فقه الشريعة 3

 

 

 

 

 

 

 


حقوق الطبع محفوظـة للناشـر

الطبعة السابعة )1437 هـ ـ 2017 م(

نسخة منقّحة ومصحّحة

ومُطابِقة لآخر فتاوى سماحته (رض)

 

 

 

 

 

 

____________________________________________

دار الملاك للطباعة والنشر

بيروت - لبنان - هاتف: 755200/03- فاكس: 450769/01، ص.ب. 25/158 الغبيري

 

 

 

 

فقه الشريعة

 

 

طبقاً لفتاوى المرجع الديني

سماحة آية الله العظمى

السيد محمّد حسين فضل الله (رض)

 

 

 

 

الجزء الثاني

في أسباب التملّك

 

 

 

دار الملاك


 

 


 

 

مقدمة الطبعة السابعة

 

ﭑ       ﭒ  ﭓ  ﭔ

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله محمد وآله الطاهرين وأصحابه المنتجبين، وبعد:

يعزّ علينا أن نقدم لهذا الكتاب في ظل رحيل مؤلفه سماحة آية الله العظمى الإمام السيد محمد حسين فضل الله (رض)، الذي كان له مقامه السامي في ساحة العلم والاجتهاد، وموقعه الراسخ في ميدان العمل والجهاد، وآثاره الضخمة في البحوث والتأليف.

ولئن كان (رض) قد تميّز في العديد من الإنجازات، فإن رسالته العملية هذه (فقه الشريعة) هي إحدى تلك الإنجازات المميّزة التي تعهدها سماحته بالعناية والرعاية منهجاً ومضموناً، فجاءت فريدة في سلاسة أسلوبها، ووضوح عباراتها، وشمولية مباحثها ومسائلها، ودقّة تبويبها، وحداثة معالجاتها، على غير سابقة احتذتها، ولا مثال تأسّته، وذلك رغم أن سماحته (رض) قد كان راغباً في ترصيعها بالواضح المُبسّط من الأدلّة الشرعية من الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة والقواعد الفقهية، لتقدم الفتوى مقرونة بدليلها، فيأنس بها طالبها ويزداد اطمئناناً، ويصير أقرب للمشرّع المقدس تبارك وتعالى، لكنها رغبة لم تتحقق في غمرة تزاحم آماله وكثرة أعماله، فعسى أن يوفق لها مَنْ بعده من حفظة نهجه ووُعاة علمه.

وقد كان مقرّراً لهذه الطبعة أن ترى النور في حياة سماحته (رض) وذلك بعدما أمضى سماحته مسودّات التصويبات التي عرضت عليه في هذا الكتاب، أعني (فقه الشريعة) بأجزائه الثلاثة، بعدما قام مكتبنا بمراجعة شاملة لها، لكن شاء الله تعالى أن يختاره إلى جواره قبل صدورهـا وقبـل أن يكتب توثيقه المعتاد بخطّه لنصدّرها به، فرأينا مراعاة للدقّة أن نؤكد في هذه المقدّمـة علـى أن ما يتضمّنه هذا الكتاب بأجزائه الثلاثة هو مطابق لآخر ما استجدّ لسماحته (رض) من رأي، داعين الله تعالى أن يجعله عنده في مقام الزلفى ومقعد الصدق، وأن ينفع بهذا الكتاب عامّة المؤمنين؛ وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

 

لجنة الاستفتاء في مؤسسة العلامة المرجع

السيد محمد حسين فضل الله (رضوان الله تعالى عليه)

1 محرَّم 1433

 


 

 

 

مقدمة الطبعة الأولى

 

ﭑ       ﭒ  ﭓ  ﭔ

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين وأصحابه المنتجبين والتابعين له بإحسان إلى يوم الدين.

وبعد، فهذا هو الجزء الثاني من كتاب «فقه الشريعة» الذي يجمع فتاوانا الفقهيّة في الأبواب التي لها علاقة بأسباب التملُّك من المعاملات، ويتميَّز ببعض التنظيم الجديد للمسائل الفقهيّة العمليّة مما يحتاجه المؤمنون من مقلدينا في حياتهم مما يقع محلاً للابتلاء عندهم، والعمل به مجزىء ومبرىء للذمة إن شاء الله، راجياً من الله أن يوفقنا للصواب في معرفة أحكامه ويأخذ بأيدينا ـ جميعـاً ـ إلى ما فيه الخير والصلاح، إنه قريب مجيب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

 

 

محمَّد حسين فضل الله

16صفر 1421


 

 

 

تصديــر

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة على رسوله محمد وآله الطاهرين.. وبعد:

فإنه لا بد من كلمة نقولها بين يدي هذا الكتاب، وهو الجزء الثاني من الرسالة العملية الموسومة بـ (فقه الشريعة)، ولا سيّما أننا ـ بتوجيه سماحة سيدنا الأجل دام ظله الوارف ـ قد سلكنا في وضعه وترتيب أبوابه وفصوله مسلكاً جديداً غير مألوف عند المعنيين بالشأن الفقهي والقانوني، الأمر الذي يستدعي توضيح المنهج الذي اعتمدناه والطريقة التي سلكناها، كي يسهل على المستفيد منه تناول ما يحتاجه من مباحثه ومسائله، فنقول:

يتكفل هذا الجزء ـ إضافةً إلى ما سيتلوه من أجزاء ـ ببيان أحكام ما يصطلح عليه في الفقه الإسلامي بـ (المعاملات)، وذلك في مقابل (العبادات) التي خصصنا لها الجزء الأول، ومرادهم بالمعاملات: (كل ما لا يشترط في أدائه قصد التقرب إلى الله تعالى ولا يكون مقدمة لما يشترط فيه ذلك، مما يرجع إلى نشاط المكلف في مختلف شؤونه، المالية والأمنية والأسرية والسياسية والشخصية إجمالاً)؛ وقد جرت عادة الفقهاء في مصنفاتهم الفقهية على ذكر أبواب المعاملات وتحرير بحوثها ومسائلها دون اعتماد منهج علمي واضح، فقد ترى بعضهم يصنفها على أساس التمييز بين العقود منها والإيقاعات، فيما ترى من يخالفه في ذلك فلا يعتمد قاعدة في تصنيفها، بل تراه يذكر أبوابها كيف اتفق، وإن كان الجميع ـ تقريباً ـ قد اتفقوا على أن يجعلوا أول الأبواب التجارة، وقد يجعلون آخرها المواريث إن اقتصروا عليها، أو القصاص والديات إن زادوا على المواريث أبواب القضاء والحدود والقصاص والديات.

أما نحن، فإننا قد رتّبنا أبواب المعاملات على ما نسميه بـ (المنهج الطبيعي)، وهو الذي انطلقنا فيه على أساس التسلسل الطبيعي لمراحل النشاط الإنساني في حقوله المختلفة، فاعتبرنا أن أول ما يهتم به المكلف ـ إجمـالاً ـ هو تحصيل لقمة العيش وكسب ما يحتاجه في مأكله وملبسه ومسكنه، ثم يهتم ـ ثانياً ـ بتكوين أسرة، ثم يهتم ـ ثالثاً ـ بإقامة نظام يتكفل حلّ خصوماته ونزاعاتـه ويقيـم العـدل في حياتـه، فهو ـ إذاً وبالإجمال ـ بيـن مراحل ثـلاث متداخلة ومتكاملة هي: مرحلة الكسب لما يسدّ حاجته، ثم مرحلة بناء الأسرة، ثم مرحلة إقامة نظام يحقق الأمن والعدالة.

وقد رأينا على صعيد المرحلـة الأولـى ـ وجريـاً على مـا هـو الوضع الطبيعي ـ أن المكلف يبدأ بالتكسب عن طريق حيازة المباحات وتأجير نفسه للعمل عند الغير، وأنه يهب ما يحوزه لغيره قبل أن يبيعه، فاكتمل عندنا تصور شامل جعلنا نولي أهميّة في هذا الجزء الثاني للبحث في أسباب التملّك، فوضعناه في مدخلٍ ومقاصد على النحو التالي:

1 ـ المدخل الذي يتكفّل بيان بعض المصطلحات وشيءٍ عن (الملكية) وعن أهلية المالك وعن فضل التكسب.

2 ـ المقصد الأول: في تملّك المباحات، وهو الذي يتكفل بيان أحكام الأراضي، وحيازة المباحات التي عليها، وأحكام المياه والطرق، والصيد والذباحة، وأحكام إجارة النفس والمزارعة والمساقاة والجعالة وخاتمة في إجارة الأعيان.

3 ـ المقصد الثاني: في الهبات، وهو الذي يتكفّل ببيان أحكام الهبة والصدقة والعارية والوصية والوقف.

4 ـ المقصد الثالث: في المعاوضات، وهو الذي يتكفّل ببيان أحكام البيع والصلح. وبذلك يكتمل الجزء الثاني المخصص لأسباب التملك.

ثم رأينا ـ استكمالاً للمرحلة الأولى ـ أن ثمة طوارىء تطرأ على هذه الملكية بعد تحققها، وهي أمور عديدة مثل: الشركة والدَّين والمضاربة واللقطة والغصب والضمان ونحوها، ممّا هو تابع لها، كالإقرار والوكالة، وغير ذلك من الأبواب، فرأينا أن نضمِّنها الجزء الثالث الذي ربما نسميه (عوارض الملكية)، وذلك إضافة إلى أحكام الأسرة المخصّصة للزواج والطلاق وما يتبعهما.

هذا ما يمكن قوله في هذه المقدمة على نحو الإجمال، وعلى مَنْ أراد الاطلاع التفصيلي على بحوث هذا الجزء مراجعة الفهرس الذي ضمّناه تفصيلاً وافياً وواضحاً لجميع ما أتينا على ذكره فيه.

ومن الله تعالى نستمد العون، هو حسبنا ونعم الوكيل، والحمد لله رب العالمين.

مكتب شؤون الاستفتاء

بيروت 16/01/1421

22/04/2000 م


 

مدخل

في أنواع الملكيّة وأهليّة المالك

 

المبحث الأول: في الملكية وأنواعها

المبحث الثاني: في أسباب التملك

المبحث الثالث: في المالك وأهليته

المبحث الرابع: في ما يملك من الأعيان

المبحث الخامس: في ما يحلّ التكسب به وما يحرم

المبحث السادس: في ما به يثبت الملك

المبحث السابع: في ما به يزول الملك

المبحث الثامن: في فضل التكسب وآدابه



 

 

تمهيد:

تقضي طبيعة عيش الإنسان على هذه الأرض أن يسعى لإشباع حاجاته وتحقيق رغباته مستفيداً من ما حوله من الأشياء، وذلك بالحيازة لها والسيطرة عليها وتكييفها بالنحو المناسب لتلك الرغبات والحاجات، فكان هذا السعي «اكتساباً» وكانت نتيجته «ملكيتها» والاستئثار بها؛ فلا غرو أن يعتني التشريع بهذا القسم من نشاط الإنسان من أجل تنظيمه والتشريع له بما يكفل تحقيق الحاجات بأعلى درجة ممكنة من العدالة.

وبعد أن قدّمنا الكلام في الجزء الأول عن أحكام (العبادات) وما يتبعها تأكيداً منّا على أهمية ذلك القسم من النشاط الإنساني في إشباع حاجات الداخل، وعلى انسجامه مع مقتضيات السعي إلى الله تعالى لنيل رضاه، فإننا في هذا الجزء الثاني نستهدف بيان الأحكام الشرعية المتعلقة بالنشاط الإنساني الساعي لتحقيق أسباب العيش وإعمار الحياة تحت عنوان (أسباب التملك)، عازمين ـ إن شاء الله تعالى ـ على التعرض من خلال هذا المدخل لأصل الملكية ومنشأها وأنواعها، ولبيان من هو المالك وما هو المملوك، ولبيان الأسباب الموجبة للتملك بنحو إجمالي، ثم نعرض لأهلية المالك وموانع هذه الأهلية، ونختم بفضل الكسب؛ وذلك مقدمةً للشروع الفعلي بمقاصد وأبواب هذا الجزء التي نتعرض فيها لبيان أحكام الحيازة والصيد والعمل كأسباب أولية، ثم لبيان كيفية تداول وانتقال المال إلى الغير بالهبة والبيع والوصية ونحوها، أما مباحث هذا المدخل، فإننا سوف نستعرضها فيما يلي تباعاً مستمدين العون عليها من الله تعالى، وهو حسبنا ونعم الوكيل.



 

 

المبحث الأول ـ في الملكية وأنواعها:

(الملكية) مفهومٌ مأخوذ من(الملك) بمعنى التسلط على الشيء والاستئثار به، وهي ـ حسب التعريف الشرعي ـ: (السلطنة الابتدائية المعتبرة شرعاً على مال أو حق قابل للمعاوضة، والتي تخوِّل صاحبها التصرف المثمر إلا لمانع).

وهذه الملكية أقسام متعددة نصنّفها على النحو التالي:

أولاً ـ من جهة المالك:

إن الأشياء الواقعة تحت سلطة الإنسان لها نوعان من حيث المالك لها:

الأول: الملك الخاص بفرد أو أكثر على نحو الاشتراك، وهو الحالة الأكثر شيوعاً من الملكية، وهو مدار المعاملات المالية المتعلقة بهذا الجزء.

الثاني: الملك العام: وهو على نحوين:

أ ـ ملكية الأمة، وهو ما يكون المالك فيه عموم أفراد الأمة من دون استثناء، ونسبة (الملك) إلى الأمة تختلف عن نسبته إلى الفرد، فإن معنى الملكية هنا هو أنه مباح لعموم الناس بدرجات متفاوتة، فالماء والعشب مباحان لجميع الناس، والأراضي المفتوحة عنوة مباحة لجميع المسلمين، والأوقاف تتسع فيها دائرة المالكين وتضيق تبعاً لرغبة الواقف، وهكذا؛ وفي جميع هذه الموارد من الملكية العامة لا يظهر عنصر التسلط على الشيء والاستئثار به بنفس الدرجة التي يظهران فيها عند نسبة الملك إلى الشخص، ولكنه يصحّ في كل حال أن يقال: إنها ملك (العموم)، مقابل (الملك الخاص).

ب ـ ملكية الدولة، وهي السلطة الشرعية التي لها حق الهيمنة على المجتمع وإقامة النظام العادل فيه; والأموال التي تملكها هي الغنائم والخمس والأنفال ونحوها، ويلحق بها دول الكفر والجور لجهة تملكها لما تحت يدها من المال العام من أعيان ونقد.

ثانياً ـ من جهة المملوك:

ويراد به نوع الملكية اللاحقة للأشياء، وهي على أنواع:

أ ـ ما يكون المملوك فيه تمام العين والمنفعة، مثل ملكية الدار والعقار والكتاب والثوب، وهي النوع الشائع واللاحق لمعظم ما عند الإنسان من أملاك؛ ولا يمنع من تحقق هذا النوع كون المالك غير قادرعلى الانتفاع بالعين لأسباب عديدة، مثل كونها قد وهبت له مسلوبة المنفعة لمدة معينة، أو كونها مؤجرة للغير، أو كونه ليس أهلاً للتصرف فيها لسفه ونحوه، فينتفع بها من خلال ولاية الغير عليها، أو لغير ذلك من موانع الانتفاع، إذ إن المالك في مثل هذه الحالات يبقى مالكاً للعين ولمنفعتها رغم كونه غير مسلط على المنفعة.

ب ـ ما يكون المملوك فيه خصوص المنفعة دون العين، وذلك في مثل العين المستأجرة التي يملك فيها المستأجر منفعة الدار أو السيارة، ومثل العين الموهوبة التي يبقي الواهب فيها لنفسه حق الانتفاع بها مدة معينة، ومثل منافع الأوقاف والأملاك العامة إجمالاً، فإن المتصرف بالعين في مثل هذه الحالات لا يملك إلا المنفعة دون نفس العين والرقبة.

ج ـ ما يكون المملوك فيه حقاً متعلقاً بشيء، كملكية حق الاختصاص في مثل الميتة والخمر والخنزير، وملكية حق التأليف في الكتاب ونحوه من مبرزات الأفكار، وملكية حق حضانة الولد، ونحو ذلك من الحقوق التي نتعرض لها في مواردها.

ثم إن المتتبع للأحكام الفقهية المتعلقة بشؤون الملكية سوف يجد تسميات أخرى لبعض أنواع الملكية التي ترجع إلى المملوك، وذلك من قبيل ما لو كانت العين مشتركة وكانت حصة الشريك (مشاعة)، أي غير متميزة عن حصة الشريك الآخر؛ كما أنه قد توصف الملكية في بعض الأحيان بـ (المتزلزلة)، وهومصطلح يراد به: «عدم استكمال المالك لتمام سبب الملك وبقاؤه عرضة للفساد والزوال»، وذلك كما في البيع الخياري وغيره من موارد تزلزل العقد، ويقابله (العقد اللازم) الذي تمت شروطه وخلا من أسباب الفسخ.

المبحث الثاني ـ في أسباب التملك:

وفيه مطلبان:

المطلب الأول ـ في أسباب التملك:

يتحقّق التملّك بأنواعه المتعددة عند تحقق سبب من الأسباب الموجبة له، ورغم أننا سوف نذكرها مفصلة في الأبواب القادمة، فإن من المستحسن أن نذكرها بنحو الإجمال في هذا المدخل، فنقول:

تتحقّق ملكية المكلف الخاصة للمباحات بحيازته لها واستيلائه عليها، فمن بذل جهده وقام بصيد الحيوان الممتنع، أو بالتقاط ثمار الأشجار وأخشابها، أو باجتزاز العشب والخضروات، أو باستنباط الماء من الأرض أو استخراجه من النبع، أو بإحياء الأرض واستصلاحها، فإنه بذلك الجهد وتلك الحيازة والسيطرة يكون قد ملك ذلك الحيوان والثمار والأخشاب والأعشاب والماء والأرض وصارت له، فلا تجوز منازعته فيها ولا أخذها منه ولا التصرف فيها إلا بإذنه؛ وبذلك يكون السبب الأول والأصلي للتملك هو «الحيازة» بهذا المعنى الواسع.

ثم إنه بعد أن يستقر ملك الإنسان على «الشيء» يمكنه نقلـه اختيـاراً ـ أو انتقاله قهراً عنه ـ إلى ملك شخص آخر أو جهة، مجاناً أو بعوض، أثناء حياته أو بعد موته، بناقل من نواقل الملكية المعلومة، كالبيع والهبة والميراث ونحوها من الأمور التي تعتبر سببا آخر من أسباب التملك غير نفس الحيازة الناتجة عن بذل الجهد المباشر في العين لتملكها؛ فمن احتفر في أرضه عين ماء نابعة يستقي منها صارت مملوكة له، فيحق له أن ينقلها إلى ملك الغير بالبيع أو بالهبة أو بالوصية له بعد الموت، بل إنه لو لم ينقلها عن ملكه، وبقيت معه مدة حياته فمات، لانتقلت عنه قهراً بالوراثة إلى مَنْ بعده، كذلك يحق له ـ أيضاً ـ أن يحتفظ بالعين ويهب جزءاً من مياهها أو يبيعه؛ فظهر من ذلك أن هذا البيع أو الميراث قد كان سبباً في حدوث ملكية جديدة لهذه العين بعدما كان ـ من الناحية الطبيعيـة ـ قد سبق تملكها من قبل بمثل الحيازة والإحياء، كما أنه قد ظهر أن تلك النواقل وإن كانت أسباباً للملك ولكنها ليست أصيلة وابتدائية، بل هي ناقلة ومحدثة لملك بعد ملك. وهذا هو شأن جميع الأسباب التي سنذكرها في هذا الجزء.

هذا على صعيد الملكية الخاصة؛ أما على صعيد الملكية العامة، فإن ملكية الدولة للأنفال مثلاً سببه هو نفس عنوان (الدولة) المنطبق عليها، كما أن الفتح العسكري لبلدان أخرى هو سبب ملكيتها للغنائم ولنوع من الأراضي؛كذلك تملك (الأمة) نوعاً آخر من الأراضي بهذا الفتح بصفتها (أمة) وإن تولت الدولة الإشراف عليها؛ وهكذا سائر ما يدخل في هذا العنوان من أسباب التملك الخاص أو العام مما لا نريد استقصاءه في هذا التمهيد.

المطلب الثاني ـ في توضيح بعض المصطلحات:

من جهة أخرى فإن نواقل الملكية الآنفة الذكر هي مما يندرج تحت عنوان (المعاملات)، وهو المصطلح الذي يشمل كل تعامل بين طرفين قائم على ما يعرف في الفقه بـ (العقد)، كما يشمل كل تعاملٍ قائمٍ على (الإيقاع)، سواء في إطار النشاط الاقتصادي أو في إطار العلاقات الأسرية، ومن المستحسن توضيح ذلك في هذا المبحث فنقول: (العقد) و(الإيقاع) مصطلحان مستخدمان في تصنيف أنواع المعاملات المتداولة بين الناس في شتى أمورهم، والتي منها نواقل الملك المشتملة في أنواعها المتعددة على كل من العقود والإيقاعات، وهي التي يبرز بها الإنسان رغبته في نقل ملكه إلى الآخر، وهو التصنيف الذي لوحظ فيه نوع المعاملة من جهة مدى ضرورة مشاركة الطرف الآخر فيها حين التعاقد باللفظ أو الفعل المبرز لذلك الناقل والمحقق له.

فـ (العقد) هو: (قول أو فعل مشتمل على الإيجاب والقبول، ومبرز للتراضي بين طرفين أو أكثر على تعهد بأمر، كالضمان والكفالة، أو نقل ملكية، كالبيع والهبة والإجارة، أو إنشاء عُلقة، كالزواج والشركة)؛ فالباذل في البيع أو الصلح ـ مثلاً ـ (يوجب)، أي يصدر منه اللفظ الدال على رغبته في نقل ملكه إلى الغير بقوله: «بعت» أو «صالحت»، والطرف الآخر يقبل هذا البذل بقوله: «قبلت»؛ وهما ركنا (العقد) المعبر عنهما بـ (الإيجاب) و(القبول)؛ والمعاملات المحتاجة للعقد هي:

البيع، المضاربة، الصلح، الشركة، الضمان، الدين، المزارعة، المساقاة، الوديعة، العارية، الإجارة، الوكالة، النكاح، السبق والرماية، الوصية والوقف والحبس وتوابعه على قول، والصدقات إجمالاً.

وأما «الإيقاع» فهو: (اللفظ الذي يبرز إرادة تحقيق أمر معين معتبر في الشرع ضمن شروطه، بغضِّ النظر عن رضا الطرف الآخر وعدم رضاه، بل من دون وجود طرف آخر في بعض الأحيان)، ومثاله الأكثر تداولاً هو الطلاق، فإذا قال الراغب في الطلاق: «زوجتي فلانة طالق»، بهدف تحقيق الطلاق وإبراز الإرادة وإعلانها، كان ذلك منه (إيقاعاً)، فيحدث به الطلاق وتبين الزوجة ولو لم تكن هي كـ (طرفٍ ثانٍ) راغبة بذلك ومريدة له.

والمعاملات التي تتحقق بالإيقاع هي: الإبراء، والجعالة، وكذلك الوصية والوقف والحبس وتوابعه على بعض الأقوال، والعتق وتوابعه، والطلاق والخلع والمباراة، والإقرار، والنذر وشبهه.

هذا، وإنه لا بد من ملاحظة أن الأسباب الناقلة للملكية هي من نوع العقود أكثر مما هي من نوع الإيقاعات كما سيظهر تفصيلياً.

المبحث الثالث ـ في المالك وأهليته:

ونريد به المالك الخاص الذي هو الأساس في عملية التملك، في حين أن أمر المالك العام الذي هو الأمة أو الدولة واضح ومعلوم، وفي هذا الصدد نقول:

إن الشريعة المطهّرة قد أقرت حق الإنسان الطبيعي في التملك وسمحت به لعموم الناس، صغيرهم وكبيرهم، ذكرهم وأنثاهم، مسلمهم وكافرهم، عاقلهم ومجنونهم، وليس ذلك إلا من أجل ما للملكية من دورٍ أساس في تحقيق الفرد لحاجاته وقيام المجتمع بوظائفه.

ولما كان الأهم من ملكية الشيء هو حسن التصرف فيه ليقوم المال بدوره في إعمار الأرض وتطور المجتمع وازدهاره، فإن الإسلام لم يسمح لكل مالك أن يستقل بالتصرف فيه إلا إذا حاز صفات تؤهله لذلك، وإلا إذا خلا تصرفه من الإضرار بغيره؛ إضافة إلى ذلك فإن الشريعة قد أوكلت أمر فاقد الأهلية إلى (الولي)، وخوّلته النظر والإشراف على شؤونه لتدبيرها بما يناسب مصلحته؛ كذلك فإن ثمة أسباباً أخرى طارئة تمنع من التصرف، كإفلاس المدين ورهن المال؛ ولما كان الفقهاء قد تعرضوا لبيان أحكام بعض هذه الأسباب في باب (الحجر)، ولبيان أحكام بعضها الآخر في أبواب أخرى، كالبيع والنكاح وغيرهما، فإننا لم نرتض طريقتهم، ورأينا أن الأوفق بمنهجنا أن نؤجل ما له علاقة بموضوع خاص إلى بابه، وذلك كالإفلاس والرهن الذين ذكرناهما في باب الدَّيْن، وأن نذكر هنا ما له دخالة وأثر في الكثير من المعاملات، وهو ما له علاقة بفقدان الأهلية الناتج عن مثل الصغر والجنون والسفه، وما له علاقة بالإضرار بالغير، وذلك في فرعين:

الفرع الأول ـ في ما يرجع إلى فقدان الأهلية:

والبحث فيه يقع في مطلبين:

المطلب الأول ـ في الأسباب:

وهي أمور:

1 ـ مانعية الصغر:

الصغر وصفٌ لحالة ما قبل بلوغ سنّ التكليف، فإن بلغت الأنثى ثلاث عشرة سنة قمريّة، أو جاءها الحيض قبل ذلك، أو بلغ الصبي بنبات الشعر الخشن على العانة، أو بالاحتلام، أو بلغ خمس عشرة سنة قمريّة، ارتفع عنهما وصف الصغر، وصح تصرفهما بالمال إذا انضم إليه الرشد الذي سيأتي، فمن كان رشيداً قبل بلوغه، أو بلغ من دون رشد، لم ينفعه ذلك في كونه أهلاً للتصرف شرعاً.

2 ـ مانعية الجنون:

ويمكن أن يكون المراد بالجنون ـ بحسب الظاهر العرفـي ـ حالة: (انفصال الإنسان عن الواقع، بخروجه عن المألوف الفردي والاجتماعي النابعين من الشريعة والعرف)، بل قد يصل في درجته العليا إلى حد فقدان التوجه الغريزي وغياب الواقع المادي تماماً عنه، فتراه يشتم ويتعرى ويأكل ويشرب ويلبس وينام ويوقع نفسه في المهالك دون وعيٍ منه لعواقب ما يفعل ولا تقدير لشريعة ولا آداب؛ فإذا تفاوتت مراتب الجنون فإنها تبقى في جوهرها قريبة ومحكومة لهذا المقياس بحسب المفهوم العرفي، أما بحسب المفهوم العلمي للجنون فإنه لا يعتدّ بما قد يطلق عليه هذا العنوان من دون أن يتحقق منه هذا الانفصال عن الواقع بدرجة واضحة.

ولا فرق في مانعية الجنون بين الجنون المطبق المستمر وبين الجنون الأدواري إذا وقع منه التصرف حين جنونه، فإن أفاق المجنون وعقل، ولو بالمعالجة والدواء، صح تصرفه خلال عقله.

مسألة 1: إذا شُكّ في حدوث الجنون بعدما كان عاقلا بُنِيَ على عقله، وإذا كان مجنوناً فشك في عقله بني على بقاء جنونه، ولا بد من قيام الحجة المعتبرة على أحدهما من أجل ترتيب الآثار عليه، خاصة في مقام التداعي والخصومة، وذلك بمثل الاختبار وغيره من الوسائل المفيدة للعلم، أو بشهادة العدلين أو العدل الواحد أو الثقة، والأولى إيكال الأمر للحاكم الشرعي.

3 ـ مانعية السفه:

المراد بـ (السفـه) ما يقابـل (الرشد)، والرشد ـ في عالـم الأموال ـ هو: (مستوى من الخبرة بأصول المعاملات تجعل المكلف قادراً على الاستفادة من أمواله واستثمارها بالنحو الملائم من دون أن يقع ـ كثيراً ـ في الغبن، من جهة، ومن جهة أخرى تجعله قادراً على صرفها باعتدال في حاجاته)، فمن لم يكن كذلك يكون سفيهاً، فلا يُمكَّن عندئذ من التصرف في أمواله بل يتولاها عنه الولي.

مسألة 2: مانعية السفه مختصة بالأموال والزواج، بيعاً وشراًء وهبةً ونحو ذلك، فلا يمنع السفه من نفوذ تصرفاته الأخرى حتى لو استتبعت بذل المال، كمثل الطلاق والنذر ونحوهما.

مسألة 3: لا علاقة للرشد أو السفه بمراحل العمر، فقد يصير الرجل طاعناً في السن ويبقى سفيهاً فيبقى ممنوعاً من التصرف، كما أنه قد يكون الإنسان رشيداً قبل بلوغه وإن كان لا يرتفع عنه الحجر إلا بعد البلوغِ.

مسألة 4: يُعلَم رشد السفيه والصغير باختبارهما، وذلك بمثل أن يعطى مقداراً من المال ويُرى كيف يتصرف فيه، ويكرر ذلك معه أكثر من مرة وفي أحوال مختلفة حتى يظهر رشده ويُعلم، فتدفع إليه أمواله ليستقل بالتصرف فيها ـ حينئذ ـ ويصلح هذا النوع من الاختبار لكلٍ من الرجل والمرأة، إلا أن يكون تدبير المال ـ في بعض المجتمعات ـ شأنا خاصا بالرجل لا تحسنه المرأة ولو كانت رشيدة، فيختبر رشد المرأة حينئذ بما هو عملها وشأنها من أعمال البيت وتدبير الأسرة، فعندما تحسن أموراً مثل الحياكة والطبخ ورعاية الطفل والحرص على أدوات المنزل، ونحو ذلك مما يعرف منه نضجها ووعيها، يحكم برشدها.

ومن لم يختبر فإن له أن يكتفي بشهادة الرجال برشد الرجل أو برشد المرأة، ويكفي في ذلك شهادة العدل الواحد أو الثقة، بل إن للاكتفاء بشهادة المرأة برشد المرأة وجهاً وجيهاً؛ نعم لا إشكال في كفايتها مع حصول الاطمئنان بها.

وكما يثبت الرشد بالعلم الحاصل من الاختبار وغيره، وبشهادة البيِّنة، بل وبشهادة العدل الواحد أو الثقة، فإن السفه بعد الرشد يثبت بذلك أيضاً.

وكما هو الأمر في الجنون، فإن إثبات السفه أمرٌ لا يخلو من الصعوبة والتعقيد مما ينبغي معه إيكال الأمر إلى الحاكم الشرعي للنظر فيه وإقراره واتخاذ الإجراء اللازم بشأنه، حيث من الطبيعي أن يرجع الحاكم الشرعي في حكمه ـ سلباً أو إيجاباً ـ إلى أهل الخبرة من ذوي الوثاقة في إعطاء الرأي.

المطلب الثاني ـ في الولاية على فاقد الأهلية:

وتفصيل أحكامه يقع في عناوين:

1 ـ مراتب الأولياء:

لما كان لا بد لفاقد الأهلية من راع يرعى أموره ويدبِّرها على وفق مصلحة ذلك الفاقد، فإنّ الشريعة قد اهتمت بذلك وحفظت مصالح هذا الإنسان من خلال نظام الولاية؛ والولي بالدرجة الأولى هو: الأب والجدّ للأب، وبالدرجة الثانية: الموصى له بالقيمومة والإشراف والرعاية للقاصرين من قبل أحدهما بعد وفاته، وبالدرجة الثالثة: الحاكم الشرعي، وبالدرجة الرابعة: عدول المؤمنين.

فهنا أربع مراتب للأولياء:

الأولى: ولاية الأب والجد

مسألة 5: الولاية ثابتة للأب وللجد للأب على الصغير حتى يبلغ، وعلى المجنون والسفيه ـ إذا بلغا كذلك ـ حتى يعقل المجنون ويرشد السفيه، فإن حدث لهما الجنون أو السفه بعد البلوغ فالولي هو الحاكم الشرعي، وإن كان الأحوط استحباباً إشراك الأب أو الجد للأب معه في الولاية عليهما. وليس للأم ولا لأبيها ولا لغيرهما من الأرحام والأقرباء ولاية عليهم، لا في حياة الأب والجد للأب ولا بعد موتهما، نعم قد تكون الولاية لأحدهم بسبب أمرٍ غير القرابة من الأمور التي سنذكرها.

مسألة 6: إن هذه الولاية أصيلة قائمة بالأب والجد للأب بحكم تولّد القاصر منهما، فلا تحتاج في ثبوتها إلى جعل الحاكم الشرعي وتعيينه ولا إلى إشرافه واستئذانه، فيمارسان ولايتهما بالنحو الذي يريانه موافقاً لمصلحة القاصر ما دام المتصدي أهلاً لذلك.

مسألة 7: الأهلية في الولي تعتمد على كونه عاقلاً رشيداً، وعلى كونه أميناً على مصلحة القاصر في نفسه وماله، فلا يعتبر فيه الإسلام ولا الإيمان ولا العدالة؛ فإن جرى الأمر على ذلك لم يكن لأحد منازعته في تصرفاته، نعم إذا فقد الأهلية فصار مجنوناً أو سفيهاً أو خائناً، جاز للحاكم الشرعي منعه عن التصرف وكف يده وتولي أمور القاصر عنه حتى ترجع إليه الأهلية.

مسألة 8: ولاية الأب والجد ـ إذا كانـا حييـن ـ في مرتبة واحدة، وليس أحدهما فيها أولى من الآخر، فإذا تصديا معاً لأمر واحد وسبق أحدهما نفذ تصرفه دون الآخر، وإلا بطلا؛ وهو أمر قليل الحدوث، ولا سيّما وأن الغالب في ذلك هو تصدي الأب من دون معارضة الجدّ له.

الثانية: ولاية الوصي

مسألة 9: يستمدّ الوصي ولايته على فاقد الأهلية من ولاية الموصي الذي هو الأب أو الجد للأب، وذلك على أساس أن القيمومة على القاصر ورعاية شؤونه أمر يهمهما ويعنيهما حيين وميتين، فإذا أوصيا بهذه القيمومة لشخص ما فإنه يصير بمثابة الولي الأصلي وقائماً مقامه بعد موته وأولى من الحاكم الشرعي بها؛ ويشترط في صحتها من كل منهما فقد الآخر وموته، فلا تصح وصاية الأب بالقيمومة على القاصرين من أولاده مع وجود جدهم لأبيهم، وكذلك العكس؛ كذلك فإن مثل هذه الوصية لا تكون مشروعة ولا نافذة إلا من الولي الأصلي، وهو الأب أو الجد للأب، فلا تصح من الوصي ولا من الحاكم الشرعي ـ إجمالاً ـ كما سنبينه لاحقاً.

مسألة 10: تتّسع ولاية الوصي وتضيق طبقاً للقيود التي ذكرها الموصي، فإن أطلق الوصية له شملت كل ما كان يتولاه الموصي ما عدا الزواج، فإنه لا يكون ولياً عليه إلا إذا نص عليه الموصي، وما عدا أن يوصي بهذه الولاية لغيره بعده، إلا أن يكون مأذوناً بجعل وصي بعينه أو مطلقاً من قبل الموصي، وذلك بمثل قوله: «أوصي زيداً بالقيمومة على أولادي وبأن يوصي لعمرو ـ مثلاً ـ بأن يكون القيِّم بعد وفاته»، فإنها حق خاص بالموصي، أي بالأب أو الجد للأب، فلا يصحّ جعل القيم إلا من قبلهما مباشرة، أو من خلال الإذن للوصي بجعل وصي بعده.

مسألة 11: تثبت الوصية بالقيمومة لمن يدّعيها بشاهدين عدلين مسلمين، بل وتثبت بالعدل الواحد أو الثقة، وبشهادة كل من يفيد قوله الاطمئنان ولولم يكن مسلماً.

مسألة 12: يشترط في الوصي البلوغ والعقل والرشد، لا غير، فلا تشترط فيه الذكورة، فتصح الوصية للمرأة، ولا العدالة، بل يكفي أن يكون أميناً موثوقاً به ملتزماً بالحدود التي وضعها الموصي، وكذا لا يشترط فيه الإسلام إلا أن تترتب مفسدةٌ على الوصية لغير المسلم؛ فإن اختل شرط من هذه الشروط بطلت وصايته، فيتولى الحاكم الشرعي عمله الذي عهد إليه به أو يأذن لمن يثق به بالقيام بذلك نيابةً عنه؛ نعم إذا كان قد خان ضم إليه الحاكم أميناً يمنعه عن الخيانة، وإلا عزله ونصّب غيره.

مسألة 13: لا يجب على الوصيّ القيام بنفسه بشؤون الوصاية، بل يجوز له أن يوكلها إلى غيره بالطريقة التي يرغب بها، إلا أن يشترط عليه الموصي القيام بها بنفسه، فتجب المباشرة حينئذ.

هذا، وإننا سوف نعيد ذكر هذه الأمور بتفصيل أوفى في باب الوصية. (أنظر في ذلك: المطلب الخامس، ص 363، والمبحث الخامس، ص 367).

الثالثة: ولاية الحاكم الشرعي

وهو الفقيه المجتهد العادل؛ وإنما يكون ولياً على فاقد الأهلية في حال موت الولي الأصلي، وهو الأب والجد للأب، مع عدم وجود وصيٍّ قيِّمٍ مُنصَّبٍ من أحدهما، إذ يكون القاصر ـ حينئذ ـ دون ولي، فيصير وليّه الحاكم الشرعي.

مسألة 14: إذا صار فاقد الأهلية دون ولي، وأمكن الرجوع إلى الحاكم الشرعي، لم يجز لأحد من المسلمين، ولو كان من أقرباء القاصر، التصدي لشيء من أموره المالية بمثل البيع والشراء ونحوهما، ولا لشيء من أموره الشخصية الاستثنائية التي تحتاج إلى نظر الولي، إلا بعد مراجعة الحاكم الشرعي ونظره وصدور الإذن منه، حتى لو كان في بلد آخر.

مسألة 15: إذا تعدد الحاكم الشرعي الجامع للشروط كانت ولاية الجميع في مرتبة واحدة، فإذا تصدّى من يُكتفى به نفذ تصرّفه، وليس للآخر أن يعارضه، فإن تصديا معاً وتصرفا في أمر واحد نفذ تصرف السابق منهما.

مسألة 16: للحاكم الشرعي أن يباشر أمور القاصر بنفسه، وله أن يوكل من يقوم بها عنه من أقرباء القاصر أو من غيرهم.

الرابعة: ولاية العدل المؤمن

وهو العاقل الرشيد الخبير الملتزم بأحكام الشريعة من عامة المؤمنين، ولا يجب أن يكون من أهل البلد، ولا من أقرباء القاصر، وإن كان الغالب فيه ذلك بحسب العرف؛ فحيث لا يوجد الحاكم الشرعي، أو لا يمكن الوصول إليه، يجب ـ على نحو الوجوب الكفائي ـ تصدي واحد من المؤمنين العدول لإدارة أمور القاصر بالنحو الذي كان يتولاه الولي.

كذلك فإن ولاية المؤمنين المتعددين على درجة واحدة، وليس أحدهما أولى من الآخر، فإذا تصدى أحدهم وتصرف نفذ تصرّفه وصح، وليس لغيره إبطاله، وإذا تصرفا معاً نفذ تصرف السابق منهما.

2 ـ حدود ولاية الولي:

لما كان الهدف من جعل الولاية على فاقد الأهلية هو رعايته وتدبير أموره في نفسه وفي ماله، ولما كانت تصرفات الولي حادثة في حالة استثنائية تستدعي مراعاة الحذر والاحتياط، وهي فقدان المالك لأهلية التصرف، فإن الشريعة المطهّرة قد وضعت حدوداً لتصرفات الولي تختلف عما لو كان المتصرف هو المالك نفسه، وذلك على النحو التالي:

أولاً: إن الأظهر هو كون الوليّ مُنـزَلاً منزلة المالك في كيفية تصرفه بأمواله وبنفسه، وفي مدى طموحه الذي يرجو تحقيقه، فكما لا يكتفي المالك بتجميد أمواله وأوضاعه الحياتية، ولا يقتصر على دفع المفاسد التي تؤدي إلى خسران المال ونحوه، بل يسعى إلى جلب المنافع وتحقيق الأرباح والمكاسب، فيتاجر في ماله، رغبةً في الربح، ويتزوج لتحقيق غاية راجحة، ويقوم بمختلف التصرفات على قاعدة تحقيق المصلحة، فإن للولي ذلك كما لو كان هو المالك، ومثال ذلك ما لو كان لهذا القاصر مبلغٌ من المال، ودار الأمر بين أن يتاجر به مع رجاء الربح وبين أن يدخره من دون أن يخسر منه شيئاً بالادخار، فإن الأجدر بالولي أن يتاجر بمال ذلك القاصر لتحقيق الربح الذي هو مصلحة له، دون أن يمنعه منه احتمال الخسران الوارد دائماً في التجارة، ما دام الأسلوب الذي تدار به الأمور متعارفاً وجارياً على طبق الأصول التجارية؛ ومثاله ـ أيضاً ـ ما لو أراد الولي تزويج الصبي، فإنه يجب عليه مراعاة المصلحة العائدة على القاصر، بل وينبغي بذل الجهد في اختيار الأصلح، تماماً كما لو كان القاصر ولده؛ وهكذا الأمر في سائر الشؤون؛ أما إذا خلا العمل من المصلحة، كأن لم يكن في التجارة ربحٌ ولا مصلحة أخرى، ولا في زواج الصبي فائدة، لم يجز الإقدام عليه حتى لو خلا من المفسدة ولم يترتب عليه ضرر.

ثانياً: وعلى ضوء المبدأ الآنف الذكر، فإنه لا يصح من الولي أن يهب ولا أن يتصدق بشيءٍ من أموال القاصر حتى لو كان فيهما مصلحة للقاصر بوجه من الوجوه؛ نعم لا يشمل ذلك دفع الخمس والزكاة والضمان وغيرها من الأمور التي ورد استحباب أو وجوب بذلها من مال القاصر عند توفر شروطها، وأما مثل إقراض ماله للغير أو إعارته له مع الاطمئنان بوفاء القرض ورد العارية، فإن كان فيه مصلحة دنيوية للصبي مثلاً جاز فعله، وإن لم يكن فيه مصلحة لم يجز حتى لو كان المقترض أو المستعير أحد أقربائه.

ثالثاً: إنّ الولاية على شؤون فاقد الأهلية غير المالية، وهي ما يصطلح عليها بـ (الولاية على النفس)، تختلف باختلاف أسباب فقد الأهلية وباختلاف تلك الشؤون الحياتية:

فالسفيه لا ولاية لأحد عليه في ما عدا الزواج من أموره الشخصية، كالطلاق والوصية بغير المال ونحوهما، فيصحُّ منه طلاق زوجته حتى لو ترتب عليه بذل المهر لها، وكذا يصح أن يوصي بأن يدفن في مكان معين وأن يجهز في غسله وكفنه بطريقة معينة حتى لو ترتب عليه بذل مال، وهكذا سائر أموره من سكنه وتصرفاته الأخرى؛ أما الزواج، فإن عليه ـ على الأحوط وجوباً ـ أن يستأذن أباه أو جده لأبيه إذا كان سفيهاً في جميع أموره، وأما إذا كان سفيهاً في خصوص الزواج فإن عليه ـ على الأحوط وجوباً ـ أن يستأذن الحاكم الشرعي.

وأما المجنون والصبي فإن للأب والجد للأب ولايةً عليهما في كل ما له علاقة بأمورهما الأساسية، كالتربية والتعليم والسكن وطريقة الإنفاق ومقداره وكيفية استثمار أموالهما، ونحو ذلك مما يرجع إلى سلوكهما العام المؤثر في بناء الشخصية وتركيز الكيان الاجتماعي حاضراً ومستقبلاً؛ ونفس هذه الصلاحيات تثبت ـ أيضاً ـ للوصي عن أحدهما عند إطلاق الولاية، كما تثبت بنفس النحو للحاكم الشرعي، ولعدول المؤمنين عند فقد الحاكم الشرعي.

وأما تزويجهما فإن للأب وأبيه الولاية في ذلك، سواء مع اضطرارهما إلى الزواج أو عدمه، وأما الوصي فإنه لا ولاية له على ذلك إلا إذا نص الموصي عليه، وأما الحاكم الشرعي فهو ولي الصبي والمجنون في التزويج مع الضرورة لا بدونها، وكذلك عدول المؤمنين في حال فقد الحاكم الشرعي.

وأما الطلاق فإن للولي، كائناً من كان، أن يطلِّق زوجة المجنون مع وجود مصلحة له في الطلاق، ولا ولاية له على طلاق الصبي، مع المصلحة وبدونها، نعم للولي أن يهب عن الصبي زوجته المتمتَّع بها مدتها مع المصلحة له أو لها أو بدونها.

3 ـ التنازل عن الولاية:

قد ذكرنا فيما سبق إمكان نزع ولاية الأب أو أبيه أو الوصي عن أحدهما أو عدول المؤمنين إذا صدر من أحدهم ما يوجب فقدانه أهليّة الولاية، وفي هذا المجال قد ينفع التعرض لمسألة إمكان تنازل الولي الاختياري عن ولايته لسبب من الأسباب، فنقول:

إن ولاية الأب وأبيه ناتجة عن حكم شرعي يقضي بإلزامهما بهذه المسؤولية، فلا يصح ولا يقع منهما التنازل الاختياري عن هذه الولاية، فإن صدر منهما تنازل عنها عُدَّ لاغياً وتبقى ولايتهما ثابتة رغم ذلك؛ نعم يجوز لهما القبول بالشرط القاضي بتعطيل ولايتهما وتفويض هذه الولاية لشخص آخر إذا وقع ذلك الشرط في ضمن عقد لازم، كعقد الزواج الذي تشترط فيه الزوجة على زوجها أن تكون لها الولاية على الأولاد في ظروف معينة أو مطلقاً، فإن شرط ذلك على نفسه وجب عليه الوفاء به، ولم يكن ذلك منه تنازلاً عن الولاية، بل هو نوع من الإذن للغير بتولي أمور هذا القاصر، ومن البديهي ثبوت الحق للولي بإعطاء مثل هذا الإذن ما دام لا يجب عليه ـ أساساً ـ مباشرة أعمال الولاية بنفسه.

أما الوصي عن أحدهما فإن ولايته ليست أصيلة، بل هي مجعولة من قبل الغير، فهي مرهونة بإرادته في حدودها وتفاصيلها، وكذا في نزع وصايته من قِبَل الموصي ما دام حياً؛ كذلك فإنها رهن بإرادة الوصي الذي يحق له أن يرفض هذه الوصاية حال حياة الموصي بشرط أن يصله الرفض ويعلم به، وبشرط أن يكون الموصي قادراً على تعيين غيره، أما بعد الموت فإنه لا يحق للوصي رد الوصية ورفضها، سواء كان قد قبلها قبل صدور الرفض أو لم يكن قد صدر منه القبول.

وليس للوصي عزل نفسه وتفويض المهام التي أوكلت إليه إلى غيره، نعم له أن يتعاون مع الغير في تنفيذ الوصية من باب الاعتماد على أهل الخبرة، مثل المجتهد أو المُسْتأجَر للعبادة أو العارف بأمور التجهيز ونحو ذلك، إلا أن ينص الموصي على مباشرة الوصي لذلك بنفسه، فتتعين عليه المباشرة حينئذ، كما سبق ذكره. (أنظر المسألة 13).

أما العدل من المؤمنين فإنه يجوز له التخلي عما بيده من شؤون القاصر إن لم يكن ما يتصدى له واجباً متعيناً عليه ومنحصراً به، وإلا لم يجز له ذلك؛ وإنما ينحصر الأمر به في صورة ما لو لم يكن غيره كفؤاً، وكان في ترك التصدي ضرر بالغ يجب دفعه عن القاصر على كل قادر، كما لو تعرض عرض ذلك القاصر للعدوان، أو تعرض للانحراف في دينه أو أخلاقه، أو للأمراض في جسده، أو نحو ذلك من الأضرار الكبيرة.

4 ـ صلاحيات أخرى للولي:

يطلق الولي في بعض أبواب الفقه، ويراد به في باب (أحكام الأموات): (كل من يرث الميت من الطبقة التي مات عنها من الذكور والإناث)، وقد تقدمت أحكامه التي قلنا فيها: «إن لهذا الولي سلطة الإشراف على تجهيزه». (أنظر في ذلك الجزء الأول، المسألة 425).

وكذلك يطلق الولي في باب (القصاص) ويراد به من يرث مال المقتول من الرجال، وهو الذي له حقّ اتخاذ القرار بالاقتصاص من القاتل عمداً أو أخذ الدية منه.

أما الحاكم الشرعي فمن المعلوم أن مدى ولايته يتجاوز أمور الفاقد للأهلية لتكون له الولاية على الطلاق في بعض الحالات، إما مستقلاً كما في مثل حالة عدم الإنفاق، أو بالاشتراك مع الأب كما في حالة المفقود، كذلك فإن له الولاية على تحديد الأسعار وعلى الإلزام بالبيع وعلى جميع الشؤون العامة في إطار إقامة النظام الإسلامي ونشر العدل والتصدي للقضايا الكبرى.

وجميع هذه الأمور وغيرها ستبحث في أماكنها بعدما اقتصرنا على ما له علاقة بالولاية على القاصر.

الفرع الثاني ـ في ما يرجع إلى مانعية الإضرار بالغير:

وفيه مطلبان:

المطلب الأول ـ في حكم الجوار:

لا يجوز للمالك أن يتصرف بداره أو أرضه بما يحدث ضرراً على جاره، وتفصيل ذلك يستدعي بيانه في مسائل:

مسألة 17: قد حثت الروايات الكثيرة على رعاية الجار وحسن المعاشرة مع الجيران وكف الأذى عنهم وحرمة إيذائهم، وقد ورد في الحديث عن الإمام الصادق y أنه قال: (إن حسن الجوار يزيد في الرزق)، وعنه ـ أيضاً ـ أنه قال: (حسن الجوار يعمّر الديار ويزيد في الأعمار)، وعنه ـ أيضاً ـ y أنه قال: (ليس منّا من لم يحسن مجاورة من جاوره)، وغيرها مما قد أكد على الوصية بالجار وتشديد الأمر في ذلك.

والمراد بالجار في مقام حسن المعاشرة من يراه العرف كذلك ممن يسكن في جوارك في بلدك أو محلتك؛ وفي بعض الروايات تحديده بأربعين داراً، والظاهر أن المراد بها ما ينتشر حولك من الجهات المتعددة، لا أنها أربعون داراً من كل جهة، وبذلك تكون مناسبة لوضع المباني ذات الطبقات في المدن؛ أما المراد بالجار في مقام عدم الإضرار به فهو الأعم من ذلك، فيشمل كل من يتضرر بتصرفك من المسلمين، ولو كان أبعد من ذلك.

مسألة 18: إذا لزم من تصرّف المالك في ملكه ضرر معتد به على جاره، فإن كان ضرراً متعارفاً فيما بين الجيران، كإطالة البناء الموجبة لنقص الاستفادة من الشمس أو الهواء، فالظاهر أنه لا بأس به، وإلا لم يجز، فإن فعل ما فيه ضرر غير متعارف وجب عليه رفعه؛ ولا فرق في ذلك بين أن يكون تصرفه في ملكه مستلزماً للتصرف (الحقيقي) في ملك الجار أو مستلزماً للتصرف (الحكمي) فيه:

والأول: كما إذا تصرّف في ملكه بما يوجب خللاً في حيطان جاره، أو حبس ماءً في ملكه بحيث تسري الرطوبة إلى بناء جاره، أو أحدث حفرة لخزن مياه الصرف الصحي بقرب بئر الجار فأوجب فساد مائها، أو حفر بئراً بقرب بئر جاره فأوجب نقصان مائها، سواء أكان النقص مستنداً إلى جذب البئر الثانية ماء الأولى أو إلى كونها أعمق منها.

والثاني: كما إذا جعل في ملكه معمل دباغة أو حدادةٍ في منطقة سكنية، ما يوجب عدم قابلية الدور المجاورة للسكنى فيها.

مسألة 19: الظاهر أنه لا فرق في عدم جواز تصرف المالك في ملكه بما يوجب الإضرار بالجار على أحد النحوين المتقدمين بين أن يكون ترك تصرّفه فيه مستلزماً للضرر على نفسه أم لا، فلا يجوز للمالك حفر بئر لتخزين مياه الصرف الصحي ـ مثلاً ـ في داره على نحو تضر ببئر مياه الشرب لجاره وإن كان في ترك حفرها ضررٌ عليه، ولو فعل ضَمِن الضرر الوارد على جاره إذا كان مستنداً إليه عرفاً.

مسألة 20: إذا أراد أحد المالكين المتجاوريْن بناء سورٍ لأرضه، أو بناء حائطٍ لمنزله، لم يجب عليه أن يجعل حرماً بينه وبين عقار جاره أو حائط سوره أو منزله، نعم ينبغي الالتزام بقوانين التنظيم المدني في المواصفات اللازمة في البناء، وذلك لما لها من أهمية في حياة الإنسان وصحته وجمال مدينته.

مسألة 21: لا يجوز وضع حافة سقف البناء أو الخيمة أو نحوهما على حائط الجار إلا بإذنه ورضاه، وإذا طلب ذلك من الجار لم يجب عليه إجابته، وإن استحب له استحباباً مؤكداً، من جهة ما ورد من التأكيد والحثّ على قضاء حوائج الإخوان ولا سيما الجيران، ولو بنى أو وضع الجذوع بإذنه ورضاه، فإن كان ذلك بعنوان ملزم، كالشرط في ضمن عقد لازم أو بالإجارة أو بالصلح عليه، لم يجز له الرجوع، وأما إذا كان لمجرد الإذن والرخصة جاز له الرجوع قبل البناء والوضع، وأما بعد ذلك فالأقوى أنه لا يجوز له الرجوع إلا إذا كان من الأبنية القابلة للتفكيك بحسب وضعها العمراني، وله أخذ الأجرة منه إذا لم يكن الإذن مبنياً على المجانية، ومع ذلك فلا يترك الاحتياط الاستحبابي بالتصالح والتراضي بينهما ولو بالإبقاء مع الأجرة أو الهدم مع الأرش.

مسألة 22: إذا دخل العقار في ملكية إنسان، وعلى حائط فيه سقف منزل الجار أو جذوع خيمته ولم يُعلم على أي وجه وضعت، حكم في الظاهر بكونه عن حق واستحقاق حتى يثبت خلافه، فليس للجار أن يطالبه برفعها عنه، بل ولا منعه من التجديد لو انهدم السقف، وكذا الحال لو وُجد بناءٌ أو مجرى ماء أو ميزابٌ منصوبٌ لأحد في ملك غيره ولم يُعلم سببه، فإنه يحكم في أمثال ذلك بكونه عن حق واستحقاق إلا أن يثبت كونها عن عدوان أو بعنوان العارية التي يجوز فيها الرجوع.

مسألة 23: إذا خرجت أغصان شجرة إلى فضاء ملك الجار من غير استحقاق فله أن يطالب مالك الشجرة بعطف الأغصان أو قطعها من حدّ ملكه، فإن امتنع صاحبها جاز للجار ـ بإذن الحاكم الشرعي ـ عطفها، فإن لم ينقضِ الأمر بالعطف جاز اللجوء إلى القطع بعد استئذان الحاكم الشرعي.

مسألة 24: لو تنازعا في جدار ولم يكن لأي منهما بيّنة، فإن كان تحت يد أحدهما فهو له بيمينه، وكذا لو اتصل ببناء أحدهما دون الآخر، أو كان له عليه طرحٌ، كسقف غرفة أخرى أو أخشاب خيمة أو نحو ذلك، فإنه يحكم له به مع اليمين، وأما لو كان تحت يد كليهما أو خارجاً عن يدهما، فإن حلفا أو امتنعا عن الحلف حكم به لهما، وإن حلف أحدهما وامتنع الآخر حكم به للحالف.

مسألة 25: لو اختلف مالك العلو ومالك السَّفل في ملكية السقف الفاصل بين الطابقين، فإن لم يكن لأيٍّ منهما بيّنة على دعواه كان ذلك من باب التداعي، فيتحالفان، إلا إذا كانت هناك عادة قطعيّة تقضي باختصاص أحدهما به فيُقدّم قوله بيمينه، وحيث يحق لهما التحالف فإنهما إذا حلفا معاً أو لم يحلفا حكم لهما به، وإن حلف أحدهما دون الآخر حُكِمَ به للحالف.

وإن اختلفا في ملكية جدران السفل كانت البينة على مالك العلو واليمين على مالك السفل إذا لم يكن السقف قائماً عليها، كما في بعض الأبنية الحديثة حيث يتم بناء الجدران بعد الفراغ عن بناء الهيكل الأساسي للبناية، وأما مع قيام السقف عليها فحكمها حكم السقف، أي أنه إذا قدّم أحدهما بينة حكم له به، وإلا لزمهما حلف اليمين، فإن حلفا معاً أو لم يحلفا حكم لهما به، وإن حلف أحدهما دون الآخر حكم به للحالف.

وإن اختلفا في ملكية الدَّرَج فعلى صاحب السفل البينة وعلى صاحب العلو اليمين، وإن اختلفا في المخزن الذي تحت الدرج فالحكم بالعكس، وإن اختلفا على ملكية طريق للطابق العلوي في باحة الدار السفلي، فإن لم يأت أحدهما ببينة على مدّعاه لزمهما حلف اليمين، وذلك كما تقدم في حكم التنازع على ملكية السقف، ومهما كانت نتيجة هذا النزاع، فإن للطابق العلوي حق المرور من باحة الدار السفلي. فإن تنازعا على ملكية تمام باحة الدار، فعلى مالك العلو البينة وعلى مالك السفل اليمين.

ولما كانت أمثال هذه الأمور مما يُرفع إلى القاضي فإن فروعها عديدة وتعز على الحصر، ولكل قضية منها خصوصياتها، ولا سيّما في زماننا هذا الذي تعقدت فيه علاقات الجوار ودخلت فيه عناصر جديدة، مما لا داعي معه لاستيعابها، وفيما ذكرناه منها كفاية لإعطاء فكرة عن الموضوع.

المطلب الثاني ـ في منجزات المريض:

المراد بـ (مُنَجَّزات المريض) ما يصدر عن المريض في مرض الموت من تصرفات في أملاكه من بيعٍ أو هبة أو نحو ذلك مما يكون فيه نقلٌ لجزء من ماله عن ملكه إلى ملك غيره، وارثاً كان ذلك الغير أو أجنبياً، ولما كان مثل هذا التصرف في مرض الموت موجباً لحرمان الوارث من جزء من التركة، فإن الشريعة قد وضعت حداً لتصرفات المريض كي لا يضر تصرفه بالغير، فكان هذا المطلب لبيان ذلك، فنقول:

يجوز للإنسان أن يتصرف في أمواله في حالة مرض الموت بالنحو الذي كان يتصرف فيه في حال مرضه العادي وفي حال صحته إذا لم يترتب على ذلك التصرف نقص في المال، كأن يتاجر بأمواله ويستثمرها بالبيع والشراء والمضاربة والمبادلة والشركة والإقراض والضمان والكفالة وغيرها، وتكون تصرفاته صحيحة ونافذة.

وأما إذا ترتب على ذلك التصرف نقصٌ في المال، كأن باع بأقل من ثمن المثل، أو وهب مجاناً أو بعوض قليل، أو تصدق على وجوه الخير، أو وقف على غير الذرية، أو فعل غير ذلك من التصرفات، فالأظهر صحة تلك التصرفات ونفوذها مطلقاً، وبخاصة إذا كان من شأنه وعادته أن يفعل ذلك خلال صحته وعافيته، ولم يكن من قصده الإضرار بالورثة، شرط أن لا تضرّ بدَيْن عليه بنحو يضيق باقي أمواله عن سداده، وإلا نفذ من تصرفاته ما لا يضر بدينه فحسب وبطل الباقي.

مسألة 26: يُقتصر في المرض المتصل بالموت على ما يكون المريض معه في معرض الخطر والهلاك، فمثل حُمّى يوم خفيف اتفق الموت به على خلاف مجرى العادة لا يمنع من نفوذ تصرف المريض فيما ذكرناه من صور عدم النفوذ؛ وكذا يقتصر في المرض الممتد لفترة طويلة على أواخره القريبة من الموت، فالتصرفات الصادرة منه قبل ذلك صحيحة ونافذة؛ وأيضاً يقتصر على المرض المؤدي إلى الموت، فلو مات لا بسبب ذلك المرض، بل بسبب آخر من قتل أو افتراس أو لدغ حية أو نحو ذلك، لم يمنع من نفوذ تصرفاته التي صدرت منه في مرضه قبيل الحادث الذي تعرض له.

المبحث الرابع ـ في ما يملك من الأعيان:

تعرّضت الشريعة بالبيان لحدود سلطة الإنسان على الأشياء بعد وضع يده عليها، فمعظم الأشياء يصح أن تقع في نطاق الملكية الخاصة للفرد وتكون سلطته عليها تامة، فيصح له التصرف فيها بالبيع والهبة والاستخدام في حاجاته وغير ذلك، وهناك أشياء لا تكون السلطة عليها مطلقة، فمثل الخمر والخنزير وسائر الأعيان النجسة، رغم أحقية من هي تحت يده بها وسلطته عليها ونسبتها له، لا يصح له ـ في الجملة ـ أن ينقلها بالمعاوضة على أعيانها إلى مالك آخر؛ كذلك فإن للأموال العامة وضعاً خاصاً في مدى ملكية الفرد لمنافعها، مضافاً لأمور أخرى نذكرها كما يلي:

أولاً: الخمر، فإن المسلم وإن كان يملك الحق في نفس العين لكنه لا يجوز له المعاوضة عليه بيعاً ولا شراءً، بل ولا يجعل مهراً في الزواج ولا عوضاً في الطلاق الخلعي، ولا غير ذلك مما يدخل في باب المعاوضات، سواء كانت المعاوضة مع المسلم أو الكافر.

وكذلك حكم الخنـزير والميتة إذا كانت المعاوضة مع المسلم، وأما إذا كانت المعاوضة مع من يستحلهما من غير المسلمين فإنه يجوز للمسلم بيعهما له، وإعطاؤهما له مهراً في الزواج، وغير ذلك مما يكون المُسْتَحلُّ فيه هو الآخذ، فلا يجوز العكس، أي أن يشتريهما المسلم ولا أن يأخذهما بغير الشراء من المعاوضات، كالصلح والهبة المعوضة وأجرةً لعملٍ أو لمنفعة عين، ونحو ذلك.

ثانياً: الأعيان النجسة، مثل الكلب والدم والمني وعذرة الإنسان، فإنه إذا لم يكن لها منفعة معروفة يهتم بها الناس ويأخذونها لأجلها لا تجوز المعاوضة عليها، وإلا جازت، وذلك بلا فرق بين المسلم والكافر في ذلك.

وسيأتي معنا في المباحث التفصيلية القادمة أن ما ذكر من الأعيان في الفقرة (أولاً) و(ثانياً) يجوز مطلقاً بذلُ مال في مقابل التنازل عن حق المالك في الاختصاص به ورفع اليد عنه، لا في مقابل العين نفسها.

ثالثاً: الأجرة المأخوذة على العمل المحرم، مثل الغناء والزنا ومعاونة الظالم والقمار ونحوها، لا يملكها العامل ولا يجوز له التصرف بها، بل يجب عليه عند توبته إرجاع المال لمن أخذه منه، إلا أن يسامحه به ويهبه له؛ وسيأتي تفصيل ذلك فيما بعد.

رابعاً: الأملاك العامة، مثل الأراضي المفتوحة عنوةً، ومثل الأوقاف العامة، ومثل الأموال ذات المنفعة العامة، كالطرق والجسور ونحوهما، فإن هذه الأمور وأمثالها لا تدخل في ملكية الفرد بأي ناقلٍ من النواقل إلا في حالات استثنائية، كخراب الوقف، أو زوال عنوان الطريق وصيرورة الأرض مواتاً، ونحو ذلك كما سيأتي بيانه في محله.

