَ لم تتنازل عن موقعك إذا كنت تعرف من فضله ما تقول؟ فقال له: إنَّ المُلْكَ عقيم، ولو نازعتني عليه لأخذتُ الذي فيه عيناك".

وإلى هذا، فإنَّ الإمام كان يبين لأصحابه عندما تتاح له الفرصة، ضرورة عدم التعاون مع الحكم الظالم المغتصب، ففي حديث له(ع) مع صفوان الجمَّال قال له: "يا صفوان، كل شيء فيك حسن"، جميل، ما خلا شيئاً واحداً، قلت: جُعلت فداك، أي شيء؟ قال: إكراؤك جمَالك من هذا الرجل ـ يعني هارون ـ قلت: والله ما أكريته أشراً ولا بطراً ولا للهو، ولكني أكريته لهذا الطريق ـ يعني طريق مكَّة ـ ولا أتولاه، ولكنْ أبعثُ فيه غلماني، فقال لي: يا صفوان، أيقع إكراؤك عليهم؟ قلت: نعم، جُعلت فداك، فقال لي: أتحبُّ بقاءَهم حتى يخرج كراك؟ قلت: نعم، قال: فمن أحبَّ بقاءهم فهو منهم، ومن كان منهم ورد النَّار. فقال صفوان: فذهبت وبعت جمالي عن آخرها".

إن القضية كانت "قضية الحالة النفسية التي يعيشها صفوان في الرغبة في بقائهم (العباسيين) حتى تخرج إليه أجرته"، وذلك رغم "الظلم والعدوان وارتكاب المحرمات".

أما موقفه من الثورات، فكان التحفُّظ لجهتين: لجهة ألا أمل لها بالنصر أو بتحريك الواقع الظالم، ولو بعد حين، ولجهة ألا يورط شيعته في مواقف تؤدي إلى ضرر كبير مجاني ضدهم. إلا أنه كان يتعاطف مع بعضهم ممن يعرف فيهم الطهارة والإخلاص والاستقامة، بعكس أصحاب الأغراض الشخصية من المغامرين.

فموقفه من يحيى بن عبد الله بن الحسن كان سلبياً، لأنه كان يطمح إلى الخلافة من موقع أن له الحق فيها، فقد كتب إليه يحيى هذا كتاباً جاء فيه:

أمَّا بعد: فإنِّي أوصي نفسي بتقوى الله، وبها أُوصيك، فإنَّها وصيَّة الله في الأوَّلين، ووصيَّته في الآخرين. خبَّرني مَن ورد عليّ من أعوان الله على دينه ونشر طاعته، بما كان من تحنّنك مع خذلانك، وقد شاورت في الدعوة للرضا من آل محمد(ص)، وقد احتجبتها واحتجبها أبوك من قبلك، وقديماً ادَّعيتم ما ليس لكم، وبسطتم آمالكم إلى ما لم يعطكم الله، فاستهويتم وأضللتم، وأنا محذِّرك ما حذّرك الله من نفسه...".

فردَّ عليه أبو الحسن موسى بن جعفر(ع): "من موسى بن أبي عبد الله جعفر وعليّ، مشتركْين في التذلّل لله وطاعته، إلى يحيى بن عبد الله بن الحسن... أما بعد، فإنِّي أحذِّرك الله ونفسي، وأعلمك أليم عذابه، وشديد عقابه، وتكامل نقماته، وأوصيك ونفسي بتقوى الله، فإنَّها زين الكلام، وتثبيت النِعم. أتاني كتابُك تذكر فيه أنِّي مدَّعٍ وأبي من قبل، وما سمعت ذلك منِّي، وستكتب شهادتهم ويسألون، ولم يَدَع حرص الدنيا ومطالبها لأهلها مطلباً لآخرتهم حتى يُفسد عليهم مطلب آخرتهم في دنياهم... وذكرت أني ثبّطت الناسَ عنك لرغبتي فيما في يديك، وما منعني من مدخلك الذي أنت فيه لو كنت راغباً ضعفٌ عن سُنَّة، ولا قلَّة بصيرة بحجَّة، ولكنَّ الله تبارك وتعالى خلق الناس أمشاجاً، وغرائب وغرائز، فأخبرني عن حرفين أسألك عنهما: ما العترف في بدنك؟ وما الصهلج في الإنسان؟ ثم اكتب إليَّ بخير ذلك...

وأنا متقدِّم إليك أحذِّرك معصية الخليفة، وأحثُّك على برِّه وطاعته، وأن تطلب لنفسك أماناً قبل أن تأخذك الأظفار، ويلزمك الخناق من كلِّ مكان، فتروح إلى النفس من كلِّ مكان ولا تجده، حتى يمنَّ الله عليك بمنّه وفضله، ورقَّة الخليفة أبقاه الله، فيؤمنك ويرحمك، ويحفظ فيك أرحام رسول الله(ص)، والسلام على مَن اتَّبع الهدى ﴿إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ العَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى﴾(طه/48).

وهكذا كان جواب الإمام(ع) موعظةً ونصيحةً وتحذيراً من النتائج السلبية، في ما يمكن أن تنتهي إليه حركته من نتائج وخيمة.

أما الموقف من حركة أخرى، وهي حركة الحسين(ع) صاحب فخ، فكان الترحم والتأثر، عندما فشلت حركته وقتل وأصحابه، حيث وقف الإمام ليؤبِّنه فقال: "إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، مضى والله مسلماً صالحاً، صواماً قواماً، آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، ما كان في أهل بيته مثله".

"إنه يعطي الثائر الشرعية من خلال صفاته القيادية الإسلامية، ولا يعتبر التحرك انحرافاً عن الخط، في الوقت الذي لا يجد ضرورةً له أو فرصةً للنجاح".

وفي مطلق الأحوال، كان الإمام فيما يثقف الناس به في المجالات المختلفة، بما فيها المجال السياسي، يوصي الناس بالتفكير، وتكوين المواقف باستقلالية ودون تبعية من أي نوع، فيقول: "أبلغ خيراً وقل خيراً ولا تكن إمعة". قيل: ما الإمعة؟ قال: "لا تقل: أنا مع الناس، وأنا كواحد من الناس؛ إن رسول الله(ص) قال: إنما هما نجدان (طريقان): نجد خير ونجد شر، فلا يكن نجد الشر أحب إليكم من نجد الخير"، فيجب أن "يتحدَّد الرأي الشخصي للإنسان بالمستوى الذي يتحمل فيه مسؤولية كل النتائج المترتبة عليه.. فلا يجوز له أن يخضع في موقفه للجو العام من حوله، ليكون مجرد صدى للآخرين... لأن الله تعالى لم يجعل فكر الآخرين عذراً له إذا كان في مواقع الخطأ".

سجنه(ع) ومراقبته واستشهاده

أرسله هارون الرشيد إلى البصرة، حيث سجن سنةً كاملةً عند أحد أقرباء الرشيد، وهو عيسى بن موسى، وقد راقب الإمام مراقبةً شديدةً، وأخيراً طلب منه الرشيد أن يقتله، فردَّ عليه أنه لا يتطلَّع إلى أيّ أمر من أمور الدنيا، ولا يدعو إلا بالمغفرة والرحمة له ولجميع المسلمين، مع ملازمته الصّيام. ورفض تنفيذ الأمر. ثم أتى به الرشيد إلى بغداد، فوضعه تحت عين الفضل بن الربيع، الذي لم يجده إلا مصلياً صائماً متهجداً واعياً. إلا أن السلطة العباسية كانت لا تنفك تبعث الجواسيس وتستمع إلى السعاة، وبعضهم من أقارب الإمام ممن يأتمنهم على بعض أسراره، ومنهم، حسب الرواية، علي بن إسماعيل بن جعفر الصادق، الذي كان الإمام يقربه ويثق به، وكان منهم أخوه محمد بن جعفر الصادق، اللذان وشيا به، لكن الله خلَّصه من كيدهما.

إلا أن الرشيد قرر أخيراً التخلص منه، بعد أن وضع في سجن السندي بن شاهك في بغداد، "وكان رجلاً فظاً غليظاً، ويقال إنه لم يكن مسلماً، فضيق عليه ووضعه في "طامورة" لا يعرف فيها الليل من النهار، ودسَّ إليه السم في طعامه، فاستشهد في سجنه".

تعليمه الناس

يحثُّ الإمام الناس على سؤال العلماء، في كل ما يطرأ عليهم، وقد سئل عما إذا كان الناس يمكنهم أن يتركوا الأسئلة حول ما يحتاجون إليه، فقال: "لا"، فإذا جهلت فتعلّم. كما كان يقول: "محادثة العلماء على المزابل (لو جلس العالم في مكان كالمزبلة)، خير من محادثة الجاهل على الزرابي" (البسط والفرش).

إلا أن العلم في نظر الإمام(ع) أنواع: فمنه المفيد، ومنه غير الضروري، وطاقة الإنسان على التعلم ليست مطلقة، فليقتصر على ما يستطيع مما ينير دربه. فقد جاء في حديثه عن رسول الله(ص)، قوله: "دخل رسول الله(ص) المسجد، فإذا جماعة قد أحاطوا برجل، فقال: ما هذا؟ فقيل: علاَّمة. فقال: وما العلامة؟ فقالوا: إنه أعلم الناس بأنساب العرب ووقائعها وأيام الجاهلية والأشعار العربية. فقال رسول الله(ص): "ذلك علم لا يضرُّ من جهله (لأنه لا يتصل بواقع الحياة ولا بشيء من مسؤوليات الإنسان)، ولا ينفع من علمه (بل هو حشو)، إنما العلم ثلاثة: آي محكمة (تعرِّفنا ما في كتاب الله)، أو فريضة عادلة (خط من الخطوط الإلزامية للإنسان)، أو سنَّة قائمة" (ما يسير الناس عليه من دروب الخير).

إنَّ الرسول(ص)، من خلال هذه الرواية، لا يريد رفض الثقافة التاريخية والأدبية بالمطلق، لأن فيها عبراً، ولكنه أراد تأكيد الثقافة الإسلامية ومعرفة الحقيقة، وليكن العلم بالأولوية؛ العلم الضروري الذي يوضح لنا سبل عملنا، "إن أولى العلم بك ما لا يصلح لك العمل إلا به، وأوجب العلم عليك ما أنت مسؤول عن العمل به، وألزم العلم لك ما دلك على صلاح قلبك وأظهر لك فساده، وأحمد العلم عاقبةً ما زاد في علمك العاجل، فلا تشتغلن بعلم ما لا يضرك جهله، ولا تغفلن عن علم ما يزيد في جهلك تركه".

ويقول الإمام(ع) في مناسبة أخرى: "وجدت علم الناس في أربع: أولها: أن تعرف ربك (في حقائق الألوهية التوحيدية)، الثانية: أن تعرف ما صنع بك (من النعم والأفضال)، والثالثة: أن تعرف ماذا أراد منك (من معرفة الشريعة والسلوك الإنساني)، والرابعة: أن تعرف ما يخرجك عن دينك" (من أجل صيانة نفسك من الانحراف، فتتلافى الشبهة، وتتنبه من التيارات الفكرية المادية والفلسفات الإلحادية وسائر النظريات السياسية المخالفة للإسلام.

ثم يتصدَّى الإمام(ع) للمشبّهة والمجسّمة، ممن لا يدركون التوحيد الصحيح، فيدحض أقوالهم، فقد كتب الإمام إلى بعض أصحابه يقول: "إن الله أعلى وأجل وأعظم من أن يبلغ كنه صنعته، فصفوه بما وصف به نفسه، وكفوا عما سوى ذلك"، لأننا "لن نستطيع أن نعرف الله في صفاته إلا من خلاله"، لأنه المطلق الذي لا حدود له ولأي صفة من صفاته، فحتى الفلسفة التي قدمها الفلاسفة المسلمون يجب أن نتعاطى معها بنظرة نقدية، فيما خصَّ صفات الله، لأنها "في العمق والمنهج قد تأخذ الكثير من ملامح الفلسفة اليونانية التي ولدت في بيئة ثقافية أخرى، تختلف عن البيئة التي ولدت فيها الفلسفة الإسلامية.

وكذلك ينهى الإمام في الدين عن القياس، فقد سأله بعضهم في ذلك فقال: "إنما هلك من كان قبلكم بالقياس"، فقلت له: لِمَ لا يقبل ذلك؟ فقال: "إنّه ليس من شيء إلا وقد جاء في الكتاب والسنة". فيكون اللجوء إلى القياس لجوءاً "إلى ما لا ضرورة له، إضافةً إلى أنه لا يملك أساساً للحجية، لأنه يعتمد على الظن... ولا سيما أن علل التشريع قد لا تكون واضحةً ليمكن القياس. أما إذا لم يستطع المؤمن أن يعثر على الحل في الكتاب والسنة، فيقول له الإمام(ع): "إذا جاءكم ما تعلمون، فقولوا، وإن جاءكم ما لا تعلمون فمه" (أي اسكتوا عنه. أما اليوم، وقد ضاع الكثير من أحاديث الرسول والأئمة(ع)، فما العلم)؟

يجيز السيد عند ذلك الحلول العقلية، ومنها القياس، ولا سيما أن الإمام غائب ولا نستطيع سؤاله.

ويقول أحدهم: قلت لأبي الحسن(ع) إن فلاناً يزعم أن الله جسم ليس كمثله شيء، أي أنه جسم ولكن ليس كالأجسام. فقال أبو الحسن(ع): "أما يعلم أن الجسم محدود"، وأضاف: "معاذ الله، وأبرأ إلى الله من هذا القول، لا جسم ولا صورة ولا تحديد، وكل شيء سواه مخلوق. إنما تكون الأشياء بإرادته ومشيئته، من غير كلام ولا تردّد في نفس ولا نطق بلسان". أي ليست كلماته كالكلمات التي تخطر في الذهن، وتتردّد في الفكر، ثم تنطلق بعد ذلك".

ويصحّح الإمام(ع) بعض الأدعية في هذا المجال، ففي دعاء يرد: "الحمد لله منتهى علمه"، ويكتب الإمام إلى أحد أصحابه فيقول: "لا تقولن "منتهى علمه"، فليس لعلمه منتهى، ولكن قل منتهى رضاه"، لأن علم الله لا نهاية له، أما رضاه، فبقدر ما يستحق المخلوقون.

وحول حديث نزول الله إلى السماء الرابعة، وغيره من خرافات المجسمة، يقول الإمام(ع):

"إن الله لا ينزل ولا يحتاج إلى أن ينزل، إنَّما بنظره ـ يعني بمراقبته للأشياء بالعلم والإحاطة ـ وفي القرب والبُعد سواء، لم يبعد منه قريب، ولم يقرب منه بعيد، ولم يحتج إلى شيء، بل يُحتاج إليه، وهو ذو الطول لا إله إلا هو العزيز الحكيم، أمَّا قول الواصفين إنه ينـزل ـ تبارك وتعالى عن ذلك ـ فإنما يقول ذلك من ينسبه إلى نقص وزيادة ـ لأن الحاجة إلى النـزول والارتفاع، إنَّما تكون في الممكن الذي ينقص، فيحتاج إلى أن يكمِّل نقصه، والذي يزيد، فيحتاج إلى أن يستزيد من زيادته أو يعتدل ـ وكل متحرك محتاج إلى منْ يحرِّكه أو يتحرَّك به، فمن ظنَّ بالله الظنون هلك، فاحذروا في صفاته من أن تقفوا على حدٍّ تحدّونه بنقص أو زيادة أو تحريك أو تحرّك أو زوال أو استنزال أو نهوض أو قعود، فإن الله جلَّ وعزَّ عن صفة الواصفين، ونعت الناعتين، وتوهّم المتوهمين، وتوكّلْ على العزيز الرحيم الذي يراك وتقلبك في الساجدين".

لقد وضع الإمام(ع) المسألة في نصابها التوحيدي، في مواجهة أولئك الّذين يصوّرون الله كالمخلوق المحتاج إلى الحركة المحدودة ارتفاعاً وانخفاضاً، زيادةً ونقصاناً.

أما في مجال تعليم الناس، فإن الإمام يدعو إلى مسايرة مستوى المتعلمين حتى يستوعبوا العلم، فقد قال لأحد شيعته: "يا يونس، ارفق بهم، فإن كلامك يدق فيهم" (خذهم بالأسلوب البسيط). قال: قلت إنهم يقولون لي: زنديق، فقال له: "وما يضرك أن يكون في يدك لؤلؤة، فيقول الناس: هي حصاة، وما ينفعك أن تكون في يدك حصاة، فيقول الناس: إنها لؤلؤة". فإن الناس أعداء كل ما يرونه جديداً، لكن يجب ألا يواجَهوا بقسوة، بل على قدر عقولهم، دونما استثارة لعصبيتهم، لأن الأمر عند ذلك يعطي نتائج عكسية، فيما المطلوب تعلميهم لا تركهم في جهالتهم.

غير أن هناك حديثاً منسوباً إلى الإمام يجيب به أحد أصحابه في مسألة عجز عنها بعض الفقهاء، فأفتاه بها وقال له: "سرّ الله فلا تذيعوه، ولا تعلموا هذا الخلق أصول دين الله، بل ارضوا لهم ما رضي الله من ضلال"!!

ويعلق السيد(رض) على هذا الحديث بقوله: "إن هذا المنطق ـ بظاهره ـ ليس منطق أئمة أهل البيت(ع)، لأن الشريعة في ما تمثله من أحكام الله ليست أسراراً مخفيةً باطنية... بل هي للناس جميعاً... (و) إن طبيعة المنطق هي أن يطلب الإمام من هذا الرجل إيصال الحكم إلى من حوله من الناس الذين اختلفوا في هذه المسألة... إن هذه الظواهر تسيء إلى الصورة المشرقة للأئمة(ع)".

الأخلاقيات:

كان الإمام(ع) قدوةً في سعة الصدر، فقد كان في المدينة رجل من ولد عمر بن الخطاب يؤذي أبا الحسن موسى(ع) ويسبّه إذا رآه ويشتم عليَّاً(ع)، فقال له بعض جلسائه يوماً: دعنا نقتل هذا، فنهاهم عن ذلك أشدَّ النهي، وزجرهم أشدَّ الزَّجر، وسأل عن العمري، فَذُكِرَ أنَّه يزرع بناحيةٍ من نواحي المدينة، فركب فوجده في مزرعة، فدخل المزرعة بحماره، فصاح به العمري: لا توطئ زرعنا، فتوطأه أبو الحسن(ع) بالحمار حتى وصل إليه، فنزل وجلس عنده وباسطه وضاحكه، وقال له: "كم غرمت في زرعك هذا؟" فقال له: مائة دينار. قال: "وكم ترجو أن تصيب فيه؟" قال: لست أعلم الغيب، قال: "إنما قلت لك: كم ترجو أن يجيئك فيه؟" قال: أرجو فيه مائتي دينار... فأخرج له أبو الحسن(ع) صرةً فيها ثلاثُ مائة دينار، وقال: "هذا زرعك على حاله، والله يرزقك فيه ما ترجو"، فقام العمريّ فقبّل رأسه، وسأله أن يصفح عن فارطه، فتبسَّم له الحسن(ع) وانصرف... وراح إلى المسجد، فوجد العمريّ جالساً، فلما نظر إليه قال: الله أعلم حيث يجعل رسالته...

ولما رجع أبو الحسن إلى داره، سأل أصحابه: "أيما كان خيراً، ما أردتم؟ إني أصلحت الأمر بالمقدار الذي عرفتم وكفيت به شره".

وللتدليل على تواضعه، روى بعضهم أن الإمام كان يسير في الطريق، فرأى شخصاً مستضعفاً دميم المنظر، أسود اللون، فنزل وجلس معه يحادثه، وسأله إذا كان له حاجة عنده أن يرجع إليه فيها، فاستنكر عليه أصحابه ذلك، وقالوا: "يا بن رسول الله، اتنـزل إلى هذا وتسأله عن حوائجه وهو إليك أحوج ـ إن هذا الرجل محتاجٌ إليك أكثر، فهو الذي يجب أن يأتيك ويطلب حاجته، فقال لهم: عبدٌ من عبيد الله وأخٌ في الله... يجمعنا وإيَّاه خيرُ الآباء آدم، وأفضل الأديان الإسلام، ولعلَّ الدهر يردُّ من حاجتنا إليه، فيرانا بعد الزهو عليه متواضعين بين يديه".

من جهةٍ أخرى، كان الإمام يذمُّ العُجب ويبيِّن شروره، ويقول: "العجب درجات، منها أن يزيِّن للعبد سوء عمله فيراه حسناً، فيعجبه ويحسب أنه يحسن صنعاً. ومنها أن يؤمن العبد بربه، فيمنّ على الله تبارك وتعالى، ولله تعالى فيه المن"، لأنه إنما صلى وصام وحج بما أعطاه الله من قوة في جسده.

ويوصي الإمام بتحمل حسد الحاسدين، الذين يحسدون الإنسان لما أعطاه الله من نعم، فكأنما يحقد على نعمة الله، فيقول الإمام(ع): "إصبر على أعداء النعم، فإنك لن تكافي من عصى الله فيك (بأن حسدك وتمنى زوال نعمتك) بأفضل من أن تطيع الله فيه، بكظم الغيظ والعفو عنه، فتكون من المحسنين". أما حضه على مواساة الفقراء والغارمين (المدينين المعسرين)، فكان في القمة من الخلق. فقد كان يطوف على بيوت الفقراء في الليل، "فيحمل إليهم العين (الدنانير)، والورق (الدراهم)، والأدقة (أنواع الدقيق) والتمور، فيوصل إليهم ذلك ولا يعلمون من أي جهة هو". وكان(ع) يحمل الصرار إلى الفقراء.

وقصد بعضهم المدينة، محاولاً الحصول على ما يفي به ديناً أعياه إيفاؤه، فنُصح بأن يذهب إلى الإمام، ففعل، فسأل الإمام فأعطاه ثلاثمئة دينار.

كل ذلك على الرّغم من أن الإمام كان يكدُّ ويسعى ليؤمِّن قوته وقوت عياله، فعن أبي حمزة، قال: "رأيت أبا الحسن الكاظم(ع) يعمل في أرض له قد استنقعت قدماه في التعرق. فقلت: جعلت فداك، أين الرجال؟ فقال: "يا علي، قد عمل باليد من هو خير مني في أرضه ومن أبي". فقلت: ومن هو؟ فقال: "رسول الله وأمير المؤمنين وآبائي، وهو من عمل النبيين والأوصياء الصالحين".

إن هذه القصة "تؤكد القيمة الإسلامية للعمل اليدوي في حياة الإنسان المسلم، أياً كان موقعه... (وهو) أساس القيمة الاجتماعية الدينية".

وصيته(ع) لهشام بن الحكم

تنقل لنا السيرة عن الإمام الكاظم(ع)، أنه كان يتَّخذ أسلوب الوصايا التي تتنوَّع في موضوعات كثيرة، أو تتخذ موضوعاً واحداً متنوع الأبعاد، وهذا ما نراه في ما رُوي من وصاياه لتلميذه هشام بن الحكم الذي كان تلميذاً لأبيه، ولعلَّ أهمها، وصيته الطويلة التي أدار فيها الحديث حول العقل من خلال النهج القرآني الذي أكَّد دور العقل كحجة لله على عباده، في ما هي مسألة الإيمان والكفر والضلال والاستقامة والانحراف.

يقول(ع): "يا هشام، إنَّ الله تبارك وتعالى بشَّر أهل العقل والفهم في كتابه فقال: ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾"(الزمر:17-18).

"إنَّ الله سبحانه وتعالى أراد للناس أن يستمعوا إلى كل ما يقدَّم إليهم من قول... وفرَّق بين أن تسمع وأن تستمع، لأن مسألة السماع هي أن تزحف الكلمة من خلال قائلها إلى أذنك دون اختيار... أما الاستماع، فهو أن تسمع عن إرادة، وأن توجه عقلك إلى كل ما يدخل إلى سمعك"، بحيث يكون عليك أن تفكر فيما تسمع وتدرسه وتتعرف فيه الخطأ والصواب والحسن والأحسن، لتنهج المنهج العلمي في ما استمعته لتختار الأحسن، أما لماذا يبشر الله تعالى هؤلاء الناس؟ فلأن "هؤلاء هم الذين يكتسبون العلم من خلال ما يستمعون إليه".

"يا هشام: إن الله تبارك وتعالى أكمل للناس الحجج بالعقول". فالعقل هو "حجة الله سبحانه وتعالى على العباد.

"ونصر النبيين بالبيان"(كانوا يحملون الرسالة ويبينوها للناس، وبذلك كانوا ينتصرون)، "ودلهم على ربوبيته بالأدلة". فالله سبحانه وتعالى عرَّف الناس ربوبيته، بما قدّمه لهم من أدلة أراد للعقل أن يفكر فيها وبينفتح عليها.

"يا هشام: قد جعل الله ذلك دليلاً على معرفته بأن لهم مدبراً، مما جعله الله من الظواهر الكونية التي أراد للناس أن يفكروا فيها.

﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ﴾(النحل:12). فالله تعالى "خلق نظاماً ينفتح على حاجاتكم وعلى منافعكم".

"ليتسببوا إلى رزقه، طلباً لما فيه نيل العاجل من دنياهم، ودرك الآجل في أخراهم ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾"(النحل:12)، فاجعل عقلك ينظر بعين فكره، واجعله يكتشف الله تعالى من خلال ذلك كله.

﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا﴾(غافر:67). وهنا يطرح السيد(قده) مسألة الاستنساخ فيقول: "هم جاؤوا بخلية ناضجة من الحيوان، وأخذوا منها الخصائص الوراثية لجسم الإنسان... وفرَّغوا البويضة... ثم أدخلوا تلك الخصائص في البويضة، فأصبحت البويضة معها خليةً ناضجةً تبدأ معها رحلة الحياة"، فالاستنساخ لا يشكل إذاً خلقاً.

أما التلقيح الصناعي القائم على الإتيان ببويضة امرأة وزرعها في رحم امرأة أخرى، ثم تلقيحها بنطفة الزوج، فيكون المولود ابن الزوج وابن صاحبة البويضة، لا ابن الحامل.

﴿ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾(غافر:67)، أي استخدم عقلك في دراسة نشأة وجودك وتطوره في هذا الكون الإنساني، الذي تنمو فيه بطريقة وأخرى.

﴿اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾(الحديد:17). ويضيف(ع): ﴿وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾(الرعد:4)، ويذكر قوله تعالى: ﴿وَمِنْ آَيَاتِهِ يُرِيكُمُ البَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾(الرُّوم:24)، أي أن البرق قد يأتي بالصواعق أو بالمطر، وفي تتالي الفصول دعوة ليعرف الإنسان ربه، والعقل هو الوسيلة لمعرفة الله سبحانه وتعالى.

العقل العملي: قال: قال الله تعالى: ﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾(الأنعام:151). فالمحرَّمات تجعل الإنسان الذي يبتعد عنها مستقيماً ومتوازناً، ثمَّ إن الله فطرنا على التوحيد فلا نشرك به شيئاً، والإحسان بالوالدين لقيمة الرعاية، وأما قتل الأولاد بشكل مباشر أو غير مباشر خوف الفقر، فمحرَّم، لأن رزقهم ورزقنا على الله، وعلينا أن نبتعد عن الفواحش المعلنة أو المخفية، وكذلك قتل النفس المحرمة إلا بالحق قصاصاً أو دفاعاً عن النفس، كل هذا يمثل حركة الفعل في الجانب العملي.

ويذكِّر الإمام بقوله تعالى: ﴿هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾(الرُّوم:28). يريد الله تعالى أن يقرِّب إلى النّاس فكرة التوحيد، مقارناً بين عدم وجود شريك له، وبين الواقع الذي يتحركون فيه في حياتهم الساذجة، فهل يمكنهم أن يجعلوا لأنفسهم شركاء من أرقائهم في ما رزقهم الله في ما لا علاقة له كلياً به؟!.

" يا هشام، ثم وعظ الله أهل العقل في الآخرة (بالمقارنة بين الدنيا والآخرة) فقال: ﴿وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾"(الأنعام:32). إن هذه الدنيا تمثِّل المفردات التي تشغل الإنسان عن الحقيقة. وفي مقابلها، جعل الله الدار الآخرة للذين يتقون، وهي الدار التي تبقى، فعلى الإنسان أن يحكِّم عقله، ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾(القصص:60). والمتاع هو ما يتمتع به الإنسان ويزول، والعاقل لا يرتبط إلا بما هو أبقى.

"يا هشام، ثم خوَّف الذين لا يعقلون عقابه، فقال تعالى: ﴿ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآَخَرِينَ * وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾"(الصافات:136-138). أي يا أهل مكة، عندما تذهبون إلى الشام، ففي الطريق هناك ترون القرية المفسدة التي دمرها الله. "وقال: ﴿إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ القَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ﴾(العنكبوت:34)، وقال: ﴿وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آَيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾"(العنكبوت:35) ليأخذوا العبرة.

"يا هشام، العقل مع العلم (كلما ازداد الإنسان علماً ازداد عقلاً)، فقال تعالى: ﴿وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا العَالِمُونَ﴾"(العنكبوت:43). والأمثال تنقل الإنسان من خلال المحسوس إلى المعقول، و"الإنسان العاقل هو الذي يستطيع الاستفادة من تلك الأمثال".

"يا هشام، ثم ذمَّ الذين لا يعقلون"، كالذين يقلّدون آباءهم مثلاً من دون تفكير. "وقال: ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾"(البقرة:171). فقد أغلقوا أسماعهم عن الحقيقة، وأغلقوا أفواههم عن قول الحق، وأغمضوا أعينهم عن طريق النجاة، ﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ﴾(الأنعام:116) ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الحَمْدُ للهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾(لقمان:25) ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الحَمْدُ للهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾(العنكبوت:63). فالكثرة لا تمثّل الحقَّ دائماً، وقد تكون مع الكفر والباطل، ولذلك لا بدَّ للإنسان لمعرفة الحقيقة، من أن يدرس المسائل، فلا يعتمد على الكثرة أو الأغلبية.

الطليعة الإنسانيَّة

"يا هشام، إنَّ الله ذكر أولي الألباب بأحسن الذكر، وحلاهم بأحسن الحلية (لأنهم يمثلون الطليعة الإنسانية) فقال: ﴿يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الأَلْبَابِ﴾"(البقرة:269)، بحيث تبدأ الآية بالحكمة التي وهبها الله للإنسان، وهي تمثل خط التوازن، وهي كذلك تجعله يستنطق عقله، فلا ينحرف يميناً وشمالاً، ولا يتذكر إلا الذين يملكون العقل، "وقال سبحانه وتعالى: ﴿وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الأَلْبَابِ﴾"(آل عمران:7)، أي أنَّ الذين ثبتوا أو تمكنوا من العلم وتعمقوا فيه، استطاعوا أن يعرفوا من القرآن ما هو المحكم والمتشابه، وأن يرجعوا المتشابه إلى المحكم، بحيث لا يشعرون بأيِّ اختلاف في القرآن، مع ملاحظة أن التذكر في القرآن لا يقتصر على ما يقابل النسيان، بل هو الوضوح والوعي للأشياء، "وقال: ﴿أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ﴾"(الرعد:19) أي أن الإنسان المؤمن بالحق هو البصير، أما الذي لا يؤمن فهو أعمى.

"وقال سبحانه وتعالى: ﴿أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ﴾"(الزُّمر:9).

الدليل إلى الحق:

"وقال سبحانه وتعالى: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ﴾"(ص:29) أي لا بدَّ لهم من أن يتدَّبروا آياته ويعوها: وقال: ﴿وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ * هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾"(غافر:53-54)، أي إنما أنزلها ليهتدي الناس بها. "وقال تعالى: ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ المُؤْمِنِينَ﴾"(الذاريات:55)، فيكونون في "وعي دائم تجاه مسؤولياتهم".

"يا هشام، إن الله تعالى يقول في كتابه: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ﴾"(ق:37) لمن كان يمتلك العقل. "وقال سبحانه وتعالى: ﴿وَلَقَدْ آَتَيْنَا لُقْمَانَ الحِكْمَةَ﴾"(لقمان:12) الفهم والعقل، فهو تعالى لم يرسله نبياً، ولكنه أعطاه الوعي الذي يمتلكه الأنبياء.

التواضع للحق

"يا هشام، إن لقمان قال لابنه: "تواضع للحق تكن أعقل الناس"، ولو "كان الحق على خلاف موروثاتك وتقاليدك، لأنَّ العقل الملازم للحق يفرض نفسه عليك"، "وإن الكيِّس لدى الحق يسير"، أي أنَّ العاقل يسير على هدي عقله فيصل إلى الغاية. "يا بني، إن الدنيا بحر عميق قد غرق فيها عالم كثير" في شهواتها وملذاتها فأهلكتهم. "فتلكن سفينتك يا بني هي تقوى الله" وسيلة للنجاة "وحشوها الإيمان، وشراعها التوكل، وقيِّمها العقل (قائدها)، ودليلها العلم (لتعرف الاتجاه الصحيح)، وسكانها الصبر" (المسافرون فيها).

الأدلّة على الأشياء:

"يا هشام، لكل شيء دليل، ودليل العقل التفكر (فالعقل يعرف من خلال نتاجه)، ودليل التفكر الصمت (لأن التفكير يحتاج إلى حالة هدوء)، ولكل شيء مطية، ومطية العقل التواضع (لأن الإنسان المتواضع يكون في حالة قبول للحق، يتقبل الآخرين، ويعترف بالفكر الآخر، وكفى بك جهلاً أن تركب ما نهيت عنه"، لأن ما نهيت عنه ينطلق من خلال المفسدة التي تترتب عليك في الأخذ به.

"يا هشام، لو كان في يدك جوزة وقال الناس: في يدك لؤلؤة، ما كان ينفعك وأنت تعلم أنها جوزة، ولو كان في يدك لؤلؤة، وقال الناس إنها جوزة، ما ضرَّك وأنت تعلم أنها لؤلؤة"، فعلى الإنسان أن يثق بنفسه ولا يبقى غارقاً في ما يتحدث به الناس، بل عليه أن يدرس الأمور بنفسه.

الهدف من بعثة الأنبياء

"يا هشام، ما بعث الله أنبياءه ورسله إلى عباده إلا ليعقلوا عن الله (لأن الله لا يتصل بعباده بشكل مباشر، وأنزل الله الوحي على أنبيائه ليعرّفوا الناس مواقع قدرته سبحانه وتعالى، وليبلغونهم شريعته)، فأحسنهم استجابةً أحسنهم معرفةً بالله (لأنهم أعلم بأمر الله)، وأعلمهم بأمر الله أحسنهم وأعقلهم وأرفعهم درجةً في الدنيا والآخرة (لأنه يجعل درجته أعلى وأرفع). يا هشام، ما من عبد إلا وملكٌ آخذ بناصيته، فلا يتواضع إلا رفعه الله، ولا يتعاظم إلا وضعه الله".

الملكات العقلية

"يا هشام، إن العاقل لا يشغل الحلال شكره (لا ينشغل عن ذكر الله وشكره عند النعمة، فينسى ربه المنعم عليه)، ولا يغلب الحرام صبره (عندما يواجه ما يجذبه من الشهوات الحرام يظل متماسكاً صبوراً). يا هشام، من سلَّط ثلاثاً على ثلاث، فكأنما أعان هواه على هدم عقله: من أظلم نور تفكّره بطول أمله (فمن يطل أمله ينسَ الآخرة ويستسلم لشهواته، فيعمى عن رؤية حقائق الأشياء)، ومحا طرائف حكمته بفضول كلامه، وأطفأ نور عبرته بشهوات نفسه" (فبدلاً من أن ينير بالعبرة ما يشهده عقله، تغلبه الشهوات فلا يعتبر) .

تطهير الأعمال

"يا هشام، كيف يزكو عند الله عملك وأنت قد شغلت عقلك عن أمر ربك، وأطعت هواك على غلبة عقلك". فالإنسان عليه أن يدرس عمله من خلال استنطاق عقله، فيسأله: كيف يمكن له أن ينتج هذا العمل ليكون عملاً إيجابياً بالنسبة إليه لا سلبياً، والعقل يقول إن عليك ألا تنشغل بالشهوات، ليخلص عملك لله تعالى. إنَّ الإنسان عندما يتحرَّك في أيِّ عملٍ يقف فيه بين الهوى والعقل، فلا بدَّ له من أن يطرد الهوى حتى لا يغلب عقله.

مفهوم العزلة

"يا هشام، الصبر على الوحدة علامة قوة العقل، فمن عقل عن الله تبارك وتعالى، اعتزل أهل الدنيا والراغبين فيها، ورغب في ما عند ربه (والواقع أن القضية ليست مع العزلة على طول الخط بشكل مطلق، وليست مع الاجتماع بشكل مطلق، بل إنَّ للعزلة والوحدة موقعهما ودورهما وفائدتهما، كما أنَّ للاجتماع دوره ومنفعته وحركيته، والوحدة تأتي لتبعد الإنسان عن الجو الفاسد الشيطاني الذي يبعده عن الله سبحانه وتعالى. والجو الفاسد هو أهل الدنيا الراغبون فيها المستسملون لها) وكان ـ أي الله ـ أنيسه في الوحشة، وصاحبه وغناه عند العيلة (أي حالة الفقر، فهو وليّ نعمته)، ومعزة في غير عشيرة، (لأن العزَّة لله جميعاً، فالقرب منه يجعل المرء عزيزاً).

"يا هشام، نصب الحق لطاعة الله (فالانفتاح على الحق انفتاح على الله)، ولا نجاة إلا بالطاعة، والطاعة بالعلم (لأن الجاهل لا يعرف خطوط الطاعة)، والعلم بالتعلم، والتعلم بالعقل يعتضد (يشتدُّ ويقوى)، ولا علم إلا من عالم ربّاني (انفتح على العلم بما أوحى الله تعالى به)، ومعرفة العلم بالعقل (الذي يفكّر في ما تعلَّمه، ويتعلم من تجاربه). يا هشام، قليل العمل من العاقل مقبول مضاعف، وكثير من العمل من أهل الهوى والجهل مردود". إن القيمة ليست بالكثرة ولكنها بالنوعية، فمهما اتسعت أعمال الجاهل، فإنها مردودة، لأنه يفقد المعنى الروحي للعمل.


خيار الحكمة

"يا هشام، إن العاقل رضي بالدون من الدنيا مع الحكمة، ولم يرضَ بالدون من الحكمة مع الدنيا، فلذلك ربحت تجارته (إذا وقف التفاضل بين أن تكون له الحكمة في أعلى درجاتها، مع النقص في لذات الدنيا، وبين أن تكون لذائذ الدنيا عنده أكثر من إمكانيات الحكمة، اختار الأولى. إن العاقل يختار النقص في الدنيا على النقص في الحكمة).

"يا هشام، إن العقلاء تركوا فضول الدنيا، فكيف الذنوب؟ وترك الدنيا من الفضل، وترك الذنوب من الفرض". فترك اللذات، حتى المحللة، من التفضل، أما الذنوب، فتركها إلزامي.

"يا هشام، إنَّ العاقل نظر إلى الدنيا وإلى أهلها (فلم يمر بها مروراً هامشياً)، فعلم أنها لا تنال إلا بالمشقَّة (فالإنسان لا ينال شيئاً إلا بعد أن يتعب في سبيله)، ونظر إلى الآخرة فعلم أنها لا تنال إلا بالمشقة (لأن الآخرة تحتاج إلى الجهد في العبادة والطاعة... فأيهما تختار: الجهد في سبيل الآخرة، أم الجهد في سبيل الدنيا؟) فطلب بالمشقة أبقاهما".

"يا هشام، إن العقلاء زهدوا في الدنيا ورغبوا في الآخرة، لأنهم علموا أن الدنيا طالبة مطلوبة، والآخرة طالبة ومطلوبة، فمن طلب الآخرة طلبته الدّنيا حتى يستوفي منها رزقه، ومن طلب الدنيا، طلبته الآخرة، فيأتيه الموت، فيفسد عليه دنياه وآخرته (فالدنيا مطلوبة لأن الإنسان يندفع إليها، والدنيا تطلبه بوسائلها ليستوفي رزقه، والإنسان الذي يطلب الآخرة تطلبه الدنيا ليستوفي رزقه، وعندما يطلب الإنسان الدنيا، فإنَّ الآخرة تطلبه عندما يأتيه الموت). فإذاً على الإنسان أن ينطلق في هذا المجال، بأن ينفتح على الآخرة، لأن رزقه في الدنيا سوف يأتيه عندما تطلبه الدنيا... أما الآخرة، فسوف تأتيه حتى لو طلب الدنيا". وهكذا، "فإذا طلب الآخرة، حصل على الدنيا والآخرة".

"يا هشام، من أراد الغنى بلا مال، وراحة القلب من الحسد، والسلامة في الدين، فليتضرَّع إلى الله عزَّ وجلَّ بأن يكمل عقله، فمن عقل قنع بما يكفيه، ومن قنع بما يكفيه استغنى، ومن لم يقنع بما يكفيه لم يدرك الغنى". فإذاً، بدلاً من الجري وراء المال، ومعاناة مرض الحسد والانتماء الحقيقي إلى الدين، فليتحلَّ بالقناعة، والقناعة تعني أن يقتنع الإنسان بما يكفيه، بحيث يشعر بالغنى النفسي، لأن الإنسان "عندما يفكر في أن يكون له ما يزيد عن كفايته، ويلهث في الوصول إليه، فإنه سيبقى يشعر بالفقر الدائم". أما الحاسد، فإنه عندما يرى نعمة على غيره، يتمنى أن تزول عنه وتؤول إليه، فكأنَّما يتمرَّد على الله تعالى معطي هذه النعمة. والقناعة تؤدي إلى السلامة في الدين، لأن الطمع قد يؤدي بالإنسان إلى ارتكاب المحرَّمات.

"ولا يسلك طريق القناعة إلا رجلان: رجل متعبد يريد أجر الآخرة (ولا يريد في الدنيا إلا الحصول على الحاجات الطبيعية)، وكريم متنـزِّه عن لئام الناس"، لأنهم قد "يفرضون عليه ما لا ينسجم مع قناعاته أو قيمه وأهدافه".

"يا هشام، إن الله تحدَّث عن قوم صالحين أنهم قالوا: ﴿رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ﴾(آل عمران:8)، حين علموا أن القلوب تزيغ وتعود إلى عماها ورداها"، إذ قد تطرأ عليها بعض الشبهات والإشكالات. والزيغ هو الانحراف عن الحق والميل إلى الباطل.