المبحث الخامس ـ في ما يحلّ التكسب به وما يحرم:

في إطار هذا المدخل لا بد من التعرض إلى عناية التشريع بالجانب (الأخلاقي) من نشاط الإنسان الاقتصادي، فهو لم يُجز اكتساب المال من كل سبيل، ولم يَغُضَّ النظر عن إمكان غلبة الجشع والحرص على رغبة الإنسان بالتملك والاستزادة من الثروة، بل حثّ على اعتبار المال مجرد وسيلة لتحقيق الحاجة الدنيوية على قاعدة ﯓ  ﯔ  ﯕ   ﯖ  ﯗ  ﯘ [آل عمران: 185 وسورة الحديد: 20] و«الدنيا مزرعة الآخرة»، وذلك لتهذيب النوازع المادية والتسامي بها لتحقيق مرضاة الله تعالى، فلا يحل استخدام الغش والكذب والاحتكار والربا من أجل خداع الآخر وأخذ ماله ظلماً، ولا يحل امتهان واحتراف المحرّمات من أجل تحصيل المال، لما فيه من نشر الفساد وإشاعة الرذيلة في المجتمع من خلال مهن كالبغاء والسحر والغنـاء ونحوهـا، ولا يحـل ـ أيضاً ـ أخذ المال بالسرقة والغيلة، فظهر ـ لأجل ذلك ـ في الفقه الإسلامي اهتمامٌ كبير بالتشريع لعدد من المكاسب تحت عنوان «المكاسب المحرمة» يُبحثُ فيه ما حرّم الإسلام التكسُّب به وجَعْلَه مصدراً للارتزاق والتعيش؛ إن هذا الاهتمام قد أضفى على الاقتصاد الإسلامي سمةً من الأخلاقية والتسامي ميَّزَته عن سائر النظم الاقتصادية وأتاحت فيه المجال لمزيد من العدالة في المجتمع.

وإذا كان في تقييد الإسلام وتحديده للأشياء التي يصح تملكها والتكسب بها بالنحو الذي ذكرناه ما قد يوهم تأثيره السلبي على اندفاعة الحركة الإنتاجية، وخاصةً في عالم اليوم، فإن ذلك التأثير ـ لو سُلم كونه سلبياً ـ ليس أمراً خطيراً ولا يعد أزمة في النظرية الإسلامية الاقتصادية ولا في الواقع الاقتصادي المرتكز عليها، وبخاصة مع وجود بدائل عديدة في النشاط الاقتصادي الإنساني تغني الواقع الإنتاجي وتدفعه إلى الأمام؛ وهذه الأمور وأمثالها سوف نتعرض لها تفصيلياً في باب الإجارة والبيع إن شاء الله تعالى.

المبحث السادس ـ في ما به يثبت الملك:

تثبت ملكية الإنسان على الشيء بأمورٍ عديدة هي على درجة واحدة من حيث إمكان التعويل عليها، وهذه الأمور هي:

1 ـ العلم القطعي الحاصل من معاينة سبب الملكية، كرؤيته يحوز هذا الشيء أو يصطاد هذا الحيوان أو يحيي هذه الأرض الموات أو يشتري هذه الدابة، أو غير ذلك من الأسباب.

2 ـ الشياع المفيد للعلم، والمراد به استفاضة وشيوع كون هذه الدار لزيد بنحو يحصل منه العلم العادي المعتد به عند العقلاء في ترتيب الأثر عليه والاحتجاج به وإن لم يحدث علماً قطيعاً وجدانياً.

3 ـ إقرار ذي اليد بأن ما تحت يده من أرضٍ أو دارٍ أو مالٍ إنما هو لزيد، فيثبت بهذا الإقرار كون المقرِّ به ملكاً لزيد بالمقدار الذي أقرَّ به.

4 ـ البيِّنة، وهي شهادة رجلين عادلين بأنّ هذا المال ملك لزيد، ويكفي شهادة رجل عدل واحد مع يمين المدعي في الشهادة على الأعيان، ويثبت الدين بذلك وبشهادة امرأتين ويمين المدعي، وتفصيل ذلك في باب القضاء.

5 ـ وضع اليد على المال والسيطرة عليه، فإنّ كون «عين» ما عند فلان، كالدابة يركبها والثوب يلبسه، أو كونها تحت سيطرته، كالأرض يغدو عليها ويروح، دليلٌ على أن هذه العين مملوكة له، وهو كافٍ في اعتبارها له وترتيب الآثار عليها ما دام لا يدعيها أحد ولا ينازعه فيها منازع، فإن ادعاها مدعٍ لزمه إثبات ملكيته لها دون خصمه، وذلك بالتقاضي عليها وإثبات الحق فيها بالبينة أو اليمين حسب أصول التقاضي.

وفي هذا الصدد لا تنفع «الوثائق» المكتوبة في إثبات الملكية لأحد الخصمين إلا إذا «أقرّ» أحد الخصمين بما في الوثيقة من تمليكٍ لخصمه، أو ثبت بغير الإقرار من الأمور المثبتة للملكية.

وكذا لا تثبت الملكية بمجرد «ادّعائها» من دون وضع اليد ولو لم ينازعه الغير، نعم تثبت به في حالة ما لو كان مال عندك لغيرك وانحصر المالك في جماعة من الأشخاص معينين، كأبناء زيد مثلاً، فإذا عرضه عليهم وادعاه أحدهم ثبت له إذا لم ينازعه الغير به، وإلا تقاضيا عليه حينئذ؛ هذا وسوف نتعرض لتفاصيل أحكام وضع اليد في مواضعها المناسبة إن شاء الله تعالى.

المبحث السابع ـ في ما به يزول الملك:

قد تعرُضُ أمورٌ على المالك والمملوك توجب خروج العين عن ملك المالك بعد استقرار ملكه لها، ولما كان لمعرفة ذلك دخالة في تكوين الصورة العامة للملكية حسب المفهوم الإسلامي، فإنه لا ينبغي خلوّ هذا المدخل من ذكر بعض موارده، على النحو التالي:

1 ـ الارتداد عن فطرة، والمراد بالفطرة: (حالة انعقاد نطفة الجنين من أب وأم مسلمين، أو من أب مسلم أو أمٍّ مسلمة مع كون الآخر كافراً)، فإذا ولد هذا الجنين وبلغ فظهر منه الكفر بعد بلوغه حكم عليه بالقتل، وينفسخ زواجه فتبين امرأته وتترك معاشرته، وعليها الاعتداد عدة الوفاة قبل أن تتزوج من غيره، وكذا تُنزع أملاكه منه وتُحوَّل إلى ورثته، ولو لم يُقتل، بل حتى لو تاب.

2 ـ محاربة الدولة الإسلامية، فإن كان المحارب كافراً صارت أمواله مستباحة، ويلحقها حكم الغنائم، مضافاً لأحكام أخرى تذكر في باب الجهاد، وإن كان المحارب مسلماً فبغى وخرج على الحاكم العادل فإن ملكيته تُنزع عن خصوص ما حواه معسكر البغاة من المعدات العسكرية وغيرها.

3 ـ موت الأرض بعد إحيائها، فإنها تخرج بالموت عن ملك مالكها وترجع إلى إباحتها العامة الأولى، ولذلك تفصيلٌ يذكر في باب إحياء الأراضي الموات.

4 ـ قتل المورِّث يَحرم القاتل من وراثته، فيُحوَّل نصيبه إلى غيره من الورّاث. وكذا إذا كان الوارث كافراً فإنه ما دام كافراً لا يرث المسلم إلا أن يُسلم قبل قسمة التركة، وهذا المورد وإن لم يكن كسابقيه في زوال الملك بعد استقراره ولكنه شبيهٌ بها من حيث آثاره، إذ إنه قد كان من حقه أن يرث لولا قتلُه للمورث أو لولا عروض الكفر على الوارث.

5 ـ حقّ الحاكم الشرعي في رفع ملكية المالك عن منزله أو أرضه إذا زاحم بقاء هذا الملك أمراً أهمّ منه، كفتح طريقٍ أو إقامة معسكر مثلاً، أو كما في حالات البيع القهري في مثل موارد الاحتكار، ونحو ذلك مما لا يمكن تحقيقه إلا بنزع ملكية الغير عن ماله قهراً إذا لم يرض ببيعه والتنازل عنه اختياراً.

6 ـ إعراض المالك عن ماله، كالثياب والأدوات المنزلية يتخلى عنها ويرميها مالكها، فإنه بالإعراض يخرج عن ملكه، فإذا أخذه آخذ مَلَكهُ.

المبحث الثامن ـ في فضل التكسب وآدابه:

وفيه مطلبان:

المطلب الأول ـ في فضل التكسب:

يعتبر الكدح من أجل تحصيل المعاش من الأعمال الجليلة الممدوحة، فهو ضرورة طبيعية لازمة لقيام الإنسان بحاجاته ونهوض المجتمع بوظيفته في إعمار الأرض وإشاعـة الكـرامـة والعدالـة فيهـا، وهـو ـ كذلـك ـ ضـرورة إنسانيـة شخصية، لما له من دور فاعل في تحريك القابليات الفكرية والنفسية والجسدية للفرد، فيضفي عليه سعادةً اسثنائيةً وصحةً مونقة.

وإذا كان الإسلام دين الفطرة الذي وازن بين حاجات الروح والجسد وبين الدنيا والآخرة، فإنه لا غرو أن يحث الإنسان على العمل والكدح من أجل معاشه، فيعتبره كالجهاد في سبيل الله تعالى في الفضل والثواب، فقد رُوِيَ عن الإمام الكاظم y أنه قال: «مَنْ طلب هذا الرزق من حِلِّه، ليعودَ به على نفسه وعياله، كان كالمجاهد في سبيل الله..»، كذلك فإنه أفضل العبادة، ففي الحديث عن النبي w أنه قال: «العبادة سبعون جزءاً أفضلها طلب الحلال»؛ وهو مضافاً لآثاره الدنيوية له آثار أخروية باهرة، ففي الحديث عن النبي w أنه قال: «من بات كالاً من طلب الحلال بات مغفوراً له».

وفي مقابل ذلك شدد الإسلام النكير على البطالين المتكاسلين عن طلب المعاش، سواء عن زهد في الدنيا أو توهماً منهم بأن الرزق ينزل بدون سعي اتكالاً منهم على جود الله تعالى وكرمه، ففي الحديث أن الإمام الصادق y سأل عن رجل، فقيل له: «إنه جليس بيته يعبد الله ويقوته بعض أخوانه»، فقال y: «والله، للّذي يقوته أشد عبادة منه»، وفي الحديث عنه y قال:«إني لأبغض الرجل فاغراً فاه إلى ربه، فيقول ارزقني، ويترك الطلب»، وفي بعض الأحاديث أن تارك العمل والسعي في رزقه ممن لا يستجاب لهم، وفي بعضها النهي عن ترك طلب الرزق ولو وقت الحرب.

ولا يقف الأمر عند هذا الحـد، فإنـه ـ مضافـاً لكونـه عملاً مستحبـاً ـ له فضل كبير وثواب جزيل، وقد يصير واجباً، بل إنه في أصل النظر وابتدائه من الواجبات الكفائية التي لا بد من قيام الناس به، فإذا تأدى الوجوب ووُجِد ما يكفي الناس من أنواع الحرف الضرورية وسبل العيش المهمة صار الاشتغال مستحباً، ثم حيث يضعف جانب منه وتشتد الحاجة وتدعو الضرورة إليه يصبح واجباً على نحو الكفاية، كما في مهنة الطب أو النجارة أو غيرهما مما يختلف أمره باختلاف المجتمعات والظروف.

كذلك فإن الأمر لا يقف عند حدّ الاقتصار على تحقيق الحاجة، بل إن في الأحاديث حثاً على طلب الغنى وسعة الرزق، وأن ذلك مما يعين على تقوى الله تعالى.

ومن الواضح ـ بحسب طبيعة الأشياء ـ أن جميع الأعمال مهمة وضرورية ـ نسبياً ـ لعامة المجتمعات، وهو ما يظهر ـ أيضاً ـ من النصوص الشريفة؛ وأما ما ورد منها مما فيه مفاضلة بين بعض الأعمال وبعضها الآخر فإنه ليس ناظراً إلى ما هو الأصل في ذلك، بل ربما يكون ناظراً إلى ما هو الأصلح من هذه الأعمال للفرد في مجتمعٍ يعيش الكفاية الاقتصادية، فكان أن لفتت بعض الأحاديث نظر الفرد إلى أن بعض الأعمال أهم من غيرها على مستوى الإنتاج الفردي، مضافاً لما لها من أهمية نسبية على مستوى الحركة الاقتصادية العامة؛ ومن ذلك ما جاء في الأحاديث الشريفة أن التجارة أفضل الأعمال، ففي الحديث عن النبي w أنه قال: «البركة عشرة أجزاء: تسعة أعشارها في التجارة والعُشر الباقي في الجلود (الغنم)»؛ وفي الحديث عن المعلّى بن خنيس قال: «رآني أبو عبد الله y وقد تأخرت عن السوق، فقال: «أغد إلى عزك»؛ وتأكيداً على فضلها فإنه قد ورد الذم لمن تركها، ففي الحديث عن الصادق y أنه قال: «ترك التجارة ينقص العقل». وفي حديث آخر عنه y أنه قال: «لا تدعوا التجارة فتَهونوا، اتجروا بارك الله لكم». كما أنه قد جاء في بعضها الآخر الحثّ على الاهتمام بتربية الماشية والاشتغال بذلك، وهو ما يستلزم أو يتلازم ـ عادةً ـ مع الاهتمام بالأرض وزراعتها، ففي الحديث عن الباقر y أنه قال في جواب من سأله عن الفلاحين: «هم الزارعون كنوز الله في أرضه، وما في الأعمال شيءٌ أحبُّ إلى الله من الزراعة..».

فإذا عطفنا هذا الحديث على ما ورد من أن البركة عشرة أجزاء: تسعة أجزاء في التجارة وعُشر في الجلود، أي الغنم، فإننا قد نستظهر من هذا الاختلاف في النصوص التي أعطت الأفضلية للتجارة ثم عادت فأعطتها للزراعة وتربية الماشية المتلازمتين عادة، أن الأفضلية نسبية، وأن سُبُل التكسب تختلف في أولويتها باختلاف ظروف المجتمعات والأفراد وعناصر التنمية المتوفرة عندهم، خاصةً وأن النموّ الاقتصادي ـ في زماننا ـ قد صار أمراً معقداً تتشابك فيه أمور كثيرة وتتكامل فيما بينها من خلال الثالوث الاقتصادي القائم في الصناعة والتجارة والزراعة، وذلك بنحو لا يمكن معه إهمال واحد منه ولا إعطاؤه الأولوية المطلقة، فهذه الأحاديث الشريفة وأمثالها ترشد إلى ما هو الأفضل إجمالاً، من موقع التوجيه لا من موقع التخطيط الاقتصادي بما هو عمل ميداني متغير في أولوياته بتغير الظروف وبما هو منسجم مع حاجة المجتمع لجميع الأعمال.

أما ما ورد في بعض الأحاديث الشريفة ـ بعد التسليم بصحة السند ـ من كراهة الاشتغال ببعض الحرف، مثل الحياكة والجزارة والحجامة، فإن النظر فيها ليس إلى ذات الحرفة كعمل إنتاجي وكحرفة لها أهميتها في حاجة الإنسان وحركة الاقتصاد، لأنها بهذا المعنى قد تصير واجبة عند الضرورة كسائر الحرف التي يحتاج إليها، بل إنه ربما كان النظر فيها إلى ظرف اجتماعي خاص أوجب دونية الصنعة أو المشتغلين بها، فنهى عنها الشرع نهياً تنزيهياً إرشادياً مرتبطاً بذلك الظرف وجوداً وعدماً، فمثلاً لا يعقل أن يمتنع المسلمون عن «الحياكة» في زماننا هذا بعدما صارت صناعة النسيج عملاً هاماً في حاجة الإنسان وفي حركة الاقتصاد، توهماً منهم أن ذلك هو مراد الإسلام من كراهة الحياكة؛ هذا وإنه قد تكون الغاية من الحكم بالكراهة إلفات نظر المسلم إلى ما في بعض الحرف من سلبيات نفسية أو روحية من أجل أن يتلافاها ويتوقاها، وذلك كما في الجزارة التي قد تورث قساوة القلب.

وفي كل الحالات فإنه ربما كان نظر الشارع المقدس فيما ورد من كراهة لبعض الأعمال، أو فيما ورد من تفضيلٍ لبعضها على البعض الآخر، هو الإرشاد إلى ما هو خيار الفرد في مجتمع لا يعيش الضرورة لمثل هذه الحرف والأعمال إذا انحكم خياره في بعضها لظرف اجتماعي خاص أو آثارٍ نفسية سلبية ناتجة عن تلك الحرفة أو ما شاكل ذلك من أسباب الكراهة أو الأفضلية.

المطلب الثاني ـ في الآداب العامة للتكسب:

قد ورد في الأحاديث الشريفة التعرض لجملة من آداب التكسب التي لا تختص بحرفة معينة، ومن المناسب أن نذكر منها هذه الأمور:

الأول: أن تكون الغاية طاعة الله ومرضاته والفوز في الآخرة، ففي الحديث أنه قال رجل لأبي عبد الله y: «والله إنا لنطلب الدنيا ونحب أن نؤتاها»، فقال: «تحب أن تصنع بها ماذا»، قال: «أعود بها على نفسي وعيالي، وأصلُ بها، وأتصدق بها وأحج وأعتمر»، فقال y: «ليس هذا طلب الدنيا، هذا طلب الآخرة».

الثاني: أن يطلب الإنسان الرزق بالصبر والأناة من وجوه الحلال، ففي الحديث عن النبي w أنه قال في حجة الوداع: «ألا إن الروح الأمين نفث في روعي أنه لا تموت نفس حتى تستكمل رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحملنكم استبطاء شيء من الرزق أن تطلبوه بمعصية الله، فإن الله تبارك وتعالى قسم الأرزاق بين خلقه حلالاً ولم يقسّمها حراماً، فمن اتقى الله وصبر أتاه الله برزقه من حلِّه، ومن هتك حجاب الستر وعجّل فأخذه من غير حلّه قُص به من رزقه الحلال، وحُوسِبَ عليه يوم القيامة».

الثالث: الاقتصاد في طلب الرزق وإيكال الأمر إليه تعالى وعدم التلهف والتحسر على ما فات منه، ففي الحديث عن أمير المؤمنين y أنه قال: «كم من متعب نفسَهُ مقتّر عليه، ومقتصد في الطلب قد ساعدتْه المقادير»، فعلى المرء أن يبذل الجهد العادي المتعارف في مثل عمله وظروفه من دون إفراط ومبالغة في الطلب.

الرابع: عدم مخالطة ومعاملة إلا من نشأ في الخير، فكان كريم السجايا سليم القلب حسن المعشر. ففي الحديث عن الإمام الصادق y أنه قال: «لا تخالطوا ولا تعاملوا إلا من نشأ في الخير».

الخامس: الاغتراب في طلب الرزق، ففي الحديث عن الصادق y أنه قال: «إن الله تعالى ليحب الاغتراب في طلب الرزق»، وكأن المراد به حسن الاغتراب عند جمود الرزق في الوطن وتضيق فرص الطلب، فإنه يستحب له الانتقال عن مكانه ومفارقة وطنه عسى أن يكون أكثر توفيقاً وأوفر حظاً.

السادس: الدعاء طلباً للرزق عند السعي إليه، ففي الحديث عن النبي w أنه قال: «إن الرزق ينزل من السماء إلى الأرض على عدد قطر المطر إلى كل نفس بما قُدِّر لها، ولكن لله فضولٌ، فاسألوا الله من فضله». وعن الإمام الصادق y أنه قال: «إن الله عز وجل جعل أرزاق المؤمنين من حيث لم يحتسبوا، وذلك أن العبد إذا لم يعرف وجه رزقه كثر دعاؤه».


 


 

 

المقصد الأول

في تملّك المباحات الأصليّة

 

الباب الأول: في أحكـام الأراضـي

الباب الثاني: في تملك الثروات الطبيعية

الباب الثالث: في أحكام العمل أو (إجارة النفس)



 

 

تمهيد:

إن هذه الأرض التي نعيش عليها قد سخّرها الله تعالى للإنسان ليستخدمها في حاجاته، فاشتملت في باطنها وسطحها وفضائها على العديد من الثروات والمنافع الضرورية التي توزعت فيها وعليها، من قبيل الماء والحيوان والنبات والمعادن، مضافاً لنفس الأرض اللازمة للسكن والزراعة.

ومن الواضح أنّ هذه الأرض لم تكن مملوكة لأحد من الناس عند ابتداء وجود الإنسان عليها، وليس لأحد أن يدعي ملكيته لها ابتداءً من دون موجب شرعي يجعلها مملوكة له، فكان أن منح الله تعالى أنبياءه سلطة الإشراف على الأرض وإعمارها فاستخلفهم عليها ينظّمون وجود الإنسان في أقطارها، ويقيمون دولة العدل وينشرون كلمة الحق، حتى كانت شريعة الإسلام التي نظمت ملكية الأرض وما حوته من ثروات ومنافع في جملة ما شرعت له من شؤون الإنسان كافة. ويمكن القول ـ بنظرة عامة ـ: إن ملكية الأرض وما عليها يتقاسمها كلّ من الفرد والدولة بنحو من التداخل والتكامل المنسجمين مع دور الدولة الحاسم في تنظيم انتفاع الأفراد من هذه الثروات وحاجة الدولة إلى أملاك خاصة بها توظفها في الشأن العام وبناء المجتمع، رغم أن معظم الأحكام الشرعية المتعلقة بذلك تخاطب الأفراد وتشرع لهم بوصفهم الذين يمارسون عملية الانتفاع من تلك الثروات في كل لحظة وعلى صعد شتى، سواء كانت «الدولة» موجودة وتمارس سلطانها، أو كانت غير موجودة إطلاقاً.

وفي هذا الإطار، فإن الشريعة قد سلطت الإنسان ابتداء على ما اصطلح عليه بـ (المباحات)، وهي الأشياء التي يحتاجها جميع الناس ويطلبونها دائماً، مثل الماء والنبات والحيوانات السارحة في البرية، وذلك لغرض الغذاء واللباس والاستدفاء والرعي وغيرها من الأغراض الهامة، مضافاً إلى حاجته لنفس الأرض للسكن فيها والاحتماء بها من عوادي الطبيعة؛ فجعلها الإسلام مباحة لجميع الناس بدرجة واحدة يأخذ منها كل فرد ما يقدر عليه لاستخدامه في حاجاته، وكان (وضع اليد) بـ (حيازة) وأخذ والتقاط المنقولات، من قبيل جمع الحطب وقطف الثمر وصيد الحيوان وأخذ الماء من النبع أو النهر بدلوٍ أو ساقية، أو بالسيطرة ووضع اليد على مساحة من الأرض و(إحيائها) بالبناء والزراعة، السبب الأساس والأوّل في ملكية المكلف لما حازه أو أحياه واستفراده به، فلا ينازعه فيه غيره ويباح له استخدامه أو نقله عن ملكه إلى غيره.

وهنا نلاحظ أن كلاً من الحيازة والإحياء لا يتحققان إلا عند بذل الجهد والعمل الجاد والمضني ـ أحيانـاً ـ، وهذا (العمل) هو القيمة الأساس التي ساهمت في نشوء الملكية واستحقاق (العامل) لها؛ وهو الجهد الذي قد يبذل لمصلحة الفرد العامل نفسه، وقد يبذل لمصلحة غير العامل، تطوعاً أو بأجرة.

في هذا المقصد نبحث تفاصيل هذه الأفكار في ثلاثة أبواب:

الباب الأول: في الأرض وإحيائها. والباب الثاني: في تملّك الثروات الطبيعية المتواجدة فيها وعليها. والباب الثالث: عن أحكام العمل والعامل بوصفه الأصل في حصول التملك في أسبابه الأولى هذه.


 

 

الباب الأول

في أحكام الأراضي

 

الفصل الأول: في الأرض الموات وإحيائها

الفصل الثاني: في الأرض العامرة

خاتمة: في أحكام الطرق والمرافق العامة


 


 

 

تمهيد:

يختلف نوع ملكية الأرض ما بين الملكية الخاصة والملكية العامة باختلاف الأسباب والطوارىء الحادثة عليها بوصفها عقاراً محدداً أو قطراً من الأقطار، فنفس (الأرض) كعقار محدد إنما يملكه الأفراد ببذل الجهد فيه وإحيائه بالزراعة والإصلاح، ثم يتداولونه بالبيع والهبة وغيرهما من المعاملات، ثم إذا ساد الإسلام بلداً ما طواعيةً أو بالصلح أو بالفتح فإن أراضي ذلك البلد يختلف أمرها باختلاف سبب السيادة، وأكثر ما يتداول في هذا الباب مصطلحان توصف بهما الأرض، أما أولهما فهو: (الأرض الموات)، ويراد بها: (الأرض المهملة التي لا زرع فيها ولا بناء ولا حيطان ولا تنقية من الأشواك والأحجار ولا فلاحة)، ولهذه الأرض أنواعها وأحكامها، بل إنها هي الأهم لأنها الأصل الذي تدور عليه معظم الأحكام ويكثر التعاطي بها على مر الأزمان والأجيال للأفراد والدولة، أما ثاني المصطلحين فهو: (الأرض العامرة)، ويراد بها ما هو ضد الأرض الموات، ولها أنواعها التي سنبيّنها.

في هذا الباب سوف نستعرض هذه الأحكام في فصلين، فالأول منهما نبحث فيه أنواع الأراضي الموات ونوع الملكية الواقعة عليها وأحكامها الخاصة بها. والثاني نبحث فيه الأراضي العامرة ونوع ملكيتها وأحكامها الخاصة.



 

 

الفصل الأول

في الأرض الموات وإحيائها

 

المبحث الأول: في أصناف الموات وسبب ملكيتها

المبحث الثاني: في الإحياء وأحكامه

 


 


 

 

المبحث الأول ـ في أصناف الموات وسبب ملكيتها:

كنا قد أشرنا آنفاً إلى أن الأرض الموات هي الأرض المتروكة التي لا ينتفع بها انتفاعاً معتداً به، ولو بسبب انقطاع الماء عنها أو استيلاء المياه أو الرمال أو الأحجار أو الملح عليها، سواء ما خلا منها من النفع البتة، أو ما كان له نفع قليل غير معتد به، كالأرض التي ينبت فيها الحشيش فتكون مرعى للدواب والأنعام.

وفيما يلي نستعرض أصناف هذه الأرض وما يناسب تلك الأصناف في مسائل:

مسألة 27: يدخل في ما يعنينا في هذا المبحث من عنوان (الموات) الأراضي التالية:

1 ـ الأرض التي لم تَعرُض عليها الحياة والعمران على مدى تاريخها، أو التي لا نعلم بعروض الحياة عليها على مدى تاريخها المعلوم، وذلك كأكثر البراري والصحاري والجبال في شتى الأقطار الإسلامية، وهي التي يقال لها: «الموات بالأصل»، سواء ما كان منها في بلاد مفتوحة عنوة أو لم تكن كذلك.

2 ـ ما كان عامراً بنفسه حين فتح المسلمون ذلك البلد، وهي الغابات التي تكثر فيها الأشجار، ثم زالت منها تلك الأشجار بعوامل مختلفة فصارت مواتاً.

3 ـ ما كان موطناً معموراً لأمم وشعوب سابقة، فباد أهله، أو هاجروا عنه، فصار يعد بسبب تقادم السنين ومرور الأزمنة مالاً بلا مالك، كالأراضي الدارسة المتروكة، والقرى والمدن الخربة، والقنوات الطامسة، مما كان لتلك الأمم السابقة الذين لم يبق منهم أحد، وهذا القسم يشمل حالة ما لو كان ذلك الشعب موجوداً في أرض كان قد أسلم عليها ثم انقرض بعد ذلك خلال العهود الإسلامية، وحالة ما لو كان ذلك الشعب منقرضاً قبل الإسلام ثم فتحت تلك البلاد ودخلت في سلطان الإسلام عندما كانت أراضي تلك القرى البائدة مواتاً لا حياة فيها.

أما ما كان عامراً حين الفتح فطرأ عليه الموت بعد ذلك، أو كان موقوفاً فخرب ومات ولم يُعلم كيفية وقفه ولا على من هو موقوف، فالأرض فيهما وإن كانت مواتاً، غير أن بحثهما سيكون في موضع آخر أنسب بهما. (أنظر في ذلك المسألة 45، فقرة «ثالثاً». وفي الموقوف أنظر المسألة 568).

مسألة 28: هذه الأصناف الثلاثة من الأرض الموات معدودة من (الأنفـال)، وكنـا قـد أشرنـا آنفـاً إلى أن الشريعـة قـد جعلـت الأنفـال ملكـاً لـ (الإمام) y، أي للدولة العادلة؛ وهو نوع من الملكية لا يتنافى مع كونه مباحاً لكل إنسان تحقق منه القيام بما يعرَف بـ (الإحياء)، أي ببذل جهد فيه من أجل إعماره بالسكن أو الزراعة أو المياه أو نحوها من مظاهر العمران العائدة بالنفع على الفرد والدولة والأمة عامة، وذلك دون ضرورة لمراجعة الحاكم واستئذانه في الإحياء، إلا أن يطلبه الحاكم من باب الولاية؛ ومثل هذا التسهيل يهدف إلى تشجيع الفرد على إحياء الموات واكتفاء الدولة بذلك الجهد المبذول من قبله تعويضاً منه للدولة عن تنازلها عن تلك الملكية لصالحه، ولكن استمرار هذه الملكية مرهونٌ باستمرار ضخّ الحياة فيها، فإن عادت مواتاً زالت ملكيته عنها وعادت إلى ملكية الدولة كما سيأتي.

مسألة 29: يحق للدولة أن تمنع أفراداً معينين من أحياء كل أرضٍ أو أرضاً معينة، وكذا يحق لها أن تمنع جميع الناس من إحياء منطقة محددة، بل إن الشريعة قد منعت أساساً من إحياء مناطق معينة، مثل حريم الأنهار والقرى كما سيأتي بيانه.

مسألة 30: إذا نُسبت الأرض الموات إلى قبيلة أو عائلة أو قرية لمجاورتها لموضع سكنهم دون أن يقوموا بإحيائها لم يكن لهذه المجاورة أثر في جعلهم أحق بها من غيرهم، ولم يجز لهم منع غيرهم من إحيائها، وإذا قسّموها فيما بينهم لم يكن لهذه القسمة أهمية ولا حرمة ما لم يشرع من سُمّيت له تلك الأرض بإحيائها؛ هذا إذا لم تكن حريماً لهم يحتاجونه لرعي مواشيهم وطرح نفاياتهم، وإلا صاروا أولى بها كما سيأتي بيانه.

المبحث الثاني ـ في الإحياء وأحكامه:

مسألة 31: الإحياء هو: (إنجاز عمل عمراني في الأرض الميتة تتحول بسببه عن حالة الموت إلى حالة العمران)، لذا فإنه لا يتحقق الإحياء ولا تترتب عليه آثاره بمجرد المباشرة بالعمل، بل لا بد من وصول العمل إلى درجة يصدق عليه فيها أنه منزل أو بستان أو حظيرة أو بئر، أو غير ذلك من عناوين ومظاهر العمران؛ نعم إن مجرد المباشرة يعتبر «تحجيراً» يثبت به للمُحجِّر حق الأولوية، وسيأتي بيان ذلك.

ولا يشترط لتحقق الملكية به أن يقصد التملك بهذا الإحياء، بل يكفي قصد إحياء هذه الأرض بهذا العمل الذي أنجزه ولو لم يلتفت إلى رغبته الدفينة بالتملك من خلاله، فلو لم يقصد الإحياء، بل كان عابثاً ولاهياً، أو كان يُعلِّم غيره كيف يبني بيتاً أو حظيرة، لم يتحقق به الإحياء ولم يملك الأرض إذا بدا له بعد ذلك التمسك بهذه الأرض وبما أنشأه عليها.

مسألة 32: أشرنا في المسألة السابقة إلى أنّ عملية الإحياء تشتمل على ما يكون «إحياءً» فعلاً، وعلى ما يكون من نوع المقدمة له وهو «التحجير». وهذا يعني أن الراغب في الإحياء قد يقوم بالإحياء دفعة واحدة وفي وقت واحد، كأن يستقدم بيتاً جاهزاً ويثبته في الأرض قاصداً إحياءها، فتحيا بذلك وتصبح ملكاً له، وقد يقوم بالإحياء على دفعات، فيضع علاماتٍ لحدودها، ثم يهيىء مواد البناء، ثم يبنيه تدريجاً في أشهر أو سنوات، وكل عمل من هذه الأعمال بمجرده يُعدّ تحجيراً وحبساً للأرض على نفسه، فلا يحق لغيره مزاحمته فيها ولا أخذها منه حتى يحقق غايته فيها ضمن الاعتبار الشرعي. ويكفي في تحقق التحجير كل ما دل على إرادة الإحياء من الأعمال المتجسدة في مظهر مادي، وذلك مثل تسويرها بشريط ونحوه، أو وضع حديد أو أحجار على جوانبها أو على زواياها الأربعة، أو حفر ركائز فيها، أو تمهيد أرضها وتنقيتها من الصخور، أو غير ذلك من الأمور التي يَفهم منها الناظر إليها أن هذه الأرض مُحجَّرة ومرغوبة من قِبَل من يريد إحياءها.

مسألة 33: يتحقق التحجير ويؤثر أثره إذا تمّ وفقاً لما يلي:

أولاً: أن يقصد الإحياء ويريده، فلو وضع تلك العلامات عبثاً ولهواً لم تفد التحجير.

ثانياً: أن تكون العلامات على حالة تدل على إرادة التحجير وعلى المقدار الذي يرغب في تحجيره، فإذا وضع علامة غير حاسمة، أو لا تدل على مقدار الأرض المحجرة، لم يثبت للمحجر حق فيها، وجاز لغيره إحياء ذلك القسم الذي لم تظهر إرادته في تحجيره، وهذه الأمور ليس لها قاعدة يمكن حصرها فيها سوى نظر العرف الذي يختلف بين زمان وزمان وبين حالة وحالة.

وفي هذا الصدد يمكن القول: إن القناة الدارسة الخربة التي لها عدة أجزاء، إذا أحيا الراغب فيها جزءاً منها عُدّ ذلك تحجيراً لجميع القناة، بل ولجميع الأراضي التي كانت تُسقى منها؛ وكذا حفر البئر في الأرض الموات بهدف توزيع مائه عبر قنوات إلى مساحة من الأرض، فإن مجرد حفر البئر يعد تحجيراً للجزء الذي سوف تمر به القناة وللأراضي التي سيصل ماؤها إليها بعد تمامها.

ثالثاً: إنما تثبت الأولوية بالتحجير إذا كان المحجِّر قادراً على القيام بعمارتها وإحيائها، فلو لم يكن قادراً من الأول، أو كان قادراً فطرأ العجز لمرض أو فقر أو غيرهما لم يثبت له حق، وجاز لغيره إحياؤها؛ ومن ذلك ما لو حجر مقداراً يزيد عن قدرته، فإنه لا أثر لتحجيره في المقدار الزائد.

رابعاً: يجب على المحجِّر أن يشتغل بالإحياء وينجزه عقيب التحجير بفترة معقولة بنحو لا يصدق على التأخير فيها أنه إهمال وتعطيل، فإذا أهمل الإحياء وعطله وطالت المدة ورغب غيره في إحيائها لم يكن لغيره أن يحييها إلا بعد رفع الأمر إلى الحاكم الشرعي أو وكيله، وللحاكم ـ حينئذ ـ أن يحثه على الإحياء أو يرفع يده عن الأرض، فإن أبدى عذراً أمهله الحاكم حتى يزول عذره ويشتغل بالعمارة، فإن زال ولم يشتغل نزعها منه وبطل حقه فيها وجاز لغيره إحياؤها حينذاك؛ وإذا لم يكن الحاكم أو وكيله موجوداً، أو كان ولكنه غير مبسوط اليد ليُلزمه بذلك، فالظاهر سقوط حق المحجر إذا أهمل بمقدار يعد عرفاً تعطيلاً له، والأحوط الأولى مراعاة حقِّه إلى ثلاث سنين.

مسألة 34: لا يشترط في التحجير أو الإحياء قيام المكلف نفسه به وتحققه من قبله مباشرة، بل يجوز له أن يوكل أو يستأجر من يحجر له مكاناً، ويكون الحق الناتج عن عملهما لصاحب العمل الذي هو الموكِّل والمُستأجر لا للوكيل والأجير؛ بل لو أن شخصاً حجر أو أحيا لشخص أرضاً نيابة عنه دون أن يكون مكلفاً بذلك من قبله، فإنه يثبت للمنوب عنه حقّ الأولوية في تلك الأرض إذا أجاز فعل النائب ورضي به.

مسألة 35: قلنا: «إن التحجير يفيد (حق الأولوية) في إحياء الأرض»، ويترتب على ذلك قابلية هـذا الحـق للنقـل الاختيـاري بالبيـع ـ ثمنـاً ومثمنـاً ـ وبالصلح والهبة ونحوهما، وكذا قبوله للانتقال القهري بمثل الميراث أيضاً، مثله في ذلك كمثل سائر الحقوق الأخرى، كحق الاختصاص وحق الفسخ والخيار وغيرها.

نعم في صورة ما لو حجَّر العاجز عن الإحياء لا يصحّ له أن ينقل ذلك إلى غيره ويرفع يده عنه لصالحه، لأننا قلنا: «إن تحجير العاجز لا يعطيه حقاً في الأرض كي ينقله إلى غيره».

مسألة 36: إذا انمحت معالم التحجير التي وضعها الراغب في الإحياء بعد مرور فترة على وضعها، فإن كان ذلك عن إهمال منه في تثبيتها ومراقبتها وتعهدها بنحو يكشف عن عدم اهتمامه بحفظ حقه فيها بطل حقه فيها وجاز لغيره إحياؤها، وإن كان ذلك لطارىء، كالريح العاصفة أو السيل القوي أو عبث العابثين، لم يبطل حقه فيها إذا بادر إلى وضع علامات غيرها ولم يتهاون في ذلك بعد علمه به، وإلا بطل حقه حينئذ.


 

 

الفصل الثاني

في الأرض العامرة

 

المبحث الأول: في أصناف العامرة وحكم كل صنف

المبحث الثاني: في حكم العامر إذا مات



 

 

تمهيد:

يراد (بالعامرة): (كل أرض ظهرت فيها معالم الحياة والعمران، من سكنٍ ومياهٍ وزرعٍ وحظائر للماشية والدواجن ونحو ذلك)؛ وقد انطلق الإسلام في تصنيف هذه الأراضي من كيفية دخول الإسلام إليها وسيطرته عليها، بل إن لحاظ عنوان (العامر) فيها مرهونٌ بهذه المسألة، فكونها عامرة أو غير عامرة إنما هو في لحظة الفتح، أما ما يصير من الأراضي الموات عامراً بعد الفتح فقد تقدم حكمه في الفصل السابق؛ وعلى هذا الأساس فإن الأرض العامرة حين الفتح على أصناف: الأول: ما دخل الإسلام إليها بالحرب والقوة. والثاني: ما دخل الإسلام إليها صلحاً. الثالث: ما أسلم أهلها عليها طوعاً. وثمة صنف لا علاقة له بالفتح هو: الأرض العامرة بالذات، وهي مثل الغابات وضفاف الأنهار التي تعمر بالمياه والخضرة والأشجار، وبه تصير الأصناف أربعة، ولكل صنف منها حكمه الخاص، وهو ما سوف نوضحه في المبحث الأول، أمّا المبحث الثاني فإننا سوف نستعرض فيه حكم العامر إذا عرض عليه الموت.

المبحث الأول ـ في أصناف العامرة وحكم كل صنف:

أصناف الأرض العامرة أربعة، وهي كما يلي:

الأول: الأرض العامرة بالذات حين الفتح. ويراد بها: (الأرض التي تشتمل على شيء من مظاهر العمران، بنحوٍ لا يحتاج المستفيد منها إلى بذل جهد في إحيائها)، وأهمها الغابات التي تعمر بالأشجار، ثم الأراضي الغنية بالمياه والخضرة من أنواع الحشائش إذا خلت من الأشجار، دون الأراضي المخضـرة بطبيعتهـا مـن الجبــال والسهـول إذا خلـت مـن الميـاه، فإنهـا ـ كما تقـدم ـ معتبرة من الأرض الموات.

مسألة 37: الأرض العامرة بالذات معدودة من الأنفال التي تملكها الدولة، ولكن ملكيتها لها لا تمنع كل راغب فيها من حيازتها من دون استئذان الحاكم ولا دفع شيء في مقابلها، ويملكها الآخذ بحيازتها ووضع يده عليها، مسلماً كان أو غير مسلم، ومثلما قلنا في الموات نقول هنا أيضاً: «إن للدولة الحق في أن تنظم استملاك هذه الأراضي، فتمنع بعض الناس من الاستملاك مطلقاً أو في منطقة معينة، أو تمنع جميع الناس من الاستملاك في مناطق معينة، وقد تفرض ـ من أجل ذلك ـ استئذانها، كما يحق لها أن تفرض ثمناً معيناً في قبالها».

ويكون الفرق بين الأرض الموات وبين هذه هو: أن الأرض الموات لا تملك إلا بالإحياء بالنحو الذي تقدم، أما هذه فإنها محياة بطبيعتها فتملك بمجرد الحيازة ووضع اليد من دون بذل جهد استثنائي.

الثاني: الأرض التي فتحها المسلمون حرباً وعنوة وأخضعوا أهلها لسلطان الإسلام. وهي معظم بلاد فارس والهند والعراق وتركيا وسوريا ولبنان وفلسطين والأردن وشيء من جمهوريات آسيا الوسطى، كآذربيجان وتركستان وغيرهما. والمعوَّلُ في ذلك على ما ثبت من التاريخ فتحه من قبل المسلمين، فإن لم يُعلم حال بلد ما من هذه الجهة لم يعامل معاملة المفتوح عنوة كما سيأتي، وبخاصة وأن بعض المدن في قطر واحد قد يستسلم بالصلح وبعضها الآخر قد يدخل في الإسلام طواعية وبعضها الثالث قد يفتح بالسيف والغلبة.

مسألة 38: تعتبر الأراضي العامرة حين فتح المسلمين لها بالقوة ملكاً عاماً مباحاً للمسلمين كافة، فلا يختص واحد منهم بتملك رقبة الأرض، بل غاية ما يثبت له جواز الانتفاع بها في الزراعة والسكن وأنواع الفوائد بمجرد وضع يده عليها، ويصبح أولى بها من غيره، وعليه أجرتها للسلطان مقابل ذلك الانتفاع، وهي التي اصطلح على تسميتها بـ (الخراج)، والذي بسببه أطلق على هذه الأرض وصف (الخراجية) تمييزاً لها عن غيرها من الأراضي.

مسألة 39: لا يخفى صعوبة تمييز كون هذه الأرض في هذه القرية عامرة حين الفتح أو غير عامرة، ومن أجل تذليل هذه الصعوبة وضبط الأمر وإحصاء الأراضي العامرة فإن المصادر التاريخية قد اعتنت بذلك وأخبرتنا عن عمران العديد من المناطق حين افتتحها المسلمون، وصنّفوا بعض الكتب الخاصة في الأراضي الخراجية وأحكامها لأهمية الأمر للدولة الإسلامية والمسلمين؛ وعليه فإن علم كونها عامرة حينذاك جرى عليها ما سبق، وإلا كانت ملكاً لمن هي في يده كسائر الأملاك.

مسألة 40: لا يصحّ أن يبادر المسلم إلى وضع يده على هذه الأراضي متى شاء وكيف شاء، بل يجب عليه استئذان الحاكم الشرعي المبسوط اليد فعلاً، نظراً لما فيه من فائدة خضوع توزيع هذه الأراضي لنظر الحاكم وتخطيطه، فإن لم يكن مبسوط اليد ولا مهيمناً على الحكم سقط وجوب الاستئذان.

مسألة 41: يستمرّ حقّ الأولوية بالأرض الخراجية لمن هي تحت يده ما دام قائماً بعمارتها مؤدياً لخراجها، ويصح له نقل الحق عنه بالبيع والصلح ونحوهما، فإن أهمل عمارتها حتى صارت مواتاً سقط حقه فيها وعادت مواتاً يملكها من يحييها ويقوم بعمارتها، كما سيأتي؛ أما إذا لم يؤدِّ خراجها فإن كان الحاكم الشرعي في زمان الغيبة مبسوط اليد ألزمه بذلك، وإن لم يكن مبسوط اليد أو لا يقدر على الوصول إليه يسقط عنه.

مسألة 42: مثلما يصح نقل حق الأولوية بالأرض الخراجية بالبيع ونحوه في حال الحياة، فإنّه ينتقل بعد الموت إلى ورثته، ولكن الأرض نفسها توزع على جميع الورثة بالتساوي بمن فيهم الزوجة، وما عليها من شجرٍ ومنشآت يوزع بالتفاضل على حسب أحكام الميراث.

مسألة 43: لا يبيع الإمام هذه الأرض ولا يهبها لأحد من المسلمين إلا في حالات نادرة، فإن ولايته عليها تتوقف عند حدود الإشراف عليها في إطار ما هو مصلحة للمسلمين الذين يملكونها ملكيةً عامةً، وهي بذلك تختلف عما كان من (الأنفال) وكان يملكه الإمام بصفته رئيس الدولة، فإن له أن يهبه أو يبيعه أو يوقفه بالنحو الذي يراه مناسباً، وهو الذي عبّرنا عنه أحياناً بأنه (ملك الدولة).

مسألة 44: من أجل الاستمرار في اعتبار هذه الأرض خراجية لا بد من العلم باستمرار بقائها عامرة من حين الفتح، فلو شككنا في كون هذه الأرض قد ظلت كذلك، واحتملنا عروض ما أخرجها عن ملكية عامة المسلمين لها بمثل الإحياء ودخولها في الملكية الخاصة لهذا المالك الواضع يده عليها، فإننا نقدم قاعدة اليد ونعتبرها ملك ذي اليد لا أرضاً خراجية.

الثالث: أرض الصلح، وهي: (الأرض التي استسلم أهلها لإرادة المسلمين وأوقفوا الحرب وصالحوا المسلمين ودخلوا في سلطانهم طائعين من دون أن يدخلوا في الإسلام)؛ وحكم العامر من هذه الأرض يرجع إلى ما اتفق عليه في بنود الصلح، فما يتفق على جعله أرضاً لعامة المسلمين يأخذ حكم الأرض المفتوحة عنوة، وما يتفق على إعطائه للدولة يصير لها ويأخذ حكم الأنفال، وما يتفق على بقائه في أيدي أصحابه يبقى على ملكهم مع وضع الخراج عليهم حسبما تقتضيه المصلحة.

الرابع: الأرض التي أسلم أهلها عليها؛ وحكم العامر منها أنه يبقى على ملك أصحابه كسائر أملاكهم، وليس عليهم شيء سوى الزكاة ما داموا قد دخلوا طوعاً في الإسلام.

المبحث الثاني ـ في حكم العامر إذا مات:

مسألة 45: إذا طرأ الموت على الأرض بعدما كانت عامرة، اختلف حكمها باختلاف الصنف الذي ترجع إليه، وذلك على النحو التالي:

أولاً: إذا كانت الأرض من الموات الذي تمّ تملكه بالإحياء فعرض عليه الموت بعدما صار عامراً، أو كانت من الأراضي العامرة بالذات فعرض عليها الموت، فتم إحياؤها ثم ماتت، وكان لها في الحالتين مالكٌ معلوم، فهنا حالات:

أ ـ أن يكون موتها قد نتج عن إعراض المالك وعزوفه عنها وتركه لها، فيجوز ـ حينئذ ـ إحياؤها لكل راغب فيها.

ب ـ أن يكون موتها بقصد إبقائها على هذا النحو من أجل الانتفاع بها مرعى للدواب أو للاستفادة من نباتها البري، كالقصب ونحوه، وحكمه أنه يبقى على ملكه ولا ينازعه فيه غيره.

ج ـ أن يكون موتها لعدم توفر الإمكانات المالية أو الظروف المناسبة للقيام بإحيائها بالنحو اللازم، وهنا ـ أيضاً ـ تبقى على ملكه دون منازع.

د ـ أن يكون موتها من جهة إهماله وإصراره على عدم الإحياء؛ وحكمه أنه إن كان قد ملكها بالحيازة والإحياء سقط حقه فيها وزال ملكه عنها وجاز لكل أحد إحياؤها، ولكن الأحوط وجوباً إرجاعها إلى مالكها الأول إذا رغب فيها وطلبها بعد ذلك؛ وأما إذا كان قد ملكها بالشراء أو الميراث فالأحوط وجوباً إبقاؤها على ملك مالكها وعدم إحيائها من قبل الغير وترك التصرف فيها بدون إذنه، فإن أحياها غيره فزرعها لزمته أجرة الأرض لمالكها على الأحوط وجوباً.

ثانياً: نفس الحالة الأولى، ولكنها تختلف عنها بأنها لمالك مجهول، وحكمها أنها إذا علم إعراضه عنها رجعت إلى إباحتها الأولى وجاز لكل أحد إحياؤها، وإلا وجب الفحص عن صاحبها على الأحوط وجوباً، فإن يئس من معرفته وجب عليه الرجوع إلى الحاكم الشرعي في كيفية التصرف بهذا المال المجهول مالكه، وحينئذ فإن للحاكم الشرعي أن يبيعها لمن يرغب في شرائها ويصرف ثمنها على الفقراء، وله أن يؤجرها ويتصدق بأجرتها، أو يفعل بها غير ذلك من التصرفات التي يراها مناسبة.

ثالثاً: إذا كانت ملكاً للمسلمين عموماً، إما لكونها من الأراضي العامرة حين الفتح عنوةً أو كانت مما أعطي للمسلمين بالصلح، وكان من له حق الانتفاع بها معلوماً أو مجهولاً، فإنها إذا ماتت عادت إلى إباحتها الأولى، وخرجت بذلك عن كونها ملكاً لعموم المسلمين، فيملكها ـ حينئذ ـ من يحييها من دون ضرورة لاستئذان ولي المسلمين.


 

خاتمة

في أحكام الطرق والمرافق العامة

 

المبحث الأول: في أحكام الطرق

المبحث الثاني: في حكم الانتفاع بالمرافق العامة



 

 

تمهيد:

تعتبر «الطريق» منذ القدم ركيزةً أساسية في مدنية الإنسان وعاملاً مهماً في ازدهار حركته العمرانية والاقتصادية، بل وفي سائر شؤونه، وقد اعتنى الفقه الإسلامي بالتشريع لهذا الجانب ولما يتبعه ويتعلق به أو يتشابه معه في كونه ـ حسب المصطلح الفقهي ـ من (المشتركات) التي يحق الانتفاع بها لجميع الناس أو لقسم خاص منهم، على حدٍّ سواء، مثل المرافق العامة، والمساجد والمباني الحكومية ونحوها؛ غير أن مثل هذه الأمور لما كانت خاضعة في كثير من شؤونها وتفاصيلها لتطور الزمان وتغير حاجة الإنسان، فإن ما دوّنه الفقه الإسلامي من مسائلها قد لحظ في مصاديقه وتطبيقاته نمط العمارة القديمة وحاجة المجتمع الزراعي الذي كان يستخدم الدواب في التنقل ويعتمد عليها، لذا فإننا سوف ندوّن ما أثر في هذا الفقه من زاوية كونه أصلاً مجرداً ملحوظاً بالمطلق، بغضّ النظر عن ملابسات ظروف كل عصر وحاجاته، فيما نؤكد منذ الآن أن الدور الأساس في شؤون الطرق والمرافق العامة سيكون للحاكم الشرعي وقوانينه التي سيضعها لتخطيط المدن وحركة التنقل فيها، ولكيفية الاستفادة من المرافق العامة والانتفاع بها، بحسب حاجة كل زمان يكون فيه الحاكم مبسوط اليد.

ثم إنه لما كانت موضوعات هذا الباب مختلفة في طبيعة الانتفاع بها وفي أحكامها، فإن ذلك قد استدعى استيفاء ما يتعلق بها في أكثر من مبحث، وذلك على النحو التالي:

المبحث الأول ـ في أحكام الطرق:

تنقسم الطريق ـ فقهياً ـ إلى قسمين: الأول: الطريق النافذ، وهو الشارع العام المفتوح، مهما كان عرضه؛ الثاني: الطريق غير النافذ، وهو الطريق المسدود الذي لا يخرج آخره إلى شارع آخر أو فضاء مباح، والمصطلح عليه بـ «الدُّريبة»، وتفصيل أحكامهما في هذين العنوانين:

الأول ـ الطريق النافذ:

وفيه مسائل:

مسألة 46: يتحقق الطريق النافذ أو الشارع العام بأمور:

1 ـ بكثرة المرور عليه واستخـدامه في عبور الأفراد والسيارات والمواشي وغيرها في الأرض الموات، سواء تلك التي في البرية أو تلك التي في داخل المدن والقرى وأطرافهما مما لم يقصد ساكنو تلك المنطقة جعله طريقاً.

2 ـ بقيام شخصٍ أو جهةٍ بتخطيط طريق في الأرض الموات وتعبيده وجعله طريقاً لسلوك عامة الناس.

3 ـ بإحياء جماعة من الناس أرضاً مواتاً وجعلها بساتين أو مساكن، أوهما معاً، وتركهم طريقاً نافذاً بين الدور والبساتين.

4 ـ بجعل الإنسان ملكه شارعاً وتسبيله تسبيلاً دائماً لسلوك عامة الناس، فإنه يصير طريقاً قهراً دون أن يكون للمالك المسبِل حق الرجوع.

مسألة 47: إذا كان استحداث طريق ضرورياً لمصالح الناس، واقتضى ذلك تملك أراضي الغير أو اقتضى مروره بين الدور هَدَمَ بعضها، فإذا رضي أصحاب الأراضي والدور بذلك مجاناً أو بعوض فلا إشكال، وإن لم يرضوا بذلك جاز للحاكم الشرعي إجبارهم على الإخلاء بعوض، ولم يعتبر ذلك غصباً، فيجوز العبور فيه والصلاة على جانبه والانتفاع به بشتى الانتفاعات، وكذا حكم ما لو كان المستحدث للطريق غير الحاكم الشرعي من حكام الجور، فإنـه يحكـم ـ أيضـاً ـ بجـواز مثـل هـذه التصرفـات بذلك الطريـق، ولا سيّما إذا عوّض على أصحاب تلك الأملاك، ويكون حكمه من هذه الجهة كحكم المال الذي أعرض عنه أصحابه.

مسألة 48: لا شك أنّه يستحسن ـ عند اتخاذ الطريق ـ جعل حريم له من جانب واحد أو من الجانبين ليكون ممراً للمشاة، ومجالاً لتوسعة الطريق عند الحاجة، ولأغراض أخرى غير ذلك، ولكنه ـ رغم أهميتـه ـ غير واجب، دون فرق في ذلك بين ما إذا كان الشارع حين اتخاذه في الأرض الموات واقعاً بين أملاك سابقة عليه، كأن كانت قطعة الأرض الموات واقعة بين الدور والبساتين واحتاجها الناس واستطرقوها وصاروا يعبرونها، فإنها إذا كانت على عرض معين لم يجب على أصحاب الأراضي التي على جانبيها أن يوسعوا في عرضها حتى لو تضيقت على المارة؛ وبين ما إذا لم يكن واقعا بين أملاك سابقة عليه، بل كان الشارع محدوداً بالموات من أحد طرفيه أو كليهما، وكان عرضه أقل من خمسة أذرع، فإنه لا يجب ـ أيضاً ـ على من يرغب في إحياء الأراضي المحاذية له والمتصلة به أن يبتعد عنه بمقدار يصبح عرضه خمسة أذرع أو سبعة أذرع. وكذلك الأمر في من أسبل طريقاً في ملكه، فإنه لا يلزم بجعلها أزيد من عرضها الذي يرغب في إسبالها عليه.

وإنما لم نوجب لها حريماً لأن مثل هذا الأمر يختلف باختلاف ظروف الناس في كل زمان، وهم أحرار في أن يجعلوه بالنحو الذي يناسب، ولكن لو حدد ولي المسلمين حداً لذلك لم يجز تجاوزه.

مسألة 49: لا يجوز لأحد اقتطاع شيء من الطريق مهما كان واسعا، فإن كان مسبلاً لم يجز لأحد اقتطاع شيء منه وضمه إلى ملكه بمن فيهم المسبل نفسه؛ وكذا إذا كان غير مسبل وكان الزائد مورداً لاستفادة المستطرقين ولو في بعض الأحيان، بل لا يجوز ذلك على الأظهر حتى لو لم يكن الزائد مورد حاجة المستطرقين.

مسألة 50: لما كان الانتفاع بالشارع العام حقاً لعامة الناس فإنه لا يجوز لفرد منهم أو جماعة أن يتصرفوا في ذلك الشارع بأمور يرجع نفعها لهم خاصة، مثل بناء حائط فيه أو حفر بئر، أو نصب دكّة للجلوس أو لعرض البضاعة عليها، أو ضم جزء منه أو من رصيفه لحانوته ووضع البضاعة فيه، أو غرس أشجار، أو نحو ذلك من الأمور التي يتصرفها المالك عادة في ملكه حتى لو لم تكن مضرة بالمارة؛ وكذا لا يجوز الانتفاع بالشارع أو رصيفه بما من شأنه إرباك حركة المرور وإزعاج المارة، وذلك بمثل الجلوس أو النوم أو الصلاة أو البيع والشراء ونحوها، فإن لم تزعج المارة ولم تؤثر عليهم جاز فعلها ولم يكن بها بأس؛ وفي مقابل ذلك، فإنه يجوز للأفراد أو للجهات الأهلية أو الحكومية تحسين الشارع بوضع ما من شأنه إصلاح أمره وزيادة انتفاع المارة به، مثل تشجيره وبناء أرصفة عليه ووضع عمدان إنارة وإشارات سير ونصب مظلات وحاويات لوضع النفايات ونحو ذلك إذا وضع بطريقة مدروسة لا تضر بالمارة.

مسألة 51: يجوز لكل فرد من حيث المبدأ، ما لم ير ولي المسلمين خلاف ذلك، وما لم يعق حركة المرور فيه، الاستفادة من ذلك الشارع العام بغير المرور فيه، وذلك بمثل فتح أبواب المنازل والحوانيت عليه، فضلا عن فتح النوافذ عليه، وبالجلوس فيه للفرجة أو للبيع أو غيره من الأغراض، ويجوز حين الجلوس التظلل بشيء مثل المظلة، لا الخيمة المبنية التي تستلزم تصرفاً زائداً بالشارع؛ وكذا يجوز جعل قسم من البناء العلوي أو شرفاته متقدمة قليلاً أو كثيراً في فضاء الشارع العام إذا لم يضر ذلك بالمارة ولم يعق انتقالهم بوسائط النقل المختلفة؛ وكذا يجوز التصرف في باطن أرض الشارع العام بمثل جعل جانب من الملجأ أو من خزان الماء متقدما قليلا في أرض الشارع، بشرط أن يتقن بناءه كي لا ينخسف به الشارع، أما جعل تمام الملجأ أو خزان الماء أو معظمهما في باطن الشارع فهو محل إشكال، لما فيه من احتمال المنافاة للاستطراق ولو في المستقبل، وخاصة مع ملاحظة الاحتياج لباطن الشارع في التخطيط الحديث لمد المجاري وأسلاك الكهرباء والهاتف، مضافاً لاستهجان ذلك من قبل العرف؛ هذا ولا يخفى أن مثل هذه الأمور قد صارت محكومة لعدد من القوانين الحديثة التي تنظمها، فإن كانت مما لوحظ فيها جانب المصلحة العامة وحفظ النظام العام، وجب الالتزام بها وبأمثالها مما سبقها ومما سيأتي في مباحث هذه الخاتمة من القوانين التي يتسبب الإخلال بها باختلال نظام الناس العام.

مسألة 52: الأزقّة الضيّقة التي ما تزال موجودة في الأحياء القديمة في كثير من المدن تعتبر من نوع الطريق النافذ، وقد جرت العادة فيها على استخدام جزءٍ من فضاء الزقاق لتوسيع مساحة الطابق العلوي ومد جزء منه في فضاء الزقاق، وهو أمر جائز من حيث المبدأ، ويسمى في كتب الفقه بـ (الجناح)، وجوازه مشروط بعدم منافاته للاستطراق بالنحو المتعارف المرور فيه في مثل هذه الأزقة؛ وهو حق للساكن في هذا الزقاق، فمن سبق جاره المقابل له جاز له وضع جناحه بالمقدار الذي يريد حتى لو استوعب عرض الزقاق، بل حتى لو كانت العادة قد جرت على تقاسم الفضاء بين الجيران المتقابلين، أو أدّى إلى أن يُشرف صاحب الجناح على جاره، كذلك فإنه يجوز لجاره المقابل له إحداث جناح مواز لجناحه، لكن يجب على صاحب الجناح الجديد أن يترك فراغاً بينه وبين جاره بالمقدار الذي لا يحرمه من المنافع المرجوة عرفا من بناء مثل هذا الجناح.

مسألة 53: في الحالات التي يجوز التواجد فيها في الشارع من أجل الجلوس والتفسح، أو من أجل البيع أو غيره من الأغراض، فإن بقاء حق ذلك المنتفع بشَغْل ذلك المكان يختلف حكمه على أنحاء:

الأول: أن يشغل الإنسان أو سيارته مكاناً من الطريق أو الرصيف لغرض مؤقت ينتهي بمفارقة ذلك المكان، ففي هذه الحالة يجوز لغيره أن يشغله بعده.

الثاني: أن يكون غرض الإنسان من تواجده القيام بعمل يحتاج إلى وقت طويل يمتد على مدى يوم واحد تمام النهار أو الليل، أو على مدى عدة أيام، وذلك لممارسة هواية أو لأداء عمل، وكان قد تحقق غرضه وفرغ من عمله، أو لم يفرغ لكنه نوى عدم العودة إليه، فإنه يجوز لغيره أن يشغله بعده حتى إذا كان من نيته أن يرجع في اليوم الثاني ليشغل نفس المكان، فإن ذلك لا أثر له، لأن المكان في اليوم الثاني سوف يكون لمن سبق منهما بنفس هذا النحو ويلحقه الحُكم المتقدّم نفسه.

الثالث: النحو الثاني نفسه، ولكن قيامه عنه كان قبل انتهاء عمله في يومه وكان ناوياً العودة إليه، فإن كان له متاع قد تركه في موضع جلوسه لم يجز لغيره مزاحمته فيه وأخذه منه ـ ما دام رحله باقياً ـ في يومه ذاك، وكذا في الأيام التالية، وأما إذا لم يكن له رحل فالأحوط استحباباً ترك مزاحمته في ذلك اليوم دون الأيام التي تلي، فإن مزاحمته فيها جائزة لمن سبقه إليه.

مسألة 54: كما لا تجوز المزاحمة في موضع الجلوس في مواردها وأنحائها الآنفة الذكر فإنه لا تجوز مزاحمته فيما حوله بقدر ما يحتاجه غرضه الذي يتواجد لأجله، من مثل موضع وقوف سيارته ووضع متاعه، بل وموضع مرور ووقوف المتعاملين معه، وترك مجال له كي ترى بضاعته المعروضة، ونحو ذلك من الأمور المناسبة لغرض شاغل المكان.

مسألة 55: إذا انقطعت المارة عن الطريق المفتوح في الأرض الموات وهُجِر ولم يُرجَ الانتفاع به ولو بعد حين جاز لكل أحد إحياؤه وضمه إليه، وكذا حكم الطريق المسبل، فإنه إذا هجر لا يرجع إلى المالك الذي أسبله، ويجوز إحياؤه بدون مراجعة الحاكم الشرعي.

الثاني ـ الطريق غير النافذ:

وفيه مسائل:

مسألة 56: الطريق غير النافذ هو: (الطريق الذي لا يسلك منه إلى طريق آخر أو أرض مباحة، لكونه محاطا بالدور من جوانبه الثلاثة)، والذي سبق أن قلنا أنّه يسمى «بالدُّرَيْبة»، والظاهر أن حكمه لا يختلف عن حكم الطريق النافذ في كونه معدوداً من المرافق العامة التي يتساوى جميع المسلمين في حق الانتفاع به، لذا فإنه لا يختص بالساكنين فيه ممن لهم أبواب مفتوحة إليه حتى لو كان في الأصل جزءاً من أرضهم قبل بناء الدور عليها ثم أسبلوه طريقاً للمرور منه إلى دورهم، لأنه بمجرد صيرورته طريقاً خارجاً عن حرم المنازل المبنية حواليه يصبح مرفقاً عاماً وخارجاً عن ملك أصحابه الأساسيين لتحقق الإعراض عنه بعد فتحه بهذا النحو.