العاقل يخاف الله

"إنه لم يخف الله من لم يعقل عن الله (إذا لم يعرفه، فقد يسير في طريق معصيته). ومن لم يعقل عن الله، لم يعقد قلبه، على معرفة ثابتة  يبصرها ويجد حقيقتها في قلبه ولا يكون أحد كذلك (يكون ظاهره كباطنه)، لأنَّ الله تبارك اسمه لم يدلّ على الباطن الخفي من العقل إلا بظاهرٍ منه" (لأنه لا يدرك الباطن الخفي من الضمير الذي يدل على وجود الله سبحانه وتعالى، إلا بآثاره التي تظهر على جوارحه).


عبادة العقل

"يا هشام، كان أمير المؤمنين(ع) يقول: ما من شيءٍ عُبد الله به أفضل من العقل (وتلك عبادة فكرية تسمو على كل عبادة)، وما تمَّ عقل امرئ حتى يكون فيه خصال شتى: الكفر والشر منه مأمونان (لأنهما يناقضان العقل، لأن العاقل عندما يحرك عقله، فإنه لا يمكن أن ينتمي إلى الكفر)، والرشد والخير منه مأمون (لأن العقل يختار الخير بدلاً من الشر). فضل ماله مبذول، وفضل قوله مكفوف (يتألم لآلام الناس فيبذل ما يزيد عن حاجته، ويكف عن الناس زوائد الكلام التي لا تجدي نفعاً). نصيبه من الدنيا قوت (ما يلبي حاجاته)، ولا يشبع من العلم دهره (لأن العلم لا نهاية له، والعقل يأمر دائماً بتحصيله). الذل أحب إليه مع الله من العز مع غيره (فالعزة لله ومنه، لا من أصحاب النفوذ الاجتماعي أو السياسي أو الاقتصادي)، والتواضع أحب إليه من الشرف (الشرف الجماهيري). مستكثر فليل المعروف من غيره (لا يستقل ما يعطيه غيره، لأنَّ هذا الغير ليس مسؤولاً عن أن يعطيك، بل هو متفضّل، فعليك أن تقدِّر إحسانه)، ويستقلُّ كثير المعروف من نفسه (لأن عطاءه أمام حاجة المعطى يبقى قليلاً)، يرى الناس كلهم خيراً منه (لأنه ينظر إلى جوانبهم بإيجابية)، وأنه شرهم في نفسه (بلحاظ نقاط الضعف القائمة فيه)، وهذا تمام الأمر".



علامة العقل

"يا هشام، إن أمير المؤمنين(ع) كان يقول: إن من علامة العاقل أن يكون فيه ثلاث خصال: يجيب إذا سئل، وينطق إذ عجز القوم عن الكلام، ويشير بالرأي الذي يكون فيه صلاح أهله، فمن لم يكن فيه هذه الخصال الثلاث فهو أحمق (أي هو يجب أن يتعلم حتى يستطيع الإجابة على ما يسأل عنه، ويتفوق ما أمكنه على الناس الذين حوله، ويكون صاحب خبرة كافية ليشير بالصلاح. فأي حمق أشد وأكثر من أن تؤمِّن للإنسان كل الفرص لينمو علمياً، ولكن الكسل يقعده عن ذلك). إن أمير المؤمنين(ع) قال: لا يجلس في صدر المجلس إلا رجل فيه هذه الخصال الثلاث (لأن صدر المجلس للإنسان المميز الذي يملك العلم والرأي). وقال الحسن بن علي(ع): "إذا طلبتم الحوائج فاطلبوها من أهلها (فانظر في من تطلب منه ثقافةً أو مسائل في السياسة أو في الواقع الاجتماعي؛ هل هو أهل لذلك أو لا). قيل: يابن رسول الله، ومن أهلها؟ قال: الذين قصَّ الله في كتابه ذكرهم، فقال: ﴿إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ﴾(الرعد:19)، هم أهل العقول".

"وآداب العلماء زيادة في العقل (فتأدَّب بآداب العلماء)، وطاعة ولاة العدل تمام العز (طاعة الذين يملكون شرعية الحكم، لأنهم لا يأمرون الناس إلا بالعدل)، واستثمار المال تمام المروءة (أي الإنسانية أو الرجولة، فاستثمار المال يقوي موقع إنسانية الإنسان في تلبية حاجاته وفي إعانته من حوله)، وإرشاد المستشير قضاءٌ لحق النعم (حق الله في ما أعطاك من العقل)، وكف الأذى من كمال العقل (لأن أذاك للناس يرتد عليك)، وفيه راحة البدن عاجلاً أو آجلاً" (لأن الإنسان عندها لا يسيء إليه أحد من قريب أو من بعيد).

"يا هشام، إن العاقل لا يحدِّث من يخاف تكذيبه (فعليك أن تضمن سلامة الحديث، وإذا عرفت أن بعض الناس مستعدون دوماً لأن يكذبوك، فاتركهم ولا تتحدث إليهم)، ولا يسأل من يخاف منعه (لماذا يهين نفسه عنده)، ولا يعد ما لا يقدر عليه (لأنه سيظهر فيما بعد كاذباً)، ولا يرجو ما يعنف برجائه (لأن من يرجوه سيصدمه)، ولا يقدم على ما يخاف فوته بالعجز عنه" (لأنه لا يستطيع الوصول إليه، فلماذا المحاولة؟).

الشكر المتواصل

"يا هشام، رحم الله من استحيا من الله حق الحياء، فحفظ الرأس وما حوى، والبطن وما وعى، وذكر الموت والبلى (فحفظ الرأس مع كل ما اشتمل عليه: العينين والأذنين والفم واللسان وقبلها الدماغ، فيحفظ عقله من أن يخطط للشر مثلاً، وحفظ البطن وما يدخله من طعام وشراب، فلا يتناول ما حرَّمه الله، وذكر الموت كي لا يستسلم للحياة وملاذّها)، وعلم أن الجنة محفوفة بالمكاره، والنار محفوفة بالشهوات" (الجنة تستلزم القيام بالمسؤوليات التي فرضها الله، وهي تستلزم الجهد والصبر، والنار طريقها الشهوات والملذات).

الأخلاق لا تتجزأ

"يا هشام، من كفَّ نفسه عن أعراض الناس، أقال الله عثرته يوم القيامة (فعلى الإنسان ألا يتحدث بالبهتان وينال من كرامات الناس أو يسبهم أو يشتمهم)، ومن كفَّ غضبه عن الناس، كفَّ الله عنه غضبه يوم القيامة" (فعلى الإنسان أن "يتسع صدره لامتصاص الكلمة السلبية والتصرف السلبي".

"يا هشام، إنَّ العاقل لا يكذب وإن كان فيه هواه" (فعلى الإنسان أن يكون مع الحقيقة كما يأمر العقل، لأنَّ الكذب سيفتضح يوماً، وسيسقط موقع من كذب عند الناس. والله تعالى عدَّ الكذب من الأمور التي تهزُّ إيمان الناس، قال تعالى: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِ اللهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الكَاذِبُونَ}(النحل/105).

"يا هشام، وجد في ذؤابة سيف رسول الله(ص): إنَّ أعتى الناس على الله من ضرب غير ضاربه، وقتل غير قاتله (فلا تزر وازرة وزر أخرى)، ومن تولى غير مواليه فهو كافر بما أنزل الله على نبيِّه (أي من انتمى إلى جهة غير التي يجب أن ينتمي إليها على أساس الحق)، ومن أحدث حدثاً (بدعة)، أو آوى محدثاً (من يبتدع في الإسلام)، لم يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً (لم يقبل منه توبة).

المعرفة وسيلة للتقرُّب إلى الله

"يا هشام، أفضل ما تقرَّب به العبد إلى الله بعد المعرفة به، الصَّلاة، وبر الوالدين، وترك الحسد والعجب والفخرية"، لأنك كلما عرفت الله أكثر، انفتحت عليه أكثر، وعبدته أكثر، وأخلصت له أكثر، ثم تأتي الصلاة في الدرجة التالية للمعرفة، فالمصلي يخشع بين يدي الله، ويكلّمه بدون حواجز، والصلاة بمفرداتها وألفاظها تربّي في الإنسان الشعور بعظمة الله سبحانه. وبرُّ الوالدين مكافأتهما على التربية في أطوارها.

أما الحسد، وهو تمني أن يزيل الله أي نعمة تجدها عند غيرك، فهو يستبطن الاعتراض على الله، والمؤمن يغبط المؤمن، يسرُّ له، ويتمنى أن يرزقه الله كما رزقه.

وما يتقرَّب به الإنسان إلى الله، ترك إعجاب الإنسان بنفسه، فلا تنتفخ شخصيتك لأي سبب، بل قارن بين ما تملك وبين ما لا تملك مما قد يملكه الآخرون.

ويتقرب إلى الله بترك الفخر، وهو يتجاوز العجب إلى فخر الإنسان بآبائه، فعلى الإنسان ألا يفخر بما عنده، بل عليه أن يعمل على تنميته وبكلّ تواضع.

"يا هشام، أصلحُ أيامك الَّذي هو أمامك (لأن الهمَّ الأساسي يجب أن ينصبَّ على ما يصلح لك مستقبلك)، فانظر أيَّ يوم هو (ادرس التاريخ وأحوال الناس واتَّعظ بها)، فإنَّ الدهر (أيامه) طويلة قصيرة (طويلة في امتدادها، وقصيرة فيما تتضمنه) فاعمل كأنك ترى ثواب عملك (كأنك تنظر إلى جائزة)، لتكون أطمع في ذلك (حتى تتشجّع)، وأعقل عن الله (في آياته ومواعظه)، وأنظر في تصرف الدهر وأحواله، (إذ يكون خيراً هذا اليوم وشرّاً ذاك اليوم)، فإن ما هو آتٍ من الدنيا كما ولَّى منها، فاعتبر بها" (قس الحاضر بالماضي، والمستقبل بالحاضر).

"قال علي بن الحسين(ع): إن جميع ما طلعت عليه الشمس في مشارق الأرض ومغاربها، بحرها وبرها وسهلها وجبلها، عند وليّ من أولياء الله، وأهل المعرفة بحق الله كفيء الظلال (الذي يتحول كيفما تحولت الشمس. ويضيف الإمام الكاظم(ع): أو لا حُرَّ يدع هذه اللماظة لأهلها (واللماظة ما يبقى في الفم من آثار الطعام، والحر هو من لا يستعبده شيء من حطام الدنيا، فيتركها لأهلها)، فليس لأنفسكم ثمن إلا الجنة" (فالجنة هي الثمن الذي تجعله مقابل نفسك).

"با هشام، إن كل الناس يبصر النجوم، ولكن لا يهتدي بها إلا من يعرف مجاريها ومنازلها (مساراتها)، وكذلك أنتم (الذي تملكون الحكمة والعلم)، تدرسون الحكمة، ولن يهتدي بها منكم إلا من عمل بها"، (لأن العلم بلا عمل يبقى مجرد نظريات لا تغني ولا تسمن كثيراً).

بلوغ ذروة السعادة

"يا هشام، إن المسيح(ع) قال للحواريين: يا عبيد السوء (ربما يتحدث عن بعض صفاتهم الإنسانية)، يهولكم طول النخلة، وتذكرون شوكها ومؤونة مراقيها، وتنسون طيب ثمرها ومرافقتها، وهو نفعها، كذلك تذكرون مؤونة عمل الآخرة، فيطول عليكم أمره، وتنسون ما تفيضون إليه في نعيمها ونورها وثمرها". فاصبر على السلبيات لتنال الإيجابيات، لا تفكر في بدايات الأمور وقساوتها، ولكن فكر في نهايات الأمور ونتائجها الطيبة الجيدة)، "يا عبيد السوء نقّوا القمح وطيّبوه وأدقّوا طحنه، تجدوا طعمه ويهنئكم أكله. كذلك فأخلصوا الإيمان وأكملوه، تجدوا حلاوته وينفعكم غبه وعاقبته (نقُّوه من الشرك والرياء والنفاق). بحقٍّ أقول لكم: لو وجدتم سراجاً يتوقد بالقطران (كانوا يضعون القطران داخل السراج ليشتعل ويضيء) في ليلة مظلمة، لاستضأتم به ولم يمنعكم منه ريح نتنه (تتحملون الرائحة الكريهة لتنعموا بالضوء)، كذلك ينبغي أن تأخذوا الحكمة ممن وجدتموها معه، ولا يمنعكم منه سوء رغبته فيها" (لأنه جاهل أو مجنون أو ضال).

عجّلوا بالتوبة

"يا عبيد السوء، بحقٍّ أقول لكم: لا تدركوا شرف الآخرة إلا بترك ما تحبون، فلا تنظروا بالتوبة غداً. فإنَّ دون غد يوماً وليلة، وقضاء الله فيهما يغدو ويروح (فلا تؤجلوا التوبة إلى وقت آخر، لأنكم لا تعرفون ما الذي يأتيكم في الوقت الآخر). يا عبيد السوء، بحقٍ أقول لكم، إن من ليس عليه دَيْن من الناس أروح وأقل هما ممن عليه الدين. وإن أحسن القضاء، وكذلك من لم يعمل الخطيئة، أروح وأقل هماً ممن عمل الخطيئة وإن أخلص التوبة، (فإذا كان عليكم دَيْن، فإنّكم تشعرون بثقله حتى لو كنتم عازمين على وفائه، ومن عمل الخطيئة فإنه يشعر بثقلها على ذاته)، وإن صغار الذنوب ومحقّراتها من مكائد إبليس، يحقّرها لكم، ويصغرها في أعينكم، فتجتمع وتكثر، فتحيط بكم (فهي وإن عددتموها تافهةً، فذلك من مكائد إبليس الذي يدفعكم إلى الاستخفاف بها، ولكنها تجتمع فتصبح عظيمة. وعلى الإنسان من جهة أخرى ألا ينظر إلى حجم معصيته، ولكن إلى من عصاه، وهو الله سبحانه وتعالى).

"بحقّ أقول لكم: إنَّ الناس في الحكمة رجلان: رجل أتقنها بقوله وصدَّقها بفعله، ورجل أتقنها بقوله وضيَّعها بسوء فعله. فشتَّان بينهما. فطوبى للعلماء، بالفعل، وويل للعلماء بالقول (فالفريق الثاني عندما يستمع الناس إليهم، يتمثلون فيهم الحق والعدل والخير... ولكنهم عندما يتابعون سلوكهم، يرون أنهم لا يلتزمون بخطوط الحق). بحقّ أقول لكم: يا عبيد السوء، اتخذوا مساجد ربكم سجوناً لأجسادكم وجباهكم، واجعلوا قلوبكم بيوتاً للتقوى، ولا تجعلوا قلوبكم مأوى للشهوات (فلا بدَّ للمساجد من أن تكون ساحةً يتفاعل الإنسان في داخلها، (إنما هي حبس الجسد للمعاني التي ينفتح عليها المجسد، فلا يعبد جسدُك إلاَّ الله تعالى، ولا تسجن جبهتُك إلاَّ في السجود لله سبحانه وتعالى، أمَّا قلوبكم، فاعمروها بالتقوى لا بالشهوات، لأن توحيد الله لا يجتمع مع شرك الشيطان في قلب واحد). إن أجزعكم عند البلاء لأشدّكم حباً للدنيا (لأن من يحب الدنيا، إذا حرم منها يسقط أمام هذا الحرمان)، وإن أصبركم على البلاء لأزهدكم في الدنيا، (لأن الإنسان "الذي لا يعتبر الدنيا كل همه، فإنه عندما يحرم من شيء منها، لا يشعر بأن حرمانه هذا يمثل الشقاء الأكبر). يا عبيد السوء، لا تكونوا شبيهاً بالحداء الخاطفة، ولا بالثعالب الخادعة، ولا بالذئاب الغادرة، ولا بالأسد العاتية، كما تفعل بالفرائس، (والحداء نوع من الطيور. والقصد: لا تكونوا كمثل هذه السباع عندما تتعاملون مع من تعيشون معهم من الناس)، كذلك تفعلون بالناس، فريقاً تخطفون، وفريقاً تخدعون، وفريقاً تغدرون بهم".

"بحق أقول لكم، لا يغني الجسد أن يكون ظاهره صحيحاً وباطنه فاسداً، كذلك لا تغني أجسادكم التي أعجبتكم وقد فسدت قلوبكم، وما يغني عنكم أن تنقّوا جلودكم وقلوبكم نتنة. لا تكونوا كالمنخل بخرج منه الدقيق الطيب ويمسك النخالة. كذلك أنتم تخرجون الحكمة من أفواهكم، ويبقى الغل في صدوركم".

"يا عبيد السوء، إنما مثلكم مثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه (يجهد نفسه في تعليم ما عنده من علم، وهو لا يعمل بهذا العلم، فهو يحرق نفسه دون أن يستفيد). يا بني إسرائيل (والمسيح أرسل في بني إسرائيل)، زاحموا العلماء في مجالسهم ولو جثواً على الركب (لأنه يريد للمجتمع من حوله أن يكون مجتمعاً مثقفاً وواعياً، لذلك هو يدعوهم إلى أن يتعلموا من العلماء بأن يزاحموهم في مجالسهم ولو جثوا على الركب)، فإن الله يحيي القلوب الميتة بنور الحكمة، كما يحيي الأرض بوابل المطر (فالقلوب تموت بالجهل، وتحيا بالحكمة والعلم). يا هشام، مكتوبٌ في الإنجيل: طوبى للمتراحمين، أولئك هم المرحومون يوم القيامة (فإن كلمة الرحمة تدخل في مفاصل علاقات المجتمع بعضه مع بعض). طوبى للمصلحين بين الناس، أولئك المقربون يوم القيامة (الذين يشعرون بالمسؤولية أمام ما يختلف الناس فيه فيصلحون بينهم). طوبى للمطهَّرة قلوبهم، أولئك هم المتّقون يوم القيامة (فالله تعالى ينظر يوم القيامة إلى قلوب الناس). طوبى للمتواضعين في الدنيا، أولئك يرتقون منابر الملك يوم القيامة" (لأن التكبر هو رداء الله في عظمته، ولا يجوز لأحد منازعة الله في ردائه).

فلسفة الكلام

"يا هشام، قلَّة المنطق حكم عظيم، فعليكم بالصمت، فإنه دعة حسنة، وقلة وزر، وخفّة من الذنوب (فالإنسان عندما يقضي حاجته من الكلام، عليه أن يفكر ويتأمل ويستمع، فلا يستهلك الكلام دون ضوابط، فينحرف عن خط الاستقامة)، فحصنوا باب الحلم (سعة الصدر)، فإنه باب الصبر (لأن فيه ضبط الأعصاب وكتم الغيظ).

بناء الشخصية الإسلامية

"إنَّ الله يبغض الضحك من عجب، (فيضحك الإنسان تعبيراً عن إعجاب بأمر لا بدون سبب، لأنه يتحول إلى حالة غير عقلانية)، والمشاء في غير أرب (أن يحرك رجليه دون قصد مكان محدد)، ويجب على الوالي أن يكون كالراعي، لا يغفل عن رعيته (ليكن في حالة طوارئ دائمة ليلاحظ كل حركة)، ولا يتكبر عليهم (فالإنسان المسؤول خادم لا سيد)، فاستحيوا من الله في سرائركم كما تستحيون من الناس في علانيتكم (لأنكم مكشوفون أمامه في أسراركم)، واعلموا أن الكلمة من الحكمة، ضالة المؤمن (التي يبحث عنها ليجدها)، فعليكم بالعلم قبل أن يرفع (فتفوتكم فرصته. أما كيف يرفع؟) "ورفعه غيبة عالمكم بين أظهركم" ويتابع الإمام(ع): "يا هشام، تعلَّم من العلم ما جهلت، وعلِّم الجاهل ما علمت، عظِّم العالم لعلمه ودع منازعته (لا تنازع العالم في ما تجهله)، وصغر الجاهل لجهله (أعطه المرتبة حسب إمكاناته الضئيلة). يا هشام، إن كل نعمة عجزت عن شكرها بمنـزلة سيئة تؤاخذ بها (لأن شكر النعمة مسؤولية، فلا تتخلَّ عن مسؤوليتك)، قال أمير المؤمنين(ع): إن لله عباداً كسرت قلوبهم خشية الله (تعظيمه في نفوسهم الذي يتحول إلى خشية)، فأسكتتهم عن المنطق (النطق، لأن الهيبة أخذتهم)، وإنهم لفصحاء عقلاء يستبقون إلى الله بالأعمال الزكية، ولا يستكثرون له الكثير، ولا يرضون له من أنفسهم بالقليل (يشعرون بأنهم غير قائمين بحقه تعالى مهما عملوا)، يرون في أنفسهم أنهم أشرار (مقصرون)، وأنهم لأكياس أبرار".

الحياء من الإيمان

يا هشام، الحياء من الإيمان والإيمان في الجنة (لأن الإيمان يردع الإنسان عن أن يقوم بالأعمال القبيحة التي تجعله في حالة حرج أمام الله وأمام الناس، ولذلك فالحياء من الإيمان) وعن رسول الله(ص) يقول: "أما الحياء، فيتشعَّب منه اللين والرأفة (فالحيي لا يلجأ إلى الغلظة)، والمراقبة لله في السر والعلانية، والسلامة واجتناب الشر، والبشاشة والسماحة والظفر وحسن الثناء على المرء في الناس، فهذا ما أصاب العاقل بالحياء، فطوبى لمن قبل نصيحة الله وخاف فضيحته".

ويوضح السيد(قده) معنى الخجل فيقول: "هناك نوع من الحياء قد يمنع الإنسان من أن يتحرك في تدبير أموره وتأكيد مشاعره، بسبب حالة الضعف في نفسه، فيستحيي من أن يخطئ، ويخاف من أن يلومه الناس... بحيث يتحول الحياء عنده إلى حالة شلل في الإرادة، فذاك هو الخجل.

"البذاء من الجفاء والجفاء من النار"، والبذاء هو الفحش في الكلام.

"يا هشام، المتكلمون ثلاثة؛ فرابح وسالم وشاجب، فأما الرابح، فالذاكر لله (يستخدم قدرته على الكلام في ذكر الله) وأما السالم فالساكت (عندما يمكن له أن يثير الباطل في كلماته، فإذا سكت يحصل على السلامة)، وأما الشاجب فالذي يخوض في الباطل".

ثم يضيف الإمام: "إنَّ الله حرَّم الجنَّة على كل فاحش بذيء قليل الحياء، لا يبالي ما قال ولا ما قيل له"(فهو يسقط كرامات الناس، ويسقطون نتيجة ذلك كرامته. وينقل الإمام عن أبي ذر فيقول: "وكان أبو ذر(رض) يقول: يا مبتغي العلم، إن هذا اللسان مفتاح خير ومفتاح شر (يخرج منه ما يؤدي إلى الخير وما يثير الشر، كالفتن وغيرها...) فاختم على لسانك (أغلق عليه) كما تختم على ذهبك وورقك (الفضة).

إيثار رضا الله

"يا هشام، لا يكون الرجل مؤمناً حتى يكون خائفاً راجياً، ولا يكون خائفاً راجياً حتى يكون عاملاً لما يخاف ويرجو). فالله سبحانه وصف نفسه بالرحمة، كما هدَّد بالعقاب، ولا تنافي بين رحمته وعقابه. فعلى الإنسان أن يعمل حتى لا يقع في ما يخاف منه، وأن يعمل لما يحقق رضوانه.

"يا هشام، قال تعالى: وعزتي وجلالي، وعظمتي وقدرتي وبهائي، وعلوّي في مكاني، لا يؤثر عبد هواي على هواه إلا جعلت الغنى في نفسه، وهمه في آخرته، وكففت عنه ضيعته (ضياعه)، وضمنت السماوات والأرض رزقه، وكنت له من وراء تجارة كل تاجر"، فإذا فقد الإنسان نفسه أمام الله سبحانه وتعالى، فلا يكون لذاته في ما يحبه ويهواه أي دور، بل الدور كله لرضا الله تعالى. إن هذا المستوى من الإيمان يمثل أعلى درجات الإيمان، حيث لا ينظر الإنسان إلى ما تريده نفسه، بل ينظر إلى ما يريده ربه تعالى، وجزاء هذه المرتبة الغنى في النفس، والاهتمام بالآخرة، وتهيئة أسباب الربح.

"يا هشام، الغضب مفتاح كلّ شر، (لأن الإنسان لا يدرس النتائج، بل يندفع عشوائياً من خلال ردّ الفعل). يا هشام، أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، (لأن الإيمان انفتاح على عباد الله بكل عناصر الإنسانية).

تاسعاً: الإمام علي بن موسى الرضا(ع)

الإمام الرضا، ثامن أئمة أهل البيت(ع)، ملأ العالم الإسلامي بالصورة الرائعة للأخلاق الإسلامية، في تأكيد القيم الإسلامية، من خلال الممارسة والقدوة، واستطاع أن يطرح كل مفاهيم الإسلام في وجدان الناس وحياتهم.

لقد عاش الإمام الرضا(ع) في مرحلة الصراع بين العباسيين، حيث جرت حرب الأخ مع أخيه، الأمين ضد المأمون، فقُتل الأمين، وراح المأمون يعرض ولاية عهده على الإمام الرضا، نظراً إلى علمه وفقهه وفضله، وكان الإمام يعرف أن القضية ليست عميقةً في فكر المأمون، بل تتصل ببعض الأوضاع الصعبة التي كان يعيشها مع عائلته، بني العباس، من جهة، أو بمواجهة الانتفاضات والثورات الشيعية ضد حكمه من جهة أخرى. وأرسل المأمون الأخوين الفضل والحسن ابني سهل ليطرحا الموضوع معه ويلزمانه به، "فلم يزالا به حتى أجاب، لكن بشرط أن لا يأمر ولا ينهى، ولا يولي ولا يعزل، ولا يتكلم بين اثنين في حكم، ولا يغيِّر شيئاً هو قائم على أصوله. فأجابه المأمون إلى ذلك".

إذاً، استجاب الإمام(ع) من حيث المبدأ، علَّه يستطيع أن يبلِّغ رسالته بشكل أفضل، ولكنه اشترط ألا يتدخل في شؤون الخلافة، احتياطاً لما يعرفه في هذا المجال، ذلك أنه(ع) لم يكن يرى المأمون جاداً في مسألة ولاية العهد. ويروي الشيخ المفيد أنه : "لما جلس الرضا علي بن موسى(ع) في الخلع بولاية العهد، قام بين يديه الخطباء والشعراء، وخفقت الألوية على رأسه، فذُكِرَ عن بعض من حضر ممن كان يختصُّ بالرِّضا(ع) أنه قال: "كنت بين يديه في ذلك اليوم، فنظر إليَّ وأنا مستبشر بما جرى، فأومأ إليَّ أن أدنُ مني، فدنوتُ منه، فقال لي من حيث لا يسمعه غيري: "لا تَشْغَلْ قلبك بهذا الأمر ولا تستبشرْ به، فإنَّه شيءٌ لا يتمُّ".

ومما يؤيِّد أنَّ المأمون لم يكن جادَّاً في مسألة ولاية العهد، ما ذكره الشيخ المفيد أيضاً من أنَّه "لما حضر العيد، وكان قد عُقِدَ للرضا(ع) الأمر بولاية العهد، بعث إليه المأمون في الركوب إلى العيد والصلاة بالناس والخُطبة بهم، فبعث إليه الرضا(ع): "قد علمتَ ما كان بيني وبينك من الشروط في دخول الأمر، فاعفني من الصلاة في الناس"، فقال له المأمون: إنَّما أريد بذلك أن تطمئن قلوب الناس ويعرفوا فضلك، ولم تزل الرُّسُل تَرَدَّد بينهما في ذلك، فلما ألحَّ عليه المأمون أرسل إليه: "إن أعفيتني فهو أحبُّ إليَّ، وإن لم تُعْفني خرجت كما خرج رسول الله(ص) وأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(ع)". فقال له المأمون: اخرج كما شئت، وأمر القوّاد والناسَ أن يبكِّروا إلى باب الرضا(ع).

فاغتسل أبو الحسن(ع) ولبس ثيابه، وتعمَّم بعمامةٍ بيضاء من قطن، ألقى طرفاً منها على صدره وطرفاً بين كتفيه، ومسَّ شيئاً من الطيب، وأخذ بيده عكَّازه، وقال لمواليه: "افعلوا مثل ما فعلت"، فخرجوا بين يديه وهو حافٍ قد شمَّر سراويله إلى نصف الساق، عليه ثيابٌ مشمَّرة، فمشى قليلاً ورفع رأسه إلى السماء وكبَّر وكبَّر مواليه معه، ثمَّ مشى حتى وقف على الباب، فلما رآه القوّاد والجندُ على تلك الحال، سقطوا كلُّهم عن الدواب إلى الأرض، وكبَّر الرضا(ع) على الباب وكبَّر الناسُ معه... وتزعزعت (مَرْو) بالبكاء والضجيج لما رأوا أبا الحسن(ع) وسمعوا تكبيره. وبلغ المأمون ذلك، فقال له الفضل بن سهل ذو الرئاستين: يا أمير المؤمنين، إن بلغ الرضا المُصلَّى على هذا السبيل افتتن به الناس، وخفنا كلّنا على دمائنا، فانفِذْ إليه أن يرجع، فبعث إليه المأمون: قد كلَّفناك شططاً وأتعبناك، ولسنا نحبُّ أن تلحقك مشقَّة، فارجع، وليصلِّ بالناس مَنْ كان يصلِّي بهم على رسمِهِ. فدعا أبو الحسن(ع) بِخُفِّه، فلبسه وركب ورجع، واختلف أمرُ الناس في ذلك اليوم، ولم ينتظم في صلاتهم".

إننا نلاحظ، في هذه القصَّة، أنَّ المأمون وحاشيته كانوا يفكرون في أنَّ الإمام الرضا(ع) سوف يخرج إلى الصلاة خروجاً عادياً على الطريقة التقليدية التي يخرجون بها إلى صلاة العيد من دون روحٍ ولا روحانية.

وانتهى الأمر بالإمام أن لاقى ربه قبل وفاة المأمون، وبينهم من يقول إنه مات مسموماً بأمر من المأمون، ومنهم، كالشيخ المفيد والسيد ابن طاووس، من يشكك في الرواية ويقول إن وفاته كانت وفاةً طبيعيةً.

ويطرح بعضهم تساؤلات حول قبول الإمام(ع) بولاية العهد، ويجيب السيد(قده): "أنَّ فعله(ع) يمثِّل الشرعية، ولذلك فلسنا بحاجةٍ إلى البحث عن أساس الشرعية خارج نطاق ذلك، لأن العصمة التي يتميَّز بها الإمام الرضا(ع)، ولأن الأفق الواسع المفتوح على الإسلام الأصيل في قاعدته الثقافية وامتداداته الفقهية المتمثلة في وعي الأئمة(ع) للإسلام، كلها تكفي في تركيز الشرعية. فهو القدوة التي علينا أن نقتدي بها، وما نستفيده من قضية ولاية العهد، أنه ليس المطلوب مع الخط الإمامي أن ينعزل كلُّ الإماميين عن الانفتاح على أي حكم في العالم، على أساس أنه لا يجوز معاونة الظالمين، بل المطلوب ألا تساعد الظالم في ظلمه، إذ ربما تكون العزلة سبباً في زيادة ضعف الحق وأهله، بل ومساعدةً للظالمين في الابتعاد عن أن يكون لك مركز قوة في دولتهم. صحيح أن بعض الأوضاع السياسية ربما تفرض المقاطعة المرحلية، لكن هذه ليست القاعدة، إذ ربما بدخولك تستطيع أن تحمي بعض المستضعفين.

والقاعدة هي ألا تبتعد عن رفض خط الباطل بالوسائل الممكنة، وتعين أهل الحق بالقدر المتاح، ذلك أن الإمام(ع) يروي عن آبائه(ع) عن الرسول(ص) أنه: "من أرضى سلطاناً يما يسخط الله، خرج عن دين الله تعالى". فالمشاركة والمقاطعة خاضعة للمصلحة الإسلامية العليا، وينبغي أن تدرس كل حالة بمفردها ويتخذ القرار بشأنها. ولنا اليوم أمثلة حية، وبعضها نستفيده من عدونا، فاليهود في أميركا لم ينعزلوا، عندما كان الموقف الأميركي منهم سلبياً، لكنهم اليوم توصلوا إلى أن يسيطروا على السياسة الأميركية، وقد خططوا للدخول إلى جسم العالم كله، وحتى الجسم الإسلامي.

من جهة ثانية، إنَّ الإمام يمثل الشرعية، لا المأمون، والمركز أساساً مركزه الذي أبعدته عنه الظروف كما أبعدت آباءه(ع).

مما تقدَّم، نستنتج أننا يجب أن نكون دائماً حاضرين، لا أن نكون من الأكثرية الصامتة، التي تتحمل ظلمها وظلم مجتمعها ومقدَّساتها ولا تتحرك، علماً أن الواجب أن يكون الإنسان رافضاً لهذا الواقع، على الأقل بقلبه، وهو أضعف الإيمان.

علم الإمام(ع)

كان الإمام بحراً زاخراً بالعلوم، يناقش أرباب كل ملَّة وكل نظرية بنظرياتهم ويفنّدها. فقد كان المأمون يجمع "علماء سائر الملل مثل الجاثليق، ورأس الجالوت، ورؤوس الصابئين، منهم عمران الصابئي والهربذ الأكبر، وأصحاب زرادشت، ونطاس الرومي، والمتكلمين، منهم سليمان المروزي"، ثم يحضر الرضا(ع)، فيسألونه، فيقطعهم "واحداً بعد واحد".

كان الإمام(ع) يجلس إلى النصارى واليهود والصابئة والملاحدة ليحاورهم، وليدخل معهم في حديث الإسلام، مناقشاً أديانهم وأفكارهم، وكانوا ـ حسب شهادة الناس الذين عاصروه وعاصروا تلك الحوارات ـ لا يملكون جواباً أمامه، بل يسكتون سكوت الإنسان الذي لا يجد لديه حجَّةً في الرد عليه.

وروي أنه "لما اختلف الناس في أمر أبي الحسن الرضا(ع)، جُمعت من مسائله (مما سُئِل عنه وأجاب فيه) ثمانية عشر ألف مسألة، وقد روى عنه جماعة من المصنّفين، منهم أبو بكر الخطيب في تاريخه، والثعلبيّ في تفسيره، والسمعانيّ في رسالته، وابن المعتزّ في كتابه وغيرهم".

وعن الهروي قال: "ما رأيت أعلم من علي بن موسى الرضا(ع)، ولا رآه عالم إلاَّ وشهد له بمثل شهادتي، ولقد جمع المأمون في مجالس له، ذوات عدد، علماء الأديان وفقهاء الشريعة والمتكلمين، فغلبهم عن آخرهم، حتى ما بقي أحدٌ منهم إلاَّ أقرَّ له بالفضل وأقرَّ على نفسه بالقصور... ولقد سمعت عليّ بن موسى الرضا(ع) يقول: "كنت أجلس في الروضة ـ بجوار قبر النبي(ص) ـ والعلماء بالمدينة متوافرون، فإذا أعيا الواحد منهم عن مسألةٍ، أشاروا إليَّ بأجمعهم، وبعثوا إليَّ بالمسائل فأُجيب عنها".

ويقول إبراهيم بن العباس: "ما سُئِل الرضا(ع) عن شيءٍ إلاَّ علمه، ولا رأيت أعلم منه بما كان في الزمان إلى وقت عصره، وكان المأمون ـ الخليفة العباسيّ آنذاك ـ يمتحنه بالسؤال عن كلِّ شيء، فيجيبه الجواب الشافي، وكان كلامه كلّه وجوابه وتمثّله انتزاعات من القرآن".

وحول قراءته القرآن يقول(ع): "ما مررت بآيةٍ قطّ إلاَّ فكَّرت فيها، وفي أي شيء أنزلت وفي أيِّ وقت".

وكان أبو الإمام الكاظم(ع) يقول لبنيه: "هذا أخوكم علي بن موسى عالم آل محمد، فاسألوه عن أديانكم، واحفظوا ما يقول لكم".

ويقول الواقدي في وصف الإمام: "كان ثقةً يفتي في مسجد رسول الله(ص) وهو ابن نيف وعشرين سنة. وعندما قدم إلى نيسابور، خرج إليه علماؤها، مثل يحيى بن يحيى وإسحاق بن راهويه، ومحمد بن رافع وأحمد بن حرب وغيرهم، لطلب الحديث والتبرك به.

ويحدِّثنا المؤرخون عن عبادته(ع)، حيث "كان يُكثر بالليل في فراشه من تلاوة القرآن، فإذا مرَّ بآيةٍ فيها ذكْرُ جنَّة أو نار بكى، وسأل الله الجنَّة، وتعوَّذ به من النار". يضيف إبراهيم بن العبَّاس الصولي واصفاً عبادته، فيقول: "وكان قليل النوم بالليل، كثير السهر، يحيي أكثر لياليه من أولها إلى الصبح، وكان كثير الصيام، فلا يفوته صيام ثلاثة أيام في الشهر، ويقول: ذلك صوم الدهر، وكان كثير المعروف والصدقة في السرِّ، وأكثر ذلك يكون منه في الليالي المظلمة، فمن زعم أنَّه رأى مثله في فضله فلا تصدِّق".

ويصفه(ع) وهو يناجي ربَّه: "فإذا كان الثلث الأخير من اللّيل، قام من فراشه بالتسبيح والتحميد والتكبير والتهليل والاستغفار، فاستاك (استعمل المسواك)، ثمَّ توضَّأ، ثم قام إلى صلاة الليل، فصلَّى ثماني ركعات، ويسلِّم في كلِّ ركعتين، يقرأ في الأوليين منها في كلِّ ركعة الحمد مرَّةً، وقل هو الله أحد ثلاثين مرَّة، ويصلِّي صلاة جعفر بن أبي طالب(ع) أربع ركعات، يُسلِّم في كلِّ ركعتين، ويقنت في كلِّ ركعتين في الثانية قبل الركوع وبعد التسبيح، ويحتسب بها من صلاة الليل، ثم يصلي الركعتين الباقيتين، يقرأ في الأولى الحمد وسورة المُلك، وفي الثانية الحمد و"هل أتى على الإنسان"، ثمَّ يقوم فيصلِّي ركعتي الشفع، يقرأ في كلِّ ركعةٍ منهما الحمد مرَّةً، و"قل هو الله أحد" ثلاث مرَّات، و"قل أعوذ بربِّ الفلق" مرَّةً واحدة، و"قل أعوذ بربِّ الناس" مرَّةً واحدة، ويقنت فيها بعد الركوع وبعد القراءة، ويقول في قنوته: "اللّهمّ صَلِّ على محمَّد وآل محمَّد، اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولّنا فيمن تولَّيت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا شرَّ ما قضيت، فإنَّك تقضي ولا يُقضى عليك، إنَّه لا يُذَلُّ من واليت، ولا يُعَزُّ مَنْ عاديت، تباركت ربّنا وتعاليت". ثم يقول: "أستغفر الله وأسأله التوبة" سبعين مرَّةً، فإذا سلَّم جلس في التعقيب ما شاء الله... فإذا قرب من الفجر، قام فصلَّى ركعتي نافلة الفجر، يقرأ في الأولى الحمد و"قل يا أيُّها الكافرون"، وفي الثانية الحمد و"قل هو الله أحد"، فإذا طلع الفجر، أذَّن وصلَّى الغداة ركعتين، فإذا سلَّم، جلس في التعقيب حتى تطلع الشمس، ثمَّ سجد سجدتي الشكر حتى يتعالى النهار.

ويصفه رجاء بن أبي الضحَّاك الذي لازمه في سفره من المدينة إلى (مَرُوْ) فيقول: "فكنت معه في المدينة إلى مرو، فوالله ما رأيت رجلاً كان أتقى لله تعالى منه، ولا أكثر ذكراً لله في جميع أوقاته منه، ولا أشدَّ خوفاً لله عزَّ وجلَّ منه، وكان إذا أصبح صلَّى الغداة، فإذا سلَّم جلس في مصلاَّه يسبِّح الله ويحمده ويكبِّره ويهلّله ويصلِّي على النَّبي(ص) حتى تطلع الشمس، ثم يسجد سجدةً يبقى فيها حتى يتعالى النهار، ثم أقبل على الناس يحدِّثهم ويعظهم الى قُرب الزوال". ويروي أحد أصحابه فيقول: "دخلت على عليّ بن موسى الرضا(ع) وبين يديه إبريقٌ يريد أن يتهيَّأ منه للصلاة، فدنوت منه لأصبَّ عليه، فأبى ذلك، وقال: مه. فقلت له: لِمَ تنهاني أن أصبَّ علي يدك، تكره أن أؤجر؟ قال: تؤجَر أنت وأؤزر أنا. فقلت له: وكيف ذلك؟ فقال: أما سمعت الله عزَّ وجلَّ يقول: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾(الكهف:110). وها أنا ذا أتوضأ للصلاة وهي العبادة، وأكره أن يشركني فيها أحد.

أخلاق الإمام(ع)

كان الإمام(ع) أحسن الناس أخلاقاً، لا يسيء الى أحد، ويستمع إلى الجميع، وكان كريماً ومثال الأدب في جلوسه ومواجهته الناس وفي تواضعه.

يقول إبراهيم بن العبَّاس: "ما رأيت أبا الحسن الرضا(ع) جفا أحداً بكلام قطّ". وكم من الناس كانوا يؤذون أهل البيت(ع) داخل السلطة وخارجها، لكن الإمام كان يملك تهذيب الكلمة، فلا يسيء بها إلى أحد. ويضيف إبراهيم المذكور: "ولا رأيته قطع على أحد كلامه حتى يفرغ منه" (ذلك أنه من الأخلاق أن تكون مستمعاً أكثر مما تكون متكلماً)، "ولا ردَّ أحداً عن حاجة يقدر عليها"، بل "يستعجل قضاءها، لأنه يخاف إذا أخَّر قضاءها أن يستغني ذلك الرجل عنه، فيفقد نعمةً من نِعم الله عليه، وهي قضاء حاجات الناس" "ولا مد رجليه بين يدي جليسه، ولا رأيته اتكأ بين يدي جليسه" حتى لو أحسَّ بالتعب، ولا رأيته شتم أحداً من مواليه ومن مماليكه. ونحن نعرف أن كل من يستخدم عمالاً أو موظفين قد يغضب ويسبُّ ويشتم، ولكنَّ الإمام لم يكن يفعل ذلك، "ولا رأيته تفل، ولا رأيته يقهقه في ضحكه قط، بل كان ضحكه التبسم، وكان إذا خلا، جمع حشمه كلهم عنده، الصغير والكبير، فيحدثهم ويأنس بهم ويؤانسهم. وكان(ع) إذا جلس على المائدة، لا يدع صغيراً ولا كبيراً، حتى السائس والحجام، إلا أقعده معه على مائدته. وقال بعض أصحابه: "كنا مع الرضا(ع) في سفره إلى خراسان، فدعا يوماً بمائدة له، فجمع عليها مواليه (عبيده) من السودان ـ أصحاب البشرة السوداء ـ وغيرهم، فقلت: جُعلت فداك، لو عزلتَ لهؤلاء مائدة؟ فقال: مه ـ اسكت ـ إنَّ الربَّ تبارك وتعالى واحد، والأم واحدة، والأب واحد، والجزاء بالأعمال"، فنحن جميعاً أبناء آدم ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ﴾(الحجرات/13).