ويترتب على ذلك ما يلي:

أولاً: لا تعتبر هذه الدُّريبة ملكاً للساكنين فيها، بل إن لهم حق استطراقها والمرور فيها فقط كمثل حقهم في الطريق النافذة، وكذا فإنه يحق لغيرهم من عامة المسلمين استطراقها والمرور فيها واللجوء إليها والجلوس فيها كحقهم في الطرق النافذة، وليس للساكنين فيها أن يمنعوا غيرهم من استطراقها بمثل إغلاقها ونحوه.

ثانياً: يجوز لمن له باب إليها استحداث باب آخر قبل ذلك الباب أو بعده، وكذا يجوز لمن ليس له باب في جدار بيته المتاخم لهذه الدريبة أن يفتح باباً إليها فيه، فضلاً عن أنه يجوز للجميع أن يفتحوا شبابيك ويمدوا أجنحة وميازيب وغيرها من أنواع الانتفاع بالفضاء، وأن يتقدّموا قليلاً ببناء الملجأ أو خزان الماء ونحوهما في باطنها.

المبحث الثاني ـ في حكم الانتفاع بالمرافق العامة:

نريد بالمرافق (كل ما وضع أو أنشىء للاستخدام العام في شتى المجالات)، وذلك مثل الحدائق والمسابح والملاعب ومواقف السيارات والمدافن والحسينيات والمساجد والمدارس والمباني الحكومية ونحو ذلك، وهو إذا كان موقوفاً وكان الواقف قد حدد نظاماً خاصاً وتفصيلياً للانتفاع به فإنه يجب الاقتصار عليه والالتزام به، وإن كان موقوفاً وليس له نظام خاص، أو لم يكن موقوفاً بل وضعته الدولة أو أنشأته للانتفاع المطلق به، أو جعله الناس لأنفسهم كذلك، فإن له أحكاماً نستعرضها في مسائل:

مسألة 57: يجب الاقتصار في الانتفاع بالمرفق العام على العنوان المجعول له ذلك المرفق في حالتين:

الأولى: إذا كان موقوفاً على عنوان معين، كالمسجد للصلاة وما أشبهها مما تعارف استخدام المسجد فيه، فإنه لا يصح الانتفاع به في غير ذلك مما ينافي ويضر بالعنوان الأصلي، وكالأرض الموقوفة حديقة للتنـزه فإنه لا يجوز استخدامها مدفناً، وكالمدفن فإنه لا يجوز جعله ملعب كرة، ونحو ذلك من الاستخدامات المنافية للعنوان الأصلي الموقوف عليه.

الثانية: إذا كان استخدامه في غير العنوان المجعول له موجباً للإخلال بالنظام العام، فإذا تواضع الناس على اعتبار مكانٍ ملعباً رياضياً لم يجز لأحد أن يجعله مرمى للنفايات، وإذا تواضعوا على مكان سوقاً لم يجز لأحد جعله مدفناً؛ وفي مثل هذه الحالة يجب احترام ذلك التواضع والالتزام به عندما يصبح الموضوع مرفقاً عاماً مهما ومستخدماً عند الناس في العنوان الموضوع له، سواء كانت الجهة الواضعة أهلية أو حكومية، وسواء كانت الجهة الحكومية جائرة أو عادلة.

وفيما عدا ذلك، فإنه لا مانع من الانتفاع به بغير العنوان الموضوع له، وذلك كأن يتنـزه في موقف السيارات، أو أن يعرض بضاعة للبيع في الحديقة العامة، أو يلقي دروساً في المسجد، ونحو ذلك مما لا يضر بالعنوان الأصلي ولا يخلّ بالنظام العام.

مسألة 58: يجوز لكل راغب في الانتفاع بالمرفق العام أن يبادر للانتفاع به واستخدامه في العنوان الموضوع له، فإن كان مما يستخدم جميعه مرة واحدة في الوقت الواحد، مثل ملعب كرة القدم، فإن الفريق السابق يصبح أولى من غيره به، فلا يجوز للغير مزاحمته حتى يفرغ الملعب وينهي عمله فيه؛ وإن كان مثل المسجد أو المقبرة مما يمكن استخدامه من قبل أشخاص متعددين في وقت واحد، فإن من سبق إلى مكان من المسجد مثلالم يجز لغيره منازعته ذلك المكان ومزاحمته فيه؛ نعم إذا كان لذلك المرفق عنوان استخدام رئيسي، كمثل الصلاة في المسجد، وآخر فرعي، كإعطاء الدروس فيه، فإن من سبق إلى مكان منه وجلس فيه ليـدرس، فرغـب شخــص فـي الصـلاة فيـه، وجـب علــى المــدرس ـ علـى الأحوط ـ أن يخلي المكان لمن يريد الصلاة فيه حتى مع السعة وإمكان الصلاة في مكان آخر؛ كذلك فإن الأولى لمن يريد الانفراد أن يتأخر ويخلي مكانه لمن يريد الصلاة فيه جماعة إذا وجد مكاناً غيره في المسجد.

مسألة 59: مثلما يصدق السبق إلى المكان بوجود الشخص فيه، فإنه يصدق أيضاً ـ بحسب العرف ـ بمجرد وجود أثر له،كثوبه أو سجادة صلاته أو «تربة» السجود في المسجد مثلاً، وكذا في غيره مما يختلف الأثر المناسب له باختلاف العناوين الموضوعة لذلك المرفق؛ نعم لا بد لاستمرار حقه في المكان المحجوز بمثل هذه الأمور من عدم وجود فاصل طويل بين حجز المكان وبين تواجده فيه بنحو يستلزم تعطيل المكان، فإن وجد مثل هذا الفاصل جاز لغيره أن يشغل مكانه ويأخذه منه، وحينئذ إن أمكن ذلك بدون رفع متاعه لم يكن له رفعه وإزاحته من مكانه، وإلا جاز رفعه وإبقاؤه أمانة في يده حتى يأتي صاحبه، فإن تلف بدون تعدٍّ ولا تفريط لم يضمن؛ وكذا حكم المتاع الذي تركه صاحبه في مكانه الذي غادره معرضاً عنه.

مسألة 60: إذا قام الجالس من موضعه في المرفق العام وترك المكان، فإن أعرض عنه جاز لغيره أن يأخذ مكانه، ويصير الثاني أولى به من الأول وليس له مزاحمة الثاني لو عاد؛ وأما إذا لم يعرض عنه بل كان من نيته أن يعود إليه، فإن بقي له رحل ومتاع فيه لم تجز إزاحته وأخذ مكانه، وإن لم يبق له متاع فيه فالأحوط عدم أخذه، ولا سيّما إذا كان خروجه لضرورة،كتجديد الطهارة أو إزاحة سيارته ليمر غيره أو نحـو ذلـك، ولـو زاحمـه غيره ـ حينئذ ـ فأخذ مكانه لم يجز للأول إزاحته عند عودته.

تتمة في وجوب حفظ النظام العام:

«النظام العام» تعبير فقهي مستحدث يراد به: (حالة استقرار أوضاع الناس المختلفة على طبق المصالح الأساسية للأمة ضمن أهدافها الدائمة أو المؤقتة)، فيشمل مرحلة ما لو كان الحاكم مسلماً عادلاً أو جائراً أو غير مسلم، وذلك لأن قيام المجتمع بوظيفته يتوقف على درجةٍ من الاستقرار وانتظام الأمور تتيح له تحقيق عدد من الغايات، بما في ذلك سعي المصلحين فيه للانتقال بالدولة إلى مرحلة العدل والصلاح وتطوير المجتمع، فيجب «حفظ» هذا القدر من الاستقرار والنظام العام، لأن «الإخلال» به يسبّب فوضى تربك المجتمع وتقوض مسعاه الطبيعي باتجاه أهدافه.

ويتمثل النظام العام بجميع المؤسسات والمرافق الموضوعة لخدمة الناس والتي تتضمن إيجابيات كبيرة أمام قليل من السلبيات التي يصعب إزالتها، بما في ذلك سلبية كونها جزءاً من نظام سياسي لا ترضى به الحركة الإسلامية الآن؛ وهو بهذا المعنى يشمل جميع مرافق الخدمات العامة، مثل البريد والهاتف والماء والكهرباء والتنظيم المدني والبلديات، كما يشمل المنشآت العامة التي تعود لمختلف الإدارات الحكومية والأهلية، مثل المدارس والمستشفيات والمتاحف وغيرها،كذلك فإنه يشمل جانب الالتزام بمقتضيات الأمن العام والسلم الأهلي، ونمطاً محدداً من العلاقة مع الحاكم وأجهزته، وأموراً أخرى كثيرة يوكل أمر تحديدها لنظر الحاكم الشرعي بالنحو الذي يتحقق فيه التوازن في سلوك الأفراد بين التزامهم بشريعة الإسلام وبين تكيفهم مع مقتضيات الظروف وتقلباتها في ظل نظام غير إسلامي.

هذا وإنه قد اتضح من خلال بعض ما مر من مسائل في هذا المبحث مدى أهمية المحافظة على النظام العام فيما يتعلق بالطرق وأنظمة السير المعمول بها وفيما يتعلق بالمرافق العامة ولزوم صيانتها والعمل بالقوانين الموضوعة لها، كما تبين مدى أهمية ذلك في تطوير المجتمع وازدهاره.


 

 

الباب الثاني

في تملّك الثروات الطبيعيّة

 

الفصل الأول: في الثروة الحيوانية

الفصل الثاني: في الثروة المائية

الفصل الثالث: في الثروة المعدنية والنباتيّة



 

 

الفصل الأول

في الثروة الحيوانية

 

المبحث الأول: في موجبات تملك الحيوان

المبحث الثاني: في ما يحل منه وما يحرم

المبحث الثالث: في تذكية الحيوان



 

 

تمهيد:

يعتبر وجود الحيوان في الأرض من النعم الإلهية الكبرى، فهو ثروة هائلة ومهمة، لما فيه من الفوائد الجمة الجليلة التي تغني طعام الإنسان ولباسه ورفاهيته؛ والحيوان السارح في هذه الأرض ـ مثله كمثل سائر المباحـات ـ ثروة ماثلة أمام ناظري الإنسان وبين يديه، فمن حازه فصاده ووضع يده عليه فقد ملكه، يتساوى في ذلك ما كان منه في الجو أو البر أو البحر، كما يتساوى فيه ما كان ممتنعاً يصعب الوصول إليه إلا بالمكيدة والقوة، وما كان منه أهلياً مستأنساً يأوي إلى الإنسان ويلوذ به.

وقد تعرضت الشريعة لجميع ما يرجع لهذه الثروة، فشرعت لها من جوانب مختلفة ونظمت علاقة الإنسان بها وحددت كيفية استفادته منها بالنحو الذي يكفل سعادة الإنسان ويحقِّق التوازن في عالم الطبيعة؛ ولما كانت عادة الفقهاء قد جرت على التعرض لأحكام الحيوان في بابين منفصلين، هما باب الأطعمة والأشربة وباب الصيد والذباحة، مضافاً لما يذكر منه في باب إحياء الموات، فإننا رأينا أن الأنسب جمع ذلك في باب واحد واستيعاب الأحكام المتعلقة به من خلال عدد من المباحث، فاستعرضنا في المبحث الأول كيفية تملك الحيوان الممتنع، ثم تحدثنا في المبحث الثاني عن ما يحل ويحرم من الحيوان، ثم فصلنا في المبحث الثالث طرق تذكية الحيوان التي تتحقق بالصيد تارة وبالذبح أخرى، وذلك بهدف إعطاء صورة تفصيلية عن حكم المكلف تجاه هذه النعمة الإلهية الكبرى.



 

 

المبحث الأول ـ في موجبات تملك الحيوان:

وفيه مسائل:

مسألة 61: تتحقق ملكية الإنسان للحيوان بوضع اليد عليه، مثله في ذلك مثل سائر المباحات المنتشرة على وجه الأرض وفي باطنها وفضائها، ولوضع اليد هنا مرتبتان:

الأولى: استخدام اليد مباشرة، وذلك إما بوضع نفس اليد وأخذ الحيوان والسيطرة عليه بها، سواء في ذلك الحيوان الممتنع إذا غافله، أو الأهلي السارح في البرية إذا أمسكه؛ أو باستخدام آلة لتناول الحيوان إذا كان ممتنعاً أو بعيداً، وذلك كالحبل يلقى عليه ويجر به، ونحو ذلك.

الثانية: وضع اليد غير المباشر، ويراد به وقوع الحيوان الممتنع فريسةً بوسيلة من الوسائل المعدة لصيده، سواء منها ما أعد ليقع فيه الحيوان بنفسه،كالحفرة تحفر ليقع فيها أو الشبكة أو الفخ ونحوها، أو ما أعد منها ليرمى به الحيوان من بعيد فيعجزه ويوقعه، كالسهم أو الرمح أو البندقية ونحوها مما يرمى به؛ فإن مجرد وقوع الحيوان في الشبكة، أو وقوعه بالرمي بطلقة الرصاص، تجعله ملكاً لناصب الشبكة ولرامي الطلقة ولو لم يمسكه ـ بعد ـ بيده، لأن نفس الوقوع هو في قوة وحكم وضع اليد المباشر على الحيوان في إيجابه للملك.

مسألة 62: لا بد من نية التملك وقصد الاستيلاء على الحيوان عند إمساكه إذا كان أهلياً أو عند اصطياده إذا كان ممتنعاً، فلو وثب شيء في سفينته المتوقفة، أو وقع في شبكته التي نشرها لإصلاحها، أو رمى بدون قصد الاصطياد فأصاب صيداً، لم يملك صاحب السفينة ولا الشبكة ولا الرمية ما يقع فريسة لذلك من الحيوان؛ نعم إذا وضع يده على الحيوان فأخذه غيرَ ناوٍ تملّكه، بل التفرج عليه مثلاً، فإنه له وهو أولى به، ولا تجوز منازعته فيه حتى يلقيه من يده ويعرض عنه، فالأخذ مع عدم القصد نحو من الملك لا يختلف في جوهره عن الملكية الناتجة من الأخذ مع القصد، وإن كان أشبه بالملكية القهرية.

ومن هذا القبيل ما يقع صدفة في داره فينحبس فيها، أو يصنع برجاً ليعشش فيه الحمام فيعشش معه غيره من الطيور الممتنعة، فإن صاحب الدار لا يملك الطير المحبوس، كما لا يملك صاحب البرج الطير الذي عشش عنده بمجرد ذلك ما لم يأخذه، فإذا سبقه غيره فأخذه كان له.

مسألة 63: لا بد في تحقق تملك الحيوان الممتنع بالصيد من تمام وفعالية وسيلة الاصطياد، فمن وقع في شبكته حيوان فلم تمسكه لضعفها وانفلت منها، أو رمى صيداً فتحامل على نفسه وظل ممتنعاً لا يقدر على الإمساك به، لم يملكه بمجرد ذلك، فإن اصطاده غيره بعد ذلك كان أولى به؛ ومن ذلك ما لو ركض خلف حيوان فأتعبه وأعجزه عن المشي لم يملكه بمجرد ذلك ما لم يأخذه.

مسألة 64: إذا تحقق وضع اليد بالنحو الذي ذكرناه ملكه من أخذه ورتب عليه آثار الملك، فيصير له نماؤه ولا يجوز لغيره التصرف فيه إلا بإذنه واستمر ملكه له ما لم يعرض عنه، فلو أفلت ذلك الصيد بعدما وقع في شبكته مثلاً بقي مملوكاً له، وكذلك لو أطلق الصائد ذلك الصيد فعاد إليه امتناعه فإنه يبقى على ملك صائده ما لم يعلم إعراضه عنه، وفي كلا الحالين، فإنه إذا صاده غيره ـ حينئذ ـ وجب عليه إرجاعه إلى المالك إن عرفه، وإذا جهله وكان ذلك الصيد ضائعاً جرت عليه أحكام اللقطة، وإذا لم يكن ضائعاً جرى عليه حكم المال المجهول مالكه، وهو الذي تقدم حكمه في الجزء الأول في باب الخمس، فإنه لا فرق في ذلك بين الطير وغيره. (أنظر الجزء الأول، ص 540).

أما إذا أفلته معرضاً عنه فعاد الطائر محلّقاً والحيوان البري سارحاً سقط حقه فيه ورجع بذلك إلى الإباحة الأصلية، ويصير ملكاً لمن يصطاده ويأخذه من جديد.

مسألة 65: إنما يملك الحيوان بالاصطياد ونحوه إذا لم يعلم أنه مملوك للغير، ويكفي لتحقق ملكية الغير وجود أمارة على ثبوت ملك سابق، كالطوق في العنق أو الحبل المشدود في يده أو رجله أو الكتابة المثبتة في لوح عليه أو نحو ذلك، فيجب ـ حينئذ ـ على من اصطاده أن يرجعه إلى صاحبه مع الإمكان إلا أن يعلم أنه معرض عنه.

مسألة 66: إذا رمى اثنان صيداً فأصاباه، فإن تساويا في تعجيزه وإيقافه ملكاه معاً على نحو الاشتراك، وإن كانت إصابة أحدهما هي التي أعجزته وأوقفته دون رفيقه ملكه وحده دون رفيقه، وحيث يصعب تشخيص ذلك عادة فإن اللازم عند الاختلاف هو التراضي أو الرجوع للحاكم الشرعي.

المبحث الثاني ـ في ما يحل منه وما يحرم:

لا تحرم الاستفادة بغير الاغتذاء من كل حيوانات البر والبحر والجو في جميع المجالات الممكنة، بما في ذلك الكلب والخنزير، فإنهما يجوز الاستفادة منهما ومن غيرهما بغير الاغتذاء من سائر وجوه الانتفاع، كالنقل والصناعة والزراعة والطب وغيرها، حياً كان الحيوان أو ميتاً، وذلك رغم أن الحكم بنجاسة الكلب والخنزير وميتة الحيوان ذي النفس السائلة سوف تحد من مدى استخدامه من قبل المسلم المؤمن في مجال الصناعة أو اللباس أو غيرهما لما فيه من إرباك وإزعاج له، لكنه ليس ممنوعاً منه إلا في مثل الصلاة وأواني الطعام أو الشراب وغيرهما من الأمور المشروطة بالطهارة.

أما الاغتذاء بحليبه أو بيضه أو لحمه فهو موضوع هذا البحث الذي يشتمل على حكم ما يحل وما يحرم من حيوانات البر والبحر والجو، وذلك في عناوين ثلاثة:

الأول ـ في حكم حيوان البر:

ونريد به: (كل ما يعيش على اليابسة من سباع وأنعام وحشرات)، وتفصيل أحكامه يقع في مسائل:

مسألة 67: يحرم من حيوان البر جميع الحشرات الدابة أو الطائرة ما عدا الجراد كما سيأتي؛ ثم كل ذي ناب من الحيوان، صغيراً كان كالفأر وما أشبهه من القوارض، أو كبيراً كالأسد والنمر، وسواء كان من آكلات اللحم كالذئب أو من آكلات الثمار والأعشاب كالفيل، أليفاً كان كالهر والكلب أو برياً وحشياً كالذئب والأسد؛ ثم جميع الزواحف مما لم يكن له رجل كالأفعى، أو كانت له أرجل صغيرة كالضب واليربوع والوزغ ونحوها؛ ثم الأرنب على الأحوط وجوباً؛ هذا ويجب الالتفات إلى أننا استخدمنا هنا تعبير «الحشرات» بمعناها العلمي، فيما استخدمها الفقهاء بمعنى يشمل كل ما يلتجىء إلى الأرض من الحيوانات الزاحفة والقارضة.

وأما ما عدا ذلك منه فهو حلال، فيشمل جميع الحيوانات من الأنعام، وهي جميع أصناف البقر والغنم والإبل، أهلية كانت أو برية، وكذا الحصان والبغل والحمار وإن كره لحمها، والكثير من الحيوانات البرية، مثل الغزال وحمار الوحش والأيل وما أشبهها مما ليس له ناب.

مسألة 68: يحرم الحيوان المحلل عند عروض أمور عليه، وهي:

1 ـ إذا تغذى ذلك الحيوان على عذرة الإنسان وغائطه مدةً من الزمان حتى نما فيها لحمه واشتد عظمه، وهو ما يقال له «الجلاّل»، حرم أكل لحمه وشرب لبنه حتى يستبرىء بإطعامه العلف الطاهر مدة يزول عنه فيها اسم الجلل عرفاً، والأحوط استحباباً أن يلتزم بالمدة المحددة ولو زال الجلل قبلها، وهي في الإبل أربعون يوماً، وفي البقر ثلاثون، وفي الشاة عشرة، وفي مثل البطة خمسة، وفي مثل الدجاج ثلاثة.

2 ـ إذا رضع الجدي حليب خنـزيرة فله حالات يختلف حكمه باختلافها وهي:

أ ـ أن يكون في مرحلة الارتضاع، ويرتضع من ثديها، ويشتد عظمه وينمو لحمه على ذلك اللبن، فإنه يحكم بحرمة لحمه وحرمة لبنه، وكذا بحرمة لحم نسله ولبنه مهما تعددت أجياله.

ب ـ مثل الحالة (أ) ولكن لم يصل إلى مرحلة اشتداد العظم ونمو اللحم، فإنه يحكم بحرمته ولكنه إذا منع عنها وألقي على ضرع شاة سبعة أيام حل بعد ذلك.

ج ـ أن يكون قد تجاوز مرحلة الرضاع، ويرتضع من الثدي، فيحرم أيضاً ولكنّه يطهر بتناول العلف الطاهر مدّة يزول عنه خلالها أثر ذلك الحليب، سواء نما لحمه على حليب الخنزيرة أو لم ينم.

د ـ أن يتناول حليب الخنزيرة من غير الثدي، فهنا لا يحرم سواء كان في سن الرضاع أو بعدها، وسواء نما لحمه عليه أو لم ينم، ولا يجب إطعامه العلف الطاهر من أجل ذلك.

3 ـ إذا جامع الإنسان البهيمة، وتحقق منه إدخال القضيب في فرج أنثى الحيوان أو دبرها، أو في دبر الذكر من الحيوان، حرم بذلك لحم الحيوان المدخول فيه ولبنه، دون لحم ولبن نسله على الأقوى؛ ولا بد لتحقق الحرمة من كون الحيوان مأكول اللحم، سواء كان مما يطلب لحمه كمثل الغنم والبقر، أو مما يركب ظهره ويقل أكل لحمه كالحصان والحمار؛ وكذا لا بد أن يكون من ذوات الأربع، وأن يكون حياً حال وطئه غير ميت؛ أما من جهة الفاعل البالغ فإنه لا فرق في تحقق الحرمة بفعله بين ما لو كان عاقلاً أو مجنوناً، عالماً أو جاهلاً، مختاراً أو مكرهاً، بل وكذا حكم الفاعل غير البالغ على ا لأحوط.

ثم إنه ـ إضافةً إلى حرمة لحمه وحليبه ـ يجب ذبح ذلك الحيوان الموطوء إذا كان مما يطلب لحمه ثم إحراقه بعد موته، وعلى الفاعـل ـ إذا لـم يكن هو المالك ـ أن يغرم قيمته للمالك بعدما كان هو السبب في إتلافه؛ أما إذا كان الحيوان مما يركب ظهره، كالحصان والحمار، فإنه يجب نفيه إلى بلد آخر ورفع يد المالك والفاعل عنه ببيعه إلى طرف ثالث، وحينئذ يضمن الفاعل للمالك قيمته، ويرد المالك على الفاعل ثمنه الذي بيع به.

وإذا اشتبه الحيوان الموطوء في قطيعه فلم يتميز أخرج واحداً منه بالقرعة وفعل به ذلك.

مسألة 69: لا يحرم الحيوان المحلل إذا أكل أو شرب شيئاً من الأعيان المحرمة أو النجسة غير العذرة، نعم إذا شرب الخمر فسكر وجب تجنب ما حواه جوفه من القلب والكبد والكرش ونحوها على الأحوط.

الثاني ـ في حكم حيوان البحر:

وفيه مسائل:

مسألة 70: يحل من حيوان البحر كلُّ سمكة ولو لم يشتمل ظاهر جلدها على ما يسمى بـ (الفَلْس)، وهو: (دوائر صغيرة متراصة من القشور القاسية التي تنزع عنها عند تحضيرها للطهي)، وقد ألحق بما له فلس أصناف (جراد البحر) التي يقال لها في بلاد الشام (القريدس)، وفي بلاد الخليج (الأربيان) أو (الروبيان)، لأن لها جلداً خارجياً ينزع عنها عند طهيها هو بمثابة الفلس، وكذا يحل حيوان البحر على اختلاف أصنافه، ابتداءً من حوت البحر وانتهاءً بأنواع لا تحصى من الكائنات البحرية، مثل المحار ونجم البحر والأفاعي والكركند والسرطان والأخطبوط والكالامار، وإن كان الأفضل والأحوط استحباباً، الاقتصار على تناول ما له فلس منها.

مسألة 71: إذا زال ما على السمكة من فلس لعارض، ككثرة احتكاكه بقاع البحر وصخوره مثلاً، لم يضر ذلك في اعتباره من صنف الأسماك التي لها فلس.

مسألة 72: بيض السمك تابع له في الحلية. فيحلّ بيض كل ما يعيش في الماء من حيوان البحر وأسماكه، وإن كان الأفضل اجتناب بيض ما ليس له فلس منها.

مسألة 73: يحرم من أسماك البحر وحيوانه ما يكون ساماً بحيث يضر بالإنسان ضرراً معتداً به، إلا أن يمكنه إزالة الضرر بمعالجته بطريقة خاصة عند طهيه.

وكذا يحرم ما يكثر عيشه في البر من حيوان البحر، بحيث ينطبق عليه عنوان (البرمائي)، مثل الضفدع والتمساح والقندس ونحوها، دون ما يغلب عليه التواجد في الماء، ولا يضره الخروج إلى اليابسة قليلاً، كما هو حال السرطان والسلحفاة البحرية والدلفين ونحوها.

الثالث ـ في حكم الطيور:

وفيه مسائل:

مسألة 74: يحل كل ذي ريش من الطيور عدا أصناف ثلاثة:

الصنف الأول: ما يكون من (سباع الطير)، وهو: (كل ذي مخلب يسعى به لافتراس الطير وغيره)؛ وأنواعه كثيرة، وكذا أصناف كل نوع، ولا يختلف حكمها بين القوي والضعيف والصغير والكبير، والمعروف المشهور منها هو: النسر والصقر والباز والعقاب والشاهين والباشق.

الصنف الثاني: ما يكون صفيف جناحيه وسكونهما ـ خلال طيرانه ـ أكثر من دفيفهما وحركتهما؛ وهو أمر يعرف من مراقبة الطير ومشاهدة طيرانه، وقد صار ذلك معلوماً ومتيسراً بدقة عالية في زماننا هذا بعد توسع الكشوف العلمية والتمكن من مراقبة سلوك الطيور بوسائل متطورة ودقيقة؛ وعلى عكس ذلك ما هو محلل من الطيور، وهو ما يكون دفيفه وحركة جناحيه أكثر من صفيفه، وأنواعه كثيرة، فهي تبدأ في حجمها من النعامة كبراً وضخامة وتنتهي بعصفور الشوك المتناهي في صغره، وتختلف أسماء كثير منها باختلاف البلدان، والمشهور منها في بلاد الشام: السُمَّن والشقراق ودجاج الأرض والحجل والفرّ والقبّرة وأبو الحنّ والدوري وأسود الرأس والعضاض، وغيرها كثير.

وهذه العلامة ـ مع العلامة الأولى ـ هي الأصل، فإن كان الطير سبعاً حرم أكله حتى لو كانت حركة جناحيه أكثر من صفهما، وإن لم يكن سبُعاً وكان يصف جناحيه أكثر حكم بالحرمة أيضاً، سواء كان فيه قانصة وغيرها مما سنذكره في الصنف الثالث أو لم يكن فيه.

الصنف الثالث: ما تساوت حركة أجنحته في صفيفها ودفيفها، أو كان مجهول الحال من هذه الجهة، فإنه يحكم بحرمته إذا لم يشتمل باطنه على القانصة أو الحوصلة، ولا ظاهره على الصيصة، والمراد بالقانصة: (ما يجتمع فيه الحصاة الدقاق التي يأكلها الطير)، وبالحوصلة: (ما يجتمع فيه الطعام وغيره عند الحلق)، وبالصيصة: (إصبع رابعة تكون خلف كف رجل الطائر)؛ فإن اشتمل الطائر على واحدة ـ فقط ـ من هذه الثلاث حكم بحليته.

وخلاصة هذه الأصناف المستثناة هي: إن كل طائر حلال إذا لم يكن من سباع الطير ولم يكن صفيف جناحيه أكثر من دفيفهما، فإن لم يكن من السباع وتساوت حركة الأجنحة أو جهلت كيفية طيرانه فإنه يحكم بحلية ما كان له حوصلة أو قانصة أو صيصة.

مسألة 75: ينطبق على طيور الماء ما ينطبق على طيور اليابسة من العلامات، وبما أن بعض طيور الماء التي تتغذى على الأسماك يتناولها بمنقاره وبعضها يتناولها بقدميه، فإنها إن كان لها مخالب دخلت في عنوان (سباع الطير) وحرمت، وإن لم يكن لها مخالب عرفت بحركة الأجنحة أو بوجود الحوصلة أو القانصة أو الصيصة حتى لو كانت تتغذى على الأسماك.

مسألة 76: كما يحرم حيوان البر إذا صار «جلاّلاً» كذلك يحرم من الطير ما يصير جلاّلاً حتى يستبرىء بالنحو الذي ذكر في حيوان البر.

مسألة 77: الخفاش وإن كان يطير لكنه ليس من ذوات الريش، وهو مما يحرم أكله بغضّ النظر عن انطباق العلامات الآنفة عليه.

مسألة 78: بيض الطائر المحلل حلال وبيض المحرم حرام، فإن لم يعلم من أي طائر هو وجب اجتناب ما اتفق طرفاه وحل أكل ما اختلف طرفاه وتميز أسفله من أعلاه بالنحو الذي يشبه بيض الدجاج.

المبحث الثالث ـ في تذكية الحيوان:

وتفصيل أحكامه يقع في تمهيد وثلاثة مطالب وخاتمة، وذلك كما يلي:

تمهيد:

لا يحل في شريعتنا المطهرة أكل غير السمك من الحيوان حياً، فمن اقتطع جزءاً من حيوان حي لم يجز له أكله بحال من الأحوال، ولم يصح منه استعمال جلده فيما يشترط فيه التذكية، وحكمه في الحالتين حكم الميتة، كذلك فإنه لا يحل أكل الحيوان الميت إلا إذا استند موته إلى (التذكية)، والتذكية مصطلح يراد به: (إحداث الموت في الحيوان بطريقة خاصة هي الاصطياد أو الذبح)، وذلك في مقابل موته حتف أنفه أو بإحدى الطريقتين المذكورتين ولكن من دون توفر الشروط المطلوبة فيهما، وهي الحالة التي يصطلح عليها بـ (الميتة) إجمالاً، وهي التي تقدمت أحكامها مفصّلة في فصل النجاسات، والتي قد نعيد ذكر ما يناسب هذا المبحث منها.

أما حيوان البحر فإنه يجوز أكله بعد إخراجه من الماء، ولو قبل تحقق موته وهمود حركته، كما أن له طريقة خاصة في التذكية نذكرها لاحقاً.

كذلك فإن هذه التذكية لا تختص بالحيوان المحلل أكله بهدف أكل لحمه أو الانتفاع بأجزائه، بل هي شاملة ـ إجمالاً ـ لكل حيوان محرم الأكل، أهلياً كان أو برياً، أليفاً أو وحشياً، طائراً كان أو غيره، ما عدا الكلب والخنـزير، وما عدا الحشرات ـ أيضاً ـ إلا الجراد منها؛ فمن اصطاد أسداً أو أرنباً، أو ذبح هرة أو فأرة، حكم بطهارة أجزائه وصحة الانتفاع به في كل عمل يتوافق مع شروطه؛ بل إنه لا فرق في قبول الحيوان المحرم للتذكية بين ما هو محرم بالأصل، كالأسد والثعلب، وبين ما هو محرم بالعارض، كمثل الجلال أو الموطوء، فإنه، وإن حرم أكل لحمه ونجست فضلاته، يقبل التذكية كغيره من الحيوانات، فينتفع به في غير الأكل من أنواع الاستعمالات.

ثم إنه ينبغي أن يعلم ـ أيضاً ـ أن طريقة صيد الحيوان البري والطيور تختلف عن طريقة صيد السمك والجراد، كما ينبغي أن يعلم أن الذبح خاصٌ بالأولين، فلا يشمل الجراد والسمك الذين يكفي في ذكاتهما خروج السمك من الماء حياً والتقاط الجراد وموته بعد التقاطه، وتفصيل ذلك يقع في ثلاثة مطالب وخاتمة على النحو التالي:

المطلب الأول ـ في صيد الحيوان البري والطائر:

وتفصيل أحكامه يقع في تمهيد وثلاثة فروع، وذلك على النحو التالي:

تمهيد:

وفيه مسائل:

مسألة 79: الصيد هو: (فعلُ ما من شأنه تعطيل الحيوان الممتنع وإيقافه، مقدمةً لأخذه والانتفاع به بعدما يصير حلالاً بنفس ذلك الاصطياد)، وتحقق الحلية بالاصطياد مختص بالحيوان الممتنع من الطيور والحيوان البري، فلا يستخدم ولا يحل به الحيوان الأهلي المستسلم والمنقاد للراغب فيه، فمن أطلق الرصاص على شاة أو دجاجة بعيدة عنه فماتت لم تحل بذلك ما لم يدركها حية ويذبحها قبل موتها بالرصاص؛ ويلحق بالأهلي فرخ الطائر قبل أن يستقل بالطيران وولد الحيوان الوحشي قبل أن يقدر على العدو، ونفس الحيوان الوحشي إذا استأنس، كالظبي وبعض الطيور؛ وعلى العكس من ذلك فإنه يلحق بالوحشي الحيوان الأهلي إذا ارتعب أو توتر ففر وصار صائلاً يصعب إمساكه، أو الحيوان الأهلي إذا تردى في بئر أو علق في شاهق أو مكان يصعب الوصول إليه، فإنه في مثل هاتين الحالتين يحل ذلك الحيوان بالاصطياد الجامع للشروط كما سيأتي.

مسألة 80: يصدق الصيد على طريقتين:

الأولى: على استخدام أداة غير قاطعة ولا شائكة من أدوات الصيد التي لا تسبب موت الحيوان، وذلك مثل إمساكه باليد أو بالفخ أو الشبكة أو نحوها، فإنه إذا مات من ذلك لم يحل أكله، بل لا بد من إدراكه حياً وتذكيته بالذبح كي يحل.

والصيد بهذا المعنى ليس داخلاً في نطاق هذا المطلب، بل إنه يسمى صيداً بالمعنى العام ولا يترتب عليه إلا تملك الحيوان المصطاد كما تقدم.

الثانية: على استخدام أداةٍ حيوانية كالكلب، أو جمادية جارحة كالسهم، فإذا أصابه بالآلة أو أمسكه الحيوان المعلّم بالشروط المعتبرة فيهما فأدركه الصائد ميتاً حل الصيد به وجاز أكله من دون ذبح؛ وبذلك يصير الصيد وسيلة مستقلة للتذكية إلى جانب تذكيته بالذبح كوسيلة مستقلة أيضاً، فإن اجتمعا في بعض الحالات التي سنذكرها كان ذلك خيراً على خير.

مسألة 81: إنما يسوغ الاصطياد ويحل من أجل أن يستفيد منه الإنسان فائدة معتبرة، وأعلاها هو جعله غذاءً وقوتاً ولو لم تنحصر معيشته به، ثم من أجل الاستفادة من شعره وريشه وفروه في لباسه، بل إنه لا بأس بالاصطياد من أجل تحنيط ذلك الحيوان أو الطائر وجعله زينة؛ وهكذا سائر الفوائد المعتبرة عند العرف.

أما الصيد الذي يخلو من الفائدة المعتبرة، ولا يكون للصائد هدفٌ منه سوى اللهو واللعب، وهو الذي يقال له «الصيد اللهوي»، فهو أمر ينبغي عدم صدوره من المسلم المؤمن، وعليه أن يتجنبه وإن لم يكن مأثوماً بفعله؛ نعم إذا كانت الآلة التي يقتل بها الحيوان لها ذخيرة ذات ثمن وقيمة، مثل الرصاص المستحدث، فإن صرفها في الاصطياد اللهوي يعد إسرافاً محرماً وتبذيراً مذموماً.

ومن جهة أخرى، فإن الشريعة لم تسوِّغ للمصطاد لهواً ـ رغم حليته ـ قصر الصلاة في سفره هذا بالنحو الذي سبق ذكره في أحكام صلاة المسافر، ربما لأنها لا تحترم مثل هذا السفر العابث، ولا تقدر تعب فاعله.

مسألة 82: يجب أن يلتفت الصائد إلى ضرورة المحافظة على أملاك الغير التي قد يمر فيها أو بجانبها، فلا يطلق رصاصه على شجرة محترمة تتضرر أغصانها به، أو يدوس على زرع فيتلفه، أو يتسور ويدخل إلى أرض مسورة، فإن في جميع ذلك عدواناً محرماً على أملاك الغير إذا لم يأذنوا مسبقاً بذلك ويرضوا به؛ كذلك فإن في بعض الدول قوانين ومحميات لتنظيم الصيد والمحافظة على الثروة الحيوانية، فينبغي للمؤمن أن يلتزم بها ويحافظ عليها، بل إنه ربما حرُم الاصطياد فيها إذا كان يؤدي إلى إبادة الحيوانات المحمية.

ثم إننا بعدما أشرنا في هذا التمهيد إلى أن الصيد تارة يكون بالآلة الجمادية، وأخرى يكون بواسطة الحيوان المعلَّم، فإننا ـ فيما يلي ـ يجب أن نذكر الأحكام المتعلقة بهما في ثلاثة فروع، وذلك على النحو التالي:

الفرع الأول ـ في الصيد بالآلة:

وهو الأسلوب الأكثر شيوعاً، والكلام فيه يقع:

أولاً ـ في آلة الصيد:

مسألة 83: يتحقق الصيد بكل آلة جارحة، سواء كانت حادة كالسيف والسكين، أو كانت شائكة كالسهم والرمح، أو كانت مدوّرة، وكانت مما ينفذ ويخرج بقوة الضغط، كحبات (الخردق) الموجودة في قذيفة البنادق الحديثة المستخدمة في الصيد؛ وكذلك لا فرق في الشائك بين ما كان له رأس رفيع ينفذ بسهولة، كرأس السهم، وبين ما كان له رأس مدبب ينفذ ويجرح بقوة الضغط، وذلك مثل رأس قاذف رصاصة البندقية الحربية. هذا، ولا يشترط في آلة الصيد أن تكون من معدن معين، فيصح أن تكون من معدن الحديد أو من غيره من المعادن، كالنحاس والفضة وغيرهما، بل إنه يصح أن تكون من الأحجار أو الأخشاب إذا صنعت وصقلت بطريقة تجعلها بنفسها جارحة لبدن الحيوان الذي تقع عليه، فضلاً عما لو كان في رأسها حديدة.

مسألة 84: لا بد من تحقق الجرح فعلاً في بدن الحيوان المصطاد بتلك الآلة كي يحل أكله، فلا يكفي اصطدام الآلة به ووقوعه ميتاً نتيجة تلك الصدمة إذا لم تحدث فيه جرحاً، حتى لو كانت الآلة مثل السيف والرمح، فضلاً عما لو كانت مثل الخشبة المروّسة.

مسألة 85: كل آلة لا يصدق عليها السلاح، أو ليس من شأنها أن تجرح، مما ليس قاطعاً ولا شائكاً لا يحل بها ما يموت من الصيد، وذلك مثل: الحجارة والعمود والعصا غير المروسة والشبكة ونحوها من الأدوات؛ بل لو فرض صدق السلاح على بعض الآلات غير القاطعة مما يستخدم في الحرب كالعمود، فإنه لا يحل صيده بمجرد ذلك، لفقدانه شأنية الجرح حتى لو جرح صدفة.

مسألة 86: يجب العلم باستناد موت الحيوان إلى ذلك الرمي، فلو رماه فوقع من شاهق أو سقط في الماء فمات من ذلك لا من الرمية لم يحل، وكذا لو شك في كونه هل مات من الرمية أو من غيرها لم يحل.

ثانياً ـ في الصائد:

مسألة 87: يشترط في حلية الصيد تحقق أمور من قِبَل الصائد، وهي:

الأول: أن يكون الصائد مسلماً إجمالاً، ولا فرق في المسلم بين الرجل والمرأة، ولا بين المؤمن والمخالف في المذهب، فإن كان الصائد كافراً من غير أهل الكتاب لم يحل صيده ولو سمى، أما صيد أهل الكتاب فيحرم من دون تسمية، فإذا سمى على الصيد كانت حرمته مبنية على الاحتياط، ولا يبعد الحل به.

الثاني: قصد الاصطياد بالرمي، فلو لم يكن الرامي بصدد الاصطياد، كما لو كان يتدرب على الرماية على هدف أمامه فمر الصيد صدفة فأصابه، أو كان يرمي على عدو أو حيوان أهلي فأصاب صيداً، لم يحل ذلك الصيد؛ وكما يجب قصد أصل الاصطياد بالرمي فإنه يجب ـ على الأحوط ـ قصد خصوص الصيد المحلل، فلو رمى على خنزير أو كلب فأصاب غزالاً فقتله لم يحل ذلك الغزال، بل عليه تجنب الطريدة من باب الاحتياط الوجوبي أيضاً فيما لو اعتقد أن ذلك الحيوان خنزير فرماه فتبيّن أنه غزال؛ نعم لا يشترط في الحلية قصد نوع محلّل بخصوصه، فلو كان يرمي على طائر فأصاب غزالاً حلّ، فضلاً عما لو قصد صنفاً من الطيور فأصاب غيره، أو قصد طائراً بخصوصه فأصاب المجاور له من نفس الصنف.

الثالث: صدور التسمية وذكر الله تعالى من الصائد، وذلك إما عند إطلاق الرمية أو بعد إطلاقها ولكن قبل الإصابة، وأكمله ذكر لفظ الجلالة مقترناً بالتعظيم، مثل «الله أكبر» أو «بسم الله»، ويمكن الاكتفاء بمجرد ذكر لفظ الجلالة، وإن كان الأحوط استحباباً عدم كفايته؛ والتسمية شرط عند الالتفات؛ فإذا تعمد ترك التسمية حرم صيده، وإذا سهى عن ذلك لم يحرم.

الفرع الثاني ـ الصيد بالحيوان:

استخدم الإنسان بعض الحيوانات المدربة في اصطياده لسائر الحيوانات والطيور، والمشهور منها الكلب من الحيوانات والباز والصقر من الطيور، وذلك بعدما دربها وأخضعها له، ولمعرفة حكم هذه الوسيلة في الاصطياد لا بدّ من ذكر مسائل:

مسألة 88: مثلما يجوز الاصطياد بالكلب من الحيوانات البرية كذلك يجوز بغيره من أصناف الحيوانات الأخرى، مثل النمر والفهد، وكذا يجوز بغير الحيوان البري من الطيور، مثل الباز والباشق والصقر وغيرها، بالشروط التي سنذكرها؛ ومعنى حلية الاصطياد بها هو: أن الصيد الذي تصيبه يحلُّ أكله إذا أدركه صاحبه ميتاً من دون حاجة إلى ذبحه ليصير حلالاً.

مسألة 89: يجب توفر أمور عند الاصطياد بكلِّ حيوان يستخدم لذلك، وسوف نجعل محور الكلام هو الكلب لأنه أشهرها، ولأنّ ما ينطبق عليه ينطبق على غيره، وهذه الأمور هي:

الأول: أن يكون الكلب مُدرّباً ومعلّماً على الاصطياد، ويتحقق ذلك عندما يكون الكلب مطيعاً للصائد، فإذا أرسله وأغراه بالطريدة تحمَّس وانبعث إليها، وإذا زجره واستوقفه توقف وانزجر، وبما أنه قد يصعب انزجار الكلب مباشرة بعد إرساله، فإنه لا يجب وصوله في الطاعة إلى هذه الدرجة، بل يكفي انزجاره في غير هذه الحالة؛ كذلك فإنه يجب أن يتوفر في الكلب المدرب ميزة عدم الأكل الدائم للطريدة التي يمسكها إذا كانت مما يمكن أن يأكله الكلب عادة، وإلا لم ينتفع منه صاحبه في الغاية التي علّمه من أجلها، بل إنه بفقده لهذه الميزة يصير كأنه غير معلَّم ولا مدرَّب، نعم لا ينافي ذلك ما لو حصل منه الأكل أحياناً كثيرة، إذ المهم ـ في المقام ـ أن لا يكون دائم الأكل.

الثاني: أن يقصد الصائد الاصطياد بإرسال الكلب، فلو أرسله لأمر آخر غير الاصطياد، كمطاردة عدوّ فاصطاد حيواناً لم يحل صيده، وكذا لو استرسل بنفسه فصاد لم يحل أيضاً؛ هذا، وكما ذكرنا في الصيد بالآلة، فإنه لا يجب قصد صيد حيوان معين ما دام الذي بعثه إليه وقصده به حيواناً محللاً، فلو بعثه لاصطياد غزال فاصطاد طائراً حل، وأما إذا أرسله لاصطياد خنـزير فاصطاد غزالاً لم يحل.

الثالث والرابع والخامس: يشترط في صيد الكلب أن يكون المرسل مسلماً إجمالاً، وأن يسمي قبل الإصابة، وأن يستند موت الحيوان إلى جرح الكلب أو عقره، وجميع ذلك بنفس التفاصيل التي مرّت في الصيد بالآلة؛ نعم إذا جلب الكلبُ الطريدة ميتة، ولم يوجد فيها أثر الجرح، فإن شُك في سبب موتها لم تحل، وإن علم موتها مختنقة بسبب إمساك الكلب فهي حلال.

الفرع الثالث ـ في الأحكام المشتركة:

مسألة 90: لا يشترط في حلية الصيد كون الوسيلة مباحة، فلو غصب كلباً أو بازياً أو سلاحاً فاصطاد به حل صيده وإن أثم بالتصرف بمال غيره.

مسألة 91: لا يشترط في حلية الصيد وحدة الصائد ولا وحدة الآلة، فلو اشترك اثنان في إطلاق الرصاص على هدف واحد فأصاباه حلّ، أو أرسل اثنان كلباً واحداً، أو أرسل واحد عدة كلاب، أو أطلق واحد رصاصاً وأرسل الآخر كلباً، فإنه في جميع الحالات المتصورة يحل الصيد بذلك إذا تحققت سائر الشروط المعتبرة؛ وهنا لا بد من ملاحظة أنه إذا تعدد الصائد والآلة واستند الموت إلى فعل الاثنين معاً فإنه لا بد من اجتماع الشروط فيهما، فلا يحل الصيد إذا أرسل مسلم وكافر كلبين، أو إذا سمى أحدهما ولم يسمِّ الآخر، أو فيما لو كان كلب أحدهما معلَّماً وكلب الآخر غير معلـم، وهكذا، أما إذا استند موت الصيد ـ في مثل هذه الحالات ـ إلى أحدهما بعينه فإنه يُرى اجتماع الشروط فيه وحده دون صاحبه الذي شاركه.

مسألة 92: إنما يحل الحيوان بالصيد بالحيوان أو بالآلة إذا أدركه الصائد ميتاً بعد إصابته وجرحه من قبل الكلب أو الآلة، فلو أدركه الصائد وبه رمق من الحياة وجب عليه أن يبادر إلى تذكيته بالذبح إذا اتّسع الوقت، فإن لم يذبحه ومات مع سعة الوقت لم يحل الصيد، ومن موارد عدم اتساع الوقت ما لو اشتغل بمقدمات الذبح، كتناول السكين وتوجيهه ورفع الشعر عن رقبته ونحو ذلك، فمات قبل ذبحه حل؛ ومعنى إدراكه حياً أن يصل إليه ويقدر على إمساكه، فلو وصل إليه لكنه كان معلقاً على شجرة أو كان ما يزال يعدو أمامه، فإنه إذا مات قبل أن يمسكه ـ والحالة هذه ـ يحل؛ كما أن حياته تتحقق بأن يجده وهو يطرف بعينه أو يحرك رجله أو يده أو ذيله، وهو أدنى مراتب الحياة، فإن وسع الزمان فذكاه وهو كذلك فقد حل، وإن لم يذكه فمات حرم.

مسألة 93: لا يجب على الصائد اللحاق بالكلب حين إرساله، ولا المبادرة إلى الصيد حين إصابة الكلب أو الآلة له إذا كان الصيد ما يزال ممتنعاً غير عاجز، من أجل المسارعة لإدراكه حياً وتذكيته بالذبح؛ وكذلك لا تجب المسارعة بعد إعجاز الصيد وإيقافه من قبل الكلب أو الآلة إذا علم لطول المسافة ونحوها بأنه لن يدركه حياً، أما إذا احتمل إدراكه حياً فإن عليه المسارعة إليه برجاء إدراكه حياً وتذكيته بالذبح.

مسألة 94: إذا أصاب الكلب أو الآلة عضواً من الصيد كيده أو رجله فقطعه لم يحل ذلك العضو المقطوع إذا فاته الحيوان، فإن عجز الحيوان بذلك ووقف فمات من هذه الإصابة قبل إدراكه حياً حل أكله وأكل العضو المنفصل عنه، وإن أدركه حياً ذكاه بالذبح وحل كذلك بالنحو المتقدم؛ أما إذا قطعه الكلب أو الآلة نصفين فمات قبل إدراكه حل النصفان جميعاً، وإن أدركه حياً واتّسع الوقت لذبحه لم يحل منه إلا النصف الذي فيه الرأس والرقبة بعد ذبحه وحرم النصف الآخر؛ وأما إذا كانت آلة الصيد غير السلاح والكلب، بل مثل الفخ، فقطعه نصفين حين أطبق عليه، فإن النصف الذي ليس فيه الرأس والرقبة حرام على كل حال، ولا يحل النصف الذي فيه الرأس والرقبة إلا بالذبح.

مسألة 95: إذا تردّى الحيوان الأهلي في بئر أو علق في مكان ضيق ولم يمكن ذبحه أو نحره، وخيف موته هناك، أمكنه تذكيته بعقره في غير موضع الذبح برمح أو سكين أو بإطلاق الرصاص عليه أو بغيرها مما يجرح ويقتل، فإذا مات بعد جرحه يصير مذكى، فيطهر ويحل أكله إذا توفرت سائر الشروط في العاقر، كالتسمية ونحوها، والأحوط وجوباً عدم حليته بالعقر بالكلب فيختص الحل بالآلة وحدها.

المطلب الثاني ـ في صيد السمك والجراد:

كنا قد بيّنا في مبحث سابق حليّة جميع الأسماك والحيوانات البحرية. كما كنا قد ذكرنا أن ما أحلّ الله تعالى أكلَه من حيوانات البر والبحر والجو، مشروطٌ بموته مذكى بالصيد أو الذباحة، ومن ذلك السمك والجراد، ولكن حليتهما لا تكون إلا بالصيد بطريقة خاصة، وهي التي سنذكر أحكامها في فرعين على النحو التالي:

الفرع الأول ـ في صيد السمك:

وفيه مسائل:

مسألة 96: يحل السمك بالسيطرة عليه حياً والإمساك به باليد نفسها أو بما تمسك به اليد من رمح أو صنارة أو نحوها مما يُتناول به الحيوان ويُعجز، أو بالسيطرة عليه بالطرق غير المباشرة، مثل وقوعه في الشبكة أو في حظيرة أو جعله يقفز على لوح طاف أو سفينة متوقفة بطريقة خاصة ومعدّة للصيد، أو بدفعه إلى مكان معين ثم إفراغه من الماء، ونحو ذلك من الوسائل التي لا تستخدم فيها اليد مباشرة، بل يحل السمك بالأخذ حتى في صورة ما لو قفز بنفسه إلى البر أو إلى السفينة فأمسك به الصائد، فإن لم يتحقق الاصطياد بواحدة من الطرق المذكورة ولا بغيرها مما أشبهها لم يَحلّ به السمك، فلا يحل به ـ مثلاً ـ ما يلتقط من السمك الميت داخل الماء أو الطافي على وجه الماء، ولا ذلك الذي يقفز خارج الماء أو ينحسر عنه الماء فيموت في الحالتين قبل الإمساك به حتى لو وقع النظر عليه وهو يضطرب خارج الماء.

مسألة 97: لا يشترط في حلية السمك المصطاد بالنحو الذي سبق أن يتحقق موته خارج الماء، بل إن من اصطاد سمكة في داخل الماء فماتت فيه حلت له، وذلك كأن يطعنها برمح فتموت في داخل الماء من الطعنة، أو يخرج شبكته من الماء فيجد عدداً منها أو كلها قد مات في داخل الماء، بل إنه لو وضع شبكته في الماء فدخلها السمك فانحسر الماء عن ذلك الموضع ومات ما في الشبكة، حُكِم بحليته، وهكذا نحوها من الحالات؛ ويقابل ذلك ما سبق ذكره من أن السمك إذا خرج حياً بنفسه فمات قبل أخذه لم يحل رغم أنه مات خارج الماء؛ وبذلك يمكن وضع القاعدة التالية: «إن ما يقع من السمك حياً في آله الصيد أو باليد يكون مذكى حتى لو مات في الماء، وما لا يؤخذ كذلك لا يكون مذكى حتى لو مات خارج الماء».

مسألة 98: إذا قسمت آلة الصيد السمكة نصفين حل النصفان كلاهما، أما لو قطعت بعضاً منها لم يحل ذلك الجزء الذي انفصل عنها قبل أخذها.

مسألة 99: إذا عاد السمك إلى الماء بعد خروجه منه فمات فيه لم يحل، وكذا لا يحل لو ربطه بحبل أو وضعه في سلة وأرجعه إلى الماء بعدما كان قد أخرجه منه فمات في داخل الماء على هذا النحو.

مسألة 100: إذا ألقى في الماء مادة مخدرة فطفا السمك على الماء لم يعتبر ذلك صيداً له إذا لم يمسك به، فإذا مات وهو على هذه الحالة قبل أخذه لم يحل أكله.

مسألة 101: لا يعتبر في حلية السمك كون الصائد مسلماً، فلو صاده غير المسلم من أهل الكتاب أو من غيرهم، بالنحو الذي ذكرناه صار مذكى وحلّ أكله، كذلك لا تجب التسمية عند أخذه من الماء، بل يحل السمك بأخذه واصطياده بتسمية أو بدون تسمية؛ نعم لا يُصدَّقُ غير المسلم إذا أخبر بأنه مذكى إلا إذا حصل العلم أو الاطمئنان بالتذكية أو بصدقه، أو أخبر المسلم الثقة بكون ما في يد الكافر مذكى، أما ما يؤخذ من المسلم فإنه لا يجب السؤال عن تذكيته ويعتبر مذكى إلا إذا كان المسلم قد أخذه من الكافر فإنه لا يعتبر مذكى حتى يشهد المسلم بتذكيته.

مسألة 102: لا يشترط في جواز أكل السمك تحقق موته بعد أخذه، فيجوز أكله حياً، فضلاً عن أنه يجوز فعل ما يسبب له الموت عند تحضيره للطهي، كأن يقطع رأسه، أو يضعه على نار الشواء وهو حي، و نحو ذلك.

الفرع الثاني ـ في صيد الجراد:

مسألة 103: الجراد هو الحشرة المعروفة، غير أنه لا يؤكل منه إلا ما استقل بالطيران دون الصغير الذي ما يزال بلا جوانح؛ ولا يحل أكله إلا بعد اصطياده وأخذه حياً باليد أو بآلة مناسبة لاصطياده، فإن لم يأخذه حياً لم يحل، سواء وجده ميتاً بنفسه، أو بفعل اشتعال النار واحتراقه فيها ولو بقصد صيده، أو بغَرقه في موْحَلة أو نحو ذلك من أسباب الموت الطارىء؛ نعم لو فرض كون النار آلة لصيد الجراد، بحيث لو أججها اجتمعت من الأطراف وألقت نفسها فيها، فأججها لذلك فاجتمعت واحترقت فإنه يحل ما احترق فيها، لكونها من آلات الصيد حينئذ، كالشبكة والحظيرة للسمك.

مسألة 104: حكم الجراد كحكم السمك في عدم اشتراط التسمية حين أخذه، ولا إسلام الصائد، ولا انتظار موته ليؤكل؛ كذلك فإن حكمهما واحد في عدم تصديق الكافر إذا أخبر بذكاته إلا بالنحو المتقدم.

المطلب الثالث ـ في الذباحة والنحر:

لقـد صـار لزامـاً علينا ـ بعدمـا أتممنا الكلام في «الصيد» كسبب أول ومستقلّ في التذكية ـ أن نستعرض في هذا المطلب أحكام الذباحة كسببٍ ثان ومستقلّ ـ أيضـاً ـ في التذكيـة؛ وحقيقـة الذباحـة ـ ومعها النحر ـ أنها: (إماتة الحيوان بإسالة دمه واستنـزافه حتى تزهق روحه)، وذلك بطريقتين:

الأولى ـ الذبح: وهو قطع ما يصطلح عليه بـ «الأوداج الأربعة»، وهي: عرقا الدم الرئيسان الأيمن والأيسر الموجودان في الرقبة، والحلقوم، وهو مجرى الهواء، والمريء، وهو مجرى الطعام، وهي التي تتجمع في أعلى الرقبة عند نقطة الاتصال بالرأس؛ فإذا قطعت هذه الأوداج بشروط معينة صار الحيوان بها مذكى، وحكم بطهارته وجواز أكله إن كان مأكول اللحم، وهذه الطريقة يذكى بها كل حيوان غير الجمل من حيوانات البر الأهلية أو الوحشية ومن الطيور. أما الأسماك والحشرات والزواحف فلا يتحقق فيها الذبح ولا النحر لاختلافها تكويناً وخلقاً عن سائر الحيوانات القابلة لذلك.

الثانية ـ النحر: وهو طعن الجمل خاصة في لُبّته، و(الُلبّة) هي: (نقطة التقاء رقبته بصدره)، فإذا طعن فيها الجمل بشروط معينة صار مذكى وحكم بطهارته وجواز أكله.

ويجب أن يعلم أن ذبح الجمل لا يغني عن نحره ولا تتحقق ذكاته بالذبح وحده، كذلك فإن غير الجمل لا يغني نحره ولا يصير مذكى بمجرد النحر من دون ذبح، نعم لا يضر ذبح الجمل بقطع أوداجه ثم إتباع ذلك، فوراً وقبل موته، بنحره في لبته، وكذا فإنه لا يضر نحر غير الجمل ثم إتباع ذلك فوراً بذبحه.

ولما كانت شروط الذبح والنحر وأحكامهما واحدة، فإننا سنذكر ذلك في فروع:

الفرع الأول ـ في شروط الذبح والنحر:

يشترط في تحقق التذكية بالذبح أو النحر أمور:

الأول: يتحقق الذبح من كل مسلم، ذكر أو أنثى، مؤمن أو فاسق أو مخالف، مختار أو مكره، لأن المهم هو تحقق الذبح بالشروط المعتبرة من واحد من هؤلاء، أما الكافر فإنه إن كان ملحداً لا يؤمن بالله تعالى ولا يتصور صدور التسمية منه فإن ذبيحته لا تحل أبداً، وإن كان ممن يؤمن بالله تعالى، فإن كان من غير أهل الكتاب لم تحل ذبيحته أيضاً حتى لو سمى على الأحوط وجوباً، وإن كان من أهل الكتاب حلت ذبيحته إذا سمى، وإن كان الأحوط استحباباً تجنبها.

مسألة 105: لا يشترط في أصل الذبح بلوغ الذابح سن التكليف، نعم يستشكل في أمره من ناحيتين: الأولى: من جهة صدق كونه مسلماً، فإن ولد المسلم لا يلحق بأبيه في الإسلام مطلقاً، إلا أن يُربّى وتُوضّح له الأمور بالنحو الذي يصدق عليه أنه ولد مسلم، فتصح ذبيحته من هذه الناحية حينئذ؛ والثانية: من جهة إمكان عدم تحقق القصد منه لصغره، فإن كان في سن يتحقق فيها القصد منه ويعي ما يفعل حلت ذبيحته ولو لم يكن بالغاً.

الثاني: يجب أن يتمتع الذابح بدرجة من الشعور يتحقق معها القصد إلى الفعل والوعي له، فلا تحل ذبيحة من وقعت السكين من يده فذبحت الحيوان، ولا ذبيحة الصغير الذي لا يتحقق منه القصد، أما المجنون والسكران فإن ذبيحتهما تحل إذا كان عندهما مرتبة من الوعي يتحقق فيها القصد، وإلا لم يصح منهما.

الثالث: استقبال القبلة بالذبيحة حال الذبح، فإن أخل بالاستقبال عالماً عامداً حرمت، وإن كان نسياناً أو للجهل بالاشتراط أو خطأً منه في جهة القبلة، بأن وجهها إلى جهة معتقداً أنها القبلة فتبين الخلاف، لم تحرم في جميع ذلك؛ وكذا تحل الذبيحة ـ أيضاً ـ إذا لم يعرف القبلة، أو لم يتمكن من توجيهها إليها ولو بالاستعانة بالغير واضطر إلى تذكيتها في حالتها تلك، كالحيوان المستعصي أو المتردي في البئر ونحوه.

مسألة 106: إذا خاف موت الذبيحة لو اشتغل بالاستقبال بها إلى جهة القبلة فالظاهر عدم لزومه.

مسألة 107: لا يشترط في الذبح استقبال الذابح نفسه وإن كان ذلك أحوط.

مسألة 108: يتحقق استقبال الحيوان فيما إذا كان قائماً أو قاعداً بما يتحقق به استقبال الإنسان حال الصلاة في الحالتين، وأما إذا كان مضطجعاً على الأيمن أو الأيسر فيتحقق باستقبال المنحر والبطن، ولا يعتبر استقبال الوجه واليدين والرجلين.

الرابع: تسمية الذابح عليها حين الشروع في الذبح أو متصلاً به عرفاً، فلا يجزىء تسمية غير الذابح عليها، كما لا يجزىء الإتيان بها عند مقدمات الذبح كربط المذبوح؛ وإذا ترك التسمية عمداً حرمت وإذا تركها نسياناً أو جهلاً لم تحرم.

مسألة 109: يعتبر في التسمية وقوعها بهذا القصد، أي بعنوان كونها على الذبيحة بداعي الذبح، فلا تجزىء التسمية الاتفاقية أو الصادرة لغرض آخر، ولا يعتبر أن يكون الذابح ممن يعتقد وجوبها في الذبح، فيصح الذبح من غير المعتقد إذا كان قد سمّى.

مسألة 110: يجوز ذبح الأخرس، ويُكتفى في تسميته بتحريك لسانه وشفتيه تشبيهاً لمن يتلفظ بها مع ضم الإشارة بالأصبع إليه، هذا في الأخرس الأصم من الأول، وأما الأخرس لعارض مع التفاته إلى لفظها فيأتي به على قدر ما يمكنه، فإن عجز حرّك لسانه وشفتيه حين إخطاره بقلبه، وأشار بإصبعه إليه على نحوٍ يناسب تمثل لفظها إذا تمكن منها على هذا النحو، وإلا فبأي وجه ممكن.

مسألة 111: تتحقق التسمية بذكر الله تعالى مقروناً بلفظ من ألفاظ الثناء والتعظيم، مثل «الله أكبر» و«بسم الله» ونحو ذلك، بل يكفي ذكر لفظ الجلالة وحده من دون إضافة شيء إليه. وقد سبق ذكر ذلك في شروط الصيد المتقدمة.

الخامس: تحَقُّقُ قطع الأوداج بكل ما يقطعها من الآلات المعدنية الحادة، سواء في ذلك معدن الحديد أو غيره من المعادن، كالنحاس والذهب والفضة ونحوها، فضلاً عن أنه يجوز الذبح بالحديد المطلي ببعض المعادن الأخرى، مثل الستيل ونحوه.

وإذا لم يوجد المعدن جاز الذبح بكل ما يقطع الأوداج من غيره، حتى لو لم يكن هناك ضرورة تدعو للاستعجال في الذبح، كالخوف من تلف الحيوان وموته بالتأخير، فيصح الذبح بالقصب والخشب والحجارة الحادة والزجاجة ونحو ذلك. أما الذبح بالظفر والسن فلا تحل به الذبيحة ولو كان للضرورة.

السادس: قطع الأوداج الأربعة، وهي ـ كما تقدم ـ: عرْقا الدم الرئيسان الواقعان في جانبي الرقبة، والحلقوم والمريء؛ ولا يغني شقها وقطعها جزئياً عن القطع التام الكلي، كذلك فإنه يجب قطع الأربعة جميعها، فلا يغني قطع الحلقوم عن قطع سائر الأوداج، ولا غيره عن غيره؛ ولا بد من حدوث هذا القطع أثناء حياة الحيوان بنحو يستند الموت إلى قطع الأوداج الأربعة بتمامها، فلو قطع بعضها فمات الحيوان ثم قطع الباقي لم يحل.

مسألة 112: قد أفاد أهل الخبرة أن القطع من فوق «الجوزة» بالنحو الذي تبقى الجوزة فيه مع الجسد لا يعتبر قطعاً لتمام الأوداج وإن مات الحيوان به، فاللازم القطع من تحت الجوزة كي تبقى مع الرأس ويتحقق بها قطع الأوداج، لكنّ الذابح إذا أخطأ فذبح الحيوان من فوق الجوزة فالتفت وبادر إلى ذبحه من تحتها قبل موته صحّ ذبحه وحلّ به.

مسألة 113: إذا طرأ حادث على الحيوان استلزم إشرافه على الهلاك، كأن مرض أو افترسه سبع أو أصيب بجرح بالغ أو نحو ذلك، فحالـه ـ حينئـذ ـ على نحوين: الأول: أن تبقى أوداجه سليمة، فيحل بالذبح ولو لم تعلم حياته إلا من حركة يده أو طرفة عينه. الثاني: أن يستلزم ذلك الحادث تمزق بعض أوداجه، فإذا أدركه حياً وقطع بالذبح باقي الأوداج حل كذلك، أما إذا سبّب الحادث قطع أوداجه الأربعة فإنه لا يحل بإمرار السكين عليها بعد انقطاعها كلها.

مسألة 114: يجوز قطع الأوداج من القفا وتحل به الذبيحة، وإذا قطع الأوداج من جهة المذبح فإنه يجوز غرز السكين في رقبة الحيوان تحت العروق ثم تحريكها إلى الأمام لقطع الأوداج بها، وتحل بذلك الذبيحة أيضاً.

مسألة 115: ينبغي أن لا يستمر الذابح في حز المذبح حتى يفصل الرأس عن الجسد، فإن فعل ذلك عمداً لم تحرم به الذبيحة ولم يأثم وإن كُرِه منه ذلك، ولا شيء فيه لو حصل سهواً أو لحدة السكين.

ومن ذلك ما لو استمر في الحز حتى أصاب نخاعها، و(النخاع) هو: (الحبل الممتد من الرأس في الرقبة نزولاً في سلسلة الظهر)، فإنه يكره تعمد ذلك ولا تحرم به الذبيحة.

مسألة 116: ما ذكر في قطع الأوداج الأربعة إنما هو خاص بما يقبل الذبح من الحيوانات، وهي ـ كما سبق القول ـ ما عدا الجمل من حيوانات البر الأهلية أو الوحشية ومن الطيور أيضاً، أما الجمل فقد أشرنا سابقاً إلى أنه ينحر نحراً، وكيفية النحر هي: أن يدخل الآلة الحادة من سكين أو غيرها في الموضع الذي يقال له (لُبَّة)، وهو الذي قلنا سابقاً: «إنه الموضع المنخفض الواقع في أعلى الصدر متصلاً بالعنق»، بدون فرق بين أن تكون قائمة أو باركة أو ساقطة على جنبها، والأفضل نحرها قائمة.

وقد قلنا ـ أيضاً ـ: «إن النحر لا يغني عن الذبح في غير الجمل، وإن الذبح لا يغني عن نحر الجمل»، كذلك فإنه يشترط في النحر جميع ما يشترط في الذبح عدا قطع الأوداج الذي يكون بديله في النحر هو الطعن في اللبة لا غير.

الفرع الثاني ـ في ذكاة الجنين:

وفيه مسائل:

مسألة 117: تختلف ذكاة الجنين على النحو التالي:

1 ـ إذا خرج الجنين من بطن أمه حياً، واتسع الوقت لتذكيته لم يحل إلا بالذبح أو النحر، سواء كانت أمه حية أو ميتة، وسواء ماتت بالتذكية أو بدونها.

2 ـ إذا مات الجنين في بطن أمه عند موتها، فإن ماتت بالتذكية حل معها، وإن ماتت بغيرها لم يحل، وكذا لو أخرج حياً عند موتها فمات قبل أن يتسع الوقت لتذكيته.

مسألة 118: لا تجب المبادرة إلى شق بطن الحيوان بعد ذبحه وإخراج الجنين منه على الوجه المتعارف، فلو توانى عن ذلك زائداً على المقدار المتعارف فأدّى ذلك إلى موت الجنين لم يحرم أكله.

مسألة 119: يشترط في حلّ الجنين بذكاة أمّه أن يكون تام الخلقة، ويعرف ذلك بنبات الوبر أو الشعر على جسده حتى لو لم تكن قد ولجته الروح بعد، فإن لم يكن تام الخلقة لم يحل بذكاة أمّه.

مسألة 120: لا فرق في ذكاة الجنين بذكاة أمه بين محلل الأكل ومحرمه إذا كان مما يقبل التذكية.

الفرع الثالث ـ في الأحكام العامة:

وفيه مسائل:

مسألة 121: لا يشترط خروج الدم بعد الذبح أو النحر بالكمية المتعارفة له، وكذا لا يشترط تحرك شيءٍ من الحيوان بالذبح أو بعده، بل الأصل في ذلك ـ كما سبق القول ـ العلم بحياته حين ذبحه أو نحره، فإن لم تُعلم حياته حين تقديمه للذبح لم يحل أكله إلا إذا ظهرت عليه أمارات الحياة، كأن خرجت منه بعد ذبحه كمية الدم المتعارفة أو حرَّك أجفان عينيه أو شيئاً من أطرافه، حيث يكتفى بإحدى هاتين العلامتين في استكشاف حياة الحيوان وحليّته بالذبح أو النحر.

مسألة 122: إذا فُعِلَ بالحيوان بعد ذبحه ما يَستلزم موتَه لو حدث مستقلاً عن الذبح، كأن يذبحه ثم يبادر هو أو غيره إلى شق بطنه واستخراج أمعائه مثلاً، فإنه يحكم بحلية الذبيحة إذا كان موتها مستنداً إلى ذبحها لا إلى شق بطنها الذي هو مجرد أمر طارىء غير مؤثر كثيراً في موتها، وإلا لم تحل الذبيحة؛ نعم قد يحكم بحرمة هذا الفعل إذا استلزم تعذيب الحيوان أو التشنيع على الإسلام في ظروف خاصة.

أما إذا تردّى الحيوان من نفسه بعد ذبحه في بئر أو وقع من شاهق أو سقط في الماء بحيث ساعد ذلك كثيراً أو قليلاً على موته فإنه لا يحرم بذلك، خلافاً لما ذكر في الحيوان المصطاد. (أنظر المسألة 86).

مسألة 123: لا يعتبر اتحاد الذابح أو الناحر، فيجوز وقوع الذبح من اثنين على سبيل الاشتراك مقترنين بأن يأخذا السكين بيديهما ويذبحا معاً، أو يقطع أحدهما بعض الأعضاء والآخر الباقي، دفعة أو على وجه التدريج، ولا تجب التسمية منهما معاً بل يجتزأ بتسمية أحدهما على الأقوى.

مسألة 124: قلنا في مستهل هذا البحث: «إن الحيوان المحلل يحل أكله بعد تذكيته بالصيد أو الذباحة»، وهنا نزيد على ذلك فنقول: إن حلية الحيوان بهذين الأمرين لا تشمل جميع أجزاء الحيوان، بل يحرم منه أمور هي:

1 ـ الدم، ولو كان قليلاً، كمثل الذي يتخلّف ويبقى في داخل القلب أو الكبد.

2 ـ غائطه المتخلف في داخله، ويقال له: «الروث» في المواشي، و«السلح» في الطيور.

3 ـ العضو التناسلي، وهو القضيب والبيضتان من الذكر؛ والفرج ظاهره وباطنه من الأنثى، والمثانة.

4 ـ المشيمة، وهي موضع الولد.

5 ـ العَصَبان الممتدان من الرقبة على جانبي سلسلة الظهر ما بينها وبين الجلد وصولاً إلى الذَنَب، ويقال لهما: (العلباوان) مفردها (علباء)، وهي حبل أبيض قاسٍ جداً.

6 ـ خرزة الدماغ، وهو حبة تشبه الحمّص وبقدرها، يميل لونها إلى البني الغامق، وتوجد في أسفل الدماغ.

7 ـ النخاع الشوكي، وهو حبل أبيض طري يمتد في داخل سلسلة الظهر من الرقبة إلى الحوض.

8 ـ الغدد، ويقال لها: «الدّرن»، وهي كتل من اللحم لونها رمادي، وتتواجد في أماكن مختلفة من الجسم، وأكثر ما توجد في الدهن الذي يكون مع الرئتين، والمعروف في بعض البلدان بإسم «المعلاق».

9 ـ الطحال، 10 ـ المرارة، 11 ـ حدقة العين، وهي «البؤبؤ».

وما عدا ذلك فهو حلال، بما في ذلك الغضروف والأمعاء؛ وإن كان يكره الكلى وأذنا القلب؛ وأما ما لا يعتاد أكله، كالعظم والجلد من الحيوان، فإن الأحوط الأولى تركه، ولا بأس بما كان منهما من الأسماك والطيور.

ثم إنه لا يختلف الحكم بحرمة هذه الأجزاء بين ما هو موجودٌ منها في حيوان البر وبين الموجود منها في حيوان الجو أو البحر من الطيور والأسماك، وإن كان الموجود من هذه الأعضاء في الطيور أقلّ مما في الحيوان، وما في الأسماك منها أقل مما في الطيور.

فائدة في العناية بالحيوان:

لقد اهتمت الشريعة المقدسة للحيوان وأولته رعايتها من جانب كونه مخلوقاً يستحق الرحمة، فحرَّمت على المكلف تعذيبه بمثل حبسه وتركه دون طعام وشراب حتى يموت، سواءً الأهلي منه والوحشي ما دام مأمون الضرر، وسواءً المملوك منه وغير المملوك. كذلك فإنها حثت المكلف على رعاية ما يملكه من حيوان يراد للحمه أو لغيره من المنافع، فأوجبت على المالك حفظه وترك تضييعه بما يؤدي إلى هلاكه وتلفه، وذلك إما بالإنفاق عليه وتقديم ما يلزمه من طعام وشراب ومأوى بالنحو المناسب له، أو بتمكينه من تناول ما يقدر عليه منها بنفسه بالرعي ونحوه مع إكمال ما نقص عليه من قبله، أو بنقله عن ملكه بالبيع أو العارية أو غيرهما لمن يقدر على إكفائه حاجاته. وذلك إضافة إلى ما ورد في الأحاديث الشريفة من استحباب الرفق بالحيوان والنهي عن إيذائه وظلمه.

مسألة 125: ذكر الفقهاء (رضوان الله عليهم) أنه يستحب عند ذبح الغنم أن تربط يداه وإحدى رجليه، وتطلق الأخرى ويمسك صوفه أو شعره حتى يبرد.

وعند ذبح البقر أن تعقل يداه ورجلاه ويطلق ذنبه.

وعند نحر الإبل أن تربط يداها ما بين الخفين إلى الركبتين أو إلى الإبطين وتطلق رجلاها، هذا إذا نحرت باركة، أما إذا نحرت قائمة فينبغي أن تكون يدها اليسرى معقولة.

وعند ذبح الطير أن يرسل بعد الذباحة حتى يرفرف.

ويستحب عرض الماء على الحيوان قبل أن يذبح أو ينحر.

ويستحب أن يتعامل مع الحيوان عند ذبحه أو نحره بنحو لا يوجب أذاه وتعذيبه، وذلك بأن يحدّ الشفرة ويمر السكين على المذبح بقوة، ويجِدَّ في الإسراع، فعن النبي w أنه قال: «إن الله تعالى شأنه كتب عليكم الإحسان في كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القِتْلةَ، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبْحةَ، وليُحدَّ أحدكم شفرته، وليُرِح ذبيحتهُ»، وفي خبر آخر بأنه w أمر أن تُحدّ الشِفار وأن تُوارى عن البهائم.

مسألة 126: يكـره في ذبـح الحيوانـات ونحرهـا ـ كـا ورد فـي جملة من الروايات ـ أمور: منها سلخ جلد الذبيحة قبل خروج روحها، ومنها أن تكون الذباحة في الليل أو يوم الجمعة قبل الزوال من دون حاجة، ومنها أن تكون الذباحة بمنظر من حيوان آخر من جنسه، ومنها أن يَذْبَح ما ربّاه بيده من النعم.

خاتمة: في ما تعرف به التذكية

وفيها مسائل:

مسألة 127: تعرف تذكية الحيوان بالعلم الحاصل من الحس والمعاينة أو غيره من أسباب العلم، وكذا بشهادة العدلين أو العدل الواحد أو الثقة، فإن وُجِدَ الحيوان الذي يقبل التذكية ميتاً، أو وجد شيء منه كلحمه أو جلده، ولم يعلم أنه مذكى أو لا، فإنه يبنى على عدم التذكية، وبالتالي فإنه لا يجوز أكل لحمه ولا استعمال جلده فيما يفرض اعتبار التذكية فيه، ولكن لا يحكم بنجاسته حتى إذا كانت له نفس سائلة ما لم يعلم أنه ميتة، ويستثنى من الحكم المذكور ما إذا وجدت عليه إحدى أمارات التذكية، وهي:

الأولى: يد المسلم، فإنّ ما يوجد في يده من اللحوم والشحوم والجلود إذا لم يعلم كونها من غير المذكى فهو محكوم بالتذكية ظاهراً، ولكن بشرط اقتران يده بما يقتضي تصرفه فيه تصرفاً يناسب التذكية، كعرض اللحم والشحم للأكل، وإعداد الجلد للّبس والفرش، وأما مع عدم اقترانها بما يناسب التذكية كما إذا رأينا بيده لحماً لا يُدرى أنه يريد أكله أو وضعه لسباع الطير مثلاً فلا يحكم عليه بالتذكية، وكذا إذا صنع الجلد ظرفاً للقاذورات مثلاً.

الثانية: سوق المسلمين، فإن ما يوجد فيها من اللحوم والشحوم والجلود محكوم بالتذكية ظاهراً، سواء أكان بيد المسلم أو مجهول الحال، دون ما لو كان بيد الكافر.

الثالثة: الصنع في بلاد الإسلام، فإن ما يصنع فيها من اللحم، كاللحوم المعلّبة، أو من جلود الحيوانات، كبعض أنواع الأحزمة والأحذية وغيرها، محكوم بالتذكية ظاهراً من دون حاجة إلى الفحص عن حاله.

مسألة 128: لا فرق في الحكم بتذكية ما قامت عليه إحدى الأمارات المتقدمة بين صورة العلم بسبق يد الكافر أو سوقه عليه وغيرها إذا احتمل أن ذا اليد المسلم أو المأخوذ منه في سوق المسلمين أو المتصدي لصنعه في بلد الإسلام قد أحرز تذكيته على الوجه الشرعي.

مسألة 129: ما يوجد مطروحاً في أرض المسلمين مما يشك في تذكيته وإن كان محكوماً بالطهارة على الأظهر ولكن الحكم بتذكيته وحليّة أكله محلّ إشكال، ما لم يحرز سبق إحدى الأمارات المتقدمة عليه.

مسألة 130: لا فرق في المسلم الذي تكون يده أمارة على التذكية بين المؤمن والمخالف، وبين من يعتقد طهارة الميتة بالدبغ وغيره، وبين من يعتبر الشروط المعتبرة في التذكية ـ كالاستقبال والتسمية وقطع الأعضاء الأربعة وغير ذلك ـ ومن لا يعتبرها إذا احتمل تذكيته على وفق الشروط المعتبرة عندنا وإن لم يلزم رعايتها عنده، بل الظاهر أن إخلاله بالاستقبال ـ اعتقـاداً منه بعدم لزومه ـ لا يضرّ بذكاة ذبيحته.

مسألة 131: المدار في كون البلد منسوباً إلى الإسلام غلبة السكان المسلمين فيه بحيث ينسب عرفاً إليه ولو كانوا تحت سلطة الكفار، كما أن هذا هو المدار في بلد الكفر؛ ولو تساوت النسبة من جهة عدم الغلبة فحكمه حكم بلد الكفر.

مسألة 132: ما يوجد في يد الكافر من لحمٍ وشحمٍ وجلدٍ إذا احتمل كونه مأخوذاً من المذكّى يحكم بطهارته وكذا بجواز الصلاة فيه على الأظهر، ولكن لا يحكم بتذكيته وحلية أكله ما لم يحرز ذلك، ولو من جهة العلم بكونه مسبوقاً بإحدى الأمارات الثلاث المتقدمة، ولا يجدي في الحكم بتذكيته إخبار ذي اليد الكافر بأنه مذكى، كما لا يجدي كونه في بلاد المسلمين.


 

 

الفصل الثاني

في الثروة المائية

 

المبحث الأول: في ملكية المياه

المبحث الثاني: في حريم الموارد المائية



 

 

تمهيد:

لا يخفى ما للماء من أهمية فائقة في حياة الإنسان، فهو لا يستغني عنه في حاجاته الشخصية وعبادته لله تعالى، وهو أساس في قيام الزراعة ونجاحها، ووسيلة فعالة في الانتقال والنقل بين بلد وآخر، بل وقارة وأخرى. وهذه النعمة الكبرى وفّرها الله تعالى لعباده بطرق شتّى، فهي حين تنزل من السماء تصيب برحمته تعالى بقاعاً عطشى، وتتجمّع في باطن الأرض راكدةً أو جارية فيها، كما تتجمّع على سطح الأرض راكدة أو جارية عليها، وهي في جميع ذلك موزعة توزيعاً حكيماً بديعاً ميسراً للإنسان ومسخراً له.

وكما سائر الثروات الموجودة في الأرض أو عليها، فإن للدولة دوراً أساساً ومهماً في المحافظة على الثروة المائية وفي تنظيم الاستفادة منها وحسن استغلالها، وذلك ضمن تشريعات وقوانين تبتدعها مناسبةً لظروف الإنسان وحاجاته، مستهديةً بالقواعد العامة التي وضعتها الشريعة لذلك.

وفي هذا الفصل سوف نبين أحكام ملكية المياه أولاً، ثم نتحدث ثانياً عن أحكام «حريم» الموارد المائية، وذلك في مبحثين:

المبحث الأول ـ في ملكية المياه:

وفيه مسائل:

مسألة 133: تنقسم المياه المتوفرة على الأرض من حيث ملكيتها الأصلية إلى قسمين:

الأول: ما يعدُّ من نوع الماء الجاري، وهو مياه البحار والأنهار الكبار، وكذا الأنهار الصغار التي جرت بنفسها من العيون أو السيول أو ذوبان الثلوج، والعيون المتفجِّرة من الجبال أو في الأراضي الموات، ونحوها من مصادر المياه الأساسية التي تتصف وتتميز بالجريان على وجه الأرض، فإنها جميعها داخلة في (الأنفال)، أي أنها من أملاك الدولة.

الثاني: الماء غير الجاري، وهو المياه المجتمعة في باطن الأرض، راكدة كانت فيه أو جارية، وكل ماء اجتمع بنفسه في بحيرة أو حفرة من مياه الأمطار أو ذوبان الثلوج أو غيرهما، بنحو لا يصدق عليه الجريان على سطح الأرض، وهذا القسم لا يملكه أحد، وهو من المباحات الأصلية التي يتساوى جميع الناس في حق الانتفاع بها.

مسألة 134: رغم اختلاف القسمين في نوع الملكية بين كون الأول معدوداً في الأنفال والثاني معدوداً في المباحات العامة، فإن ذلك لا يؤثر على جواز انتفاع الناس بجميع مصادر المياه من القسمين دون ضرورةٍ لاستئذان أحد، وذلك بجميع وجوه الانتفاع الممكنة، والتي منها:

1 ـ الاصطياد من حيوانات البحر أو النهر وأسماكهما، فإن ما في الماء من صيد مباح لكل من يحوزه، وليس لأحد منعه من ذلك حتى لو كانت تلك البحار أو الأنهار ملكا للدولة، إلا في إطار تنظيم استغلال الثروة السمكية والحفاظ عليها.

2 ـ الانتقال على الماء بوسائط النقل المناسبة، فإنه حق لكل إنسان.

3 ـ الأخذ من ذلك الماء من أجل استخدامه في الزراعة أو الحاجات الشخصية، فإن من حاز شيئاً من ذلك الماء صار له، بلا فرق بين مياه القسمين.

مسألة 135: تتحقق حيازة الماء بأخذه باليد، أي بالدلو ونحوه من الوسائط المباشرة، أو بجعله في قناة يحفرها في الأرض الموات أو في ملكه، أو في أنبوب كذلك، أو نحوهما من وسائل إيصال الماء، فإنه مثلما يملك ما أخذه بالدلو كذلك يملك ما جرى في القناة أو الأنبوب، بشرط تحقق قصد التملك بفعله هذا، فلو وضع الماء في الدلو عبثاً أو لغرض غير تملكه، أو شق قناة لغير الماء فجرى فيها الماء من دون قصد، لم يملك صاحب الدلو ولا صاحب القناة الماء.

مسألة 136: من حفر بئراً لاستخراج الماء منها، أو لجمع الماء فيها، ومن احتفر حفرة فأصاب عين ماء، ومن حفر قناةً لإجراء الماء فيها، فإن الحافر يملك بعمله هذا ذلك البئر والعين والقناة وما فيها من المياه، وليس لغيره التصرف فيها إلا بإذنه، بدون فرق في ذلك بين لو كان حفره لها في الأرض المملوكة له أو في الأرض الموات؛ نعم مجرد حفر البئر مثلاً في الأرض الموات لا يفيد إلا التحجير، فلا يملك الحافر البئر المحفورة ولا الأرض المحفورة فيها إلا بعد تمام عملية الإحياء. (أنظر في ذلك المسألة 33).

مسألة 137: إذا اشترك جماعة في شقّ قناةٍ كان الماء ملكاً لهم، ويملك كل واحد منهم بنسبة ما بذل لا بقدر ما تحتاج أرضه التي تسقى منها، وليس لأحدٍ منهم أن يأخذ أزيد من حصته بدون إذن الآخرين، وحينئذ فإن تراضوا فيما بينهم على الاستفادة من ذلك الماء المشترك كان لهم ذلك بأيِّ نحو أرادوا، وإن لم يتراضوا على حل من الحلول بما فيه التناوب في أخذه بالعدل بحسب الأيام أو الساعات أو الأمتار المكعبة، تعينت قسمته بينهم بمثل الطريقة التالية:

تحصر تلك المياه داخل حديدة، أنبوب أو خزان، ثم يجعل فيها ثقوب متعددة متساوية، ثم يعطى لكلٍّ حسبما له، فإن كانوا ثلاثة وكان حق أحدهم فيها سدساً والثاني ثلثاً والثالث نصفاً، فإنه يعطى لصاحب السدس ثقباً، ولصاحب الثلث ثقبين، ولصاحب النصف ثلاثة; وهكذا ينظر في كل حالة ما يناسبها من القسمة. ولو فرض عدم موافقة بعض الشركاء على هذه القسمة أجبر عليها الممتنع منهم، وإذا وقعت القسمة فليس لأحد الرجوع عنها وإلغاؤها، أما في صورة التراضي على التناوب بحسب الأيام أو الساعات أو نحوها فلا يلزم بها الشركاء، بل يجوز لهم الرجوع عنها حتى لو كان الراجع منهم قد استوفى نوبته دون الآخر، لكنه يضمن لغيره مقدار ما استوفاه.

مسألة 138: إذا اتفق جميع الشركاء على إصلاح القناة وتنقيتها وصيانتها بالنحو المناسب لها كانت كلفة ذلك على الجميع بمقدار حصتهم فيها، وأما إذا لم يتفقوا على ذلك فإنه لا يجبر الممتنع عن المساهمة في الإصلاح، بل ولا يجوز للراغبين في الإصلاح القيام بذلك بدون إذن الشريك الممتنع، فإن أذن وتعهّد بالمساهمة في الإصلاح والبذل معهم كان عليه ما عليهم بنسبة ما يملك، وإن أذن بالإصلاح ولم يتعهد بالبذل لم يلزم بالبذل معهم، ولكن لهم الحق ـ في قبال ذلك ـ أن يحرموه من الانتفاع بثمرة تلك الإصلاحات إن أمكن الجمع بين حرمانه منها وبين بقاء حقه في نفس الماء؛ هذا، وسوف نتعرض لهذه المسألة في أحكام الشركة.

مسألة 139: إذا كانت القناة مشتركة بين القاصر وغيره، وكان إقدام ذلك الغير على الإصلاح متوقفاً على مشاركة القاصر، إما لعدم اقتداره بدونه أو لغير ذلك، وجب علـى ولـيّ القاصر ـ مراعاةً لمصلحتـه ـ إشراكـه فـي التنقية والتعمير ونحوهما والبذل على ذلك من مال القاصر بمقدار حصته.

مسألة 140: إذا أذن صاحب القناة لغيره بإنشاء مطحنة أو غرس أشجار على حافتي الماء أو نحو ذلك من أنواع الأعمال المحتاجة إلى الماء، سواء كان ذلك الإذن مجاناً أو بعوض، فإنه لا يصح لمالك القناة إلغاؤها أو تحويل مجراها بالنحو الذي يعطل تلك الأعمال أو يتلف ذلك الزرع إلا إذا أذن صاحب المطحنة أو الأشجار، نعم إذا كان المالك قد اشترط على المستثمر أن لا يمانع في الإلغاء أو التحويل، أو اشترط عليه أن يوقف استثماره عندما يطلب منه ذلك أو على رأس مدة محددة، كان للمالك التصرف على مقتضى ذلك الشرط وليس للمستفيد منعه.

مسألة 141: إذا تعددت القنوات المملوكة المتفرعة من نهر واحد، فإن كفت الجميع فلا إشكال، وإن لم تكف الجميع كان الأولى والمقدَّم هو من سَبَقَ غيره في شقّ القناة، فيقدّم الأسبق فالأسبق، فإن لم يكن هناك أسبق، أو كان ولكنه لم يعرف، كان التقديم للأعلى فالأعلى، فيستوفي الأعلى أو الأقرب إلى الماء حاجته منها ثم يدفعها إلى من بعده، وهكذا.

وكذلك الحكم فيما لو اجتمعت أملاك على ماء عين أو نهر مباح، فإن للجميع حق السقي المباشر منه، وليس لأحدهم جعل سد أو ما يشبهه لحبس الماء عن الآخرين، وحينئذ إن كفاهم الماء فلا إشكال، وإن لم يكفهم، قدم الأسبق فالأسبق إلى إحياء تلك الأرض إذا كانت قد مُلِكت بالإحياء وعُلم السابق منهم. وإلا قدم الأعلى فالأعلى أو الأقرب فالأقرب إلى فوهة العين أو أصل النهر.

المبحث الثاني ـ في حريم الموارد المائية:

قد تقدم منا القول في فصل إحياء الموات: «إن الحريم هو مقدار من الأرض يُحمى ويحرّم على الغير أخذه وإحياؤه لكونه مدى حيوياً ومجالاً ضرورياً يمكِّن المالك من الانتفاع بما يملك»، وقد ذكرنا هناك أنواع الحريم المناسبة لكل نوع من أنواع العقارات، وأجلنا الحديث عن حريم الماء إلى هذا الموضع؛ وحريم الماء نوعان: أولهما: حريم انتفاع، وهو ما يجعل لتيسير الانتفاع به. وثانيهما: حريم بقاء، وهو ما يجعل من أجل ضمان استمرار تدفق الماء وعدم غوره أو تحوّله إلى مجرى آخر؛ وبيان ذلك في مسائل نفصِّلها كما يلي:

أولاً ـ حريم الانتفاع:

مسألة 142: للنهر الكبير أو الصغير غير المملوكين حريمٌ ومقدارٌ من الأرض على حافتيه من أجل المرور والانتقال على طول الحافتين، ومن أجل استخدامه في مصالح النهر عند تنظيفه لطرح نفاياته وطينه، ومن أجل جعل موانىء لوضع البضائع عليه واستخدام المسافرين له في حاجاتهم المختلفة؛ ويتقدر عرضه بمقدار ما يطرأ عليه من استخدام وبمقدار ما يحتاجه ذلك الاستخدام من مجال، فحريم نهر محلي صغير ليس كحريم نهر كبير يمر في مدن أو دول عديدة.

أما من احتفر نهراً أو قناة لإيصال الماء إلى ملكه وأراضيه في الأرض الموات فإن له ـ حتماً ـ حريماً على طول حافتيه للعبور وكذا من أجل إلقاء طينه فيه إذا احتاج إلى إصلاح وتنقية.

مسألة 143: حريم البئر المملوك أو المباح هو فسحة عنده يقف فيها المستقي، وتتجمع فيها المواشي والدواب وتوضع فيها آلات الاستقاء، ويلقى فيها ما يستخرج منه من الطين عند تنظيفه، ونحو ذلك من مجالات استخدام البئر ومصالحه.

وكذا الأمر في العيون الموجودة بنفسها أو المحتفرة من قبل مالك معيّن، فإن لها نفس الحريم ولنفس الأغراض.

مسألة 144: يجوز لكل إنسان إحياء وتملك ما يجاور الحريم اللازم للنهر والبئر والعين والقناة، من دون أن يكون للمنتفع بالحريم حق الأولوية في ذلك؛ أما نفس الحريم، فإن كان المورد المائي مملوكاً وضم المالك الحريم إلى أملاكه وأحياه كان له ذلك، لأنه ييسّر له تحقيق منافع الحريم أكثر مما لو لم يحيه، وإن لم يضمه إليه بقي حقه فيه كحريمٍ لمائه، ولم يجز لغيره مزاحمته فيه بإحيائه والاستيلاء عليه، ويجوز لصاحب الحريم منع المستولي عليه ونزعه منه؛ وأما إذا لم يكن المورد المائي مملوكاً، وكان مباحاً لجميع الناس، فإنه لا يجوز لأحد إحياء حريمه.

ثانياً ـ حريم البقاء:

مسألة 145: لما كانت الآبار الارتوازية تعتمد على المياه المتجمعة في باطن الأرض أو الجارية في عروق وأنهار جوفية، فإن من الممكن أن تؤثر البئر الثانية على البئر الأولى فتقلل من كمية المياه المتدفقة فيها أو تجذبها عنها إليها تماماً، وذلك لوقوعها في نفس المجال المائي للبئر الأولى، ومن الممكن أن لا تؤثر، فإذا كان حَفْرُ بئرٍ بالقرب من بئر أخرى مضراً بها لم يجز حفرها، ووجب على الراغب فيها أن يبتعد عنها بمقدار لا يضر بالبئر الأولى.

ونفس الكلام يجري في احتفار العيون، فإنها في حقيقتها آبار ولكنها أقل عمقا وعروقها أكثر قرباً من سطح الأرض، فسميت تلك آباراً وهذه عيوناً.

أما القنوات التي تجعل على ضفاف الأنهار فإنها إذا كانت متقاربة وأضر بعضها ببعض، بحيث لا تدخل فيها كمية الماء المرغوب دخولها، وجب على الراغب في حفر القناة أن يبتعد عن قناة جاره بمسافة لا يتضرر جاره من حفرها.

ولا تتقدر المسافة الفاصلة بين مورد وآخر بمقدار معين، كمثل تقديرها في العين والقناة بخمسمائة ذراع، بل المهم أن يرتفع الضرر عن صاحب البئر أو العين أو القناة بما هو أقل من تلك المسافة أو أكثر، خاصة وأن العلوم الحديثة وأهل الخبرة قد أتاحوا فرصة التدقيق بذلك وتحديد المكان الملائم للحفر، مضافا إلى تدخل الدولة الحديثة في ذلك من خلال تخطيطها المدني.

مسألة 146: لا فرق في وجوب مراعاة ذلك الحريم بين الآبار المحتفرة في الأرض المملوكة وبين ما يكون منها في الأرض الموات، نعم يجوز لكل راغب إحياء الأراضي الموات الواقعة داخل المسافة التي تفصل بين بئر وأخرى أو قناة وأخرى، ولا يكون صاحب البئر الأولى مثلاً أولى بها، لأن غاية ما يثبت له من حق أن لا تحتفر بئر أو عين قرب بئره، لا أن تلك الأرض الموات له.


 

 

الفصل الثالث

في الثروة المعدنيّة والنباتيّة

 

المبحث الأول: في المعادن

المبحث الثاني: في النبات

 



 

 

تمهيد:

نريد بالثروة المعدنية ما يتجاوز معنى (المعدن) المصطلح في العلوم الحديثـة، فهو ـ في هذا البحث ـ يشمل الحديد والذهب والفضة ونحوها مما يندرج علمياً تحت هذا المصطلح، وأموراً أخرى غيرها، مثل النفط والقير والملح الصخري والكحل، ويشمل أيضاً ما يندرج تحت عنوان (الأحجار الكريمة) مثل العقيق والفيروزج والألماس، بل يشمل مثل الرخام والمرمر ورمل البناء ونحوها مما يتشكل على اليابسة أو فيها مما يكون له شأن وقيمة؛ فهذه الأمور جميعها تدخل في عنوان (المعدن) المتداول في الفقه الإسلامي حتى يومنا هذا، ونحن ـ بدورنا ـ سوف نستخدمه بهذا المعنى، لأن هذه الأمور، وإن لم تكن جميعها من المعادن بالمصطلح العلمي، لكن لها أحكاماً واحدة تستلزم جمعها في مبحث واحد؛كذلك فإن ثمة أصنافاً أخرى من الثروات النفيسة، وهي الموجودة في البحر، مثل العنبر والمرجان واليسر والإسفنج البحري والكهرمان واللؤلؤ، مضافاً إلى الثروة النباتية المذخورة في الأخشاب العادية والثمينة،كالأبنوس وغيره، وهذه الأصناف وإن لم تكن من المعادن حسب المصطلح الفقهي، لكننا يجب أن نذكر حكمها في هذا الفصل لأنها أكثر صلة به من غيره؛ وتفصيل ذلك يقع في مبحثين وخاتمة:

المبحث الأول ـ في المعادن:

وفيه مسائل:

مسألة 147: المعدن هو: (كل ما أخرج من الأرض مما خلق فيها، ولم يكن جزءاً من حقيقتها وكان له قيمة وثمن).

ويدخل في ذلك ما كان على سطح الأرض أو في باطنها، كالذهب والفضة والحديد والألماس والعقيق والياقوت والزئبق والكبريت والملح والمرمر والرخام والكحل والنفط والقير ورمل البناء، ونحو ذلك مما يدخل تحت التعريف المتقدم من المعادن والأحجار الكريمة والنفط ومشتقاته وأنواع الصخر القيِّمة وبعض أنواع التربة ذات القيمة والثمن ومثل الملح والكحل ونحوهما مما يستخدمه الإنسان في طعامه أو علاجه.

مسألة 148: المعدن كله معدودٌ من الأنفال التي تختص الدولة بملكيتها لها والاهتمام بها، دون فرقٍ بين ما كان على ظاهر الأرض أو في باطنها، ولا بين ما كان في الأرض المفتوحة عنوةً أو المملوكة لأهلها أو غيرهما، ولا بين ما كان نفيساً كالذهب والألماس أو وضيعاً كالملح والكحل والرمل، ولا بين ما يكون كثيرا منه أو قليلاً؛ أما كيف يتملكه الأفراد بعد ملكية الدولة له وكيف يستفيدون منه، فإن ذلك يختلف على أنحاء أربعة:

الأول: ما يكون ظاهراً على سطح الأرض أو على عمقٍ بسيطٍ قريب من السطح، وهو ما يصطلح عليه بـ (المعادن الظاهرة)، وكانت الأرض فيه مملوكة ولو بالإحياء؛ وحكم المعدن فيه أنه مملوك لصاحب الأرض وتابع لها في الملكية، قليلاً كان أو كثيراً، بالغ النفاسة أو متواضعها، ومعنى أنه مملوك له في ظل ملكية الدولة له، أنه يجوز له وضع يده عليه وحيازته وأخذه من دون استئذان الحاكم الشرعي ولا بذل شيء بإزائه؛ كما أنه لا يشترط في تملكه الفعلي حيازته وإخراجه من الأرض من قبل المالك، بل إنه مملوك له تبعاً لملكيته الأرض ملكية فعلية تامة، فلو أخرجه غيره بدون إذنه لم يملكه وعليه دفعه لصاحب الأرض؛ ورغم ذلك فإن للدولة أن تتدخل في الحالات الاستثنائية لتضع يدها على ذلك المعدن لاعتبارات أمنية أو غيرها.

الثاني: ما يكون عميقاً في باطن الأرض، وتكون الأرض فيه مملوكة؛ وحكم المعدن أنه لا يملكه صاحب الأرض ولا يجوز استخراجه منها إلا بإذن الحاكم الشرعي، كذلك لا بد للمستخرج من استئذان صاحب الأرض في الدخول إليها والحفر فيها، فإن فعل ذلك من دون إذن المالك لم تثبت ملكيته على ما استخرجه إلا بعد التصالح والتراضي مع مالك الأرض على الأحوط، فإن لم يتراضيا رجعا إلى الحاكم الشرعي الذي هو وليّ المعدن.

الثالث: ما يكون من المعادن الظاهرة في الأرض الموات، إما مبثوثاً على ظهرها أو موجوداً على عمق بسيط، وحكم هذه المعادن أنها من المباحات لعامة الناس، مسلمهم وكافرهم، رغم كونها من الأنفال، فمن أخذ منها شيئاً وحازه ونقله عن محله فهو له لا ينازعه فيه غيره، من دون حاجة لاستئذان الحاكم الشرعي، وما بقي منه في موضعه يبقى على إباحته، إلا أن يرى الحاكم غير ذلك استثنائياً.

وكذا ما كان منها في الأراضي المفتوحة عنوةً أو الأراضي الخراجية، وهي التي يكون نفعها لمن هي في يده من دون أن يملك رقبة الأرض وعينها، فإن المعدن الموجود فيها مباح لجميع الناس كالمعدن الموجود في الأرض الموات.

الرابع: ما يكون من المعادن الباطنة، في الأراضي الموات أو الخراجية أو المفتوحة عنوة، وحكمها لزوم استئذان الحاكم الشرعي لاستخراجها، فما يخرج منها يكون لمخرجه مستمراً في أخذ ما يشاء منه بمقدار الإذن.

مسألة 149: المأذون في الاستفادة من معدن باطني له عروق ممتدة لا يستبد بعروق ذلك المعدن وأصله ما لم يُنَصْ عليه في الإذن، بل يمكن إعطاء إذن لغيره بالاستفادة من نفس المعدن بالوصول إليه بالحفر من جهة أخرى، غير أن تلك الحفرة إن كانت في ملك الحافر ملكها، وإن كانت في غير ملكه لم يملك نفس مكان الحفرة لكنه يكون أولى بها، وعلى كلا التقديرين لا يجوز للغير الاستفادة من تلك الحفرة للأخذ من المعدن ما لم يعرض الحافر عنها ويدعها؛كذلك فإن نفس حفر تلك الحفرة في الأرض الموات لا يعدُّ إحياءً كي يقال إنه قد ملكها بالإحياء، نعم إذا تمت فيها شروط التحجير نفعته من هذه الجهة فحسب، بل إن الحافر أولى بحفرته ولو لم يصل بعد إلى المعدن.

مسألة 150: يجب على مستخرِج المعدن دفع مقدار الخمس مما يبقى له منه بعد استثناء مؤنة الاستخراج إذا كان الباقي بمقدار النصاب، وكنا قد ذكرنا ذلك تفصيلاً في باب الخمس، نعم للدولة الحق في أن تفرض على المستثمر مقداراً معيناً ـ غير الخمس ـ في مقابل السماح له بذلك الاستثمار، وحينئذ يجوز له اعتبار هذا المقدار من المؤنة واستثناؤه من أرباحه وتخميس ما عداه. (أنظر: ج 1، ص 533).

مسألة 151: إذا باشر المستثمر في بعض مقدمات الاستخراج ثم أهمله وعطّله، فإن للحاكم أن يستفسر منه عن أسباب ذلك، فإن أبدى عذراً أمهله حتى يرتفع العذر، وإن لم يكن له عذر أجبره على متابعة العمل أو رفع يده عنه.

المبحث الثاني ـ في النبات:

المراد من النبات نوعان: الأول: ما يصطلح عليه بـ (الكلأ)، ويراد به الأعشاب والحشائش التي ليس لها ساق يعتد به; والثاني: ما يصطلح عليه بـ (الآجام) ويراد به ما اشتمل على الأشجار التي قد تُراد لخشبها أو لثمرها، وعلى نباتات تراد لساقها، كمثل القصب وما أشبهه.

وكلا هذين النوعين يجوز لكلّ إنسان أن يتملّك منه ما نبت في الأراضي المباحة بنفسه، دون فرق بين المسلم وغيره، فمن سبق إلى شيء منه ووضع يده عليه فقد ملكه ولم يجز لغيره مزاحمته فيه، مثله في ذلك كمثل سائر المباحات التي تملك بالحيازة؛ غير أن ما يملك منها بذلك هو ما يجتزُّ من الحشيش، وما يقطع من الأشجار، وما يقطف من الثمار والأوراق والأزهار، أما نفس الأصول الثابتة في الأرض فإنها لا تملك بمجرد الأخذ منها ما لم يضع يده على الأرض نفسها ويتملكها بالإحياء؛ وحينئذ فإنه يملك جميع ما هو نابت عليها بنفسه من أشجار ونباتات إذا فعل في هذه الأشجار ونحوها ما يساهم في نموها وصيانتها، أما إذا لم يتعهدها برعاية خاصـة، أو كانـت الأرض ـ بالأصل ـ مملوكة، ونبت فيها الشيء من الشجر البري أو الحشائش بنفسه ومن دون رعاية من مالك الأرض، فإنه يشكل اعتبارها مملوكة تبعاً لملكية الأرض، والأحوط وجوباً لغير المالك ترك حيازتها إلا بعد استئذان المالك واسترضائه.

خاتمة في ثروات البحر:

لا يختلف حكم ما في البحر من ثروات عن حكم ما على اليابسة، فيقع عليها الإحياء ويتحقق فيها وضع اليد مثلما يتحقق في اليابسة، مع شيءٍ يسير من الاختلاف في بعض الجوانب التي ستتبين معنا من خلال ما سنتعرض له في المسائل التالية:

مسألة 152: يعتبر سطح البحر، وكذا الأنهار العظيمة، من المباحات العامة التي يجوز لجميع الناس أن ينتفعوا بها بشتى وجوه الانتفاعات الممكنة، سواء بالسباحة فيها أو الاصطياد منها أو التنقل فيها أو السكن عليها في سفينة أو بناء خشبي أو نحوه مما يصلح للسكن، أو غير ذلك من وجوه الانتفاع بسطحه.

مسألة 153: تتحقق الملكية لجزء من سطح البحر أو النهر بحيازته ووضع اليد عليه، فمن وضع حدودا ثابتة في الماء بالنحو الذي يجعل في هذا الزمان من أجل جعله حدوداً لمسبح يستثمره، أو من أجل جعله حرماً لمسكن اتخذه في سفينة أو كوخ خشبي على دعائم، أو لأغراض أخرى، فإنه يملك ما حازه؛ غير أنه في مثل هذه الحالة لا يملك من العمق إلا مقدار ما يحتاجه في غرضه من الانتفاع بالسطح مما يختلف باختلاف الأغراض؛ كذلك فإن ملكيته تبقى ما بقيت تلك العلامات فإن قوّض كوخه أو نقل سفينته أو أزال حدوده معرضاً عن ذلك الموضع عاد إلى إباحته العامة التي كان عليها.

مسألة 154: قد يلجأ بعض القادرين إلى استحداث جزيرةٍ في البحر برمي الصخور الكثيرة فيه حتى يمتلىء بها الماء وينحسر عنها مشكّلاً جزيرة صغيرة أو كبيرة، فإنه في هذه الحالة يكون مالكاً لذلك المكان الذي استحدثه و«أحياه» في الماء، وتلحقه أحكام الأرض الموات المحياة، لأن ذلك العمل يعدّ بنفسه إحياءً لجزءٍ من قاع ذلك البحر أو النهر الذي ارتكزت عليه الجزيرة، وذلك من أجل أن يكون مرفأ أو نقطة حراسة أو محطة استراحة، أو غير ذلك من الأغراض النافعة المعدودة من معالم العمران والحياة؛ ومثله ما لو لجأت بعض الشركات أو مراكز الأبحاث أو الدول إلى وضع اليد على شيء من قاع البحر وأحدثت فيه بناءً أو ما أشبهه لأغراض مختلفة، فإن ذلك أيضاً، موجبٌ لملكية ذلك الجزء بإحيائه ووضع اليد عليه؛ وحينئذ فإن لهذه المنشآت حريماً فوقها يمتد صعوداً في الماء بما يتناسب مع نوع المنشأ ومع الغاية منه كما ذكرنا سابقاً.

مسألة 155: ما يلتقط من المعادن والأحجار الكريمة ونحوهما كالملح والعنبر، وكذا ما يصطاد من حيوان وأسماك، من باطن الماء أو من سطحه، يملكه الملتقط بوضع اليد عليه وحيازته من دون حاجة لاستئذان الحاكم الشرعي، أما ما يُستَخرج من باطن قاع البحر أو النهر من ثرواتٍ كالنفط، فإن حكمه حكم ما يستخرج من باطن الأرض الموات أو المملوكة، أي أنه لا بد فيه من استئذان الحاكم الشرعي بالنحو الذي ذكر سابقاً.

مسألة 156: إن جميع ما ذكرناه هو مقتضى الحكم الأوّلي الملحوظ في الحالات الاعتيادية لتصرف الأفراد أو الجماعات، فإذا صار الشأن في ذلك على درجةٍ من الأهمية ـ كما هو في زماننا ـ فإن ثمة قوانين دولية تنظم بعض هذه الأمور بنحو لا يُستغنى فيها عن نظر وليّ المسلمين للعمل فيها بما تقتضيه المصلحة وبما يتوافق مع الأنظمة العالمية المقبولة.

 


 

 

الباب الثالث

في أحكام العمل أو (إجارة النفس)

 

الفصل الأول: في ما يحرّم من الأعمال وما يحلّ

الفصل الثاني: في إجارة النّفس

الفصل الثالث: في المزارعة والمساقاة

الفصل الرابع: في الجعالة

خاتمة في إجارة الأعيان

 

 



 

 

تمهيد:

بعدما استعرضنا في الأبواب السابقة ما يرجع إلى أسباب التملّك الأولى، فإنه لا بد أن يكون قد لفت نظرنا دور «الجهد» الإنساني في إحداث الملكية وتحقيق السيطرة على المباحات التي وجدها الإنسان ماثلةً أمامه، وهو الذي صرنا ـ في هذا العصر الحديث ـ نصطلح عليه بـ «العمل»، ونريد به: (ما يبذله «العامل» من جهد لإنجاز وإيجاد شيءٍ ما، مادي، كبناء الدار أو صنع الباب أو حفر البئر، أو معنوي، كمداواة مرض أو تعليم فكرة، أو نحو ذلك، إما لنفسه أو لغيره، مجاناً أو بعوض وأجرة). وقد تزايد الاهتمام به مع تسارع وتيرة النهوض الاقتصادي واشتداد الحاجة إلى العمال، فصارت له في الفكر الإنساني الحديث فلسفته وقوانينه التي أخذت مساحة واسعة في شرائع ودساتير الدول الحديثة، وقبل ذلك كان الإسلام قد اعتنى بهذا الجانب، فخصه بأحكام تفصيلية تنظّمه وتقنّن له من أجل الوصول به إلى أهدافه المرجوة، علماً أنه لم يذكر في كتب الفقه المتداولة تحت هذا العنوان ولا بذلك اللفظ المستحدث، بل ذكر تحت عنوان «الإجارة» الذي يشمل إيجار النفس، وهو هذا الباب، وإيجار الأعيان المملوكة، وقد آثرنا ـ في رسالتنا العملية هذه ـ أن نفصل بين مسائل موضوع إيجار النفس ومسائل موضوع إيجار العين، لأنهما وإن التقيا في أحكام عديدة، فإن توسع بحوث (إجارة النفس) وأحكام «العمل» وامتدادها إلى مثل الجعالة والمزارعة والمساقاة، مضافاً إلى جوانب الاختلاف بينهما، وإلى انسجام ذلك مع بحوث هذا المقصد الأول الذي يبحث في تملك المباحات، إن جميع هذه الأسباب وغيرها قد دعتنا إلى أن نرجح الفصل بينهما ونخص جانب إجارة النفس بهذا الباب ذي الفصول المتعددة الواسعة، ونقدمه على مبحث إجارة الأعيان الذي ذكرناه فيه خاتمة له لتأكيد أولويته عليه.

و(الإجارة): لغةً هي: الأجرة على العمل، ثم صارت تطلق على هذا العقد المعلوم، ويمكن تعريفها بأنها: (بذل الإنسان لمنافع نفسه أو منافع الأعيان المملوكة له ليستفيد منها الغير مقابل عوض). ويقابل ذلك (التطوع)، وهو بذل منافع النفس مجاناً، و(العارية) وهي بذل منافع العين مجاناً، وقد يقال لها (هبة) منافع العين، وأقل من ذلك: هبة منافع النفس، وقد غلب في زماننا إطلاق كلمة الإجارة على استثمار وإيجار منافع الأعيان، وإطلاق كلمة العمل على إيجار النفس.. وهذا هو الذي اخترناه وانسجمنا معه.

أما فصول هذا الباب فهي تتعرض لما يلي:

الأول: وفيه أحكام ما يحلّ من الأعمال وما يحرم.

الثاني: وفيه أحكام إيجار النفس بعوض من خلال عقد الإجارة لغير الزراعة والسقاية.

الثالث: وفيه مطلبان: المطلب الأول: في المزارعة، وهو يتعرض لأحكام إيجار النفس لخصوص زراعة الأرض، وهو موضوع له «عقده» الخاص وأحكامه الخاصة، والمطلب الثاني: في المساقاة، وهو يتعرض لخصوص حالة إيجار النفس لسقاية الزرع، وهو ـ أيضاً ـ موضوع له «عقده» الخاص وأحكامه الخاصة.

الرابع: وفيه أحكام (الجعالة)، المأخوذة من (جَعْل) أجرةٍ لمن يؤدي عملاً محدداً، وهي ما يكون الجاعل أو الطرف الأول فيها معلوماً، والطرف الثاني أو المجعول له مجهولاً.

ثم أنهينا هذه الفصول بخاتمة نتعرض فيها لأحكام إجارة الأعيان، وذلك كي لا نذكرها في مقصد المعاوضات الذي سيأتي، والذي يكون تأخيرها إليه موجباً لإرباك القارىء لكثرة ما سوف نحيله فيه على مباحث إجارة النفس؛ أما «المضاربـة»، فإن العامل فيهـا وإن كانـت علاقتـه بصاحـب المـال ترجـع ـ فـي جوهرها ـ إلى إيجار نفسه له ليضارب ويتاجر له بأمواله، لكننا لم ندرجها في هذا الباب، لأنها أقرب إلى بحوث الشركة منها إلى بحوث العمل وإجارة النفس.

بقي علينا أن نشير إلى أن الإجارة كما تتعلق بالنفس وبالعين فإنها قد تتعلق بـ (الحق)، والحقوق هي: (أمور اعتبارية، ذات آثار خارجية، ناتجة من وضع طبيعي أو قانوني يعيشه المكلف)، وذلك مثل حق المرور إلى الأرض المملوكة عبر أراضي الجار المحيطة به، ومثل بعض الرخص التي تمنحها الدولة لبعض المواطنين لاستقدام عمال أو للقيام بأعمال تجارية أو لإشادة أبنية أو نحو ذلك، مما يمكن انتقاله إلى الغير بنحو يتيح انتفاع ذلك الغير به واستفادته منه مع بقاء أصله مملوكاً لمالكه.


 

 

الفصل الأول

في ما يحرم من الأعمال وما يحل

 

مبحث في ما يحرم من الأعمال وما يحل



 

 

تمهيد:

يتوزع الجهد الإنساني على أعمال كثيرة بهدف التعيش منها والتكسب بها، وقد تعرضت الشريعة لها فأباحت أكثرها وحرمت القليل منها، أما المباح فلا كلام لنا فيه لأنه هو المكسب الهنيء المرضي لله تعالى، وأما الحرام فإنه كما لا يجوز فعله من قبل الإنسان لنفسه وفائدته الشخصية كذلك لا يجوز فعله لمصلحة الغير وفائدته مقابل أجرة أو بالمجان، ولا يصح تبرير ذلك بأنه حرفة يعتاش منها العامل، ولا بأن العهدة في إثمها على من استأجره، بل ولا يصح الاعتذار عنها بقلة فرص العمل وضيق ذات اليد ما دام لم يصل إلى حد الضرورة التي تبيح المحظور. إن جميع ذلك ونحوه لا يبرر للعامل المسلم تجاوز ما حرم الله تعالى على عباده، بل إن عليه أن لا يفعله لنفسه ولا لغيره، بأجرة أو بالمجان ما دام الله تعالى لا يرضى بوقوع ذلك الحرام بأي نحو من الأنحاء، ولا بإشاعة الفساد والظلم في مجتمع المسلمين، بل إن على المؤمن ـ حينئذ ـ مواجهة من يفعل ذلك وردعه ونهيه عن المنكر بجميع الوسائل المشروعة.

ولا يخفى أن دائرة الأعمال المحللة واسعة جداً، وهي تتّسع بتطور الزمان وازدياد حاجات الإنسان، مقابل دائرة الأعمال المحرمة التي تقتصر على أمورٍ محدودة يمكن حصرها في عدد معين كما سيتبين معنا، بـل إن الشريعـة ـ حرصاً منها على سعادة المجتمع البشري وازدهاره ـ قد أوجبت كل حرفة وصنعة يحتاج إليها المجتمع بنحو الوجوب الكفائي وجعلت أصل السعي والعمل محبوباً لله تعالى في الحالات العادية وواجباً عند الضرورة.

وفي جانب المحرم نلاحظ بنظرة شمولية أن مرجع الأعمال المحرمة إلى أمرين:

الأول: كون ذلك العمل محرماً في أصل التشريع بسبب ما يترتّب عليه من مفسدة للفرد والمجتمع، مثل الزنا والغناء والقمار ونحوها.

الثاني: كونه ظلما للغير وإضراراً به وإيذاءً له في نفسه أو ماله أو عرضه أو كرامته أوحريته أو وطنه، فتحرص الشريعة من تحريمه على دفع الظلم عن الإنسان.

وكنوعٍ من التسامي في النشاط الاقتصادي، فإن الشريعة حكمت بكراهة بعض المهن مثل الجزارة والحياكة، مما هو مبررٌ ومحصورٌ في ظروف خاصة كنا قد تحدثنا عنها وعن ما يناسبها في مبحث سابق. (أنظر: ص 49).

وفيما يلي سوف نستعرض الأعمال المحرمة وأحكامها على النحو التالي:

مبحث في ما يحرم من الأعمال وما يحل:

وهو يشتمل على أمور:

الأول ـ أخذ الأجرة على الأعمال الدينية:

مسألة 157: لا يجوز ولا يصح استئجار المكلّف من أجل أن يؤدي الواجبات العينية المطلوبة من كل مكلف، فلا يجوز استئجاره ليصلي الفرائض الخمس عن نفسه أو ليصوم شهر رمضان أو ليحج أو ليؤدي غير ذلك من الواجبات التي يراد منه الإتيان بها مجاناً دون عوض.

مسألة 158: لا يجوز ولا يصح استئجار الإنسان ليقوم بالواجب الكفائي المتوجه إليه عموماً إذا كان من نوع الواجبات التي رغب التشريع بالإتيان بها مجاناً، وذلك مثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإفتاء من المجتهد، والقضاء، والجهاد الدفاعي، وأمور أخرى تشبهها؛ نعم لا مانع من قيام الدولة أو غيرها بتقديم رواتب أو هدايا لمن تفرِّغهم أو تتعاقد معهم للقيام بمثل هذه الأعمال، لا بعنوان الإجارة، بل في إطار التعاون على البر والتقوى. أما إذا لم يعلم كون الواجب مطلوباً على نحو المجانية،كمثل تغسيل الميت وتكفينه وتحنيطه ودفنه والصلاة عليه، ومثل تعليم الفقه الإسلامي وغيره من علوم الدين، ومثل قضاء الصلاة والصوم عن الميت، ونحو ذلك، فإن أخذ الأجرة على مثله جائز. (أنظر في ذلك: ج 1، المسألة 430 والمسألة 924).

مسألة 159: لا يجوز ولا يصح أخذ الأجرة على المستحبات المطلوب أداؤها من كل مكلف، كالنوافل والأذكار والأدعية ونحوها مما ينبغي فعله عن النفس مجاناً وتقديساً لله تعالى والتزاماً بأوامره، فلا يسوغ استئجار الشخص لكي يصلي صلاة الليل عن نفسه، أو ليقول تسبيحات الزهراء u بعد الصلاة، أو ليؤذن ويقيم للفريضة، ونحو ذلك، سواء في ذلك العبادات أو غيرها مثل صلة الرحم وعيادة المريض ونحوهما.

أما إذا كان المستحبّ مطلوباً بنحو مطلق، كمثل كنس المسجد وعمارته، ومثل إزالة الأذى من طريق المسلمين، وقضاء حاجاتهم وإدخال السرور على قلوبهم، وقراءة مجالس العزاء أو القرآن الكريم في مناسبة عامة، وأداء أذان الإعلام، ونحو ذلك من المستحبات الكثيرة، فإنه لا مانع من الاستئجار فيها ويصحّ أخذ الأجرة عليها، ويكون الثواب لباذل الأجرة، سواء كان استئجاره عن نفسه أو عن غيره من الأحياء أو الأموات.

مسألة 160: لا مانع من الإجارة لفعل العبادات عن الميت، سواء منها ما كان قضاءً لواجب عليه، كالصلاة اليومية وصلاة الآيات والصوم والحج، أو ما كان منها مستحباً، كالصلاة والصوم والحج عنه بداعي استكثار الثواب له، كما أنه لا مانع من أخذ الأجرة على فعل غير العبادات من المستحبات، كقراءة مجالس العزاء والقرآن الكريم والأدعية عن الميت؛ وقد سبق لنا ذكر أحكام لها علاقة بذلك في مباحث الصوم والصلاة والحج في الجزء الأول من رسالتنا هذه وفي كتاب مناسك الحج، فليرجع إليها.

مسألة 161: في كلِّ مورد تصح فيه الإجارة على الواجب أو المستحب لا ينبغي للأجير المساومة على الأجرة وطلب الزيادة فيها حرصاً على الجانب المعنوي والأخلاقي، وخاصةً إذا كان في ثياب وزيّ أهل العلم، فإن فعل ذلك لم يكن آثماً ولم يجز للغير التشنيع عليه به.

مسألة 162: كما لا تصح الإجارة على بعض ما سبق ذكره فإنه لا تصح الجعالة عليه ـ أيضاً ـ، فمن قال: «من صلى صلاة الصبح من أهل بيتي فله عليّ عشرة مثلاً»، فقام بعضهم وصلى من أجل ذلك الجعل لم يجز له أخذه، بل إن الجعالة غير صحيحة بهذا النحو من الأول.

الثاني ـ معاونة الكفار وبناء معابدهم:

مسألة 163: يجوز التعامل مع أتباع جميع العقائد والأديان غير الإسلامية بجميع المعاملات المحللة والوفاء لهم بها والعمل عندهم فيها، مثلهم في ذلك مثل المسلمين، كذلك فإن جميع ما يحرم عمله من قبل المسلم إذا كان من استأجره مسلماً يحرم ـ أيضاً ـ عمله إذا كان المستأجر غير مسلم حتى لو كان ذلك العمل حلالاً في دين غير المسلم، فكما يحرم صنع الخمر لحساب المسلم مثلاً يحرم صنعه لحساب الكافر، وهكذا سائر ما سوف نذكره من موارد العمل، وإن كان سوف يأتي معنا في أبحاث البيع أنه يجوز بيع بعض الأشياء المحرمة لمن يستحلها من غير المسلمين، وهي حالة خاصة ومتعلقة بالبيع.

مسألة 164: لا يجوز العمل عند غير المسلمين في بناء معابدهم وتجهيزها بالإنارة والبلاط والأبواب ونحوها مما يدخل في عنوان إشادة صروح الكفر وتعميرها، وذلك كما في معابد البوذيين والهندوس وغيرهم من اتباع الديانات غير الإسلامية.

وكذلك لا يجوز العمل في صنع لوازم العبادة عندهم مما يتنافى مع التوحيد لله تعالى، كمثل عمل الأصنام والرسوم والشعارات ذات المغزى الديني، فإن لم تتناف مع التوحيد جاز عملها، وذلك مثل الشموع التي توقد في احتفالاتهم أو البخور أو نحو ذلك من الأمور المحايدة والبعيدة عن مظاهر الكفر، ومن ذلك ما يراد تجهيز المعبد به مما يصنع ليكون أثاثاً فيه، كالخزائن والطاولات ونحوها إذا خلت من شعائر الكفر، ولا سيّما إذا استؤجر عليها بشكل مطلق فأخذها المستأجر ووضعها في معابدهم.

أما بناء غير معابدهم مما له عنوان ديني أو ثقافي، كالنوادي والمعاهد العلمية الدينية وغير الدينية فإنه جائز ما لم يحرم من جهة أخرى بعنوان ثانوي طارىء، كما في مثل التعاون مع اليهود المغتصبين لفلسطين بشتى المعاملات، فإنه حرام ما داموا مغتصبين لأرض إسلامية.

الثالث ـ معاونة الظلمة والعمل عندهم:

مسألة 165: لا يخفى أن الظلم هو: (تجاوز حقوق الغير والاعتداء عليه وإيذاؤه في نفسه أو ماله أو عرضه أو دينه أو وطنه أو في غيرها من سائر ما هو له)، فيشمل ما يصدر عن الفرد أوالجماعة أو الدولة إذا تجاوزوا ما هو مرسوم لهم من حدود في شرعنا؛ وكما يحرم وقوع الظلم من المكلف فإنـه يحرم ـ أيضاً ـ معاونة الظالم في ظلمه، سواء وقع على مسلم أو على كافر، وسواء كانت المعاونة مجاناً وتطوعاً أو كانت بأجرة وعوض، وسواء كان الظلم في قليل من ماله أو كرامته أو عرضه أو حريته أو في كثير منها.

مسألة 166: بعدما صارت الدولة بصورتها الحديثة تتمتع بدرجة عالية من الحضور في حياة الفرد والمجتمع، وذلك بنحو لم يعد بمقدوره اعتزالها ولا العيش في ظلها دون أن ينخـرط في أعمالهـا ووظائفهـا، فإنـه يجب ـ عند العمل فيها ـ التمييز بين نوعين من الأعمال:

الأول: ما يرجع إلى أعمال الخدمات كالماء والكهرباء والهاتف والبلديات والشؤون الاجتماعية، أو إلى أمور حيوية كالاقتصاد والبيئة والتربية والثقافة والصحة، أو إلى أعمال محللة في إدارات القضاء والأمن والسجون والأجهزة التشريعية والتنفيذية، مما يرجع إلى عمل خدماتي أو عمراني أو نحو ذلك، كصيانة الكهرباء وأعمال الهاتف والبناء ونحوها، أو إلى إدارة المصانع أو المعاهد أو المستشفيات أو غيرها من المؤسسات النافعة التي تشرف عليها الدولة، فإن العمل عند الظالم في مثل هذه الوظائف جائز وحلال، والمال المأخوذ منه أجرة لا إشكال فيه، بل إن هذا العمل قد صار ضرورة لازمة للمجتمع الإسلامي من أجل القيام بمصالحه ورعاية شؤونه، الأمر الذي يجعله واجبا في بعض جوانبه.

الثاني: ما يرجع إلى الأعمال التي تجسد سلطان الدولة وتعزز هيبتها وتمارس من خلالها قوتها، وهي الأجهزة القضائية والأمنية وإدارات السجون والمواقع التشريعية ونحو ذلك مما يدخل فيها، فإنه لا يجوز للمسلم أن يكون واحداً ممن يصدر حكماً غير إسلامي في منازعة قضائية أو في قضية جنائية، ولا واحداً ممن ينفذون الحكم اعتقالاً وسجناً ومعاقبة، ولا واحداً ممن يراقبون الناس وينقلون تحركاتهم للظالم، ولا واحداً ممن يضعون القوانين المنافية للفقه الإسلامي، بل ولا واحداً ممن يوظفه الحاكم ليقربه منه ويتقوى بأصل وجوده حتى لو لم يفعل شيئا له، يضاف إلى ذلك ما كان من الأعمال في نفسه حراماً، كمثل تقديم الخمر على مائدة الظالم، أو مثل حماية مراكز القمار والدعارة التي تديرها الدولة، أو نحو ذلك من الوظائف المحرمة في نفسها مما سنذكره.