وقد تكلَّم معه بعض أصحابه، بما تكلَّم به هذا الشخص، فقال له(ع): "حلفت بالعتق ـ تحرير العبيد ـ ألا أحلف بالعتق إلاَّ أعتقت رقبة، وأعتقت بعدها جميع ما أملك، إن كان يرى أنِّي خير من هذا ـ وأومأ الى عبد أسود من غلمانه ـ بقرابتي من رسول الله(ص)، إلاَّ أن يكون لي عملٌ صالحٌ فأكون أفضل به منه".

وهكذا نجد أن أهل البيت(ع) لا يريدون أن يؤكدوا أن الانتساب إلى رسول الله قيمة تجعل إنساناً أفضل من بقية الناس.

تعاليمه الدينية

تتعلق أهم تعاليم الإمام(ع) الدينية بالألوهية التي تبدأ بالتوحيد، لأن التوحيد هو الأساس، فكل شيء في العقيدة الإسلامية وفي الخط الإسلامي يرجع إلى التوحيد، وبهذا الصدد يقول الإمام(ع): "حدَّثني أبي موسى بن جعفر، قال: حدثني أبي جعفر بن محمد، قال: حدثني أبي محمد بن علي، قال: حدثني أبي علي بن الحسين، قال: حدثني أبي الحسين، قال: حدثني أبي علي بن أبي طالب، قال: حدثني رسول الله عن جبرائيل عن الله أنه قال: كلمة لا إله إلاَّ الله حصني، فمن دخل حصني أمن عذابي". فكلمة "لا إله إلاَّ الله"، وهي شهادة بالتوحيد، تعني الابتعاد عن كلِّ التزامٍ أو طاعةٍ أو خضوعٍ لرأي مخلوق مهما كان. لكن هذه الكلمة لا تعني أن يقولها الإنسان ويرتكب الموبقات ثم ينجو، فالإمام يخاطب من يظنُّ ذلك، ويقول لسائليه على طريق خراسان: لكن "بشرطها وشروطها"، أي "أن تؤمن بالله ورسوله واليوم الآخر، وأن تتبع النور الذي أنزله وهو القرآن، وأن تتبع القيادة الشرعية بشرطها وشروطها، "وأنا من شروطها"، لأنه كان يمثل القيادة الشرعية في خط الإمامة".

أما حول أصول التوحيد وشروطه، فقد أملى الإمام على محمد بن يزيد أحد أصحابه: "الحمد لله فاطر الأشياء إنشاءً، ومبتدعها ابتداعاً بقدرته (فهي تمثل سر الخالق في ما ابتدعه) وحكمته، (إذ وضع كلَّ شيء موضعه)، لا من شيء (سابق) فيبطل الاختراع (لم يخلقها حسب مثال سابق)، ولا لعلة (لسبب) فلا يصح الابتداع، خلق ما شاء كيف شاء (خلق كل ما خلق بمشيئته)، متوحّداً بذلك لإظهار حكمته (بإظهار التناسق)، وحقيقة ربوبيته (لأنّه هو يربي الأشياء وينميها) لا تضبطه العقول (لأنها محدودة وهو مطلق)، ولا تبلغه الأوهام (لا يمكن تصوره)، لا تدركه الأبصار (لأنه ليس جسماً يرى) ولا يحيط به مقدار (لأن المقدار يمثل المحدود)، عجزت دونه العبارة (فلا يمكن أن تعبر عنه)، وكلَّت دونه الأبصار (أبصار العيون وأبصار القلوب)، وضلَّ فيه تصاريف الصفات (فإذا نوَّع الإنسان في وصف الله تعالى، فإنه سيدخل في المتاهات). احتجب بغير حجاب محجوب، واستتر بغير ستر مستور، (وذلك من خلال طبيعة وجوده الذي لا يملك أحد أن يتطلَّع إليه أو يراه). عرف بغيره رؤيةً (أي بالعقل لا بالنظر)، ووُصف بغير صورةً، ونُعت بغير جسم، لا إله إلاَّ هو الكبير المتعال".

وحول ما يصف الله تعالى نفسه به، يجيب الإمام على أسئلة مريديه، فيفسِّر قوله تعالى: ﴿اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}(النور:35)، فيقول(ع): "هو هادٍ لأهل السماء، وهادٍ لأهل الأرض" (يضيء طريق الله في عقولهم، ويوحي الإمام بحسن الظن بالله لمن يريد النجاة، فيقول): "إن الله عزَّ وجلَّ يقول: أنا عند ظن عبدي المؤمن بي، إن ظنَّ خيراً فخير، وإن شراً فشر"، إذا ظنَّ بي خيراً أجزيه خيراً، والعكس بالعكس، فليتوكل المؤمن على الله، لأن ذلك من حسن الظنِّ به تعالى. أما ما هو حد التوكل، فيوضحه الإمام(ع) بالقول: "ألا تخاف مع الله أحداً" فعندما "تتوكل على الله، تفرغ عقلك وقلبك وإحساسك وشعورك من الخوف من أي أحد". لكن هل تقدر في هذه الحالة على كل مخيف؟ عليك أن تحرك قدرتك وقد لا تنتصر، فقد تكون حكمته تعالى بأن يحميك، وقد تكون حكمته بأن يبتليك، لكن لا تظنّنّ أن قدرة أي أحد يمكن أن تضاهي قدرة الله. "ومن هنا، فإن التوكل على الله لا يعني أنك تصل إلى ما تريد دائماً من خلال التوكل، لكن معنى ذلك أن تشعر بالقوة مع الله، لتترك أمرك إليه".

وعليك بطاعة الله، فقد قال الإمام الرضا(ع): "أوحى الله عزَّ وجلَّ إلى نبي من الأنبياء: إذا أُطعت رضيتُ (على من أطاعني)، وإذا رضيت باركت (للإنسان في عمره ورزقه وولده)، وليس لبركتي نهاية (تمتد مع الإنسان طوال حياته)، وإذا عُصيت غضبت، وإذا غضبتُ لعنتُ ولعنتي تبلغ السابع من الورى"، أي تمتدُّ في الذرية. ويقول الإمام عن مريد الطاعة: "أقرب ما يكون العبد من الله تعالى وهو ساجد، وذلك قوله تبارك وتعالى: ﴿وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ﴾"(العلق:19) لأن السجود يمثل غاية الخضوع لله بالعقل والقلب والروح.

أما كلام الله عن سخريته من العباد ومكره وخداعه، فيفسره الإمام بقوله: "إن الله لا يسخر ولا يستهزئ ولا يمكر ولا يخادع، ولكنه يجازيهم (العباد) جزاء السخرية وجزاء الاستهزاء وجزاء المكر والخديعة، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً".

وكذلك في تفسير قوله تعالى: ﴿نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ﴾(التوبة:67) يقول الإمام(ع): إن الله لا ينسى ولا يسهو، وإنما ينسى ويسهو المخلوق المحدث، ألا تسمعه عزَّ وجلَّ يقول: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا﴾(مريم:64)، وإنما يجازي من نسيه ونسي لقاء يومه بأن يُنسيهم أنفسهم"، ونسيهم يعني أهملهم.

وفي تفسير قوله تعالى: ﴿كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ﴾(المطففين:15)، يقول(ع): "إن الله تعالى لا يوصف بمكانٍ يحلّ فيه ليحجب عنه فيه عباده، ولكنه يعني أنهم عن ثواب ربهم محجوبون". وعن قوله تعالى: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ وَالمَلَكُ صَفًّا صَفًّا﴾(الفجر:22)، يقول(ع): "إن الله لا يوصف بالمجيء والذهاب، تعالى عن الانتقال، إنما يعني بذلك: وجاء أمر ربك والملك صفاً صفاً".

العبادة:

يقول الإمام(ع): "إنَّ الله عزَّ وجلَّ أمر بثلاثة مقرون بها ثلاثة أخرى: أمر بالصلاة والزكاة، فمن صلَّى ولم يزكِّ لم تقبل منه صلاته (لأن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وحبس حقوق الله من المنكر والفحشاء)، وأمر بالشكر له وللوالدين، (فمن لم يشكر والديه لم يشكر الله)، وأمر باتقاء الله وصلة الرحمن، (فمن لم يصل رحمه لم يتق الله عزَّ وجلَّ)".

وسأله أحد أصحابه إن كان يستطيع أن يدعو لوالديه وهما لا يذهبان مذهبه، فقال: "أدعُ لهما وتصدَّق عنهما، وإن كانا حيين لا يعرفان الحق فدارهما، فإن رسول الله قال: "إن الله بعثني بالرحمة لا بالعقوق"، فبإمكان "الإنسان أن ينفتح بالرحمة على من لا يلتقي معه في الطريقة أو في المذهب".

غير أنَّ العبادة التي يأمر بها الله ليست مظاهر، بل هي جوهر، إذ يروي الإمام عن آبائه عن علي(ع) قال: "لا تنظروا إلى كثرة صلاتهم وصومهم وكثرة الحج والمعروف وطنطنتهم بالليل، لكن انظروا الى صدق الحديث وأداء الأمانة". ثم إن العبادة تستلزم التأمل: "ليست العبادة كثرة الصيام والصلاة، وإنما العبادة كثرة التفكر في أمر الله" والخضوع له تعالى، وهي تتصل بالعقل، فبمقدار ما يخشع العقل تكون عارفاً بالله.

على أن العبادة والتفكّر ترتبطان بدرجة الإيمان، فليس كل المسلمين في الفضل سواء، يقول الإمام(ع): "إن الإيمان أفضل من الإسلام بدرجة (لأن الإسلام يمثل مجرد التزام بالشكل)، والتقوى أفضل من الإيمان بدرجة"، (لأن الإيمان يبقى حركةً فكريةً ثقافيةً روحية، أما التقوى فتضيف إلى ذلك الممارسة والمعاناة)، ولم يعط بنو آدم أفضل من اليقين، وهو الوضوح الذي ليس فيه أي ضبابية".

أما إذا لم يقم العباد بواجباتهم وارتكبوا المعاصي، فعقاب الله سيطالهم، وبقدر الذنب تكون العقوبة. وكلما ارتكب الناس الذنوب أصيبوا بما لم يكونوا يعلمون: "كلما أحدث العباد من الذنوب ما لم يكونوا يعلمون، أحدث الله لهم من البلاء ما لم يكونوا يعرفون".

ذلك "أن الذنوب لا تمثل مجرد استجابة للذة أو شهوة أو رغبة، بل تمثل عالماً من المشاكل التي تنفذ إلى حياة المذنبين وحياة الناس من حولهم، فتتحول إلى بلاء في الأنفس والأموال العامة والخاصة.

أمَّا خصال المؤمن، فيحدِّدها الإمام بقوله: "لا يستكمل عبدٌ حقيقة الإيمان حتى يكون فيه ثلاث خصال: التفقّه في الدين (وإلا فإنه يمشي على غير هدى)، ومن علامات الفقه الحلم والعلم والصَّمت. إنَّ الصمت باب من أبواب الحكمة". ويتابع الإمام(ع) في خصال المؤمن: "وحسن التقدير في المعيشة (ينظم أموره ويقدّرها في خط التوازن)، والصبر على الرزايا" (المصائب).

على أنَّ الإيمان ليس "خفقة قلب، وليس كلمةً ننطق بها"، بل هو إلى ذلك عمل (بالأركان)، كما يقول الإمام(ع).

وليس الإيمان بأن يعيش الإنسان مظاهر بؤس وفقر، ويردُّ الإمام(ع) في هذا المجال على المتصوفة، فيقول: "ويحكم، إنما يراد من الإمام قسطه وعدله، إذا قال صدق، وإذا حكم عدل، وإذا وعد أنجز، والخير معروف ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾"(الأعراف:32).

إحياء أمر أهل البيت(ع)

يقول الإمام الرضا(ع) كما قال آباؤه: "رحم الله عبداً أحيا أمرنا"، وسئل(ع) عن كيفية ذلك فقال: "يتعلَّم علومنا ويعلّمها الناس، فإن الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتّبعونا".

ويناقش الإمام(ع) مسألة نسبة الفضائل إلى أهل البيت(ع)، فيقول: "إن مخالفينا وضعوا أخباراً في فضائلنا وجعلوها على ثلاثة أقسام: أحدها الغلوّ، (وهي تخرجهم من إطار البشرية إلى ما يقارب الربوبية)، وثانيها التقصير في أمرنا (إنزالنا عن مرتبتنا)، وثالثها التصريح بمثالب أعدائنا (أحاديث سبّ للآخرين)، فإذا سمع الناس الغلوّ فينا، كفّروا شيعتنا ونسبوهم إلى القول بربوبيتنا، وإذا سمعوا التقصير اعتقدوه فينا، وإذا سمعوا مثالب أعدائنا بأسمائهم ثلبونا بأسمائنا. يابن أبي محمود، إذا أخذ الناس يميناً وشمالاً فالزم طريقنا، فإنه من لزمنا لزمناه، ومن فارقنا فارقناه. إن أدنى ما يخرج به الرجل من الإيمان، أن يقول للحصاة نواة (أي يقول بغير حقائق الأشياء)، ثمَّ يدين بذلك ويبرأ ممن خالفه".

ويتهم بعض الأعداء أهل البيت بأنهم يعدُّون الناس عبيداً لهم، ويردُّ الإمام(ع): "اللهم فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت شاهد بأني لم أقل ذلك قطّ، ولا سمعت أحداً من آبائي قاله قطّ، وأنت العالم بما لنا من المظالم عند هذه الأمّة، وأن هذه منها". وعلى عكس ذلك، كان الإمام يرى أن المؤمنين أخوة لهم، لا يتميزون عنهم إلا بالتقوى، أما المسيئون، فلا أخوَّة بينهم وبينهم، فقد كان للإمام أخ يسمى زيد بن موسى، وكان يفسد في المدينة، فبعث إليه المأمون، فأسر وحمل إليه، فأمر أن يُذهب به إلى الإمام، "فلما أدخل عليه، قال له أبو الحسن (الإمام): "يا زيد، غرَّك قول سفلة أهل الكوفة أنَّ فاطمة أحصنت فرجها فحرَّم الله ذريتها على النَّار، ذلك للحسن والحسين خاصّة، لا يتجاوزهما إلى غيرهما، والله ما ينال أحد ما عند الله عزَّ وجلَّ إلا بطاعته. وزعمت أنك تنال بمعصيته، فبئس ما زعمت"، فقال له زيد: أنا أخوك وابن أبيك، فقال له أبو الحسن(ع): "أنت أخي ما أطعت الله عزَّ وجلَّ".

ويسأل أحدهم الإمام(ع): لماذا لم يسترجع أمير المؤمنين فدك عندما تولى الخلافة. فأجاب: "إنّا أهل بيت، إذا ولاَّنا الله عزَّ وجلَّ، لا يأخذ لنا حقوقنا ممن ظلمونا إلا هو ونحن أولياء المؤمنين، إنما نحكم لهم ونأخذ لهم حقوقهم ممن يظلمهم ولا نأخذ لأنفسنا".

خيار العباد:

يقول الإمام(ع): خيار العباد "الذين إذا أحسنوا استبشروا، وإذا أساؤوا استغفروا، وإذا أُعطوا شكروا، وإذا ابتلوا صبروا، وإذا غضبوا غفروا". ويقول(ع) مشيراً إلى العمل: "إن الذي يطلب من فضلٍ يكف به عياله، أعظم من المجاهد في سبيل الله".

وسئل(ع): كيف أصبحت؟ فقال: "أصبحت بأجلٍ منقوص (كلّ يوم ينقص من عمره يوم)، وعمل محفوظ (سواء كان سيّئاً أو حسناً)، والموت في رقابنا، والنار من ورائنا (إذا عصينا)، ولا ندري ما يفعل بنا" (من مغفرة أو رحمة).

وينتقل الإمام إلى المشاكل الكبرى التي تشغل العلماء، فيعالج مسألة القدرة والعدل الإلهيين من جهة أفعال العباد.

ففي مسألة الجبر والتَّفويض، يرفض الإمام أن يكون الله فوَّض إلى العباد أمورهم بالكامل ليحاسبهم يوم القيامة، كما تقول المعتزلة، فيقول: فيقول: "الله أعدل وأحكم من ذلك (فهو لا يجبر أحداً على فعلٍ ثم يحاسبه عليه)، قال الله تعالى: يابن آدم، أنا أولى بحسناتك (لأنها نتجت من العناصر الإيجابية التي أودعتها في وجودك من حواس ووحي وعقل)، وأنت أولى بسيئاتك مني، عملت المعاصي بقوتي التي جعلت فيك".

وحول أفعال العباد: هل هي مخلوقة من قبل الله أم هي من خلقهم، يقول الإمام(ع): "هي والله مخلوقة لله"، ويعلق الراوي: (أراد خلق تقدير لا خلق تكوين). وخلق التكوين كخلق آدم، وخلق السماء والأرض والإنسان، وهو عملية الإيجاد المباشر أو غير المباشر. أما خلق التقدير، فهو خلق الأفعال، ومعنى ذلك أن الله قدَّر للإنسان أن يفعل كذا، أي خلقه، و"خلق له إرادةً وعقلاً ووسائل، وقال له: تصرف بإرادتك وتحمَّل مسؤولياتها، لكن انطلاقة الفعل صادرة عن إرادة الإنسان".

وصية الإمام إلى شيعته:

يوصي الإمام(ع) شيعته عبر السيد عبد العظيم الحسني، فيقول: "يا عبد العظيم، أبلغ عني أوليائي السلام، وقل لهم ألا يجعلوا للشيطان على أنفسهم سبيلاً (أن يدركوا خطواته ووساوسه وألاعيبه)، وأْمرهم بالصدق في الحديث وأداء الأمانة، وأْمرهم بالسكوت (سكوت التفكير لا سكوت الغباء)، وترك الجدال في ما لا يعنيهم (في غير أمور الشريعة والعقيدة والشؤون السياسية والاجتماعية والاقتصادية وأمور المصير) وإقبال بعضهم على بعض (لا يتقاطعوا) والمزاورة، فإن ذلك قربة إليّ، ولا يشغلوا أنفسهم بتمزيق بعضهم بعضاً (تمزيق الواقع الإسلامي الإيماني)، فإني آليت على نفسي أنه من فعل ذلك وأسخط ولياً من أوليائي، دعوت الله عليه ليعذّبه في الدنيا أشدّ العذاب، وكان في الآخرة من الخاسرين. وعرِّفهم أن الله قد غفر لمحسنهم، وتجاوز عن مسيئهم، إلا من أشرك به أو آذى ولياً من أوليائي، أو أضمر له سوءاً، فإن الله لا يغفر له حتى يرجع عنه (أي يتوب)، فإن رجع عنه، وإلا نزع روح الإيمان من قلبه، وخرج من ولايتي، ولم يكن له نصيب في ولايتنا، وأعوذ بالله من ذلك".

تعاليمه الأخلاقية

يقول الإمام(ع): "عليكم بحسن الخلق، فإن حسن الخلق في الجنة لا محالة، وإياكم وسوء الخلق، فإن سوء الخلق في النار لا محالة. إن العبد لينال بحسن الخلق درجة الصائم القائم". ويقول(ع): "قال رسول الله(ص): "أقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحسنكم خلقاً، وخيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي". ويقول(ع) عن رسول الله(ص): "من كان مسلماً فلا يمكر ولا يخدع، فإني سمعت جبرائيل يقول: إن المكر والخديعة في النار" ثم يقول: "ليس منا من يغشُّ مسلماً، وليس منا من خان مسلماً"، سواء بالرأي أو بالمعاملة أو بالكلمة، ثم قال: "إن جبرائيل الروح الأمين نزل عليَّ من عند ربِّ العالمين، فقال: "يا محمد، عليك بحسن الخلق، فإنه يذهب بخير الدنيا والآخرة، ألا وإن أشبهكم بي أحسنكم خلقاً". وقال(ع): عن آبائه عن علي(ع): "قال النبي(ص): من غشَّ المسلمين في مشورة برئت منه الذمة".

وليس المطلوب ألا نؤذي فقط، بل أن نساعد أيضاً، إذ يقول الإمام(ع): "عونك للضعيف أفضل الصدقة"، والضعف قد يكون في القوة أو في العلم... فإذا أعنت فكأنما تصدقت بأفضل من المال". وقد سأل(ع) عن أحسن الناس معاشاً، فأجاب(ع): "أحسن الناس معاشاً من حسن معاش غيره في معاشه"، وأسوأهم من لم يعش غيره في معاشه"، فأحسن الناس من يعطي علمه للجاهلين، وقوَّته للضعفاء، وخبرته لمن يحتاج إليها. ويقول(ع): "من فرَّج عن مؤمنٍ كربه، فرَّج الله عن قلبه يوم القيامة"، عندما يكون الناس في أشدِّ الضيق... أما من امتنع عن المساعدة، فسيحرم من ذلك. وليس من صفات المؤمن أن يتمنّى زوال النعمة عن الآخرين لتكون له، إذ يروي الإمام(ع) عن علي(ع) "قال: قال رسول الله(ص): دبّ إليكم داء الأمم قبلكم، البغضاء والحسد"، وذلك في معرض اللوم.

وبعد هذا وذاك، يوصي الإمام(ع) بالعدل، لأن العدل يعني إعطاء كل ذي حق حقه، كما يوصي بالإحسان أيضاً، وهو التفضل: "استعمال العدل والإحسان مؤذن بدوام النعمة، ولا حول ولا قوة إلا بالله"، فكن عادلاً مع نفسك ومع أهلك، فلا تظلمهم بسلطتك، ومع ربك فلا تشرك به شيئاً، وإذا أرفقت ذلك بالإحسان، فإن الله تعالى سيديم نعمته عليك.

ويهتمّ الإمام اهتماماً خاصاً بالعامل، فيأمر بالاتفاق معه عندما يكلّف بالعمل فيقول: "اعلم أن ما من أحد يعمل لك شيئاً بغير مقاطعة" (اتفاق على أجرة).

التواضع

يدعو الإمام(ع) كما الأئمة الآخرون، إلى التواضع، ويصنّف الإمام أحوال التواضع فيقول: "التواضع درجات، منها أن يعرف المرء قدر نفسه فينـزلها منزلتها بقلب سليم". ويتابع(ع): "لا يحب أن يأتي إلى أحد إلاّ مثل ما يؤتى إليه (قد يشعر، عندما يعامله الناس معاملة حسنة، أن ذلك من حقه)، وإن رأى سيئةً درأها بالحسنة، كاظم الغيظ عافٍ عن الناس"، إذا عامله الناس بالسوء، عليه أن لا يقابلهم بمثله، ذلك أنه "لا يكون الرجل عابداً حتى يكون حليماً". ويضيف الإمام(ع)، أنَّ حدَّ التواضع "أن تعطي الناس من نفسك كما تحب أن يعطوك مثله"، فإذا أحببت أن يتكبروا عليك فتكبَّر، أو أحببت أن يهملوا إنسانيتك، فأهمل إنسانيتهم. وبعكس التواضع، يكون الإعجاب بالنفس أو العجب، ويصفه الإمام(ع) فيقول: "العجب درجات، منها أن يرى العبد سوء عمله حسناً، فيعجبه ويحسب أنه يحسن صنعاً".

كان(ع) يحضُّ على عدم الإسراف والهدر، ولو كان المهدور شيئاً زهيداً، فقد أكل غلمانه يوماً تفاحاً، فتركوا أجزاء منها رموا بها، فقال لهم: "سبحان الله، إن كنتم استغنيتم، فإن أناساً لم يستغنوا، أطعموا من يحتاج إليه "، فإن كثيراً مما يرميه الناس ومما يترفون فيه، يحتاج إليه آخرون. وهكذا، فحق النعمة أن نعين الآخرين، كما إن حقّ النّعمة أيضاً أن نقوم بما فرضه الله علينا، وفي هذا يقول الإمام: "... ما أخَّر الله عن المؤمن من هذه الدنيا خير له ممَّا عجَّل له فيها، اي شيء هي. (الدنيا)؟!... إن صاحب النعمة على خطر، إنه يجب عليه حقوقٌ منها... والله إنه لتكون عليَّ النعم من الله عزَّ وجلَّ، فما أزال منها على وجل، حتى أخرج من الحقوق التي تجب عليَّ... فأحمد ربي على ما منَّ به علي".

العقل:

إن أفضل ما يجب أن تثق به وتستمع إلى كلامه هو العقل، فـ"صديق كل امرئ عقله (لأن العقل يحدد لك الحسن والقبيح، فيميز بين ما يضرك وما ينفعك)،ـ وعدوه جهله"، لأنه يسير بك عكس الطريق. أما كيف يكون المؤمن عاقلاً، فيقول الإمام(ع): "لا يكون المؤمن عاقلاً حتى تجتمع فيه عشر خصال: الخير فيه مأمول (يعطي من علمه وخبرته وماله، "فإذا تطلَّع الناس إليه، فإنهم يأملون خيره)، والشر منه مأمون (لا يفكر في الشر ضد أحد)، والذلّ في الله أحبُّ إليه من العز مع عدوّه (فربما يعطيك أعداء الله موقعاً متقدماً، ولكن عليك أن تفضّل الذل مع الله على هذا الموقع)، والخمول (عدم معرفة الناس به) أشهى إليه من الشهرة (إذا كانت فارغةً من القيمة)، لا يرى أحداً إلا قال: هو خير مني، فإنما الناس رجلان: رجل خيرٌ منه وأتقى، ورجل شر منه وأدنى" (فإن لقي الذي هو شر منه قال): "خير هذا باطن وهو خير له، وخيري ظاهر وهو شر لي (إذ يمكن أن يكون ظاهري مشتملاً على باطن سيّىء، ويمكن أن يكون ظاهر الآخر مشتملاً على باطن خيّر)، وإذا رأى الذي هو خير منه تواضع له ليلحق به، فإذا فعل ذلك، فقد علا مجده، وطاب خيره، وحسن ذكره، وساد أهل زمانه" بهذه الصفات.

أما الفقيه في نظر الإمام، فهو حسن الخلق الصامت المفكر، فـ"من علامات الفقه: الحلم والعلم والصمت"، و"إن الصمت باب من أبواب الحكمة، (لأن الصمت يسمح لك أن تدرس مواقع الأشياء لتضع كل شيء موضعه). إنَّ الصمت يكسب المحبة (لأن صاحبه لا ينفعل، فيكسب بذلك القلوب) إنه دليل على كل خير (لأن مشكلتنا هي في الضوضاء النفسية والاجتماعية والطائفية والسياسية التي تحجب علينا وضوح الرؤية، لكن علينا ألا نصمت صمتاً يشلُّ إرادتنا عن الكلمة، ولكنه الصمت الذي ينظم لنا تفكيرنا).

الشرف والمنـزلة

يقول الإمام(ع) عن أهل البيت(ع): "التقوى شرَّفتهم، وطاعة الله أحظتهم، (و) خير مني من كان أتقى لله وأطوع له".

وعن منـزلة الإنسان عند الآخرين، يسأل أحدهم الإمام: كيف أنا عندك؟ فقال له: "انظر كيف أنا عندك؟"، فإن مشاعر الخير تعدي.


عاشراً: الإمام محمد بن عليّ الجواد(ع)


تاسع أئمة أهل البيت(ع)، ولد في أواخر القرن الثاني للهجرة، وانفتح على الإمامة مبكراً، بحيث يمكن أن نسميه "الإمام المعجزة"، لأنه حيَّر العقول بعلمه الوافر، وإجاباته عن أعقد المسائل، وهو بعد في سن الصبا. وكان(ع) يبين للناس أنه الإمام الحق، عن طريق المقارنة مع من أوتوا العلم والحكمة في سنٍّ مبكرة" فيقول لعليّ بن أسباط: "إن الله احتج في الإمامة بمثل ما احتج به في النبوة، فقال: ﴿وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّاً﴾(مريم:12)، وقال: ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا﴾(يوسف:22)، فقد يجوز أن يؤتى الحكمة وهو صبيّ، ويجوز أن يؤتاها وهو ابن أربعين".

وكان أبوه الإمام الرضا(ع) يزكيه لموضع الإمامة، فقد سئل: إن حدث حدثٌ، فمن يكون بعدك؟ قال: "ابني هذا (وأومأ إليه)، فقالوا: وهو في هذه السن؟ قال: "نعم، وهو في هذه السن، إن الله تبارك وتعالى احتج بعيسى وهو ابن سنتين". وسئل أيضاً: إن كان كون فإلى من؟ قال: "إلى أبي جعفر ابني (ولما استصغروا سنه) قال: "إن الله بعث عيسى بن مريم رسولاً نبياً صاحب شريعة مبتدأة في أصغر من السن الّتي فيها أبو جعفر".

وقد شعر الإمام الرضا(ع) بنوع من الحيرة عند بعض أصحابه في من يكون الإمام فقال: "ما حاجتكم إلى ذلك؟ هذا أبو جعفر قد أجلسته مجلسي وصيرته مكاني". وقال: "إنَّا أهل بيت يتوارث أصاغرنا عن أكابرنا القذة بالقذة (والقذة ريش السهم)، "ذلك أنّ في الإمامة عنصراً غيبياً لا يخضع للوسائل العادية المتعارفة لدى الناس".

وكان أبوه الرضا(ع) يثق به منذ طفولته، يطلب منه وهو (الرضا) في خراسان، أن يوافيه بالأوضاع في الحجاز، فيكتب إليه: "بسم الله الرحمن الرحيم، أبقاك الله طويلاً، وأعاذك من عدوِّك يا ولدي. فداك أبوك، قد فسَّرت لك مالي وأنا حيٌّ سويٌّ، رجاء أن يمنّك الله بالصلة لقرابتك ولموالي موسى وجعفر (الكاظم والصادق)... قال الله: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً﴾(البقرة:245)، وقال: ﴿لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ﴾(الطلاق:7)، وقد أوسع الله عليك كثيراً يا بنيَّ، فداك أبوك، لا يستر في الأمور بحبسها، فتحظى حظَّك، والسلام".

إنَّ هذه الرسالة تريد للإمام الجواد(ع)، وهو في هذه السنِّ المبكرة، أن يتحمَّل مسؤولية قرابته بالصلة، تأكيداً لصلة الرحم، وممارسةً لدوره في القيام مقام أبيه في غيبته عن المدينة، وأن يتابع الأخبار لإرسالها إليه.

وفي رسالةٍ أخرى، يوصيه بالإنفاق على السائلين، وخصوصاً من آل الرسول(ص)، فيقول: "يا أبا جعفر، بلغني أنَّ الموالي إذا ركبتَ أخرجوك من الباب الصغير، وإنَّما ذلك من بخل بهم، لئلا ينال منك أحدٌ خيراً. فأسألك بحقِّي عليك، لا يكن مدخلك ومخرجك إلاَّ من الباب الكبير، وإذا ركبت، فليكن معك ذهبٌ وفضَّةٌ، ثم لا يسألك أحدٌ إلاَّ أعطيته، ومن سألك من عمومتك أن تبرَّه، فلا تُعطه أقلَّ من خمسين ديناراً والكثير إليك، ومَن سألك من عمَّاتك، فلا تعطها أقلَّ من خمسةٍ وعشرين ديناراً والكثير إليك، إنِّي أريد أن يرفعك الله، فأنفق ولا تخش من ذي العرش إقتاراً".

وهذه الرسالة تؤكِّد على الإمام الجواد(ع)، ألاَّ يخضع للمحيطين به من الخدم والأتباع الذين كانوا يتعقَّدون من سؤال الناس، ولا سيما الأقرباء له، في حاجاتهم، حتى يعزلوه عن المجتمع، ويبعدوه عن العلاقة الإنسانية بأفراده، مما يحتاجه في موقع إمامته المستقبلي.

وهكذا ظهرت على الإمام(ع) دلائل النبوغ منذ نعومة أظفاره، فقد كان إلى جانب بعض الصبية الذين يلعبون في الطريق، وإذا بموكب المأمون مقبل، ففر الصبية وبقي الجواد، فوقف الخليفة، وقال له: يا غلام، ما منعك من الانصراف مع الصبيان؟ فقال له محمد الجواد فوراً: "يا أمير المؤمنين، لم يكن بالطريق ضيق لأوسعه عليك بذهابي، ولم يكن لي جريمة فأخشاها، وظني بك حسن، أنك لا تضر من لا ذنب له، فوقفت". هذه "الكلمات العاقلة المتزنة تدل على وعي عميق للأمور"، وهي تدل على "شجاعة الموقف وجرأة الخطاب وصلابة الإرادة، مما لا يصدر عن صبي... بل تكشف عن عقل مفكر واسع منفتح على الواقع من خلال ملكة قدسية ربانية".

ونظراً إلى مواهبه(ع)، شغف به المأمون، وأراد أن يزوجه ابنته أم الفضل، "فاعترض العباسيون، وراحوا يذكّرون بما بينهم وبين الطالبيين من حساسيات، وكانوا يخشون أن يوليه عهده كما ولى أباه.

فقال لهم المأمون: "أمَّا ما بينكم وبين آل أبي طالب، فأنتم السبب فيه، ولو أنصفتم القوم لكان أولى بكم، وأمَّا ما كان يفعله من كان قبلي بهم، فقد كان قاطعاً للرحم، وأعوذ بالله من ذلك، والله ما ندمتُ على ما كان مني من استخلاف الرّضا، ولقد سألته أن يقوم بالأمر وأنزعه من نفسي فأبى، وكان أمر الله قَدراً مقدوراً. وأما أبو جعفر (محمد بن عليّ)، فقد اخترته لتبريزه على أهل الفضل كافةً في العلم والفضل مع صغَر سنِّه، والأعجوبة فيه بذلك، وأنا أرجو أن يظهر للناس ما قد عرفته منه، فليعلموا أنَّ الرأي ما رأيت فيه.

فقالوا: إنَّ هذا الصبيّ وإن راقك منه هَدْيُه، فإنَّه صبيٌّ لا معرفة له ولا فقه، فأمهله ليتأدَّب، ثم اصنع ما تراه بعد ذلك. فقال لهم: ويحكم، إنني أعْرَفُ بهذا الفتى منكم، وإنَّ هذا من أهل بيتٍ عِلمُهم من الله وموادّه وإلهامه، لم يزل آباؤه أغنياء في علم الدين والأدب عن الرعايا الناقصة عن حدِّ الكمال، فإن شئتم فامتحنوه بما يتبيَّن لكم به ما وصفتُ من حاله".

فاتصلوا بقاضي القضاة يحيى بن أكثم، وطلبوا منه أن يحرجه في مسألة عويصة، فحضَّر القاضي المسألة وأتى مجلس المأمون، وطرح عليه المسألة، فقال: ما تقول في محرم (أثناء الحج) قتل صيداً؟

فقال له أبو جعفر: "قتله في حلٍّ أو حَرَم؟ عالماً كان المُحْرِم أم جاهلاً؟ قتله عمداً أم خطأ؟ حرَّاً كان المحرم أم عبداً؟ صغيراً كان أم كبيراً؟ مبتدئاً بالقتل أم معيداً؟ من ذوات الطير كان الصيدُ أم من غيرها؟ من صِغار الصيد كان أم من كبارها؟ مُصِرّاً على ما فعل أم نادماً؟ في الليل كان قتلُه للصيد أم في النهار؟ مُحرماً كان بالعمرة إذ قتله أو بالحج كان مُحرماً".

فتحيَّر يحيى بن أكثم، وبان في وجهه العجز والانقطاع، وتلجلج حتّى عرف أهل المجلس عجزه، فقال المأمون: ... أعرفتم الآن ما كنتم تنكرونه؟"، وطلب المأمون من الإمام أن يسال قاضي القضاة، فاستأذنه وقال له:

"أخبرني عن رجلٍ نظر إلى امرأةٍ في أوَّل النهار فكان نظره إليها حراماً عليه، فلما ارتفع النهار حلَّت له، فلما زالت الشمس حَرُمت عليه، فلما كان وقت العصر حلَّت له، فلما غربت الشمس حَرُمت عليه، فلما دخل العشاء الآخرة حلَّت له، فلما كان وقت انتصافُ الليل حَرُمَت عليه، فلما طلع الفجر حلَّت له. ما حالُ هذه المرأة، وبماذا حلَّت له وحرُمت عليه؟".

فقال له يحيى: لا والله ما أهتدي إلى جواب هذا السؤال، ولا أعرف الوجه فيه، فإن رأيت أن تُفيدنا به.

فقال له أبو جعفر(ع): "هذه امرأة أمَةٌ لرجلٍ من الناس، نظر إليها أجنبيٌّ في أول النهار، فكان نظره إليها حراماً عليه، فلمَّا ارتفع النهار ابتاعها من مولاها فحلَّت له، فلما كان الظهر أعتقها فحَرُمَت عليه، فلما كان وقت العصر تزوَّجها فحلّت له، فلما كان وقتُ المغرب ظاهر منها فحرُمت عليه، فلما كان وقت العشاء الآخرة كفّر عن الظِهار فحلَّت له، فلما كان نصف الليل طلَّقها واحدةً فحرمت عليه، فلما كان عند الفجر، راجعها فحلَّت له".

فأقبل المأمون على من حضره من أهل بيته فقال لهم: هل فيكم أحد يجيب عن هذه المسألة بمثل هذا الجواب؟

ومن دلائل سعة علمه، أن دخل عليه قوم من الشيعة من أهل الأطراف، فسألوه عن ثلاثين ألف مسألة، فأجاب وله عشر سنين.

وقد روى عنه جمعٌ من العلماء، وقد عدَّدهم السيد الأمين ـ رحمه الله ـ فقال: "قال الخطيب (البغدادي) في تاريخ بغداد: أسند محمد بن علي (الجواد) الحديث عن أبيه (الرضا)... وفي المناقب: كان بابه عثمان بن سعيد السمَّان، ومن ثقاته أيوب بن نوح بن درَّاج الكوفي، وجعفر بن محمد بن يونس الأحول، والحسين بن مسلم بن الحسن، والمختار بن زياد العبدي البصري، ومحمد بن الحسين بن أبي الخطاب الكوفي، ومن أصحابه شاذان بن الخليل النيسابوري، ونوح بن شعيب البغدادي، ومحمد بن أحمد المحمودي، وأبو يحيى الجرجاني، وأبو القاسم إدريس القمّي، وعلي بن محمد، وهارون بن الحسن بن محبوب، وإسحاق بن إسماعيل النيسابوري، وأبو حامد أحمد بن إبراهيم المراغي، وأبو علي بن بلال، وعبد الله بن محمد الحصيني، ومحمد بن الحسن بن شمون البصري.

وقال (صاحب المناقب) في موضع آخر: وقد روى عنه المصنفون، نحو أبي بكر أحمد بن ثابت في تاريخه، وأبي إسحاق الثعلبي في تفسيره، ومحمد بن منده بن مهربذ في كتابه".

هذا وقد أفتى عبد الله بن موسى الكاظم جماعته من الناس بفتاوى غير دقيقة، إلا أن الإمام حضر قبل انصرافهم، فأعادوا السؤال عليه، فأجابهم وخاطب عم أبيه عبد الله بن موسى بقوله: "لا إله إلاَّ الله يا عمّ، إنه عظيم عند الله أن تقف غداً بين يديه، فيقول لك: لِمَ تفتي عبادي بما لم تعلم، وفي الأمة من هو أعلم منك؟". وهكذا، فيجب ألا يجلس لتعليم الناس من ليس أهلاً، ولا سيما في "مجلس أهل البيت، الذين عودوا الناس على أن يجيبوهم بالحقيقة التي لا ريب فيها".

هذا ويتصدى الإمام لتفسير غوامض القرآن، فيسأل عن قسم الله تعالى بالليل والنهار والنجم...، فيقول: "إن الله عزَّ وجلَّ يقسم من خلقه بما يشاء، وليس لخلقه أن يقسموا إلا به عزَّ وجلَّ".

أما عن سعود الأيام وبركتها، فيهنّئه أحدهم بزواجه بقوله: "يا مولاي، لقد عظمت علينا بركة هذا اليوم"، فيجيب الإمام(ع): "يا أبا هاشم، لقد عظمت بركة الله علينا فيه"، فلا تنسب البركة إلى اليوم، بل إلى الله تعالى. ويسأل أبو هاشم المذكور: فما نقول في اليوم؟ فيجيب(ع): "تقول فيه خيراً يصيبك". فإذا ظنَّ العبد خيراً بربه، أعطاه الخير.

الإيمان:

يقول الإمام(ع): "المؤمن يحتاج إلى ثلاث خصال: توفيق من الله (بأن يفيض عليه من ألطافه بما يفتح عقله ويغني قلبه)، وواعظ من نفسه (يحاسب نفسه، فإن رأى فيما فعل خيراً ازداد منه، وإن رأى شراً أقلع عنه)، وقبول من ينصحه". ويقول الإمام في معرض آخر: "لن يستكمل العبد حقيقة الإيمان حتى يؤثر دينه على شهوته، ولن يهلك حتى يؤثر هواه وشهوته على دينه"، لأن الدين من الحقيقة، وهو يؤدي إلى تركيز "موقف الإنسان على أرض صلبة لا اهتزاز فيها"، وهو ينجي من عذاب الآخرة، فعلى الإنسان ألا يطيع شهواته وغرائزه، لأنها تودي به إلى الهلاك.