مسألة 167: إذا استدعت الضرورة المشخصة من قبل الحاكم الشرعي قيام فرد أو مجموعة بالدخول في بعض هذه الوظائف المحرمة جاز الدخول بمقدار الضرورة وطبق التشخيص؛ وكذا لو أكرهه الظالم على بعض هذه الأعمال بشرط أن لا يصل إلى حد ارتكاب القتل من أجل الظالم ولا إلى فعل أمر عظيم فيه فساد الدين وتهديد كيان المسلمين، فإن أمره الظالم بما دون ذلك من الظلم للآخرين وجبت عليه الموازنة وتحديد الأهم من ارتكاب الظلم أو دفع الأذى عن نفسه، فإذا هدده بمصادرة مبلغ من المال إذا لم يقطع يد فلان أو لسانه مثلاً فإنه لا يجوز له القطع، لأن عدمه أهم من مصادرة المال، وإن أمره بذلك وهدده بأنه إن لم يفعل ولم يقطع يد زيد مثلاً فإنه سوف يقطع يديه، فإنه يجوز له القطع في هذه الحالة، لأن حماية يديه مثلاً أهم من قطع يد واحدة لشخص آخر، وهكذا؛ ولا يخفى أن تشخيص الأولوية في بعض الموارد قد يكون صعباً على المكلف فيرجع فيه إلى الحاكم الشرعي.

الرابع ـ الإنتاج الفكري قولاً وكتابةً وفناً:

مسألة 168: يحرم بذل الجهد الفكري في أمور:

1 ـ في ابتداع الأفكار الباطلة، وتأييد ومناصرة الموجود منها، والتشنيع على دين الحق ومذهبه، وإهانة مقدساته والسخرية منها، وتحريف حقائقه ومسخها، وإضعاف مقولاته ومبادئه بصنع المغالطات الموهمة لفسادها، ونحو ذلك.

2 ـ في مدح الظالم والإشادة به وبظلمه وبكل ما يستلزم تقويته في ظلمه، كمدح أعوانه أو سياسته أو نظام حكمه.

3 ـ في الحثّ على الرذيلة والإباحية من ألوان الفواحش والأفعال المنكرة والمعاصي، كالدفاع أو الحث على السفور أو الزنى أو غيرهما من الأمور التي تساعد على انتشار الفساد في مجتمع المؤمنين.

مسألة 169: لا يختلف الحكم بحرمة ذلك الجهد الفكري بين ما لو أبرزه وأظهره صريحاً بالقول باللسان أو بالكتابة أو بعمل فني مسرحي أو سينمائي أو بمثل الرسم أو النحت أو نحوها من مبرزات الأفكار، وبين ما لو ألمح إليه بالنحو الذي يفهم منه المراد بواحدة من تلك الوسائل.

مسألة 170: مثلما يحرم هذا العمل في ذاته فإنه يحرم أخذ الأجرة عليه، ويعتبر المال حراماً وسحتاً، وكذا يعتبر العقد فاسداً.

الخامس ـ حقل الصحافة والإعلام:

مسألة 171: يجوز الاشتغال في جميع الأمور المتعلقة بنقل الخبر وصياغته وغيرهما مما يشتمل عليه حقل الصحافة والإعلام من مجالات عمل متنوعة إذا التزم ناقل الخبر بالأمور التالية:

1 ـ ترك إذاعة أسرار أهل الحرمة من الناس، سواء في ذلك الأفراد أو الجماعات أو الهيئات، فلا تجوز إذاعة ما اؤتمن عليه الناقل أو اطّلع عليه بالصدفة من أسرار الغير حتى لو لم تكن الإذاعة مضرة بالأطراف المعنيين بالسر.

2 ـ ترك التجسس على شؤون أهل الحرمة، ولو كانوا غير متدينين، من أجل تتبع ما لا يحبون ظهوره من أمورهم الخاصة الحسنة أو القبيحة، سواء أذاعها المتجسس بعد ذلك أو لم يذعها.

3 ـ الحرص على الصدق من خلال تأمين درجة معتبرة من الثقة بصدق مصدر الخبر، فلا يجوز نشر ما يعلم كذبه، بل وحتى نشر ما لا يعلم صدقه، إلا إذا اقترن بما يشير إلى مستوى الصدق من العبارات التي تشبه عبارة: «وذكرت مصادر على شيء من الاطلاع»، في قبال عبارة: «وذكرت مصادر موثوقة»؛ وكذا لا يجوز اختلاق الأخبار الكاذبة كلياً أو جزئياً مما لا يدخل تحت عنوان (المبالغة) الجائزة في الشرع؛ والمبالغة هي: (تضخيم الصفات الموجودة بدرجة أقل في صاحبها أو في الواقع، أو ذكر رقم أكبر بكثير من الرقم الواقعي بنحو تعرف المبالغة فيه من كبر الرقم)، وذلك مثل أن تقول في صفة معركة عادية ولكنها شرسة بأنها: «معركة هائلة سالت الدماء فيها أنهاراً وشاب من هولها الوليد»، أو تصف عدد القتلى فيها بأنه: «كبير جداً»، منطلقا من الحالة النسبية القائمة بين طرفي الحرب، أما إذا كان عدد القتلى خمسة فقلت: «إنه عشرة» فهو كذب غير جائز؛ نعم لا يعد من الكذب صوغ الخبر بطريقة خاصة وبدرجة من الغموض تجعل أحد المعاني المحتملة أكثر قرباً إلى ذهن السامع من المعنى الحقيقي، وهي التي يقال لها (التورية)، فلا تحرم من هذه الجهة مع الحاجة إليها، وإن كانت قد تحرم من جهة ما قد تؤدي إليه من الفساد.

4 ـ ترك نشر ما يسيء إلى الأخلاق العامة أو الأديان الأخرى، وكذا ترك نشر ما يعدّ من نوع إشاعة الفاحشة من أخبار الفواحش والموبقات التي يرتكبها الأفراد، بل وكذا ترك نشر ما فيه تشنيع أو سخرية على واحد أو جماعة من أهل الحرمة؛ وسنذكر في موضوع «النشر والدعاية والإعلان» وكذا في موضوع «التصوير» شيئاً مما له علاقة بهذا الفرع.

مسألة 172: إذا أضر الصدق في بعض الحالات ببعض المصالح المهمة للمجتمع الإسلامي فإنه يجب وضع الإعلام الإسلامي في «حالة استثنائية» تراعى فيها صياغة الخبر بطريقة لا تضر بتلك المصالح، مما قد يستوجب نظر الحاكم الشرعي فيه وإصدار التوجيه المناسب بشأنه.

مسألة 173: مثلما يحرم هذا العمل في ذاته يحرم أخذ الأجرة على عمله، ويعتبر المال حراماً وسحتاً، وكذا يعتبر العقد فاسداً.

السادس ـ الأعمال التمثيلية:

مسألة 174: فنّ التمثيل حلالٌ في ذاته، سواء منه المسرحي أو السينمائي، فيجوز استخدامه من أجل التعبير عن فكرة محددة وتوجيه الناس إليها وحثّهم عليها، بل إنه من الوسائل الفعالة في الدعوة إلى الإيمان والإسلام والقيم الفاضلة؛ ولا يضر في جـوازه كـون الأحـداث والأقـوال الممثلـة فيه ـ أحيانـاً ـ مخترعة ليس لها واقع، فإنها لا تندرج في باب الكذب المحرم ما دام الممثلون لا يقصدون الإخبار؛ نعم لا بد فيه من الاحتراز عن أمور:

1 ـ أن لا يكون الهـدف منه تأييد الأفكار الباطلة، ولا نشـر الفساد والرذيلة بشتى مراتبها وصولاً إلى الإباحية، ولا إهانة المقدسات، ولا دعم الظالمين، فيحرم حينئذ نفس العمل ويحرم أخذ الأجرة عليه.

2 ـ أن يتجنب السباب والسخرية من أهل الحرمة من المسلمين وغيرهم، وخاصة ما يؤدي منه إلى الفرقة أو الفتنة بين الناس، فإن كان الهدف منه ذلك حرم العمل في ذاته وحرم أخذ الأجرة عليه.

3 ـ أن يتجنب الكلام الفاحش، ومصافحة من هو من غير المحارم من الرجال والنساء، والنظر إلى ما لا يحل النظر إليه بشهوة، ونحو ذلك من المحرمات؛ فإن فعلها الممثل حين التمثيل كان آثماً ولم يضر ذلك في استحقاقه الأجرة على أصل العمل التمثيلي ما دام حلالاً في ذاته لولا ذلك.

4 ـ ينبغي تجنب ظهور شخصيات المعصومين من الأنبياء والأئمة (عليهم السلام أجمعين) لما في ذلك من جرأة قد تكون غير لائقة، وحسم الأمر حلية أو حرمة يختلف باختلاف موارده، فلا يستغنى معه عن نظر الفقيه في كل عمل على انفراده.

5 ـ ينبغي الالتفات إلى عدم المبالغة فـي العنف في التمثيل الموجّه إلى الصغار والأحداث، وكذا الالتفات إلى أمور أخرى، مثل الإغراق في الأسطورة، أو في التخويف، أو نحو ذلك من الأمور التي لها آثارٌ ضارّة على نفس الطفل مما قد يصل في ضرره إلى درجة تستلزم تحريم مثل تلك الأعمال.

السابع ـ فن التصوير والنحت:

والكلام فيه يقع في عناوين:

الأول ـ التصوير بالآلة:

مسألة 175: التصوير بالآلة لذي الروح وغيره حلال في ذاته، من دون فرق بين أصنافه وآلاته، ولكن يجب الاحتراز عن استخدامه مقترناً بعمل محرم أو في عمل محرم، وذلك كما يلي:

1 ـ لا يجوز تصوير الأعمال الجنسية التي تصدر من الغير، مؤمناً كان الغير أو كافراً، وجماعاً كان العمل الجنسي أو ما دونه، وطبيعياً كان أو شاذاً، ويشمل ذلك تصوير مشاهد الغزل والملاعبة ونحوهما حين التمثيل، ومثلما هو حرام في ذاته كذلك فإنه يحرم أخذ الأجرة عليه.

2 ـ لا يجوز تصوير أهل الحرمة من الرجال والنساء في أوضاع خاصة غير محتشمة غفلةً عنهم، سواء كان فيها ظهور لما يجب ستره أو لم يكن، وذلك لإشباع نزوة خاصة عند المصور أو من أجل فضحهم والتشهير بهم؛ وهذا العمل حرام في نفسه والأجرة عليه حرام أيضاً.

3 ـ لا يجوز تصوير أهل الحرمة من الرجال والنساء في أعمالهم العادية، ولا تصوير غير الأشخاص من الوثائق والمراكز ونحوها، بهدف التجسس عليهم وإحصاء أعمالهم وتتبع تحركاتهم ونشاطهم، وهو عمل محرم في نفسه وأخذ الأجرة عليه حرام.

4 ـ لا يجوز تصويـر الأشيـاء أو الأماكن التي لا يرضى أصحابها أو المشرفون عليها بتصويرها، وفاعل ذلك عالماً متعمداً آثم، إذا كان في التصوير إضرار بذلك الشيء أو بالمشرفين عليه من ناحية أمنية أو تقنية، كما أن أخذ الأجرة على فعله حرام أيضاً.

5 ـ يجب تجنب الاستماع أو النظر إلى ما يحرم الاستماع أو النظر إليه حين القيام بالتصوير،كالاستماع إلى الغناء المحرّم حين تصوير حفل زفاف مثلاً، أو النظر إلى ما لا يجوز النظر إليه، أو نحو ذلك من الأمور التي قد يصادف حدوثها حين القيام بالتصوير المحلل في ذاته لولا ذلك، غير أن علم المصور بحدوث ذلك الحرام منه لا يضر بحلية أخذ الأجرة على نفس التصوير في مثل هذه الحالة.

مسألة 176: يختلف حكم التصوير ما بين التصوير الظاهري السطحي وما بين التصوير الشعاعي، فإن تصوير ما يجب ستره من ظاهر الجسد لغير المَحْرَم حرام عند استلزامه نظر المصور إليه، أما التصوير الشعاعي، بما في ذلك الرنين المغناطيسي، فإنه لا يعد نظراً إلى الجسد بالمعنى العرفي للنظر إذا كان الجسد مستوراً عن نظر المصور، فيجوز تصوير غير المحرم من وراء ساتر، كالثوب ونحوه، وكذا يجوز النظر إلى الصورة بعد ظهورها، للطبيب وغيره.

الثاني ـ التصوير اليدوي (الرسم):

مسألة 177: يجوز رسم ذي الروح وغيره، كاملاً كان رسمه أو ناقصاً، ملوناً أو غير ملون، بارزاً كان الرسم أو غير بارز، فيجوز حفر صورة ذي الروح وغيره في الصخر أو الخشب أو المعدن بطريقة الحفر الناتىء إلى الخارج جزئياً، فضلاً عن الحفر باتجاه الداخل.

مسألة 178: لا يجوز رسم الصور الخلاعية التي تحكي أوضاعاً جنسية أو تبرز العورة أو مفاتن الجسد بطريقة إباحية فاضحة؛ نعم يجوز رسم العورة أو الجسد العاري من أجل أهداف علمية، كما في كليات الطب ومعاهد التمريض ونحوها.

مسألة 179: تسود الرسوم المصطلح عليها بـ (الكاريوكاتورية) في صحف ومجلات هذا الزمان، فإن كانت الغاية منها نقد صاحب الصورة والاحتجاج عليه بما يعد سخرية منه وتوهيناً لمقامه وهتكاً لحرمته فهو محرم إذا كان صاحب الصورة محترماً في كرامته شرعاً، فإن خلا الرسم الكاريكاتوري من السخرية في نظر العرف لم يكن به بأس حتى لو لم يرض صاحب الصورة برسمه بذلك النحو؛ وحين يحرم عمله يحرم أخذ الأجرة عليه ـ أيضاً ـ.

هذا، وسيأتي في مبحث العمل الإعلاني ما له علاقة بالتصوير.

الثالث ـ النحت:

مسألة 180: نريد بـ (النحت) صنع مجسّمٍ كامل الأبعاد لذوات الأرواح وغيرها، والمحرم منه على الأحوط صنع تمثال كامل لذي الروح من الإنسان أو الحيوان؛ ومما يعدّ تمثالاً كاملاً ما إذا صُوِّر في وضع يخفي جزءاً من جسده، كراكب الفرس أو الجالس متربعاً أو الواقف خلف جدار أو مقطوع الرأس أو نحو ذلك مما يلحظ فيه الجسد كاملاً وإن خفيَ ونقص شيءٌ منه بسبب يرجع إلى حالة صاحب الصورة؛ فإن لم يكن الجسد كاملاً كالتمثال النصفي الذي يُجسَّم فيه الرأس وشيء من الصدر أو البطن فإنه جائز؛ وكذلك يجوز صنع تمثال كل ما ليس له روح من عالم الطبيعة.

الثامن ـ الغناء والموسيقى:

وفيه عناوين ثلاثة:

الأول ـ في الغناء:

مسألة 181: يجوز للإنسان ـ من حيث المبدأ ـ التعبير عن بعض أمانيه وخواطره المصاغة نثراً أو شعراً بصوت مُرقَّق مُرَجّع إذا كانت المعاني محتشمة نبيلة لا تشتمل على شيء من «الباطل»، وهذه الخواطر يعبر عنها بأسلوبين شائعين متداولين، ولكلٍّ منهما أصوله وأدواته وأصنافه المعروفة عند أهل الخبرة، هما: الإنشاد والغناء، والظاهر أن التغني بكلا الأسلوبين يجوز فعله والاستماع إليه، أما الإنشاد فلأنه لما لم يكن غناءً بالمعنى المصطلح فليس وارداً في موضوع المسألة، وأما الغناء فلأن المعيار في الحرمة والحلية هو مضمون الكلام المُغنّى لا أسلوب التلفظ به ولا ترقيقه وترجيعه، فإن كان المضمون نبيلاً (وحقاً) وجاداً حل التغني به والاستماع إليه، وإن كان (باطلاً)، شهوانياً أو غزلياً، لم يحل؛ والمراد بالمضمون (الباطل) ما يرجع إلى جانب الغريزة الجنسية في الإنسان، ولو في مرتبة الوصف العادي لجمال الحبيب الدنيوي، مما يخشى معه على هبوط الإنسان إلى مستوى من الضعف الروحي لا يشغله فيه إلا غريزته الشهوية ولواحقها، وما عدا ذلك فهو مما كان مضمونه (حقاً) بالمعنى العام، حتى لو كان يتغنّى ببعض المآكل أو المظاهر الطبيعية صعوداً في التسامي إلى ما فيه تغن بالذات الإلهية وإظهار الهيام بها، نعم إذا كان مضمون الغناء باطلاً من جهة أخرى، كأن يكون فيه مدح لظالم أو إهانة لمقدس أو نحوهما، فإنه يصير حراماً من الجهتين، ويكون إثمه مضاعفاً؛ ومثلما يحرم نفس الفعل فإنه يحرم أخذ الأجرة عليه.

مسألة 182: لا فرق في حرمة الغناء بين ما كان التغني به باللغة العربية أو بغير العربية، وكذا حكم الاستماع إليه.

مسألة 183: لا يجوز للمرأة أن تؤدي الغناء المحلل أمام الرجل من غير محارمها، بل ولا يجوز أن يستمع الرجل إلى غناء المرأة، إذا كان لحنُ صوتها مثيراً للغرائز وموقعاً في الفتنة وموجداً لحالة من السقوط الروحي والأخلاقي مما هو مصداق لقوله تعالى: ﭪ  ﭫ  ﭬ   ﭭ  ﭮ  ﭯ  ﭰ  ﭱ [الأحزاب: 32].

مسألة 184: يجوز أن تؤدي المرأة الغناء المشتمل على الغزل ونحوه في خصوص مناسبة زفّ العروس إلى بيت زوجها إذا كان الحضور من النساء؛ وعليه، فإنه لا يجوز في مناسبة الزفاف غناء المرأة في المحفل المختلط، ولا غناء الرجال أمام الرجال؛ كما لا يجوز أن يؤدي أحد الزوجين في خلوته مع الآخر الغناء المشتمل على الغزل ونحوه.

مسألة 185: لا يجوز للمؤمن التواجد في ملاهي الغناء المحرم مما يكون التواجد فيه مستلزماً لهتك الحرمة، أو موجباً لتشجيع المنكر، حتى لو كان الغناء الذي يؤدى فيه غير محرم في ذاته.

مسألة 186: ما يدخل تحت عنوان (غناء الأطفال) مما يوجه للأطفال خاصة مشمول لنفس المعيار الذي سبق ذكره، فإن خلا من الغزل ونحوه مما يثير الغرائز عُدّ حلالاً وإلا حرم.

مسألة 187: ترديد الأغاني المحرمة والترنُّم بها حرام إذا كان نغمُ الصوت مما يصدق عليه الغناء، وإلا فإن صدق عليه «الإنشاد» لم يكن حراماً.

الثاني ـ في الموسيقى:

مسألة 188: المحرم من الموسيقى ما كان اللحن فيه مؤثراً في ضعف المناعة الروحيّة للإنسان، وذلك من خلال شدّة الخفة الناتجة من تلك الألحان والتي تساعد على إثارة الشهوات والوقوع في الحرام، فإن بقي الإنسان حين استماع الموسيقى على قدر يُعتدّ به من توازن الانفعالات والتصرفات وصفاء الروح وصلابة الإرادة لم تكن تلك الموسيقى التي يسمعها أو يعزفها محرمة؛ وعليه، فإنه لا يضر بحلية الموسيقى شعور الإنسان بشيء من الراحة وقَدَر من الانفعال لا يَخرجُ به عن حدّ الاعتدال؛ كذلك فإن المعيار في كون الموسيقى مثيرة للشهوات بذلك المعنى هو كونها كذلك عند غالب الناس، فتصير محرمة ـ حينئذ ـ حتى على الشخص الذي لم تثِر شهوته لدواعٍ طارئة أو استثنائية عند استماعها.

مسألة 189: لما كانت آثار الموسيقى الإيجابية أو السلبية ناتجةً من طريقة العزف على الآلة لا من الآلة نفسها، فإنه لا يوجد في هذه الآلات ما هو محرم في ذاته إذا كانت كلها صالحة ليعزف عليها اللحن المحرم أو المحلل، وبذلك فإنه يجوز استعمالها كلها في عزف الألحان المحللة، وكذا يجوز صنعها وبيعها وشراؤها، نعم لو فرض وجود آلة غلب استعمالها في الألحان المحرمة عند الموسيقيين فإنه ـ وإن جاز استعمالها في اللحن المحلل ـ لا يجوز صنعها ولا بيعها ولا شراؤها ولا اقتناؤها، بل يجب إتلاف الموجود منها أو تغيير صورته إذا توقف عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

مسألة 190: لا فرق في جواز الاستماع إلى الموسيقى المحللة بين ما لو كان العازف رجلاً أو امرأة، ولا بين ما يصدر من آلة مسجلة أو من الشخص مباشرة.

الثالث ـ في أحكام لهما مشتركة:

مسألة 191: إذا اجتمع الغناء والموسيقى في عمل فني واحد، كما هي العادة الغالبة في الغناء، فإن كان كلٌّ منهما غير مثير للشهوة لم تحرم الأغنية الملحنة، وإن كان كل منهما ـ أو أحدهما ـ مثيراً للشهوة حرمت الأغنية الملحنة؛ وأما غناء النساء في الزفاف، فإن الأحوط الذي لا ينبغي تركه هو ترك اقترانه بالموسيقى وإن كانت غير مثيرة للشهوة.

مسألة 192: مثلما يحرم الغناء وعزف الموسيقى أمام الغير فإنه يحرم قيام المكلف بالغناء أو العزف المحرّمين عند انفراده بنفسه.

مسألة 193: إذا حرم الغناء والموسيقى حرم أخذ الأجرة عليهما وحكم ببطلان عقد الإجارة، وإذا حلاّ حلّ أخذ الأجرة عليهما، وكان العقد صحيحاً، بما في ذلك ما حكم بحليته استثناءً، كغناء المرأة في الزفاف.

التاسع ـ الرقص:

مسألة 194: المراد بالرقص ذلك الفن المعروف الذي يعبر فيه بحركات الجسد عن أفكار معينة، وله أشكال كثيرة فيها المقبول وفيها الساقط المرذول؛ والمعيار في المحرم منه ما كان من نوع الرقص الخليع الماجن، وهو الذي يعبر فيه عن معاني العشق والرغبة الجنسية بدرجاتها المتفاوتة، دون فرق بين كون الراقص رجلاً أو امرأةً، متستراً أو كاشفاً عن بعض ما يجب ستره، ودون فرق ـ أيضاً ـ بين ما لو كان المشاهدون له مماثلين له في الجنس أو مختلفين، مختلطاً كان الجمهور أو من جنس واحد؛ وعليه فإنه لا يجوز للمرأة أن ترقص في الأعراس أمام الحاضرات إن كان رقصها خليعاً فاحشاً.

أما المحلل منه فهو كل رقص خلا من تلك المعاني، فكان التعبير فيه ـ مثلاً ـ عن الحماسة والفروسية، أو عن محاكاة شيء من الطبيعة، كحركات الطيور أو الرياح، أو ما كان يعبر فيه عن أحداث تاريخية ونحو ذلك مما هو معروف عند أهل الخبرة، بما في ذلك بعض الرقصات الشعبية التي تعمل في الأفراح، كالدبكة ونحوها، بشرط أن لا يقترن بشيء من المحرمات، كالاختلاط المنافي للحشمة، أو اشتراك الجنسين من الذكور والإناث في ذلك، أو مصاحبته الغناء أو الموسيقى المحرمين، أو غير ذلك مما كان حراماً في ذاته أو بالعنوان الثانوي الذي قد يتلبس به.

مسألة 195: يجوز للإنسان أن يقوم بالرقص لنفسه أو لشريكه الزوج، بلا فرق بين أنواعه في ذلك.

مسألة 196: كما يحرم فعل الرقص الخليع من قبل المكلّف يحرم مشاهدة قيام الغير به، سواء كان مماثلاً للراقص في الذكورة والأنوثة أو مختلفاً عنه، وذلك في الحالات التي يمكن أن تؤثر أخلاقياً ـ من ناحية النوع ـ على المشاهد، أو التي يكون الرقص فيها مشتملاً على ما يوجب الفساد مما يحرم النظر إليه؛ كذلك فإنه يحرم أخذ الأجرة عليه والتكسب به.

العاشر ـ صناعة الغذاء وعمل المطاعم:

وتفصيل أحكامه في عناوين:

1 ـ الخمر:

مسألة 197: يحرم العمل في جميع المجالات التي لها علاقة بصناعة الخمور مباشرة، سواء في ذلك مرحلة تهيئة المادة للعصر من تنظيف وتقطيع، ومرحلة عصره وتعبئته وتخزينه ونقله إلى الزبائن، بل وكذا يحرم العمل في المختبرات التابعة لمصانع الخمر، وهي التي تشرف على تركيب الطعوم وتحليلها ومراقبة جودتها وخلوها من العناصر غير المرغوبة، ونحو ذلك.

مسألة 198: إذا كانت بعض مصانع الخمور تنتج غير الخمر من الأغذية وغيرها، كالبيرة الخالية من الكحول، أو الإسبيرتو ونحوه من المطهرات، أو الخل، أو نحو ذلك، فإنه يجوز العمل في ذلك المصنع في خصوص العمل المحلل إذا لم يلزم من عمل المؤمن فيه هتك لحرمته أو تشجيع للمنكر أو نحو ذلك من العناوين الثانوية الموجبة للحرمة.

مسألة 199: يجوز العمل مع هذه المصانع ـ أيضاً ـ فيما لا علاقة له مباشرة بصناعة الخمر، وذلك في مثل صناعة القناني أو قطاف العنب أو التفاح في المزارع التابعة لتلك المصانع أو لمن نعلم أنه سيبيعه له، إلا إذا دخلت الغاية المحرمة عنصراً في التعاقد، وذلك كأن يقول للعامل: «استأجرتك لقطاف هذا العنب من أجل جعله خمراً»، فإن العمل يصبح حراماً والإجارة باطلة.

مسألة 200: لا فرق في حرمة صناعة الخمور بين ما كان في بلاد إسلامية أو غيرها، ولا بين ما سيباع في بلاد المسلمين أو غيرها.

مسألة 201: يحرم العمل في تقديم الخمر في المطاعم أو المقاهي التي تقدمه، وكذا في نقله وتخزينه في محلات بيعه، وكذا يحرم وضعه في بعض أصناف المأكولات والحلوى من قِبَل الطباخين، ويستثنى من ذلك المحاسب في المطعم أو حانوت البيع إذا قبض ثمن الخمر في جملة ما يقبض ما دام ليس هو الذي يقوم بعملية البيع، وكذا يجوز غسل أواني الخمر المستعملة من قِبَل رواد ذلك المطعم أو الفندق، وكذا يجوز لطلاب الفندقية الذين يُلزَمون بصنع مآكل تشتمل على الخمر أن يفعلوا ذلك ما داموا لا يعلمون بأنها ستقدّم للآكلين، بل ولو قُدِّمت لمن يأكلها إذا توقف نجاحه في الامتحانات على إعداد مثل هذه المآكل، وكان مضطراً لتعلم صناعة الطبخ للاعتياش منها.

أما حكم بيع الخمر فسيأتي في مباحث البيع.

2 ـ الميتة ولحم الخنـزير:

مسألة 202: لا يخفى كون الميتة والخنـزير من الأعيان النجسة التي يحرم أكلها، ولكن رغم ذلك فإنه لا مانع من الاستفادة منهما واستخدامهما في شتى المجالات التي لا ترجع إلى التغذي بهما، مثل صناعة الأسمدة والشموع وغيرهما.

وفي هذا الإطار، فإنه يجوز للمسلم أن يعمل في نقل الميتة ولحم الخنـزير وتخزينهما، وكذا يجوز العمل في المصانع التي تجعلهما شموعاً أو سماداً، بل وفي جميع المجالات التي لا علاقة لها بالاستفادة من الميتة أو من الخنـزير حياً أو ميتاً في التغذي بهما؛ وبما أن مطاعم غير المسلمين تشتمل عادةً على اللحوم غير المذكّاة وعلى لحم الخنـزير، فإنه يجوز للمسلم العامل في تلك المطاعم طبخ ذلك وتقديمه لمن يستحل أكله من غير المسلمين؛ وإن كان الأولى التنـزّه عن ذلك وتجنب العمل فيهما مع الإمكان.

3 ـ الأعيان الطاهرة:

مسألة 203: يجوز العمل في صناعات الغذاء المتعلقة ببعض الحشرات والحيوانات والأشياء التي هي طاهرة، ولكنها غير محللة الأكل، وذلك مثل الأرانب ونحو ذلك مما تستحله بعض المذاهب الإسلامية؛ وعلى هذا الصعيد، فإنه يجوز تربية مثل هذه الحيوانات أو الحشرات وإعدادها ذبحاً وتعليباً وتخزيناً من أجل بيعها لآكليها، كذلك فإنه يجوز طبخها وتقديمها لمن يأكلها رغم كونها محرمة الأكل إجمالاً، لكنه إذا صدق على بعض الأعمال المتعلقة بذلك عنوان محرّم من جهة أخرى، كمثل ما لو عدّ العمل فيه تشجيعاً على أكله، صار العمل فيه حراماً من هذه الجهة، وكذا نحوها من العناوين الثانوية.

الحادي عشر ـ أعمال الطب:

مسألة 204: ينحصر عمل الطبيب في إطار دفع الضرر ورفع الأذى عن المريض، ومن أجل ذلك فإنه يحل ـ في الجملة ـ كل عمل يتوقف عليه علاج المريض ورفع الضرر عنه ضمن مراتب الضرر التي يعتني العقلاء بدفعها عن أنفسهم، وصولاً إلى مرتبة دفع ما يوجب الهلاك والموت، فيحل للطبيب القيام بمقتضيات العلاج حتى لو كان ذلك العمل حراماً في غير مقام العلاج؛ ثم إنه لما كانت جميع فروع الطب مهمة، ورغم أن بعضها أقل إشكالاً من غيره، فإنه لا يجب على طالب الطب أن يلاحظ في اختياره لنوع تخصصه الفرع الذي هو أقل إشكالاً من غيره، بل يجوز له أن يختار التخصص في مثل الأمراض النسائية أو الأمراض الجلدية أو أمراض العقم والمسالك البولية، ونحوها مما يستلزم التعرض لرؤية العورة أكثر من غيره، وذلك بغض النظر عن مدى كون ذلك الاختصاص ضرورة لمجتمعه الذي سيعمل فيه.

وعلى هذا الأساس تجب ملاحظة الأمور التالية:

الأول: لا يجوز للطبيب إجهاض المرأة وقتل جنينها الذي هو من مسلم أو من كافر إلا في حالتين: الأولى: ما لوكان بقاء الجنين موجباً لموت الأم أو وقوعها في خطر شديد مشبه للموت، كالعمى والجنون ونحوهما، أو كان بقاؤه موجباً للقتل بتأثير تقاليد ما يدعى أنه (حفظ للشرف) مما هو مرفوض شرعاً. فيجوز الإجهاض في هذه الحالة مهما كان عمر الجنين. والثانية: ما لو أدّى بقاء الجنين إلى حرج يشقّ تحمّله، كخوف الفضيحة والعار بما لا يؤدي إلى القتل، وكما لو كان الجنين مشوّهاً بدرجة شديدة، وكان التشوّه مقطوعاً به، وكانت ولادته على هذا النحو موجبة لوقوع الأهل في الحرج من تربيته والإنفاق عليه، فيجوز الإجهاض حينئذ في خصوص مرحلة ما قبل ولوج الروح في الجنين. وفي غير ذلك فإنه لا يجوز القيام بالإجهاض حتى لو طَلَب منه ذلك والدا الجنين أو أحدهما، وحتى لو كانت قوانين البلد تبيحه، وسيأتي تفصيل ذلك في مباحث الزواج.

الثاني: لا يجوز تشريح جسد الميت المسلم من حيث المبدأ، ويجوز في بعض الحالات الاستثنائية التي تلجىء إليها الضرورة، مثل توقف تعلم مهنة الطب بالمقدار الضروري عليه، ومثل ما لو توقف عليه دفع تهمة القتل عن المتهم، ونحو ذلك من الضرورات.

الثالث: يعتبر العلاج تصرفاً من قِبَل الطبيب بجسد المريض، فلا يجوز له التصدي لعلاجه من دون إذنه ورضاه حتى لو كان امتناعه موجباً لوقوعه في الضرر العـادي، دون ما لو كان امتناعه موجباً للهلاك أو شبهه، فإنه يجوز ـ بل يجب حينئذٍ ـ تصدّي الطبيب ومبادرته لعلاجه من دون رضاه.

مسألة 205: لا يحرم العمل في طبّ التجميل بما في ذلك تقويم الأسنان وغيره من فروع هذا العلم مما لا يدخل تحت عنوان (رفع الضرر)، فيجوز للإنسان فعله في نفسه كما يجوز للطبيب تلبية رغبة الراغبين به من النساء والرجال، نعم لا بد من ملاحظة موضوع المماثلة في الذكورة والأنوثة ونحوها مما له علاقة بالنظر واللمس اللذَيْن سنتعرض لأحكامهما في مباحث العلاقة ما بين الرجل والمرأة من أبواب أحكام الزواج والأسرة، وبغضّ النظر عن ذلك، فإن العمل في أصله حلال وأخذ الأجرة عليه جائز.

مسألة 206: إن الجانب المتعلق بنظر الطبيب أو لمسه للمريض خلال العلاج ومدى جوازه وعدمه أمرٌ سوف نتعرض له تفصيلاً في أبواب الزواج والأسرة، لكنه لو فرض أن الطبيب خلال عمله قد ارتكب النظر أو اللمس المحرم فإنه لا يؤثر في حلية ما يأخذه أجرةً، بل ولا يؤثر على صحة عقد العمل القائم بينه وبين المريض.

مسألة 207: لا بأس ولا إشكال في عمل الصيدلة وتركيب الأدوية ما دامت العقاقير والأدوية إنما تعطى للمريض من أجل أن يتداوى بها بناءً لتشخيص الطبيب أو رغبته هو، فيصحّ إعطاء أدوية مثل منع الحمل والمهدئات المشتملة على المخدرات والأدوية التي تسبب الإجهاض والأدوية المثيرة للشهوة الجنسية ونحوها حتى لو علم الصيدلي ـ أحياناً ـ أن المشتري سوف يستخدم هذا الدواء في غير موارده المحللة، نعم قد يحرم من جهة بعض العناوين الثانوية، ولا سيما منها الأدوية المخدرة أو المسببة للإجهاض أو بعض السموم ونحو ذلك، حيث يجب على أمثال الأطباء والصيادلة الالتفات إلى تلك العناوين الثانوية ومراعاة موجباتها من الأحكام الشرعية والقوانين المحلية أو الدولية.

أما سائر الأعمال التي لها علاقة بالطب، كالتحاليل المخبرية والتصوير بالأشعة ونحوهما، فإن جواز الاشتغال فيها أوضح منه فيما سبقها.

الثاني عشر ـ صناعة الملابس وعرضها:

مسألة 208: يجوز للخياطين ومصانع الملابس خياطة جميع الملابس الرجالية والنسائية بما في ذلك الملابس النسائية التي تظهر أجزاءً من جسد المرأة، حتى لو علمنا أن النساء سوف يخرجن بها سافراتٍ غير محتشمات.

كذلك فإنه يجوز أن يعمل الرجال في عرض الأزياء الرجالية أمام حشد من المشاهدين من الرجال والنساء ما دام يستر من جسده ما يجب عليه ستره أمامهم، أما المرأة فإنه يباح لها أن تعرض جميع أنواع الملابس أمام مثيلاتها من النساء، أما أمام الرجال فإنه لا يجوز لها عرض نفسها متبرجة وسافرة أمامهم، وكذا لا يجوز إذا كانت محجبة، لأننا نرى فيه هتكاً لحرمة المرأة المسلمة.

الثالث عشر ـ صناعة التجميل:

مسألة 209: يجوز العمل في ما يدخل تحت عنوان (صناعة التجميل) بما في ذلك أدوات التبرج والعطور والحلي وتزيين الشعر للمماثل في الذكورة أو الأنوثة من غير المحارم، فيجوز للمسلم مباشرة هذه الأعمال واحترافها حتى لو كان يعلم أن المرأة سوف تخرج بها سافرة، نعم في خصوص حلاقة الذقن فإن الأولى للمؤمن إطلاق لحيته وترك حلاقتها، كذلك فإن الأفضل للمزين ترك حلاقة لحية زبائنه.

الرابع عشر ـ الأعمال الجنسية:

مسألة 210: يحرم العمل في كل ما يُعدّ من الأفعال الجنسية المحرمة، مثل الزنا واللواط والسحاق مما هو معلوم وواضح؛ وتفصيل الأحكام المتعلقة بهذه الأعمال والعقاب المفروض عليها له بابٌ خاص في علم الفقه مصطلح عليه باسم (باب الحدود والتعزيرات).

الخامس عشر ـ أعمال السحر والخفة وما أشبهها:

وهو يشتمل على عناوين:

الأول ـ في ما هو من السحر:

مسألة 211: المراد بالسحر: (الأعمال المرتكزة على ما يُدّعى أنه استخدام لقوىً غير منظورة، أو على مزج موادّ وعناصر كيميائية خاصة، أو على إحداث ديكور وأصوات وإضاءة غريبة، أو على إيجاد تأثيرات نفسية وداخلية، أو على غير ذلك مما يَحدُث بسبب واحد منها أو أكثر مشاهدُ وتصوراتٌ غريبة، حقيقية أو وهمية، تؤثر على التوازن الذهني والنفسي والجسدي للإنسان، فيخضع بسببه لضغوط معينة يصدر عنه فيها أقوال وأعمال غير إرادية، أو ينبهر بشيء خادع موهوم غير طبيعي ولا معقول، أو يحدث عليه غير ذلك مما هو من مظاهر التأثير على النشاط الطبيعي للقوى الإنسانية وجعلها أسيرة الوهم والخرافة والتسلط القهري لتحقيق أهداف شخصية تهم الساحر).

ومما يدخل في السحر بهذا المعنى ما يصطلح عليه عند العامة بـ (الكتابة)، ويراد بها: (فعل شيء أو كتابة كلامٍ يُدّعى أنه يؤدي إلى بغض الآخر أو محبته، أو سعادته أو شقائه، أو صحته أو سقمه، أو نحو ذلك من الآثار المدعاة له)، فإذا أثرت على النشاط الطبيعي للقوى الإنسانية بالنحو الآنف الذي ذكرناه للسحر صارت منه ولحقها حكمه.

أما ما يدّعيه البعض من إمكانية تسخير الجن والملائكة، أو تحضير الأرواح، فإنه على فرض صحته يحرم منه ما كان مضراً بالإنسان نفسياً أو جسدياً، وأما ما لا يضر منه فإن التنـزه عن الاشتغال به أكرم للإنسان وأجدر بالاحتياط.

والسحر بهذا المعنى يحرم عمله وكذا يحرم أخذ الأجرة عليه.

ومثلما يحرم عمل السحر وأخذ الأجرة عليه يحرم ـ أيضاً ـ تعلمه وتعليمه للراغب فيه وأخذ الأجـرة على تعليمه، نعم إذا توقف دفـع ضـرر السحـر ـ إن وجد ـ على تعلمه من قبل بعض من يوثق به ممن تتحقق به الكفاية، جاز له ـ حينئذ ـ تعلمه بمقدار ما يرتفع به الضرر.

أما ما يدخل تحت عنوان (الشعبذة) أو (الشعوذة) والتي يُعرّفونها بأنها: (إراءة غير الواقع واقعاً بسبب الحركة السريعة الخارجة عن العادة)، فهو أمر آخر مختلف عن السحر، لأن براعة المشعوذ وسرعة حركاته الخارقة هي أمور حقيقية، والمَشاهدُ الوهمية الناتجة عند الناظر عن هذه الحركات لا أثر لها فيه أكثر من الدهشة والإعجاب بفنه وبراعته دون أن يفقد شيئاً من توازنه ونشاطه الطبيعي.

فالشعبذة بهذا المعنى ليست محرمة، بل يجوز العمل فيها وتعلمها ما دامت لا تؤدي إلى الإضرار بالغير، وهي غير داخلة في السحر المحرم.

الثاني ـ في ما هو من الإخبار بالمغيبات:

مسألة 212: يندرج تحت عنوان الإخبار بالمغيبات فروع:

1 ـ التنجيم:

وهو: (الإخبار عن أحوال الإنسان وصفاته وعما يقع عليه من أحداث اعتماداً على حركة الكواكب والنجوم، وذلك اعتقاداً من المخبر بأن لهذه الحركة تأثيراً على حياة الإنسان)، وهو اعتقادٌ باطلٌ لا صحة له؛ وهذا العمل حرام، فلا يجوز فعله ولا أخذ الأجرة عليه؛ نعم لا يدخل في ذلك التنبؤ بمثل المد والجزر ونحوهما من الآثار الطبيعية الحاصلة من تداخل حركة الأرض مع سائر الكواكب.

2 ـ المَنْدل:

وهو عمل معروف بهذا الاسم عند من يعملون في مثل هذه الأمور، وبه يخبر «ضارب» المندل عن أمور هي من المغيبات، وحيث لا يعتمد المخبر على ما هو حق من وحيٍ ونحوه فإنه يعدّ عملاً محرماً وكذا أخذ الأجرة عليه.

3 ـ القيافة:

وهو مصطلح يراد به: (إلحاق شخص بآخر في النسب، فيعتبره ولداً له مثلاً اعتماداً على ظنون وعلامات غير معتبرة في الشرع ولا في الواقع)، وهي عمل محرّم والأجرة عليه محرمة؛ ولا يعدّ منها ما لو كان الاعتماد فيه على حقائق علمية قطعية كعلم الجينات ونحوه، فإنه غير محرّم.

4 ـ التبصير:

وهو ما يكون من خلال قراءة الكف أو (الودَع) أو خطوط بقايا القهوة المتيبسة في جوانب الفنجان وقعره، فيخبر القارىء لهذه الأمور عن أحوال صاحبها وأوصافه وعما يحدث عليه، فإن كان القارىء معتقداً بصحة ما يقوله لاعتقاده بصحة الوسائل التي يعتمد عليها فإن عمله يكون حراماً وكذا أخذ الأجرة عليه، وإن كان القارىء غير معتقد لصحتها كما هو شأن الكثير من الناس الذين يعملونها للتسلية فإنها ليست حراماً من جهة عدم كونها إخباراً عن المغيبات، ولكنها قد تحرم لأسباب أخرى، مثل ما لو انخدع بها البسطاء وظنوها حقاً وعولوا عليها، ومثل ما لو كان فيها تشجيع على التجرؤ على الإخبار بالمغيبات، ونحو ذلك من دواعي الحرمة بالعنوان الثانوي؛ يضاف إلى ذلك كله ضرورة أن يتنـزه المؤمن عن مثل هذا اللغو حتى لو كان حلالاً.

5 ـ التنبؤ بالأحوال الجوية:

وهو ذكر ما سيكون عليه حال الطقس اعتماداً على رصد حركة الغيوم واتجاه الريح ودرجات الحرارة ونحو ذلك مما له علاقة بهذه الأمور؛ وهو أمر جائزٌ لا ضير فيه ما دام مستنداً إلى ظواهر طبيعية وقواعد علمية تفيد الجزم في بعض الأمور والظن في بعضها الآخر، خاصة وأن المخبر والسامع يعلمان بمقدار صدق مثل هذه الأخبار وإلى أيّ مدى ينبغي التعويل عليها، بل ويعلمان مصدرها المقبول والواقعي.

ومن هذا النحو التنبؤ بحركة باطن الأرض والإخبار عن إمكانية حدوث زلازل أو براكين أو خسف أو نحوه؛ وكذا يعدّ منها التنبؤ ببعض الأمور العائدة إلى الموسم الزراعي، بل وإن منها توقع أحداث سياسية ونحوها اعتماداً على مؤشرات ميدانية معينة يعرفها أهل الخبرة، فإن جميع ذلك جائز ولا بأس به ولا يعدّ من نوع الإخبار المحرم بالمغيبات.

الثالث ـ في ما هو من الرقى والتعاويذ:

مسألة 213: المراد بالرقى والتعاويذ: (ما يعتمد فيها على نصوص وكلمات ملفوظة أو مكتوبة يستفاد منها بقراءتها على المحتاج أو تحميله إياها أو شرب الماء المقروءة عليه أو المنقوعة فيه أو ما هو خلاف ذلك من وسائل الاستفادة منها)، ولما كانت هذه النصوص في معظمها من نوع التوسل والدعاء لله تعالى بأن يدفع شر المرض والعين ونحوهما من المخاطر المحتملة، فإنه لا مانع من الاعتقاد بصحتها والعمل بها والارتزاق منها، غير أن الإسلام قد حثّ الإنسان على التداوي من أمراضه بأسباب الشفاء الواردة في علم الطب مقروناً بالدعاء والتوكل على الله تعالى خالق الداء والدواء، مضافاً لضرورة الحذر من الانسياق وراء كل ما ورد في ذلك وتحري النصوص المعتبرة والموافقة لروح الإسلام.

السادس عشر ـ أدوات القمار والتسلية واليانصيب:

مسألة 214: يجوز اللعب بكل آلةٍ بهدف التسلية والترفيه عن النفس بغير مراهنة، سواء في ذلك ما كان من الآلات قد صنع وصمِّم من أجل المقامرة به، أو ما كان منها قد صنع من أجل التسلية المجردة، وسواء ما كان منها نافعاً للفكر والجسد وما لم يكن منها نافعاً، بما في ذلك آلة النرد والشطرنج، فإنه يجوز اللعب بهما من دون مراهنة؛ نعم ينبغي الاحتياط بترك اللعب بدون مراهنة بما يعلم أنه قد صنع للمقامرة به، وكذا ينبغي الاحتياط بترك اللعب بالنرد والشطرنج. وأما تمييز أي الآلات قد صنع للمقامرة وأيها قد صنع للتسلية فإنه أمرٌ يُرْجَع فيه إلى أهل الخبرة، وكذا يرجع إليهم في التعرف على طريقة وأشكال الألعاب التي يُتداول ذكرها في القديم والحديث.

وأما اللعب بآلات القمار مع المراهنة فلا شك بأنه من المحرمات، بل من الكبائر أيضاً، وكذا لا يجوز اللعب بشيء من آلات التسلية مع المراهنة على الأحوط وجوباً.

مسألة 215: (اليانصيب) المستحدث في هذا الزمان، بصورته المتداولة المعروفة الخالية من عنصر (المغالبة في الربح والخسارة) الذي به يصير قماراً وميسراً، لا يعدّ من القمار ولا يحرم الاشتراك فيه، سواء كانت الجهة المصدِّرة لهذه الأوراق شركة أهلية أو حكومية، أو أفراداً عاديين، وسواء كان إصداره بهدف خيري عام أو لمصلحة شخصية وتجارية، والمال الذي يربحه المشترك حلالٌ ويملكه الآخذ ولا يترتب عليه شيء من خمس أو مصالحة مع الحاكم الشرعي، بل يلحقه من ذلك وغيره ما يلحق سائر أموال المكلف الأخرى.

مسألة 216: رغم جواز اللعب بأدوات التسلية وغيرها من دون مراهنة فإنه يجب ترك الاستغراق في مثل هذه الأمور إذا وصل الاستغراق فيها إلى الحد الذي يترتب عليه ترك الواجب، بل إنه ينبغي تجنب ما دون ذلك فيما إذا أدى إلى إرباك العلاقات الأسرية والاجتماعية والانصراف عن الأمور الفضلى.

مسألة 217: يجوز العمل في صناعة الألعاب وأدوات التسلية بما في ذلك النرد والشطرنج، وذلك في شتى مجالاتها المتنوعة الواسعة؛ أما الآلات التي ابتكرت وصمِّمت من أجل أن يلعب بها في القمار، بحيث يغلب على منفعتها الحرام وتشترى عادة من أجل ذلك، فإن صنعها وبيعها وشراءها واقتناءها حرام حتى لو كان هدف العامل فيها أو المشتري لها أن ينتفع بها في الحلال، بل يجب على من هي عنده أن يُغيِّر صورتها أو يتلفها إذا توقف عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

السابع عشر ـ أعمال الخدمات:

ونريد بها ما كان بنفسه حلالاً ولكنه قد يتلبس بعنوان محرم فيصير حراماً، أو قد يكون فيه خدمةٌ لفاعل الحرام أو أمكنة الحرام فيصير مورداً للبحث والكلام، وتفصيل ذلك في عناوين:

الأول ـ في أعمال النشر والدعاية والإعلان:

مسألة 218: يجوز العمل في حقل النشر لما يطبع من النتاج الفكري بأنواعه المختلفة بما في ذلك النتاج الفني ما دام النتاج حلالاً خالياً من البدع وأفكار الكفر والضلال والإباحية والغناء المحرم، وليس نتاجاً مسروقاً حق نشره من الغير، فإن تضمن شيئاً من ذلك كان حراماً عمله وأخذ الأجرة عليه، لأنه لما كان نشراً لما هو حرام في ذاته فإنه يعد إشاعة للفساد ومساعدة مباشرة له؛ وكما يحرم نشر ذلك النتاج يحرم الترويج والدعاية له، بما في ذلك الإعلان عنه بأساليب الإعلان المختلفة، فيشمل كتابة ألفاظ الدعاية والإعلان وتصوير مشاهده وتعليق ملصقاته ونحو ذلك مما يعدّ اشتراكاً مباشراً في عملية الترويج.

وأما الترويج بالإعلان عن غير النتاج الفكري من السلع المحللة بشتى أنواعها وأصنافها ومصادرها فإنه حلال، عدا منتجات العدو الصهيوني المصنعة في فلسطين المحتلة أو في غيرها من البلدان مما تشرف عليه «إسرائيل» مباشرة ويعتبر من إنتاجها وصناعتها؛ فإن كانت السلعة محرمة، كالخمر والميتة ولحم الخنـزير، أو كان العمل حراماً، كالبغاء والرقص المثير للشهوات ونحوهما، حرم الترويج لها بمعنى تحسينها والحثّ على شربها أو أكلها أو فعلها أو مشاهدتها مما هو حرام ومنهي عنه في الشرع، وذلك بشتى وسائل الترويج والدعاية السمعية والبصرية. وعليه فإنه حيث يكون الترويج حلالاً فإن العمل فيه وأخذ الأجرة عليه يحلان أيضاً، وحيث يكون حراماً فإنهما يحرمان.

مسألة 219: قد يحرم الترويج للسلعة المحللة عند طروء عنوان آخر محرم، وذلك كما في صورة ما لو استخدم في الترويج الكذب في المعلومات المنشورة عنه، أو تصوير الدعاية ضمن مشاهد من العري والإباحية، أو كان النتاج الفكري مشتملاً على الهجاء أو الاستهزاء بذوي الحرمة من الناس، أو نحو ذلك من الأمور المحرمة، فإنه يحرم حينئذ ذلك النتاج ووضع تلك الدعاية أو الإعلان ويحرم أخذ الأجرة عليها أيضاً.

الثاني ـ في خدمة فاعل الحرام:

مسألة 220: يجوز أن يعمل المسلم عند غير المسلم، وكذا يجوز أن يعمل المسلم عند المسلم غير الملتزم بأحكام الشريعة، في جميع الأعمال المحللة في شريعتنا، بما في ذلك القيام بخدماته الشخصية، كإدارة مكتبه، أو قيادة سيارته وتنظيف منزله وخدمة ضيوفه، ونحو ذلك مما يعد خدمة مباشرة له في أموره العادية المحللة؛ فإن كان ما يفعله حراماً وكانت مساعدته فيه تعد إعانة مباشرة له، كحمل المال الذي اغتصبه، أو الإمساك بالمظلوم الذي سيضربه أو يسجنه، أو نحو ذلك، فإنه يحرم العمل عنده حينئذ، وأما إذا لم تكن الإعانة له مباشرة، كما لو قطف له العنب الذي سيعصره خمراً، أو قدم له الكأس الفارغ الذي سيشرب فيه الخمر، لم يكن عمله حراماً، وإن كان الأحوط استحباباً ترك ذلك؛ نعم يجب تجنب العمل عند أهل المعاصي إذا عد عمله هتكاً لحرمة نفسه، أو تشجيعاً للعاصي على الاستمرار في معصيته، أو استلزم ترك واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع إمكانه وقدرته عليه؛ بل الأجدر به ترك العمل عنده حتى مع عدم استلزامه لذلك لأنه لا يُؤمن عليه التورط في ذلك وفي غيره من المحرمات، بل لا يؤمن على هذا العامل أن تشمله نقمة الله تعالى ويعمه عذابه إذا عجل في عقوبة هذا العاصي ولو لم يكن راضياً أو شريكاً له في عمله.

الثالث ـ في خدمة أمكنة الحرام:

مسألة 221: يجوز لأصحاب الحرف من المهندسين والبنّائين والمتخصصين في التبليط والكهرباء ونحوها أن يعملوا في بناء وعمارة جميع الأمكنة حتى لو كانت مما يفعل فيها الحرام عادة، كمثل المهندس الذي يستلزم عمله في تخطيط البناء لحاظ بنكٍ ربوي، أو نادٍ للقمار، أو مسبح مختلط أو معصرة للخمر أو نحو ذلك، ومثله سائر أصحاب الحرف الذين يُدعون للعمل في مثل هذه الأماكن؛ ويستثنى من ذلك أمران:

الأول: ما سبق ذكره تحت عنوان (معاونة الكفار وبناء معابدهم).

الثاني: ما لو تم التصريح عند التعاقد بين العامل وصاحب العمل بأن يكون العمل لخصوص تلك الغاية المحرّمة، وذلك بأن يقول له: «استأجرتك لتبني لي هذا الدكان لأعصر فيه الخمر»، فإنه لا يجوز العمل فيه حينئذ، ومثله ما لو قال للنجار: «استأجرتك على أن تصنع لي هذا المسرح من أجل الغناء المحرم»، فلا يجوز له حينئذ.

مسألة 222: يجوز التواجد في الأمكنة التي يفعل فيها الحرام من أجل القيام بالأعمال المحلّلة، مثل العمل في البنك الربوي في مثل صيانة الكهرباء أو الاتصالات أو النظافة أو نحوها مما لا علاقة له بنفس التعاقد الربوي؛ نعم العمل في مثل أماكن بيع الخمر أو نوادي القمار مما يتمحض عنوانه في الحرام غير جائز، لما يستلزمه من هتك الحرمة حتى لو كان نفس العمل محللاً، كالحراسة والنظافة ونحوهما.


 

 

الفصل الثاني

في إجارة النّفس

 

المبحث الأول: في العقد والمتعاقدين

المبحث الثاني: في لزوم العقد وموارد الفسخ

المبحث الثالث: في أحكام أداء العمل وتسليمه

المبحث الرابع: في أحكام التلف والإفساد



 

 

تمهيد:

نريد بإجارة النفس: (جعلها في معرض الاستخدام مقابل عوض)، دون تفريق بين مجالات الاستخدام الكثيرة المتنوعة، عدا ما حرم الإسلام الاشتغال به من أنواع المكاسب، مما سبق ذكره؛ وتتحقق هذه الإجارة بالعقد المشتمل على الإيجاب والقبول من عاقدين متمتعين بالصفات اللازمة شرعاً، فإذا تم العقد صار العامل ملزما بأداء ما التزم به والمستأجر ملزما بدفع الأجرة له عند قيامه بالعمل بالوجه المطلوب منه، وخلال ذلك قد يحصل إخلال من العامل بما التزم أومن المستأجر بما وعد، كما أنه قد يتلف موضوع العمل أو يصاب العامل أو يموت صاحب العمل أو العامل، وجميع ذلك له أحكام نفصلها في المباحث القادمة، أما في هذا التمهيد فإننا نعرض لأمور نذكرها في مسائل:

مسألة 223: لقد حث الإسلام على العمل واستخدام اليد وبذل الجهد في تحصيل المعاش، وهو ما كنا قد ذكرناه في مباحث (المدخل) من ناحية عامة، أما إجارة النفس بخصوصها فإننا ـ إضافة لكونها مشمولة لتلك الأحاديث العامة ومصداقاً لها ـ نلاحظ أن عدداً من الأنبياء والأوصياء قد آجروا أنفسهم في مهن شتى، فقد ذكر المؤرخون أن النبي محمد w قد آجر نفسه للتجارة قبل نبوته، وأن علياً y قد آجر نفسه لسقاية النخل، كما أن القرآن الكريم قد ذكر إجارة موسى نفسه لشعيب o لرعاية الماشية؛ مضافاً إلى أن القرآن الكريم قد أكد على الإجارة ودورها الهام في الإنتاج الاقتصادي وفي إعمار الحياة في قوله تعالى: ﯞ  ﯟ  ﯠ  ﯡ  ﯢ  ﯣ   ﯤﯥ  ﯦ  ﯧ  ﯨ  ﯩ  ﯪ  ﯫ  ﯬ   ﯭ  ﯮﯯ [الزخرف: 32] وقد روي عن علي y في تفسير هذه الآية قوله: «فأخبرنا سبحانه أن الإجارة أحد معايش الخلق، إذ خالف بحكمته بين هممهم وإرادتهم وسائر حالاتهم، وجعل ذلك قواما لمعايش الخلق، وهو الرجل يستأجر الرجل في ضيعته وأعماله وأحكامه».

هذا، ثم إنه لا ينافي ذلك ما ورد في بعض الأحاديث من كراهة إجارة النفس، كالمروي عن الباقر y في قوله: «من آجر نفسه فقد حظر عليها الرزق، وكيف لا يحظر عليها الرزق وما أصاب فهو لرب أجره»، وذلك لأن الكراهة معللة بأن نتاجه لصاحب العمل، الأمر الذي يفهم منه أنها واردة في إطار المفاضلة والمقارنة مع العمل المستقل لنفسه، لا أنها واردة في مقام بيان عدم محبوبية أصل العمل الذي هو مسلّم المحبوبية وراجح في التشريع.

 مسألة 224: لما كانت الحرف والصناعات ضرورية لحياة الإنسان واستمرارها، فإنه يجب على المكلفين ـ وجوباً كفائياً ـ العمل بتلك الحرف حتى تتحقق الكفاية منها لحاجة المجتمع، وهذا يعني وجوب تعلم النجارة والطب والعمارة والزراعة والصيد والرعي وكل صنعة وحرفة للعمل بها وقضاء حاجة المجتمع منها؛ وهذا يعني أن العمل في الإسلام رسالة سامية وعمل أخلاقي والتزام اجتماعي قبل أن يكون مجرد رغبة شخصية يندفع إليها المكلف بهدف الربح، ويتجلى ذلك بأبهى صورة عندما يعمد النظام العادل إلى إيلاء التخطيط الاقتصادي أهميته المناسبة وتوزيع الجهد العام باتجاه حاجات المجتمع بنحو متواز يحقق الكفاية والسعادة.

مسألة 225: قد أشرناً سابقا ونعيد التأكيد الآن على أن لكلِّ حرفةٍ أهميتها وضرورتها بالمقدار الذي يناسب كل زمان وكل مجتمع، فليس فيها ما هو مرذول ما دام ضرورة وحاجة للناس حتى لو كرهته بعض النفوس وتجنبته بعض المجتمعات، فكم من حرفة كانت مرذولة صارت معززة مرغوبة، وكم من أمر لا تحبه النفس الآن تضطر إلى فعله فيما بعد، بل إن ما ورد في الإسلام من نهي عن العمل في بعض الحرف فإنما هو نظر إلى طبيعة الموضوع لا موقف منه، وإن كان موقفاً فهو إرشاد إلى الخيار الأفضل للفرد لا حث على تعطيل جانب مهم من الحركة الاقتصادية. (أنظر في ذلك، ص 49).



 

 

المبحث الأول ـ في العقد والمتعاقدين:

تتحقق إجارة النفس بالعقد المبرز لقصد المتعاملين والمقترن بحيازة المتعاقدين للأهلية المعتبرة فيهما، وبتحقق الشروط الخاصة بنوع العمل المطلوب وبالأجرة المدفوعة، وهي الأركان التي بها تتحقق الإجارة وتصح، واستيعاب الكلام فيها يتم في عناوين:

الأول ـ عقد العمل:

وفيه مسائل:

مسألة 226: عقد إجارة النفس مثل سائر العقود، فلا بد فيه من ظهور رضا الطرفين بالعلاقة التي يودان إنشاءها بكيفية خاصة وشروط محددة توصل إلى الغاية وتمنع من الاختلاف؛ ويتم إظهار الرضا بطريقتين:

الأولى: التعاقد اللفظي، بأن يقول الأجير: «آجرتك نفسي لعمل(كذا) لمدة (كذا)، بالمبلغ (كذا)»، فيقول المستأجر: «قبلت».

ولا يشترط لفظ (آجرتك) أو استأجرتك وما يشتق منه، كما أنه لا يشترط تقديم الإيجاب على القبول، ولا كون الإيجاب من العامل والقبول من صاحب العمل، بل يصح إنشاء العقد بكل لفظٍ يدل على التزام العامل بأداء عمل لغيره مقابل مبلغ محدد بشروط محددة، كأن يقول صاحب العمل: «أصلح لي هذه السيارة بخمسين ألفاً»، فيقول العامل: «قبلت» أو: «رضيت» أو: «سأصلحها لك»، أو غير ذلك من ألفاظ الإيجاب والقبول.

ويلحق بالتعاقد اللفظي التعاقد بالكتابة على ما هو الشائع والمعتمد في معاملات العقود في عصرنا، إذ قلما يدون ويكتب عقد دون أن يسبقه اتفاق وتعاقد لفظي، لكنه لو حدث التعاقد بالكتابة من دون تلفظ ولا حوار سابق كان ذلك عقداً وتحققت به المعاملة ووجب الوفاء به.

أما الأخرس فإنه تكفيه الإشارة المبرزة لقصده، فضلاً عن الكتابة مع قدرته عليها.

الثانية: بالمعاطاة، وذلك بأن يسلم صاحب العمل أرضه للفلاح ليفلحها، أو ثوبه للخياط ليخيطه، فيتسلم الأجير الأرض والثوب بقصد إنجاز ما طلب منه.

ولا يخفى أن غالب اتفاقات العمل يتم بالتعاقد اللفظي من خلال الحوار الذي يدور بينهما، وقليلا ما يحدث الاستئجار بالمعاطاة المحضة.

مسألة 227: لا يشترط في التعاقد اللفظي أن يكون باللغة العربية، فيصح بغيرها من اللغات حتى مع قدرة الطرفين أو أحدهما على العربية، وكذا لا يشترط في العربية أن تكون بالفصحى، ولا أن تكون مطابقة لقواعد اللغة العربية، فيصحّ بالملحون كما يصح بالعامية حتى مع القدرة على الفصيح الصحيح، وكذا لا يشترط التخاطب المباشر بينهما، فيصح عبر الهاتف.

مسألة 228: يجوز أن يستأجر شخصٌ واحدٌ عاملين أو أكثر لإنجاز عمل واحد على نحو الاشتراك، وحينئذ فإنه يكفي في التعاقد اللفظي أن يقولوا صيغة الإيجاب معاً بلفظٍ واحد، فيقبل المستأجر قبولاً واحداً عن الجميع، أو أن يتوكل واحد عنهم فيوجب أصالةً عن نفسه ووكالة عن غيره فيقبل المستأجر ذلك، أو أن يوجب كل واحد منهم منفرداً فيقبل المستأجر؛ وكذا بالمعاطاة مجتمعين ومنفردين. ويترتب على ذلك ضرورة التزامهم بأداء العمل مشتركين بالشروط التي اتفق عليها، أما الأجرة فهي لهم على نحو الاشتراك بالتساوي ما لم يتفق على خلاف ذلك. كذلك فإنه يجوز لاثنين أو أكثر أن يستأجرا عاملا واحدا أو أكثر لإنجاز عمل لهم، وتكون الأجرة عليهم بالتساوي ما لم يتفق على خلافه.

وبعبارة مختصر: إنه لا يشترط في المتعاقدين وحدة الأجير والمستأجر، بل يصح أن يكون في هذا الطرف أو ذاك، أو في كلا الطرفين، أكثر من واحد.

مسألة 229: إذا أمر شخصٌ غيره بأداء عمل له قائلاً: «خط لي هذا الثوب»، أو: «ارفع معي هذا الحجر»، أو: «دلني على بيت فلان»، ونحو ذلك، فأدى المأمور العمل، لم يكن ذلك عقد إجارة، لكن هل يتحمل الآمر مسؤولية أمره فيستحق العامل أجرة عليه أو لا؟ والجواب عن ذلك يختلف على عدة وجوه:

الأول: أن ينجز العامل العمل المأمور به قاصداً به التبرّع والمجّانية، فلا يستحق الأجرة حتما في هذا الفرض حتى لو كان الآمر قد قصد دفع الأجرة له.

الثاني: أن يقوم العامل بالعمل قاصداً أخذ الأجرة، وكان الآمر قاصداً أو راغباً أن يؤديه العامل له مجاناً، وكان معتمداً في ذلك على قرينة تفهم ذلك موجودة في طبيعة العمل المطلوب أو في طبيعة المأمور أو في طبيعة العلاقة الاجتماعية القائمة بينهما؛ ومثال القرينة الأولى: قوله: «دلني على بيت فلان»، أو «ارفع معي هذا الحجر»، لأنهما من الأعمال التي لا يتقاضى العرف عليها أجراً؛ ومثال الثانية: أن يكون المأمور من أهل الوجاهة والشرف ممن لا يتصدون بالأجرة لما طلب منه، كأن يطلب من العالم الديني أن يحلق له رأسه في منى في فريضة الحج مثلاً، ومثال الثالثة: أن يطلب الزوج من زوجته أن تنسخ له المقالة التي كتبها؛ فإذا كانت القرينة موجودة بهذا النحو في هذه الموارد الثلاث وأشباهها، وكان مفادها أنّ هذا العمل يؤدّى مجاناً، فعمله العامل قاصدا أخذ الأجرة، وطالب بها الآمر، لم يجب على الآمر دفع أجرة له.

الثالث: أن يؤدي العامل العمل ناوياً أخذ الأجرة، وكان الآمر قاصداً للتبرع، ولم تكن قرينة على المجانية، ففي هذه الحالة يستحق العامل بعمله أجرة المثل على الآمر؛ ومثله في الحكم ما إذا كانا معاً قاصدين للعمل بالأجرة، أو كان الأجير خالي الذهن من نية أخذ الأجرة أو التبرع، فإنه إذا طالب بالأجرة لزم إعطاؤها له.

الثاني ـ في أهلية المتعاقدين:

مسألة 230: لا يؤثر هذا العقد أثره إلا إذا صدر ممن يتمتع بصفات محددة تجعله أهلاً لإجراء العقود، وهي أمور:

1 ـ البلوغ: فلا يصح عقد الصبي إذا استقل به بدون إذن الولي، مؤجراً لنفسه كان أو مستأجراً لغيره، فإن أذن الولي بعد ذلك ووافق صح؛ وحيث يحتاج الصبي إلى أن يكون أجيراً أو مستأجراً فإن وليه هو الذي يقوم بذلك عنه حتى يبلغ، أو يأذن له به فيقع منه ويصح إذا كان رشيداً وخبيراً رغم عدم بلوغه. هذا، ولو تصدى غير الولي لإجارته لم يصح منه ذلك العقد، وتوقف نفوذه على إذن الولي؛ وهو أحد فروع ما يصطلح عليه بـ (العقد الفضولي) (أنظر في ذلك المسألة: 610، وما بعدها).

2 ـ العقل: فلا يصح عقد المجنون حين جنونه حتى لو أفاق بعد ذلك ورضي بما وقع أو وافق الولي على ما فعل، فإن عرض عليه الجنون بعد ما عقده في حال عقله لم يبطل عقده، وكان على الولي متابعة آثار العقد فيما بعد.

3 ـ الرشد: وهو: (درجة في نضج التفكير والقدرة على التصرف الصحيح ووضع الأمور في مواضعها المناسبة لها والمنسجم مع الاعتبارات العرفية السائدة في زمانه ومجتمعه)، فلا يصح عقد إيجار السفيه نفسَهُ إلا إذا أذن الولي بعد ذلك ورضي به.

4 ـ استئذان الزوج: وهو واجب على المرأة المتزوجة إذا نافى تأجيرها نفسها حق الزوج، بأن كان في وقت أو بكيفية تفوّت على الزوج حقه في الاستمتاع بها، فإن آجرت نفسها من دون إذنه بطلت الإجارة ألا أن يرضى الزوج بعد ذلك؛ وأما إذا لم يناف حقه فليس له منعها ولا هي يجب عليها استئذانه حتى لو استلزم ذلك العمل خروجها من بيتها؛ هذا ولكن ينبغي للزوجين التفاهم على هذا الأمر بما يحقق الانسجام بينهما.

أما المرأة غير المتزوجة فإن لها أن تعمل في أي مجال في الحدود المعتبرة شرعاً دون أن يكون لأحد حق منعها من أرحامها ما دامت رشيدة؛ بل إن عقد إجارتها يبقى مستمرا إلى نهاية مدته حتى لو تزوجت خلالها ولم يرض زوجها بتلك الإجارة.

5 ـ الاختيار: فلا يصح عقد المكره إلا أن يرضى بعد ذلك أو يكون الإكراه لسبب مشروع؛ نعم إذا كان الإكراه بدرجة تسلب القصد فإن العقد يبطل حتى لو رضي بعد ذلك. هذا، ولا يعد من الإكراه ما لو أكرهه الظالم مثلاً على دفع مال فاضطر لإجارة نفسه أو داره من أجل تأمين المال، فلا تبطل الإجارة رغم كراهته لها.

مسألة 231: المحجور عليه بالفَلَس يجوز له أن يؤجر نفسه وتصح الإجارة، كذلك يصح أن يكون وكيلاً في الاستئجار عن الغير، لكنه لما كان ممنوعاً من التصرف بأمواله لم يكن له أن يستأجر غيره ليعمل له.

مسألة 232: يجب على الولي عند تشغيل الطفل غير البالغ مراعاة ما يلي:

أ ـ أن لا يتنافى تشغيله مع أمر آخر أهم منه، كتعليمه ما هو لازم لأمثاله ومناسب لزمانه، فإن نافاه قدم تعليمه، إلا أن يكون الطفل فقيراً وليس له من يرعى أموره ويحقق ضروراته إلا إذا اشتغل بنفسه وأنتج.

ب ـ أن لا يترتب على العمل الذي يقوم به ضرر جسدي أو معنوي؛ ونريد بالضرر الجسدي: كل ما يدخل في ذلك مما يترتب على الأعمال المرهقة أو الخطرة ولو في المستقبل، كالعمل في آلات النجارة الكهربائية ونحوها مما قد يؤدي إلى بتر بعض أعضائه، وكالعمل في صبّ الإسمنت أو حمل الأحمال الثقيلة ونحوهما مما يتسبب بإعاقة نموّه أو إصابته بأمراض مزمنة تظهر فيما بعد.

ونريد بالضرر المعنوي: ما يشمل الأضرار العقلية والنفسية الناتجة من قهره والتسلط عليه، بل وربما من ضربه وإهانته، ونحوها مما يكون الطفل شديد التأثر به لرقته المصحوبة بضعفه وعجزه.

ج ـ أن يكون في أصل تشغيله وفي نوع العمل الذي يتولاه مصلحة له، فلا يكفي عدم وجود المفسدة من ذلك، وهو المبدأ الذي ذكرناه في بحث سابق والذي تجب ملاحظته من قبل الولي في جميع شؤون القاصر. (أنظر: ص 31).

الثالث ـ في شروط العمل:

مسألة 233: يشترط في عمل الأجير المتعاقَد عليه بين العامل وصاحب العمل أمور نذكرها كما يلي:

1 ـ تحديد نوع ومواصفات العمل المطلوب، لما له من الأهمية في وضوح دور وعمل الأجير وتحديد مدى مسؤوليته واستحقاقه للأجرة، وقد جرى العقلاء في زماننا هذا على التدقيق فيه بالنحو الذي يتناسب مع أهمية وحجم العمل المطلوب، بدءاً من خياطة ثوب أو حضانة ولد أو ركوب سيارة، وانتهاءً بالتزام بناء الجسور والمصانع والسدود؛ لذا يجب ذكر ما يريده المستأجر من الأجير بالنحو الذي يرفع الجهالة والغرر، فيذكر في خياطة الثوب مثلاً أنه خياطة قميص من قماش محدد وبشكل وطريقة معينة؛ وهكذا لو أراد بناء منزل من الإسمنت المسلّح، كلياً أو جزئياً، وبواجهة من الحجارة الصخرية وبعدد غرف محدد.. فيذكر فيه جميع مواصفات المنـزل. أما الزمان فإنه يرجع إلى رغبة المستأجر، فإن لم يرد تحديد زمان كان له ذلك، اللهم إلا فيما كان للزمان فيه أهمية وكانت تختلف الأغراض باختلافه بنحو يؤدي عدم ذكره إلى الغرر، فيجب فيه ذكر الزمان حينئذ.

وبناءً عليه، فإنه لا يصح أن يستأجره على عمل من دون أن يحدد نوعه، ولا أن يستأجره لبناء غرفة من دون ذكر كونها مطبخاً أو حماماً أو للمنامة أو غيرها من الأغراض الموجبة لاختلاف العمل باختلافها، وكذا لا يصح أن يستأجر سائق سيارة دون أن يذكر له المسافة التي يسوق به إليها، ونحو ذلك من الأمور، ويحكم ببطلان عقد الإجارة الذي لا يتحدد فيه العمل المستأجر عليه بدرجةٍ ترفع الجهالة والغرر.

نعم إذا كان لبعض الأعمال مواصفات شائعة عند العرف بحيث ينصرف إليها التعاقد عند عدم تحديد ما يخالفها، فإنه يكتفى بذلك إذا كان واضحاً ومعلوماً عند الطرفين، ويكون بمثابة ما لو كانا قد ذكراه فعلاً.

هذا، ولا ينافي المعلومية والتحديد وجود الترديد في أصل العمل أو في خصوصياته مع تحديد الأجرة لكل فرد منها، فيصح أن يخيره في أصل العمل قائلاً: «استأجرتك على أن تعمل عندي هذا اليوم، إما في خياطة هذا الثوب بألف أو في فلاحة هذه الأرض بألفين»؛ أو يخيره في الخصوصيات قائلاً: «إن خطت ثوبي بدرزة واحدة فلك ألف وإن خطه بدرزتين فلك ألفان»؛ أو يخيره في الزمان قائلا: «إن حرست كرمي نهاراً فلك ألف وإن حرسته ليلاً فلك ألفان»، وهكذا أمثاله، فإن عدم تحديد أحد الفردين مع تحديد الأجرة على كل واحد منهما ليس جهالة موجبة للغرر، ولا موصلة إلى حد الخطر على المال، فتصح كل إجارة بهذا النحو.

هذا إذا استأجره على عمل معين، أما إذا استأجره على جميع منافعه، وليكون في خدمة صاحب العمل بما يحتاجه إليه مما هو قادر عليه، فإنه لا يحتاج إلى تحديد هذه المنافع والنص عليها، بل يكتفى بالتعميم الذي يصير به العامل ملزماً بكل ما يُتَعارف القيام به من أمثاله.

2 ـ أن يكون العمل محللاً، فلا تصح الإجارة على الغناء بالباطل أو على حمل الخمر أو نحو ذلك مما كان نفس العمل فيه محكوماً بالحرمة؛ أما إذا كان العمل في ذاته حلالاً وكان يراد به الحرام، فإنه لا يحرم العمل فيه إذا لم ينص على الغاية المحرمة في العقد، فتجميل المرأة حلال ولو كان يعلم أنها ستخرج به متبرجة، وعصر العنب أو قطافه حلال وإن كان الأجير يعلم أن المستأجر سيغلي ذلك العصير خمراً، وهكذا أمثاله من الأعمال التي هي غير محرمة بذاتها، ولا هي محرمة من جهة أنها إعانة على الإثم، لأن الإعانة إنما تحرم إذا كانت سبباً مباشراً ومولداً للحرام، وذلك كمثل إدخال الخمر في فمه، وأشباهه؛ فإذا نص على الغاية المحرمة بأن قال له: «استأجرتك لقطاف عنبي هذا لصنعه خمراً»، فقال الأجير: «قبلت قطافه على ذلك الشرط»، فإنه يحرم حينئذ.

وكما تبطل الإجارة على فعل المحرم كذلك تبطل على ما كان إيجاده متوقفاً على عمل محرم، كاستئجار الحائض لكنس المسجد، والتي يتوقف كنسها له على الدخول المحرم إلى المسجد، وكاستئجار شخص لفلاحة أرضه التي لا يمكن المرور إليها إلا بواسطة طريق مغصوبة، وأشباه ذلك.

3 ـ القدرة على التسليم، فلا يصح استئجاره لعمل لا يقدر عليه، إما لكونه في أصله كذلك كالطيران في الهواء مثلاً، أو لعدم سعة الزمان المشروط وقوعه فيه، أو لعدم توفر الآلات اللازمة لإنجازه، أو لعدم معرفته بالعمل المستأجر عليه إذا اشترط عليه المباشرة، فإن لم يشترط المباشرة صحّت الإجارة إذا كان قادراً على استئجار غيره لإنجازه.

مسألة 234: إذا استأجره ليخدمه مدةً من الزمان وجب تحديد مدة العمل باليوم أو السنة أو الشهر؛ وهنا تختلف صيغة التعاقد، فقد يستأجره لمدة سنة بألف ـ مثلاً ـ دفعة واحدة، وقد يستأجره لسنة ـ أيضاً ـ على أن يعطيه أجرته آخر كل شهر، وقد يستأجره كل شهر بمائة على ما هو المتعارف في بعض البلدان، وذلك من دون أن يحدد نهايةً لعدد هذه الأشهر بالأشهر أو بالسنين، وجميع ذلك تصحّ به الإجارة، لأن الجهالة مرتفعة في جميع هذه الفروض عند العرف.

ونتيجة الاستئجار بالصيغة الأخيرة، وهي ما لو قال: «آجرتك نفسي لخدمتك كل شهر بمائة»، أن المستأجر مخيّر عند رأس كل شهر بين الاستمرار في الإجارة بنفس الأجرة التي اتفق عليها أولاً، وبين ترك الإجارة وفسخ العقد، فيما يظل الأجير ملزماً بالاستمرار بالإجارة ما دام المستأجر راغباً فيها إلا أن يشترط هو لنفسه الخيار أيضاً.

مسألة 235: يجوز أن يتفق المتعاقدان على أن يكون الشروع في العمل فورياً ومتصلاً بالعقد، كما يجوز أن يتفقا على أن يكون وقت البدء بالعمل منفصلا عن وقت العقد بمدة طويلة أو قصيرة، كأسبوع وشهر وسنة وأكثر من ذلـك أو أقـل؛ فـإن لـم يذكـر ذلك حين التعاقد وجب على العامل ـ بمقتضى العقد ـ المبادرة إلى الوفاء بمقدار لا يتحقق معه التواني والتسامح بالنحو الذي ينافي الاستعجال العرفي، فلا يضر التواني لبعض الوقت وبمقدار يناسب عرفاً نوع العمل المستأجر عليه، وذلك لتهيئة نفسه وقضاء بعض حوائجه والاستراحة من تعب عمل سابق ونحوه.

مسألة 236: لا يشترط كون العمل مألوفاً عرفاً ما دام للمستأجر غرض عقلائي شخصي منه، فتصح الإجارة في صورة ما لو استأجره ليعد له حبات شجرة الزيتون مثلاً؛ فإن خلا من الغرض العقلائي بطلت الإجارة، وذلك كأن يستأجر شخصاً ليعد له الكواكب، أو لينقل الماء من ضفة النهر إلى الضفة الأخرى، أو نحو ذلك من الأمور العبثية.

مسألة 237: أعمال التعهد والمقاولة المتداولة في هذا الزمان داخلة في باب الإجارة بحسب الظاهر، لأن المتعهِّد أو المقاوِل مستأجر من قبل صاحب العمل للإشراف والمتابعة والتنفيذ للأعمال المتعهد بها، من بناء أو مد شبكة كهرباء أو اتصالات أو تدريب عمال أو إدارة مصنع أو مستشفى أو نحو ذلك، بمبلغ مقطوع وبالنحو المنصوص عليه في شروط العقد؛ وبذلك فإن جميع ما يتعلق بهذا العقد تجري فيه أحكام الإجارة كغيره من عقود العمل الأخرى.

مسألة 238: لا يمنع من صحة الإجارة كون العمل في نتائجـه خاضعـاً ـ في بعض الأحيان ـ لمقدمات غير اختيارية قد تؤثر على النتيجة وجوداً وعدماً، فمثل الطبيب إذا استخدم قواعد الطب في علاج المريض فإنه لا يقطع بالبرء، ومثل الفلاح إذا غرس البذور فإنه لا يضمن نباتها وتولدها، وإن كانت العادة تقضي بحدوث البرء ونبات البذر عند أداء العمل على مقتضى القواعد المعتمدة فيهما، ولكنه رغم ذلك يصح استئجار الطبيب للعلاج بقيد تحقق الشفاء، والفلاح لبذر البذور أو زرع الغرس بقيد النبات والطلوع، وجعل الأجرة دائرة مدار ذلك.

مسألة 239: يكفي في معلومية العمل أن يكون العمل المطلوب واضحاً ومحدداً، كالفلاحة والإرضاع والقطاف ونحوها، فلا يضر في مثلها جهالة مقدار المساحة التي سيحرثها الفلاح في هذا اليوم، ولا جهالة مقدار الحليب الذي سيرتضعه الوليد، سواء في ذلك ما كانت النتيجة الحاصلة منه اختيارية، كالفلاحة، أو قهرية، كإدرار الحليب عند المرضع.

مسألة 240: إذا استؤجر العامل بجميع منافعه المتعارفة منه، والتي قد تستوجب بقاء العامل ومبيته عند صاحب العمل، فإنّ طعامه لا يتحمله صاحب العمل، فضلاً عما لو استؤجر لمنفعةٍ خاصة أو لوقت محدد لا يستلزم المبيت، اللهم إلا أن يشترط العامل ذلك أو يكون ذلك متعارفاً معهوداً.

الرابع ـ في شروط الأجرة:

مسألة 241: لا بد في الأجرة أن تكون مما له قيمة، ويصحّ فيها أن تكون عيناً، كالنقد والسلع، أو تكون عملاً للمستأجر عند الأجير، كأن يفلح له أرضه إذا خاط له ثوبه، أو تكون حقاً، كأن يتنازل له عن حقّ الاختصاص أو التحجير؛ كما أنه لا بد فيها من توفّر عددٍ من الشروط، وذلك على النحو التالي:

أولاً: إذا كانت الأجرة عيناً فلا بد من توفر أمور فيها:

أ ـ أن تكون معلومةً بالمشاهدة لها أو بذكر أوصافها التي تعرف بها وتتميز، من المقدار والنوع والخصائص الأساسية التي تختلف باختلاف الأصناف، والقاعدة في ذلك أنه: (يجب ذكر كل ما ترتفع به الجهالة والغرر من مواصفات الأجرة المطلوبة)، فإذا لم تكن الأجرة معلومة بهذا النحو بطلت الإجارة، فلا يصح أن يجعل الأجرة (مقداراً من المال) أو (ألفاً) أو (شيئاً ثميناً)، أو نحو ذلك مما لا يعرف، نعم إذا جعل الأجرة واحداً من هذه الأثواب أو الأحذية، وكانت الأفراد متساوية في خصائصها، ومصنوعة من نفس القماش أو الجلد وبنفس الخصائص، فإن الإجارة صحيحة، وإن كانت مختلفة قماشاً أو متانة أو شكلاً لم تصحّ الإجارة إلا بذكر خصائصها التي تختلف قيمتها باختلافها.

ب ـ ج ـ د ـ أن تكون العين مملوكة للمستأجر، وأن يكون لها مالية يعتد بها عند العقلاء، وأن تكون مما يمكن تسليمها ودفعها للأجير عند اللزوم. فلا يصح أن يجعل أجرته خمراً أو مالاً مغصوباً، أو مالاً غير مملوك له وإن وثق بتملكه بعد التعاقد، أو حفنة من التراب أو القش الذي لا قيمة له، أو طائراً فرّ من قفصه، و نحو ذلك مما لا تكون ملكيته متوافقة مع هذه الشروط.

نعم يجوز جعل ما لا يقدر على تسليمه عند التعاقد أجرة إذا كان واثقاً من قدرته على تسليمه عند حلول الوقت، وذلك كالطائر الذي يعلم عودته أو الحيوان الشارد كذلك.

ثانياً: إذا كانت الأجرة التي يراد دفعها عملاً، كالنجارة أو الحدادة أو القراءة أو نحوها فإنه يشترط فيها أن تكون عملاً محللاً، فلا يصح أن يجعل أجرته على بناء داره أن يغني له أو أن يعلمه الغناء مثلاً، وكذا لا يصح أن يجعل أجرته عملاً متوقفاً على مقدمة محرمة؛ وذلك بالنحو الذي ذكرناه آنفاً في شروط العمل.

ثالثاً: إذا كانت الأجرة التي يريد دفعها «حقاً» من الحقوق، كمثل حق «الخلو» وحق الحضانة، وحق الاختصاص، وحق التأليف، ونحو ذلك، فإنه لا بد من كونه معلوماً محدداً بما يرفع الجهالة به؛ كما أنه لا بد من كونه مملوكاً له؛ ومن المستحسن إلفات النظر إلى أن «الولاية» على القاصر ليست من الحقوق بالمعنى المصطلح، كي يصح التنازل عنها وإعطاؤها للغير مجاناً أو بيعاً أو أجرة على عمل، بل هي «حكم» ثابت للشخص بعنوانه، وغير قابلة للانتقال إلى الغير بعوض أو بدون عوض.

المبحث الثاني ـ في لزوم العقد وموارد الفسخ:

وتفصيل مسائله يقع في عنوانين:

الأول ـ في لزوم العقد:

مسألة 242: إذا وقع العقد مستكملاً لما ذكرنا من الشروط صار ملزماً للطرفين، فيجب على الأجير الوفاء للمستأجر بما التزم به له، ويجب على المستأجر الوفاء للأجير بما تعهد له من الأجرة، سواء كان التعاقد بينهما قد تمّ باللفظ أو بالكتابة أو بالإشارة أو بالمعاطاة؛ فإن رغب أحدهما بالفسخ والتراجع عن مضمون العقد وإلغائه كلياً، أو رغب بتعديل الاتفاق وإضافة بعض البنود إليه أو إنقاص بعضها منه، لم يكن له ذلك ما لم يوافق الطرف الآخر بمحض اختياره، أو يكون له حق اختيار الفسخ من خلال ما يسمى بـ (الخيار)، أو يحدث من الأسباب ما يستلزم ثبوت خيار الفسخ له، بالموت أو غيره مما سيأتي بيانه، أو يحدث الانفساخ قهراً ببطلان الإجارة لأسباب طارئة كما سيأتي.

مسألة 243: مثلما تكون الإجارة لازمة إذا كان الأصيل هو العاقد كذلك تعتبر لازمة إذا كان الوكيل أو الوصي أو الولي هو العاقد، نعم في صورة كون العاقد هو الوصي أو الولي، وكانت مدة إجارة الطفل من قبلهما تمتد إلى ما بعد بلوغه، فإن للطفل إذا بلغ ولم يرضَ بالإجارة أن يفسخ العقد ويلغي المعاملة فيما بقي لها من مدة إذا لم يكن الولي ـ مثلاً ـ قد خضع حين التعاقد لمصلحة ملزمة لا تتأدى إلا بذلك النحو من الإجارة؛ فمن آجر الطفل ليعمل مدة خمس سنوات، فبلغ بعد عمل ثلاث سنوات منها، وكان دافع الولي لذلك أن إجارته لما بعد بلوغه موجب لزيادة الأجرة، فإنه رغم وجود هذه المصلحة ومراعاة الولي أو الوصي لها، فإن الإجارة لا تكون لازمة لما بعد البلوغ، ويجوز للبالغ فسخها، أما إذا ألجأت المصلحة إلى ذلك، كأن احتاج الطفل إلى مبلغ دفعة واحدة قبل بلوغه ولم يمكن الحصول عليه إلا بإجارته لمدة تزيد عن زمن بلوغه، صارت الإجارة لازمة في تمام المدة وليس للبالغ أن يفسخها حينئذ.

الثاني ـ في موارد الفسخ:

وهي الأمور التي يوجب حدوثها انفساخ عقد الإجارة أو ثبوت حق الفسخ لأحد الطرفين أو لكليهما، وهي غير الفسخ بالتراضي، فإنه أمر يرجع إلى اتفاق المتعاقدين عليه ورضاهما به، فيحصل به الفسخ متى رغبا وكيف شاءا؛ وكنا قد ذكرنا في مستهل هذا المبحث، أن الفسخ قد يكون من جهة ثبوت حق الخيار لأحد المتعاقدين أو لكليهما، وقد يكون لأسباب أخرى، وهو ما نفصله على النحو التالي:

أولاً ـ الفسخ بالخيار:

(الخيار) مصطلح يسمى به السبب الذي يتيح لصاحبه من الطرفين فسخ عقد الإجارة عند حدوثه، فمثل وجود (العيب) في الأجرة أو في العين المستأجرة يعطي حقاً للأجير أو المستأجر بفسخ عقد الإجارة في حالات معينة، فيسمى هذا الحق الثابت به بـ (خيار العيب)، أي: خيار الفسخ بسبب العيب، وهكذا خيار الغبن، وخيار الشرط، وغيرهما من الخيارات.

ورغم أن عادة الفقهاء قد جرت على ذكر هذه الخيارات في مباحث البيع بنحو تفصيلي، وهو ما سوف نلتزم به، فإننا لن نستغني عن ذكرها هنا بمقدار ما تدعو الحاجة إليها، وذلك على النحو التالي:

1 ـ خيار العيب:

مسألة 244: إذا وجد المستأجر عيباً في الأجير، وكان سابقاً على العقد، فإن كان يعلمه واستأجره رغم ذلك لم يكن له عليه شيء، أما إذا غفل عن ذلك أو كان يجهله تماماً، فإن كان عيباً طفيفاً لا ينتقص من منفعته ولا تختلف قيمة عمله بسببه وجوداً وعدماً لم يكن له عليه شيء أيضاً، وذلك كأن يكون قد استأجره للكتابة أو الفلاحة وكان أجرد ليس له لحية، أو كانت البنصر من أصابعه مقطوعة مثلاً؛ أما إذا كان العيب مستلزماً لنقص في عمله وتفويت شيء من منفعته، وذلك كما لو استأجره للقراءة فبان ضعيف النظر، أو لحمل أغراضه فبان مريضاً أو أعرج، أو كان العيب غير مفوت للمنفعة ولكنه كان ممّا يرغب بسببه عن الأجير في أمثال العمل المستأجر عليه، كأن استأجره ليخدم ضيوفه فبان مشوّه المنظر مثلاً، فإنه يثبت للمستأجر في الحالتين خيار الفسخ أو القبول بالأمر الواقع على ما هو عليه إذا لم يترتب على العيب فوات شيء من المنفعة المرتجاة، وإلا جاز له أن ينقص قيمة ما يفوت من المنفعة بنسبته من الأجرة المسماة.

هذا إذا كان العيب سابقاً على العقد؛ أما إذا تجدد العيب بعد العقد، قبل شروعه في العمل أو بعد شروعه فيه واستيفاء شيء من جهد العامل وانقضاء بعض من مدته، فإنه يثبت للمستأجر ـ أيضاً ـ خيار الفسخ أو الرضا بالموجود مع التعويض عن المنفعة الفائتة، وذلك مع لحاظ المدة التي عمل فيها بالنحو المناسب إذا كان الانكشاف أثناء المدة.

مسألة 245: إذا وجد الأجير عيباً في العين المجعولة بنفسها أجرة له أو المجعولة منفعتها أجرة له، والتي كان قد دفعها المستأجر سلفاً قبل شروع الأجير في العمل، فللمسألة صورتان:

الأولى: أن تكون العين المدفوعة شخصية ومحدّدة حين التعاقد، فإذا وجدها الأجير مشتملة على عيب ثبت له نفس الحكم المذكور في المسألة السابقة، من الفسخ أو القبول بالموجود مع أخذ أرش النقصان المتحقق في المنفعة بنفس التفاصيل.

الثانية: أن تكون العين المدفوعة غير مشخّصة في فرد معين، وهي ما يصطلح عليها بـ (العين الكلية)، كمثل أن يقول له: إبن هذا الجدار ولك أجرةٌ نسخةٌ من الكتاب الفلاني، فإنه إذا وجد الأجير عيباً في النسخة التي قبضها لم يكن له فسخ الإجارة، بل يحق له المطالبة بنسخة بدلها غير معيبة، فإن تعذر البدل ثبت له ـ حينئذ ـ خيار الفسخ أو الرضا بالمعيبة مع حق المطالبة بالأرش بالنحو الذي ذكرناه في المسألة السابقة؛ ونفس التفصيل يجري فيما لو جعل الأجرة داراً من دوره الكثيرة ليستوفي الأجرة من منفعة السكن فيها ووجد في الفرد المدفوع إليه عيباً.

هذا إذا دفع له الأجرة سلفاً، أما إذا دفع له العين المعيبة بعدما أدى عمله فإن له الحق ـ فقط ـ بالمطالبة بما يكون قد فاته من قيمة ما سببه العيب من نقصان بعدما سقط حق الفسخ تلقائياً بانتهاء العمل.

2 ـ خيار الغبن:

مسألة 246: يثبت خيار الغبن للمستأجر إذا أعطى الأجير أكثر من الأجرة المتعارفة، ويثبت للأجير إذا أخذ أجرةً أقلّ من المتعارف؛ ولا يتحدّد التفاوت قلةً أو كثرةً بمقدار معين، كالثلث أو الربع أو الخمس، بل المقياس في ذلك هو عدم تسامح العرف الغالب بمثل ذلك التفاوت واعتبارهم مَن وقع عليه ذلك الخسران مغبوناً، وهو أمر يختلف مقداره باختلاف السلعة؛ كما أنه لا بد في ثبوته من كون المغبون جاهلاً بالحال، ومهتماً ومبالياً بالتعامل على أساس الأجرة المتعارفة، أما إذا كان المغبون مريداً للعمل كيف كان وبأية أجرة، دون أن يبالي بموافقة الأجرة المتعارفة، أو كان عالماً بأن الأجرة أكثر أو أقل من المتعارف، لم يثبت له الخيار.

مسألة 247: إذا علم المغبون بالغبن ثبت له من الحقوق ما هو المتعارف في مثله من المعاملات، فإذا كان العرف يقضي بلزوم مطالبة الغابن بمقدار التفاوت أولاً، ثم إن لم يدفع التفاوت كان له فسخ الإجارة، ثبت للمغبون ذلك، ولم يكن له الفسخ إلا بعد رفض الغابن دفع التفاوت؛ وإن لم يوجد مثل هذا العرف في مورد الغبن فليس للمغبون ـ ابتداءً ـ إلا حق الفسخ أو القبول بالأمر الواقع مجرداً عن المطالبة بالتفاوت، فلا يجب على الغابن دفع مقدار التفاوت إذا طلبه الآخر، وكذا لا يجب على المغبون القبول بمقدار التفاوت إذا كان راغباً بالفسخ، إلا أن يتراضيا عليه، أو أن يتصالحا على إسقاط الخيار مقابل مال يدفعه الغابن.

مسألة 248: الظاهر اعتبار الفورية العرفية في خيار الغبن، بمعنى عدم التأخر في الفسخ أكثر مما هو متعارف فيه مما يختلف زمانه باختلاف الموارد والظروف، وذلك بعد العلم بثبوت الغبن وثبوت الخيار له، نعم لا يضر التأخير الحاصل لعذر مقبول، كانتظار حضور الغابن أو الوصول إليه أو حضور من يستشيره في الفسخ وعدمه، ونحو ذلك من الأعذار التي لا يعدّ التأخير الحاصل بسببها توانياً وإهمالاً.

3 ـ خيار اشتراط الفسخ:

مسألة 249: خيار الشرط هو: (أن يشترط كل من المتعاقدين، أو أحدهما، على الآخر لنفسه أو لأجنبي، أن يكون له حق فسخ الإجارة خلال مدة معينة، متصلة بالعقد أو منفصلة عنه)، ويكفي تحديدها ولو بالإجمال، كقوله: «ما دام العمر»، مقابل الإبهام وعدم التحديد المطلق؛ فإذا تم التوافق على ذلك بين المتعاقدين ثبت الخيار لمن شرطه، وجاز له العمل بمقتضاه متى شاء، ووجب على المشروط عليه الوفاء له به.

مسألة 250: يمكن الاستفادة من هذا الخيار بالنحو التالي: وهو أن يؤجر زيدٌ نفسه لصيانـة الكهربـاء ـ مثلاً ـ في مصنع سعيد لمدة خمس سنين، على أن يعطيه كل شهر أجرة خمسمائة دولار، يدفعها له صاحب العمل دفعة واحدة عن السنوات الخمس حين ابتدائه بالعمل، بشرط أن يرجع الأجير هذه الأجرة ويعوضها على صاحب العمل خلال سنتين من تاريخه، ويكون له حق فسخ الإجارة على رأس السنتين وترك العمل عنده.

وتكون الغاية من هذا الاتفاق أن يستفيد صاحب العمل من خبرة الأجير في هندسة الكهرباء مدة سنتين مجاناً، وأن يستفيد الأجير في ابتداء عمله من مبلغ كبير في يده ليوظفه في التجارة والاستثمار أو لشراء شيء مضطر إليه دفعة واحدة، فيما يسدده لصاحب العمل أقساطاً، أو غير ذلك من الفوائد المتصورة.

هذا، وإنه يمكن الاستفادة من هذه الطريقة في صورة ما لو كان موضوع الإجارة عيناً، كالدار والسيارة، بنفس التفاصيل التي ذكرناها لصورة ما لو كان موضوع الإجارة هو النفس.

وأصل هذا الخيار موجود في البيع بعنوان «بيع الخيار»، مع اختلاف في التفاصيل ناتج عن اختلاف طبيعة معاملة البيع عن معاملة الإجارة. (أنظر المسألة 690 وما بعدها).

4 ـ خيار تخلّف الشرط:

مسألة 251: لا يخفى أنه يجوز أن يشترط كلا المتعاقدين ـ أو أحدهما ـ على الآخر ما يشاء من الشروط السائغة في الشرع، وذلك كما لو آجره نفسه لخدمته وشرط عليه أن يعلِّمه الكتابة مثلاً، أو غير ذلك من الشروط؛ وكلما شرط أحد المتعاقدين على الآخر شرطاً وتخلف المشروط عليه عن الوفاء للمشروط له جاز للمشروط له أن يبادر إلى فسخ العقد وإلغاء المعاملة، أو يرضى بالأمر الواقع من دون المطالبة بما فاته بسبب عدم الوفاء له بالشرط، نعم يجوز له قبل ذلك ـ إذا شـاء ـ أن يرفع الأمر للحاكم الشرعي لإجباره على الوفاء، فإن لم يستجب فسخ العقد أو رضي به بدون الشرط.

مسألة 252: لا فرق في الشرط الذي يثبت بتخلفه الخيار بين أن يكون مصرّحاً به ومذكوراً، وبين أن يكون من الشروط الضمنية التي ترتكز عليها معاملات العرف وتكون ملحوظة فيها ضمناً، فلا تذكر ولا يؤكد عليها لشيوعها وحضورها في أذهان المتعاقدين من العارفين بها.

5 ـ خيار تبعض الصفقة:

مسألة 253: يقضي عقد الإجارة أن يُسلِّم مالك العين تمام العين المستأجرة للمستأجر، أو أن يسلم الأجير تمام العمل المستأجر عليه للمستأجر، فإذا لم يسلمه من الدار المستأجرة إلا نصفها مثلاً، أو لم ينجز له الفلاح إلا نصف فلاحة الأرض، في وقت كان ينتظر المستأجر تسلم العين كاملة أو تسلم العمل وإنجازه كاملاً، فإن للمستأجر أن يفسخ الإجارة أو يرضى بالأمر الواقع ويدفع نصف الأجرة المسماة إن لم يكن قد دفعها، أو يعوض عليه المؤجر نصف الأجرة المسماة إن كان قد دفعها إليه، ولكن لو فرض نَقصُ أجرة الجزء الذي تسلّمه لم يكن له مطالبة المؤجر بالأرش والتفاوت الناتج عن ذلك، بل إن غاية ما يستحقه عليه هو الفسخ أو القبول بالموجود كما هو.

6 ـ خيار تعذر التسليم:

مسألة 254: يراد بتعذر التسليم عدم تسليم المالك لشيء من العين المستأجرة، أو عدم تسليم العامل لشيء من العمل المستأجر عليه، أو عدم تسليم المستأجر شيئاً من الأجرة للمؤجر، وذلك إما عمداً أو لطارىء قاهر منع من تسليم أي جزء من المطلوب للطرف الآخر، فإذا تعذر التسليم على هذا النحو ثبت للمتضرر خيار الفسخ.

هذا وسوف نتعرض لتفاصيل أحكام التسليم في مبحث مستقل.

7 ـ خيار الشركة:

مسألة 255: يثبت هذا الخيار إذا انكشف بعد التعاقد كون العين المستأجرة أو المدفوعة أجرة مشتركة بين المنتفع الجديد وغيره، وإنما يثبت بها الخيار لأن الاشتراك يمنعه من الاستقلال بالتصرف بها إلا بعد استئذان الشريك، وفي ذلك مخالفة لشرط ضمني ارتكازي في مثل هذه المعاملات، فيثبت به للمتضرر خيار الفسخ أو الرضا بالأمر الواقع مع المطالبة بالتفاوت الحاصل بين قيمة الشيء مشتركاً وقيمته مملوكاً لواحد.

8 ـ خيار التدليس:

مسألة 256: التدليس هو: (أن يفعل المالك في العين المستأجرة أو المدفوعة أجرة ما يستلزم الحدوث المؤقت لصفة كمال غير موجودة فيها أساساً، بهدف غش الطرف الآخر والتدليس عليه وخداعه)؛ فإذا حدث ذلك ثبت للمدلَّس عليه خيار الفسخ أو الرضا بالموجود مع المطالبة بالأرش، أي بمقدار التفاوت بين ما توفرت فيه الصفة المرغوبة وبين الفاقد لها؛ ومن الواضح ارتباط هذا الخيار بخيار تخلف الشرط بعدما كان التدليس لإقناع المدلَّس عليه بوجود الصفة التي يطلبها. وكما يقع التدليس من صاحب العمل فإنه قد يقع من العامل إذا سلمه العمل على خلاف الأوصاف المطلوبة، بعدما يكون قد أخفاها عنه، وذلك مثل حداد السيارات الذي يخفي عيوب حدادته تحت طبقة الدهان السميكة التي يضعها عليها، أو نحو ذلك.

9 ـ خيار التفليس:

مسألة 257: يتحقق الإفلاس في مقامنا هذا عند عجز المستأجر للعين عن دفع أجرتها، فيتخير المؤجر بين الفسخ واسترداد العين أو الاستمرار في الإجارة والدخول مع سائر الديان في المطالبة بدينه؛ وكذلك يتحقق الإفلاس من المستأجر عند عجزه عن دفع أجرة العامل فيما إذا كان المطلوب دفع الأجرة سلفاً أو قبل انتهاء العمل، فيثبت للعامل حق فسخ الإجارة لما بقي من المدة، ويدخل مع الديان فيما استحقه من الأجرة، أما إذا كان قد أنجز تمام العمل فليس أمامه إلا الدخول مع الديان وانتظار الفرج.

ثانياً ـ الفسخ بغير الخيار:

وهو ما يمكن حدوثه بسبب الموت، أو فوات المحل، أو فقدان شرط من شروط الصحة، وهي أمور نستعرضها في مسائل ثلاث:

مسألة 258: لا تبطل الإجارة بموت صاحب العمل، بل يبقى عقد الإجارة قائماً مع العامل بنفس الأجرة والشروط التي اتفق عليها معه، ويجب على الورثة الوفاء له بها وأداء حقه إليه، مثلما يجب عليه الوفاء لهم بما كان قد تعهد به من عمل لمورثهم، إلا أن يكون قد استأجره لعمل يتعلق به شخصياً كإدارة مكتبه أو تمريضه، فإنه إذا مات المستأجر فقد العقد موضوعه فيبطل.

وتبطل الإجارة بموت العامل إذا كان العمل المستأجر عليه مما ينبغي أن يقوم به بنفسه كحراسته أو خدمة ضيوفه أو نحو ذلك مما يستأجر فيها بمنفعته الخاصة، وكذا إذا شرط عليه المباشرة في مثل الحدادة والنجارة، وأما في غير هذين الفرضين فإن الإجارة لا تبطل بموت العامل، سواء كان قد تهاون حال حياته بأدائه في الوقت المعقول أو المحدد أو كان غير متهاون، فإنه ما دام العقد مستمراً حتى موت العامل لا يبطل بموته، بل يجب على ورثته إفساح المجال لتنفيذه وإنجازه من تركته كسائر الديون التي عليه.

مسألة 259: تنفسخ الإجارة قهرياً في كل مورد يزول فيه الداعي إليها، وهو ما يعبر عنه بـ (فوات المحل) الذي يحصل عادة من تحقق المطلوب والوصول إلى الهدف المرتجى، وذلك كأن يستأجره لعلاج وجع فيزول ويبرأ المريض، أو يستأجره لنقل متاع فيجده منقولاً، أو لقضاء عبادة فيتبرع بها متبرع ويقضيها، ونحو ذلك؛ وحيث تنفسخ الإجارة تلقائياً فإن الأجير لا يستحق شيئاً على المستأجر إلا إذا اشترط عليه صريحاً أو ضمناً دفع شيء له بإزاء أصل ارتباطه معه وسعيه إليه، لما يفوت به على الأجير من فرص الاستفادة.

مسألة 260: إذا فقد العقد شرطاً من شروط الصحة التي تقدمت، سواءً في صيغة العقد أو في المتعاقدين أو في شروط العمل أو الأجرة، مما يعد من أسس معاملة الإجارة وأركانها، بطل العقد، فإن حدث ذلك قبل فعْل الأجير شيئاً مما استؤجر عليه لم يستحق شيئاً على صاحب العمل، وأما إذا كان قد فعل شيئاً مما استؤجر عليه، فإن كان البطلان قد طرأ خلال المدة بعد أن كان صحيحاً قبل ذلك استحق العامل من الأجرة المسماة بمقدار ما عمل، وإن كان البطلان حادثاً من الأول دون أن يعرف به، فعرف به في الأثناء، أو بعد انتهاء العمل، استحق العامل من أجرة المثل بمقدار ما عمل؛ وكذا يستحق العامل أجرة المثل إذا كان أحد الطرفين أو كلاهما عارفاً ببطلان الإجارة، فاستمر رغم ذلك بالعمل بمقتضى العقد المعلوم بطلانه.

هذا إذا لم يشترط صاحب العمل على العامل إتمام العمل لاستحقاق الأجرة، وإلا لم يستحق عليه شيئاً في صورة إنجازه لبعض العمل وانكشاف البطلان بشتى فروضه الآنفة الذكر.

فائدة في أثر الفسخ على الأجرة:

وفيها مسألتان:

مسألة 261: إذا طرأ على الإجارة ما يوجب بطلانها بالنحو الذي ذكر في المسألة السابقة، وكان صاحب العمل قد أعطى العامل أجرته المسماة سلفاً، فإن لم يكن العامل مستحقاً للأجرة المسماة ولا لأجرة المثل وجب عليه إرجاعها إليه، وإن كان مستحقاً لأجرة المثل وجب عليه إرجاع الأجرة المسماة أولاً ثم مطالبته بأجرة المثل؛ ونفس الحكم يجري بنفس التفاصيل إذا كان قد أعطاه بعض الأجرة المسماة سلفاً.

مسألة 262: إذا حصل الفسخ ـ اختياراً أو لكونه حقاً للفاسخ ـ في ابتداء المدة وقبل إنجاز شيء من العمل فلا مشكلة في ذلك، وإذا حصل في الأثناء بعد أداء قسم من العمل استحق العامل الأجرة المسمّاة، أي التي اتفق عليها وسميت بينهما، عن الأيام الماضية التي عمل فيها، أو عن المقدار الذي أنجزه منه؛ نعم إذا كان الفاسخ هو الأجير العامل، وكان العمل مما اشترط فيه إنجازه بتمامه، بنحو لا يُعطى شيئاً من الأجرة إذا لم يُنجزه بتمامه، فإنه لا يستحق شيئاً من الأجرة بعد تخلف الشرط.

المبحث الثالث ـ في أحكام أداء العمل وتسليمه:

وفيه مسائل:

مسألة 263: يجب على العامل أن يلتزم بمضمون العقد وبنوده التي تنص على كيفية أداء العمل ومدته وملابساته، فإذا خالفها ففقد العقد بها بعض أركانه بطلت الإجارة رأساً، وإلا كان لصاحب العمل أن يفسخ العقد بمقتضى خيار تخلف الشرط الذي ذكرناه سابقاً، وهذا أمر أساس وقاعدة كلية تنطبق على كل عمل كان الشرط فيه هو الأصل الذي بني عليه الاتفاق وانطلق منه العمل.

مسألة 264: إذا اشترط المستأجر على العامل مباشرة العمل بنفسه فأوكل العمل إلى غيره، بإجارة أو تبرع منه، بطلت الإجارة، ولم يستحق ذلك العامل شيئاً على ما أنجزه غيره له.

وأما إذا لم يشترط عليه المباشرة، لا صريحاً ولا ضمناً، فإنه يجوز له إيكال العمل إلى غيره، متبرعاً كان ذلك الغير، أو عاملاً عنده ليساعده في أمثال ذلك، أو أجيراً له قد استأجره على هذا العمل الذي طلب منه واستؤجر عليه، وليس لصاحب العمل الاعتراض على ذلك؛ وبناءً عليه، فإن الأجير (الأول) يجوز أن يستأجر غيره بنفس الأجرة أو بالأكثر منها، ولا يجوز بالأقل منها إلا إذا كان الأول قد اشتغل فيه ولو شيئاً قليلاً، وحينئذ لا يجب جعل التفاوت بين ما أخذه الأول أجرة وبين ما دفعه للثاني موافقاً في مقداره لمقدار أجرة ما اشتغله الأول فيها، بل يجوز أن تكون الأجرة أقل بكثير من أجرة الأول لمجرد ذلك العمل القليل الذي عمله الأول؛ وفي مثل هذه الحالة، فإنه إذا كان لصاحب العمل عين في يد العامل، كقطعة القماش ليخيطها ثوباً، واستأجر العامل غيره للخياطة، لم يحتج إلى استئذان صاحب العمل في تسليم قطعة القماش للعامل الثاني.

مسألة 265: إذا تصدى متبرع فأنجز ذلك العمل المطلوب من الأجير، بطلب منه أو بدونه، فإن كان قد قصد التبرع عن العامل وتفريغ ذمته منه، استحق العامل الأجرة رغم قيام الغير بالعمل عنه؛ وإن كان قد قصد التبرع عن غير العامل؛ كما في من استؤجر لقضاء العبادة عن الميت، فتبرع متبرع بالقضاء عن ذلك الميت إعزازاً له ووفاءً لذكراه، بطلت الإجارة ولم يستحق الأجير الأجرة المسماة له بعدما انتفى الموضوع الذي استؤجر لأجله، وهو الذي مرّ نظيره في المسألة 259.

مسألة 266: يجوز للعامل أن يؤجر نفسه لغير صاحب العمل قبل إنجاز ما استأجره عليه إذا لم يشترط عليه المباشرة، أو اشترط المباشرة ولم يحدد المدة، كأن يستأجره لخياطة ثوبه أو لفلاحة أرضه من دون اشتراط مباشرته لذلك، أو اشترطها ولكن لا في زمان خاص، فيصح أن يؤجر نفسه لغيره وتصح كلتا الإجارتين ويفي بهما؛ أما إذا كانت الإجارة الأولى مقيدة بالمباشرة وبالوقوع في زمان خاص، فهي تارة تقع على العامل بلحاظ شخصه المعين بما يتوفر فيه من خصوصيات، وذلك إما على جميع منافعه التي يقدر عليها، كمثل ما لو استأجر شخصاً حارساً وسائقاً ومديراً لمكتبه وكاتباً عنده وخادماً لضيوفه مثلاً، وإما على عمل خاص يحسنه، كمثل ما لو استأجره ليكتب له؛ وتارة أخرى تقع عليه بلحاظ العمل الذي يحسنه بغض النظر عن شخصه، وهو الذي يصطلح عليه بأن العمل فيه يكون في (الذمة)، أي أن مراد صاحب العمل أن يخيط ثوبه بالدرجة الأولى وعند هذا العامل بالدرجة الثانية، فعندما يستأجره على الخياطة تصبح الخياطة في (ذمة) العامل ومجردة عن خصوصية العامل وشخصه.

والظاهر أنه مهما كان النحو الذي وقعت عليه الإجارة من هذين النحوين، فإن الإجارة إذا وقعت بقيد المباشرة وحدد لها زمان خاص لتقع فيه، لم يجز للعامل أن يقوم بما ينافي هذا الالتزام من الأعمال لغير صاحب العمل، سواء لنفسه أو لغيره، وسواء بأجرة أو تبرعاً، إلا أن يكون صاحب العمل غير محتاج إليه خلال المدة فيصح له الاشتغال فيها عند غيره حينئذٍ من دون حاجة لاستئذانه.

مسألة 267: إذا ترك العاملُ المستأجَرُ بجميع منافعه خدمةَ صاحب العمل وعمل لغيره خلال فترة الاحتياج إليه، فهنا صور:

الأولى: أن يكون قد عمل لنفسه؛ وحكمه أن يتخير صاحب العمل بين الرضا بما فعل وإبقاؤه في عمله مع مطالبته بعوض ما فوت عليه من الانتفاع به محسوباً بنسبته من الأجرة المسماة بينهما، وبين أن يفسخ عقد الإجارة ويلغي المعاملة ويسترجع تمام الأجرة المسماة ويعطي العامل أجرة المثل على ما كان قد عمله، إلا أن يكون قد استأجره مشترطاً عليه الاستحقاق عند إنجاز تمام العمل، فلا يكون له شيء عنده حينئذ.

الثانية: أن يكون قد عمل لغيره تبرعاً ومجاناً؛ وحكمه نفس حكم الصورة الأولى، لكنّ صاحب العمل إذا اختار إبقاء الإجارة مع المطالبة بعوض ما فاته فإنه لا يحق له (أي لصاحب العمل) أن يرجع بعوض الفائت على المتبرَّع له بعنوان أنه هو المستفيد من العامل، إلا أن يكون المتبرَّع له قد غرّ العامل وصوّر له أن صاحب العمل قد أذن له بذلك، فيضمن ـ حينئذ ـ لصاحب العمل ما فوت عليه ـ بتغريره ـ من منفعة العامل.

الثالثة: أن يكون قد عمل لغيره بأجرة أو جعالة؛ وحكمه أن يتخير صاحب العمل بين أمرين:

1 ـ أن يقبل بالأمر الواقع ويرضى بالإجارة الثانية الصادرة من العامل خلال مدة عمله معه، وتكون الأجرة التي سميت للعامل من هذه الإجارة الثانية للمستأجر الأول، وتبقى سائر الأمور على ما هي عليه.

2 ـ أن لا يرضى بالإجارة الثانية؛ فيتخير حينئذ بين أن يفسخ الإجارة الأولى ويأخذ منه الأجرة المسماة ويعطيه على ما عمل أجرة المثل، وبين أن يستمر بإجارته له مع التزام العامل بتعويض ما فات من منفعته خلال مدة التزامه بالإجارة الثانية، وذلك بنسبة التفاوت إلى الأجرة المسماة.

ثم إن هذا الحكم يجري بنفسه، وبصوره الثلاث، فيما لو كانت الإجارة قد وقعت على منفعة العامل الخاصة، لا على جميع منافعه كما هو فرض المسألة، وذلك بدون فرق بين ما لو اشتغل عند الغير بنفس عمله الذي استأجره عليه الأول، وبين ما لو اشتغل بغيره على الأقرب، وبدون فرق ـ أيضاً ـ بين ما لو كانت الإجارة قد وقعت على منفعته الخاصة بلحاظ شخصه مع اشتراط المباشرة وتحديد المدة، وبين ما لو كان قد استأجره عليها بلحاظ كونها عملاً في الذمة بقيد المباشرة وتحديد المدة.

مسألة 268: إذا آجر نفسه ليخيط ثوب زيد ففلح له أرضه من دون أن يأمره زيد بذلك، لم يستحق عليه الأجرة المسماة له على الخياطة التي لم ينجزها، حتى لو رضي صاحب العمل بما فعله ولم يفسخ الإجارة، كذلك فإنه لا يستحق عليه أجرة المثل على الفلاحة التي فعلها بدون أمر من زيد ما لم يكن مستأجراً عليها، بدون فرق في ذلك بين ما لو كان العامل متعمداً لذلك أو كان قد سها وغفل عما استؤجر عليه فعمل غير المطلوب منه.

مسألة 269: إذا استأجر عاملاً للفلاحة مثلاً، فاستعمله في غيرها، كتنظيف الأرض من الصخور مثلاً، استحق عليه الأجرة المسماة له على الفلاحة مع ملاحظة أجرة مثل العمل الجديد ومقارنته بالأجرة المسماة، فإن كانت أجرة العمل الجديد أزيد منها عوض عليه تلك الزيادة، وإلا اكتفى بما سماه له؛ وذلك بدون فرق بين ما لو كان العامل ملتفتاً إلى هذا التغير وراضياً به وبين ما لو كان غير ملتفت لذلك، فإن العرف قد جرى على التساهل بمثل هذا التغير في نوع العمل مع تعويض الفرق بين أجرتي العملين إن وجد فرق بينهما.

مسألة 270: الظاهر أن العادة قد جرت على عدم مسؤولية صاحب العمل عن تأمين عدة العمل وآلاته التي يستخدمها العامل في عمله، كالمحراث للفلاح، وعدة البناء للبنّاء، ونحو ذلك، إلا أن يشترط العامل ذلك أو تجري به العادة في بعض الحرف؛ أما المواد التي تستخدم في العمل، فإن العادة ـ أيضاً ـ قد جرت على أن أمرها يختلف بين ما هو طفيف، كالمداد للقلم والخيط لخياطة الثوب ونحوهما، فيتحمله العامل، وبين ما هو جليل ومهم، كأحجار البناء وسائر لوازمه أو أنابيب المياه لعامل الأدوات الصحية أو أسلاك الكهرباء وسائر لوازمها لعامل الكهرباء ونحو ذلك، فإنه يكون على صاحب العمل، إلا أن يشترط كونها على العامل، أو تجري العادة بكونها عليه. وعليه فإنه إن استقرت معاملات الناس على هذا النحو من العادة كانت هي الحاكمة، وإن لم تجر عادة متبعة على أمر معيّن فإن المسؤولية ـ بمقتضى العقد ـ تختلف باختلاف نوع مقدمات العمل، فإن كانت المقدمات مما لا يبقى بعد انتهاء العمل، كالزاد والراحلة ونفقة من يستأجر للحج عن غيره فإنها هنا على الأجير، وإن كانت مما يبقى بعد العمل، كأوراق الكتابة ومواد الدهان وخيطان الخياطة ونحوها فإنها على المستأجر.

مسألة 271: إذا استؤجر للصلاة عن زيد فاشتبه وصلى عن سعيد، فإن كان ذلك منه على نحو الخطأ في تسمية الشخص المحدد الذي كلف الصلاة عنه والذي اسمه زيد فسماه سعيداً خطأ، صح عمله عن زيد واستحق الأجرة المطلوبة، وأما إذا قصد بعمله النيابة عن غير الذي استؤجر عنه لم يصح عمن استؤجر عنه ولم يستحق الأجرة على من قصده في صلاته، وسيأتي شبيهه في أحكام التسليم.

مسألة 272: إذا استؤجر لختم القرآن الكريم لزمه أداء ذلك طبقاً لما هو المتعارف، وهو القراءة الصحيحة في ألفاظها وحركاتها مراعياً لترتيب السور على النحو الموجود في المصحف المتداول؛ فإذا قرأ خطأً غفلةً، والتفت في أثناء قراءة الآية وجب عليه تدارك الخطأ والإتيان باللفظ الصحيح، وأما إذا التفت إلى ذلك بعد الفراغ من السورة أو بعد ختم القرآن، فإن كانت بمقدار يتسامح العرف بصدوره سهواً وغلطاً، كفاه ما أتى به واستحق الأجرة عليه، وإن كانت الأخطاء زائدة على ما هو المتعارف بشكل فاحش لم يقبل منه ذلك ولم يعتبر أداءً للعمل المطلوب، فلا يستحق شيئاً من الأجرة على مَنْ عمل له؛ وحينئذٍ فإن اللازم على العامل تدارك تلك الأخطاء وتصحيحها إن كان ممكناً وإلا بطلت الإجارة بعدما لم يتحقق العمل المطلوب، وهو القراءة الصحيحة.

نعم، في مثل ما لو استؤجر على الكتابة أو لتصحيح الأخطاء المطبعية، وكان فيها أخطاء كثيرة غير مغتفرة، ولم يمكن تداركها، فإذا عدّ ذلك عيباً ثبت لصاحب العمل خيار العيب بالنحو الذي تقدم في أحكام لزوم العقد، وأما إذا كانت الأخطاء في الكثرة بدرجة يعد فيها العمل خارجاً عن المألوف وعلى خلاف المطلوب منه عرفاً فلا يعد مصداقاً للوفاء وتبطل به الإجارة، فلا يستحق أجرة عليه.

مسألة 273: إذا استؤجر للصلاة عن الميت وكان المستأجَرُ عليه والمطلوب منه هو الصلاة الصحيحة المطابقة للأحكام الشرعية المعتبرة فيها، فإنه يكفي العامل أن يأتي بها كذلك ولو كان قد نقّص منها أجزاءها المستحبة، وكذا بعض أجزائها الواجبة سهواً، أما إذا كان قد استؤجر على الصلاة بتمام أجزائها الواجبة والمستحبّة، فسقط منها بعض الأجزاء الواجبة سهواً، أو بعض الأجزاء المستحبة سهواً أو عمداً، فإنه يصح منه ذلك ـ أيضاً ـ ولكنه لا يستحق من الأجرة إلا بمقدار ما أتى به منها، إلا أن يكون قد جعل تمام الأجزاء أساساً و«قيداً» لاستحقاق الأجرة، بحيث لا يعطيه شيئاً منها إذا لم تكن الصلاة تامة، فإنه ـ حينئذ ـ لا يستحق شيئاً من الأجرة. (أنظر لمزيد من التوسع: الجزء الأول، أحكام قضاء الصلاة، وأحكام قضاء الصوم، وانظر أيضاً: مناسك الحج، أحكام النيابة).

مسألة 274: إذا بذل العامل نفسه للعمل فمنعه منه فقدان العين بمثل الغصب، أو أخذ الظالم لمحل العمل بنحو لا يقدر معه على العمل فيه، فإن الإجارة تبطل لفوات محل العمل وزوال الهدف الداعي إليها، وحينئذ لا يستحق العامل أجرة على المستأجر. وأما إذا كان المانع من العمل هو إتلاف المالك لها قبل العمل أو في أثنائه، فإن كان قد استأجره على عمل في الذمة، وكان الإتلاف قبل العمل، بطلت الإجارة، وإن كان أثناءه أعطاه من الأجرة بمقدار ما عمل، وأما إذا استأجره على منفعته الخاصة في يوم محدد، فأتلف المستأجر العين مع استعداد العامل للعمل، عد ذلك الإتلاف استيفاءً وصار العامل مستحقاً للأجرة المسماة له، سواء كان العامل قد أنجز شيئاً من العمل أو لم يكن بعدُ قد عمل شيئاً.

مسألة 275: إذا حضر العامل إلى موقع عمله لإنجاز ما هو مطلوب منه فلم يمكِّنه صاحب العمل ولم يُفسح المجال أمامه لمباشرة عمله، وذلك بمثل عدم إحضار العين التي يريد العمل فيها أو عدم إخلاء المحل الذي يريد التواجد فيه أو نحو ذلك، حتى انقضى الوقت المحدد لإنجازه، فإن كان العامل خلال الوقت قد ظلّ متعطلاً ومنتظراً وجب على صاحب العمل دفع الأجرة المسماة له، وإن كان العامل قد بادر إلى القيام بعمل آخر لغيره أو لنفسه لم يستحق الأجرة على صاحب العمل؛ بدون فرق في ذلك بين ما لو كان عدم التمكين لعذر طرأ على صاحب العمل كالمرض والنسيان ونحوهما، وبين ما لو كان ذلك عن عمد واختيار.

نعم إذا كان المانع للمستأجر من استيفاء منفعة العامل عذراً عاماً، كحدوث عاصفة شديدة أو حرب أو نحوهما، بطلت الإجارة من أصلها، وحينئذٍ لا يستحق العامل أجرة على صاحب العمل حتى لو ظلّ متعطلاً من أجله.

مسألة 276: إذا استأجره ليحمل متاعه على دابته أو في سيارته أو لينقله إلى مكان معين، أو استأجره للفلاحة أو الكتابة أو نحو ذلك، فحدث في الأثناء ما منع العامل من إنجاز ما تعهد به، كحدوث خلل في آلات العمل، أو حبسه عدو أو خوف من برد أو مرضٌ حل به أو تلفت العين التي يستخدمها في عمله أو أتلفها العامل أو الأجنبي، أو نحو ذلك من الموانع، فإن كانت الإجارة قد وقعت على نحو يلحظ فيه استحقاق الأجرة على كل جزء منها، وهو ما يصطلح عليه بـ (تعدد المطلوب)، استحق العامل من الأجرة المسمّاة بمقدار ما أنجز من العمل، وإن كانت الأجرة قد وقعت على العمل الكلّي المطلوب انجازه بتمامه، وهو الذي يصطلح عليه بـ (وحدة المطلوب)، فحيث إن العامل لم ينجزه كله فإنه يحكم ببطلان الإجارة وعدم استحقاق العامل شيئاً من الأجرة، بدون فرق بين ما لو كانت المقدمات ملحوظة مع النتيجة، كما لو كان يهمه إيصال البضاعة مع اهتمامه بإيصالها بشاحنة ذات أوصاف خاصة، وبين ما لو كان المهم عنده وصول البضاعة بأي نحو كان.

مسألة 277: إذا وقع العقد صحيحاً بالنحو الذي بيّناه في المبحث السابق ـ بما في ذلك ما يقتضيه العقـد من لـزوم الفورية ـ صار العامل ملزماً بتقديم جهده لصاحب العمل الذي استأجره، وبحسب عبارة الفقهاء: «صارت منفعة العامل مملوكة للمستأجر»، كذلك فإنّ العامل يملك الأجرة بمقتضى ذلك العقد وبمجرد وقوعه، ولكن هذه الملكية الثابتة لكل منهما لا تُجوِّز لأحدهما مطالبة الآخر بأداء ما عليه وتسليمه قبل أداء الآخر ما عليه وتسليمه، بل إنه يجب عليهما مقترنين تسليم كل واحد ما للآخر عنده ما لم يشترط أحدهما خلاف ذلك على الآخر، وتختلف كيفية التسليم من قبل العامل باختلاف نوع العمل، فإن كان للمستأجر عين يعمل فيها الأجير، كالثوب يخيطه أو السيارة يصلحها أو نحوهما، فإن التسليم يتحقق ـ حينئذ ـ بتسليم العين بعد إنجاز العمل المطلوب فيها، وإن لم يكن له عين بيده، بل كان من قبيل الحراسة والطبابة، فإن تسليمه يكون بإنجاز العمل المطلوب منه بالنحو الذي اتفق عليه، فيسلمه المستأجر الأجرة التي يستحقها حينئذ حتى لو كانت تلك الأجرة المسماة عملاً، إذ إن المستأجر ملزم بأن يراعي إنجاز العمل المطلوب منه أجرةً للعامل عند إنجاز العامل العمل المطلوب للمستأجر.

هذا كله فيما لو تم العقد بلا شروط، أما إذا اشترط أحد الطرفين خلاف ذلك في التسليم وكيفيته ومدته ومكانه وغير ذلك من شؤونه، وقبل الآخر، وجب على المشروط عليه الوفاء للمشروط له بجميع ما شرط.

مسألة 278: إذا امتنع صاحب العمل عن دفع الأجرة للعامل بالنحو الذي اتفقا عليه، فإن كان الاتفاق على دفع شيء من الأجرة كلما أنجز شيئاً من العمل، فإن العامل حينئذ يتخير بين الاستمرار في العمل وترك المطالبة وبين الفسخ والمطالبة بحصته من الأجرة المسماة بمقدار ما عمل؛ وإن كان الاتفاق على تسليم الأجرة بعد إنجاز تمام العمل، فامتنع المستأجر عن دفعها للعامل مع استحقاقه ووفائه له بما طالب، فإن العامل يتخير حينئذ بين أمرين:

1 ـ أن يجبر المستأجر على دفعها له، وذلك إما بمبادرته إلى قهره على الدفع من دون إيذائه بشتم أو ضرب أو نحوهما، أو بشكايته إلى الحاكم، أو بحبس العين التي يعمل له فيها حتى يدفع له الأجرة.