ويشجِّع الإمام(ع) المؤمنين المخلصين العاملين في سبيل الله، فهو يكتب إلى أحد أصحابه وكان متولياً نشر أفكار أهل البيت وجمع الحقوق الشرعية: "بسم الله الرحمن الرحيم. يا علي (علي بن مهزيار الأهوازي)، أحسن الله جزاك وأسكنك جنَّته، ومنعك من الخزي في الدنيا والآخرة، وحشرك الله معنا. يا عليّ، قد بلوتُك وخبرتك في النصيحة والطاعة والخدمة والتوقير والقيام بما يجب عليك، فلو قلت إنِّي لم أرَ مثلك، لرجوت أن أكون صادقاً، فجزاك الله جنَّات الفردوس نُزُلاً، فما خفي عليَّ مقامك (فهو(ع) يتابع أعمال مواليه حتى وهم في الأمصار البعيدة)، ولا خدمتك في الحرِّ والبرد، في الليل والنهار، فأسأل الله إذا جمع الخلائق للقيامة، أن يحبوك برحمة تغتبط بها، إنَّه سميع الدعاء.

إن هذا الكتاب يدلُّ على أن الإمام الجواد(ع) كان في أسلوبه التشجيعي للمخلصين من أصحابه، يؤكد لهم الثقة بهم، والتقويم لأعمالهم ولدرجاتهم في الإخلاص والنصيحة والطاعة، ليزدادوا بذلك إخلاصاً، وليشعروا بأنَّ القيادة الإسلامية الإمامية غير بعيدةٍ عن كلِّ ممارساتهم الصحيحة الخالصة.

ويرفع إليه أن أحد ولاة العباسيين ممن يؤيدون أهل البيت، قد ثقل عليه دفع الخراج، فيكتب إليه: "بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد، فإن موصل كتابي هذا ذكر عنك مذهباً جميلاً، وإن مالك من عملك ما أحسنت فيه، فأحسن إلى إخوانك، واعلم أن الله عزَّ وجلَّ سائلك عن مثاقيل الذر والخردل". فلا يكن الموقع السلطوي شأناً شخصياً، بل مسؤوليةً، وعلى المسؤول ممارسة الإحسان في عمله، وأن يكون دقيقاً في حسابات ما اؤتمن عليه.

وهكذا، لم يكن الإمام(ع) يتساهل في أكل الأموال بالباطل، فقد سرق أحدهم مبلغاً من المال وأتى الإمام ليسامحه، فقال له: "أنت في حلّ" (ولما خرج من عنده قال(ع)): "أحدهم يثب على مال آل محمد وفقرائهم ومساكينهم وأبناء سبيلهم، فيأخذه، ثمَّ يقول: اجعلني في حلٍّ، أتراه ظنَّ بي أني أقول له: لا أفعل؟ والله ليسألنهم الله يوم القيامة عن ذلك سؤالاً حثيثاً". (وهكذا فبعضهم يواجه المسؤول عن المال بأسلوب الإحراج، فيوافق دون أن يكون راضياً، والقاعدة تقول: "المأخوذ حياءً كالمأخوذ غصباً".

برُّ الوالدين

ويسأله أحدهم عن أسلوب معاملة أبيه المعادي لأهل البيت(ع)، فيكتب(ع) إليه: "... قد فهمت كتابك وما ذكرت من أمر أبيك، ولست أدعُ الدعاء لك إن شاء الله، والمداراة خيرٌ لك من المكاشفة ـ يعني ما دام أنَّه أبوك، فحاول معه باللطف والحسنى، فلعله يميل إليك، وإلى ما أنت فيه بعد ذلك ـ ومع العُسر يسرٌ، فاصبر إنَّ العاقبة للمتقين. ثبَّتك الله على ولاية من تولَّيت، نحن وأنتم في وديعة الله الذي لا تضيع ودائعه". ويقول هذا الرجل إنَّ أباه بعد ذلك انفتح عليه، وأصبح لا يخالفه في أي شيء من أموره، وذلك بفضل دعاء الإمام وتوجيهه له.

التسليم لله:

يقول الإمام(ع): "كيف يضيع من الله كافله، وكيف ينجو من الله طالبه، ومن انقطع إلى الله وكله الله إليه، ومن عمل على غير علم، كان ما يفسد أكثر مما يصلح. من أطاع هواه أعطى عدوَّه مناه". كيف يضيع من كفله الله في رزقه وتفاصيل حياته؟ وهل يقدر على النجاة من يهرب من ربه؟ أما الذي يبدأ العمل دون تخطيط، فسوف يتعرض عمله للفساد، ومن يخضع لهواه، يحقق لعدوه (الشيطان) أمنياته.

هذا وقد حمل للإمام بزّ (قماش ثمين)، فسلب في الطريق، فكتب: "إن أنفسنا وأموالنا من مواهب الله الهنيئة وعواريه المستودعة (هي معارة لنا من الله)، يمتّع بما متّع منها في سرور وغبطة، ويؤخذ ما أخذ منها في أجر وحسبة (فعندما يأخذها الله، نحتسبها عند الله ليعطينا الأجر)، فمن غلب جزعه على صبره، حبط أجره، ونعوذ بالله من ذلك". فعلى المؤمن ألا يسقط أمام الخسارة المادية، بل أن يتماسك ويحتسبها عند الله.

الأخلاقيات:

يشجع الإمام(ع) على اصطناع المعروف والتحلي بالمروءة، فيقول:

"إن في الجنة باباً يقال له المعروف، لا يدخله إلا أهل المعروف... فإنَّ أهل المعروف في دنياهم هم أهل المعروف في الآخرة".

وفي المروءة يقول(ع): "حَسْبُ المرء من كمال المروءة تركُه ما لا يَجْمُلُ به، ومن حيائه ألاَّ يلقى أحداً بما يكره، ومن أدبه ألا يترك ما لا بدَّ له منه، ومن عرفانه علمُه بزمانه، ومن ورعه غضُّ بصره وعفة بطنه، ومن حُسن خُلُقه كفُّه أذاه، ومن سخائه برُّه بمن يجب حقه عليه وإخراجه حقّ الله من ماله، ومن إسلامه تركه ما لا يعنيه، وتجنُّبه الجدال والمراء في دينه".

والمروءة مفهوم يختصر العناصر الإنسانية التي تمثل التوازن، ما يوحي بالكمال الأخلاقي والاتزان المسلكي.

هذا ومن الأخلاق والدّين الخروج من أموال الناس، فقد أتى الإمام رجلٌ يقول له: إنِّي أريد أن ألزم مكة والمدينة وعليَّ دين، فما تقول؟ فقال(ع) له: "إرجع فأدّه إلى مؤدّي دينك (لمن يفي عنك الدَّين)، وانظر أن تلقى الله عزَّ وجلَّ وليس عليك دين، إن المؤمن لا يخون". فمجاورة مكة والمدينة لا تبرِّر لهذا الإنسان أن لا يفي بدينه.

ويعظ الإمام أحد أصحابه الذي طلب منه ذلك، قال: "توسَّد الصبر (اجعله كالوسادة لنومك)، واعتنق الفقر (اصبر أمام تحديات الحرمان)، وارفض الشهوات (لأنها تقودك إلى البعد عن الحق)، وخالف الهوى (لأنه يصدك عن الحق)، واعلم أنك لن تخلو من عين الله"، فأنت تحت رقابته أينما كنت، فراقب نفسك في كل صغيرة وكبيرة.

أما ما يحذّر منه الإمام فأمور عديدة، كالنفاق والتسويف ومصاحبة الشرير والخائن. ففي النفاق، يقول الإمام(ع): لا تكن ولياً لله في العلانية، وعدواً له في السر"، بحيث تكون أمام الناس مؤمناً، ولكن إذا خلوت مع نفسك تصبح عدواً لله في أعمالك". والتسويف في التوبة أو فعل الخير قد يجعلهما متعذرين ويفوّت إمكانيتهما، لذا يقول الإمام(ع): "تأخير التوبة اغترار، وطول التسويف حيرة، والاعتلال على الله هلكة، والإصرار على الذنب أمن لمكر الله، ولا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون"، فالاعتلال على الله، وترك المبادرة لتحصيل رضاه، يؤديان إلى الهلكة عندما يتابع صاحبهما ارتكاب المعصية تلو المعصية".

وحول معاملة الخائنين، يقول الإمام(ع): "كفى بالمرء خيانةً أن يكون أميناً للخونة"، بحيث يدافع عنهم ويحفظ أسرارهم ويبرِّر لهم خيانتهم.

أما في مسألة الاستماع إلى النّاس والتأثر بما يقولون، فيقول الإمام(ع): "من أصغى إلى ناطق فقد عبده" (عندما ينشدُّ إليه بفكره وقلبه)، فإن كان الناطق يؤدي عن الله فقد عبد الله (فأنت تعبد الله إذا أصغيت إلى النبي والإمام والولي...)، "وإن كان الناطق ينطق على لسان إبليس فقد عبد إبليس"، لأنه يتحدث بالفتنة والجريمة والخطايا والشر.

وأما مصاحبة الشرير، ففيها كل الأذى: "إياك ومصاحبة الشرير، فإنه كالسيف المسلول، يحسن منظره، ويقبح أثره". لأن للصاحب تأثيراً نفسياً وروحياً وأخلاقياً في صاحبه، فعندما تريد مصاحبة إنسان، فلا تنظر إلى صورته ونسبه... بل انظر إلى أخلاقه.

وفاة الإمام(ع):

يقول السيد(رض) في وفاته(ع): قال الشيخ المفيد: "ورد بغداد لليلتين بقيتا من المحرّم سنة عشرين ومائتين، وتُوفي بها في ذي القعدة من هذه السنة، وقيل: إنَّه قضى مسموماً، ولم يثبت بذلك عندي خبر لأشهد به، ودُفِن في مقابر قريش (في بغداد) في ظهر جدِّه أبي الحسن موسى بن جعفر(ع)، وكان له يوم قُبض خمس وعشرون سنة وأشهر".

حادي عشر: الإمام علي بن محمد الهادي(ع)

عاشر أئمة أهل البيت(ع) ولد الإمام الهادي في المدينة في النصف من ذي الحجة سنة 212 هـ، وعاصر ستة من خلفاء بني العباس: المعتصم والواثق والمتوكل والمنتصر والمستعين والمعتز. وعانى الإمام مع كل من عاصرهم أشكالاً من المعاناة، حيث كان يشي به جواسيسهم ويستدعيه خلفاؤهم. ففي المدينة، كان أمير الحرب والصلاة "بريحة" العباسي يشي به إلى المتوكل، حتى طلبه المتوكل إلى سامراء، فبناء على وشايةٍ من المذكور، أرسل المتوكل كتاباً إلى الإمام مليئاً بالاحترام، فخشي بريحة، الذي كان يضايق الإمام(ع)، من أن يشكوه إلى المتوكل، وهدده إن فعل بقوله: "قد علمت وقوفك (معرفتك) على أني كنت السبب في حملك، وعليَّ حلف بأيمان مغلظة، لئن شكوتني إلى أمير المؤمنين أو إلى أحد من خاصته، لأجمرنّ نخلك، ولأقتلن مواليك، ولأغورنَّ عيون ضيعتك ولأفعلن ولأصفن".

ولكنَّ الإمام ردَّ بكلّ عظمته وأخلاقيته، فالتفت إليه وقال له: "إن أقرب عرضي إياك (شكوتي) على الله البارحة، وما كنت لأعرضك عليه، ثم أشكوك إلى غيره من خلقه"، فانكب عليه بريحة وضرع إليه واستصفاه، فقال له: "قد عفوت عنك".

أما رسالة المتوكل، فكانت مليئةً بالمخادعة، ومناسبتها أن عاملاً آخر على المدينة سعى لدى الخليفة بالإمام، فكتب الإمام إلى المتوكل يذكر تحامل الوالي عليه، ويكذّبه في ما سعى، فدعاه المتوكل إلى سامراء بكتاب رقيق جاء فيه: "بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد: فإنَّ أمير المؤمنين عارف بَقَدْرِكَ، راعٍ لقرابتك، موجب لحقِّك، مُؤثِرٌ من الأمور فيك وفي أهل بيتك ما يُصلح الله به حالك وحالَهم، ويُثبت به عزَّك وعزّهم، ويُدْخِلُ الأمن عليك وعليهم، يبتغي بذلك رضى ربِّه وأداءَ ما افترض عليه فيك وفيهم ـ فهو يعرف أنَّ هناك واجباً أو فريضةً في احترام أهل البيت(ع) ـ وقد رأى أمير المؤمنين صَرْفَ عبد الله بن محمد عما كان يتولاَّه من الحرب والصلاة بمدينة الرسول(ص)، إذ كان على ما ذكرت من جهالته بحقِّك، واستخفافه بقدرك، وعند ما قَرَفك (اتَّهمك) به ونسبك إليه من الأمر الذي علم أمير المؤمنين براءَتك منه، وصِدْقَ نيَّتك في برّك وقولك، وإنَّك لم تؤهِّل نفسك لما قُرفْتَ بطلبه، وقد ولَّى أمير المؤمنين ما كان يلي من ذلك محمد بن الفضل، وأمره بإكرامك وتبجيلك، والانتهاء إلى أمرك ورأيك، والتقرُّب إلى الله وإلى أمير المؤمنين بذلك ـ نلاحظ هنا كيف يستخدم المغالطات، فهو يريد أن يضعه تحت الإقامة الجبرية، لكنه يحاول أن يستخدم اللين واللطف في رسالته ـ وأمير المؤمنين مشتاقٌ إليك، يحبُّ إحداث العهد بك والنظر إليك، فإن نَشِطْتَ لزيارته والمُقام َ قبلَه، ما أحببت، شخصت، ومن اخترت من أهل بيتك ومواليك وحشمك على مُهلة وطمأنينة، ترحلُ إذا شئت، وتنـزل إذا شئت، وتسير كيف شئت، وإن أحببت أن يكون يحيى بن هَرْثَمة مولى أمير المؤمنين ومن معه من الجند، يرتحلون برحيلك ويسيرون بسيرك، فالأمرُ في ذلك إليك، وقد تقدَّمنا إليه بطاعتك. فاستخر الله حتى توافي أمير المؤمنين، فما أحَدٌ من إخوته وولده وأهل بيته وخاصَّته ألطف منه منـزلةً، ولا أحمدَ له أثَرَة، ولا هو لهم أنْظَرَ، وعليهم أشْفَقَ، وبهم أبرَّ، وإليهم أسْكَنَ منه إليك، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته"...



احترامه وقداسته

رغم موقف بني العباس من الإمام، فإنه كان يفرض احترامه على قادتهم وعلى أمرائهم، كما على عامة الناس الذين عرفوه. فأهل الحرمين، وهم ليسوا جميعاً من شيعته، كانوا يكنون له الاحترام الشديد. فبعد وشاية بريحة به، وجَّه المتوكل يحيى بن هرثمة، وكتب معه كتاباً إلى الإمام جليلاً ليقدم إلى سامراء، كما رأينا.

وقد مرض المتوكل وشارف على الموت، فنذرت أمه إنْ عُوفيَ أن تحمل إلى أبي الحسن عليّ بن محمد (الهادي) مالاً جليلاً من مالها، فلمَّا عُوفِي المتوكِّل بعد هذا النذر، فبُشِّرت بتعافيه، حملت إلى أبي الحسن(ع) عشرة آلاف دينار تحت خَتْمِها، واستقلَّ المتوكِّل من علَّته... فلما كان بعد أيَّام، سعى البطحاني (أحد أعوان السلطة) بأبي الحسن(ع) إلى المتوكِّل وقال: عنده سلاحٌ ومال. فتقدَّم المتوكِّل إلى سعيد الحاجب أن يهجم ليلاً عليه، ويأخذ ما يجد عنده من الأموال والسلاح ويحمله إليه). وهنا يحدِّث إبراهيم بن محمد بأنَّ سعيد الحاجب قال له): صرتُ إلى دار أبي الحسن(ع) بالليل، ومعي سُلَّمٌ، فصعدت منه إلى السطح، ونزلتُ من الدرجة إلى بعضها في الظُلمة، فلم أدرِ كيف أصل إلى الدار، فناداني أبو الحسن(ع) من الدار: "يا سعيد، مكانك حتى يأتوك بشمعة"، فلم ألبث أن أتوني بشمعةٍ، فنـزلت، فوجدتُ عليه جُبّة صوف وقلنسوة منها وسجَّادته على حصير بين يديه وهو مقبلٌ على القِبلة. فقال لي: "دونك البيوت"، فدخلتها وفتشتها فلم أجد فيها شيئاً، ووجدت البدرة مختومةً بخاتم أمِّ المتوكِّل، وكيساً مختوماً معها، فقال لي أبو الحسن(ع): "دونك المصلّى"، فرفعته فوجدتُ سيفاً في جفنٍ ملبوس. فأخذتُ ذلك وصرتُ إليه، فلمَّا نظر (المتوكل) إلى خاتم أمِّه على البَدْرَةِ، بعث إليها فخرجت إليه، فسألها عن البدرة، فأخبرني بعضُ خَدَمِ الخاصَّةِ أنَّها قالت: كنت نذرتُ في علَّتك إنْ عُوفيت أن أحمل إليه من مالي عشرة آلاف دينار، فحملتها، إليه، وهذا خاتَمُك على الكيس ما حرَّكه (لم يفتح الإمام(ع) الصرَّة)، وفتح الكيس الآخر، فإذا فيه أربعماية دينار، فأمر أن يُضمَّ إلى البدرة بدرةٌ أخرى، وقال لي: احملْ ذلك إلى أبي الحسن، وأردُد عليه السيف والكيس بما فيه. فحملت ذلك إليه واستحييت منه، فقلت له: يا سيدي، عزَّ عليَّ دخول دارك بغير إذنك، ولكني مأمور، فقال لي: ﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ﴾(الشعراء/227).

وهكذا نشاهد أنَّ أمَّ المتوكِّل عندما مرض ولدها، لم تجد أحداً في المجتمع الإسلامي تتقرَّب وتتشفَّع به إلى الله غير الإمام الهادي(ع)، ما يدلُّنا على أنَّ قداسة الإمام الهادي(ع) كانت تعيش في وجدان المسلمين.

أما الشخص الذي أرسله المتوكِّل إلى المدينة (يحيى بن هرثمة)، فيقول: "ذهبت إلى المدينة، فلمَّا دخلتها، ضجَّ أهلها ضجيجاً عظيماً ما سمع الناس بمثله، خوفاً على علي (الهادي)... لأنه كان محسناً إليهم، ملازماً للمسجد، لم يكن عنده ميل إلى الدنيا... فحعلت أسكنهم وأحلف لهم أني لم أؤمر فيه بمكروه... ثمَّ فتشت منزله، فلم أجد فيه إلا مصاحف وأدعية، وكتب العلم، فعظم في عيني، وتوليت خدمته بنفسي، وأحسنت عشرته".

ويتابع ابن هرثمة: "فلما قدمت به بغداد، بدأت بإسحق بن إبراهيم الطاهري، وكان والياً، فقال لي: يا يحيى، إن هذا الرجل قد ولده رسول الله(ص)، والمتوكِّل من تعلم، فإن حرَّضته عليه قتله"، ثم صرت به إلى سرّ من رأى (سامراء)، فبدأت بوصيف التركي، فأخبرته بوصوله، فقال: لئن سقطت منه شعرة، لا يطالب بها سواك... فلما دخلت على المتوكِّل، سألني عنه، فأخبرته بحسن سيرته وسلامة طريقه وورعه وزهادته، وأني فتشت دراه فلم أجد غير المصاحف، وكتب العلم، وأن أهل المدينة خافوا عليه، فأكرمه المتوكِّل وأحسن جائزته، وأجزل برَّه وأنزله معه سرّ من رأى".

ومن مظاهر هيبة الإمام، ما رواه محمد بن الحسن بن الأشتر العلوي، قال: "كنت مع أبي بباب المتوكِّل وأنا صبي في جمع من الناس، ما بين طالبيّ (هاشمي) إلى عبَّاسيّ إلى جنديّ إلى غير ذلك، وكان إذا جاء أبو الحسن(ع) ترجَّل الناس كلُّهم حتى يدخل. فقال بعضهم لبعض: لِمَ نترجَّل لهذا الغلام، وما هو بأشرفنا ولا بأكبرنا ولا بأسنّنا ولا بأعلمنا؟ فقالوا: والله لا ترجَّلنا له، فقال لهم أبو هاشم (الجعفريّ): والله لترجلنّ له صغاراً وذلَّةً إذا رأيتموه. فما هو إلاَّ أن أقبل وبصروا به، فترجَّل له الناس كلُّهم، فقال له أبو هاشم: أليس زعمتم أنَّكم لا تترجَّلون له؟ فقالوا: والله ما ملكنا أنفسنا حتى ترجَّلنا". وهكذا أدخل الله هيبته في نفوس الناس، حتى أعدائه.

وإلى هذا، ينقل المؤرخون أنَّ المتوكِّل عندما حبس الإمام الهادي(ع) ودفعه إلى علي بن كركر، قال(ع): "أنا أكرم على الله من ناقة صالح، ﴿تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ﴾(هود:65). فلما كان الغد، أطلقه المتوكِّل. وفي اليوم الثالث، وثب على المتوكِّل ثلاثة من قادة العسكر، فقتلوه، وأقعدوا ولده المنتصر خليفة".

الجانب السياسي والدعوي:

كان الإمام كآبائه من بعد الحسين(ع)، يهيئ الناس ليكونوا مؤمنين حقيقيين، وليواجهوا الانحرافات في الشريعة والعقيدة، ولم يكن يرى الظرف ملائماً للثورة ضد الخلافة العباسية، ثورةً حقيقيةً كما يؤمن بها أهل البيت، إلاَّ أنَّه كان يقيم تنظيماً محكماً، ويتبين هذا من كتاب أرسله إلى نواح من العراق يخبر شيعته أنَّه عيَّن شخصاً مسؤولاً من قبله، فيقول: "أحمد إليكم ما أنا عليه من عافيةٍ وحُسن عائدة، وأُصلِّي على نبيِّه وآله أفضل صلواته وأكمل رحمته ورأفته، وإنِّي أقمت أبا عليٍّ بن راشد مقام الحسين بن عبد ربه، ومَن كان قبله من وكلائي وصار في منزلته عندي، وولَّيته ما كان يتولاَّه غيره من وكلائي قبلكم، ليقبض حقِّي، وارتضيته لكم، وقدَّمته في ذلك، وهو أهلُه وموضعه... فصيروا ـ رحمكم الله ـ إلى الدفع إليه وإليَّ، وألاَّ تجعلوا له على أنفسكم علَّة، فعليكم بالخروج عن ذلك، والتسرُّع إلى طاعة الله، وتحليل أموالكم، والحقن لدمائكم، وتعاونوا على البرِّ والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان، واعتصموا بحبل الله جميعاً، ولا تموتنَّ إلاَّ وأنتم مسملون، فقد أوجبت طاعته طاعتي، والخروج إلى عصيانه الخروج إلى عصياني، فالزموا الطريق يأجركم الله ويزدكم من فضله، فإنَّ الله بما عنده واسعٌ كريم، متطوِّلٌ على عباده رحيم، نحن وأنتم في وديعة الله وحفظه، وكتبتُه بخطّي، والحمد لله كثيراً".

إن التدقيق في هذه الرسالة، يرينا أنَّ الإمام الهادي(ع) كان يملك جهازاً منظَّماً من الوكلاء الذين كان يراقبهم ويعمل على تبديلهم من وقت إلى آخر لأسباب مختلفة.

إنه يوصي أصحابه بالالتزام بهذا الإنسان، والتعاون معه على البر والتقوى، لا على الإثم والعدوان، ما قد يوحي بضرورة المراقبة لعمله، بالرغم من كونه مرضياً عند الإمام، وهذا يعدُّ "الأساس في نظام الوكلاء في المرجعيات الدينية، كأساس للارتباط بين المرجعية وقاعدتها".

إلا أنه إذا كان مهتماً بالتنظيم، ويرى أن الثورة لم يحن زمانها، فإنه لم يكن يساير في الحق، وهذا شعره أمام المتوكِّل ينطق بذلك. فقد طلب منه المتوكِّل أن ينشد شعراً، فاختار أبياتاً منها:

باتـوا على قلل الأجيال تـحرسهم
    


    

غلب الرجـال فما أغنتهم القلل

حتى آخر الأبيات، فبكى المتوكِّل، لأن الإمام "نقله من أجواء الدعة إلى أجواء الموت والقبر والآخرة".


علمه:

كان الإمام الهادي معلِّم الناس ومعلِّم العلماء، حتى ذُكر أنَّ الذين رووا عنه علومه بلغوا ما يقارب المائة وخمسةٍ وثمانين راوياً، والراوي عادةً يمثِّل موقعاً ثقافياً متقدّماً في ذلك الوقت. وقد روى المؤرِّخون أنَّ من ثقاته: "أحمد بن حمزة بن اليسع، وصالح بن محمد الهمداني، ومحمد بن جزال الجمَّال، ويعقوب بن يزيد الكاتب، وأبو الحسين بن هلال، وإبراهيم بن إسحاق، وخيران الخادم، والنضر بن محمد الهمذاني. ومن وكلائه: جعفر ين سهل الصّقل. ومن أصحابه: داود بن زيد، وأبو سليمان زنكان، والحسين بن محمد المدائني، وأحمد بن إسماعيل بن يقطين، وبشر بن بشَّار النيشابوري الشاذاني، وسليم بن جعفر المروزيَّ، والفتح بن يزيد الجرجانيّ، ومحمد بن سعيد بن كلثوم، ومعاوية بن حكيم الكوفي، وعليّ بن معد بن معبد البغداديّ، وأبو الحسن ابن رجا العبرتائي".

ومن المسائل التي عالجها الإمام، مسألة الجبر والتفويض، ومسألة الغلو.

الجبر والتفويض:

حدثت في زمنه مشكلة الذين يقولون بالجبر، وأن الله تعالى أجبر عباده على أعمالهم، فليس للعباد اختيار في ما يطيعون أو يعصون، فالطاعة من الله والمعصية من الله.

وكان هناك اتجاه التفويض الذي يقول: إن الله فوَّض الأمر إلى خلقه، فهو خلقهم وانعزل عنهم. وكان أصحاب هذين الاتجاهين بحسب الظاهر خارج المدينة. فأرسل الإمام(ع) رسالةً يشرح لهم فيها حقائق الأمور، ويقول: "من عليٍّ بن محمد، سلامٌ عليكم وعلى من اتبع الهدى ورحمة الله وبركاته، فإنَّه ورد عليَّ كتابكم، وفهمت ما ذكرتم من اختلافكم في دينكم، وخوضكم في القدر، ومقالة مَنْ يقول منكم بالجبر ومَنْ يقول بالتفويض، وتفرُّقكم في ذلك وتقاطعكم وما ظهر من العداوة بينكم، ثم سألتموني عنه وبيانه لكم، وفهمت ذلك كلّه...

فأمَّا الجبر الذي يلزم من دان به الخطأ، فهو قولُ من زعم أنَّ الله جلَّ وعزَّ أجبر العباد على المعاصي وعاقبهم عليها، ومن قال بهذا القول، فقد ظلم الله في حكمه وكذَّبه وردَّ عليه قوله: ﴿وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾(الكهف:49) وقوله: ﴿ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾(الحج/10) وقوله: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾(يونس:44)، مع آي كثيرة في ذكر هذا، فمن زعم أنَّه مجبرٌ على المعاصي، فقد أحال بذنبه على الله، وقد ظلمه في عقوبته، ومن ظلم الله فقد كذَّب كتابَه، ومن كذَّب كتابه فقد لزم الكفر بإجماع الأمَّة... وأمَّا التفويض الذي أبطله الصَّادق(ع)، وأخطأ مَنْ دان به وتقلَّده، فهو قول القائل: إنَّ الله جلَّ ذكره فوَّض إلى العباد اختيار أمره ونهيه وأهملهم، وفي هذا كلامٌ دقيق لمن يذهب إلى تحريره ودقَّته، وإلى هذا ذهبت الأئمة المهتدية من عترة الرسول(ص)، فإنَّهم قالوا: لو فوَّض إليهم على جهة الإهمال، لكان لازماً له رضا ما اختاروه واستوجبوا منه الثواب، ولم يكن عليهم فيما جنوه العقاب إذا كان الإهمال واقعاً... فمن زعم أنَّ الله تعالى فوَّض أمره ونهيه إلى عباده، فقد أثبت عليه العجز، وأوجب عليه قبول كلّ ما عملوا من خيرٍ أو شرٍّ، وأبطل أمر الله ونهيه ووعده ووعيده، لعلَّه ما زعم أنَّ الله فوَّضها إليه، لأنَّ المفوَّض إليه يعمل بمشئيته، فإن شاء الكفر أو الإيمان، كان غير مردود عليه ولا محظور، فمن دان بالتفويض على هذا المعنى، فقد أبطل جميع ما ذكرنا من وعده ووعيده وأمره ونهيه، وهو من أهل هذه الآية: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ القِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ العَذَابِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾(البقرة:85)، تعالى عما يدين به أهل التفويض علوّاً كبيراً.

لكن نقول: إنَّ الله جلَّ وعزَّ خلق الخلق بقدرته، وملَّكهم استطاعة تعبّدهم بها، فأمرهم ونهاهم بما أراد، فقبل منهم اتّباع أمره ورضي بذلك لهم، ونهاهم عن معصيته، وذمَّ من عصاه، وعاقبه عليها، ولله الخِيَرَةُ في الأمر والنهي، يختار ما يريد ويأمر به، وينهى عمَّا يكره ويعاقب عليه بالاستطاعة التي ملَّكها عباده لاتِّباع أمره واجتناب معاصيه، لأنَّه ظاهر العدل والنصفة والحكمة البالغة، بالغ الحجَّة بالإعذار والإنذار، وإليه الصفوة، يصطفي من عباده مَنْ يشاء لتبليغ رسالته واحتجاجه على عباده، اصطفى محمَّداً(ص) وبعثه برسالاته إلى خلقه".

الغلوّ

جاء في زمانه من يدَّعي أنَّ الإمام هو الرب أو هو النبي، ويفسر الصلاة والصوم والحج على أنها معرفة الإمام. وراجعه شيعته بذلك، فكتب الإمام الهادي(ع): "كذب ابن حسكة عليه لعنة الله، وبحسبك أنِّي لا أعرفه في مواليَّ، ما له؟ لعنه الله، فوالله ما بعث الله محمَّداً والأنبياء قبله إلا بالحنيفيَّة والصلاة والزكاة والحج والصيام والولاية، وما دعا محمَّد(ص) إلاَّ إلى الله وحده لا شريك له، وكذلك نحن الأوصياء من وُلده عَبيدُ الله، لا نشرك به شيئاً، وإن أطعناه رحمنا، وإنْ عصيناه عذَّبنا، ما لنا على الله من حجَّة، بل الحجَّة لله علينا وعلى جميع خلقه، أبرأ إلى الله ممن يقول ذلك، وأنقض إلى الله من هذا القول، فاهجروهم لعنهم الله، وألجئوهم إلى ضيق الطريق".

رفض الإمام الهادي(ع) إذاً هذه المزاعم رفضاً قاطعاً، بتأكيده العبودية المطلقة لله تعالى، وبأنهم المأمورون بطاعة أوامره ونواهيه، والمنهيون عن عصيانها. ثمَّ كان إعلان البراءة من هؤلاء من خلال البراءة من هذا الفكر الكافر المنحرف، والتأكيد على هجرانهم وتضييق الأمر عليهم... وهذا ما ينبغي لنا أن ننفتح عليه ونؤكده أمام كل الانحرافات التي تأخذ بالغلو أو بما يقرب منه في الاقتراب بهم إلى مواقع الألوهية، كما لو كانوا يقومون بدور الله في الخلق والرزق والإحياء والإماتة، ولكن بإذنه.

وفي مناسبة أخرى، كتب الإمام إلى أحد أصحابه: "ليس هذا ديننا فاعتزله".

لقد وقف الإمام أمام هذه الفئة التي تحولت إلى جماعة تغلو في الدين، وحاربهم حرباً لا هوادة فيها، حتى إنه أمر بقتل بعض هؤلاء إذا لم يرتدعوا عن ذلك.

القرآن

وحول غضاضة القرآن وتجدده على الزمان، يقول الإمام: "إن الله تعالى لم يجعله لزمان دون زمان، ولا لناسٍ دون ناس، فهو في كل زمان جديد، وعند كلِّ قومٍ غضّ إلى يوم القيامة".

فأي كتاب يتقادم العهد عليه ينساه الناس، فكأنما يفقد تأثيره لكثرة قراءة الناس له، بينما ترى القرآن كلما قرئ أكثر، وامتد به الزمان أكثر، كان جديداً أكثر. إنه نزل "ليكون نوراً للناس، فهو إذاً يعالج واقعةً معينةً يطرحها كنموذج من نماذج المبدأ العام، ونحن نستوحي من القضية الخاصة في القرآن القضية العامة".

لكنَّ المسلمين ابتلوا بمن يفسرون القرآن على هواهم، فكان الإمام(ع) ينهى عن هذا الأسلوب، ويتشدَّد مع أصحابه في ذلك، ويفسر هو القرآن كما يجب ويسأله أصحابه ويجيبهم. ومن أمثلة ذلك أن سألوه عن التوبة النصوح، فكتب إليهم: "أن يكون الباطن كالظاهر وأفضل من ذلك".

ويسأل الإمام عن قوله تبارك وتعالى: "﴿فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ﴾(يونس:94)، مَن المخاطب بالآية؟ فإن كان المخاطب فيها النبي(ص)، أليس قد شك في ما أنزل الله؟ وإن كان المخاطب به غيره، فعلى غيره إذاً أنزل الكتاب؟ قال موسى: فسألت أخي عن ذلك، قال: إنَّ المخاطب بذلك رسول الله(ص)، ولم يكن في شكٍّ ممَّا أنزل الله، ولكن قالت الجهلة: كيف لا يبعث إلينا نبيَّاً من الملائكة، إنه لم يفرِّق بينه وبين غيره في الاستغناء عن المأكل والمشرب والمشي في الأسواق.

فأوحى الله إلى نبيِّه: ﴿فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ﴾(يونس:94) بمحضر من الجهلة: هل بعث الله رسولاً قبلك إلاَّ وهو يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، ولك بهم أسوة، وإنَّما قال: ﴿فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ﴾ ولم يكن ـ أي لم يكن في شك ـ ولكن لينصفهم، كما قال له(ص): ﴿فقُلْ تَعالوا نَدْعُ أبناءَنا وأبْنَاءكُمْ ونِساءَنا ونِسَاءَكُمْ وأنفُسَنَا وأنفُسَكُمْ ثُمَّ نبْتَهِلُ فنَجْعَل لعنَةَ الله على الكاذبين﴾"(آل عمرن:61).

فكما "هم شاكُّون، فلنفترض أنك في موقع الشك، وذلك من أجل أن تجتذب هؤلاء لتحتج عليهم بذلك". ثم يقول الإمام الهادي(ع): "ولو قال: تعالوا نبتهل فنجعل لعنة الله عليكم، لم يكونوا يجيئون للمباهلة، وقد عرف أن نبيكم مؤدّ عنه رسالته، وما هو من الكاذبين، وكذلك عرف النبي(ص) أنه صادق في ما يقول: ولكن أحبّ أن ينصف من نفسه".

إنَّ هذا يجعل محاورك يقف معك بقلب مفتوح، لأنك ساويت نفسك به، وأعطيته النصف من نفسك، وهذا تطبيق للآية الكريمة التي تقول: ﴿وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾(سبأ:24).

تعاليمه

ينقل لنا الرواة تعاليم الإمام(ع) في مسألة الإيمان ومسألة العقل ومسألة التقوى.

الإيمان

كان الإمام على فراش الموت، فعاده أحد أصحابه ويدعى "أبا دعامة"، ولما همَّ بالانصراف، قال له: "يا أبا دعامة، قد وجب عليَّ حقك، أحدثك بحديث تسرُّ به"، قال: فقلت: ما أحوجني إلى ذلك يا بن رسول الله، قال: "حدَّثني أبي محمد بن علي، قال: حدَّثني أبي علي بن موسى، قال: حدَّثني أبي موسى بن جعفر، قال: حدَّثني أبي جعفر بن محمد، قال: حدَّثني أبي محمد بن علي، قال: حدَّثني أبي علي بن الحسين، قال: حدثني أبي الحسين بن علي(ع)، قال: حدَّثني أبي علي بن أبي طالب(ع)، قال: قال لي رسول الله: "يا علي: اكتب، قال: فقلت ما أكتب؟ فقال: اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، الإيمان ما وقر في القلوب وصدَّقته الأعمال، والإسلام ما جرى على اللسان وحلَّت به المناكحة". قال أبو دعامة: فقلت: يا بن رسول الله، والله ما أدري أيهما أحسن، الحديث أم الإسناد؟ فقال: "إنها لصحيفة بخطِّ علي بن أبي طلاب(ع)، وإملاء رسول الله(ص) نتوارثها صاغراً عن كابر".

وحول سعود الأيام ونحوسها، ينهى الإمام أحد أصحابه عن الاعتقاد بهذا الأمر، فيقول(ع): "يا حسن، هذا وأنت تغشانا، ترمي بذنبك مَنْ لا ذنب له؟!" قال الحسن: فأثاب إليَّ عقلي وتبيَّنتُ خطأي، فقلت: مولاي أستغفر الله، فقال: "يا حسن، ما ذنب الأيام حتى صرتم تتشاءمون بها إذا جوزيتم بأعمالكم فيها"، فما تواجهونه هو نتيجة طبيعية للأعمال ﴿ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا﴾(الرُّوم:41)، قال الحسن: أنا استغفر الله ابداً، وهي توبتي يا بن رسول الله، قال: "والله ما ينفعكم، ولكن الله يعاقبكم بذمّها على ما لا ذمّ عليها فيه، أما علمت يا حسن أنَّ الله هو المعاقب والمجازي بالأعمال عاجلاً وآجلاً"، قلت: بلى يا مولاي، قال(ع): لا تعد ولا تجعل للأيام صنعاً في حكم الله".

قيمة العقل:

يؤكد الإمام قيمة العقل بعد معاجز الأنبياء، الذين كان كل منهم يأتي قومه بمعجزة في مجال ما يشتهرون به، فموسى(ع) أتى بسحر فاق سحر سحرة مصر، وعيسى(ع) أتى بالشفاء في مجتمع مصاب بالأمراض، والرسول(ص) أتى بالفصاحة والبلاغة التي أعجزت الفصحاء والبلغاء، وهي القرآن.

وإذا كان الأنبياء والرسل هم الحجج في أزمانهم، فما الحجة اليوم؟

قال: فقال(ع): "العقل يعرف به الصَّادق على الله فيصدّقه، والكاذب على الله فيكذِّبه"، قال: فقال ابن السكيت: هذا والله هو الجواب.

ونلاحظ هنا، أنَّ الإمام(ع) يريد أن يؤكِّد ما أكَّده الإسلام في القرآن وفي بعض الأحاديث القدسيَّة، من أنَّ العقل هو حجَّة الله على الإنسان، وأنَّ الله يأمر العقل بما يأمر به، وينهى العقل بما ينهى عنه، وأنَّه يثيب الإنسان ويعاقبه على قدر عقله.

إنَّ الإمام الهادي(ع) لم يشر إلى الحجة بصراحة، ولكن بطريقة غير مباشرة، "فالعقل عندما يملك العناصر الأساسية التي يمكن أن يتحرك فيها... يكتشف الحجة، وهو الصادق الذي يعرف من خلال صدقه أنه يصدق عن الله، ويعرف الكاذب الذي يمكن أن يكشف كذبه عندما يكذب على الله"، فهو الإمام.

التقوى:

يقول الإمام(ع): "من اتقى يُتقى (أي يدخل الله هيبته في قلوب الناس) ومن أطاع الله يطاع، ومن أطاع الخالق لم يبالِ بسخط المخلوقين".


ثاني عشر: الإمام الحسن بن علي العسكري(ع)


الإمام الحادي عشر من أئمة أهل البيت(ع). ولد الإمام الحسن بن علي العسكري في المدينة عام 232 هـ، وعاش ثماني وعشرين سنةً، وتوفي سنة 260 هـ. ويقول الشيخ المفيد: "كان الإمام بعد أبي الحسن علي بن محمد(ع)، ابنه أبا محمد الحسن بن علي، لاجتماع خلال الفضل فيه، وتقدّمه على كافة أهل عصره في ما يوجب له الإمامة، ويقضي له الرئاسة في العلم والزهد وكمال العقل والعصمة والشجاعة والكرم وكثرة الأعمال المقرّبة إلى الله". وبالرغم من أنه لم يعش كثيراً، وبالرّغم من صغر سنه، استطاع، كما يقول السيد(قده) أن يستولي على ثقة المجتمع كله. ولقب الإمام بالعسكري، لأنه كان من سكان "العسكر"، أي سامراء التي بناها الخلفاء العباسيون للجند، وكانت وفاته سنة 260هـ. وفي مرضه الأخير، أرسلت السلطة الأطباء لمعالجته، والبقاء إلى جانبه، حتى إذا قبضه الله إلى جواره، أرسل الخليفة إلى العلماء والقضاة لينظروا إليه، وليشهدوا بأنه مات موتاً طبيعياً، حتى لا تتهم الخلافة بقتله.

وكان للإمام ثقاة وأصحاب كثر، فقد ذكر من ثقاته: علي بن جعفر، وأبو هاشم داود بن القاسم الجعفري (وقد عاصر خمسةً من الأئمة)، وداود بن أبي يزيد النيسابوري، ومحمد بن علي بن بلال، وعبد الله بن جعفر القمّي، وأبو عمرو عثمان بن سعيد العمريّ الزيات، وإسحاق بن الربيع الكوفيّ، وأبو القاسم جابر بن يزيد الفارسي، وإبراهيم بن عبيد الله بن إبراهيم النيسابوريّ.

ومن وكلائه: محمد بن أحمد بن جعفر، وجعفر بن سهيل الصّيقل، وقد أدركا أباه وابنه.

ومن أصحابه: محمَّد بن الحسن الصفَّار، وعبدوس العطَّار، وسريُّ بن سلامة النيسابوريّ، وأبو طالب الحسن بن جعفر المنافاي، وأبو البختري.

وكان الإمام يفرض احترامه على الكافة، فعندما أعلنت وفاته، ضجَّت سامراء ضجةً واحدة، وانطلق كل الناس في تشييعه، وعطِّلت الأسواق، وركب بنو هاشم والقواد والكتاب؛ فكانت سرّ من رأى يومئذٍ شبيهاً بالقيامة.

أما فضله، فكان يعترف به أصحابه وأخصامه، وينقل لنا التاريخ بعضاً من قصص مكانته في القلوب:

"كان أحمد بن عبد الله بن خاقان على الضياع والخراج، وهو أحد أولاد رجال الدولة العباسيَّة، وكان أبوه وزيراً للمعتمد، بـ(قُم)، فجرى في مجلسه يوماً ذكرُ العلويَّة ومذاهبهم، وكان شديد النصْب والانحراف عن أهل البيت(ع)، فقال: ما رأيت ولا عرفت بسُرَّ من رأى (سامرّاء) من العلويَّة مثل الحسن بن علي بن محمد بن الرضا في هَدْيه وسكونه وعفافه ونُبْله، وكبْرَتِه (إكباره) عند أهل بيته وبني هاشم كافَّةً، وتقديمهم إيَّاه على ذوي السِّن منهم والخَطَر (المقام الكبير)، وكذلك كانت حاله عند القوَّاد والوزراء وعامَّة النَّاس.

فأذكُر أنني كنت يوماً قائماً على رأس أبي وهو يؤمّ مجلسه للنَّاس، إذ دخل حجَّابه، فقالوا: أبو محمد ابنُ الرّضا بالباب، فقال بصوتٍ عالٍ: ائذنوا له. فتعجَّبتُ مما سمعت منهم ومن جسارتهم أن يُكَنُّوا بحضرة أبي، ولم يكن يُكنَّى عنده إلا خليفةٌ أو وليُّ عهدٍ ومَنْ أمر السلطان أن يُكَنَّى، فدخل رجلٌ أسمر، حَسَنُ القامة، جميل الوجه، جيّد البدن، حديث السن، له جلالةٌ وهيئةٌ حَسَنة، فلما نظر إليه أبي، قام فمشى إليه خُطَى، ولا أعلمه فعلَ هذا بأحدٍ من بني هاشم والقوَّاد، فلمَّا دنا منه وجلس إلى جانبه مقبلاً عليه بوجهه، وجعل يكلِّمه بنفسه وأنا متعجِّبٌ مما أرى منه، إذ دخل الحاجب، فقال: الموفّق (ابن المتوكِّل العباسي وأخو الخلفاء المعتزّ والمهدي والمعتمد) قد جاء، وكان الموفَّق إذا دخل على أبي، تقدّم حجَّابه وخاصَّة قوَّاده، فقاموا بين مجلس أبي وبين باب الدَّار سماطين إلى ان يدخل ويخرج، فلم يزل أبي مقبلاً على أبي محمد (العسكري) يحدِّثه، حتى نظر إلى غلمان الخاصَّة، فقال حينئذٍ له: إذا شئتَ جعلني الله فداك، ثم قال لحجَّابه: خذوا به خلفَ السِماطين لا يراه هذا ـ يعني الموفَّق ـ فقام وقام أبي، فعانقه ومضى".

ويتابع أحمد بن خاقان قوله: "فسألت أبي عن هذا الرجل، فقال: يا بني، ذلك إمام الرافضة الحسن بن علي المعروف بابن الرّضا، ثم سكت ساعةً وأنا ساكتٌ، ثم قال: يا بُني، لو زالت الإمامة عن خلفائنا بني العبَّاس، ما استحقَّها أحدٌ من بني هاشم غيره، لفضله وعفافه وهَدْيه وصيانته وزهده وعبادته وجميل أخلاقه وصلاحه، ولو رأيت أباه (الإمام الهادي)، رأيت رجلاً جَزْلاً نبيلاً فاضلاً. فازددتُ قلقاً وتفكّراً على أبي وما سمعتُ منه فيه ورأيت من فعله به، فلم يكن لي همَّةٌ بعد ذلك إلاَّ السؤال عن خبره والبحث عن أمره.

فما سألت أحداً من بني هاشم والقوَّاد والكتَّاب والقضاة والفقهاء وسائر النَّاس، إلاَّ وجدتُه عنده في غاية الإجلال والإعظام والمحلِّ الرفيع والقول الجميل والتقديم له على جميع أهل بيته ومشايخه، فَعَظُم قَدْرُه عندي، إذْ لم أرَ له ولياً ولا عدواً إلاَّ وهو يحسن القول فيه والثناء عليه".

كراماته

كان الإمام(ع) يعرف ما يدور في فكر من بحضرته دون أن يتكلَّم، فقد شكا إليه أحدهم في قسم أن ليس عنده درهم واحد ولا غداء ولا عشاء، فقال(ع): "تحلف بالله كاذباً، وقد دفنت مائتي دينار، وليس قولي هذا دفعاً لك عن العطيَّة، أعطِه يا غلامٌ ما معك"، فأعطاني غلامه مائة دينار، ثم أقبل عليّ فقال لي: "إنَّك تُحْرَمُ الدنانير التي دفنتها أحوجَ ما تكون إليها". فالله تعالى يُلهم أنبياءه وأولياءه كلّ ما يحتاجون إليه، ما يُثبت كرامتهم وقربهم إلى الله وحبوتهم عنده.

ويروي أحدهم أنه سأل الإمام عن قوله تعالى: ﴿يَمْحُوا اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الكِتَابِ﴾(الرعد:39)، فقال: "هل يمحو إلا ما كان، وهل يثبت إلا ما لم يكن؟". وأضمر السائل شيئاً في نفسه، فقال له الإمام: "تعالى الجبار العالم بالشيء قبل كونه، الخالق إذ لا مخلوق، والرب إذ لا مربوب، والقادر قبل المقدور عليه".

وسأل الفهفكي الإمام(ع) عن مغزى آية كريمة، فأجاب كما كان الصادق(ع) قد أجابه عن السؤال، فقال السائل في نفسه، إنَّ الإمام الصادق(ع) أجاب ابن أبي العوجاء بمثل جواب الإمام العسكري، فبادره الإمام(ع) قائلاً: "نعم، هذه المسألة مسألة ابن أبي العوجاء، والجواب منا واحد، جرى لآخرنا ما جرى لأولنا، وأولنا وآخرنا في العلم سواء (ليس من إمام، أفضل من إمام) ولرسول الله(ص) ولأمير المؤمنين فضلهما".

وحدَّث أبو هاشم الجعفري أنَّ بعض موالي الإمام كتب إليه أن يعلّمه دعاءً، فكتب له دعاءً بليغاً، فقال أبو هاشم في نفسه: "اللهمَّ اجعلني في حزبك وفي زمرتك"، فأقبل عليه الإمام(ع) وقال: "أنت في حزبه وزمرته، إذ كنت بالله مؤمناً، ولرسوله مصدقاً، ولأوليائه عارفاً، ولهم تابعاً".

ومن كراماته أيضاً، أنه "عندما كان في سجنه، أُمر بإطلاق سراحه في ساحة فيها عدة من الأسود ليفترسوه، وكان أن ألقي الإمام إليها، وإذا بالإمام(ع) واقف يصلي والأسود تحوم حوله بكل وداعة".


التشكيك في إمامته:

كان بعضهم يشكِّك في إمامة الإمام العسكري(ع)، فكتب: "إنما خاطب الله العاقل (ولم يخاطب من لا يعقلون) والناس فيَّ على طبقات: المستبصر على سبيل نجاة (من يمتلك البصيرة ويفكر من أجل أن ينجو)، متمسك بالحق، متعلّق بفرع الأصل، غير شاكٍّ ولا مرتاب، لا يجد عني ملجأً (عندما تنطبق عليه الدروب، فإنه يلجأ إليَّ لأنه يعرف أن الحقيقة عندي). وطبقة لم تأخذ الحق من أهله (أخذت العلم ممن لا يعلم أو ممن لا يملك مسؤوليته)، فهم كراكب البحر يموج عند موجه، ويسكن عند السكون، فهؤلاء هم الضائعون. وطبقة استحوذ عليهم الشّيطان، شأنهم الردّ على أهل الحق (فلديهم عقد كثيرة تتحكم بهم)، ودفع الحق بالباطل حسداً من عند أنفسهم، فدع من ذهب يميناً وشمالاً، فإن الراعي إذا أراد أن يجمع غنمه، جمعها بأهون سعي. وإياك والإذاعة (لبعض الأمور السرية التي تحمي الحق) وطلب الرياسة، فإنهما يدعوان إلى الهلكة".

ويكتب الإمام(ع) أيضاً: "ما مُني أحدٌ من آبائي بمثل ما مُنيت به من شكّ هذه العصابة فيَّ، فإن كان هذا الأمر أمراً اعتقدتموه ودنتم به إلى وقت ثم ينقطع، فللشك موضع، (فقد تحصل لدى البعض شبهات وشك في بعض الأمور، لكنه يحاول أن يتحرك من أجل أن يزيل الشك ليلتقي بالحقيقة) وإن كان متصلاً ما اتصلت أمور الله، فما معنى هذا الشك" (لأنَّ الشك حينها لا ينطلق من قاعدة).

تربيته أصحابه

كان الإمام العسكري يربي أصحابه التربية الإسلامية الصحيحة، فقد كتب إلى إسحاق بن إسماعيل النيسابوري: "سترنا الله وإياك بستره، وتولاَّك في جميع أمورك بصنعه، فهمت كتابك، ونحن بحمد الله ونعمته أهلُ بيتٍ نرقُّ على أوليائنا، ونُسرُّ بتتابع إحسان الله إليهم، وفضله لديهم، ونعتدُّ بكلِّ نعمةٍ يُنعمها الله تبارك وتعالى عليهم... والحمدُ لله تقدَّست أسماؤه، عليها مؤدّ شكرها، وأنا أقول الحمد لله أفضل ما حمده حامدُه إلى أبد الأبد، بما منَّ الله عليك من رحمته، ونجَّاك من الهَلَكة، وسهَّل سبيلك على العقبة. وأيم الله، إنَّها لعقبةٌ كؤود، شديدٌ أمرها، صعبٌ مسلكُها، عظيمٌ بلاؤها...

فاعلم يقيناً يا إسحاق، أنَّه من خرج من هذه الدنيا أعمى، فهو في الآخرة أعمى وأضلُّ سبيلاً، وذلك قول الله في محكم كتابه حكايةً عن الظالم، إذ يقول: ﴿قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى﴾(طه:125 – 126). وأيُّ آيةٍ أعظم من حجَّة الله على خلقه، وأمينه في بلاده، وشهيده على عباده، من بعد مَنْ سلف من آبائه الأولين النبيِّين، وآبائه الآخرين الوصيِّين، عليهم أجمعين السلام ورحمة الله وبركاته.

فأين يُتَاهُ بكم، وأين تذهبون كالأنعام على وجوهكم، عن الحقِّ تصدفون، وبالباطل تؤمنون، وبنعمة الله تكفرون، أو تكونون ممن يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض، فما جزاء من يفعلُ ذلك منكم ومن غيركم إلاَّ خزيٌ في الحياة الدنيا وطول عذابٍ في الآخرة الباقية.

إنَّ الله بمنّه ورحمته، لما فرض عليكم الفرائض، لم يفرض ذلك عليكم لحاجةٍ منه إليكم، بل برحمة منه ـ لا إله إلاَّ هو ـ عليكم، لِيَميز الخبيث من الطيِّب، وليبتلي ما في صدوركم، وليمحّص ما في قلوبكم، لتتسابقوا إلى رحمة الله، ولتتفاضل منازلكم في جنَّته، ففرض عليكم الحجَّ والعمرة وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والصوم والولاية".

ونلاحظ في هذا الكتاب، أنَّ الإمام الحسن العسكري(ع) كان يتابع أوضاع شيعته في أمورهم السلبية والإيجابية، مما يطرأ عليهم من خير وبلاء، فيعطيهم العاطفة والحنان، ثم يؤكّد لهم الالتزام بالقيادة بشكل كامل شامل، ويوجههم بالسير على خطّ الله.

كما كتب إليه بعض مواليه يسأله أن يعلِّمه دعاءً، فكتب إليه أن يدعو بهذا الدعاء: "يا أسمع السامعين، ويا أبصر المبصرين، ويا أعزَّ الناظرين، ويا أسرع الحاسبين، ويا أرحم الراحمين، ويا أحكم الحاكمين، صلِّ على محمد وآل محمد، وأوسع لي في رزقي، ومُدَّ لي في عمري، وامنن عليَّ برحمتك، واجعلني ممن تنتصر به لدينك، ولا تستبدل به غيري".

مضايقة العباسيين للإمام وسجنه

"حوصر الإمام العسكري(ع) في عهد المتوكِّل، واعتقل مرات عدَّة في عهد من جاء بعده، من المستعين، إلى المعتزّ إلى المهتدي إلى المعتمد".

"ففي زمن المعتزّ، أُدخل الإمام العسكري(ع) إلى السجن، و"دخل العباسيون على صالح بن وصيف وغيره من المنحرفين عن هذه النّاحية ـ أي ناحية الأئمة من مخالفيهم ـ عندما حُبس أبو محمد(ع) (العسكري)، فقالوا له: ضيِّق عليه ولا توسِّع، فقال لهم صالح: ما أصنع به، وقد وكَّلتُ به رجلين شرَّ من قَدِرت عليه، فقد صارا من العبادة والصلاة والصيام إلى أمر عظيم... ثمَّ أمر بإحضار الموكّلين، فقال لهما: ويحكما، ما شأنكما في أمر هذا الرجل؟ فقالا له: ما تقول في رجلٍ يصوم نهاره ويقوم ليله كلَّه، لا يتكلَّم ولا يتشاغل بغير العبادة، فإذا نظر إلينا ارتعدت فرائصنا، وداخلنا ما لا نملكه من أنفسنا. فلما سمع ذلك العبَّاسيون، انصرفوا خاسئين".

هذا وحبس الإمام العسكري(ع) عند عليّ بن أوتامش، وهو أنصب الناس وأشدُّهم على آل أبي طالب، وقيل له: "افعل به وافعل، فما أقام عنده يوماً حتى وضع خدَّية له ـ كنايةً عن الخضوع والتذلُّل ـ وكان لا يرفع بصره إليه إجلالاً وإعظاماً، فخرج من عنده، وهو أحسن النَّاس بصيرةً وأحسن النَّاس قولاً".

وحتى عند وفاته(ع)، أرسل الخليفة إلى بيته من يفحص هل له ولد، ويفحص جواريه، هل إنَّ إحداهن حامل، لأنهم كانوا يريدون أن يطمئنوا لانقطاع الإمامة. ولكن الله تعالى أخفى وليّه عنه...

علمه(ع)

بلغ عدد الرواة عن الإمام 149 راوياً، حدَّثوا عنه بلا واسطة، مع الاختلاف في وثاقتهم ومنازلهم، ما يدل على اهتمام المجتمع الثقافي آنذاك بالمكانة العلمية التي كان الإمام الحسن العسكري(ع) يمثّلها. ومن تعاليمه:

تنزيه الله تعالى

كتب يعقوب بن إسحاق يسأل الإمام(ع) كيف يعبد العبد ربه ولا يراه، فردَّ الإمام(ع): "يا أبا يوسف، جلَّ سيدي ومولاي والمنعم عليَّ وعلى آبائي أن يرى ﴿لَا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ﴾(الأنعام:103) ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾(الشُّورى:11)، وسأله: هل رأى رسول الله(ص) ربه؟ فكتب إليه: "إنَّ الله تبارك وتعالى أرى رسوله بقلبٍ من نور عظمته ما أحب"، فهو لم يره بعينه الباصرة بل بعين قلبه.

وعن التوحيد وما كان يدور حوله، سأله أحد أصحابه، فقال:

"سألت عن التوحيد، وهذا منكم معزول، الله واحد أحد، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، خالق وليس بمخلوق، يخلق تبارك وتعالى ما يشاء من الأجسام وغير ذلك وليس بجسم، ويصوِّر ما يشاء وليس بصورة، جلَّ ثناؤه وتقدَّست أسماؤه أن يكون له شبه، هو لا غيره، وليس كمثله شيء وهو السميع البصير".

فلقد أراد الإمام العسكري(ع) أن يقول للسائل أن لا يستغرق في الجدل الكلامي والتعقيدات الفلسفية، ولكن يطلب إليه أن يقرأ كتاب الله في ما أنزله من آياته، فهو أعرف بنفسه من مخلوقاته كلها.

وسأله رجل فقال: أخبرني عن الربِّ تبارك وتعالى، له أسماء وصفات في كتابه، وأسماؤه وصفاته هي هو؟ "المراد بالأسماء، ما دلَّ على ذاته المقدَّسة، مثل الله ولفظ هو الدَّال على الهوية المطلقة الصرفة الحقَّة، وبالصفات ما دلَّ على الذَّات الملحوظة معها صفة مخصوصة، مثل الرحمن والرحيم والعالم والعليم والقادر والقدير وأمثال ذلك". فقال(ع): "إنَّ لهذا الكلام وجهين: إن كنت تقول هي هو، أنه ذو عدد وكثرة، فتعالى الله عن ذلك (إذا كان الاسم هو المسمى، كان كل اسم إلهاً، وهذا ضدّ عقيدة التوحيد)، وإن كنت تقول: هذه الصفات والأسماء أي لم تزل، فإن "لم تزل" تحتمل معينين، فإن قلت: لم تزل عنده في علمه وهو مستحقها، فنعم (فهو الله الواحد الذي يعلم الأشياء، بما فيها الأسماء والصفات قبل وجودها وبعد وجودها) وإن كنت تقول لم يزل تصويرها وهجاؤها وتقطيع حروفها، فمعاذ الله أن يكون معه شيء غيره، بل كان الله ولا خلق، ثم خلقها وسيلةً بينه وبين خلقه، يتضرَّعون بها إليه ويعبدونه، وهي ذكره، وكان الله ولا ذكر، والمذكور بالذكر هو الله القديم الذي لم يزل، والأسماء والصفات مخلوقات، والمعاني والمعني بها هو الله الذي لا يليق به الاختلاف ولا الائتلاف، وإنما يختلف ويأتلف المتجزئ، فلا يقال: الله مؤتلف، ولا الله قليل ولا كثير، ولكنه القديم في ذاته، لأنَّ ما سوى الواحد متجزئ، والله واحد لا متجزئ، ولا متوهمّ بالقلة والكثرة، وكل متجزئ أو متوهم بالقلة والكثرة، فهو مخلوق دالّ على خالق له. فقولك إن الله قدير خبرت أنه لا يعجزه شيء، فنفيت بالكلمة العجز، وجعلت العجز سواه، وكذلك قولك عالم، إنَّما نفيت بالكلمة الجهل، وجعلت الجهل سواه، وإذا أفنى الله الأشياء، أفنى الصورة والهجاء والتقطيع، ولا يزال مَنْ لم يزل عالماً".

وليس دور الأسماء والصفات إلاَّ أنها تشير، حسب مدلولها، إلى المسمى، من دون أن يكون لها وجود ذاتي إلى جانب وجوده. وهكذا كانت هذه الأسماء والصفات في معناها تدل على الله الواحد الذي لا يقترب منه ائتلاف حال بحال، والاختلاف من حال إلى حال، فهو هو، لا شيء معه في الداخل والخارج. وقد ضرب الإمام مثلاً لدلالة الصفات، فإن كلمة (قدير) نفيٌ مطلق للعجز عنه، لا أنها صفة زائدة عليه قائمة به، أما قدرة غيره، فإنها صفة قائمة به، وبينها وبين العجز نوع مصاحبة وملاءمة. فالمخلوق وإن كان ذا قدرة، موصوف بالعجز.

فقال الرجل: فكيف سمينا ربنا سميعاً(ع)؟ فقال: "لأنه لا يخفى عليه ما يدرك بالسماع، ولا تصفه بالسمع المعقول بالرأس. وكذلك سميناه بصيراً، لأنه لا يخفى عليه ما يدرك بالأبصار، من لونٍ أو شخصٍ أو غير ذلك، ولم نصفه ببصر لحظة العين. وكذلك سميناه لطيفاً، لعلمه بالشيء اللطيف، مثل البعوضة وأخفى من ذلك، وموضع النشوء منها، والعقل والشهوة للفساد، والحدب على نسلها، وإقام بعضها على بعض، ونقلها الطعام والشراب إلى أولادها في الجبال والمغاور والأودية والقفار، فعلمنا أن خالقها لطيف بلا كيف، وإنما الكيفية للمخلوق المكيف. وكذلك سمينا ربنا قوياً، لا بقوة البطش المعروف من المخلوق، ولو كانت قوته قوة البطش المعروف من المخلوق، لوقع التشبيه ولاحتمل الزيادة، وما احتمل الزيادة احتمل النقصان، وما كان ناقصاً كان غير قديم، وما كان غير قديم كان عاجزاً، فربنا تبارك وتعالى لا شبه له ولا ضد ولا ند ولا كيف ولا نهاية ولا ببصَّار بصر، ومحرَّم على القلوب أن تمثله، وعلى الأوهام أن تحدّه، وعلى الضمائر أن تكوِّنه، جلَّ وعزّ عن أداة خلقه، وسمات بريَّته، وتعالى عن ذلك علواً كبيراً".

إنَّ الإمام العسكري(ع) يؤكّد في هذا الفصل من الحديث المنهج القرآني الذي تؤصله مدرسة أهل البيت(ع) في إبعاد صفة الله عن أية إشارة أو أي إيحاء للصفات المختصة بالمخلوقين، من الجسمية والمحدودية، في كل التفاصيل. ويقول الإمام(ع): "إنَّ مَنْ عبد الاسم دون المسمَّى، فقد أشرك وكفر وجحد ولم يعبد شيئاً، بل أعبد الله الواحد الأحد الصمد المسمَّى بهذه الأسماء دون الأسماء، إنَّ الأسماء صفات وصف بها نفسه".

إنَّ هذا الحديث يؤكّد الدقة في عقيدة التوحيد، فلا بد للمؤمن من أن يتجاوز الاسم إلى المسمى، وهو المضمون الذي يعبِّر عنه، فلا يستغرق في الاسم فيقدِّسه في حروفه كما لم كان هو المعبود، فالأسماء هي صفات وصف بها نفسه وليست نفسه، وربما كان الاستغراق في عبادة الأسماء شركاً بالله من خلال تعدُّدها.

وسئل(ع): أيجوز أن يقال لله إنه شيء؟ فقال: "نعم، يخرجه من الحدَّين: حدّ التعطيل وحدّ التشبيه. فالتعطيل هو عدم إثبات الوجود، والتشبيه هو الحكم بالاشتراك مع الممكنات" (المخلوقات).

قصة الإمام(ع) مع الكندي:

يروى أنَّ الكندي الفيلسوف: "أخذ في تأليف تناقض القرآن، وشغل نفسه بذلك، وتفرّد به في منزله، وإن بعض تلامذته دخل يوماً على الحسن العسكري، فقال له أبو محمد(ع): "أما فيكم رجل رشيد يردع أستاذكم الكندي عمَّا أخذ فيه من تشاغله بالقرآن؟"، فقال التلميد: نحن من تلامذته، كيف يجوز منَّا الاعتراض عليه في هذا أو في غيره؟ فقال له أبو محمد(ع): "أتؤدي إليه ما ألقيه إليك؟"، قال: نعم، قال: "فصِرْ إليه، وتلطَّف في مؤانسته ومعونته على ما هو بسبيله ـ فالشرط الأول أن تدخل قلبه لتستطيع أن تدخل عقله ـ فإذا وقعت الأنسة في ذلك، فقل: قد حضرني مسألة أسألك عنها، فإنه يستدعي ذلك، فقل له: إن أتاك هذا المتكلّم بالقرآن (أي الذي يوحي إليك بهذه الأفكار)، هل يجوز أن يكون مراده بما تكلَّم به غير المعاني التي قد ظننت أنَّك قد ذهبت إليها؟ فإنه سيقول: إنه من الجائز، لأنه رجل يفهم إذا سمع، فإذا أوجب ذلك (رأيته استجاب) فقل له: فما يدريك، لعلّه قد أراد غير الذي ذهبت إليه أنت؟ فيكون واضعاً لغير معانيه".

وسأل الكندي محدثه عمن علَّمه ذلك وأحلفه، فأخبره أنه الإمام(ع)، عند ذلك دعا الكندي بالنار، وأحرق جميع ما كان ألفه. وسئل الإمام عن ذي الكفل، فكتب صلوات الله وسلامه عليه: "بعث الله تعالى جلَّ ذكره مائة ألف نبي وأربعةً وعشرين نبيَّاً، المرسلون منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، وإنَّ ذا الكفل منهم، صلوات الله عليهم، وكان بعد سليمان بن داود(ع)، وكان يقضي بين الناس كما كان يقضي داود، ولم يغضب إلاَّ لله عزَّ وجلَّ، وكان اسمه عويديا، وهو الذي ذكره الله تعالى جلَّت عظمته في كتابه، حيث قال: ﴿وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَاليَسَعَ وَذَا الكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الأَخْيَارِ﴾(ص:48).

كما سئل(ع) عن قوله تعالى: ﴿وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ﴾، فقال: "إن رسول الله(ص) قال لفاطمة(ع): إذا أما متُّ، فلا تخمشي عليَّ وجهاً، ولا ترخي عليَّ شعراً، ولا تنادي بالويل، ولا تقيمي عليَّ نائحة". ثمَّ قال: هذا المعروف الذي قال الله عزَّ وجلَّ في كتابه: ﴿وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ﴾"(الممتحنة:12).

ونستوحي من هذا الحديث، التحفُّظ عما يُنسب إلى سيدتنا فاطمة الزهراء(ع) من الحزن الذي يقرب من الجزع.

وكتب الإمام إلى بعض أوليائه: "أما هذه الدنيا، فإنا فيها مغترفون، ولكن من كان هواه هو صاحبه، ودان بدينه، فهو معه حيث كان، والآخرة دار القرار"، أي أنّ الانتماء الشعوري والفكري لأيّ إنسانٍ، يجعله في الموقع الذي يحشر فيه يوم القيامة.

ويخبر(ع) عن كيفية مبايعة النساء للرسول(ص)، فيقول: "كانت مبايعة رسول الله(ص) النساء، أن يغمس يده في إناء فيه ماء ثم يخرجها، وتغمس النساء بأيديهن في ذلك الإناء بالإقرار والإيمان بالله والتصديق برسوله على ما أخذ عليهن"، وذلك ناشئ عن حرمة مصافحة الرجل النساء الأجنبيات.

ويتحدث الإمام عن الذنوب فيقول: "من الذنوب التي لا تغفر، قول الرجل: ليتني لا أؤاخذ إلا بهذا" (اي بالذنب البسيط) "إياكم ومحقرات الذنوب، فإنها تجتمع حتى تكون كباراً". ثم قال: "الإشراك في الناس أخفى من دبيب النمل على المسح الأسود في الليلة الظلماء"، وذلك مثلاً عندما ينفتحون على رضا الناس عليهم بعيداً عن رضا الله عنهم".

وصيته لشيعته:

وهي وصية مرويَّة أيضاً عن الإمام الصادق(ع)، مع بعض التغيير في الألفاظ: "أوصيكم بتقوى الله، والورع في دينكم، والاجتهاد لله (وفي معرفته وطاعته وعبادته)، وصدق الحديث، وأداء الأمانة إلى من ائتمنكم من برّ أو فاجر، وطول السجود، وحسن الجوار، فبهذا جاء محمد(ص). صلُّوا في عشائرهم (يعني هؤلاء الذين يجاورونكم ممَّن تختلفون معهم في المذهب)، واشهدوا جنائزهم، وعودوا مرضاهم، وأدُّوا حقوقهم، فإنَّ الرجل منكم إذا ورع في دينه، وصدق في حديثه، وأدَّى الأمانة، وحسَّن خلقه مع الناس، قيل هذا شيعي، فيسرُّني ذلك (لأنه سائر على الحق والاستقامة في خطِّ الإسلام). اتقوا الله، وكونوا زيناً ـ نتزيَّن به ـ ولا تكونوا شيناً، جرّوا إلينا كلّ مودَّة ـ اجعلوا الناس يحبوننا، فلا تتحدثوا مع الناس بالحقد والبغضاء والسباب وما إلى ذلك ـ وادفعوا عنا كل قبيح، فإنه ما قيل من حَسَنٍ فنحن أهله، وما قيل فينا من سوء فما نحن كذلك، لنا حق في كتاب الله، وقرابة من رسول الله، وتطهير من الله لا يدَّعيه أحد غيرنا إلاَّ كذَّاب".

هذا هو السلوك الذي يجعل الإنسان في مجتمعه خيراً. لكلّ مجتمعه، سواء مع الناس الذين يلتقي معهم في الخط، أو مع الذين يختلف معهم. "وأكثروا ذكر الله (لأنكم إذا ذكرتم الله ذكرتم مسؤوليَّاتكم)، وتلاوة القرآن، والصَّلاة على النبي، فإنَّ الصَّلاة على رسول الله عشر حسنات. احفظوا ما وصَّيتكم به، وأستودعكم الله وأقرأ عليكم السلام". وعليك السلام أيها الإمام البر التقي.


ثالث عشر: الإمام المهدي(ع)


ولد الإمام الحجة محمد بن الحسن المهدي (عج) في الخامس عشر من شعبان سنة 255 هـ، في سامراء. والإيمان بالمهدي أو المهدية مسألة إسلامية يلتقي المسلمون عليها، وإن حاول بعض المسلمين في السنين المتأخرة، بفعل وضع سياسيّ معيَّن، أن يطلقوا الحديث حول إنكار هذه المسألة، ولكنها مما تواتر الحديث فيها عند المسلمين جميعاً، وإن اختلفوا في بعض التفاصيل في أنه هل وُلِد؟ وهو ما يلتقي الإمامية الإثنا عشريَّة عليه، أو لم يولد؟ وهو ما يذهب إليه غالبيَّة المسلمين من أهل السُّنة... وقد نقل المرحوم السيد محسن الأمين، أنَّ هناك من علماء السُّنة من يقول إنَّه وُلِد، ويلتقي مع الشيعة في اسمه واسم أبيه، فيقول: "إن الأخبار بخروجه (عج) متواترة، والإجماع من كافة المسلمين حاصل، وقد صنَّف أبو عبد الله محمد بن يوسف بن محمد الكنجي الشافعي كتاباً سمَّاه (البيان في أخبار صاحب الزمان)، وله أيضاً كتاب (كفاية الطالب في مناقب علي بن أبي طالب)، قال في كتاب البيان: "إنّي قد جمعت هذا الكتاب وعرَّيته من طرق الشيعة، ليكون الاحتجاج به آكد". وجمع الحافظ أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصفهاني، صاحب كتاب "حلية الأولياء" المشهور، أربعين حديثاً في أمر المهدي، أوردها صاحب كتاب "كشف الغمّة" بحذف الأسانيد، مقتصراً على ذكر الراوي عن النبي(ص)... وذكر غيرهما كثيراً من أخبار المهدي، مثل صاحب (مشكاة المصابيح)، و(درر السمطين)، و(جواهر العقدين)، و(كنوز الدقائق) وغيرها".

فالكنجي يإسناده عن زر بن حبيش عن النبي(ص): "لا تذهب الدنيا حتى يملك العرب رجلٌ من أهل بيتي يواطئ اسمُه اسمي" (مشكاة المصابيح)، وعن ابن مسعود مثله، ثم قال: رواه الترمذي وأبو داود. قال الكنجي: وفي رواية: "يلي رجلٌ من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي". رواه الترمذي في جامعه، وقال(ع): "لا تذهب الدنيا حتى يملك العرب رجلٌ من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي"، أخرجه أبو داود في سننه. وبإسناده عن حذيفة عن النبي(ص): "لو لم يبقَ من الدنيا إلا يومٌ واحدٌ، لبعث الله رجلاً اسمه اسمي، وخُلُقه خُلُقي، يُكنَّى أبا عبد الله"... وعن (أربعين الأصفهاني)، وبسنده عن حذيفة: "سمعنا رسول الله(ص) يقول: ويح هذه الأمة من ملوك جبابرة، كيف يقتلون ويخيفون المطيعين إلا من أظهر طاعتهم، فالمؤمن التقيّ يصانعهم بلسانه، ويفرُّ منهم بقلبه، فإذا أراد الله أن يعيد الإسلام عزيزاً، قصم كلَّ جبار عنيد، وهو القادر على ما يشاء أن يُصلح أمَّة بعد فسادها. فقال(ع): "يا حذيفة، لو لم يبقَ من الدنيا إلا يومٌ واحد، لطوَّل الله ذلك اليوم، حتى يملك رجلٌ من أهل بيتي، تجري الملاحم على يديه، ويُظهر الإسلام، لا يخلف الله وعده وهو سريعُ الحساب". وبسنده عن أبي سعيد الخدري عنه(ص): "لا تنقضي الساعة حتى يملك الأرضَ رجلٌ من أهل بيتي، يملأها عدلاً كما مُلِئت قبله جوراً".

وقال(ص): إني مخلفٌ فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، لن تضلوا ما إن تمسكتم بهما، وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض". ويستوحي الكثير من العلماء من هذا الحديث، أنَّه في كلِّ وقت يكون الكتاب فيه موجوداً ـ وهو موجودٌ على مدى الزمن ـ لا بدَّ من أن يكون هناك إمامٌ من العترة النبويَّة الطاهرة معه، بفعل الحديث عن عدم الافتراق.

وفي حديث شريف: "يكون منا إثنا عشر خليفةً، ينصرهم الله على من ناوأهم، ولا يضرهم من عاداهم"، وهو ما يرويه "السنة والشيعة معاً، ولا ينطبق إلا على الأئمة الإثني عشر حصراً، فلا هو ينطبق على الخلفاء الراشدين، ولا على الأمويين ولا على العباسيين، بل الخلافة منحصرة فيهم فقط.

وأخيراً، فإن ابن خلدون يذكر في مقدمته، أنَّ الرِّوايات متواترة حول المهدية، وقد عدَّ بعض العلماء من المؤلفين الروايات التي وردت في ذلك، فوصل العدد إلى ستة آلاف رواية.

ويذهب بعضهم إلى أن فكرة المهدية وما شابهها، ناتجة من حالات القهر والاستضعاف التي تعرض لها الشيعة في تاريخهم، ويردُّ السيد(قده)، أن "فكرة المخلص والمنقذ هي فكرة دينية، فنحن نعرف أن اليهود يعيشون فكرة المسيح المنتظر، لأنهم يعتبرون أنَّ السيد المسيح ـ وباطلٌ ما يعتقدون ـ هو المسيح الدجَّال، وربما كان لكل أمَّة حلم بمنقذ، ومسألة المهدي إسلامية وليست شيعية، فإذا كان الشيعة قد عاشوا القهر والاستعباد، فكيف نفسِّر اعتقاد المسلمين السنَّة بالإمام المهدي الذين هم أكثرية في المسلمين؟!

فالله سبحانه وتعالى أعطانا وعداً مستقبلياً أرضياً في قوله: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوَارِثِين﴾(القصص:5)، وفي قوله سبحانه: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾(الأنبياء:105). فهل هذا حلم من جهة القهر؟!

ثم إن الله أراد لرسالاته أن تنفذ في نهاية المطاف على يد عباده الصالحين، فالمسألة مسألة دينية قرآنية، حتى لو اختلف الناس في المصاديق، أي من تنطبق عليهم.

العدل

"يخرج الإمام ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً". فالظلم شيء مرفوض، و"هو يمثل مشكلةً للحياة"، وإن العدل هو الذي يحل المشكلة... فإذا كنت رمزاً للظلم في شخصيتك، فأنت "لن تكون من أنصار المهدي"، بل ممن يقمعهم الإمام(ع)، لأنه يقمع الظلم كله، والعدل ليس عدلاً للمسلمين فقط، بل هو عام، وهذا ما دفع الإمام الخميني إلى إطلاق شعار: "يا مستضعفي الأرض اتحدوا". وهكذا يتحرك العدل في كل علاقات الناس، سواء في بيوتهم في العائلة الصغيرة، أو في أسواقهم ونواديهم، أو في كل أوضاعهم السياسية والثقافية والاجتماعية، فلا يظلم أحد أحداً.

"اللهمَّ أظهر به دينك وسنَّة نبيِّك، حتى لا يستخفي بشيء من الحق، مخافة أحد من الخلق... اللهمَّ أعزّه وأعزز به، وانصره وانتصر به". ونقرأ في دعاء الافتتاح: "اللهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة ـ وهي دولته (عج) ـ تعزّ بها الإسلام وأهله، وتذلّ بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك، والقادة إلى سبيلك، وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة".

ولأن الناس يكونون قد اعتادوا الظلم، فإن منهم من سيعتقد أن الإمام أتى بدين جديد، لكن الحقيقة أن دوره تغييري للعالم كله في المرحلة النهائية للعالم، لكن بمعنى تحديد الدين وإعادته إلى أصوله، فدور التوعية ودور التبليغ وتأكيد المفاهيم وتصحيحها، كان منوطاً بالأئمة السابقين، الذين انطلقوا من خلال خط الرسالة وخط النبوة، وهناك قواعد كثيرة تركوها لتصحيح ما فسد، ولتصحيح ما أخطأ الناس فيه. لذلك، ليست هناك أية فراغات في هذا المجال، ولكن إذا لم يأخذ الناس بها، فإن الناس هم المسؤولون عن ذلك.

وبهذا يكون الصِّراع الذي سيخوضه الإمام ضد الجور هو آخر صراع بين الظلم والعدل، لينتصر العدل بطريقة إنسانية في بعض أبعادها، وغيبية في أبعادها الأخرى، ليكون العدل للإنسان كله وللحياة كلها، وسينتشر الإسلام في كل أرجاء العالم، فالسيد المسيح عيسى ابن مريم(ع) يخرج معه، وينفتح على دين الإسلام من خلال نصرته للإمام (عج)، فالنبي(ص)، بحسب الظروف التي عاشها، والمشاكل التي واجهته، استطاع أن ينشر الإسلام في منطقة معينة، ثم جاء مَنْ بعده ونشروا الإسلام، حتى أصبح المسلمون في العالم يمثلون أكثر من مليار مسلم، ولكن في مرحلة الظهور، يشمل الإسلام العالم كله، بحيث لا يبقى للكفر أي موقع.

ولعل ما يناقش فيه هو مسألة الغيبة، فالإمامة كانت ظاهرةً حتى زمنه، ثم حصلت الغيبة، وكانت غيبتين. فـ"الإمامة الظاهرة، تتحرك في حياة الناس لتبلِّغ رسالة رسول الله(ص) ولتستكمل كل ما يراد للناس أن يفهموه ويعرفوه عن الإسلام في عقيدته وشريعته ومفاهيمه ومنهاجه، وهذا ما قام به الأئمة من أهل البيت(ع) منذ علي(ع) حتى الإمام الحسن العسكري(ع)، وبعده كانت إمامة الإمام المهدي الذي غاب الغيبة الصغرى، وكان له سفراء بينه وبين شيعته، ثم غاب الغيبة الكبرى التي ما زالت قائمةً حتى اليوم.

فكيف نثبت الغيبة لمن لا يقتنع بها؟ يجيب السيد(قده):

"في الحديث عن غيبته، نريد أن نؤكّد مسألة الغيبة الطويلة من ناحية مبدئية... فالمسألة عندما تثبت عندنا من طريق رسول الله(ص) ومن طريق أوصيائه الذين هم أئمة أهل البيت(ع)، فلا بدَّ من أن نعتبر أنَّ المسألة تمثِّل الحقيقة في العقيدة على هذا الأساس. ثم بعد ذلك، عندما نجد في المسألة بعض الغيب، مما قد لا يدرك الإنسان تفاصيله في مسألة حكمة الله في ذلك، فإنَّنا نؤمن به، فالله هو القادر على كلِّ شيء، وهو الذي يختصُّ برحمته من يشاء، ولذلك تبقى التفسيرات لغيبته عاجزةً عن إدراك الواقع الذي لا يعلمه إلا الله.

فقد ولد الإمام المهدي (عج) كما يولد كل الناس، وغاب بإرادة الله وعلمه، والغيب يرتكز على العقل (فالعقل لا يرفضه)، ويرتكز أيضاً على النقل.

"أما مسألة طول العمر، فهي من المسائل التي لا يرفضها العقل، فالإنسان يعيش ما دامت أجهزته تعمل، والعلم يقول: لم نستطع حتى الآن أن نصل إلى الأسس... التي نستطيع من خلالها كشف سرّ تجدد الخلايا واستمرارها، وإذا اكتشفنا ذلك، فيمكن أن يطول عمر الإنسان إلى أمد طويل... والقرآن يثبت لنا عمراً طويلاً لأحد أنبياء الله تعالى، وهو نوح(ع)، الذي لبث في قومه ألف سنة إلاّ خمسين عاماً، وذلك قبل الطوفان. ولا ندري كم عاش بعد ذلك"، وإذا كان هناك من يعيش ألف عام، فلماذا يمتنع أن يعيش غيره ألفي عام؟

ويرى السيد أن الإمام إذا غاب بجسده، فهو حاضرٌ في وعينا وضميرنا، فقيادة الإمام الحجة غيبتها غيبة حضور، وليست غيبة غيابٍ كلّيّ، وإن كنا لا نعرف معنى هذا الحضور بالحس، لكننا نعرفه بالوجدان، كما ورد أن تأثيره في عالمنا كتأثير الشمس في العالم، وإن جلَّلها السحاب.

ويسأل بعضهم: ما الفائدة من إمام غائب؟ يجيب السيد: "يروى أن الشيعة زمن الغيبة الصغرى، كانوا يراسلون الإمام الحجة (عج) بواسطة السفراء الأربعة، وعندما حصلت الغيبة الكبرى(*)، أرسل إليه البعض مسائل أشكلت عليه، فكان من جوابه(عج): "وأما الحوادث الواقعة ـ الجديدة ـ فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنَّهم حجتي عليكم، وأنا حجَّة الله".

وقد طرحت حول الغيبة تفسيرات مختلفة، إلا أن السيد(قده) يرى تفسيرات غيبته "عاجزةً عن إدراك الواقع الذي لا يعلمه إلا الله تعالى، "فهي غيب من غيبه".

ويضيف السيد أن العقيدة لا تفسر تفسيراً مادياً، "فعندما نريد إخضاع مفردات العقيدة للجوانب المادية، فإذاً علينا أن نتخلَّى عن أكثر ما لدينا من العقيدة، بما فيها الوحي". إن هذه "المفردات وغيرها لا يمكن إدخالها في العقل الإيماني إلا من خلال الإيمان بالغيب".

وإذا كان بعضهم يحاكم مسألة ظهور الإمام والفرج على أساس العقل البشري مجرداً من النقل، فنحن نقول إن "الفرق واضح بين من ينطلق نحو قضية الفرج والأمل من موقع إسلامي، على أساس قاعدة إسلامية فكرية وإيمانية، وبين من ينطلق من خلال افتراضات نظرية، قد لا تكون أصولها الفكرية "تامةً من ناحية علمية".