2 ـ أن يقتص منه، وذلك بأن يأخذ العين المشخصة التي جعلت أجرةً له خلسة، فإن لم تكن مشخصة لم يجز له اختلاس شيء في مقابلها إلا بإذن الحاكم الشرعي.

هذا هو حكم ما لو كان صاحب العمل هو الممتنع؛ أما إذا امتنع العامل عن تسليم العين التي يعمل فيها للمستأجر مع بذله له تمام الأجرة، فإن للمستأجر ـ أيضاً ـ أن يجبره على ذلك بنفسه بالنحو الذي تقدّم آنفاً أو عن طريق الحاكم، وله أن يقتص منه بأخذ شيء من ماله خلسة بإذن الحاكم الشرعي.

المبحث الرابع ـ في أحكام التلف والإفساد:

نريد بالتلف: (خروج العين عن إمكانية الانتفاع بها بمثل الحرق والغرق والسرقة ونحوها)، ونريد بالإفساد: (حدوث أمر في العين التي للمستأجر بيد الأجير يؤدي إلى فسادها وتعيبها ونقصها والإضرار بها)، كالطبيب يريد العلاج فيخطىء الدواء أو التصرف فيزداد المريض مرضاً أو يموت، وكالخياط يريد خياطة الثوب فيخطىء في تفصيله فيصير قصيراً، ونحو ذلك.

وتفصيل ذلك في مسائل:

مسألة 279: كل ما يكون في يد العامل من مال لصاحب العمل ليعمل فيه فيتلف بسبب آخر غير عمل العامل فيه بدون تفريط منه ولا تعدٍّ لا يضمنه العامل، وهذه أمثلة على ذلك:

1 ـ المريض أو المختون إذا مات أثناء العلاج لسبب آخر لا علاقة له بالعلاج، إما حتف أنفه، أو لوقوعه عن مرتفع، أو نحو ذلك من أسباب الموت التي لا علاقة لفعل الطبيب أو الختّان بها، لم يضمنه الطبيب أو الختان.

2 ـ السيارة عند الميكانيكي، أو الثوب عند الخياط، ونحوهما، إذا احترقت أو سرقت ولم تكن سرقتها عن تقصير في حفظها، لا يضمنها العامل.

3 ـ المستأجر لحمل متاع على دابته أو في سيارته لإيصاله إلى مكان معين، إذا عثرت الدابة أو تدهورت السيارة، فتلف الحمل الذي عليها لم يضمن صاحب الدابة أو السيارة، ما لم يكن هو السبب في ذلك، كأن يقود سيارته خلافاً لقوانين السير، أو في حالة نعاس، أو أن ينخس دابته أو يضربها ضرباً غير متعارف أو نحو ذلك، فإن كان مقصّراً بهذا النحو ضمن ما يتلف. ومثله في الحكم ما لو كان يحمله هو بنفسه فسقط ما كان على ظهره أو رأسه فانكسر، أو تعثر فوقع الحمل فتلف، وهكذا أمثال ذلك مما تكون القاعدة فيه حدوث التلف بغير فعل العامل ودون تعدٍّ منه ولا تفريط.

مسألة 280: يضمن العامل ـ إذا كان مقصراً أو قليل الخبرة في عمله ـ كل عين للمستأجر تتلف بين يديه بسبب ذلك العمل أو تنقص أو تتعيب، أما إذا كان منتبهاً حاذقاً ومتحرزاً عن الوقوع في الخطأ جهده، وعمل فيها على حسب الأصول والقواعد المعتبرة في مهنته، فإنه لا يضمن ما يفسد في يده. وهذا الحكم العام ينطبق على مختلف الأعمال والحرف، فهو ينطبق على من يريد إصلاح آلة فيزيدها خراباً أو يتلفها تماماً، وعلى من يعالج مريضاً فيصف له دواءً أو علاجاً فيزداد مرضاً أو يموت، وعلى من يريد خياطة ثوب فيفصله فيقصر، وعلى البلاّط والبناء إذا أفسدا المنزل الذي يُبنى، أو الأرض التي تفرش بالبلاط، وأدى ذلك إلى عيب فيه أو إلى حالة لا يمكن علاجها إلا بإتلاف العين كلها، كما في مثل حالات فرش الأرض بالبلاط أو تغطية الحيطان بالإسمنت ونحوهما مما يختلف باختلاف الأعيان والأعمال ودرجة الإفساد الواقع فيها؛ ومن ذلك ما لو كان تلفها بسبب مخالفة حكم الشرع فيها، كالحيوان الذي يستأجر لذبحه فيذبحه على غير الوجه الشرعي، فإنه يضمنه إذا قصر، بل يضمنه ـ حينئذ ـ ولو كان متبرعاً.

مسألة 281: لا يضمن الطبيب الجرّاح، ومنه الختّان، المريض إذا مات أثناء العملية الجراحية من دون تقصير ولا خطأ من الجراح، بأن كان قد احتاط لجميع الاحتمالات وأخذ وضعه الصحي العام بنظر الاعتبار، فإن مات المريض أو تضرر بسببها، وخاصة لأمور طارئة غير متوقعة، فإن الجراح لا يضمن موته ولا الضرر الواقع عليه؛ ولا فرق في عدم الضمان عند عدم التقصير بين ما لو باشر العمل بنفسه وبين ما لو أمر به غيره من مساعديه من الأطباء والممرضين.

كذلك فإن الطبيب المعالج لا يضمن تضرر المريض من العلاج ولا موته إذا كان قد راعى القواعد المعتبرة في مهنته ولم يقصر في بذل الجهد المطلوب منه في مثل تلك الحالة، سواء كان الطبيب قد أشربه الدواء بنفسه، أو وصفه له فشربه المريض، أو سقاه الممرض إياه بأمر من الطبيب.

مسألة 282: لا بد لسقوط الضمان عن الطبيب غير المقصّر من أن يكون مأذوناً بمعالجة المريض، إما من قبل المريض نفسه مع الإمكان أو من قبل وليه مع عدم الإمكان لصغر أو غيبوبة أو نحوهما، فإذا تصدى لعلاج المريض دون إذنه ولا إذن وليه كان متعدياً، فيضمن ما يقع على المريض من أذى إذا تضرر من علاجه أو مات حتى لو لم يكن مقصراً؛ نعم تجوز المبادرة لعلاجه في كل مورد يصعب الاستئذان فيه، وذلك إما لكون المريض في حالة غيبوبة مستمرة وليس له ولي، أو له ولي غائب يصعب الاتصال به لوباء أو حرب أو سفر، وإما لضرورة الإسراع في علاجه لإنقاذه من ضرر كبير أو موت، أو لغير ذلك من الدواعي والأسباب.

مسألة 283: إذا قطع الخياط القماش وفصّله معتقداً كفايته للثوب المطلوب، فتبين عدم كفايته، فإذا تلف بذلك وسقط عن الانتفاع في ما يريده له المالك وجب على الخياط ضمان القماش لصاحبه، وكذا كل ما يشبهه مما يدخل في باب المقدمات لعملٍ من الأعمال، كمثل من اعتقد كفاية قطعة خشب للطاولة المعينة، ففصلها فلم تكف، فإنه يضمنها لصاحبها، ونحو ذلك، من دون فرق في ثبوت الضمان عليه بين ما لو قال له ابتداءً: «إن كانت تكفيني ثوباً أو طاولة ففصلها»، وبين ما لو قال له: «هل تكفيني هذه ثوباً، فقال: نعم، فقال: اقطعها» فقطعها، لأن صاحب القماش إنما أذن له في قطعها وتفصيلها في الحالتين بعدما كان الخياط قد أشار عليه بذلك معتقداً كفايتها، فيتحمل ضمانها على كل حال.

ويجب الإلفات إلى أن الفرق بين هذه المسألة وبين مسألة ما لو أعطاه الثوب ليخيطه فأفسده، وهي التي حكمنا فيها سابقاً (أنظر المسألة 280) بعدم ضمان العامل له إلا مع التقصير، أنه هناك قد أخطأ في عملية الخياطة نفسها أو في كيفية قص القماش، فلا يضمن ما يفسد في يده إلا مع التقصير، أما هنا فإنه قد أخطأ في أمر مستقل عن عملية الخياطة، وهو الحكم بكفاية هذا المقدار من القماش ليخاط ثوباً، فيضمن ما فسد بمشورته ولو لم يقصر في النظر والتأمل.

مسألة 284: لا يضمن صاحب العمل ـ ما لم يكن متعدياً ـ ما يقع على العامل من مرض أو ضرر أو موت خلال قيامه بعمله له، سواء كان مستأجراً لجميع منافعه أو لمنفعة خاصة أو لعمل في ذمته، وسواء كان في محل عمل للمستأجر، كمنزله أو محله، أو كان في حانوت العامل وموقع عمله؛ نعم إذا اشترط العامل الضمان على صاحب العمل بكيفية خاصة، أو على ما هي قوانين العمل الحديثة، صراحة أو ضمناً، صار ملزماً به بالنحو المشروط.

مسألة 285: في كل مورد لا يضمن فيه العامل ما يتلف تحت يده يصح أن يشترط فيه صاحب العمل الضمان عليه، فإذا قبل العامل بذلك ثبت عليه الضمان ولزمه الوفاء بالشرط لصاحب العمل؛ ومنه ما لو كان ضمان العامل في جميع الحالات ـ أو في بعضها ـ متعارفاً وحاضراً في الذهن بدرجة يصير فيها شرطاً ضمنياً تجري عليه المعاملات من دون تصريح به.

وفي مقابل ذلك، فإنه في كل مورد يضمن فيه العامل ما يتلف تحت يده يصح له اشتراط عدم ضمانه لصاحب العمل، فإذا قبل ذلك من العامل لم يكن له مطالبته بالضمان ولو كان قد قصر أو تعدى؛ نعم لا يصح مثل هذا الإبراء للطبيب، فإن إبراء الطبيب من ضمان ما يفسده بعلاجه عند التقصير والتعدي يعد تعريضاً للنفس للضرر والأذى المحتمل، وهو مما لا يجوز تعريض النفس له ولا تعريض نفس المولّى عليه، كولده مثلاً.

مسألة 286: المبدأ العام في الضمان هو ضمان مثل العين التي تلفت إذا كان لها أفراد كثيرة متماثلة، كالمصنوعات التي في زماننا من أدوات كهربائية وسيارات وأقمشة وألبسة وغيرها، بل يمكن القول: إن معظم الأعيان الموجودة في زماننا هي من نوع الأعيان التي يصطلح عليها بـ (المثلية)، أي التي لها مثل وشبيه لا يختلف عنها أبداً؛ فإن لم تكن العين كذلك، بل كانت من نوع الجواهر والحيوان، أو من بعض المصنوعات اليدوية، كالحلي والمنسوجات والرسوم، أو كانت من الزيوت الطبيعيّة والأطعمة واللحوم والفواكه ونحوها من الأعيان التي لا تتماثل أفرادها، فإنها إذا تلفت تقدَّر بقيمتها، فإذا اختلفت القيم خلال الفترة الواقعة ما بين يوم تلفها ويوم ضمانها تعيّن التقدير بقيمتها يوم تلفها.


 

 

الفصل الثالث

في المزارعة والمساقاة

 

المبحث الأول: في المزارعة

المبحث الثاني: فـي المساقاة


 


 

 

تمهيـد:

تعتبر الزراعة من الأعمال الهامة التي مارسها الإنسان منذ القدم، وهي بشتى مجالاتها من الأعمال التي يصح إيجار النفس من أجل العمل فيها، فتكون بذلك مشمولة ـ إجمالاً ـ لأحكام الإجارة التي سلف ذكرها، لكن نظراً لتشعب فروع التعامل بها وكثرة الأحكام المتعلقة بها واختلافها من بعض النواحي عن الإجارة واختصاصها بعقد خاص بها، هي وبعض فروعها، فإن الفقهاء قد جعلوا لها قسماً خاصاً في كتبهم الفقهية، فأصبحت بذلك مستقلةً عن باب الإجارة، رغم أنها في جوهرها ليست منفصلة عنها إلا جزئياً.

وعملية الزراعة لا تقتصر على بذر الحب أو غرس النبتة في التراب، بل إن لها مقدمات ضرورية، كفلاحة الأرض وتثليمها وتسوية قنوات الري وأنابيبه ونحو ذلك، كما أن لها نوعاً من الرعاية بعد زرعها يستمر إلى ما بعد قطافها، كتسميد التربة وإزالة الحشائش الضارة وسقاية الزرع وأعمال أخرى كثيرة، ورغم كون هذه العملية واحدة ومتكاملة في مراحلها، فإن الشريعة قد دونت أحكامها تحت عناوين ثلاثة:

الأول: المزارعة، وهي مصطلح فقهي يراد به: (التعاقد بين متولي الأرض وبين الزارع على زراعة الأرض بغير الأشجار بحصة من حاصلها مقدرة بالكسور)، فهي تختص بنفس استحداث الزرع بعد أن لم يكن، وذلك بمثل زراعة الحبوب والخضار، ثم تعهده إلى حين قطافه وحصاده.

الثاني: المغارسة، وهي مصطلح يراد به: (التعاقد على زرع الأشجار ـ بخاصة ـ وغرسها بحصة مستقلة عن الأرض أو مع حصة من الأرض)، وذلك مع تعهدها بالرعاية حتى تصير منتجة، وهو ما سنعرض له في آخر بحث المزارعة.

الثالث: المساقاة، وهي صيغة «مفاعلة» تفيد المشاركة، مأخوذة من سقي الماء وإفاضته على الزرع، ولكن المصطلح الفقهي أعمّ من ذلك، فهي: (اتفاق شخص مع آخر على رعاية أشجار ونحوها وإصلاح شؤونها إلى مدةٍ معينة بحصة من حاصلها)، فهي تختص بكونها رعاية لزرع موجود نابت بمثل السقاية والتعشيب ونحوهما إلى حين قطافه.

وهنا لا بدّ من ملاحظة ما يلي:

أولاً: إن المزارعة والمساقاة تشتركان في أن الهدف من التعاقد على كل منهما هو العناية بالزرع ورعايته، وتختلفان في أن الأولى اسم لنفس استحداث الزرع واستنباته، مضافاً للعناية به ورعايته بالسقاية ونحوها فيما بعد، وأما الثانية فإنها إسم لنفس رعايته بالسقاية ونحوها بعد وجوده وظهوره.

ثانياً: إنه سوف يظهر من استعراض الأحكام المتعلقة بهما أن الاختلاف لا يقتصر فقط على نوع العمل المطلوب في كل منهما، بل يشمل الاختلاف أموراً أخرى من فروع كل منهما.

ثالثاً: إن بعض الأعمال التي تدخل تحت عنوان المزارعة أو المساقاة يمكن التعاقد عليها أو الالتزام بها بوسائل أخرى هي:

أ ـ عقد الإجارة، وذلك بأن يستأجر عاملاً لفلاحة الأرض بخاصة أو لسقاية الزرع أو لتسميد التربة أو لقطاف الثمرة، بل يمكنه أن يستأجره على أكثر من عمل واحد منها.

ب ـ الجعالة، وذلك بأن يعلن متولي الأرض تعهده بجزءٍ من حاصل الأرض، أو بمال غيره، لمن يزرع أرضه المعلومة بطريقة معينة، أو لمن يسقي زرعه المعلوم، أو غير ذلك من شؤون المزارعة أو المساقاة؛ ومثل هذا الإعلان يصطلح عليه بـ (الجعالة)، وتترتب عليه أحكامها.

ج ـ الإذن، وذلك بأن يجيز ويأذن لشخص بزراعة أرضه أو سقايتها بالنحو المتّبع في المزارعة والمساقاة، فيقع كذلك ويصح، وتلحقه أحكام كل منهما ما عدا أحكام نفس العقد، لأن مثل هذا «الإذن» ليس عقداً لتلحقه أحكام وآثار التعاقد التي تترتب في المزارعة أو المساقاة، لجهة شروط التعاقد وأحكام الفسخ ونحو ذلك.

هذا، وإننا سوف نتحدث عن هذه العناوين الثلاثة في مبحثين، الأول منهما يشتمل على أحكام المزارعة، مع التعرض في آخره لحكم المغارسة؛ والثاني منهما يشتمل على أحكام المساقاة.

المبحث الأول ـ في المزارعة:

وفيه ثلاثة مطالب وخاتمة:

المطلب الأول ـ في العقد وشروطه:

وتفصيل أحكامه يقع في مسائل:

مسألة 287: لا بد في المزارعة من (عقدٍ) بين صاحب الأرض والزارع يذكر فيه مراد كل منهما وشروطه التي يرغب أن يكون العمل على أساسها، وكمال العقد أن يكون باللغة العربية وبصيغة الماضي عند إيجابه من قبل صاحب الأرض بقوله: «سلمت إليك هذه الأرض لتزرعها بالكيفية الفلانية بحصة من حاصلها مقدارها كذا»، فيقول الزارع: «قبلت»؛ ولكنه يصح بكل لفظ يدل على المزارعة، بل وبكل لغة، فلا يشترط فيه إلا استخدام ما يدل على رغبة المتعاقدين من الألفاظ إذا كان التعاقد (لفظياً)، وإلا فإنه يصح بالمعاطاة التي تتحقق بتسليم الأرض للزارع ليزرعها بكيفية خاصة واستلام الأرض من قبل الزارع قاصداً القيام بما طلب منه.

مسألة 288: يجب أن يشتمل عقد المزارعة على أمور:

الأول: أن يكون كل من المتعاقدين عاقلاً غير مجنون ورشيداً غير سفيه، وأن يكون مختاراً غير مكره، وأن يكون بالغاً، أما غير البالغ فإنه يصح عقده إذا كان مميزاً ومأذوناً من قبل الولي، وإلا لم يصح، وأن لا يكون محجوراً عليه لفلس إذا استلزم العقد تصرفه بالمال المحجور عليه، وإلا لم يمنع الحجر على المفلس من صحة عقده ومضيّه.

الثاني: تعيين قطعة بعينها من أراضي المالك المتعددة إذا كانت مختلفة في طبيعتها اختلافاً موجباً لاختلاف مستلزمات وشؤون الزراعة فيها، فإذا لم يعين الأرض في مثل هذه الحالة تبطل المزارعة، وأما مع تساوي تلك القطع من الأرض في الصلاحية الزراعية ومستلزماتها، فلا يضر عدم التعيين بصحة العقد، وعلى الزارع ـ حينئذ ـ أن يلتزم بما يعينه له المالك.

الثالث: أن تكون الأرض قابلةً للزرع من جهة تربتها وتوفر الماء فيها أو إمكان إيصاله إليها، ولو ببذل الجهد في إصلاحها وريِّها، وكذا من جهة عدم وجود ما لا يرجى زواله من موانع الزراعة خلال فترة التعاقد، مثل وجود عدوّ فيها أو سباع أو فئران تضر بالزرع أو ما يشبه ذلك من الموانع؛ فإذا تم التعاقد على أرض لا يتوفر فيها هذا الشرط بطلت المزارعة، وكذا تبطل المزارعة إذا انكشف ذلك فيها بعد العقد ما دام لا يمكن إصلاح الأمر، أما إذا أمكن إصلاح الأمر وتحقيق القابلية بأكثر من الجهد الذي اتفق عليه ـ ولو ضمناً ـ كان للزارع خيار تخلف الشرط بالنحو الذي سنذكره لاحقاً.

الرابع: تعيين المزروع من حيث جنسه، وأنه حَبٌّ أو خضار، وأنه أي نوع من الجنس، شعير أو عدس أو فول مثلاً، وأنه أي صنف منها إذا كان للنوع صنفان أو أكثر مما تختلف فيه الأغراض، ويكفي في التعيين شيوع زراعة جنس أو نوع أو صنف بعينه بنحو صار ذلك الشيوع موجباً لانصراف اللفظ إليه ومغنياً عن تصريح المتعاقدين به، فإذا لم يعينا نوع المزروع بطل العقد إلا أن يصرِّحا بالتعميم وبحرية الزارع في زرع ما يشاء، أو تكون قرينة على إرادة التعميم تفهم من جو التعاقد.

الخامس: تعيين المدة بالأشهر أو السنين أو الفصول بالمقدار الذي يمكن حصول الزرع فيه، ولا تعتبر صلاحية الأرض للانتفاع في تمام المدة المعينة، فلو كانت الأرض تحتاج إلى إصـلاح في السنـة الأولـى ـ مثـلاً ـ لـم يضر ذلك في مزارعتها سنتين أو ثلاث، سواء في ذلك الأرض الموقوفة وقفا عاما أو خاصا وغيرها.

السادس: تعيين ما عليهما من المصارف والنفقات اللازمة لإتمام عملية الزراعة واستخراج الحاصل مما لا بد من جعله على أحدهما أو على كليهما، ويكفي في ذلك الاعتماد على ما هو المتعارف منه في كل مجتمع.

السابع: أن يكون لكل من المالك والزارع حصة من حاصل الأرض محددة بالكسور، كالنصف والثلث، فلا يصح أن تكون أجرة الزارع ولا نصيب المالك حصة من الحاصل محددة بالكيل أو الوزن، ولا مقدارا من النقد أو غيره من سائر الأموال، بل ولا يصح أن يتفقا على أن يُجعل الحاصل كله لواحد منهما دون الآخر، ولا يصح أن يكون تحديد حصة أحدهما بمثل: (ما يحصد أو يقطف في الأيام العشرة الأولى)، ونحو ذلك مما لا تحديد فيه بالكسور، فإذا حددت الحصة بغير الكسور لم تصح المزارعة.

ولهذا الشرط تفاصيل نذكرها كما يلي:

1 ـ لا يشتـرط في الحصة أن تكون مشاعـة في جميع الحاصل، فيصح اشتراط اختصاص أحدهما بقطعة أرض معينة يأخذ منها حصته، أو اشتراط أن يأخذ حصته من القسم الذي يقطف أولاً، ونحو ذلك مما لا ينافي كون حصته كسراً من الحاصل ولو لم تكن مشاعة في جميعه.

2 ـ يصح أن يشترط كل من المالك والزارع على الآخر زيادة على حصته نقداً أو عينا من غير الحاصل، وذلك كأن يقول المالك: «ازرع هذه الأرض ولك نصف حاصلها على أن تعطيني زيادةً على نصفي خمس شياه أو ألف قطعة من النقد»، أو نحو ذلك، فلا يصح اشتراط زيادةٍ لأحدهما من حاصلها، كأن يجعل أحدهما لنفسه مثلا خمسة أطنان من الحاصل زيادة على حصته المتّفق عليها، اللهم إلا أن يكون ذلك الزائد مقابل مقدار البذر لمن كان منه، أو مقابل الضرائب التي دفعت على الأرض لمن دفعها؛ ثم إن هذه الزيادة المشروطة تثبت لمن شرطها حتى لو لم تسلم حصة الآخر، كلها أو بعضها، إلا أن يشترط في ثبوتها سلامة حصة المشروط عليه، كلها أو بعضها، أو أن تكون السلامة شرطاً ضمنياً ملحوظاً حين التعاقد على هذا النحو.

3 ـ نظراً لرغبة الكثيرين في أخذ نقدٍ مقابل حصتهم، أو في أخذ عين أخرى غير الحاصل، من جنسه أو من غير جنسه، فإنه يجوز للراغب في ذلك بعد ظهور الحاصل وتخمينه أن يصالح على حصته من القمح ـ مثلاً ـ بمقدارٍ من النقد أو الشياه أو الفاكهة أو نحو ذلك. بل يجوز ذلك قبل ظهور الحاصل إذا ضم إلى نصيبه من الحاصل المجهول مقداره ضميمة معلومة، وذلك كأن يبادر صاحب الأرض مثلاً بعد الزرع وقبل ظهور الحاصل إلى مصالحة الزارع على حصته مهما كان مقدارها منضمة إلى الثوب الفلاني مقابل خمسين قطعة ذهباً يدفعها له الزارع ويكون له جميع الحاصل مع ذلك الثوب.

مسألة 289: يصح عقد المزارعة بين أكثر من اثنين، ثلاثة أو أربعة أو أكثر، فيتعاقدون ـ مثلاً ـ على أن تكون الأرض من واحد والبذر من الثاني والمعدات الزراعية من الثالث والإشراف من الرابع، فيتقاسمون الحاصل بينهم بالنحو الذي يتفقون عليه.

مسألة 290: لا فرق في صحة عقد المزارعة بين أن يكون البذر من المالك أو العامل أو منهما معاً، ولكن لا بد من تعيين ذلك كما سلف ذكره آنفاً، إلا أن يوجد عرف شائع في المجتمع ينصرف إليه التعاقد. وكذا لا فرق بين أن تكون الأرض مختصة بالمالك أو مشتركة بينه وبين العامل؛ كما أنه لا يلزم أن يكون تمام العمل على الزارع، فيجوز أن يكون العمل عليهما معاً بالنحو الذي يتفقان عليه؛ وكذا الحال في سائر التصرفات والآلات.

مسألة 291: لا يمنع عقد المزارعة ـ بطبيعته ـ من أن يشرك الزارع غيره في زراعة الأرض التي التزمها، وليس عليه أن يستأذن متولي الأرض في ذلك، إلا إذا استدعى إشراكه تسليمه العين التي هي بعهدة الزارع، أو كان قد اشترط عليه المتولي مباشرة العمل بنفسه، أو كان الاستئذان ـ أو المباشـرة ـ متعارفاً في مجتمع المزارعين.

وتتحقق المشاركة بمثل استئجار غيره ليؤدي له شيئاً من أعمال الزراعة مقابل حصة من حاصلها، كأن يفلح له، أو يبذر له الحب، أو يعشب الأرض، أو أن يستأجر المعدات التي عنده، أو نحو ذلك؛ أو تتحقق المشاركة بعقد مزارعة ينشئه الزارع الأول للزارع الثاني ويحمل جميع خصائص عقد المزارعة الأول، وفي كلا الحالين، فإن الحصة المفروضة لشريك الزارع يجب أن تكون من حصته لا من حصة المالك، فلو كان نصيب المالك النصف فإن الحصة التي يعطيها الزارع لشريكه نصفاً أو ربعاً أو ثلثاً إنما هي من نصفه هو، حتى لو كان البذر في المزارعة الأولى من الزارع الأول لا من المالك.

مسألة 292: إن عقد المزارعة يقتضي كون أجرة الأرض المستأجرة والضرائب المترتبة على الأرض المملوكة على باذل الأرض لا على الزارع، وأما سائر المؤن كالبذر والفلاحة والسقاية والتعشيب ورش المبيدات وحراسة الزرع واجتزازه ـ أو قطافه ـ وتوضيبه وتخزينه وسائر ما يتعلق باستنبات الثمرة أو جنيها، فإنها جميعها تحتاج إلى تعيين واتفاق بين طرفي المزارعة، إلا أن توجد عادة متعارفة تغني عن التعيين.

مسألة 293: يقضي عقد المزارعة اشتراك الأطراف في جميع الحاصل بنسبة حصة كل واحد منهم، فيشمل في مثل القمح حشيشه وقصيله وتبنه وحبه، أي أن الاشتراك لا يقتصر على خصوص الحب وحده من أجزاء الزرع، بل يشمل كل ما هو نافع ومرغوب من أجزائه، فإن اتفقا على غير ذلك ثبت ما اتفقا عليه وتعين.

مسألة 294: المزارعة عقدٌ لازم، فيجب على الطرفين الوفاء به ما دامت شروطه تامة، وليس لأحدهما أن يفسخ هذا العقد إلا إذا رضي الآخر وأقاله، أو كان ذلك بسبب واحد من الخيارات الثابتة له، مما سنذكر تفصيله في المطلب التالي.

المطلب الثاني ـ في أحكام الخلل والتلف:

ونريد به ظهور ما يستوجب بطلان العقد، أو عدم وفاء أحد الطرفين بشروط التعاقد، كأن لا يلتزم الزارع بالمدة المحددة، أو بنوع البذر أو الزرع المتّفق عليه، أو يتبين كون الأرض مغصوبة، أو نحو ذلك من موارد اختلال العقد بما يؤدي إلى بطلانه أو ثبوت حق الفسخ فيه، وبيان ذلك يقع في مسائل:

مسألة 295: إذا عين المالك نوعاً خاصاً من الزرع ضمن عقد المزارعة تعين على الزارع الوفاء به ولم يجز له زرع غيره، وإذا تعدى ذلك فزرع غير ما اتفق عليه، وعلم المالك به، فإن حكمه يختلف بين ما إذا كان ذلك التعيين ملحوظاً على نحو القيد الأساسي الذي لا يريد المالك سواه، فإن المزارعة تبطل حينئذ، ويترتب عليه ما سوف نذكره لاحقاً من حكم البطلان بصورة عامة، وبين ما إذا كان ذلك ملحوظاً على نحو «الشرط» الذي قد يرضى المالك ببديل عنه، فإن لهذه الحالة صورتين:

الأولى: أن يعلم المالك بالخلاف قبل بلوغ الحاصل، أي في بدايات الأمر، وحكمها أنه إذا كان البذر للزارع، فإن المزارعة تبطل ويتخير المالك بين إبقاء الزرع في إطار اتفاق جديد يتراضيان عليه ويطلب فيه المالك عوضاً عن ذلك نقداً أوعيناً، أو مجاناً بلا عوض، وبين أن يلزم الزارع بإزالة الزرع النابت ودفع أجرة مثل ما فاته من منفعة الأرض.

وإن كان البذر للمالك بطلت المزارعة كذلك، وكان له أن يطالب الزارع بأجرة مثل الأرض عن الفترة الماضية وببدل البذر، فإذا بذله الزارع صار البذر المزروع للزارع، وحينئذ يصبح المالك مخيراً كما في الحالة الأولى بين إبقاء الزرع بعوض أو مجانا وبين أمر الزارع بقلعه من الأرض.

الثانية: أن يعلم المالك بالخلاف بعد ظهور الحاصل وإيناعه، فيتخير بين إبقاء عقد المزارعة على ما هو عليه وأخذ حصته المحددة له وبين فسخ العقد؛ فإن فسخ، وكان البذر للعامل، كان للمالك أجرة مثل منفعة أرضه وكان الحاصل للعامل الزارع، وإن كان البذر للمالك، فللمالك المطالبة ببدل بذره زيادة على أجرة مثل منفعة أرضه، ويكون الحاصل في هذه الحالة للزارع أيضاً إذا بذل البذر للمالك؛ وفي كل الحالات فإنه ليس للعامل الزارع مطالبة المالك بأجرة عمله.

مسألة 296: إذا طرأ خلال العمل في المزارعة ما منع من الاستمرار في الزراعة، ولم يمكن رفع المانع إلى آخر المدة، كأن يجتاح الماء الأرض ويغرقها، أو يجف الماء الذي تسقى منه، أو يغصبها عدو، أو نحو ذلك من الموانع القهرية الطبيعية أو البشرية، وذلك قبل استلام الأرض أو بعده، وقبل ظهور الزرع أو بعده ولكن قبل إدراكه ونضجه، فإنه يحكم هنا ببطلان عقد المزارعة من الأول، من جهة انكشاف عدم قابلية الأرض للزرع؛ وعليه، فيكون ما يسلم من الزرع الموجود لصاحب البذر، فإن كان للمالك فإن عليه أن يدفع للزارع أجرة مثل عمله، وإن كان للزارع فإن عليه أن يدفع لمالك الأرض أجرة مثل منفعة أرضه.

هذا فيما لو تعطلت الأرض كلها، أما إذا طرأ المانع على بعضها فعطله وظل البعض الآخر سليما فإنه يثبت لهما معاً خيار تبعض الصفقة، فلكل منهما أن يبقي العقد على ما هو عليه أو يفسخ العقد ويلغيه؛ وحينئذ يكون مصير ما ظهر من الزرع بعد الفسخ هو ما يرتكز على القاعدة التالية الشاملة لأشباه هذا المورد:

إذا تراضيا على صيغة جديدة فهو على ما تراضيا عليه؛ وإذا لم يتراضيا فالزرع الموجود في الأرض لصاحب البذر، فإن كان للمالك فهو حر فيه، وعلى المالك دفع أجرة مثل العامل، وليس له إجباره على الاستمرار في العمل؛ وإن كان البذر للعامل، فإن عليه أجرة مثل منفعة الأرض، وللمالك حق أمره بقلع الزرع إن شاء.

مسألة 297: إذا قصّر الزارع في عمله، جهلاً منه بأصول الزراعة أو تقصيراً منه في بذل العناية المطلوبة، فقل الحاصل بسبب ذلك التقصير، تخير المالك بين فسخ المزارعة أو إمضائها بالنسبة المتفق عليها؛ فإن فسخ فالحاصل لصاحب البذر، فإن كان هو المالك فإن عليه أجرة مثل عمل الزارع، وإن كان البذر للزارع فالحاصل له وعليه دفع مقدار من المال هو الأقل نسبة ما بين قيمة أجرة مثل الأرض وقيمة حصة المالك من الحاصل على تقدير عدم التقصير؛ وبيانه بالمثال التالي: لو فرض أن أجرة الأرض التي لها هذه المواصفات هي ألف دينار، وقيمة حصته من الحاصل على فرض عدم التقصير هو تسعمائة دينار، فإن الذي يجب دفعه من قبل الزارع للمالك هو تسعمائة دينار التي هي أقل القيمتين، وهكذا لو انعكس الفرض فكان الأقل قيمة أجرة الأرض، فإنه يدفع قيمة أجرة الأرض لأنه أقل القيمتين.

مسألة 298: إذا ترك الزارع العمل في الأرض فلم يعمل فيها شيئاً، فإن كان قد تسلّمها من المالك وصارت تحت يده فعليه ضمان أجرة منفعة مثلها للمالك، وإن كانت ما تزال تحت يد المالك، فإن كان عارفاً بعدم قيام الزارع بمضمون عقد المزارعة فليس على الزارع ضمان، وإن لم يكن عارفاً، وكان قد اعتبر أن الأمر قد صار في عهدة الزارع، فعليه ضمان أجرتها للمالك؛ نعم إذا كان ترك العمل فيها لعذر عام مانع، كتساقط الثلوج أو انقطاع الماء عنها، فإن حكمه هو بطلان عقد المزارعة بالنحو الذي ذكرناه في المسألة 296.

مسألة 299: إذا انكشف بعد ظهور الحاصل كون الأرض التي وقعت عليها المزارعة مغصوبة بطلت المزارعة من جانب مَنْ كانت الأرض المغصوبة تحت يده؛ فإن كان البذر له فالزرع له، وعليه أجرة مثل منفعة الأرض لمالكها، وأجرة مثل العامل للزارع؛ وإن كان البذر للزارع وأجاز المالك عقد المزارعة له صح كما أجازه، وإن لم يجزه كان الزرع للزارع وعليه أجرة المثل لمالك الأرض.

وأما إذا انكشف الحال قبل بلوغ الزرع وإدراكه، فإن المالك مخيّر بين إجازة المزارعة للزارع وبين فسخ العقد، فإن فسخ كان له الحق بإزالة الزرع مع أخذ أجرة مثل أرضه خلال المدة الماضية وبين إبقاء الزرع بعوضٍ أو مجاناً.

مسألة 300: إذا مات مالك الأرض خلال المدة، قبل ظهور الزرع أو بعده، لم يبطل عقد المزارعة، وأما إذا مات الزارع قبل ظهور الزرع فإن حكم استمرار ذلك التعاقد يختلف على وجوه:

الأول: أن يكون عقد المزارعة مطلقاً من جهة مباشرة الزارع للعمل بنفسه أو عدمها، فلا ينفسخ العقد ويبقى لورثة الميت تمام حقه الثابت له بالعقد.

الثاني: أن تؤخذ مباشرة الزارع «قيداً» أصيلاً وحاسماً في المزارعة، بنحو تكون فيه إرادة المالك متعلقة بهذا الفرد المقيد من المزارعة بخصوصه، فهنا ينفسخ العقد بموت الزارع ويبطل.

الثالث: أن تؤخذ المباشرة «شرطاً»، بمعنى أن الزارع يريد إيجاد المزارعة ولكن بشرط مباشرة الزارع للعمل بنفسه، فتكون رغبته متعلقة بحصول الزراعة بشكل عام أولاً، ثم بحصولها مشروطة بالمباشرة بمرتبة ثانية؛ فهنا لا ينفسخ العقد بالموت فوراً وتلقائياً، بل يثبت للمالك خيار الفسخ، فإن شاء أمضى المعاملة من خلال الورثة وإن شاء فسخ؛ وهذا الحكم ثابت، سواء لوحظ حين التعاقد فرد خاص من الزراعة بعينه، أو لوحظ على نحو الكلي وبشكل عام، فإن المباشرة ما دامت من قبيل الشرط فإن المعاملة تصبح رهن رغبة المالك، فإن شاء أمضاها وإن شاء فسخها؛ والذي يبدو أن المتعارف في مثل هذه الحالات من الاشتراط هو تعلق رغبة المالك بتحقق الزراعة بنحو عام وكلي ولكن بشرط مباشرة الزارع بنفسه، فتكون الأوصاف الذي تذكر في عقد المزارعة شروطاً لا قيوداً، مثلها ـ في ذلك ـ مثل غيرها من المعاملات.

هذا كله إذا مات الزارع قبل انتهاء عملية الزرع، أما إذا مات بعد انتهاء عمله بالنحو الذي طلب منه، ولو قبل ظهور الحاصل وإدراك الزرع، فإن العقد لا ينفسخ بموت الزارع ما دام قد قام بنفسه بكل ما عليه، ويجب على المالك الوفاء لورثته بمقتضى العقد وإبقاء الزرع في أرضه حتى يدرك ويأخذ الورثة نصيبهم.

مسألة 301: إذا أوقع متولّي الوقف عقد المزارعة على الأرض الموقوفة على الذرية إلى مدة موافقة لمصلحة الوقف ومصلحة البطون المتعددة التي تتولد خلال تلك المدة، لم ينفسخ عقد المزارعة بموته خلال تلك المدة، وأما إذا أوقع العقد واحدٌ من الجيل المتقدم من الموقوف عليهم فمات في أثناء المدة، انفسخ العقد بموته إلا أن يجيزه ويقبله من يعنيه الأمر من الجيل الجديد المتولِّد خلال المدة.

مسألة 302: يجوز لكلٍّ من المتعاقدين اشتراط خيار الفسخ على الآخر، وهو ما يسمى بـ «خيار الشرط»، فيحقّ لصاحب هذا الخيار أن يستخدم حقه بالفسخ وإلغاء المعاملة بالنحو الذي شرطه لنفسه، وعلى المشروط عليه الوفاء له وترك التمرد عليه. وكذلك يثبت في المزارعة «خيار تخلف الشرط»، وذلك في صورة ما لو خالف المشروط عليه بنود العقد المتفق عليها فيما يرجع إلى طريقة المزارعة ومدتها ومكانها ونوع الزرع ونحو ذلك. وكذلك يثبت فيها خيار «تبعض الصفقة»، وهو ما يجري في صورة ما لو لم يتحقّق إلا بعض المطلوب في العقد، وذلك كما في صورة ما لو انكشف صلاح جزء من الأرض للزراعة لا جميعها، وهو الذي ذكرناه في المسألة 296، كذلك فإنه قد ينطبق على بعض فروع المزارعة ما يستلزم ثبوت خيار العيب أو خيار التدليس بالنحو الذي سبق ذكره في الإجارة.

خلاصة فيها فائدة مهمة:

قد ظهر من خلال ما تقدم من مسائل هذا المطلب الثاني أننا نفرق بين نوعين من الخلل:

الأول: ما نصطلح عليه بـ (البطلان)، وقد نعبر عنه بالانفساخ بلحاظ أنه نتيجة البطلان؛ ومرادنا به ما ينتج عن فقدان عنصر من عناصر العقد التي بيناها في المطلب الأول عند التعاقد أو بعده، الأمر الذي يترتب عليه صدور العقد باطلاً من الأول، أو بطلانه فيما بعد بنحو يرتدّ عكساً على العقد فيبطله من الأول، وذلك كما في صورة ما لو طرأ الجفاف على الأرض بعدما كانت مروية، مما سبق التعرض له؛ وأثر البطلان هو انفساخ العقد وعودة كل شيء إلى ما كان عليه إذا كان البطلان قد حدث قبل المباشرة بأي عمل من أعمال الزراعة، وأما إذا حدث بعد إنجاز شيء منها، فإن كان البذر للمالك فالزرع له وعليه أجرة مثل العامل مع ما دفعه من تكاليف عليه، وإن كان البذر من الزارع فالزرع له وعليه أجرة مثل منفعة الأرض لمالكها مع ما دفعه من تكاليف.

وهذه النتيجة بهذا المقدار لا إشكال فيها، كما أنه لا إشكال فيما لو كان البذر للزارع ورضي المالك بإبقائه في أرضه مجاناً أو بعوض؛ لكن الإشكال يقع في صورة التنازع حول إبقاء البذر في الأرض أو نزعه منها، والظاهر أنه إذا كان البذر للزارع فإنه ليس له إجبار المالك على إبقائه في أرضه، فإن لم يرض المالك يجوز له أمره بقلعه، وعلى الزارع ـ حينئذ ـ قلعه، وإن كان الزرع للمالك فليس له إجبار الزارع على الاستمرار في عمله.

الثاني: ما نصطلح عليه «بالفسخ»، والمراد به ما ينتج عن اختلال الشروط المتفق عليها في بنود العقد، أو عن استخدام خيار الفسخ المشروط، أو عن التراضي على الفسخ؛ وفي جميع هذه الحالات فإنه حيث لا يتراضيان على الاستمرار في العقد يختلف تفصيل الحكم على نحوين:

1 ـ أن يكون في موجبات الفسخ ما يعد تقصيراً متعمداً أو عدواناً من قبل أحدهما، فإن التعويض ـ حينئذ ـ عن العمل المبذول والنفقات المدفوعة يخضع لميزان «الضمان» حسب ما ورد في تفاصيل فروع هذا النحو في ما سبق من مسائل.

2 ـ أن يكون حدوث موجبات الفسخ من دون تقصير ولا عدوان، فتكون نتيجة الفسخ وآثاره هي نفس أثر «البطلان» الذي ذكرناه آنفاً.

المطلب الثالث ـ في أمور عامة:

ويشتمل على عدد من الأحكام العامة وأحكام التنازع، وذلك في مسائل:

مسألة 303: الباقي في الأرض من أصول الزرع إذا نبت في الموسم التالي بنفسه كان حاصله لمالك البذر، إلا إذا اشترطا في عقد المزارعة أن يكون مشتركاً فيكون بينهما كما اشترطا.

مسألة 304: كنا قد ذكرنا في مباحث الزكاة أن شرط وجوب الزكاة في المحاصيل الزراعية أن يكون ا لحاصل مملوكاً قبل زمان تعلق الوجوب به، وهو في مثل القمح والشعير والعدس عند صيرورته حباً، وفي مثل العنب والتمر عند نضجه وصدق اسم العنب والتمر عليه؛ كذلك فإننا قد ذكرنا هنا في مباحث المزارعة أن المتعاقدين قد يتفقان على الاشتراك في الحاصل من الأول بنحو يكون كل النتاج مملوكاً لهما في جميع المراحل، وأنهما قد يتفقان على الاشتراك في الحاصل في مرحلة متأخرة من مراحل نضجه، وهي مرحلة ما بعد النضج أو مرحلة الحصاد، وعليه ينبني حكم الزكاة، فإن كان البذر منهما كانت الزكاة واجبة على من بلغت حصته نصاباً منهما، وكذا لو كان البذر من أحدهما وكان الاشتراك بينهما ملحوظاً في جميع المراحل، وأما إذا لم يكن الاشتراك بينهما من الأول، بل في خصوص مرحلة ما بعد ظهور الحاصل ونضجه مثلاً، فإن الزكاة لا تجب ـ حينئذ ـ إلا على صاحب البذر إذا بلغت حصته نصاباً، لأنه ـ وحده دون رفيقه ـ هو الذي يملك حصته من الحاصل قبل تعلق الزكاة بها بسبب ملكيته للبذر.

مسألة 305: في كل مورد حصل فيه التنازع بين طرفين فإن القاعدة أن يتقدّم المدَّعي بالبينة، فإن لم يكن عنده بينة على مدّعاه كان اليمين على المنكِر؛ ولا يخرج الأمر في المزارعة عن ذلك، فإن ادعى المالك على الزارع عدم العمل بما اشترط عليه في ضمن عقد المزارعة من الأعمال، أو ادعى تقصيره فيه على وجهٍ يضرُّ بالزراعة، أو غير ذلك مما له علاقة بشؤون التعاقد القائم بينهما، فإن اليمين على الزارع المنكر لذلك ما لم يقدم المالك بينة لإثبات مدّعاه، ومن ذلك ما إذا كان موضع الخلاف مما يترتب عليه صحة العقد أو فساده، فإنه يقدم قول مدعي الصحة مع يمينه.

وإنما يقبَل يمين المنكِر ويُطلب منه الحلفُ ويُعملُ بمقتضاه في صورة ما لو كان ما ينكره معقولاً ومنسجماً مع ظاهر الأمور، ففي مثل ما لو اختلفا في قلة المدة المحددة وزيادتها إنما يقبل قول منكر الزيادة مع يمينه إذا لم تكن المدة التي سيحلف عليها من القلة بحد لا تكفي لنبات الزرع فيها وإيناعه، وإلا يصبح إنكاره مخالفاً للظاهر وغير منسجم مع طبيعة الأمور؛ وهكذا لو اختلفا في قلة الحصة وكثرتها، فإن القول قول صاحب البذر المدّعي للقلة مع يمينه بشرط أن لا تكون من القلة بحد لا يتعارف جعله كذلك في خصوص المورد المتنازع عليه. ومن موارد التنازع ما لو اختلفا على مقدار الحاصل فادعى المالك كثرة الحاصل واستحقاقه لأزيد من حصته، فإن القول قول العامل المنكر للزيادة مع يمينه، وكذا لو اتهمه المالك بالخيانة أو الإتلاف أو السرقة وأنكره العامل فالقول قوله ـ أيضاً ـ مع يمينه. وهكذا سائر الموارد التي يتولى النظر فيها وتحديد المطلوب فيها القاضي الشرعي. وأما إذا اختلفا في اشتراط كون البذر أو العمل أو الآلات على أيِّهما، فإنه لا بد من تحالفهما معاً لكون كل منهما منكراً لما يدّعيه الآخر، فإن لم يحلفا ولم يتراضيا على أمر تنفسخ المعاملة بينهما.

خاتمة في المغارسة:

المغارسة جائزة على الأظهر، وهي: أن يدفع أرضاً إلى الغير ليغرس فيها أشجاراً على أن يكون الحاصل لهما، سواء اشترط كون حصة من الأرض أيضاً للعامل أو لا، وسواء كانت الأصول من المالك أو من العامل، والأحوط الأولى ترك هذه المعاملة؛ ويمكن التوصل إلى نتيجتها بمعاملةٍ لا إشكال في صحتها، كإيقاع الصلح بين الطرفين على النحو المذكور، أو الاشتراك في الأصول بشرائها بالشركة ثم إجارة الغارس نفسه لغرس حصة صاحب الأرض وسقيها وخدمتها في مدة معينة بنصف منفعة أرضه إلى تلك المدة أو بنصف عينها مثلاً.

المبحث الثاني ـ في المساقاة:

وفيه تمهيد وثلاثة مطالب:

تمهيد:

قد ظهر مما سبق ذكره في تمهيد هذا الفصل أن المساقاة عنوان يراد به جملة أعمال متعلقة بالعناية بالزرع بعد ظهور النبات وبدوه، شجراً كان أو خُضَراً أو غيرهما، والتي من جملتها نفس «سقايته» بالماء؛ وكنا قد قارنا بين كل من المزارعة والمساقاة من جهة وبين الإجارة من جهة أخرى، فظهر معنا أن كلاً من المزارعة والمساقاة تعتبر عقداً مستقلاً في قبال الإجارة، ونضيف هنا أن المساقاة تشترك مع المزارعة في كثير من الأحكام والشروط كما سيتبين معنا؛ أما تعريف المساقاة فهو: «التعاقد بين شخص وآخر على رعاية أشجار ونحوها وإصلاح شؤونها إلى مدة معينة بحصة من حاصلها».

وفيما يلي نستعرض أحكامها في مطالب:

المطلب الأول ـ في العقد وشروطه:

وفيه مسائل:

مسألة 306: يتفق عقد المساقاة مع عقد المزارعة بأنه لا بد فيه من الإيجاب والقبول إن كان التعاقد لفظياً، وذلك بالنحو الذي ذكرناه في مبحث المزارعة من جهة الصيغة مع تبديل لفظ المزارعة بالمساقاة، كما أنه يصح مثله ـ أيضاً ـ بالمعاطاة، كذلك فإنه يتفق معه في شروط المتعاقدين، وفي لزوم تعيين المدة، ولكنها في المساقاة يجب أن تكون نهايتها في زمان يوافق فيه ظهور الثمرة ونضوجها، فإن كانت دون ذلك بطلت المساقاة؛ وكذا تتفق معها بأنه لا بد فيها من تعيين النبات من حيث النوع والمقدار؛ وفي وجوب تقدير العوض بحصة من الحاصل مقدّرة بالكسور لكلٍّ منهما بالنحو الذي ذكر في المزارعة؛ وفي لزوم الاتفاق على ما هو المطلوب من كل واحد منهما من أعمال.

مسألة 307: يجب أن يتوفر في النبات المطلوب رعايته أمور:

الأول: أن يكون للنبات أصول يؤخذ عنها الثمر، فلا تصح المساقاة فيما يكون هو الثمرة، مثل الخس وغيره من البقول التي لا يبقى لها أصل في الأرض؛ وتصح فيما عدا ذلك من الأشجار التي تزرع لثمرها كالرمان، أو لورقها كنبتة الشاي، أو لزهورها كالورد، كذلك تصح في كل نبات من غير الأشجار مما له أصول غير ثابتة، كالبطيخ والعدس والخيار ونحوهما من الفواكه والخضروات، كما تصح في مثل قصب السكر الذي تبقى جذوره في التربة رغم أن الثمر فيه هو نفس الأصول النابتة من تلك الجذور، أما الشجر الذي يزرع لخشبه كالسرو والحور فلا تبعد صحة المساقاة فيه.

الثاني: أن يكون للأشجار وغيرها من الزروع قابلية الإثمار خلال مدة العقد، وأن يكون العقد قبل ظهور الثمرة، أو بعده مع احتياجها إلى العمل والرعاية حتى يكتمل نموها وتثمر، أو حتى يكثر إنتاجها ويجُود ويوقى ما يطرأ عليه من عوادي؛ فإن كان التعاقد إلى مدة تنتهي قبل صيرورة الغروس قابلة للإثمار، أو كان العقد بعد أن اكتمل نمو الثمرة ولم تعد بحاجة إلى رعاية، فلا يبعد الحكم بعدم صحة المساقاة حتى لو كانت بحاجة إلى مثل القطاف والتوظيب والنقل إلى المخازن ونحوها من الأعمال الخارجة عن نفس عملية الرعاية، ولكن يمكن التعاقد على تلك الأمور ونحوها بعقد مستقل آخر.

الثالث: أن تكون أصول الأشجار أو النبات مملوكة عيناً ومنفعة، أو منفعة فقط، أو يكون تصرفه فيها صحيحاً ونافذاً بولاية أو وكالة.

مسألة 308: لا تعتمد المساقاة على وجود السقي نفسه في أعمال المتعاقدين، فلو فرض استغناء الشجر أو النبات عن الجهد البشري لريها واكتفاؤها برطوبة الأرض أو بماء المطر صحت المساقاة مع وجود أعمال أخرى لازمة في رعاية النبات وإثماره.

مسألة 309: لا يخفى أن مالك الأصول يملك حصته من الثمرة دائماً تبعاً لملكيته لنفس الأصل ملكية مستمرة غير منقطعة، أما العامل فإنه عند إطلاق العقد يملك الثمرة حين ظهورها، إلا أن يكون العقد في مرحلة من مراحل ما بعد ظهور الثمرة، أو يشترط عليه مالك الأصل أن تكون ملكيته في مرحلة معينة من مراحل ما بعد الظهور، فإنه يملك حصته حينئذ في خصوص تلك المرحلة.

مسألة 310: لا يضر بالوضوح المطلوب في مقدار الحصة كونها مردّدةً بين مقدارين لأسباب معلومة، وذلك كما لو قال له: «إن سقيتها بالدلاء فحصّتك نصف وإن سقاها المطر فحصتك ثلث».

مسألة 311: لا فرق في صحة المساقاة بين أن تكون الحصة بمقدار واحد في جميع أنواع الشجر والنبات وبين أن يجعل حصة مختلفة في بعضها عنها في البعض الآخر، وذلك بأن يجعل حصته من النخيل نصفاً ومن العنب ثلثاً، وهكذا.

مسألة 312: يكفي العلم بما يشتمل عليه البستان من أشجار ونبات بنحو إجمالي عن طريق المشاهدة مثلاً، من دون حاجة إلى المعرفة التفصيلية بأعداد الشجر ولا بعدد كل صنف.

مسألة 313: إن مقتضى إطلاق عقد المساقاة كون الأعمال غير المكررة والتي لها بقاء وثبوت في الأرض على المالك، وذلك مثل: حفر الآبار وشق الأنهار وبناء الحائط وخيم العريش ونحوها؛ وأما الأعمال التي تتكرر،مثل: إصلاح طريق الماء وإزالة الحشيش المضر، وتقليم الأغصان وتلقيحها ونحو ذلك، فإن مقتضى إطلاق العقد كونها على كل من المالك والعامل بالتساوي، فإن اشتُرِط خلاف ذلك لزم الوفاء بالشرط على من قبل به.

مسألة 314: لا يشترط في المساقاة أن يكون العامل أو المالك واحداً، بل يصح أن يكون كل منهما أكثر من واحد، اثنين أو ثلاثة أو أكثر؛ كذلك فإن عقد المساقاة لا يقتضي إلزام العامل بالمباشرة إلا إذا اشترط المالك عليه ذلك؛ كما أنه يجوز في المساقاة أن يشترط أحد المتعاقدين أو كلاهما زيادة شيء غير الثمرة ـ من النقد أو الأعيان ـ على حصته؛ ولو فرض عدم ظهور الثمرة كلاً أو بعضاً، أو فرض أنها تلفت بعد ظهورها فإن شرط الزيادة يثبت بتمامه على من التزم به إلا أن يكون قد نُص في العقد على أنّ استحقاق الزيادة مترتب على بقاء حصة المشروط عليه، أو كان ذلك متعارفاً في مجتمع المتعاقدين؛ وجميع ذلك بالنحو الذي سبق ذكره في المزارعة (أنظر الفقرة 2 من الأمر (السابع) من المسألة 288).

المطلب الثاني ـ في أحكام اللزوم والفسخ:

والغرض منه بيان الأحكام المتعلقة بالعقد من حيث اللزوم والفسخ وأثر ذلك على ما في يد المتعاقدين، وذلك في مسائل:

مسألة 315: عقد المساقاة لازم لا يقبل الفسخ إذا وقع تام الأركان والشروط، ويجب الوفاء به على كلا المتعاقدين إلا فيما لو تراضيا على الفسخ؛ فإن كانت بعض أركانه أو شروطه غير تامة، أو انكشف عدمها فيما بعد، حكم على العقد بالبطلان؛ كذلك فإنه يحق لكلٍ منهما الفسخ إذا اشترط الخيار أو إذا تخلفت بعض الشروط، وذلك بنفس النحو الذي ذكرناه في عقد المزارعة؛ أما آثار البطلان والفسخ فإنها تختلف هنا بعض الشيء عنها في المزارعة كما سيأتي.

مسألة 316: في كل مورد ينكشف فيه بطلان العقد لاختلال شيء من أركانه وشروطه، فإن حاصل الزرع وثمره لصاحب الأصول، وعلى المالك للعامل أجرة مثل ما عمله حسب المتعارف؛ نعم إذا كان سبب البطلان جعل تمام الحاصل للمالك فإن الحاصل في هذه الحالة يكون للمالك ـ فعلاً ـ وليس للعامل أجرة مثل عمله إذا كان عالماً بكون ذلك مبطلاً للعقد، حتى لو كان المالك قد سمى له أجرة من غير الحاصل، وإن كان الأحوط استحباباً إعطاؤه أجرة مثل عمله.

مسألة 317: إذا ظهر بطريق شرعي أنّ الأصول في عقد المساقاة مغصوبة، فإن أجاز المالك الاتفاق الذي تم بشأنها مع العامل استمر العقد بين المالك والعامل، وإن لم يُجز بطل العقد؛ وحينئذ يحكم بكون الثمرة للمالك ويرجع العامل الجاهل بالغصب إلى الغاصب بأجرة مثل عمله، إلا أن يدعي المساقي مظلوميته في ذلك من قبل مدعي الغصبية وأن الأصول له دونه، فإنه في هذه الحالة ليس له مطالبة المساقي المتّهم بالغصبية بأجرة مثل عمله، ويصبح وإياه طرفاً في التنازع مع مدعي الملكية في مدى أحقية أحدهما بالأصول.

ولو فرض ظهور الغصبية بعدما توزع المتعاقدان الثمرة بينهما وأتلفاها بأكل أو بيع أو نحوهما، فهنا يتخير المالك بين الرجوع على الغاصب بتمام عوض حاصل الثمرة وبين الرجوع على الغاصب والعامل بمقدار حصة كل منهما، وليس له أن يرجع إلى العامل بتمام العوض.

مسألة 318: في كل مورد ثبت فيه خيار الفسخ يثبت فيه لصاحب الخيار الحقّ في أن يُمضي المعاملة ويرضى بها بالنحو الذي وقعت عليه، كما أن له الحق في فسخ المعاملة وإلغاء العقد، والقاعدة في المساقاة هي: إن الثمرة للمالك وأجرة المثل للعامل مقابل ما عمله عنده، سواء كان الخيار للعامل أو للمالك، وسواء في ذلك ما لو كان الفسخ قبل ظهور الثمرة أو بعده.

مسألة 319: إذا مات المالك قام وارثه مقامه ولم تنفسخ المساقاة بموته، وكذا إذا مات العامل ولم تكن المباشرة قد أخذت قيداً أو شرطاً في المعاملة، فإن لم يَقُم الوارث بالعمل ولا استأجر من يقوم به فللحاكم الشرعي أن يستأجر من مال الميت من يقوم بالعمل، ويقسم الحاصل بين المالك والوارث؛ وأما إذا كانا قد اتفقا على المباشرة، فإن كانت المباشرة قد أخذت (قيداً) في العمل فإن العقد ينفسخ بموته، وإن كانت قد أخذت (شرطاً) كان المالك المساقي بالخيار بين إمضائها من خلال الوارث وبين فسخها؛ وقد سبق بيان مثله في المزارعة مما لا يخرج في مضمونه إجمالاً عن هذا الحكم (أنظر المسألة 300).

مسألة 320: إذا خالف العامل فترك بعض الأعمال المشروطة عليه تخير المالك بين الاستمرار في العقد وإجباره على العمل المشروط عليه أو أخذ الأجرة منه عليه، وبين فسخ المعاملة؛ ولكن الأحوط استحباباً أن يكون أخذ الأجرة منه برضاه.

المطلب الثالث ـ في أمور عامة:

ويشتمل على عدد من الأحكام العامة وبعض أحكام التنازع، وذلك في مسائل:

مسألة 321: خراج الأرض في المساقاة على المالك إلا إذا اشترطا كونه على العامل أو عليهما معاً، كمثل ما مر في المزارعة في المسألة 292.

مسألة 322: تجب الزكاة على المالك إذا بلغت حصته نصاباً، وتجب على العامل إذا كانت الشركة قبل زمان تعلق الوجوب وبلغت حصته نصاباً، وقد سبق بيان معنى زمان تعلق الوجوب في المسألة 304 من المزارعة.

مسألة 323: إن جميع ما ذكر من حكم التنازع في المزارعة يجري بتمامه في المساقاة لما ذكرنا فيها من أن ذلك هو القاعدة التي تجري في أمثال هذه المنازعات بغضِّ النظر عن مواردها، فراجع في ذلك المسألة (305) من المزارعة.


 

 

الفصل الرابع

في الجعالة

 

المبحث الأول: في الصيغة والشروط

المبحث الثاني: في أحكام الأداء والتنازع


 


 

 

تمهيد:

(الجعالة) مأخوذة من فعل (جَعَل) له على كذا، أي قدّر له أجراً عليه؛ وهي في الفقه (إيقاع) يراد به: (الإعلان عن التعهد والالتزام بإعطـاء شيء ـ أو بالقيام بعمل ـ لكل من يقوم بعمل معين لذلك المتعهد)، وذلك كأن يقول من أضاع سيارته: «من وجد سيارتي فله علي ثوب»، فيكون مراد ذلك الجاعل المتعهِّد تحقُق رغبته من أي فاعل كان مقابل شيء يقدَّم له يسمى «جَعْلاً» في الفقه، ولك أن تسميه «أجرة» أو «جائزة» في لغة العصر؛ فهنا عدة عناصر:

الجاعل: وهو المتعهِّد الراغب بتحقق العمل، وهو حسب المثال فاقد السيارة.

العامل: وهو الذي قام بالعمل، وهو حسب المثال واجد السيارة.

الجَعْلُ: وهو «ما» تعهد الجاعل بإعطائه للعامل، عملاً كان ما تعهد به أو مالاً، نقداً أو عيناً.

فالجعالـة ـ إذاً ـ تشتمـل على عنصر استخدام الغير الذي هو قوام الإجـارة، ولكنهـا ـ رغـم ذلك ـ تختلف عنها بأن الإجارة «عقد» يحتاج إلى الإيجاب والقبول بينما تعتبر الجعالة «إيقاعاً» يُكتفى فيه بمجرد أن يعلن الجاعل عنها لأي فاعل، دون حاجة لتعيين طرف آخر يقع الجعل عليه، فضلاً عن أنها لا تحتاج إلى موافقته أيضاً ولو كان معيناً، إذ هي تختلف في ذلك عن غيرها من الإيقاعات، كالطلاق ونحوه، حيث لا بد من تعيين من سيقع عليه الطلاق؛ ويترتب على ذلك أن (العامـل) ـ المعلـوم أو المجهـول ـ ليس ملزماً في الجعالة بالسعي والعمل لتنفيذ رغبة الجاعل، بخلاف (الإجارة)؛ كذلك فإن الجعالة إذا اتجهت إلى فاعل معين لم تنشغل ذمة الجاعل بشيء من الجعل للعامل قبل تحقق المطلوب منه بتمامه، وهو هنا ـ بحسب المثال ـ إيجاد السيارة الضائعة، وهذا أيضاً بخلاف الإجارة، فإن المستأجِر فيها يصبح مشغول الذمة بالأجرة للأجير من حين العقد وقبل قيام الأجير بالعمل.

فالجعالـة ـ إذاً ـ إيقاع يختلف عن الإجارة فـي هذه الأمور، مضافـاً لاختلافها عنها في أمور أخرى في الشروط والأحكام تظهر من المقارنة بينهما.

المبحث الأول ـ في الصيغة والشروط:

وفيه مسائل:

مسألة 324: يكفي في الصيغة كل لفظ يُظهر رغبة الجاعل وإرادته التعهد بشيء لمن ينجز له عملاً معيناً، سواء في ذلك اللغة العربية أو غيرها، وسواء في ذلك ما يلفظه بلسانه أو يكتبه في وثيقة أو ينشره في وسيلة إعلامية مقروءة أو مرئية أو مسموعة؛ وهذه الصيغة إيقاع وتعهّد يصدر من طرف الجاعل من دون حاجة إلى صدور قبول من العامل، سواء كان الخطاب عاماً أو موجهاً إلى فرد بخصوصه.

مسألة 325: يعتبر في الجاعل العقل والاختيار وعدم الحجر عليه لسفه، وكذا عدم الحجر عليه لفلس إذا استلزم الجَعْلُ تصرفاً بأموال المحجور عليه، وإلا صحّت جعالته، وذلك كما في صورة ما لو كان عوض الجعالة عملاً يؤديه بنفسه، وأما الصبي فإن جعالته صحيحة إذا كان تصرفه بإذن من الولي. هذا، ولا يشترط في الجاعل أن يكون العمل له، فلو جعل شيئاً لمن خاط ثوب زيد، أو لمن عالجه من مرضه، صح الجعل ولزم على الجاعل إذا رضي زيد بخياطة ثوبه أو معالجته.