المطلوب زمن الغيبة

إننا زمن الغيبة "لا نشكو فراغاً من خلال فراغ حضوره، لأن هذا الفراغ يمتلئ بهذا التراث الديني الذي تركه الرسول والأئمة، إلى جانب القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه".

وقد "دلَّنا الإمام (عج) على الطريق الذي يجب أن نسكله... فعرَّف أتباعه آنذاك في أيام السفراء الأربعة (بينه وبين شيعته)، بأن الغيبة الصغرى التي كانوا يتصلون فيها به بشكل مباشر من خلال هؤلاء السفراء قد انتهت، وأن الغيبة الكبرى بدأت. فقال(ع): "أما الحوادث الواقعة (ما يستجد) فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا، فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله"، لذلك، "فإن مسؤوليتنا في زمن الغيبة أن نرجع إلى العلماء الذين يملكون علم الإسلام وتقواه، الذين أخلصوا لله ولرسوله"، إلى "كل مجتهد عادل منفتح على الإسلام بعلمه، وعلى الناس برسالته، وعلى حركة الحياة بمسؤوليته، (فـ) هو نائب للإمام، يتحرك من موقع النيابة في الخطوط العامة والخاصة به. فالناس ليسوا في فراغ بوجود العلماء المجتهدين العادلين الأتقياء المنفتحين على المسؤولية". وبانتظار الفرج، يجب أن لا نكون سلبيين لا نأتي حراكاً، بل يجب أن يتمَّ "انتظاره في تحقيق الهدف الذي يريده. فنحن ننتظره ونحن نجاهد، وننتظره ونحن ندعو إلى الله، وننتظره ونحن نعمل في سبيل الله، وننتظره ليملأ الدنيا قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً، ولسنا ننتظره ونحن في حالة استرخاء".

راية الضلالة

هناك من يورد قولاً يفيد بأن أيَّ راية ترفع قبل قيام القائم هي راية ضلالة، ويردّ السيد(قده): "... ومشكلة بعض النَّاس، أنَّهم عندما يؤمنون بالإمام الحجَّة (عج)، يقولون ممنوعٌ أن يقوم إنسانٌ بعمل إسلاميّ، حتى إنَّ بعضهم يرى أنَّ الإصلاح حرام، وأنَّ الموعظة حرام، لأنَّك كلما وعظت النَّاسَ أكثر، صار الناس "أوادم"، وبالتالي يتعطَّل خروج الحجَّة (عج)، وكلما عملت للإسلام، خرَّبت العمل على صاحب الزمان(عج).

هؤلاء يجمِّدون الإسلام، والإسلام لم يتجمَّد في أحكامه في أيِّ زمان: "حلال محمد حلالٌ إلى يوم القيامة، وحرامُ محمَّد حرامٌ إلى يوم القيامة"، لم يتجمَّد الجهاد، ولا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولم يتجمَّد شرع الله... وأمَّا أنَّ كلَّ راية تخرج في زمن الغيبة قبل الظهور (فإنَّها راية ضلال)، فهذه رواية محل تحفُّظ كبير.

وعندما يدعو الإنسان إل الإسلام وخطّ أهل البيت(ع)، ويواجه العالم كلّه كالإمام الخميني(قده)، فهل يمكن القول إنَّ رايته راية ضلال؟ هل يمكن أن يقول الله سبحانه للناس، لا تطالبوا بتطبيق الإسلام، ولا تُصلحوا الناس؟ هل هذا معقول؟ الله تعالى خلق لنا عقلاً، وأعطانا قرآناً، وأمرنا باتباع ما صحَّ من السنَّة النبويَّة ومن تراث أهل البيت(ع)، لذلك، لا يصحُّ لمجرّد روايةٍ أن تعطّل لنا كل هذا.

إنَّ القرآن يرفض ذلك، لأنَّ الله تعالى لم يوقّت الدعوة إليه سبحانه بوقت، ولم يوقّت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بوقت، ولم يوقّت الجهاد بوقت، ذلك أنَّ الناس بأجمعهم مسؤولون عن الإسلام كلّه، بأن يحملوه أمانةً في أعناقهم،

وحول عدم صحة قيام حكومة إسلامية قبل قيام القائم، يقول السيد(قده): "أن لا تكون هناك حكومة إسلامية قبل قيامه أو عند قيامه، أو لا يكون هناك مجتمع إسلامي منفتح على الحق والعدل، فهذا بما لا يفيده الحديث، فإن امتلاء الأرض ظلماً وجوراً لا يمنع من وجود حكومة إسلامية هنا وحكومة إسلامية هناك، يحاربها أهل الجور هنا وهناك، فلا مشكلة إطلاقاً.

"والله تعالى أراد في كلِّ مرحلةٍ من المراحل أن يمنّ على المستضعفين في الأرض، ويمكّن لهم، ويمنحهم القوة، ليكونوا القادة، وليرثوا الأرض، وليسقط كلُّ الفراعنة وكلُّ المستكبرين"، وذلك بانتظار العدل الشامل الذي سيرسيه الإمام في جميع أرجاء العالم.

التوقيت:

انطلاقاً مما ورد حول علامات الظهور، يحاول بعضهم أن يحدِّد وقت خروج الإمام (عج)، ويوضح السيد(قده) هذا الأمر فيقول: "أما علامات الظهور، فهناك أحاديث كثيرة بشأنها، وأعتقد أن الجهد في تحقيقها هو جهد باهظ، لأننا لا نملك التفاصيل التي يمكن أن تعطينا خطاً محدداً في ذلك، الأمر الذي يدعها في ضبابية الغموض. فعندما يحدثونك عن (السفياني) أو عن (الدجال)، فكيف يمكن لك أن تحدِّد شخصيته، وحتى لو حققنا في صحة هذه الروايات، فإننا نبقى في ضباب من حيث التوقيت ومن حيث التحديد وما إلى ذلك.

لذلك، فإنَّ علينا أن نقوم بمسؤولياتنا في هذه الفترة، أما قضية الظهور، فكما كانت الغيبة غيباً من الله، سيكون الظهور غيباً من غيب الله. فلنترك الأمر لله".

الدعاء له

يقول السيد(قده): إن دعاء المؤمنين بظهور الإمام ربما يكون له "بعض الأثر في تقدير الله للظهور، وفي زمن معين، فقد ورد في الحديث: إن الدعاء من القدر".

لذلك يدعو السيد(قده) قائلاً: "اللهمَّ أرنا الطلعة الرشيدة، والغرَّة الحميدة"، كما يدعو أيضاً: "اللهم صلِّ على وليِّ أمرك، القائم المؤمّل، والعدل المنتظر، وحفَّه بملائكتك المقرَّبين، وأيّده بروح القدس منك يا ربّ العالمين، اللهمَّ اجعله الداعي إلى كتابك، والقائم بدينك، واجعلنا من أنصاره وأعوانه المستشهدين بين يديه، اللهمَّ استخلفه في الأرض كما استخلفت الذين من قبله، مكّن له دينه الذي ارتضيته له، أبدله من بعد خوفه أمناً، يعبدك لا يشرك بك شيئاً، اللهمَّ أعزّه وأعزز به، وانصُره نصراً عزيزاً، وافتح له فتحاً يسيراً، واجعل له من لدنك سلطاناً نصيراً"...




مدرسة الإمام الحسين(ع)

                                        جعفر محمد حسين فضل الله

                                    عالم دين لبناني، متخصص في علم الاجتماع


أولاً: عاشوراء، التعريف والتسمية

ثانياً: شخصية الإمام الحسين(ع)

ثالثاً: عاشوراء بين العاطفة والفكر

رابعاً: عدم اختزال عاشوراء في البعد المأساوي

خامساً: قضايا عاشوراء

1- الثورة والمعارضة

2- الثورة ليست تكليفاً خاصّاً

3- المعارضة مسؤولية الأمّة

4- تصحيح المفاهيم

5- عاشوراء ليست حركة عائلية أو قبليّة

6- عاشوراء إسلامية منفتحة وليست فئويّة

7- المجالس الحسينية

8- توثيق السيرة الحسينية

سادساً: تطوير أساليب إحياء الذكرى

1- المعالجة الفكريّة الحضارية

2- المعالجة الفقهية

سابعاً: السيدة زينب(ع)؛ شراكة في القضية

1- العاطفة في خط القضية

2- زينب في خط المواجهة




أولاً: عاشوراء، التعريف والتسمية


عاشوراء هو اسم مناسبةٍ يحييها المسلمون الشيعة، إحياءً لذكرى ملحمةٍ تاريخيّة وقعت في العاشر من شهر محرّم سنة 61 للهجرة، استشهد فيها الإمام الحسين بن عليّ بن أبي طالب(ع)، سبطِ رسول الله محمّد(ص)، واستشهد معه أغلب من كان معه من أهلِ بيته وأصحابه، من قبلِ جيش يزيد بن معاوية الذي فرض حكمَه على الواقع الإسلامي بقوّة الحديد والدم.

وكلّ عاشرٍ من الشهر يُسمّى عاشوراء، ولمّا كان زمان الواقعة هو العاشر من المحرّم، سمّيت الذكرى بذاك الاسم.

وقد يحسُنُ بنا أن نطلّ سريعاً على ترجمةٍ مختصرة لصاحب الذكرى، وهو الإمام الحسين(ع)، وصولاً إلى الحادثة ـ الذكرى.

ولد الإمام الحسين بن عليّ بن أبي طالب(ع) في الثالث، وقيل في الخامس، من شهر شعبان في العام الثالث أو الرابع من الهجرة.

عاش في عصر جدّه النبيّ محمّد(ص) إلى حين وفاته عام 10 هجريّة، ثمّ نشأ مع أبيه الإمام عليّ(ع)، وعايش كلّ تلك الفترة الحسّاسة من التاريخ الإسلاميّ، والتي كانت فترةً مليئةً بالأحداث والتحدّيات الداخليّة والخارجيّة، وخبر ـ مع أخيه الحسن(ع) ـ المنهج والقواعد اللّذين تعامل من خلالهما عليّ(ع) مع تلك الأحداث، حتّى استشهد عليّ(ع) في محرابه في مسجد الكوفة على يد الخارجيّ عبد الرحمن بن ملجم، وآلت الخلافة إلى ابنه الإمام الحسن(ع)، فكان الحسين(ع) إلى جانبه، وعاش تجربة الصلح مع معاوية بن أبي سفيان، وقد فرضته الظروف والتعقيدات بعد معركة صفّين.

واستشهد الحسن بن عليّ(ع) بالسمّ على يد زوجته جعدة بنت الأشعث، والتي قيل إنّها فعلت ذلك بإيعازٍ من معاوية الذي كان قد رفض الالتزام بشروط الصلح، والتي كان أهمّها أن يؤول أمر الخلافة إلى الحسن(ع) بعد وفاة معاوية، أو إلى أخيه الحسين(ع) إن توفّي الحسن(ع) قبل ذلك.

واستشهد الحسن(ع) قبل معاوية، ثمّ بدأت الأحداث تتسارع، حتّى طُلبت البيعة ليزيد بن معاوية، خلافاً لشروط الصلح، وكان الواقع الإسلاميّ قد بدأ ينحدر على كلّ المستويات، وأهمّها في الذهنيّة والفكر والأخلاق، حتّى انقلبت كثير من المفاهيم العقيديّة، ومن ضمن ذلك، أنّه كانت قد أشيعت بعض العقائد التي أصابت المجتمع الإسلاميّ بالشلل والاستسلام للأمر الواقع، وأهمّها عقيدة الجبر التي تقضي بأنّ الإنسان مجبور على فعل الخير والشرّ، وأنّه كلّه بأمر من الله، وعلى الإنسان أن يسلّم بأمر الله على كلّ حال.

وربّما كان لهذا الانحدار الذي عايشه الحسين(ع)، وقع التحدّي الذي كان من الطبيعي أن تُرفض فيه الحلول الوسط؛ لأنّها ـ في النظرة الإسلاميّة ـ تكتيكٌ يفرضه الواقع لخدمة الاستراتيجية الإسلاميّة في حركة الواقع الإسلاميّ. أمّا عندما يُصبح الإسلام نفسه في موقع الخطر، فلا يعود هناك أيّ مجالٍ للتفاوض أو التنازل. وهذا ما يفسّر الخطّ البياني المتصاعد في كيفيّة تعامل الإمام الحسين(ع) مع طلب البيعة منه ليزيد، حتّى نقلت عنه مقولته الشهيرة: «وعلى الإسلام السلام، إذ قد بليت الأمّة براعٍ مثل يزيد»[125].

وكان طبيعيّاً لمن هو في موقع القيادة الإسلاميّة، أن يستجيب لكلّ الدعوات التي ألقت عليه الحجّة في قيادة التغيير، فتحرّك الحسين(ع)، حتّى وصل إلى ما آلت إليه الأحداث في كربلاء مع بداية سنة 61 للهجرة، وكان الحصار الذي منعه من إكمال مسيره إلى الكوفة، قاعدة الثورة والتحرّك المفترضة، وفُرض القتال غير المتكافئ مادّياً في العاشر من محرّم، والذي انتهى باستشهاد الحسين(ع) وأهل بيته وأصحابه، ولم يسلم حتّى الأطفال الرضّع، والذين بلغوا جميعاً ـ بحسب السيّد الأمين في أعيان الشيعة ـ 136 في أقصى التقادير، إذا استثنينا من استشهد بالكوفة قبل ذلك، وهم ثلاثة[126].

وشكّلت تلك الملحمة انعطافةً كبرى في حركة التاريخ السياسي والديني، توالت على أثرها الثورات والاهتزازات الداخليّة أمام حكم الأمويّين، والتي كان أثرها استنهاضيّاً للمجتمع المستسلم ـ فكريّاً وحركيّاً ـ لسنوات طويلة للأمر الواقع.

كما شكّلت تلك الثورة، بخلفيّتها الإسلاميّة، وحركيّتها الثائرة، محطّةً تربويّةً تُستعاد فيها كلّ المعاني التي أكّدها الحسين(ع) على مستوى الشعار والحركة، والروح والأخلاق، وتحوّلت إلى موسم سنويّ لدى المسلمين الشيعة، وتطوّر إحياؤها عبر الزمن حتّى أخذت امتداداً جغرافيّاً واسعاً، في مدى امتداد المسلمين الشيعة في العالم الإسلامي وخارجه، وشكّلت نقاط استلهام واقعيّ للكثير من التحدّيات التي تتّصل بقيم الحقّ والعدل والجهاد والتضحية في سبيل الله.

وكان من الطبيعيّ أن يحمل الإحياء لعاشوراء الذكرى، الكثير من العناصر التي تراكمت عبر التاريخ، وهو التاريخ الموسوم بالصراعات الفكريّة والمذهبيّة، وبالتحدّيات الخارجيّة، ما جعلها في حدّ ذاتها موضوعاً للبحث، وموضعاً للفكر والنقد، من الوسط الإسلاميّ وخارجه، وعلى أكثر من صعيد.

ثانياً شخصيّة الإمام الحسين(ع)

لم تكن شخصيّة الحسين(ع) موضع خلاف مذهبيّ؛ بل بالإمكان القول إنّ ثورته على الواقع الجائر لم تكن في طور التشكّلات المذهبيّة الحادّة، بل كان التوصيف للواقع القائم، السلبي والإيجابي، يتمّ في الإطار الإسلامي العامّ. هذا على مستوى الحركة السياسيّة والثورة.

أمّا على مستوى الوجدان الإسلاميّ، فقد سمع المسلمون جميعاً من النبيّ محمّد(ص)، الكثير من الكلمات التي تجعل الحسن والحسين(ع) في موقع الإمامة للمسلمين، وأنّهما «سيّدا شباب أهل الجنّة»، وكان المسلمون يرون حجم الاهتمام الرساليّ للنبيّ(ص) بهما، ممّا كان واضحاً في كونه عمليّة ربط وجدانيّ للأمّة بهما.

ولذلك، بالإمكان فهم حجم التأثير لما جرى في كربلاء، ومستوى الزلزال الذي أحدثه في الذهنيّة العامّة للأمّة التي استسلمت لكثير من المفاهيم المشوّهة في تقييمها للواقع القائم؛ لأنّ المسألة لم تكن حركةً اعتراضيّةً عاديّة، يُمكن تفهّم حالة قمعها ضمن أدبيّات السياسة المتعارفة ـ بغضّ النظر عن تقييمها ـ، بل كانت أشبه بالانقلاب على الإسلام نفسه، وتحدّياً لكلّ التاريخ الذي عاشه المسلمون مع النبيّ(ص) وبعده، وقتلاً للشخصيّة التي ترمز إلى شخصيّة النبيّ(ص) نفسِه، فضلاً عن أنّ عاشوراء مثّلت انكشافاً للحكم القائم، بكلّ رموزه وسياساته، أمام أعين الناس الذين كانوا يتعرّفون شيئاً فشيئاً إلى ما جرى، تبعاً لطبيعة وسائل الاتّصال آنذاك.

قد يطرحُ الكثيرون السؤال حول مبرّر إحياء ذكرى قد مضى عليها إلى الآن أكثر من أربعة عشر قرناً من الزمن؛ وبين الحاضر والتاريخ أكثرُ من ملحمةٍ وقعتْ، وأكثر من تحدٍّ عصف بالواقع الإسلاميّ، داخليّاً وخارجياً؛ فهل هو إصرارٌ على البقاء أسرى الماضي جرّاء عقدةٍ يُراد إثارتُها في الحاضر، للذاتِ؛ كمن لا يريد أن يتقبّل ما يحصل لديه من خسائر في التاريخ، أو للآخر؛ بحيث يريد الإنسان أن يلاحقه في عقدةٍ ذنبٍ يحمّلُه إياها؟ ألا يجعل ذلك من عاشوراء عنصرَ إثارة مذهبيّة، ولا سيّما أنّ السياق التاريخي لإحياء الذكرى جعلها قضيّةً شيعيّةً أخذت من تعقيدات الحالة المذهبيّة جزءاً من حركة إحيائها؟

إنّ المأساة أمرٌ طبيعي في التاريخ، فلماذا لا نتعامل معها كذلك، في حين أنّنا نصرّ على البكاء والحزن في كلّ عام؟

وللإجابة عن ذلك، يبدي العلامة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله(ره) ملاحظتين:

الأولى: حضاريّة إحياء التاريخ

يرى السيّد فضل الله(ره) أنّ مسألة استعادة التاريخ، عن طريق إحياء ذكرياته، هو "أمرٌ إنسانيّ حضاريّ تحافظ عليه الشعوب والمجتمعات على اختلاف اتّجاهاتها وثقافاتها، حيث نجد العالم كلّه يحتفل في كلّ سنةٍ بذكرى قد تتّصل بانتصار وطنيّ أو قوميّ، في معركةٍ قد ترقى إلى مئات السنين، أو بمأساةٍ تكون نتيجة صراعٍ اجتماعيّ أو سياسي يرقى إلى عشرات السنين أو مئاتها، وليست احتفالات الاستقلال التي تحييها الدول إلا شاهداً ودليلاً على تجذّر هذا السلوك في الوجدان الإنسانيّ العامّ". هذه نقطة.

ونقطةٌ أخرى في هذا المجال، وهي أنّ "الحاضر ـ في كلّ مواقعه ـ لا يعيش انفصالاً عن التاريخ، حيث نجد أنّ الإنسان الذي يحاول أن يؤكّد نفسه، ويؤصّل مرحلته، ويركّز خطواته في الاتّجاه الذي يريده في تقدّمه وتطوّره، يشعر بأنّ في التاريخ نقاطاً مضيئةً تبقى حاجةً لكل مرحلة يعيش فيها نوعاً معيّناً من الظلام، أو أنّ فيها درساً يرتبط بالحياة كلّها ولا يقف عند مرحلة معيّنة، أو لأنّ هناك حاجةً إلى نوعٍ من أنواعِ الإثارة التي لا يجد الإنسان عناصرها الحيويّة في الحاضر، فيحاول أن يجتذبها من خلال التاريخ... كلّ ذلك يجعل من استعادة التاريخ أمراً حيويّاً ذا فوائد كثيرة في حياة الإنسان. ولعل هذا الأمر هو ما أشار إليه القرآن الكريم في قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الأَلْبَابِ}(يوسف:111)، والذي يؤكّد أنّ قيمة التاريخ في الإسلام، هي قيمة العِبرة التي تفتح الحدث على الفكرة، وترصد الثوابت والمبادئ والقيم التي لا تخضع في خصوصيّاتها للفترة الزمنيّة، بل تشمل كلّ خطوط الزمن، من خلال أنّها خصوصيّات الحياة كلّها".

ويؤكّد السيّد فضل الله أنّ ذلك هو الذي "يجعلنا نرتبط بأشخاص التاريخ ورجاله، وخصوصاً من كان منهم في المواقع القياديّة والرمزيّة للإسلام؛ لأنّ حركتهم ليست حركة اللحظة التي عاشوا فيها، بل هي حركة الرسالة المتجسّدة في خطواتهم الفكريّة والروحيّة والعمليّة".

ولذلك، يقول السيّد فضل الله، "فإنّ مسألة إحياء ذكريات الماضي التي تطلّ على الحاضر والمستقبل من خلال العبرة والموعظة والدرس، ليست مسألةً ضدّ الحضاريّة الإنسانيّة في ما هي قيمة حركة الإنسان في صنع التاريخ؛ وإنّ أمّةً لا تعيش ذكرى تاريخها، هي أمّةً لا تعيش روحيّة الامتداد في المستقبل".

أمّا مسألة الإثارة المذهبيّة في استعادة الذكرى، فإنّ السيّد يؤكّد القاعدة الإسلاميّة التي تعتبر "الماضي مسؤوليّة الذين عاشوه وصنعوه، سواء في الدوائر السلبيّة أو الإيجابيّة، وذلك هو قوله تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}(البقرة:141)؛ فليس المجد التاريخي مجداً لنا بالمعنى الحركي للمجد، بل هو مجد الذين صنعوه، وعلينا ـ في الوقت عينه ـ أن لا نحمّل الآخرين مسؤوليّة سلبيّات التاريخ"، في ما هو إلقاء التبعات والمسؤوليّة التي تتوزّع بين فريق وفريق، يرتبط أحدهما بفئة تاريخية تصارعت مع فئة أخرى يرتبط بها الفريق الآخر.

ويؤكِّد السيِّد أنّ من "الخطأ اعتبار عاشوراء مناسبةً موجّهةً ضدّ السنّة من قبل الشيعة، وخصوصاً أنّ يزيد لا يمثّل قيمةً إسلاميّةً سنّيةً ليُعتبر رفضه ضدّ القيمة، كما أنّ من الخطأ الانطلاق في إحيائها على هذا الأساس؛ فإنّ عاشوراء هي قضيّة إسلاميّة بامتياز، تعني المسلمين جميعاً، وليس المعنيّ بها فريق ٌدون آخر".

تبقى، مسألة المقارنة بين مأساة عاشوراء ومآسي التاريخ، وبالتالي المبرّر للوقوف عندها دون غيرها؛ وهو ما سنتعرّض له تباعاً في الحديث عن ضرورة عدم اختزال عاشوراء في جانب المأساة.
ثالثاً: عاشوراء بين العاطفة والفكر

ثمّة إشكاليّة تُطرح في عاشوراء ـ الذكرى، وهي موقع الفكر والعاطفة معاً من عاشوراء؛ أين هما من عاشوراء؟ هل العاطفة، وبالتالي المأساة، هي الجانب الأساس في صورة عاشوراء الذكرى والقضيّة؟ أم أنّ الفكر وخطوطه هو الأساس بعيداً عن عناصر العاطفة والمأساة؟ أم أنّ هناك اتّجاهاً ثالثاً تفرضه طبيعة الذكرى وطبيعة الاستفادة منها؟

لا بدّ قبل الولوج إلى معالجات السيّد لهذه الأسئلة الإشكاليّة، من توضيح المُراد من العاطفة والفكر في اتّصالهما بذكرى عاشوراء وإحيائها.

المقصود من الفكر هو المضمون الفكري الذي تختزنه عاشوراء، أو تبرزه، أو يبرزه الإحياء نفسه، في ما ينفتح عليه من مضامين يُضفيها المُحيون لعاشوراء عليها تبعاً لتنوّع ثقافتهم. ذلك أنّ عاشوراء مثّلت ـ من جهة ـ ثورةً على الحاكم الجائر؛ وبذلك يُمكن النظر إليها من جهة اكتشاف معالم الخطّ السياسي الثوري، ومن جهة أخرى، رفعت شعارات إسلاميّة، قرآنيّة ونبويّة، وجسّدتها على أرض الواقع، وهي ـ من جهة ثالثة ـ تُعطي زخماً للأبعاد الروحيّة والأخلاقيّة والبطوليّة والإنسانيّة بعامّة، في مواقف رموزها رجالاً ونساءً، شباباً وشيوخاً وأطفالاً، والتي يُمكن أن تشكّل عنصر قدوةٍ للأجيال الإسلاميّة. كما يُمكن ـ من جهة رابعة ـ أن تنفتح الذكرى على جدل في المسألة المذهبيّة، من خلال أنّ عاشوراء دخلت ـ في الذهنيّة العامّة ـ في حركة الصراع المذهبي عبر التاريخ الإسلامي الذي أدخل كلّ قضايا التاريخ في مفردات ذلك الصراع، حتّى ولو لم تكن عاشوراء نفسها تسمح بذلك التمذهب.

ومن الواضح هنا، أنّ ما يُمكن أن يتناوله البُعد الفكري في عاشوراء، لا يقتصر على المضامين الأصيلة فيها، بل سيشمل المضامين الدخيلة، والتي التصقت بعاشوراء في مسار إحيائها التاريخي؛ لكون الإحياء جزءاً لا يتجزّأ من حركة المجتمع في التعبير عن أفكاره ومكنوناته ومنهجه في قراءة العناصر التي تشتمل عليها الذكرى، والتي لا تقدّمها الذكرى بشكل جاهز، ولا سيّما في الشعر، الفصيح والشعبي، والذي قد يبتعد عن المضمون الأصيل للمبادئ التي جسّدت في عاشوراء، وهو ما سيوجّه إليه السيّد نقده بشكل مباشر وقويّ.

أمّا مسألة العاطفة، فهي تطلّ ـ بحسب السيّد ـ على عدّة مفردات:

أ: المضمون الفكري الذي يستغرق في كلّ العناصر المثيرة للحزن في مفردات قضيّة عاشوراء بالطريقة التي تستنزف الدموع بشكل مثير.

ب: الأسلوب الفنّي العاطفي الذي يستغرق في اللحن الحزين الشجيّ، ويوزّع عناصر الإثارة في كلّ أنغامه وتقاطيعه.

جـ: الممارسات الحادّة المعبّرة عن صراخ الذات في تأثّرها بالمأساة وانفعالها بقضاياها المؤلمة، وذلك بالبكاء العنيف، أو لطم الصدور، أو ضرب الظهور بالسلاسل، أو جرح الرؤوس بالسيوف، أو غير ذلك ممّا اعتاد عليه فريق من الناس، وأثار الجدل في المشروعيّة والجدوى على حدّ سواء.

ويرصد السيّد هنا اتّجاهين، ليخلص إلى عدم صلاحيّة أيّ منهما لتحقيق النتائج المستهدفة من الإحياء، ويتبنّى بالتالي اتّجاهاً يبدو ـ بالنظرة السطحيّة ـ وسطاً بينهما، ولكنّه في الواقع اتّجاه تفاعلي بكلّ العناصر الإنسانيّة في قضيّة إحياء عاشوراء.

1ـ الاتجاه العاطفي:

هذا الاتجاه يضع مسألة العاطفة في درجة كبيرة من الأهمّية، وذلك لعدّة أسباب:

أوّلاً: أنّ الخصوصيّة الذاتيّة للذكرى تفرض ذلك؛ لأنّنا أمام ذكرى مأساة، وبالتالي سيكون التفكيك بين المأساة وبين الذكرى، أشبه بالتفكيك بين الشيء وذاته.

ثانياً: أنّ العاطفة تتيح للذكرى الاستمرار في خطّ الحياة، من خلال تأثيرها في الشعور الإنسانيّ، ما يؤصّل علاقةً عاطفيّةً للناس بأهل البيت(ع)، تماماً كما هي العلاقة بين الإنسان ومن يحبّ، في انفعاله العفويّ بالمآسي التي تصيبه في نفسه وأهله. وفي المقابل، سيجعل الاكتفاء بالمضمون الفكري المجرّد القضيّة جامدةً جافّةً في الوعي الإنسانيّ، ككل القضايا التاريخية المتّصلة بالصراع بين الحقّ والباطل التي يتجاوزها الزمن.

ثالثاً: أنّ ثمّة نصوصاً كثيرةً واردةً عن النبيّ(ص) وعن أئمّة أهل البيت(ع)، على مستوى التوجيه والممارسة العمليّة، تؤكّد مسألة البكاء وتدعو إليه، وتخطّط للتربية العامّة للأمّة في اتّجاه إبقاء الأسلوب في خطّ الذكرى في امتداداتها الزمنيّة، وهو ما يفرض التركيز على العنصر العاطفي في إحيائها.

وبذلك، يخلص هذا الاتّجاه إلى أنّ تحريك المسألة العاطفيّة في الذكرى ليس مسألةً عاديّة، بل هو من المسائل المهمّة في التخطيط الإسلامي، لإبقاء هذه القضيّة حيّة في الحيّز الشعوري للإنسان المسلم على امتداد الزمن، بحيث تتحوّل إلى مسألة تتّصل بالضمير الإنسانيّ في علاقة الحاضر بالتاريخ.

2ـ الاتجاه الفكري:

يقف هذا الاتجاه موقفاً سلبيّاً من الجانب العاطفي في إحياء عاشوراء، وذلك لعدّة أسباب:

أ: أنّ قضيّة الإمام الحسين(ع) ليست من القضايا الإنسانيّة الذاتيّة التي تتمحور حول الذات، بل هي من القضايا الإسلاميّة الكبيرة الخاضعة للعناوين العامّة المتّصلة بالمسؤوليّة الشرعيّة من جهة، وبالخطّ السياسي الثوري من جهة ثانية. وعلى هذا الأساس، فإنّ التركيز على العاطفة، يبتعد بعاشوراء عن الطابع الإسلامي العامّ، ويحوّلها إلى الطابع الذاتي؛ نظراً إلى ما يضفيه الاستغراق في المأساة بالطريقة البكائيّة من ضبابٍ يحجب وضوح الرؤية في النظر إلى العناصر الحقيقيّة المتمثّلة في طبيعتها العامّة. حتّى إنّ الاستغراق في الجانب العاطفي، يجعل الارتباط بالشخصيّات القياديّة الإسلاميّة ارتباطاً شخصيّاً متّصلاً بالجوانب الذاتيّة وصفاتها الخاصّة.

ب: أنّ الاستغراق في الجانب العاطفي قد يدفع نحو التكلّف في العاطفة، فيتحوّل البكاء إلى نوع من التباكي الذي قد يلتقي بالصورة في معنى الحزن أكثر ممّا يرتبط بالمضمون، وقد يتحوّل إلى حالة من التنفيس عن الآلام الذاتيّة التي يختزنها الإنسان في حياته الخاصّة، أكثر من التفاعل الجدّي بالقضيّة التاريخيّة، فيجد الإنسان نفسه باكياً على مأساته لا على مأساة الحسين(ع)، باعتبار أنّ الجوّ العامّ قد يمنح الإنسان فرصةً للتنفيس الذاتي بما يتجاوز معه اللياقات الاجتماعيّة.

جـ: أنّ هذا النحو من الاستغراق في الجانب العاطفي، قد يُصبح نوعاً من الذهنيّة العامّة التي تعيش الاهتمام بالإيحاءات التاريخية الحزينة، أكثر ممّا تعيش من الاهتمام بالإيحاءات الثوريّة السياسيّة في الواقع الإسلامي الحاضر، في ما يواجهه من المشاكل الكبيرة الضاغطة على كلّ حاضر المسلمين ومستقبلهم.

ويُلاحظ السيّد هنا، أنّ العنصر التقليدي البكائي قد حوّل المسألة إلى مسألة تقليديّة، على مستوى اعتبارها من الطقوس الدينية العاديّة التي لا تحمل أيّ مضمون سياسي ثوريّ، أو أيّ بعدٍ حركيّ إسلاميّ، بحيث بات يلجأ الطغاة المنحرفون من السياسيّين المنتمين إلى الاجتماع الشيعي إلى إقامة الذكرى بالطريقة البكائيّة، باعتبارها إحدى التقاليد الشيعية العريقة!

د: ربّما يكون للذهنيّة التي أشرنا إليها، أثرٌ في طبيعة النظرة التي ينظر فيها البعض إلى الإمام الحسين(ع)؛ فهذا النمط من الإحياء، جعل الارتباط به(ع) ارتباطاً ذاتيّاً يتّصل بشخصه ولا يتّصل برسالته، حتّى إنَّهم رأوا في صفته الإماميّة الرساليّة امتيازاً ذاتيّاً، لا حركةً قياديّةً في المجرى الإسلامي العامّ للنهج القيادي الذي تستغرق فيه الشخصيّة القياديّة في الرسالة في حركة الذات، بحيث تفقد شعورها بالذات في غمار الرسالة، ولا تستغرق في ذاتيّاتها في أوضاع الزهو النفسي بالعناصر الحيّة في الذات.

 وقد تكون نتيجة كلّ ذلك، أن تحوّلت الثورة الحسينيّة إلى ثورة على الذات، بتعذيبها بالصراخ، ولطم الصدور، وضرب الظهور، وجرح الرؤوس، بدلاً من أن تكون ثورةً على الباطل الذي ثار الإمام الحسين(ع) عليه؛ وأصبحت الثورة مسألةً من مسائل المأساة التاريخيّة، بدلاً من أن تكون مسألةً من مسائل الإطلالة على مآسي الواقع الذي يتحدّى الإنسان في كلّ يومٍ بآلامه وفظائعه.

وكطرح بديل، يرى أصحاب هذا الاتجاه، أنّ مسؤوليّة العلماء والمفكّرين المسلمين، أن ينطلقوا إلى هذه القضيّة ـ المأساة ـ الثورة، ليطرحوها في الجانب الفكري والحركي، وفي جانب القدوة لكثير من مفردات الحركة الإسلاميّة والإنسانيّة لدى الإنسان المعاصر.

ومن خلال ذلك، يبدو السيّد كمن يستعرض سلبيّات التطرّف في تغليب أيّ من الجانبين في إثارة الذكرى، ليخلص إلى اتّجاه ثالث، وهو الموازنة بين الجانب الفكري والعاطفي؛ فلا يطغى فيها جانب على آخر؛ وهو ليس وسطاً أو اتّجاهاً توفيقيّاً، بقدر ما هو اتّجاه إنسانيّ، يُلاحظ أبعاد الإنسان التي تتطلّب استثارتها في عمليّة الإحياء، التعامل معها ككل متكامل، وهو الذي يؤدّي بدوره إلى تكامل عناصر الاستفادة والتزوّد من الذكرى في عمليّة الإحياء.
رابعاً: عدم اختزال عاشوراء في البُعد المأساوي

يؤكّد السيّد أنّ عاشوراء ـ القضيّة والمناسبة، لا تتمثّل في جانب المأساة؛ لأنّ المأساة حالة مستمرّة، كانت في التاريخ ولا تزال في الحاضر. وعندئذٍ، ستبدأ المقارنة بين عاشوراء ـ الحدث، وكلّ الجرائم والمآسي والمجازر الوحشيّة، ليُقال بأنّ عاشوراء ليست أوّل مأساة، ولن تكون آخرها؛ فما هو المبرّر لإحياء مأساة مضى عليها ما يقارب الأربعة عشر قرناً من الزمن؟!

وفي مقام الجواب عن هذه الإشكاليّة، يوجّه السيّد نقده المبطّن إلى الذهنيّة والخلفيّة التي تقف وراء الإحياء، وتعبّر عن نفسها بطريقة الاحتفال بالذكرى التي يغلب عليها طابع المأساة. وهذا الأمر يتمظهر في المعايير التي يتمّ على أساسها اختيار قارئ السيرة الحسينيّة، الذي يُطلق عليه اسم (الخطيب) أو (قارئ العزاء)، حيث الغالب هو اختيار الخطيب الذي يستطيع أن يستذرف الدمع أكثر، بدلاً من القارئ الذي يستطيع أن يستلهم الفكرة أكثر. وهذا يدلّ على أنّ الذهنيّة العامّة ترتبط بعاشوراء المأساة وبعاشوراء الدموع.

لا يعني ذلك أنّ السيّد يرفض جانب المأساة فيها؛ بل إنّه يؤكّده؛ لأنّه يرى بوضوح أنّ المأساة هي مظهر أو جزءٌ من عاشوراء ـ الحدث، وليس بالإمكان استعادتها إلا من خلال تغليفها بغلاف العاطفة، واستدرار الدمع، واستشعار الحزن، وما إلى ذلك ممّا تقتضيه طبيعة الذكرى.

ولكنّ هنا فرقاً ـ في نظر السيّد ـ بين أن تكون المأساة هي كلّ عاشوراء، وأن تكون المأساة هي جانب من مضمونها أو أسلوبها الإحيائي، في حين يكمن عماد المضمون في أن تكون "طريقاً خالداً للفكرة، للإسلام في دعوته، وللإسلام في أسلوبه، وللإسلام في منطلقاته".

ويذهب السيّد إلى أبعد من ذلك؛ حيث يوجّه نقداً إلى كثير من الجهد المبذول في إحياء عاشوراء في كلّ عامٍ، سواء على مستوى الدور التقليدي للممارسة العمليّة التي يقوم بها المؤمنون تعبيراً عن المشاعر العميقة للولاء والمحبّة لأهل البيت(ع)، أو في الدراسات التحليليّة للثورة الحسينيّة، أو في الخطابات الطويلة أو القصيرة التي تقدّم في نوادي الذكرى ومحافلها، حيث تبقى في إطارها المألوف، مع تغييرٍ في الأسلوب تارة، أو في درجة الانفعال والحماس أخرى، ثمّ لا جديد على الساحة!

ويطرح السيّد السؤال بطريقة الإشكاليّة: هل يقدّر لمثل هذه الذكريات أن تتحرّك في إطارها التاريخي الذي عاشت فيه، ثمّ لا تثير في الحاضر والمستقبل إلا بعض الدموع، وبعض الحسرات، أو بعض الحماس والانفعال؟!

يجيب السيّد عن كلّ ذلك، وهو يضع الإطار الفكري التنظيري لمبرّر إحياء عاشوراء، فيقول: "نحن لا نحتفل بعاشوراء كمأساة، ليُقال لنا إنّ المآسي كثيرة، بل نحتفل بعاشوراء لأنّها تمثّل الحركة الإسلاميّة التي استطاعت أن تجسّد الإسلام في كلّ شعاراتها، وفي كلّ أشخاصها، وفي كلّ الممارسات التي مارسها أيّ إنسان منهم في حياته الخاصّة والعامّة؛ وتلك بدعٌ من الثورات".

وبتعبير آخر يقول: "أن تكون هناك ثورة، أو حركة... وكأنّ كلّ فردٍ منها يجسّد الثورة والرسالة بكلّ معانيها ومنطلقاتها وبكلّ طهرها. وهذا ما تفتقده ـ فيما نعلم ـ كلّ الثورات في العالم؛ لأنّنا قد نجد في كلّ ثورة من الثورات أناساً مخلصين لما يفكّرون وما يناضلون وما يتحرّكون من أجله؛ ولكن أن تجد الكلّ يجسّدون موقفاً واحداً، وسلوكاً واحداً وفريداً من نوعه، وروحاً واحدةً ومنطلقاً واحداً، فهذا من اختصاص عاشوراء".

وإذا كان السيّد هنا يجيب عن الإشكاليّة الآنفة الذكر، فإنّه يضع ـ بلا شكّ ـ الأسس النظريّة التأسيسيّة لخلود عاشوراء الذكرى في المستقبل، وفي مدى الأجيال؛ وذلك من خلال تأكيده أنّ عاشوراء إسلاميّة المنبع والخطّ والقيم والتجسيد؛ وهو بذلك يحسم أمرين:

الأوّل: أنّ خلود عاشوراء هو بمقدار ارتباطها ـ كذكرى ـ بالإسلام؛ فكراً وشعاراً وخطاً وقيماً وتجسيداً، في الحياة الخاصّة والعامّة معاً، بحيث تتحرّك حيث يتحرّك الإسلام، وبذلك تُصبح عاشوراء محطّة لإحياء الإسلام، بكلّ معانيه وخطوطه الخاصّة والعامّة.

وهذا الأمر سيكون له ظلاله ـ بطبيعة الحال ـ على كلّ النقد الذي سيوجّهه السيّد إلى الطريقة التقليديّة في إحياء عاشوراء، مضموناً وأسلوباً؛ لأنّه يقيس كلّ ذلك على أساس المعايير الإسلاميّة الواردة في القرآن الكريم والسنّة الشريفة؛ لأنّ عدم احتكام عاشوراء الذكرى والإحياء إلى ذلك، يعني خروج الإحياء عن مضمونه وأسلوبه الإسلاميّين؛ وهذا يمثّل انحرافاً عن القاعدة التي استندت إليها عاشوراء ـ الحدث وتحرّكت على أساسها.

الثاني: أنّ السيّد يُخرج عاشوراء عن الصبغة المذهبيّة التي التصقت بها بفعل كثير من العوامل والتعقيدات التاريخية والاجتماعيّة، في علاقة أتباع المذاهب الإسلاميّة بعضهم ببعض، وبذلك هو يوجّه باتّجاه أمرين أيضاً:

أوّلاً: أنّ إحياء عاشوراء لا يقبل المذهبة، بمعنى أنّ مذهبة إحياء عاشوراء لا ينسجم مع طبيعتها الإسلاميّة، وبالتالي لا يُمكن أن يوجّه المسلمون الشيعة إحياء عاشوراء نحو المسلمين الآخرين، في إيحاءٍ بأنّ عاشوراء ـ المأساة صُنعت بفعل الصراع بين السنّة والشيعة تاريخيّاً.

ثانياً: أنّه يفتح الباب على مصراعيه أمام كلّ المسلمين، لمحاولة اكتشاف عناصر الغنى في عاشوراء ـ الحدث والقضيّة، بما يمنح كثيراً من الزخم الإسلامي الذي يمارس تأثيره في الذهنيّة والحركة الإسلاميّة، التي ينطلق فيها كلّ الإسلاميّين لصناعة الدور وفق مسؤوليّاتهم عن تجسيد الإٍسلام، فكراً وخطاً وقيماً، في حياتهم الخاصّة والعامّة، وفي الصراع مع أعداء الإسلام والإنسانيّة في أكثر من موقع.

ومن جهة أخرى، فكما لا يصحّ اختزال عاشوراء في البُعد العاطفي، في ما تطلّ عليه المأساة فيها، فإنّه لا يصحّ اعتبارها قضيّةً عسكريّةً أو حربيّةً فقط، أو أن يُنظر إليها كثورة انتحاريّة، بحيث يؤخذ "الانتحار" في سبيل القضيّة، أو العمليّات الاستشهاديّة كما اصطلح عليه، كمبدأ ثابت للعمل والجهاد. وهنا يقول السيّد: "ونحن نريد أن نستعيد عاشوراء في كلّ وقت، علينا أن نفهم أنّ عاشوراء كانت وليدة ظروفٍ معيّنة. إنّ عاشوراء لم تكن ثورةً مفصولةً عن ظروفها وعن طبيعة الأوضاع التي كانت تحيط بها... وندرس المرحلة التي تنسجم مع ظروف عاشوراء أولا تنسجم. وإلا، فلو كانت عاشوراء خطّةً نهائيّةً، أو كانت مقياساً للحكم على كلّ شخصٍ يريد أن يتحرّك أو يعمل، فكيف نفسّر موقف أئمّة أهل البيت(ع) الباقين الذين لم ينطلقوا في أسلوب عاشوراء، وإنّما انطلقوا في العمل بأساليب جديدة ومواقف جديدة". ويخلص إلى أنّ عاشوراء هي "أحد النماذج التي يطرحها الإسلام للتحرّك عندما تتهيأ الظروف الموضوعيّة" من أجل تحقيق الهدف.

إنَّ السيّد يؤكِّد بوضوح، أنَّ دورنا في الإحياء، هو أن تتحوّل دراسة التاريخ في حياتنا إلى دراسة يتمثّل فيها الدور المرحليّ الذي يعتبر الحاضر امتداداً له، وإلى قضايا ووقائع يتمثّل فيها التطبيق العمليّ الحيّ للإسلام، حيث نضع أيدينا فيه على الأسس الشرعيّة لكل الحركات الجهاديّة والإصلاحيّة، من مشاريع التحرّك في حركة الواقع المعاصرة والمستقبليّة، فنواجه التاريخ بعقليّة عمليّة، لا انفعاليّة، ولا فكريّة مجرّدة؛ الأمر الذي يجعلنا لا نغرق في الماضي عندما نثير الماضي، بل نتحرّك من خلاله في الحاضر، على أساس اكتشاف العناصر الباقية الثابتة في حركاته، بعيداً عن كلّ فواصل الزمن؛ ككلّ المبادئ التي تنطلق في زمان معيّن، ولكن لا لتتحدّد فيه، بل لتتّسع من خلاله في كلّ ما تتّسع له قضيّة الحقيقة في الحياة.

ويستغرق السيّد في الجانب العملي لإحياء ذكرى عاشوراء، وأيّ ذكرى في التاريخ تتّصل بالشخصيّات التي تجسِّد النماذج الرساليّة للإسلام، بأن نجعل للذكرى في كلّ عامٍ دوراً في كلّ مرحلة من مراحل العمل، سواء في ذلك الجانب الثقافي أو الاجتماعي أو السياسي، بحيث لا تكون الذكرى مجرّد مناسبة تضيع في الفراغ، بل تتحوّل إلى أن تكون جزءاً من خطّة، تتكامل مع الأجزاء الأخرى وتكمّلها.

وليس من شكّ في أنّ هذه القاعدة الإسلاميّة التي يؤكّدها السيّد لعاشوراء القضيّة، تفترض أن يتمّ البحث عن عناصر المعاصرة في عاشوراء؛ بحيث تجيء عاشوراء إلى الحياة المعاصرة، "لتصحّح ما انحرف، وتقوّم ما اعوجّ، ولتقود الإنسان إلى الطريق من جديد"، وبذلك، يكون التركيز في كلّ الإحياء للذكرى على "ما تمثّله عاشوراء من مبادئ، وما نريد لعاشوراء من حركة... كيف يجب أن تكون، كي تتقدّم وتظلّ خالدةً في حياتنا".

من هنا، يبدو، في نظر السيّد، أنّ الإحياء ليس وصفةً جاهزةً تقدّمها عاشوراء، وإنّما هو فعلٌ حضاريّ يمارسه الإنسان في كلّ جيل، يحاول من خلاله أن يستثمر الذكرى ـ التاريخ، للحاضر ـ الفعل والتغيير، على كلّ مستوى تستطيع أن تقاربه عاشوراء المبادئ والقيم والمنهج والخطّ.

وهذا ما يعني ـ بالضرورة ـ أنّ الإحياء يكتسب مضمونه وأسلوبه من خلال طبيعة الظرف المجتمعي الذي يحتضن الإنسان ويؤثّر في ذهنيّته وسلوكه. وبذلك يبدو طبيعيّاً أن يشهد مضمون الإحياء وأسلوبه صعوداً وهبوطاً على المستوى الثقافي والفكري، وتمثيلاً للمبادئ بحسب طبيعة حركة المجتمع في كلّ ذلك. أي أنّ المستوى الحضاري لأيّ مجتمع سوف ينعكس بالضرورة على كلّ أنشطته، ومنها إحياء المناسبات الإسلاميّة بطبيعة الحال.

ولذلك، يشير السيّد بكلّ وضوح، إلى أنّ "بعض الممارسات التي يمارسها الكثير من الناس، من جرح الرأس بالسيف، أو ضرب الظهر بالسلاسل، أو ما أشبه ذلك، ربّما كانت لها ظروفها الموضوعيّة في التاريخ، وربّما كانت لها فوائدها فيه، ولكنّ هذه الأساليب لا تستطيع أن تقدّم قضيّة عاشوراء في قليل أو كثير؛ بل ربّما تخلق بعض ردود الفعل، عندما تنطلق الصورة التي أثيرت في هذا المجال لتبعث الاشمئزاز في بعض النفوس، وتبعث كثيراً من الانفعالات التي هي ليست في مصلحة القضيّة".

وبذلك، فإنّ تخليد عاشوراء، لا يُمكن إلا أن يترافق ـ في نظر السيّد ـ مع التجديد المستمرّ للمضمون الإحيائي (أي الذي يتمّ فيه التعبير عن المبادئ لتلامس الواقع المعاصر وحاجاته وقضاياه) والأسلوب، من دون أن يعني التجديد ترك كلّ هذه الأساليب، ولكن ـ كما يقول السيّد ـ "أن نفهم أنّ عاشوراء ليست للدموع وللبكاء، وإنّما هي للإسلام وللرسالة والحياة". والهدف لدى السيّد من الإحياء دائماً معاصر؛ لأنّ تجسيد الإسلام هو دائماً كذلك، أي أنّه مسؤوليّة كلّ جيل، وكلّ فردٍ، ولذلك يقول: "علينا أن نظلّ نفكّر مع عاشوراء بأساليب جديدة، وبطرق جديدة، لتستطيع عاشوراء أن تربّي كلّ جيل، تربّينا وتربّي الأجيال التي تأتي من بعدنا؛ لأنّنا إذا لم نطوّر عاشوراء بأنفسنا، فسوف يطوّرها الآخرون البعيدون عن الرسالة وعن الإسلام. فعلينا نحن أن نتولّى عمليّة التطوير، قبل أن ينحرف التطوّر بها إلى غير وجهتها وإلى غير رسالتها".

وهذه النقطة قد تبدو نقطةً مركزيّةً في حركة التجديد في فكر السيّد؛ إنّه يؤكّد أنّ عمليّة التغيير لا بدّ من أن تنطلق من الداخل، من خلال الذين يلتزمون الإسلام، فكراً ومنهجاً، ليكون التطوير في صالح الرسالة وفي استثمارها، ومرتكزاً إلى مبادئها الأصيلة. أمّا التطوير الذي يتمّ من خلال إسقاط المبادئ الأخرى، فقد ينحرف بالذكرى عن خطّها ومبدئها، لتصبح قضيّةً أخرى تأخذ طابعاً مذهبيّاً ضيّقاً، أو احتفاليّاً مجرّداً عن أيّ مضمون وهدف رساليّ.

إلى هنا، يقدّم السيّد عناصر خلود عاشوراء بعدّة أمور:

1ـ ارتباط عاشوراء بأصالتها الإٍسلاميّة، وهو الإطار العامّ المنفتح على كلّ المسلمين.

2ـ عدم اختزال عاشوراء في بُعدٍ من أبعادها، كاعتبارها قضيّةً مأساويّةً أو ثورةً عسكريّة أو حربيّة.

3ـ المعاصرة في استثمار الذكرى، بمعنى أن تكون وظيفة الإحياء لأجل الجيل المعاصر.

4ـ أن يكون التجديد لإحياء عاشوراء عمليّةً مستمرّة.

5ـ أن ينطلق التجديد من الداخل لا من الخارج.


خامساً: قضايا عاشوراء


تطرح عاشوراء كذكرى ومضمون، عدّة قضايا أساسيّة تطلّ على كثير من تحدّيات الواقع المعاصر بقوّة، نقف عند بعضها في ما يلي من عناوين:
1- الثورة والمعارَضة:

ينطلق السيّد فضل الله من الشعارات التي أطلقها الإمام الحسين(ع) ليحدّد أهداف ثورته، حيث يبرز لدينا عنوان الإصلاح كقاعدة أساسيّة، وهو ما أعلنه الحسين(ع) بقوله: "إنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً، ولا ظالماً ولا مفسداً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدّي رسول الله(ص)، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدّي وأبي".

وفي توجيه الأنظار إلى الواقع للدفع باتّجاه عمليّة مقارنة بين المبدأ والواقع، يقول الحسين(ع): "ألا وإن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلّوا حرام الله، وحرّموا حلاله، وأنا أحقّ من غيّر". ويعيد السيّد فضل الله ترجمة ذلك القول إلى المفردات المعاصرة، فيقول: "فهناك انحراف في الالتزام بالله في موقع الطاعة، وانحراف عن الدستور في موقع التشريع؛ بتحليل الحرام وتحريم الحلال، وهناك تعطيل للقوانين والحدود؛ بتقديم الشريف فلا يطبّقون القانون عليه، فيما يُطبّق على الضعيف حصراً، واستئثارهم بالفيء الذي هو مال الأمّة..."[127].

والإمام الحسين(ع) إذ يطرح الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كبرنامج عملي لعنوان الإصلاح، ويطرح المبدأ وتجلّياته في الواقع، فإنّ حركته تلك ـ بتعبير السيّد فضل الله ـ تمثّل نوعاً من أنواع المعارضة والثورة على الحكم الظالم؛ لأنّ هناك مجتمعاً إسلاميّاً تترأّسه قيادة غير إسلاميّة ـ بالمعنى العملي ـ تسيطر على أوضاع المسلمين، وسياسة غير إسلاميّة ـ بذاك المعنى أيضاً ـ تتحرّك في حكم المسلمين؛ فكان الحسين(ع) هو الثائر والمعارِض.

وإذ ينظُر السيّد فضل الله إلى مسألة المعارضة والثورة من الزاوية الواقعيّة العمليّة، فإنّ الحسين(ع) لا بدّ من أن يسعى لاستلام السلطة والحكم، لا من موقع حبّ السلطة وشهوة الحكم، بل من الموقع الرسالي الذي يفترض أنّ تغيير الواقع لا بدّ من أن يتحرّك من خلال من يملكون القابليّة لحمل رسالة التغيير؛ وهذا ما لا يتوفّر في يزيد في أيّ معيار من المعايير التي يُقاس بها الحكّام؛ وذلك بغضّ النظر عن أنّ الحسين(ع) هو بنفسه إمامٌ مُفترض الطاعة، بنصّ النبيّ(ص) الذي يرويه كلّ المسلمين، والخلافة موقعه الطبيعي، وأنّ سيرته بها هي سيرة النبيّ(ص) وعليّ(ع)، لا في تحقيق العدالة في الحكم فحسب، بل في القيادة الفكريّة والروحيّة والحضاريّة للمجتمع الإسلاميّ. ولذلك، فالسيّد يرى الثورة كعمليّة تغيير شاملة للواقع، من خلال حركة الحسين كإمام يملك الشرعيّة، ويعطيها لكل حركة وخط وقضيّة من قضايا المُجتمع.

والسيّد هنا يطرح الثورةَ حركةً تنطلق من ظروفٍ موضوعيّة، وتسعى إلى تحقيق أهدافٍ كُبرى لها علاقة بالتغيير الشامل في بنية الحكم في الكيان الإسلامي، كما يضعُ مسألة الحكُم وطلبِهِ في إطارها الرساليّ، على طريقة ما يشير إليه الكلام المرويّ عن الإمام عليّ(ع): "اللهمّ إنّك تعلم أنّه لم يكن الذي كان منّا منافسةً في سلطان، ولا التماس شيء من فضول الحطام، ولكن لنرد المعالم من دينك، ونُظهر الإصلاح في بلادك، فيأمن المظلومون من عبادك، وتقام المعطّلة من حدودك، وكمقولته الأخرى لابن عبّاس وقد رآه يخصف نعله: "إنّها أعظم من ولايتكم، إلا أن أقيم حقّاً أو أدفع باطلاً".

ويرى السيّد فضل الله أنّ ذلك لا يتنافى أبداً مع السائد في تصوير الثورة على أنّها حركة استشهاديّة، في ظلّ اختلال موازين القوى، واتّجاه الأمور نحو الأفق المقفل في الحلول التي يقبلها الحسينُ(ع) في موقعه الرسالي؛ لأنّ عنوان الثورة كان تغيير الواقع من خلال تغيير القيادة غير الشرعيّة إلى قيادة شرعيّة متمثّلة بالإمام الحسين(ع)، وتغيير الخطّ العملي في واقع الحكم؛ والحركة الخاضعة لهذا العنوان، لا تعني النجاح في نهاية المطاف؛ فكم من ثائرٍ في طريق التغيير لم تساعده الظروف على الوصول إلى هدفه؟!.

2- الثورة ليست تكليفاً خاصّاً:

ويرفض السيّد فضل الله اعتبار أنّ الحركة الحسينية تتحرّك في خطّ التكليف الخاصّ؛ لكونها من مسؤوليّات الإمام المعصوم ـ بحسب عقيدة المسلمين الشيعة في أهل البيت(ع) ـ، وليست المسألة مسألة عناوين عامّة يُمكن لأيّ قيادة أخرى أن تكون معنيّةً بها.

وليس من شكّ في أنّ هذه الذهنيّة سوف تجعل من عاشوراء الذكرى قضيّةً تتّصل بخصوصيّة الرمز، فلا يعود أيّ واقعٍ معنيّاً بتجسيدها في حياته، وهو ما من شأنه أن يؤسّس لذهنيّة الاستسلام للأمر الواقع، واعتبار التغيير مسؤوليّة الإمام المعصوم.

ويجيب السيّد فضل الله على ذلك تأسيسيّاً ليقول: "إنّ الإمام لا ينطلق في حركته من خصوصيّات المسؤوليّة الخفيّة التي لا يعرفها المسلمون معه؛ لأنّ القضيّة هي قضيّة الإسلام فيما يجب عليه أن يحرّك الأمّة لتحقّق له قوّته وعزّته وكرامته، من خلال عناوينه الكبيرة، وأهدافه الواسعة. ولذلك، فإنّه ينطلق من قضايا الإسلام وعناوينه التي يشعر المسلمون معه أنّهم معنيّون بها من خلال مسؤوليّتهم عنها، لا من خلال الطاعة العمياء للإمام الذي تجب عليهم طاعته".

ويربط السيّد ذلك بالقرآن الكريم "في حديثه عن المعارك التي يريد للمسلمين أن يخوضوها أو التي خاضها المسلمون قبل نزول الآيات"، حيث "يقدّم لهم العناوين التي يريد الله لهم أن يتحرّكوا من أجل تحقيقها في الواقع، لينطلقوا من موقع وعي للهدف، لا من موقع استسلام أعمى للأمر، وهذا ما لاحظناه في الآيات التي تحدّثت عن بدرٍ وأحد وحنين والأحزاب وغيرها".

وبعد أن يستعرض السيّد فضل الله العناوين التي بيّن الحسين(ع) فيها شرعيّة المعركة من خلال عناوينها الإسلاميّة العامّة، لا من خلال خصوصيّة إمامته، يخلص إلى أنّ بإمكاننا أن ندخل في التجربة ذاتها، "على أساس شرعيّة الموقف إذا كانت المرحلة شبيهةً بالمرحلة التي عاشها الإمام الحسين(ع) من حيث الظروف والأوضاع والمواقع. وبذلك تخضع المسألة، في حركة العناوين الكبيرة في واقع الأمّة، لدراسة المرحلة الزمنيّة والسياسيّة في مدى الإيجابيّات التي توفّرها للمصلحة الإسلاميّة العليا على صعيد تغيير الواقع، أو إيجاد الصدمة النفسيّة أو السياسيّة التي قد تهزّ الأمّة من أجل إعدادها لمرحلة جديدة، أو الإعداد للخطّة الطويلة التي تحتاجها الثورة في مواجهة التحدّيات الكبيرة للاستكبار".

إنّ السيّد يطرح هنا المسألة بشكل متحرّك؛ "فقد تحتاج القضيّة إلى الأسلوب الكربلائي، وقد تحتاج إلى الأسلوب الهادئ الذي ينفتح على السلام على أساس المرونة العمليّة التي تمثّل أسلوب الانحناء أمام العاصفة ريثما تمرّ، ليبدأ التحرّك في أجواء طبيعيّة ملائمة، وقد تمسّ الحاجة إلى أسلوب متنوّع فيما بين الرفق والعنف، فيتحدّد الحكم الشرعيّ في نوعيّة الحركة تبعاً لنوعيّة الظروف الموضوعيّة الموافقة أو المخالفة".

والسيّد يؤسّس هنا للمنهج في رصد أساليب أئمّة أهل البيت(ع)، إذ يرى أنّ المسألة لم تكن مسألة "اختلاف في النظرة إلى طبيعة العمل، بين موقف يؤمن بالعنف، وموقف يؤمن باللين، لتكون ذهنيّة الأوّل ذهنيّةً عسكريّةً في نظرتها إلى طبيعة الصراع، بينما تكون ذهنيّة الثاني ذهنيّةً سلميّةً في دراستها للواقع، بل كانت المسألة مسألة الاختلاف في الظروف الموضوعيّة التي تجعل من كلّ أسلوبٍ ضرورةً في مرحلته في علاقته بالهدف الكبير".

3- المعارضة مسؤوليّة الأمّة:

وممّا لا شكّ فيه، أنّ طريقة السيّد فضل الله التي يشدّد عليها في قراءته للتاريخ وتوجيهه للاستفادة منه، تجعله ينطلق بمصطلح المعارَضة السياسيّة التي جسّدتها الثورة الحسينيّة، ليجعل منه أنموذجاً للواقع المعاصر، فتجد السيّد يقول: "مسألة المعارضة السيّاسيّة في الواقع السياسي هي مسؤوليّة كلّ الناس الواعين، وكلّ المثقّفين، وكلّ الذين يتحرّكون في السياسة على أساس أن تكون السياسة رسالةً لا لُعبة؛ لأنّ هؤلاء يمثّلون الطليعة الرائدة في الأمّة"[128].

ويُتابع ربطه لعاشوراء بالواقع المعاصر له فيقول: "وأمام ذلك، نجد المستكبرين ـ ومن خلال اللعبة المخابراتية في داخل الشعب ـ قد وضعوا أناساً على الأمّة... ليضغطوا عليها، وليُصادروا حرّيتها، ويحكموا بالحديد والنار بكلّ الوسائل الموجودة؛ ولكن ـ بالرغم من ذلك ـ لا بدّ للأمّة من أن تعمل لتكتشف ثغرةً هنا وثغرةً هناك لتنفذ منها، حتّى تستطيع أن تُسقط الظلم الذي فرض سيطرته بفعل الظروف الموضوعيّة الموجودة، والتي يُمكن أن يزول بتغيير الظروف الموضوعيّة ذاتها[129].

إنّ السيّد فضل الله هنا يضع الثورة الحسينيّة في إطار المسؤوليّة الرساليّة العامّة، التي يبدو فيها الحسين(ع) المسلم الذي يؤدّي تكليفه الشرعي، لا الذي يؤدّي تكليفاً خاصّاً بعيداً عن قواعد العمل الإسلامي، وهو ـ أي التكليف ـ مسؤوليّة كلّ الأجيال الإسلاميّة الآتية مع الزمن، والتي ينبغي عليها أن ترصد الواقع قياساً بالأهداف والمرتكزات والقيم التي تحكم حياة المسلم، فيدفعه ذلك إلى أن يحدّد موقفه المنسجم أو المعارض للواقع القائم.

بل قد يُمكن القول، إنّ ذلك يُدخل عاشوراء القضيّة والهدف والقيمة في أكثر من مفصل حياتيّ؛ لأنّ مسألة المعروف والمنكر لا يقتصران على الجانب السياسي، وإن كان الجانب السياسي هو الأبرز في عاشوراء الحركة والثورة، بل يشملان كلّ ما من شأنه أن يرفع مستوى الإنسان ممّا أقرّته الشريعة، فيحاول المسلم تحقيقه في الحياة، وكلّ ما من شأنه أن يحطّ من مستوى الإنسان ممّا نهت عنه الشريعة، فيحاول المسلم أن يجنّب الواقع من تحقّقه.

ويقول السيّد فضل الله في هذا المجال: "ليس هناك في الأمّة شخص خارج المسؤوليّة؛ فلكلّ شخصٍ منّا طاقة، ولكل منّا موقع. وإذا كانت طاقتك أو موقعك لا يسمحان لك بأن تغيّر الواقع من خلالهما، فإنّك تستطيع أن تضمّ طاقتك إلى طاقات الآخرين، وأن تقارب بين موقعك ومواقع الآخرين؛ ذلك أنّ أوّل شرط للمسؤوليّة هو وعي الواقع، وأن لا تكون لدينا أمّية سياسيّة التي هي من أخطر ألوان الأمّيّات... فلا بدّ من أن يكون لدينا الوعي السياسي إلى جانب الوعي الثقافي والوعي الاجتماعي" وما إلى ذلك...

4- تصحيح المفاهيم:

يشدّد السيّد فضل الله على أنّ قضيّة الحسين(ع) هي قضيّة الإسلام كلّه، التي يتحرّك فيها من خلال موقعه الشرعي كإمام للإسلام، ومسؤول عن المسلمين، ولذلك لا يُمكن النظر إلى حركته الإصلاحيّة والثوريّة التغييريّة في البُعد السياسي فحسب، بل يراها السيّد جزءاً من حركة لتأصيل مفاهيم الإسلام التي شوّهتها الممارسة المنحرفة للحكم في موقع الخلافة لرسول الله(ص)، والتي ألقت بظلالها على مجمل النشاط المجتمعي الإسلامي.

إنّ الحسين(ع) يصحّح لدى الأمّة أكثر المفاهيم خطورةً، وهي الاستسلام للأمر الواقع تحت عناوين عقائد ابتُدعت لذلك، كعقيدة الجبر الإلهيّ التي روّج لها معاوية بن أبي سفيان، وأراد من خلالها تثبيت ملكه وحكمه على أساس أنّه يمثّل إرادة الله التي لا يستطيع العباد لها ردّاً ونقضاً... وذلك كلّه من خلال الصدمة التي انطلقت من موقف التحدّي والرفض المطلق للحلول الوسط وصولاً إلى الاستشهاد، ممّا أعاد فيه الحسين(ع) ربط الأمّة بمعايير التقويم الإسلامية التي ينبغي أن يُقاس عليها الواقع القائم، ثمّ في تحريك مفهوم المسؤوليّة البشريّة عن التغيير، والتي هي جزءٌ من إرادة الله للتغيير، كما قال تعالى: {إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}(الرعد:11).

5- عاشوراء ليست حركة عائليّة أو قبليّة:

أمام ذلك، يؤسّس السيّد لينتقد بعض التوجّه، الذي قد يكون عفويّاً في بعض مجالاته، والذي يركّز على عنوان "بني أميّة" في مقابل "بني هاشم"، وكأنّ المسألة هي مسألة صراع قبلي أو عائليّ، وليست قضيّةً كُبرى تتّصل بالقيمة الإسلاميّة الكُبرى التي تتجلّى في حركة الإنسان في العالم، والمسلم في الواقع!

ويرصد السيّد فضل الله هذا الأمر، لا في التعبير عن التاريخ والأحداث في السرد والقصص والسيرة الحسينية فحسب، بل في الشعر الذي يعبّر فيه على طريقة أبي العلاء المعرّي الذي يقول:

عبد شمسٍ قد أضرمت لبني ها
    

شم حرباً يشيبُ فيها الوليد

فابن حربٍ للمصطفى، وابن هندٍ
    

لعليّ، وللحسين يزيد

أو في بعض قصائد السيد حيدر الحلّي يقول فيها:

قوّضي يا خيام عليا نزار
    

فلقد قوّض العماد الرفيع

واملأي العين يا أميّة نوماً
    

فحسين على الصعيد صريع

وإذا كانت هذه التعابير جزءاً من الذهنيّة الاجتماعيّة التي عاشت في التاريخ، حتّى لقد عُنونت حقبٌ تاريخيّة بعناوين العوائل والقبائل، كالعصر الأموي والعباسي والعثماني، وما إلى ذلك، فإنّ ذلك لا يجعل الأمر مقبولاً من خلال النظر إلى طبيعة الثورة الحسينية وأهدافها وقيمها الكُبرى، ولا سيّما أنّ تلك العناوين العائليّة قد تجعل من المسألة المذهبيّة الأكثر حضوراً في الذهنيّة العامّة، سواء التي تحتضن الذكرى في واقعها المذهبي أو غيرها؛ بل إنّ ذلك سيحمّل ـ بطبيعة الحال ـ عاشوراء القضيّة كثيراً من الموروث المأزوم مذهبيّاً في شكل وآخر؛ وهو ما يبتعد بعاشوراء عن وجهها الحقيقي، ووظيفتها الواقعيّة.

6- عاشوراء إسلاميّة منفتحة وليست فئويّة:

وعندما يشدّد السيّد على إسلاميّة عاشوراء، فهو يطرح هذا العنوان في مقابل اتّجاه مذهبة عاشوراء، الّذي يجعل من عاشوراء مجرّد حركة مذهبيّة، تتّصل بالخصوصيّة الشيعيّة بالمعنى الضيّق للتشيّع، بعيداً عن الخصوصيّة الإسلاميّة العامّة التي تتّصل بقيم الإسلام المشتركة التي لا تختلف فيها نظرة مذهب عن آخر، مع التشديد على "أنّ التشيّع لا يمثّل انغلاقاً، ولا يمثّل تعصّباً، وإنّما يمثّل انفتاحاً على المسلمين كلّهم، وعلى الناس كلّهم".

إنّ إسلاميّة عاشوراء ـ كما يبيّن السيّد ـ يكمن في أنّها "انطلقت من كلّ شعارات الإسلام ومواقفه ومواقعه.

وفي الوقت نفسه، يؤكّد السيّد فضل الله أنّ هذا "الإسلام الذي جسّدته عاشوراء، هو إسلامٌ ينفتح على العدل كلّه، وعلى الحرّية كلّها، ولذلك فإنّه ينفتح على الإنسان كلّه".

إنّه الإسلام الذي لا يلغي الآخر، وهو قد قال لأهل الكتاب: {قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ}(آل عمران:64).

إنّ الإسلام الذي يطرحه السيّد فضل الله، هو الإسلام الذي يدعو إلى الكلمة السواء في كل القضايا التي يلتقي عليها المسلمون وغيرهم، سواء منها التي تتّصل بالخطوط العامّة في العقيدة، أو في القيم الروحيّة والأخلاقيّة، أو بالواقع السياسي والاجتماعي، وليس الإسلام المنغلق الذي يحاول أن يثير التعصّب والتفرّق.

وبذلك، فالسيّد فضل الله يفتح الباب على مصراعيه، لتلمّس البُعد الديني العامّ، والبُعد الإنسانيّ الخالص في عاشوراء، وفي حركة الثورة، وفي تجلّيات الروحانيّة في عمق المعاناة الرساليّة وما إلى ذلك.
7- المجالس الحسينية:

المجالس الحسينيّة تمثّل التجمّعات التي يجتمع فيها المُحيون لعاشوراء ليستمعوا فيها إلى خطيب السيرة الحسينيّة، والتي يتمّ عرضها بأسلوب حزين يحاول الخطيب من خلاله أن يستدرّ الدمعة، ويستشعر الحزن في نفوس سامعيه.

وتقام المجالس الحسينيّة، أو العاشورائيّة، في الأيّام العشر الأوائل من شهر محرّم، أوّل الشهور القمريّة الهجريّة، وعمادُها عادةً القصيدة الشعريّة والنعي لشخصيّات عاشوراء، ومحاولة استلهام المواقف العاشورائيّة للواقع المعاصر.

ويتفاوت خطباء السيرة الحسينيّة تبعاً للمستوى الفكري والثقافي الذي يتمتّع به الخطيب؛ وقد احتضن تاريخ الخطابة عدداً من الخطباء الذين ربّما كانوا في موقع الاجتهاد والرأي، وربّما كانوا في الموقع الثقافي المميّز، وربّما كانوا مجرّد ناقلين ومردّدين لما ينتجه آخرون.

ويؤكّد السيّد فضل الله في هذا المجال أهمّية هذه المجالس، ودورها الكبير في تعزيز التفاعل الجماهيري العفوي مع عاشوراء الذكرى والقضيّة، معتبراً أنّ تحويل عاشوراء الذكرى إلى حالةٍ ثقافيّة نخبويّة، يُبعد عنها الفاعليّة والحركيّة التي تقوم على التفاعل الشعبي العفوي مع الذكرى بالدرجة الأولى.

ويقول السيّد فضل الله في هذا المجال: «إنَّ بإمكاننا أن ننطلق في هذه المجالس، مجالس عاشوراء، نحييها ونؤيّدها ونجعلها تستمرّ، ولكن شرط أن تتغيّر العقليّة التي تعتبر نجاح القارئ بمقدار ما يستطيع أن ينوح أكثر، وبمقدار ما يستطيع أن يُبكي أكثر. علينا أن ننطلق من مجالسنا، ليشعر هؤلاء القرّاء بأنّ الناس تتعاطف معهم عندما يستطيعون أن يجسّدوا عاشوراء بالكلمة، ويجسّدوا المآسي من خلال الرسالة ومن خلال ما تمثّله عاشوراء».
8- توثيق السيرة الحسينيّة:

يطرح السيّد فضل الله مشكلة وثاقة نصّ السيرة الحسينية، كأيّ نصّ تاريخي قد يصيبه الدسّ والتزوير والمبالغة وما إلى ذلك. وتزداد المشكلة تعقيداً عندما يرتبط الحدث بالمأساة، ويرتبط ذلك كلّه بجانب القداسة لرموز الحدث والقضيّة، كما في عاشوراء.

يقول السيّد بكل وضوح: "إنّ علينا عندما نواجه مسألة سيرة الحسين(ع)، أن لا نعتمد على كلّ ما بين أيدينا، فبين أيدينا غثّ وسمين، وبين أيدينا متناقضات؛ لذلك لا بدّ من أن تُدرس سيرة الحسين(ع) دراسةً علميّةً موضوعيّة".

وعلى خلفيّة نقاشٍ دائر في هذا المجال، ولا سيّما بين خطباء السيرة الذين قد يُبتلونَ بشحّ المعطيات إذا ما أخذ بالمعايير العلميّة الدقيقة لقبول النصّ، يلفت السيّد فضل الله إلى أنّه ليس بالضرورة الأخذ بكلّ رواية بالطريقة التي يسلم فيها كلّ رجال سند الرواية، هذا إذا كان للرواية سندٌ على طريقة روايات الفقه، "ولكن علينا أن ندرس الروايات في مضمونها، من حيث طبيعة علاقتها بالواقع من حولها، حتّى نستطيع أن نركّزها على أساس وقاعدة".

إنّه يجعل المضمون الواقعيّ المتّصل بطبيعة الحدث والظروف والحركة مقرونة بالهدف والشعار، معياراً موضوعيّاً لضبط المقبول وغير المقبول من المرويّ التاريخي. ومن البديهي أنّ ذلك يحتاج إلى ثقافة عالية في أكثر من ميدانٍ؛ وهذا هو الذي يحدّ من إقحام الروايات المبالغ فيها، أو التي تقترب من الأساطير والخرافات، أو التي تظهر فيها شخصيّة الحسين(ع) أو زينب(ع)، أو غيرهما من رموز كربلاء، في مواقف متناقضة مع طبيعة الهدف والحركة إلى حدٍّ غير مبرّر من الناحية المنطقيّة لشخصيّة عاديّة، فضلاً عن شخصيّة رساليّة بهذا الحجم والمستوى.

كما يدعو السيّد خطباء السيرة الحسينية إلى الرجوع إلى المصادر الأساسيّة القريبة من ذلك العصر، ثمّ المقارنة بينها وبين ما أصبح ينقل في الكتب المؤلّفة حديثاً، ممّا تراكم بفعل مقتضيات الإثارة العاطفيّة، والتي تأثّرت أيضاً بكثير من الذهنيّات.

ويختم السيّد فضل الله هذا التوجّه بقوله: لا بدّ من أن نعمل على أساس اختيار مواضيع الثورة الحسينية بشكل ينفتح على كلّ الواقع، من خلال الوثاقة في المضمون، ومن خلال النتائج الإيجابيّة التي يمُكن أن ينطلق فيها واقعنا".

سادساً: تطوير أساليب إحياء الذكرى

يرتكز السيّد فضل الله إلى فكرة أنّ المطلوب من العاطفة هو ضمان استمراريّة عاشوراء وإبقاء حرارتها مع تقادم الزمن، وتعميقها على مستوى الشعور الإنساني، ليطرح ضرورة أن نبقى في دراسة دائمةٍ لأساليب الذكرى؛ لأنّ الإنسان يتنوّع في مؤثّراته تبعاً لنوعيّة ثقافته وذهنيّته وتطوّرهما.

وبتعبير آخر: إنّ الذهنيّة لغة؛ فإذا كانت الذهنيّات تختلف وتتطوّر، فهذا يعني أنّ المؤثّرات لا بدَّ من أن تتناسب مع الذهنيّة التي يتوجّه إليها الخطاب. فربّما كانت بعض الإثارات خاضعةً لمرحلة معيّنة، فلا تصلح لتحريكها في الواقع بشكل مؤثّر في مرحلة أخرى، وربّما كانت المسألة متّصلةً بمستوى ثقافيّ متدنّ في تأثّره بأسلوب معيّن، فلا يكون عنصراً للإثارة في مستوى ثقافيّ متقدّم. وربّما نلاحظ هذه المسألة في بعض مفردات الشعر الحسيني، العامّي والفصيح، التي انطلقت من العادات العشائريّة في حثّ النساء للرجال لتحريك حماستهم ونخوتهم، فإنّنا لو طرحنا مثل هذه المفردات في مجتمع ثقافيّ آخر، فإنّنا لا نجده يتأثّر بذلك؛ لأنّ الحالة الثقافيّة قد طوّرت حركة العاطفة، كما طوّرت حركة الفكر عنده.

وعلى ضوء ذلك، يرى السيّد فضل الله ضرورة الوقوف عند عدّة نقاط أساسيّة:

أوّلاً: لا بدّ من المحافظة على إحياء عاشوراء في نمطها الشعبي التقليدي المعروف؛ لأنّ بساطة هذه الأنماط تؤمّن امتداداً أكبر للقضيّة الحسينية في الحاضر والمستقبل، وتجسّد حالاً تعبويّةً شعبيّةً تحقّق نتائج كبيرة إيجابيّة على مستوى إنتاج جمهور عاشوراء في كلّ زمان ومكان. ولعلّ هذا الأسلوب هو الذي ضمن استمرارها في مدى ما يقارب الأربعة عشر قرناً من الزمن، كما أنّ المساس بهذا الأمر بطريقة سلبيّة، من شأنه أن يعرّض القضيّة للضمور والاضمحلال في الوجدان العامّ للأمّة شيئاً فشيئاً.

ثانياً: مع ما ذكر في النقطة السابقة، فإنّ المحافظة على البُعد التقليدي للذكرى يتطلّب دراسة النمط التقليدي، من أجل العمل على صونه من الشوائب التي لا تنسجم مع المفاهيم الإسلاميّة الأصيلة على المستوى الفكري والأخلاقي والشرعي؛ لأنّ من الضروري المزاوجة والانسجام بين الجانب الفكري والجانب العاطفي.

ثالثاً: ما ذكر لا يعني التساهل في الأساليب التي تصطدم بمرتكزات القضيّة نفسها، كالتطبير وسائر الأساليب العنيفة؛ فإنّ هذه، فضلاً عن أنّها لا تمثّل القضيّة، تشوّه صورة عاشوراء بشكل وبآخر.

رابعاً: في موازاة الإحياء الشعبي التقليدي، لا بدّ من العمل على الاستفادة من وسائل التعبير التي استحدثها العصر، كالمسرح والسينما وغيرهما؛ فإنّ ذلك يؤمّن لعاشوراء أن تنفتح على الإنسان المعاصر، من موقع تجسيدها للقيم التي انطلقت منها، وتعميقها للمأساة التي تحرّكت فيها، وإطلالتها على الأجواء التي تنتجها، ما يُعطي لعاشوراء بُعداً إنسانيّاً عالميّاً إلى جانب بُعدها الإسلامي الخاص.

وهنا يرى السيّد فضل الله، أنّ أيّ فكرة لا بدّ لها من أن تدخل في الوجدان الإنساني بالوسائل التي يُمكن أن ينفتح عليها هذا الوجدان، حيث إنّ الإنسان يتربّى من خلال وسائل التواصل التي يعيشها في عصره، ما يجعل تلك الوسائل ذات قدرة عالية على التأثير تفوق كثيراً الوسائل التقليدية الجامدة.

وهذا الأمر يتطلّب قدرات فنّية إبداعيّة على المستوى السينمائي والمسرحي، سواء في التأليف أو الإخراج، أو في طبيعة الممثّلين، بشكلٍ يحافظ على الجوّ الإسلامي لعاشوراء، سواء في خطوطها الحركيّة، أو في طبيعتها الدينية.

وفي رأي السيّد فضل الله، فإنّه ليس ثمّة مانعٌ شرعيّ من تمثيل شخصيّات كربلاء في عمل مسرحيّ أو سينمائيّ، بالنحو الذي يحافظ على حرمة الشخصيّة ومكانتها وقدسيّتها.

كما أنّ من الممكن التصرّف في النصّ التمثيلي بما لا يتنافى مع مضمونه وروحيّته، ويؤدّي إلى إعطاء الفكرة حيويّتها الواقعيّة في شخصيّة صاحب النصّ، وذلك لأنّ طبيعة الإنتاج المسرحي أو السينمائي ـ إذا ما أريد له أن يؤدّي دوره في هذا المجال ـ تفترض آليّةً أخرى لعرض الفكرة أو القضيّة بما قد لا يمكن معه الجمود عند ما ينقله التاريخ فحسب.

ويشدّد السيّد فضل الله هنا، على أنّ طرح المسألة بهذا النحو من ناحية المبدأ، لا يعني انتهاء المهمّة عنده، بل "يجب أن تتمّ دراسة التطبيق بالنحو الذي يضمن كلّ العناصر التي يمكن أن تحقّق للحدث التاريخي كلّ حيويّته وصدقيّته، وكلّ ردود الفعل الإيجابيّة من خلاله. وفي ضوء هذا، لا بدّ من أن تكون هناك دراسة دقيقة لاختيار الممثّلين، ورقابة مشدّدة على طبيعة الأداء".

ويوجّه السيّد دعوةً إلى كلّ الكتّاب والمؤلّفين، كما يشدّد على كلّ الدعاة إلى الإسلام، أن لا ينطلقوا في عمليّة تجزيئيّة لشخصيّة الحسين(ع)؛ لأنّ الحسين(ع) كان إماماً للإسلام، وإمامته هي امتداد حركيّ للنبوّة، وقد عاشها دعوةً للإسلام، وتأصيلاً لمفاهيمه، بالكلمة والموقف، وعاشها في حركةً في تقويم الانحراف الداخلي والخارجي، ومن الضروري أن تبرز كلّ ملامح الإمامة في شخصيّته، في كلّ موقف وقفه، وكلّ حركة تحرّكها".


التطبير والعادات العنيفة في الإحياء

ثمّة عادات شكّلت ظواهر في إحياء ذكرى عاشوراء، يعبّر فيها بعض الناس عن حماستهم في إحياء عاشوراء، في عدّة مناطق من الانتشار الإسلامي الشيعي، في العالم الإسلامي خصوصاً.

من هذه العادات جرح الرؤوس، وهو المعبّر عنه بمصطلح (التطبير)، وضرب الظهور بالسلاسل إلى حدّ اسودادها. وقد يعمد البعض إلى وضع شفرات حادّة في السلاسل التي تُضرب بها الظهور، فيصاحب الضرب جرحٌ وإدماءٌ لها. وبعض الفئات تمشي على الجمر الساخن، وما إلى ذلك من عاداتٍ برزت خلال فترات زمنيّة متأخّرة حتّى عن مسار إحياء عاشوراء تاريخيّاً.

وإذا كان البعضُ قد يختلط عليه الأمر في اعتبارها جزءاً من "الشعائر" العاشورائيّة الثابتة، فإنّ أحداً ـ حتّى الآخذين بتلك العادات والمنظّرين لها ـ لا يدّعي أصالتها الإحيائيّة، بمعنى انطلاقها من نصّ شرعيّ يؤكّدها، وإن حاول البعضُ أخيراً إخضاعها لبعض العناوين، تبعاً لاحتدام الجدل حولها شرعيّاً وثقافيّاً وحضاريّاً، في محاولة تبريريّة لما هو قائمٌ.

وقد شكّلت هذه العادات موضع هجومٍ وتسفيه من قبل العديد من المُصلحين الذين تصدّوا لتنقية الذكرى العاشورائيّة من كلّ ما شابها تاريخياً، وكان من أبرزهم السيّد مُحسن الأمين، الذي قال: "ومن جهات الخلل في إقامة العزاء، جرح الرؤوس بالمدى والسيوف، ولبس الأكفان، وضرب الطبول، والنفخ في الأبواق، وغير ذلك من الأعمال، وكلُّ هذا محرَّمٌ بنصِّ الشرع وحكم العقل. فجَرْحُ الرؤوس إيذاءٌ للنفس محرَّمٌ عقلاً وشرعاً، ولا يترتَّب عليه فائدةٌ دينيةٌ ولا دنيويةٌ، بل يترتَّب عليه، زيادةً على أنه إيذاء للنفس، الضررُ الدينيُّ، وهو إبراز شيعة أهل البيت بصورة الوحشية والسخرية، وكلُّ ذلك، كلبس الأكفان وباقي الأعمال، مُزْرٍ بفاعله وبطائفته، لا يرضاه الله ولا رسوله ولا أهل بيته، فهو من عمل الشيطان وتسويل النفس الأمَّارة بالسوء، سواء أَسُمِّيَ بالمواكب الحسينية أم بإقامة الشعائر أم بأيِّ اسم كان؛ فالأسماء لا تُغيِّر حقائق الأشياء، وعادات الطغام من العوام، لا تكون دليلاً للأحكام"[130].

وكجزءٍ من حركته الإصلاحيّة في الإطار الإسلامي والإنساني، على المستوى الفكري والثقافي والحركي، أطلق السيّد محمّد حسين فضل الله موقفه بوضوح تجاه هذه العادات. وقد تدرّجت معالجة السيّد فضل الله لهذا الموضوع في خطابه، حتّى وصلت ذروتها في اعتبارها نوعاً من التخلّف في التعبير الإنساني عن الحزن والعاطفة الضروريّين في إحياء ذكرى كعاشوراء.

وقد تنوّعت معالجته للمسألة من الزاوية الفكريّة إلى جانب الزاوية الشرعيّة؛ لأنّه كان يؤمن بأنّ قوّة الالتزام الشرعي، يساهم فيها مدى الوعي للحكم الشرعي في أسسه وأهدافه وتجلّياته في الواقع.

1ـ المعالجة الفكريّة الحضاريّة

في البداية، يناقش السيّد فضل الله الخلفيّة الفكريّة والحضاريّة لهذه العادات، معتبراً أنّها لا تنسجم مع مبدأ المواساة التي يحاول القائمون بهذه الأعمال أن يبرّروها بها، فيقول: "إذا كان هنالك بعض الناس يقولون إنّنا نريد أن نجرح رؤوسنا بالسيوف، أو أن نضرب ظهورنا بالسلاسل لنواسي الحسين(ع) في جراحه، ونواسيه في آلامه، نقول لهم: إنّك عندما تريد أن تواسي إنساناً في مصابه، إنّما تواسيه إذا كان هذا الإنسان يعيش مشكلته الشخصيّة. أمّا إذا كان هذا الإنسان ـ كالحسين(ع) ـ قد وقف وتحمّل من أجل الرسالة؛ جرح وهو يجاهد في سبيل الله، وتألّم وهو يجاهد في سبيل الله، وتريد أنت أن تواسي الحسين(ع)؛ إنّ مجال المواساة ليس أن تقف وقفةً استعراضيّةً لتنال رضى الجمهور، لتضرب رأسك أو ظهرك، وتريد أن تواسي الحسين(ع). فتألّم كما تألّم، وتحمّل وأنت تجاهد في سبيل الله، عندما تعمل في سبيل الله وتُجرح، فهذه مواساة، عندما تدعو إلى الإسلام وتتألّم فهذه مواساة. أن تواسي الحسين(ع)، فذلك بأن تتألّم في الموقع الذي تألّم فيه، وأن تُجرح في الموقع الذي جُرح فيه، وأن تُقتل في الطريق الذي قتل عليه، لا أن تُقتل لمجرّد القتل، أو تُجرح لمجرّد الجرح. إنّ الحسين يريد أشخاصاً لقضيّته، وهذه الممارسات لا تفيد القضيّة في قليل أو كثير".

إنّه ـ باختصار ـ يؤكّد أنّ المواساة هي مشابهة الفعل للفعل، مقروناً بالمبدأ والقاعدة التي انطلق على أساسها الفعل القدوة. أمّا المشابهة المجرّدة عن المبدأ، فهي تمثّل انحرافاً عمّا أراد الحسين(ع) أن يؤكّده في حياة الأمّة.

إنَّها المعالجة لهذه العادات على قاعدة التبرير الفكري والحضاري؛ لأنّ عاشوراء تمثّل بُعداً إحيائيّاً حضاريّاً للمبادئ الإسلاميّة الأصيلة التي تجتذب الفعل الإسلامي الإنساني في مدى المستقبل، في استمرار تجسيد المبادئ الإسلامية والإنسانيّة في الواقع؛ ولا تتّصل بالشكل الذي قد يبتعد عن المبدأ، حتّى ينحرف بالذكرى بكاملها عن أن تكون موقعاً للاقتداء في ظروف مشابهة لظروف الحسين(ع) وأهل بيته وأصحابه، ليكون الفعل في الحاضر صدىً للفعل في التاريخ من حيثُ يجسّد المبدأ والقاعدة التي انطلق منها.

وإذا كان السيّد فضل الله يؤكّد عدم حضاريّة هذا الفعل، فإنّه قد يتفهّم وجود خلفيّات نفسيّة طيّبة قد ينطلق بها بعض الذين يقومون بهذه الأعمال، ولكنّ هذا لا يغيّر من المسألة شيئاً؛ لأنّ صدق النوايا لا يغيّر من الأفعال ذات الأثر السلبيّ في أرض الواقع.

كما يؤكّد أنّه إذا كانت لبعض هذه العادات ظروفها التاريخيّة التي أكسبتها بعض الفوائد، فإنّ المسألة اختلفت مع تطوّر الزمن وتبدّل الظروف. يقول السيّد فضل الله: "ربَّما كانت بعض الممارسات التي يمارسها الكثيرون من الناس، من جرح الرأس بالسيف، أو ضرب الظهر بالسلاسل أو ما أشبه ذلك، هذه الممارسات ربّما كانت لها ظروفها الموضوعيّة في التاريخ الماضي، وربّما كانت لها فوائدها، ولكنّنا نتّفق جميعاً على أنّ هذه الأساليب لا تستطيع أن تقدّم قضيّة عاشوراء في قليل أو كثير، بل ربما تخلق بعض ردود الفعل، عندما تنطلق الصورة التي أثيرت في هذا المجال لتبعث الاشمئزاز في بعض النفوس، وتبعث كثيراً من الانفعالات التي هي ليست في مصلحة القضيّة".

2ـ المعالجة الفقهيّة

في الفقه مصطلحان لا بدّ لنا من توضيحهما قبل الدخول في المعالجة الفقهيّة لمسألة التطبير وسائر العادات العنيفة، هما الحكم الثابت للأشياء بعناوينها الأوّلية، والحكم الثابت للأشياء بعناوينها الثانويّة.

سنحاول توضيح المصطلحين بمثالٍ من القرآن الكريم، حيث قال تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ المَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}(البقرة:173)، حيث إنّ الحكم الثابت للمذكورات ـ أعني الميتة والدم ولحم الخنزير ـ هو حرمة تناولها وأكلها، وهذا الحكم ثابت لها بعناوينها الأوّلية، أي بعنوان أنّها ميتة، وبعنوان أنّه دمٌ أو لحم خنزير.

ولكن، بملاحظة الواقع وطبيعة تبدّل الظروف الموضوعيّة، قد يوجد الإنسان في ظرفٍ يدور الأمر فيه بين أن يموت مثلاً، أو أن يأكل الميتة أو لحم الخنزير، أو أن يشرب الدم، فهنا تكون الضرورة إلى تحقيق الشيء الأهمّ ـ وهو حياة الإنسان ـ عنواناً ثانويّاً يبدّل الحكم من الحرمة إلى الحلّية؛ لأنّ المحافظة على حياة الإنسان أهمّ ـ في نظر الشريعة ـ من اجتناب مفسدة أكل الميتة والخنزير والدم.

وإذا انتقلنا إلى التطبير والعادات العنيفة، فإنّ السيّد فضل الله، ومن موقعه الفقهي، يشير إلى أنّ ثمّة مبنيين فقهيّين تجاه الضرر الذي يُمكن للإنسان أن يلحقه بنفسه؛ فهناك المبنى الذي يقول إنّ الإنسان لا يحقّ له، ويحرم عليه أن يضرّ بنفسه مطلقاً، ما لم تكن هناك مصلحة أهمّ. فلا يجوز للإنسان مثلاً أن يواجه البرد القارس إذا كان سيصاب بنزلة صدريّة، أو أن يطيل السهر إذا كان سيتضرّر صحّياً، أو أن يجرح نفسه من دون مبرّر، أو ما إلى ذلك.

نعم، إذا ترتّب على الخروج في أيّام البرد مصلحة أهمّ في نظر الشريعة، أو كان السهر لأجل تحصيل العلم، أو جرح النفس لأجل تحصيل الشفاء كما في العمليّات الجراحيّة، فيجوز عندئذٍ.

وهناك مبنى آخر يقول: إنّ الضرر إنّما يحرم إذا أدّى إلى التهلكة، أو إلى ما يقرب منها، كالضرر الصحّي البالغ، كتعطيل بعض الأجهزة الحيويّة مثلاً.

على المبنى الأوّل، يبدو واضحاً أنّ التطبير وسائر العادات العنيفة تمثّل ضرراً بالجسد، وليس ثمّة فائدة أهمّ مترتّبة عليها، بل على العكس من ذلك؛ فهي تمثّل مفسدةً  للذكرى، ولذلك فهي تحرم بهذا العنوان، أي بعنوان أنّها إضرار بالجسد.

أمّا على المبنى الثاني، فقد يمكن اعتبار هذه العادات مباحةً بالعنوان الأوّلي؛ لأنّها لا تؤدّي إلى الهلاك أو إلى الضرر البالغ الذي لا يقدم عليه العقلاء، ومع ذلك، يقول السيّد فضل الله إنَّ حرمتها ثابتة، بالعنوان الثانوي، ناقلاً ذلك عن أستاذه السيّد الخوئي الذي يتبنّى المبنى الثاني في مسألة حرمة الضرر، حيث يرى السيّد الخوئي أنّ حرمتها ثابتة، لأنّها تشوّه صورة المذهب، وتُظهره في مظهر السقوط الحضاري في أعين العصر.

يقول في جواب عن سؤال حول التطبير وضرب السلاسل: "لا يجوز فيما إذا أوجب ضرراً معتدّاً به، أو استلزم الهتك والتوهين". ثمّ يوضح ـ في جوابٍ آخر ـ أنّ المراد من الهتك والتوهين "ما يستلزم الذلّ والهوان للمذهب في نظر العُرف السائد"[131].

إنّ السيّد فضل الله إذ يؤكّد أنّ حرمة هذه العادات ثابتة لها في كلا الحالين، فهو يريد أن يبيّن أنّ الباب مسدود أمام محاولات التنظير لشرعيّة هذه العادات، على أيّ المباني الفقهيّة التي يلتزم بها الفقهاء تجاه مسألة الإضرار بالنفس. ويكفي في ذلك التوجّه بوعي إلى طبيعة ما تقتضيه المواساة من الناحية الفكرية الحضاريّة الإسلاميّة الإنسانيّة، وإلى طبيعة النظرة السلبيّة التي تفرزها هذه العادات تجاه الخطّ الإسلامي الذي يحتضنها، إلى غير ذلك من السلبيّات التي قد تنفتح عليها الذكرى ـ بهذه الطريقة في الإحياء ـ في المستقبل، ليُدرك الإنسان ضرورة الابتعاد عنها، وأنّها لا تنال المشروعيّة الفقهيّة الإسلاميّة على كلّ حال.

وقد كان السيّد فضل الله، في تحمّله تبعات الإعلان عن رأيه بكل وضوح وصراحة وقوّة، يدفع الواقع الإسلاميّ، في المستويات القياديّة، لملاقاته في ذلك الإعلان؛ لأنّ مستوى تجذّر هذه العادات في بعض المجتمعات، تحتاج إلى تصدٍّ أكبر من القيادات الإسلاميّة في نزع المشروعيّة عنها، وتأكيد على البدائل الحضاريّة، بغية التوصّل إلى تحقيق الاستثمار الأكبر للذكرى، على مستوى المجتمعات الإسلاميّة وغيرها.

وطرح البدائل مسألة مهمّة جدّاً في قضيّة كعاشوراء، ولذلك يقول السيّد فضل الله: "إنّنا ندعو المسلمين إلى أن يفكّروا في أفضل الطرق لإثارة الذكريات الإسلاميّة ـ ومنها عاشوراء ـ بعيداً عن الأساليب المتخلّفة التي تتمثّل في جرح الرؤوس وضرب الظهور بالحديد ونحوها مما لا يشرّف الذكرى ولا يخدمها، بل يضرّها ويعطيها صفة التخلّف والبدائيّة التي تُفقدها أيّ أثر إيجابيّ من إثارة الذكرى؛ لأنّ من واجبنا أن نرتبط بالرسالة من خلال الذكرى، ونرتبط بأشخاصها من خلال الرسالة، لا من خلال الذات؛ لأنّهم تجاوزوا ذواتهم إلى رسالتهم، فكيف يقبلون منّا أن نتجاوز رسالاتهم إلى ذواتهم، لنغرق في الذات في مآسيها وقضاياها وحياتها العامّة والخاصّة؟!".


سابعاً: السيّدة زينب(ع)؛ شراكةٌ في القضيّة


كانَ واضِحاً حضورُ المرأة في عاشوراء، وقد مثَّلت السيّدةُ زينبُ(ع) نموذجها الأكمل، في كلّ الأبعادِ التي يُمكن للمرأة أن تضطلع بها، وتُعطي من خلالها عناصر القدوة، للمرأة والرجل معاً.

ويشدّد السيّد فضل الله على ضرورة استحضار النماذج النسويّة المميّزة؛ لأنّ "تاريخنا الإسلاميّ يفتقد الكثير من النماذج الإسلاميّة النسويّة الفاعلة التي تعطي حركتها معنى القيمة الإسلاميّة"، مقارناً بتاريخ الرجل في مواقفه وحركته. وهذا له مبرّره الواقعيّ؛ "لأنّ المجتمع، في مدى التاريخ، هو مجتمع الرجل، فالمرأة لم تكن تملك الكثير من الساحات التي تعطي فيها عبقريّتها وفكرها وحركتها، بل كانت تعيش على هامش الرجل"؛ كلّ ذلك يجعلنا "عندما نرى في تاريخنا الإسلاميّ بعض النماذج النسويّة التي قامت بالكثير من الحركة في ساحة الصراع على خطّ القيم الإسلاميّة"، يجعلنا "بحاجة إلى أن نستعيدها دائماً، من أجل أن نعطي للمرأة المعاصرة التي دخلت الساحة، والتي عاشت قضايا الصراع، والتي انفتحت على كثير من الأوضاع السلبيّة على المستوى الأخلاقيّ أو الاجتماعيّ، نماذجَ تقدّم صورةَ المرأة المجاهدة الشجاعة الواعية المسلمة، التي عاشت الصراع كأقسى ما يكون الصراع، وبقيت على الخطّ المستقيم في درب الحقّ والعدل. وزينبُ(ع) هي من النماذج النسويّة التي تمثّل هذه القيمة الإسلاميّة الرائدة في عالم النساء".

والسيّد فضل الله، على منهجِه في استلهام الشخصيّات القدوة في التاريخ، لا يستغرق في الجوانب الشخصيّة التي تتّصل بخصوصيّات الزمان والمراحل التي تمرّ بها أيّ شخصيّة؛ وهي وإن كانت تتّصل بفهم جذور هذه الشخصيّة، إلا أنّ الأساس هو في المواقف التي تمثّل خصوصيّة القيمة الممتدّة في عمق التاريخ وفي حركة المستقبل. يقول السيد فضل الله: "نحن عندما نلتقي بالسيّدة زينب(ع)، فنحن لا نريد أن ندخل في قداسة النسب، ولا في فيض العاطفة الذي نحمله لها في قلوبنا... ولا نريد أن نتحدّث كيف كانت طفولتها، وكيف انفتحت على أبيها فتغذّت من كلّ فكره وروحه وشجاعته وصلابته، وكيف انطلقت مع أخويها تعيش كلّ الأخلاق الإنسانيّة التي جعلت منهما نموذجين للإنسان الكامل، فحسب، ولكنّنا نريد أن نلتقط مواقفها".

صحيحٌ أنّ طفولةَ زينب كانت مميّزة؛ لأنّ الحضن العائليّ الذي كان مرافقاً لها في كلّ مراحل حياتها كان مميّزاً؛ فالطفولةُ كانت بين عليّ وفاطمة(ع)، والشباب مع علي(ع) في كلّ تحدّيات مرحلته، ثمّ مع أخويها الحسنين(ع)، ما أمّن لها الزخم الكبير في الانفتاح على كلّ قيم الإسلام وتعاليمه وحركيّته وروحانيّته وأخلاقيّته؛ ولكنّ ذلك كان القاعدة لحركة الشخصيّة نفسها عندما تبرزُ إلى واجهة الأحداث، ويُصبح موقفُها هو الذي يحدّد الوجهة أمام التحدّيات؛ ولذلك فإنّ المهمّ الانفتاح على تاريخ الشخصيّة، من خلال الانفتاح على كلّ العناصر التي كفلت بناءها، ممّا ينبغي التوفّر عليه في عالم إعادة إنتاج التاريخ في الحاضر.

وبتعبير آخر: إنَّ ما صاغَ عقلَ زينب ووعيها للإسلام وللواقع، وما غذّى روحها وأخلاقها، وما متّن صلابة إرادتها، هو الذي أنتجَ زينب البطلة في كربلاء، والتي كانت في كلّ حركيّتها تقوم بالدور الإٍسلاميّ الرائد الذي يحفظ الخطّ، ويتابع المسيرة.

ولذلك، يبدو استلهام المواقف ـ بالنسبة إلى السيّد فضل الله ـ هو نقطة الارتكاز في الاستعادة التاريخيّة لأيّ شخصيّة من الشخصيّات التي ترتبط بالرسالة أو بالقضيّة؛ لأنّها تمثّل نقطة الارتكاز في حركة القيمة في كلّ ما يهمّ الإنسان الرساليّ، أو صاحبَ القضيّة، في كلّ موقعٍ من مواقع الحركة أو التحدّي أو الصراع.

ويحدّد السيّد فضل الله نقطة الارتكاز في استلهام تاريخ السيّدة زينب(ع) بقوله: "من خلال زينب(ع)، نستطيع أن نعرف دور المرأة المسلمة في ساحة الصراع التي امتزج فيها جانب المأساة إلى جانب الجهاد، وامتدّ الجهاد بعد كربلاء من خلالها، فاستطاعت أن تتحدّث مع الذين صنعوا مأساة كربلاء بما لم تأتِ الفُرصةُ بنظير له"؛ وهو ما سنقف عنده في ما يأتي.
1- العاطفة في خطّ القضيّة:

يضعُ السيد فضل الله خطّاً واضحاً بين العاطفة التي "لها قداسةٌ إنسانيّة"؛ لأنّ إنساناً بلا عاطفة هو حجر، ولأنّ عقلاً بلا عاطفة هو "حالةٌ لا يُمكن أن تنفذ إلى وجدان الإنسان"، وبين العاطفة في خطّ القضيّة؛ لأنّ القائد، سواء أكان رجلاً أم امرأة، هو الذي يوازن عاطفته أمام النتائج الصعبة التي تبرز في خطّ القضيّة؛ لأنّ العاطفة إذا تحرّكت، مع كلّ المأساة التي تحيط بالموقف، فعند ذلك يُمكن أن تؤثّر العاطفةُ تأثيراً سلبيّاً؛ لأنّ القضيّة تتحوّل ـ حينئذٍ ـ إلى تفصيلٍ من تفاصيل العاطفة، من دون أن يبرز هناك شيءٌ جديد في خطّ تأكيد القضيّة في حركة الإنسان.
2- زينب في خطّ المواجهة

تبدأ مسؤوليّة زينب(ع) الرساليّة، منذ اللحظة التي وجدت فيها أمام عدّة تحدّيات:

أوّلاً: تحدّي المحافظة على من بقي من أهل البيت(ع)، وفي مقدّمهم الإمام عليّ بن الحسين(ع) الذي كان عليلاً طريح الفراش.

ثانياً: مواجهة تداعيات السبي الذي لم تكن له سابقة في الإسلام، ممّا يُمكن اعتباره الجريمة القدوة التي اقتدى بها الطغاة الآخرون؛ إذ لم يُعهد في التشريع الإسلامي أن المسلم يسبي المسلمة في حالة حرب.

ثالثاً: المواجهة الإعلاميّة أمام حركة التضليل التي مارستها السلطة الأمويّة تجاه الجريمة الكُبرى في قتل ابن بنت رسول الله، الحسين بن عليّ(ع)، وأهمّها في مجلسي ابن زياد (والي الكوفة) ويزيد في الشام.

كلُّ ذلك حتّم على زينب(ع) الضغط على مشاعرها الإنسانيّة، وعلى عاطفتها الجيّاشة أمام الجريمة الكُبرى، لكي لا يسقط الموقف؛ بل لتدفعه إلى التوازن، في حركةٍ لاستعادة زمام المبادرة في القابِل من التحدّيات والأحداث.

ولذلك، تتابعتْ مواقفُها الصلبة، عندما تقدّمت إلى جسد أخيها الحسين(ع) وهو صريعٌ على الرمضاء، فقالت ـ في مهابةٍ خشع العسكر لجلالتها ـ: "اللهمّ تقبّل منّا هذا القربان"، وعندما انطلقت في مسيرة السبي، "لم تسقط ولم تضعف، ووصلت إلى الكوفة، ورأت أن أهل الكوفة قد اجتمعوا على السبايا، وبدأوا يعطون الأطفال بعض الجوز والخبز والأغذية، وأخذت زينب ذلك كلّه بكلّ قوّة، ورمته في وجوههم وقالت: "إنّ الصدقة حرامٌ علينا أهل البيت" ووقفت لتؤنّب الذين تخاذلوا عن نُصرة الحقّ عندما جاؤوا يبكون وينوحون، ثمّ في وقفتها الشجاعة عندما أدخلت إلى مجلس ابن زياد الذي قال لها: "الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم وأكذب أحدوثتكم"، فقالت زينب(ع): "الحمد لله الذي أكرمنا بنبيّه محمّد، وطهّرنا من الرجس تطهيراً، إنّما يُفتضح الفاسق، ويكذّب الفاجر، وهو غيرنا والحمد لله"، فقال ابن زياد: كيف رأيت فعل الله بأهل بيتك؟ فقالت: "ما رأيتُ إلا جميلاً؛ هؤلاء قومٌ كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم، فتحاجّون إليه وتختصمون عنده، فانظر لمن الفلج يومئذٍ، هبلتكَ أمّك يا بن مرجانة!"".

ثمّ انطلقت إلى الشام، فأدخل السبايا إلى مجلس يزيد بن معاوية، فطلب أحد الحاضرين من يزيد أن يهبَه إحدى السبايا، وهي فاطمة بنت الحسين(ع)، فانتفضت زينب قائلةً: "كذبتَ واللهِ ولؤمتَ؛ ما ذاك لك ولا له"، فغضب يزيد وقال: كذبتِ؛ إنّ ذلك لي، ولو شئت أن أفعل لفعلت. قالت: "كلاّ واللهِ، ما جعل الله لك ذلك، إلا أن تخرج من ملّتنا وتدينَ بغيرها"، فاستطار يزيد غضباً وقال: "إيّايَ تستقبلين بهذا؛ إنّما خرج من الدين أبوك وأخوك"، قالت زينب: "بدين الله وبدين أبي وأخي اهتديتَ أنت وجدّك وأبوك إن كنتَ مسلماً".. وبلغت الذروة في احتقاره عندما قالت له: "ولئن جرّت عليّ الدواهي مخاطبتك، إنّي لأستصغر قدرك، وأستعظم تقريعك، وأستكبر توبيخك؛ لكنّ العيون عبرى، والصدور حرّى. ألا فالعجب كلّ العجب، لقتل حزبِ الله النجباء بحزب الشيطان الطلقاء"، ولتقول له أخيراً: "فكد كيدك، واسعَ سعيك، وناصبْ جُهدك... وهل رأيُك إلا فند، وأيّامك إلا عدد، وجمعك إلا بدد يوم ينادي المنادي ألا لعنة الله على الظالمين. فالحمد لله ربّ العالمين الذي ختم لأوّلنا بالسعادة والمغفرة، ولآخرنا بالشهادة والرحمة، ونسأل الله أن يكمل لهم الثواب، ويوجب لهم المزيد، ويُحسن علينا الخلافة؛ إنّه رحيم ودود، وحسبنا الله ونعم الوكيل".

يقول السيّد فضل الله: "من خلال هذه اللقطات الصغيرة، نستطيع أن نستوحي زينب؛ المرأة التي تنتصر على ضغط العاطفة على مشاعرها، فتملك أن توازن عاطفتها، حتّى لا تتتحرّك عاطفتها لإسقاط موقفها؛ وزينب الإنسان القائدة التي كانت تقود القضيّة. وهناك فرقٌ بين من يقود الناس من دون قضيّة، وبين من يقود القضيّة ليفتح عقول الناس عليها. فالقيادة ليست حركة قوّة يسيطر فيها الإنسان على الناس، ولكنّ القيادة حركة عقل ووعي وانفتاح على الواقع، من أجل أن تمنع الواقع من أن يسقط وينهار أمام ضغط الذين يريدون أن يصادروه".

ويُبدي السيّد فضل الله أهمّية الموقف الزينبي بقوله: "لو قتل الحسين(ع) في كربلاء وأغلق الملفّ، لما حدث هناك شيء، ولكنّ زينب التي كانت تتحرّك بكلّ دراسة للموقف، وبكلّ وعي وبكلّ صلابة، كانت تعطي القضيّة من عقلها ووعيها وإحساسها وقوّتها الشيء الكثير".

كما ينبّه السيّد فضل الله إلى نقطة، وهي أنّه لا ينبغي أن نستعيد موقف السيدة زينب(ع) في خطّ المعارضة السياسيّة، كموقف استهلاكيّ من مواقف المعارضة الاستهلاكيّة في البلاد التي تملك فيها حرّية الكلمة، فإنّ معرفة "قيمة الكلمة القويّة المؤنّبة ليزيد ولابن زياد"، إنّما تكمن في تصوّرنا موقف إنسان "أمام ملك مطلق السلطة، أو رئيس مطلق السلطة في واقعنا العربي، أو واقعنا في العالم الثالث"، يقول السيّد: "تصوّروا كيف تكون المعارضة، حتّى تفهموا قيمة معارضة السيّدة زينب(ع) في الواقع!".

من خلال كلّ ذلك، يرفض السيّد فضل الله رفضاً قاطعاً المضمون العاطفي الذي تقدّم فيه السيّدة زينب(ع)، لتبدو امرأةً جازعةً باكيةً شاكية، لا تملك أن تتماسك أمام ما يجري أمامها من مصائب، ليغمى عليها تارة، ولتفقد توازن الموقف أخرى؛ فإنّ ذلك بعيدٌ كلّ البُعد عن شخصيّةٍ تبدو كأصلب ما يكون في مختلف المواقع والمواقف.

كما يرفض أن يحمّل المضمون العاطفي شيئاً من الذهنيّة القبليّة التي تصوّر معها زينب كامرأة بدويّة تحشّم أفراد القبيلة، وما إلى ذلك، ممّا يعكسه الشعر العامّي أو الفصيح في بعض نماذجه؛ لأنّ زينب هي بطلة الرسالة، التي كانت تنطلق مع قيم الإسلام ومواقفه في الأفق الرحب، البعيد عن كلّ حالة اجتماعيّة خاصّة يُمكن لها أن تختزل الموقف ليبدو جزئيّةً في حراك اجتماعيّ ضيّق.

إنّ السيّد فضل الله يريد أن يقدّم النموذج الحقيقيّ للمرأة الرساليّة من خلال زينب في كربلاء، لتهتدي المرأة بهديها، كما الرجل، وليقدّم إلى العالم كلّه نموذج المرأة المسلمة التي جسّدت قيم الإسلام في فكرها ومنطقها وحركتها وموقفها.

*****

يبقى أنّ في كلّ رجالات عاشوراء الكثير، سواء من أهل بيت الحسين(ع)، كأخيه العبّاس وولده عليّ وابن أخيه القاسم بن الحسن، أو ممّن كان من صحابته، كزهير بن القين، وحبيب بن مظاهر، ومسلم بن عوسجة والحرّ الرياحي وغيرهم، وحتّى في النماذج السلبيّة التي مثّلها رموز جيش يزيد وأعوانِه، كعمر بن سعد وغيره، مواقفَ جسّدت فيها مبادئ الحقّ والأريحيّة الرساليّة وكلّ قيم الإسلام والإنسانيّة، ممّا يُمكن أن يطلّ على الواقع المعاصر، في كثير من تحدّياته ونماذجه وصراعاته ومواقفه، ليكون التاريخ عنده موقف استلهامٍ، حتّى لا تتكرّر المأساة، من خلال خذلان المنتمين إلى خطوط الحقّ له في ساحة الصراع، وحتّى يسعى الإنسان لكي يجسّد القيمة في حياته، من خلال عمق الفكر، وتنمية الروح في علاقتها بالله عزّ وجل، وتأكيد الحركة الإنسانيّة الإسلاميّة الرائدة، وصلابة الإرادة، ووضوح الرؤية في كلّ محطّات الطريق.

وفي رأي السيّد فضل الله، هذا هو الزاد الذي ينبغي لكلّ المهتميّن والمشتغلين في إحياء عاشوراء أن يحملوه للجيل المعاصر، حتّى يبقى الإنسان في حالةٍ دائمةٍ في صناعة التاريخ، ولا يكون التاريخ مجداً صنعه الأوّلون، فيشعر من أتى بعدهم بالدعة والاسترخاء إلى مجد الآباء والأجداد، بحيث يضيع الحاضر والمستقبل على وقع الغيبوبة الفكريّة والثقافيّة أمام كلّ ما يجري.

وبذلك، يُمكن أن تتحوّل عاشوراء إلى أفق إنسانيّ رساليّ إسلاميّ دينيّ عامّ، يطلّ عليها كلّ مشتغلٍ بالقيم الرساليّة الإنسانيّة، ليغرف من معينها، وليشعر معها بأنّها امتدادٌ لكل التاريخ الرسالي في مدى الزمن.

([1]) السيد محمد حسين فضل الله، الندوة، ج 2، ص 61.

([2]) السيد محمد حسين فضل الله، الندوة، ج 6، ص 476.

([3]) السيد محمد حسين فضل الله، الندوة، ج 12، ص 222.

([4]) السيد محمد حسين فضل الله، الندوة، ج 9، ص 196.

([5]) السيد محمد حسين فضل الله، صلاة الجمعة 97، ص 364.

([6]) السيد محمد حسين فضل الله، قضايانا على ضوء الإسلام، ص 194-199.

([7]) السيد محمد حسين فضل الله، الحوار في القرآن، ص97 .

([8]) السيد محمد حسين فضل الله، في رحاب أهل البيت، ج 1، ص 86.

([9]) السيد محمد حسين فضل الله، في رحاب أهل البيت، ج 1، ص 130.

([10]) السيد محمد حسين فضل الله، في رحاب أهل البيت، ج 1، ص 73-74.

([11]) السيد محمد حسين فضل الله، صلاة الجمعة، 1997، ص 365.

([12]) السيد محمد حسين فضل الله، في رحاب أهل البيت، ج1، ص 78-79.

([13]) ابن سعد، الطبقات الكبرى، 1، ص 99.

([14]) ابن سعد، الطبقات الكبرى، 1، ص 203-204.

([15]) ابن هشام، السيرة النبوية، 1، ص 172.

([16]) السيد محمد حسين فضل الله، في رحاب أهل البيت، ج 1، ص 86-93.

([17]) السيد محمد حسين فضل الله، في رحاب أهل البيت، ج 1، ص 86-93.

([18]) السيد محمد حسين فضل الله، في رحاب أهل البيت، ج 1، ص 80-83.

([19]) السيد محمد حسين فضل الله، الندوة، ج 6، ص475.

([20]) السيد محمد حسين فضل الله، صلاة الجمعة، 1997، ص367.

([21]) ابن سعد، الطبقات الكبرى، 1، ص 238.

([22]) السيد محمد حسين فضل الله، في رحاب أهل البيت، ج 1، ص 101-102.

([23]) قائلاً: لا يستوي من يعمر المساجدَ، يدأب فيها قائماً وقاعداً، ومن يُرى عن التراب حائدا.

([24]) السيد محمد حسين فضل الله، في رحاب أهل البيت، ج 1، ص 103-106.

([25]) مجلة قضايا إسلامية معاصرة، السنة الثامنة، العدد 27، ربيع 2004م – 1425هـ.

([26]) السيد محمد حسين فضل الله، في رحاب أهل البيت، ج 1، ص 107-108.

([27]) السيد محمد حسين فضل الله، في رحاب أهل البيت، ج1، ص 109-115 .

([28]) السيد محمد حسين فضل الله، الندوة، ج 6، ص 226-227.

([29]) السيد محمد حسين فضل الله، الندوة، ج 6، ص 227.

([30]) السيد محمد حسين فضل الله، الندوة، ج 5، ص 72.

([31]) السيد محمد حسين فضل الله، صلاة الجمعة، 1997، ص 108-109.

([32]) السيد محمد حسين فضل الله، صلاة الجمعة 1997، ص 110.

([33]) المعارج، العدد 28-31، 1997م، ص 542.

([34]) م. ن.

([35]) السيد محمد حسين فضل الله، الندوة، ج 9، ص 447.

([36]) السيد محمد حسين فضل الله، الندوة، ج 1، ص 369.

([37]) السيد محمد حسين فضل الله، في رحاب أهل البيت، ج 1، ص 73.

([38]) السيد محمد حسين فضل الله، الرسول الداعية في القرآن الكريم، ص 12.

([39]) انظر على سبيل المثال: السيد محمد حسين فضل الله، في رحاب أهل البيت، ج 1، ص 80-81-87-89-93-101-103-111.

([40]) المعارج العدد 28-31، 1997م، ص 542.

([41]) السيد محمد حسين فضل الله، الرسول الداعية في القرآن الكريم، ص 10.

([42]) السيد محمد حسين فضل الله، الندوة، ج 1، ص 390.

([43]) م.ن، ج 1، ص 397.

([44]) السيد محمد حسين فضل الله، الندوة، ج 1، ص 397.

([45]) المصدر نفسه.

([46]) م.ن، ج 1، ص 395.

([47]) م.ن، ج 3، ص 498.

([48]) السيد محمد حسين فضل الله، الندوة، ج7، ص 411.

([49]) السيد محمد حسين فضل الله، للإنسان والحياة، ص 262.

([50]) السيد محمد حسين فضل الله، في رحاب أهل البيت، ج1، ص 131.

([51]) السيد محمد حسين فضل الله، صلاة الجمعة، 1997، ص131.

([52]) المعارج، العدد 28-31، 1997م، ص 571-572.

([53]) السيد محمد حسين فضل الله، الندوة، ج 6، ص 482.

([54]) الشيخ الكليني، محمد بن يعقوب بن إسحاق الرازي (ت 328 هـ)، الكافي، دار الكتب الإسلامية، طهران ـ إيران، لا ط، 1375 هـ ش.

([55]) السيد محمد حسين فضل الله، الندوة، ج2، ص 63.

([56]) السيد محمد حسين فضل الله، الندوة، ج11، ص234-235.

([57]) السيد محمد حسين فضل الله، صلاة الجمعة، 1997، ص 133.

([58]) السيد محمد حسين فضل الله، الرسول الداعية في القرآن الكريم، ص 20-21.

([59]) السيد محمد حسين فضل الله، صلاة الجمعة، 1997، ص 133.

([60]) المعارج 97، ص 549-550.

([61]) السيد محمد حسين فضل الله، الندوة، ج 1، ص 416-417.

([62]) م.ن، ج 11، ص 238

([63]) السيد محمد حسين فضل الله، أسلوب الدعوة في القرآن، ص 104.

([64]) م.ن، ص 100.

([65]) م.ن، ص 104.

([66]) م.ن، ص 104-105.

([67]) السيد محمد حسين فضل الله، صلاة الجمعة، 2005، ص 368-371.

([68]) السيد محمد حسين فضل الله، الندوة، ج 1، ص 159-160.

([69]) نقلاً عن السيد محمد حسين فضل الله، أسلوب الدعوة في القرآن،، ص105-108.

([70]) السيد محمد حسين فضل الله، الندوة، ج 2، ص 348

([71]) م.ن، ج 6، ص 246-247.

([72]) السيد محمد حسين فضل الله، الحوار في القرآن، ص 133.

([73]) المعارج، 97، ص 546.

([74]) السيد محمد حسين فضل الله، الندوة، ج 3، 264.

([75]) م.ن، ج 2، ص 70.

([76]) المعارج، 97، ص564-565.

([77]) السيد محمد حسين فضل الله، الندوة، ج 3، ص 264.

([78]) م.ن، ج 5، ص 96-98.

([79]) السيد محمد حسين فضل الله، الندوة، ج 3، ص265-267.

([80]) السيد محمد حسين فضل الله، الرسول الداعية في القرآن الكريم، ص 27-28

([81]) السيد محمد حسين فضل الله، الرسول الداعية في القرآن الكريم، ص 28-30.

([82]) المعارج 9،7، ص 566-571.

([83]) السيد محمد حسين فضل الله، الندوة، ج 2، ص 69.

([84]) م.ن، ج 2، ص 61.

([85]) السيد محمد حسين فضل الله، الندوة، ج 2، ص 63.

([86]) الشيخ الكليني، الكافي، ج 2، ص 631، ح 14.

([87]) السيد محمد حسين فضل الله، الندوة، ج 2، ص 61-63.

([88]) المعارج، 97، ص 547.

([89]) السيد محمد حسين فضل الله، الندوة، ج 7، ص 85.

([90]) م.ن، ج 7، ص 86.

([91]) السيد محمد حسين فضل الله، الندوة، ج 7، ص 86-87.

([92]) م.ن، ج 2، ص 242.

([93]) السيد محمد حسين فضل الله، في رحاب أهل البيت، ج 1، ص140-141.

([94]) المعارج 97، ص 553.

([95]) المعارج 97، ص 553.

([96]) المعارج 97، ص 554.

([97]) السيد محمد حسين فضل الله، الندوة، ج 6، ص 245-246.

([98]) السيد محمد حسين فضل الله، الندوة، ج 9، ص 202-204.

([99]) السيد محمد حسين فضل الله، مفاهيم إسلامية عامة، ص 34-35.

([100]) السيد محمد حسين فضل الله، في رحاب أهل البيت، ج 1، ص 134-135.

([101]) السيد محمد حسين فضل الله، مفاهيم إسلامية عامة، ص 31.

([102]) المعارج 97، ص 576-577.

([103]) السيد محمد حسين فضل الله، الزهراء القدوة، ص 159-160.

([104]) السيد محمد حسين فضل الله، الندوة، ج 12، ص 219-220.

([105]) السيد محمد حسين فضل الله، الندوة، ج 11، ص 235-236.

([106]) السيد محمد حسين فضل الله، الندوة، ج 11، ص 399-400.

([107]) السيد محمد حسين فضل الله، الندوة، ج 2، ص 242-243.

([108]) السيد محمد حسين فضل الله، مفاهيم إسلامية عامة، ص 36.

([109]) المعارج، 97، ص 555-556.

([110]) السيد محمد حسين فضل الله، الندوة، ج 3، ص240.

([111]) السيد محمد حسين فضل الله، مفاهيم إسلامية عامة، ص36.

([112]) السيد محمد حسين فضل الله، الندوة، ج 1، ص160-163.

([113]) م.ن، ج 3، ص241.

([114]) السيد محمد حسين فضل الله، الندوة، ج 12، ص233-234.

([115]) السيد محمد حسين فضل الله، الندوة، ج 12، ص229-231.

([116]) م.ن، ج 12، ص231.

([117]) السيد محمد حسين فضل الله، الندوة، ج 7، ص 91-92.

([118]) السيد محمد حسين فضل الله، من وحي القرآن، 21، ص276-280.

([119]) السيد محمد حسين فضل الله، الندوة، ج 9، ص 197.

([120]) م.ن، ج 12، ص233-234.

([121]) السيد محمد حسين فضل الله، الندوة، ج 12، ص232.

([122]) كان الرسول يناجي عليّاً فتقدّمت عائشة وخاطبت عليّاً قائلة: "ليس لنا من رسول الله إلا يوم من تسعة، أفما تدعني يا بن أبي طالب ويومي"؟ فقال لها الرسول: "ارجعي وراءك، والله لا يبغضه أحد من أهل بيتي ولا من غيرهم إلا وهو خارج عن الإيمان"، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، دار الهدى الوطنية، م2، ص 78.

([123]) من هنا الدعاء القائل: "أللهم إني أسألك بحقّ فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها ..."

([124]) لم يكن بعض عمال بني أمية يقبلون إسلام أهالي البلاد المفتوحة, لأنه يعفيهم من الجزية, فتقلّ الموارد المالية للدولة (ولهم).

(*) الغيبة الصغرى امتدت من الولادة حتى حوالى سبعين سنة، وكان سفراؤه فيها على التوالي: عثمان بن سعيد العمري، محمد بن عثمان العمري، الحسين بن روح النوبختي، علي بن محمد السمري. وبعدها حصلت الغيبة الكبرى.

[125]  راجع: الأمين، السيد محسن، أعيان الشيعة، دار التعارف للمطبوعات، بيروت، لبنان، 1983م، ج1، ص 581.

[126]  م.ن، ج1، ص611.

[127]  العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله، حديث عاشوراء، إعداد السيد جعفر فضل الله، دار الملاك، ط2، 1418هـ/1998م، ص257.

[128] حديث عاشوراء، مصدر سابق، ص67.

[129]  م.ن، ص 67

[130]  السيد محسن الأمين، أعيان الشيعة، دار التعارف للمطبوعات، بيروت، لبنان، 1983، ج10، ص363.

[131]  السيد أبو القاسم الخوئي، المسائل الشرعية، دار الزهراء، بيروت، لبنان، ج2، ص339.