مسألة 326: لا يشترط شيء في العامل الذي يستجيب للجعالة سوى القدرة على إنجاز العمل وتحقيقه، فيقبل منه عمله ويستحق عليه الجعل حتى لو كانت الوسائل التي توسل بها لإنجاز العمل محرمة، كمثل ما لو كنست الحائض المسجد، أو ركب العامل سيارة مغصوبة حين بحثه عن المال الضائع، أو نحو ذلك؛ بل حتى لو كان العامل صبياً أو مجنوناً. هذا، ولا بد في مثل المال الضائع المطلوب إيجاده أن يكون في غير يد الواجد، فلو فرض أن ماله كان عند شخص بغصب أو عارية حالّة الأجل، فإذا ردها الغاصب أو المستعير للجاعل لم يستحق عليه الجعل ما دام يجب عليه ردها له؛ وهكذا الحال في مثل ما لو كان الجاعل قد استأجر شخصاً للبحث عن بقرته الضالة مثلاً ثم جعل جعلاً لمن وجدها، فإذا وجدها الأجير لم يستحق عليه إلا ما كان قد سماه له من الأجرة، لأن عمله هذا قد وجب عليه بمقتضى عقد الإجارة، بدون فرق في ذلك بين ما لو كان الجاعل قد نسي أنه استأجر من يبحث له عنها، أو كان ذاكراً لذلك ولكنه رغب في زيادة البحث وسرعته.

مسألة 327: يشترط في العمل (المجعول عليه) أمور:

الأول: أن يكون عملاً محللاً، فلا تصح الجعالة على ما كان بنفسه حراماً كشرب الخمر، ولا على ما اشتُرط فيه مقدمة محرمة، كمثل اشتراط قيام الجنب أو الحائض بكنس المسجد، وفي هذه الحالة الثانية لو فرض قيام العامل بالعمل بما اشترط فيه لم يستحق الجعل المعلن عنه، بل ولا يلزم بدفع أجرة المثل للعامل.

الثاني: أن يكون للعمل فائدة معتبرة عند العقلاء، فلا يصح الجعل على العمل العابث الذي لا فائدة منه، كمثل القفز في الهواء، أو تعبئة ماء من هذه البركة في دلو ثم إفراغه فيها، ونحو ذلك.

الثالث: أن لا يكون من الأعمال التي عُلِم من الشرع لزوم قيام المكلف بها بنفسه، كمثل الصلاة والصوم والجهاد ونحوها من الأمور العبادية وغيرها، وذلك بالنحو الذي تقدم تفصيله في المسألة 157 وما بعدها من بحوث الإجارة.

الرابع: أن يكون العمل معلوماً بنفسه وبتفاصيله بدرجة لا توجب التنازع، فلا يضر الجهل ببعض التفاصيل، كالجهل بالمسافة أو بنوع الدابة في مثل قوله:«من رد دابتي الشاردة فله علي كذا»، بل يضر فيها مثل ما لو قال: «من وجد شيئاً ضائعاً يخصني فله عليَّ كذا»، أو: «…حيواناَ ضائعاً» من دون أن يحدد أنه من جنس الطيور أو البهائم أو الأسماك؛ والمهم في المقام أن لا يكون العمل المطلوب إنجازه مبهماً، بل لا بد فيه من الوضوح بدرجة تمكن العامل من تشخيص مراد الجاعل وتمنع من التنازع معه، فهي في ذلك بخلاف الإجارة التي تحتاج إلى تمام الوضوح في العمل المطلوب.

مسألة 328: لا يعتبر في (العوض) المجعول على العمل أن يكون واضحاً ومعلوماً من جميع النواحي، فيكفي فيه أن لا يكون مبهماً ولا مجهولاً بحد يكون الإقدام على العمل معه سفهياً، فلو قال: «بع هذه الدار بألف والزائد لك»، أو قال: «من رد سيارتي فله نصفها»، صحت الجعالة رغم عدم معرفته بالمقدار الزائد ولا بقيمة نصف السيارة، وأما إذا قال: «من وجد سيارتي فله شيء» بطلت الجعالة، وعليه لمن وجدها له أجرة المثل.

مسألة 329: إذا عدل عن جعله الأول إلى ما هو أقل منه أو أكثر، فإن جهر بذلك العدول وعُرف عنه كان العمل على الثاني حتى لو كان العامل يجهله، وإن لم يعرف عنه ذلك العدول لزمه دفع الأمرين معاً، أي المقدار المذكور في الجعل الأول والمقدار المذكور في الجعل الثاني.

مسألة 330: الجعالة من المعاملات التي يجوز لكل واحدٍ من الطرفين العدول عنها وترك العمل بمقتضاها إجمالاً، فالجاعل يجوز له أن يتراجع عن تعهّده قبل شروع العامل بالعمل، وكذا بعده إن كان الرجوع بالاتفاق مع العامل، وإلا أشكل الرجوع؛ وكذا يجوز للعامل ترك العمل بمقتضى الجعالة وعدم إتمامه إذا كان قد شرع فيه إلا إذا كان ترك العمل موجباً للإضرار بالجاعل أو بمن يكون له العمل، وذلك كما في مثل موارد العلاج ونحوه مما يكون ترك العمل بعد الشروع فيه موجباً لتعيّب المريض أو العمل، فيجب إتمام العمل حينئذٍ من جهة حرمة الإضرار لا من جهة لزوم الجعالة.

المبحث الثاني ـ في أحكام الأداء والتنازع:

ويقع في مسائل نذكرها تحت عنوانين:

1 ـ أحكام الأداء:

مسألة 331: يستحقّ العامل الجعالة عند أدائه للعمل بالنحو المنصوص عليه، فإن كان النص على إيصال الحيوان الشارد مثلاً إلى البلد استحقّ الجعل بالإيصال إلى البلد ولو لم يتسلمه منه أحد؛ وإن كان الجعل على تسليمه باليد لصاحبه لم يستحق الجعل إلا عند تسليمه له بيده، وهكذا لو كان الجعل مثلاً على خياطة الثوب فخاط بعضه ولم يتمه، لم يستحق شيئاً على الجاعل إلا أن يكون الجعل على الكل موزعاً على أجزائه، كما لو جعل شيئاً معيناً لمن يساعده في حفر هذه القناة جميعها أو بعضها، إما بالنص على ذلك أو من خلال ما هو متعارف في أمثاله، فإن العامل ـ حينئذ ـ يستحق من العوض بنسبة ما أنجز من العمل.

مسألة 332: إذا لم يشترط الجاعل مباشرة العامل للعمل بنفسه فإن العامل يستحق تمام الجعل عند إنجاز العمل حتى لو شاركه غيره فيه تبرعاً أو بأجرة، بل حتى لو استقل غيره بالعمل بطلب من المجعول له تبرعاً أو بإجارة أو جعالة، فإن المجعول له الأول يستحق تمام الجعل على الجاعل الأول الذي هو صاحب الحاجة المفقودة مثلاً، كذلك فإن المجعول له الثاني يستحق على المجعول له الأول ما وعده به من جعل، وهنا يجوز للأول أن يعطي الثاني جعلاً أقل مما سيأخذه من الجاعل الأول؛ وكذلك الحكم لو كان المجعول له قد استأجر عاملاً لينجز العمل المجعول عليه.

هذا فيما لو لم يشترط الجاعل المباشرة، أما إذا اشترط المباشرة وخصه بالجعل فلا تبطل الجعالة إذا شاركه غيره، بل يسقط من الجعل بمقدار ما عمل الشريك، أما الشريك فلا يستحق أجرة على المجعول له، لأنه لا يحق له إشراك غيره معه، ولا على الجاعل، لأن الجعل من قبله لم يكن موجهاً للشريك، فيكون بمنـزلة المتبرع، نعم إذا كان المجعول له قد أوهمه وخدعه فإنه يضمن حينئذ تعب ذلك الشريك المغرور الذي يحق له الرجوع بأجرة مثل عمله على من غره.

مسألة 333: إذا قام شخص بعمل لآخر بدون علمه قاصداً به التبرع، فجعل ذلك الآخر جعلاً لمن يؤدي له ذلك العمل، لم يكن لذلك المتبرع مطالبة الجاعل بشيء، سواء كان قيامه بالعمل قبل الجعالة أو بعدها.

مسألة 334: لما كانت الجعالة إيقاعاً يمكن توجيهه إلى مطلق القادر على الفعل، فإنه ـ حينئذ ـ قد يبادر أكثر من عامل لأدائه وإنجازه، فإذا بادروا وأنجز كل واحد تمام العمل، كما في مثل سقاية الزرع وبذر البذار وتطهير الثوب ونحو ذلك من الأمور المستترة التي يمكن فعلها مرة ثانية دون الالتفات إلى أن العمل قد أنجز قبل ذلك، فإنه يستحق كل واحد منهم على الجاعل تمام الجعل؛ وأما إذا أنجز كل واحد منهم جزءاً منه فيكون الجعل بينهم بنسبة ما عمل كل واحد منهم.

مسألة 335: إذا أخبره مخبر بأن فلاناً قد جعل جائزة لمن رد له سيارته الضائعة، فسعى وردّها لصاحبها، وتبين له أن صاحب السيارة لم يكن قد جعل شيئاً على ذلك، فليس للواجد أن يُلزم صاحب السيارة بشيء، بل ولا ذلك المخبر الذي تبين كذبه أو اشتباهه إذا لم يفد قوله الاطمئنان ولا كان بينة شرعية، وإلا فإن كان قد حصل له الاطمئنان، أو كان المخبر شخصين عادلين، فإن على المخبر في هذه الحالة تحمل مسؤولية قوله ودفع أجرة المثل لذلك الواجد.

2 ـ حكم التنازع وأثر الفسخ أو البطلان:

مسألة 336: قد يقع نزاع بين المالك والعامل حول الجعالة من جهات مختلفة، وتفصيلها كما يلي:

1 ـ إذا حصل التنازع بينهما على أصل إيقاع الجعالة وعدمها، أو على نوع العمل المجعول عليه، أو على جنس الجعل، أو على مقدار العمل المطلوب، فإن القول في هذه الأمور ونحوها قول المالك مع يمينه.

2 ـ إذا تنازعا على مقدار الجعل فالقول قول منكر الزيادة مع يمينه.

مسألة 337: قد ظهر مما سبق حكم بعض حالات بطلان الجعالة الناتجة عن خللٍ في شروط العقد وأركانه، ومن المفيد هنا ذكر ما يمكن أن يكون قاعدة عامة فنقول:

أولاً: قد ذكرنا أن الجعالة غير لازمة، وأن بإمكان كل من الطرفين فسخها والتراجع عنها عدا ما استثنيناه، وحيث يتراجع أحدهما بعدما كان العامل قد أنجز شيئاً من العمل فإنّ له من الجعل بنسبة ما أنجز إجمالاً.

ثانياً: في كل حالة تقع الجعالة فيها باطلةً لجهة كونها على عمل محرم أو عابث فلا يكون ما أنجزه العامل من العمل محترماً، ولا يستحق الجعل على الجاعل، بل ولا أجرة المثل. وفي كل حال تبطل فيها الجعالة لغير ذلك من الأسباب التي يكون فيها جهد العامل محترماً، وكان قد أقدم على العمل بمقتضى الجعالة جهلاً منه بالبطلان أو انخداعاً منه بتزيين الجاعل أو غيره، فإن للعامل في مثل هذه الحالات أجرة مثل عمله بنسبة ما أنجز منه، ويضمن ذلك له إما الجاعل أو مَنْ غرّه، على حسب قواعد (الضمان).


 

خاتمة

في إجارة الأعيان

 

المبحث الأول: في شروط العين المستأجرة

المبحث الثاني: في لزوم العقد وأحكام الفسخ

المبحث الثالث: في أحكام التسليم

المبحث الرابع: في حدود التصرف بالمنفعة وأحكام الإخلاء

المبحث الخامس: في ما تجوز إجارته من الأعيان



 

 

تمهيد:

بعدما قدّمنا الحديث عن إجارة النفس وعمّا يلحقها من بحوث مناسبة، فإنه لا ينبغي ترك هذا الباب دون التحدث عن إجارة الأعيان، وإنما جعلناها (خاتمة) فلأن فصول هذا الباب قد هدفت إلى معالجة وبيان أحكام (الجهد) أو العمل الإنساني المبذول لحيازة ثروات الطبيعة وتملكها أو خدمة للغير بعوض، وبعد ملكية «العامل» للأعيان الناتجة عن جهده المبذول نراه «يؤجر» تلك الأعيان ليستفيد من ثمرة منفعتها، فاقتضى هذا الوضع الطبيعي أن نؤخر مبحث «إجارة الأعيان» ليكون بمثابة الخاتمة لهذا الباب وملحقاً به.

ثم إنّ إجارة النفس وإن كانت تختلف عن إجارة العين في قسم معتدٍّ به من الأحكام، غير أن موارد الاتفاق بينهما كثيرة، وخاصة في ما يرجع إلى شروط المتعاقدين وصيغة التعاقد وأحكام البطلان والفسخ إجمالاً، لذا فإننا سوف نذكر هنا موارد الاختلاف التي تختص بإجارة الأعيان، بينما نحيل موارد الاتفاق بينهما على ما ورد في مباحث إجارة النفس السابقة، ومنها، بل وفي طليعتها، صيغة العقد وشروط المتعاقدين وخصائص العقد وأحكامه من جهة اللزوم والفسخ إجمالاً، فإن ما ذكر منها في مبحث إجارة النفس يجري في إجارة العين بجميع تفاصيله، سوى أنه لا بد من تبديل ألفاظ صيغة العقد بما يتناسب مع العين التي يراد إيجارها؛ أما ما عدا ذلك فإننا نتناوله في مباحث متعددة.



 

 

المبحث الأول ـ في شروط العين المستأجرة:

نريد بالعين كل (شيء) له منفعة يراد من أجلها ويرغب، فإذا سعى الراغب في الانتفاع بها إلى مالك العين أو المتولي لها وتعاقد معه على الانتفاع بها مقابل عوض كان ذلك (إجارة)، وكي تكون الإجارة صحيحة لا بد من توفر شروط تتعلق بالعين والمنفعة معاً، أو بالمنفعة وحدها، وهي خمسة شروط:

الأول: أن يكون لتلك العين منفعةٌ معتبرةٌ ومرغوبةٌ ولو عند قليلٍ من الناس، وهو الذي يصطلح عليه الفقهاء بـ (المالية)، فلو فرضنا أن الإجارة وقعت على عين ليس لها منفعة متصورة، كأن يستأجر منه حفنة من  التراب أو عوداً من القش أو نحو ذلك، لم تصح الإجارة.

الثاني: أن تكون العين مما يمكن الانتفاع بها مع بقائها، فلو كانت الاستفادة من منفعتها تتوقف على انعدامها، كالخبز وغيره من الأطعمة، لم يصح تأجيرها، أو فقل: إن مثل هذه العين خارجة طبيعياً عن مفهوم الإجارة الذي يتقوم باستثمار منفعة عين لمدة معينة ترجع بعدها العين إلى مالكها.

الثالث: أن تكون المنفعة التي يريدها المتعاقدان أو أحدهما محلّلة، فإذا انحصرت منافع العين في الحرام، كبعض الآلات الموسيقية مثلاً، أو اشترط أحد المتعاقدين على الآخر استخدامها في الحرام، كاستثمار الدكان لبيع الخمر، لم تصح الإجارة.

الرابع: أن تكون العين مما يمكن استيفاء المنفعة المقصودة منها، فلا تصح إجارة الأرض للزراعة إذا كانت مما لا يمكن إيصال الماء إليها، أو كانت رملية غير صالحة للزراعة، ولا إجارة سيارة ليس لها محرك أو لا يمكن تأمين الوقود لها، ونحو ذلك.

الخامس: أن تكون العين والمنفعة كلتاهما معينتين ومعلومتين، وذلك:

أولاً: أن يعين ويحدد العين التي يريد تأجيرها، فلا يصح أن يقول: «آجرتك واحداً من الشقق التي عندي»، بل يجب أن يحددها ويعرف عنها بالنحو الذي يجعلها مشخّصة معينة، اللهم إلا أن تكون جميع الأفراد متشابهة كسيارةٍ من سيارات من نوع واحد، فإنه لا حاجة للتعيين والتشخيص حينئذ.

وكذلك لا بد من تعيين نوع المنفعة التي يراد الاستفادة منها، ككون السيارة للركوب أو لنقل البضائع، أو كون الدار للسكن أو لخزن البضائع، ونحو ذلك.

ثانياً: إضافة إلى ذلك، لا بد من كون العين والمنفعة معلومتين بالنحو الذي يرفع جهل المستأجر بالعين وجهل المؤجر بتفاصيل الانتفاع، فلا بد من تعرف المستأجر على مواصفات العين بالمشاهدة لها أو بذكر أوصافها، كذلك فإن المستأجر لا بد أن يُعَرّف المالك على كيفية الانتفاع وزمانه، بنحو لا يؤدي الأمر بهما فيما بعد للغرر المؤدي للتنازع وفوت المصالح.

وكما صح في (إجارة النفس) أن يؤجِّر نفسه كل شهر بمائة لخلوّ ذلك من الغرر، فإنه يصـح ـ أيضاً ـ في إجارة الأعيان أن يؤجره داره كل شهر بمائة، ويترتب على ذلك استمرار العقد من قبل المالك ما دام المستأجر راغباً في البقاء، ولا غرر في ذلك (أنظر المسألة 234).

كذلك فإننا قد ذكرنا فيما سبق أنه لا يشترط اتصال المدة بالعقد، فلو عقد اليوم على أن يؤجره الدار لمدة سنة، على أن يبدأ باستيفائها بعد سنة، صحت الإجارة، وإذا أطلق العقد لزم التسليم فوراً.

السادس: توفر القدرة من قبل المالك على تسليم العين المستأجرة ولو على نحو الاحتمال، ويكفي في ذلك قدرة المستأجر على تسلّمها في حال عجز المالك عن تسليمها، كما في مثل الدابة الشاردة التي يقدر المستأجر على إعادتها بوسائل متوفرة عنده دون المالك. هذا، ولا يضر بعقد الإجارة تعليقها على التسليم، فإن قال له: «آجرتك الدار إن قدرت على تسليمها»، فقبل المستأجر، صحت الإجارة إن سلمه العين، وإلا بطلت.

ثم إن ما ذكرناه هو الشروط المعتبرة في العين المستأجرة، وأما الشروط المعتبرة في الأجرة هنا فإنها لا تختلف في شيء عما كنا قد ذكرناه في فصل (إجارة النفس) تحت عنوان (شروط الأجرة)، فليرجع إليها هناك.

المبحث الثاني ـ في لزوم العقد وأحكام الفسخ:

إذا وقع عقد الإجارة مستكملاً لشروطه لزم الوفاء به من الطرفين، ولم يكن لأحدهما فسخه والتراجع عنه، إلا أن يكون لأحدهما حق الفسخ بأحد أسبابه الداعية إليه مما اصطلح عليه بـ (الخيار)، وهي تلك الخيارات التي لا يقتصر ثبوتها على البيع كما أسلفنا القول في إجارة النفس؛ أما ثبوتها هنا فهو بنفس النحو الذي تثبت فيه في جميع موارد إجارة النفس عدا اختلافٍ بسيط في بعض التفاصيل؛كما وأنه لا فرق في لزوم عقد الإجارة بين ما كان بالعقد اللفظي أو الكتبي أو المعاطاة.

مسألة 338: يجري في إجارة العين الخيارات التالية:

1 ـ خيارالغبن، فإذا كانت الأجرة المدفوعة مقابل منفعة العين أقل من الأجرة المتعارفة بما لايتساهل فيه العرف عادةً، كان المالك مغبوناً وثبت له على المستأجر خيار الغبن، وإذا كانت الأجرة أكثر من المتعارف كان المستأجر مغبوناً وثبت له على المالك حق الخيار، وحينئذٍ إما أن يرضى المغبون بالإجارة كما وقعت أو يفسخ المعاملة.

2 ـ خيار العيب، وهو إنما يثبت مع الجهالة بالعيب، فإن كان المستأجر عالماً بالعيب قبل العقد لم يثبت له الخيار ما دام قد أقدم برضاه على استئجار العين بما هي عليه من العيب، وإن كان المستأجر جاهلاً بالعيب، وكانت العين المستأجرة غير مشخصة، بل كانت فرداً كلياً ثابتاً في ذمة المالك، كأن يؤجره غرفة من غرف عديدة متشابهة، أو سيارة من سيارات كذلك، فإنه إذا وجد عيباً في الفرد المدفوع لم يكن له إلا المطالبة بالفرد الصحيح، فإن لم يمكن دفعه إليه كان مخيراً بين القبول بالموجود مع المطالبة بالتفاوت أو فسخ العقد؛ وأما إذا كانت العين المستأجرة مشخصة ومحددة بهذه السيارة أو بهذا الدار، فإن حكمها يتصور على نحوين:

أ ـ أن يكون العيب موجباً لنقصٍ في مقدار الانتفاع بالعين، كالدار التي فيها بعض الغرف الخربة التي لا تصلح للانتفاع بها في السكن ولا في غيره، فهنا يثبت للمستأجر حق الفسخ أو الرضا بالأمر الواقع مع المطالبة بمقدار ما يفوته من المنفعة من الأجرة المسماة، وكذا لو كانت الغرفة الخربة مما يمكن استعمالها في غير السكن، فإنها رغم هذه الفائدة الجزئية، يتخير المستأجر بين الفسخ وبين الرضى بالعقد مع المطالبة بمقدار ما يفوت من منفعة السكن.

ب ـ أن يكون العيب الموجود موجباً لفوات وصفٍ في الدار، كأن وجدها قديمة الدهان أو قليلة التهوية أو نحو ذلك من العيوب التي لا ترجع إلى نقص في نفس مساحة العين، فإن كان ذلك الوصف مما لا يهتم به ولا تختلف به الرغبات، بنحو يكون وجوده كعدمه، لم يثبت به الخيار، وإن كان مما تختلف به الرغبات، كشدة الضوء والتعرض للشمس ونحو ذلك، فإن عدم وجودها موجب لثبوت الخيار بالنحو الذي سلف من الفسخ أو الرضا بالعقد مع تعويض مقدار التفاوت بين العين المتصفة بهذا الوصف وبين العين الفاقدة له.

ثم إنه كما يثبت هذا الحكم بتلك التفاصيل في صورة ما إذا كان العيب موجوداً قبل استئجار العين، فإنه يثبت كذلك في صورة ما إذا وجد العيب بعد العقد وقبل القبض، أو بعد القبض وقبل استيفاء شيء من المنفعة؛ وأما إذا كان العيب قد حدث بعد استيفاء شيء من المنفعة فلا يثبت به الخيار للمستأجر.

3 ـ خيار الشرط، وهو ما لو اشترط أحدهما أو كلاهما أن يفسخ عقد الإجارة ساعة يشاء أو في ظرف خاص؛ وفي إطار هذا الخيار يصح أن يشترط المستأجر على المالك رد الأجرة له في مقابل أن يكون للمالك حق الفسخ في وقت معين، ويمكن إجراؤه بكيفية يقول فيها المالك: «آجرتك هذه الدار لمدة خمس سنين مدفوعة سلفاً كل شهر بمائتين، على أن يكون لي خيار الفسخ على رأس السنتين»، فيقول المستأجر: «قبلت هذه الإجارة بشرط أن ترجع لي في كل شهر مقدار أجرته»، فيقبل المالك شرطه؛ ثم على رأس السنتين يفسخ المالك إن أراد، ويرجع أجرة الثلاث سنين إلى المستأجر، بعدما يكون قد أرجع له أجرة السنتين مقسّطة؛ كما أنه يمكن إجراؤه بغير هذه الكيفية، وبالنحو الذي يرغبان فيه لجهة كيفية استرجاع المال المدفوع سلفا؛ وفائدة ذلك أن المالك يكون قد قبض مبلغاً كبيراً دفعةً واحدة، واستثمره على مدى سنتين، ويكون المستأجر قد سكن في بيت سنتين دون أجرة، ورجع له ماله كله على رأس السنتين؛ وهذا النحو من خيار الشرط قد سبق منا القول أنه قد ورد أساسا في البيع، وسمّي فيه بـ (بيع الخيار)، وأنه يجري في البيع وفي الإجارة، سواء إجارة النفس كما سبق ذكره في محله، أو إجارة العين بالنحو الذي ذكرناه الآن.

4 ـ أما سائر الخيارات فهي:

ـ خيار تخلف الشرط، ويراد به ثبوت الخيار للمشروط له عند تخلف شرطه الذي شرطه على الآخر، سواء في ما يتعلق بأوصاف العين المستأجرة ومدتها أو في ما يتعلق بالأجرة وأوصافها وأحوالها مما يتشارطان عليه.

ـ خيار تبعّض الصفقة، ويثبت فيما لو استأجر ثلاث سيارات نقل مثلاً لنقل بضاعته، فلم يسلّمه المالك إلا سيارتين، فإنه يحق له إمضاء العقد بالموجود أو فسخ العقد.

ـ خيار التدليس، وهو يثبت فيما لو موّه المالك عيوب العين المستأجرة، أو موّه المستأجر عيوب العين المدفوعة أجرة؛ وحيث ينكشف التدليس يثبت للمدلّس عليه خيار الفسخ إذا لم يقنع بالموجود.

ـ خيار تعذر التسليم، وهو الذي يثبت عند عدم تمكن المالك من تسليم العين المستأجرة، أو عند عدم تمكن المستأجر من تسليم الأجرة، بالنحو الذي اتفق عليه الطرفان، فيحق لصاحب الخيار أن يفسخ العقد.

ـ خيار التفليس، ويثبت عند إفلاس المستأجر وعجزه عن دفع أجرة العين، فيتخير المالك بين الفسخ واسترداد العين، وبين إبقاء العقد والانضمام إلى الغرماء في المطالبة بدينه.

مسألة 339: لا تبطل الإجارة ببيع العين المستأجرة قبل انتهاء المدة، فتنتقل العين إلى المشتري مسلوبة المنفعة بسبب ملكية المستأجر لها بالإجارة؛ أما المشتري فإنه إذا كان عالماً حين الشراء بأن العين مسلوبة المنفعة فلا إشكال، وإن كان جاهلاً بذلك ثبت له خيار العيب، فيتخير ـ حينئذ ـ بين فسخ البيع أو الرضا به مع المطالبة بمقدار التفاوت ما بين قيمة العين مع المنفعة وقيمتها بدونها؛ وكذلك الحكم فيما لو كان عالماً بالإجارة ولكنه كان يظن قلة المدة، فإنه يثبت له الخيار في المقدار الزائد، فمن ظن أن الإجارة لسنة ورضي به ثم تبين أنها لسنتين، فإنه ملزم بالبيع إلى سنة ثم يتخير في بداية السنة الثانية بين الفسخ أو الإمضاء مع الأرش.

مسألة 340: إذا بيعت العين المستأجرة وانتقلت إلى المشتري مسلوبة المنفعة، وفسخ المستأجر العقد لسبب ما، فإن المنفعة خلال المدة المتبقية من عقد الإجارة ترجع إلى البائع بصفته المالك الأول الذي أجَّر المنفعة، لأنه لما باع العين مسلوبة المنفعة إلى المشتري ظلّت المنفعة على ملكه فترجع إليه عند فسخ الإجارة؛ وذلك حتى لو كان المشتري هو المستأجر نفسه، لأنّ المشتري يبقى مالكاً للمنفعة بمقتضى عقد الإجارة بعدما انتقلت العين إليه بالشراء مسلوبة المنفعة، إن لم يفسخ هو أو البائع عقد الإجارة، وعليه أن يستمر في دفع الأجرة للبائع رغم انتقال العين إليه، فإن فسخ أحدهما الإجارة عادت المنفعة إلى البائع طوال مدة الإجارة المسماة.

مسألة 341: إذا تضارب تصرف الأصيل مع تصرف الوكيل، بأن باع المالك داره لشخص مثلاً في نفس الوقت الذي كان وكيله قد آجرها لشخص آخر، صح البيع للعين بدون المنفعة، وصحّت الإجارة للمنفعة التي لا تزال على ملك البائع، ويترتب على ذلك احتياج المنفعة بعد انتهاء مدّة الإجارة أو خلالها إلى عقد بيعٍ جديد مع المشتري لنقلها إليه؛ كذلك فإن انتقال العين مسلوبة المنفعة إلى المشتري الجاهل بالإجارة موجب لثبوت خيار الفسخ له.

مسألة 342: لا ينفسخ عقد الإجارة بموت المالك، بل يجب على الورثة الوفاء للمستأجر وتمكينه من الانتفاع بالعين المستأجرة رغم انتقالها إليهم بالميراث. وكذلك لا تنفسخ الإجارة بموت المستأجر إذا لم يكن المالك قد اشترط عليه الانتفاع بالعين بنفسه؛ أما إذا كان قد اشترط عليه ذلك، فتارةً تكون رغبة المالك قد تعلقت بكلٍّ من إيجار الدار وانتفاع المستأجر منها بنفسه على نحو المطلوب الواحد والكل الذي لا يتجزأ، فتبطل الإجارة ـ حينئذ ـ بموت المستأجر، لفقدان الإجارة لشرط المباشرة؛ وتارةً تتعلق رغبة المالك بإيجار الدار أساساً، مع رغبةٍ إضافية هي سكن المستأجر بنفسه، وذلك على نحو المطلوب المتعدد، وفي هذه الحالة لا تبطل الإجارة، بل يثبت للمالك الخيار، فإن شاء أمضى العقد مع ورثة المستأجر، وإن شاء فسخه واسترد العين.

مسألة 343: إذا آجر الولي مال الطفل إلى مدة تتجاوز بلوغه، فإنه يصح للبالغ فسخ عقد الإجارة في المدة الزائدة عن سن بلوغه إذا لم يكن إيجار ماله في فترة ما قبل البلوغ متوقفاً على إيجاره إلى مدة تزيد عن سن بلوغه، ولو مع وجود مصلحة للولد في هذه الزيادة، أما إذا كان الولي مضطراً لذلك لجهة مصلحة الطفل التي لا تتحقّق إلا بالمدة المعيّنة، فإنه لا يحق للبالغ أن يفسخ عقد الإجارة بعد بلوغه.

مسألة 344: إذا بطل عقد الإجارة أو حصل الفسخ قبل استيفاء شيء من المنفعة فلا مشكلة فيه، وأما إذا وقع ذلك بعد مضي مدة على العقد، فلا بد حينئذ من التمييز بين الحكم ببطلان العقد وبين الحكم بالانفساخ وبين ثبوت خيار الفسخ؛ أما البطلان فهو الذي يحدث في صورة اختلال أركان العقد فيما يرجع إلى المتعاقدين وشروط العين والمنفعة والأجرة، فإذا حكم ببطلان العقد، بمعنى انكشاف بطلانه من الأول، فإن على المالك إعادة الأجرة المسمّاة للمستأجر وأخذ أجرة المثل عن المدة التي انتفع فيها بالعين؛ وإذا حكم بالبطلان في الأثناء، بمعنى عروض ما أوجب البطلان خلال المدة بعد ما كان العقد صحيحاً فيما مضى من المدة، وهو الـذي يعبـر عنـه ـ أيضاً ـ بالانفساخ، ثبت للمالك أجرة مقدار ما استهلك من المنفعة بنسبته من الأجرة المسماة، لا من أجرة المثل; وأما إذا بقي العقد صحيحاً، ففسخ أحدهما بالخيار، أو تراضيا على الفسخ، وكان ذلك في الأثناء، فإنه ـ أيضاً ـ يثبت للمالك أجرة ما استهلك من المنفعة بنسبته إلى الأجرة المسماة، لا إلى أجرة المثل.

المبحث الثالث ـ في أحكام التسليم:

وفيه مسائل:

مسألة 345: إذا وقع العقد مستكملاً لشروطه ملك المستأجر المنفعة على المالك، وملـك المالـك الأجـرة على المستأجـر، ويترتّب عليه ـ بحسب مقتضى العقد وطبيعته ـ وجوب تسليم كل واحد منهما ما بيده للآخر فوراً وسلفاً، إلا أن يشترط خلاف ذلك.

وتسليم المنفعة يكون بتسليم العين، وتختلف كيفية التسليم باختلاف الأعيان، فتسليم الدار بتسليم مفتاحها، وتسليم الأرض بإفساح المجال للمستأجر ليضع يده عليها، وهي التي يصطلح عليها بـ (التخلية)، أي رفع اليد وإزالة الموانع، وتسليم الكتاب بدفعه إليه وإعطائه إياه، وهكذا؛ وكذلك يكون تسليم الأجرة لو كانت عيناً أو منفعة. أما تسليم (الحق) إذا كان مستأجراً أو أجرة فإنه يختلف باختلاف ما يتعلق به الحق، ففي مثل حقّ الطبع يكون التسليم بتسليم الكتاب، وفي مثل حق الحضانة يكون بتسليم الأولاد، وفي مثل حق المرور يكون بإزالة الموانع والتخلية وهكذا.

مسألة 346: إذا بذل المالك العين المستأجرة للمستأجر وهيأ كل مقدمات التسليم، فلم يتسلم المستأجر العين اختياراً حتى انقضت مدة الإجارة، استقرت الأجرة المسمّاة على المستأجر، وذلك كما لو أرسل الكتاب أو الدابة إلى منزل المستأجر مثلاً، فربط الدابة في زريبة صاحب البيت، أو وضع الكتاب على طاولته، بأمر منه، أو قال له: «إن مفتاح السيارة أو الدار موجود في المكان الفلاني فأرسل من يأخذه»، ونحو ذلك من مقدمات التسليم المناسبة للعين المستأجرة.

وكذلك يستحق المالك الأجرة المسمّاة إذا تسلّم المستأجر العين وأخذها وصارت تحت يده ولكنه لم يستوف المنفعة المرغوبة له اختياراً، كمن استأجر سيارة ليسافر بها فعدل عن السفر; ولا فرق في ذلك بين ما لو كان للإجارة وقت محدد أو لم يكن وانقضت المدة التي يمكن استيفاء المنفعة فيها، كما لا فرق بين ما لو كانت العين المستأجرة محددة في فرد أو كانت كلية ودفع إليه فرداً بعينه لينتفع به.

وكذلك الحكم في ما لو كان عدم استلام المستأجر للعين، أو كان عدم الاستيفاء بعد الاستلام، ناشئاً عن العذر المانع من ذلك، وكانت الإجارة مقيّدةً بزمان خاص ـ أو كانت المنفعة، بطبيعتها، من النوع الذي ينبغي استيفاؤه في وقت متعارف ـ وكان العذر المانع خاصاً، كالمرض والنوم والنسيان ونحوها؛ فإذا مضت المدة ولم يقدر على استيفاء المنفعة صحت الإجارة ولزمته الأجرة المسماة بتمامها، وذلك بدون فرق بين ما لو كانت العين المؤجرة مقيدة باستيفاء منفعة خاصة منها وبين ما لو لـم تكـن كذلك، وبدون فـرق ـ أيضاً ـ بين ما لو كان الانتفاع مقيداً ـ أو مشروطاً ـ بمباشرة المستأجر له بنفسه وبين ما لو لم يكن كذلك. وأما إذا لم تكن الإجارة مقيدة بزمان خاص، ولا كانت المنفعة مما ينبغي استيفاؤه في وقت متعارف، وبخاصة إذا كان المستأجر قد اشترط استيفاء المنفعة ساعة يشاء، فإنه لا يسقط حق المستأجر بالاستيفاء بعد زوال المانع كما هو واضح.

هذا كله إذا كان العذر المانع خاصاً، أما إذا كان عاماً، كسوء الأحوال الجوية أو اضطراب الوضع الأمني أو نحو ذلك، فإنّ الإجارة تبطل ولا يستحق المالك على المستأجر شيئاً.

مسألة 347: إذا كان المانع من استيفاء المنفعة فقدان العين بمثل الغصب، فإن كان قد حدث قبل القبض، وكان الغاصب متوجهاً في عمله هذا إلى المستأجر رغبةً منه في ظلمه والانتقام منه، فإن الإجارة صحيحة، وعلى المستأجر الرجوع بما يفوت عليه من الانتفاع بالعين إلى الغاصب نفسه؛ وأما إذا كان الغاصب غير متجه في ظلمه إلى المستأجر خاصة، بل إلى الأعم منه فضلاً عما لو كان متجهاً به إلى المالك خاصة، فإن للمستأجر حق الفسخ والرجوع بالأجرة على المالك إذا كان قد دفعها إليه، أو إبقاء العقد والرجوع على الغاصب بأجرة ما يفوته من المنفعة.

وأما إذا كان الغصب للعين، أو المنع من الانتفاع بها من قبل الظالم، قد وقع بعد قبض المستأجر للعين، فإن الإجارة صحيحة وليس للمستأجر الفسخ، وعليه الرجوع بمظلمته على الغاصب نفسه، دون فرق في ذلك بين ما لو كان في ابتداء المدة أو في أثنائها، ودون فرق بين ما لو كان متجهاً في ظلمه للمستأجر أو للأعم منه ومن غيره.

نعم، لو فرض ـ في صورة ثبوت الخيار للمستأجر بين الفسخ والإمضاء ـ أن الظالم أعاد العين المغصوبة في أثناء المدة إلى المستأجر قبل أن يفسخ المستأجر عقد الإجارة، يبقى حقه في الفسخ قائما إذا كان تركه للفسخ خلال ما مضى من المدة غير ناشىء من التزامه بالعقد رغم غصبية العين، بل كان غافلاً عن ذلك تماماً، وأما إذا كان ملتفتاً لذلك ولم يفسخ عد ذلك منه التزاماً بالعقد خلال مدة غصبية العين، فلا يحق له الفسخ بعد عودتها وزوال الغصب عنها.

وحيث يصح له الفسخ فإنه إذا اختار الاستمرار في العقد بعد عودة العين يحق له مطالبة الغاصب بمقدار أجرة ما فاته من المنفعة خلال مدة الغصب من الأجرة المسماة.

مسألة 348: إذا انعدمت جميع منافع العين المستأجرة بطروء التلف الكلي عليها، فمرة يكون التلف بفعل آفة طبيعية أو ما يشبهها، كالصاعقة والغرق والبهيمة الصائلة ونحوها، ومرةً يكون بفعل فاعل عاقل، فهنا حالتان.

الأولى: ما كان التلف فيها بمثل الآفة الطبيعية أو البهيمة الصائلة،كأن تنهدم الدار بصاعقة، أو تموت الدابة، أو نحو ذلك؛ وحكمها على نحوين:

1 ـ أن يكون التلف قد وقع قبل تسلم العين أو بعده مباشرةً وقبل الانتفاع بشيء منها، فتبطل الإجارة وينفك العقد.

2 ـ أن يكون التلف بعدما كان المستأجر قد انتفع بالعين مدةً من الزمان، فتبطل الإجارة وينفسخ العقد من حين التلف ويستحق المالك على المستأجر من الأجرة المسمَّاة بنسبتها إلى المدة.

الثانية: ما كان التلف فيها قد حدث من فاعل عاقل؛ وحكمها على أنحاء:

1 ـ أن يكون المتلف فيها هو المستأجر نفسه، فتبطل الإجارة بالنحو الذي سبق تفصيله في الحالة الأولى، سواء مع التعدي أو التفريط أو بدونهما، نعم يثبت عليه ـ زيادةً على ذلك ـ ضمان العين في حالة التعدي أو التفريط.

2 ـ أن يكون المتلف هو المالك، فلا تبطل الإجارة مطلقاً، بلا فرق بين ما لو كان قد سلّمه العين أو لم يسلِّمه، ولا بين ما لو كان قبل أن ينتفع بشيء منها أو بعده، ولكن يثبت للمستأجر الخيار بين المضي في العقد مع المطالبة ببدل العين التالفة، وبين فسخ العقد واسترجاع الأجرة المسماة تامة أو بنسبة ما استفاد من العين خلال المدة.

3 ـ أن يكون المتلف أجنبياً، فإن كان التلف قد حدث قبل قبض العين ثبت للمستأجر نفس الخيار المذكور في النحو الثاني من الحالة الثانية، ويرجع المالك على الأجنبي مع تعديه، وإن كان التلف قد حدث بعد قبض المستأجر للعين لم يبطل العقد به، وكانت المسؤولية في ذلك على المتلف مع تعديه، فيرجع عليه المستأجر بضمان ما فات من المنفعة، ويرجع عليه المالك ببدل العين أو بقيمتها مسلوبة المنفعة، وذلك بالنحو الوارد في أحكام الضمان.

مسألة 349: يجوز لمن له مصلحة في بقاء عقد الإجارة واستمراره بعد تلف العين المستأجرة كلياً، وهو المستأجر غالباً، أن يشترط على الآخر بقاء العقد في الحالات التي تبطل فيها الإجارة بسبب ذلك التلف، سواء مع اشتراط إصلاح العين أو استبدالها بغيرها بكيفية معينة، أو من دون هذا الاشتراط اتكالاً على رجاء إصلاحها أو استبدالها تلقائياً فيما بعد، فلا يحتاج ـ حينئذ ـ إلى إنشاء عقد إجارة جديد قد يضطر فيه إلى دفع أجرة أكثر.

مسألة 350: إذا لم يمنع تلف العين المستأجَرة كلياً من الانتفاع بها في وجوه أخرى غير تلك التي كانت ملحوظة ابتداءً، كمن استأجر داراً ليسكنها فخربت كلياً، ولكن أمكنه جعلها موقف سيارات أو زريبة لماشيته، أو نحو ذلك، فإذا لم يكن المالك قد اشترط عليه استعمال العين في خصوص المنفعة التي فاتت بالتلف، وهو السكن في المثال المتقدِّم، فإن الإجارة لا تبطل حينئذ، بل يتخير المستأجر بين الإبقاء على العقد والانتفاع بالعين بالوجوه الممكنة مع مطالبته بفارق الأجرة إن كانت أقل، وبين الفسخ والرجوع عليه بما دفع من الأجرة المسماة إن كان يستحقه.

مسألة 351: إذا كان التلف الواقع على العين جزئياً، كما لو تهدمت بعض غرف الدار، أو تمزقت بعض فصول الكتاب، أو نحو ذلك من حالات التلف التي يفوت بها بعض المنفعة على المستأجر، فإنه يثبت بذلك للمستأجر خيار تبعض الصفقة، فإن شاء أمضى العقد مع تعويض ما نقص عليه من المنفعة بنسبته إلى الأجرة، وإن شاء فسخ العقد ودفع للمالك من الأجرة بنسبة ما استوفى من العين؛ وذلك بدون فرق بين ما لو كان المتلف بشرياً أو غير بشري، نعم إذا كان المتلف المتعدي هو المستأجر لم يثبت له الخيار، بل يكون ما تلف مضموناً عليه ومعدوداً بمنـزلة ما لو استوفاه، فتبقى الأجرة قائمة في الجزء الموجود بتمام الأجرة المسمّاة إلى نهاية المدة، إضافة إلى ضمانه الجزء الذي أتلفه من العين ملحوظاً بما هو مسلوب المنفعة.

مسألة 352: إذا قدر المالك على إصلاح التلف وبناء المتهدم في وقت قصير نسبياً، بحيث لا يعتد به عند العرف ولا يضر ما يفوت فيه من المنفعة بالمستأجر، لم يثبت الخيار للمستأجر على المالك عند تلف العين المستأجرة كلياً أو جزئياً، بل إنه يجب على المالك ـ مع قدرته ـ المبادرة إلى إصلاح التلف لتمكين المستأجر من الانتفاع بها في أقرب فرصة متعارفة، وكلفة الإصلاح والترميم على المالك؛ فإذا لم يتدارك المالك ما وقع من التلف، عصياناً أو عجزاً، ثبت الخيار ـ حينئذ ـ للمستأجر بالنحو المتقدم. وفي جميع الحالات يصح للمالك أن يشترط كون إصلاح التالف على المستأجر بالنحو الذي يتراضيان عليه لجهة التنفيذ والإشراف والتكاليف.

مسألة 353: العين المستأجرة أمانة بيد المستأجر، فإذا تلفت لم يضمنها إذا لم يكن متعدياً أو مفرطاً، والتعدي هو: (تجاوز الحد المأذون به في الانتفاع بالعين)، وأما التفريط فهو: (تعريضها لما يوجب التلف)، فإذا تعدى أو فرّط ضمن ما أتلف؛ وكذلك يضمن إذا اشترط المالك عليه الضمان ولو لم يكن متعدياً أو مفرطاً. ولا فرق في عدم الضمان بدون تعد أو تفريط بين ما لو كان التلف أثناء المدة أو بعدها، كما لا فرق فيه بين ما لو كانت الإجارة صحيحة أو باطلة. هذا وقد تقدم في إجارة النفس ذكر كيفية الضمان، وأنه بالمثل أو بالقيمة، وذكر حكم اختلاف القيم، فراجع. (أنظر المسألة 286).

مسألة 354: إذا أذن المالك بنوع من التصرفات العنيفة المتعارفة في موردها، كالدابة يضربها، أو السيارة يقودها بنحو خاص، فإذا أدى هذا التصرف العنيف إلى الإضرار بالعين المستأجرة لم يضمن المستأجر تلفها أو عيبها ما دام قد اقتصر في عنفه على المقدار المأذون به.

مسألة 355: إذا حمّل السيارة مثلاً أكثر من المقدار المتعارف، أو أكثر من المقدار المشترط عليه، فتلفت به أو تعيبت، ضمن تلفها وعيبها، وضمن ـ أيضاً ـ أجرة المثل للمقدار الزائد زيادة على الأجرة المسماة للمقدار المتفق عليه، سواء كان تحديد المقدار على نحو الشرط الإضافي أو على نحو القيد الداخل في أصل التعاقد. هذا ويثبت نفس الحكم في حال سار بالسيارة أو الدابة مثلاً أكثر من المقدار المتّفق عليه.

مسألة 356: مواقف السيارات أو المسابح أو الحمامات العامة وأمثالها لا يضمن أصحابها ثياب وأغراض وسيارات المستأجر الذي استأجر موقفهم أو مسبحهم في حال كانت الإجارة قد وقعت على نفس المنفعة لا على حفظ الثياب ونحوها؛ وكذلك لا يضمن صاحب الموقف مثلاً في صورة ما لو تعهّد بحفظ السيارة أو الأغراض التي فيها إذا لم يكن متعدياً ولا مفرطاً، إلا أن يشترط عليه المستأجر الضمان فإنه يضمن حينئذ، ومثل صورة التعهّد في الحكم صورة ما لو كان قد أخذ أجرة على حفظ نفس السيارة أو الأغراض زيادة عن أجرة وقوفها فإنه لا يضمن مع عدم التعدي أو التفريط إلا مع الاشتراط.

المبحث الرابع ـ في حدود التصرف بالمنفعة وأحكام الإخلاء:

مسألة 357: إذا تم العقد ملك المستأجر المنفعة، فإذا لم يقيد المالك تصرفات المستأجر بحدود معينة ـ صراحة أو ضمناً ـ جاز له أن يتصرف فيها كما يشاء، فيجوز له أن يسكن الدار المستأجرة ـ مثلاً ـ بنفسه أو يسكنها غيره مجاناً أو بأجرة، قريباً كان أو أجنبياً، أو يتركها خالية، أو يستخدمها لغير السكن كتخزين البضائع، أو لمعاينة المرضى، أو مكتباً، أو أي شيء آخر؛ كما أنه يجوز له أن يؤجرها غيره بمثل ما استأجرها أو بأقل منه، ولا يجوز بالأكثر حتى لو كانت الأجرة الجديدة مغايرة في جنسها للأجرة السابقة، فمن استأجر داراً بألف دولار لم يجز له إيجارها لغيره بألف ومائة دولار أو بألفي مارك أو نحوه مما تكون قيمته أكثر من الألف دولار؛ نعم تجوز إجارتها بالأكثر إذا عمل فيها عملاً مُحسِّناً لها زيادة عما كان فيها، كأن يغير أبوابها بالأحسن، أو يجدد أثاثها أو نحو ذلك من الإضافات، فإنه مهما كانت الإضافة بَخْسة الثمن يصح معها ـ حينئذ ـ إجارة العين بأزيد مما استأجرها به؛ وكما لا تجوز إجارة الدار كلها بالنحو المذكور فإنه لا يجوز ـ أيضاً ـ إجارة بعضها بأزيد من أجرة الكل إلا أن يُحسِّنها، ويجوز بالمساوي لأجرة الكل وبالأقل منها، وإن كان الأحوط استحباباً تركها بالمساوي.

مسألة 358: إذا اشترط المالك على المستأجر أن ينتفع بالعين بنفسه، فالمفهوم من هذا الشرط أنه يريد أن يسكن المستأجر نفسه في الدار أو أن يقود السيارة بنفسه مثلاً، بغضِّ النظر عن مشاركة الغير له بالانتفاع بها وعدمه، فيصح له ـ حينئذ ـ أن يؤجرها لغيره على أن يكون هو الذي يسوق به السيارة، أو هو الذي يسكن معه في البيت إن كان ذلك ممكناً، كما في سكنى الأقارب مع بعضهم البعض، ولا يكون بذلك مخالفاً للشرط؛ نعم إذا شرط عليه أن يستوفي المنفعة بنفسه ولنفسه خاصة دون أن يشرك معه أحداً، أو كان قد اشترط عليه أن لا يؤجرها للغير، فإنه لا يجوز له في هذين الموردين مخالفة الشرط وإجارتها للغير، فإن خالف الشرط وأجّرها للغير كان المالك بالخيار بين الموافقة على ما فعل فتصح الإجارة الثانية مضافاً لصحة الأولى، وبين أن يفسخ العقد بينه وبين المستأجر فتبطل الإجارة الثانية حتماً.

هذا، ولا بد من الإلفات إلى أن هذه الشروط تكون ملزمة للمتعاقدين إذا صرح بها وذكرت بوضوح، وكذا إذا لم يصرح بها ولكن كانت متعارفة في المجتمع الذي جرى التعاقد فيه، وحاضرةً حين التعاقد في ذهن المتعاقدين بدرجة لا يُحتاج معها إلى ذكرها والتصريح بها؛ وفي هذا الصدد يمكن قول: إن عدم قبول المالك بإجارة العين المستأجرة من قبل المستأجر إلى شخص آخر من دون مراجعته واستئذانه، هو من الشروط الضمنية المعروفة في المجتمع اللبناني في زماننا، بل وربما في كثير من المجتمعات، الأمر الذي ينبغي الالتفات إليه حين التعاقد.

مسألة 359: إذا انتهت مدة الإجارة وجب على المستأجر أن يتخلى عن العين المستأجرة ويسلمها إلى صاحبها، وليس له أن يمتنع عن ذلك ولا أن يطالب بمبلغ من المال مقابل ذلك التخلي إذا لم يكن قد شرط ذلك على المالك؛ كذلك فإنه بعد انتهاء المدة تزول سلطته على المنفعة، فلا يجوز له تأجير العين إلى غيره إذا لم يكن مأذوناً من قِبَل المالك بذلك، فإن كان مأذوناً فآجرها وكانت من قبيل الدار والدكان، لم يجز له أخذ مبلغ «خلواً» لنفسه من المستأجر الجديد، وهو ما يعبر عنه في بعض البلاد بـ (السرقفلية)، كما أنه لو آجرها المالك لغيره لم يجز للمستأجر الأول مطالبة المستأجر الجديد بالخلو، إلا إذا كان قد شرط على المالك ذلك.

وبعبارة أخرى: لا يحقّ للمستأجر بعد انتهاء مدة إجارة مثل المنـزل أو الدكان أن يأخذ مالاً من المالك ولا من المستأجر الجديد من أجل إخلاء المأجور إلا إذا كان قد اشترط على المالك ذلك.

مسألة 360: إذا كانت الإجارة بلا مدة، كأن آجره الدار كل شهر بألف، من دون تحديد مدة تنتهي فيها، فالإجارة صحيحة كما ذكرنا سابقاً، ومثلها ما لو استأجر منه الدار سنة واشترط عليه إجارتها له كل سنة، ففي كلا الحالتين يكون الإخلاء مرهوناً بإرادة المستأجر ورغبته، وعليه، فإنه يجوز للمستأجر أن يطلب مبلغاً من المال مقابل حقه بعدم الإخلاء وثمناً لتنازله عن هذا الحق حتى ولو كان ذلك المبلغ أزيد من تمام الأجرة التي دفعها إليه خلال ما مضى من المدة.

كذلك فإن للمالك أن يطلب من المستأجر مبلغاً مستقلاً عن الأجرة عند إجارته المحل أو الدار مثلاً، ويشرط له على نفسه أن لا يزيد في الأجرة إذا ارتفعت الأجور، وأن يكون له حق إجارته لمن يشاء، فيصبح هذا المال ملحوظاً في قيمة هذه المنفعة ومتضمناً فيها، فإذا طالب المالك بالعين خلال المدة ورغب المستأجر بإجابته جازت له المطالبة بمبلغ لإخلائها ولو زيادة عن المبلغ الذي دفعه أولاً، كذلك فإنّ للمستأجر إذا أراد إجارتها خلال المدة أن يأخذ «خلواً» من المستأجر الجديد، بل إن هذا المستأجر إذا مات انتقل هذا الحق إلى وارثه إذا بقي حقه في المنفعة بعد موت المورِّث، فإذا انقضت المدة لم يكن للمستأجر مطالبة المالك بذلك المبلغ إلا إذا كان المستأجر قد اشترط ـ زيادة على ذلك أو مستقلاً ـ أن يدفع له المالك مبلغاً لإخلائه ووافق على ذلك، فإنه يلزمه الوفاء له بالشرط كما أشرنا إليه سابقاً، وينتقل هذا الحق بعد موت المستأجر إلى وارثه إذا انتهت المدة في أيامه أو انتهت الإجارة وبطلت بموت المستأجر إذا كان الشرط مطلقاً؛ وهكذا يكون المدار في التفاصيل على الشروط الموضوعة حين التعاقد، ضمنية كانت أو صريحة.

مسألة 361: إذا اتفق المتعاقدان على أن يكون شخص معين، أو جهة معينة، كالعالم الديني فلان أو الدولة القائمة أو البلدية، هو المرجع والمطاع في ما يشترطه عليهما وفي ما يستحدثه من قوانين لها علاقة بمضمون العقد، وجب عليهما العمل طبق هذا الاتفاق وتحمل نتائجه، فإذا استحدث ذلك الشخص أو تلك الجهة قانوناً يلزم فيه المالك دفع خلو للمستأجر، أو سمحت بموجبه للمستأجر بأن يؤجر العين التي تحت يده، لزم المالك بمقتضى ذلك الرضا به؛ وهكذا لو سنت الدولة قانوناً بزيادة الأجرة، أو أعطت الحق للمالك بطلب المأجور، أو نحو ذلك من الحقوق التي يعطيها القانون للمالك، فإن المستأجر ملزم هو ـ أيضاً ـ بذلك وبالعمل على مقتضاه.

المبحث الخامس ـ في ما تجوز إجارته من الأعيان:

والكلام فيه يقع في عنوانين:

الأول ـ في حكم إجارة الأرض:

وفيه مسائل:

مسألة 362: لا إشكال في جواز إجارة الأرض للانتفاع بها في الوجوه المحللة،كأن يستأجرها ليجعلها ملعباً أو مصنعاً أو متنـزّهاً أو موقفاً للسيارات أو ليبني عليها بناءً للسكن أو الدراسة أو الصناعة أو غيرها، فإن لم يكن وجه الانتفاع محللاً حرمت الإجارة وبطلت، كأن يستأجرها لبناء مصنع للخمر أو ليسجن فيها المظلومين أو نحو ذلك من الغايات المحرمة، كما سيأتي بيانه.

مسألة 363: تصح إجارة الأرض لتجعل مسجداً بالنحو الذي تترتب عليه آثار المسجدية من الثواب والأحكام إذا كانت الإجارة لمدة طويلة كمائة سنة أو أكثر، ولا تصح الإجارة ولا تترتب آثار المسجدية إذا كانت الإجارة لما دون ذلك كالسنة والسنتين والخمسين مثلاً؛ أما إذا آجرها لتجعل مصلى فلا إشكال في صحتها مهما كانت المدة طويلة أو قصيرة.

مسألة 364: تصح إجارة الأرض مدة معينة على أن تكون أجرتها بناء بيت لصاحبها بمواصفات محددة فيها، أو جعلها بستاناً بمواصفات محددة، أو جعل أجرتها غير ذلك بما في ذلك إجارتها للزراعة بحصة من حاصلها كالثلث أو الربع، أو بمقدار موزون أو مكيل من حاصلها، أو بغير حاصلها من الحبوب أو الأموال، ولا تضر بالصحة جهالة المقدار الذي تكون عليه الحصة ما دام يمكن تقديرها بالإجمال تقديراً تقريبياً يرفع الجهالة ويجعلها مقبولة عرفاً.

مسألة 365: كما تجوز إجارة الأرض كلها تجوز إجارة حصة مشاعة من أرض بعينها، كأن يقول: «آجرتك نصف هذه الأرض»، أو: «..نصف أرضي الفلانية المعلومة»؛ وأما إجارة حصة مشاعة من واحدة من عدة أقسام من أرضه المعينة والمفرزة قطعاً، فإنها تصح مع مشاهدة الأرض الكلية المعينة ولو لم تحدد له قطعة خاصة؛ وكذا تصح إجارة حصة مشاعة من كلي في الذمة، إذا ذكرت أوصافها بالنحو الذي ترتفع به الجهالة، وذلك كأن يقول له: «آجرتك نصف دونم من الأرض ذات التربة الحمراء المستوية القليلة الحصا المروية بالماء مثلاً»، فهو رغم أنه لم يعين له موقع الأرض ولم يشاهدها، فإن ذكر الأوصاف كافٍ في صحة الإجارة ولزوم وفاء المالك لما تعهد به للمستأجر بمقتضى العقد وبنفس الأوصاف.

مسألة 366: يصح لأحد الشريكين في الأرض أن يؤجر حصته المشاعة، فيصير المستأجر شريكاً في المنفعة للشريك الآخر.

مسألة 367: إذا استأجر أرضاً لينتفع بها كيف يشاء إلى مدة محددة، فزرع فيها ما يبقى بعد انقضاء المدة من الشجر أو الزرع، فإذا انقضت المدة جاز للمالك أن يأمره بقلعه، فإذا أمره بقلعه وجب على المستأجر قلعه؛ وكذا لو كان قد استأجرها لخصوص الزراعة، فزرعها ما يبقى بعد المدة؛ وفي كلا الحالين لا يضمن المالك ما يتلف من الزرع أو يتعيب بالقلع. وأما إذا غرس ما لا يبقى فطرأ ما استوجب بقاءه بعد المدة، كتأخر المطر ونحوه، وجب الصبر على الزارع حتى ينضج الزرع ويحين قطافه إذا لم يكن في التأخير ضرر يعتد به على المالك.

مسألة 368: إذا بقيت أصول الزرع في الأرض المستأجرة بعد انقضاء مدة الإجارة فنبتت، فإن لم يعرض عنها المستأجر فهي له، وإن كان قد أعرض عنها جاز لكل أحد أخذها، فمن سبق إليها ملكها، بلا فرق بين مالك الأرض وغيره، رغم أنّ غير المالك لا يجوز له الدخول إلى الأرض لأخذها إلا بإذن المالك.

مسألة 369: الضرائب التي تفرضها الدول الحديثة على المالكين والمستثمرين للأعيان غير المنقولة، كالدور والأراضي والمنشآت والدكاكين يكون ملزماً بها من نص القانون عليه، فإن كان قد وضعها على المالك فهي على المالك، وإن وضعها على المستأجر فهي على المستأجر، نعم في الأراضي التي تملكها الدولة حسب الفقه الإسلامي، والتي يقال لها الأراضي الخراجية، والتي سبق ذكر أحكامها، يكون الخراج الموضوع عليها على المالك، ولا سيّما في ظلّ دولةٍ إسلامية أو مع حاكم شرعي مبسوط اليد؛ وفي كل الحالات، فإنه يصح لمن كانت الضريبة أو الخراج عليه أن يشترط كونه على الآخر، فيصير عليه حينئذ ويلزمه الوفاء به.

الثاني ـ في حكم إجارة غير الأراضي:

مسألة 370: تجوز إجارة كل عين قابلة للبقاء للاستفادة من منفعتها في وجوه الحلال المتعارفة، كاستئجار الدار للسكن والسيارة للركوب ونحو ذلك، بل تجوز إجارة الأعيان لفوائد وغايات غير متعارفة، مثل استئجار الشجرة للاستظلال، والبستان للتنزه، والنقود والأواني للتزيين بها، أو لغايات صارت متعارفة في زماننا، كاستئجار مخلَّفات الأمم السابقة وآثارهم لعرضها والتفرج عليها أو لدراستها، ونحو ذلك، فإن لم تكن الغاية محللة لم تجز إجارتها، فإذا نص حين التعاقد بأنه قد آجره الدكان لبيع الخمر أو لعب القمار أو بيع شُرُط تسجيل الغناء المحرم أو نحو ذلك، بطلت الإجارة وحرم مال الأجرة، وأما إذا لم ينص على ذلك، بل آجره العين ليبيع فيها، أو لمطلق الانتفاع بها، وكان يعلم أنه سيبيع فيها الخمر أو غيره من المحرمات لم يضر ذلك بصحة عقد الإجارة ولا بحلية المال المأخوذ أجرة؛ نعم قد يجب عليه ـ في حال علمه بأنه سيفعل فيه الحرام ـ ترك إجارته من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا تمت الشروط فيه، وأما إذا فاجأ المالـك فبـاع فيه الحـرام من دون علمه لم يجب عليـه ـ بصفته مالكاً ـ منعه ولا يبطل به عقد الإجـارة، نعم يجب عليـه منعـه ـ بصفتـه مؤمناً ـ من بيع الحرام، وذلك من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع توفر شروطه.


 

 

المقصد الثاني

في الهبات

 

الباب الأول: في الهبة والصدقة

الباب الثاني: فـي العارية

الباب الثالث: في الوصية

الباب الرابع: في الوقف والحَبس



 

 

تمهيد:

(الهبة) ـ في مصطلح الفقهاء ـ مختصة بما لو بذل المالك ماله في حياته لغيره مجاناً؛ وهي التي فصلوا أحكامها في بحث مستقل تحت عنوان (الهبة)؛ لكنه لما كانت هذه (المجانية) غير مقتصرة على هذه المعاملة، بل تشترك معها فيها معاملات أخرى، فإننا رأينا ذلك صالحاً لأن يكون (جامعاً) مشتركاً بينها، فأعطينا هذا المقصد عنوان الهبات، وجعلناه شاملاً للهبة بمعناها المصطلح الآنف الذكر، وللعارية والوصية والوقف، وذلك لأن العارية هبة المنفعة، والوصية هبة العين والمنفعة معاً، أو المنفعة وحدها، معلقةً إلى ما بعد موت الباذل، والوقف هو إخراج المالك المال عن ملكه بحبس العين وجعلها غير قابلة للانتقال إلى الغير وهبة منفعتها في وجه من وجوه البر لعموم الناس أو لصنف خاص منهم؛ وهي المعاملات التي سوف نستعرض أحكامها في عدد من الأبواب إن شاء الله تعالى.


 

 

الباب الأول

في الهبة والصدقة

 

الفصل الأول: في الهبة

الفصل الثاني: في الصدقة

 



 

 

تمهيد:

قد تبيّن مما قدّمنا في التمهيد لهذا المقصد أن الهبة بالمعنى المصطلح هي بذل مال للغير مجاناً، ولكن هذه الهبة ـ كما سوف يتبين من تعريفهـا لاحقاً ـ مأخوذ فيها أن لا تكون بقصد القربة، فإن قصد الواهب بعمله ذلك التقرب إلى الله تعالى صار في مصطلح الفقهاء (صدقةً)، وبخاصة أن الفقهاء لا يشترطون في الصدقة كون المتصدَّق عليه فقيراً، بل يرون أن إعطاء الغني هدية بقصد التقرب إلى الله تعالى يعتبر (صدقة)، رغم أن الغالب ـ في عرف النـاس ـ إطلاقها على موارد إهداء الفقراء والتحنن عليهم؛ وقد اقتضى هذا التقارب بين (الهبة) و(الصدقة) ذكرهما في باب واحد، كما اقتضى ما بينهما من اختلاف جعلهما في فصلين.

هذا، ولا بد من إلفات النظر إلى أن الهبة بالمعنى المتقدم تشمل (الهدية)، وهي: (ما يقدم في المناسبات أو بدونها بقصد التحبب والتعظيم)، كما تشمل (النِّحْلة)، وهي: (ما يعطى إلى الأولاد والأرحام من عقارات ونحوها من غير المنقول) كما يظهر من بعض الأخبار، وتشمل ـ أيضاً ـ، (الجائزة)، وهي: (ما يقدم ثواباً وتشجيعاً على عمل)، فجميع ذلك تلحقه أحكام الهبة.

ثم إنه لا يخفى ما في الهبة من فضل، فإنها سبب في توثيق العلاقات الاجتماعية وتمكين أسباب المودة بين الأقارب والأزواج والأصدقاء، سواء في إطار التهادي في المناسبات أو بدونها، أو في إطار إعطاء الهدية كـ (جائزة) ثواباً وتشجيعاً لمن قام بعمل جيد؛ وحتى عندما تصبح الهدية صدقة يراد منها التقرب إلى الله تعالى، فإنها تساهم بقوة في رفع مستوى التضامن الاجتماعي وتحقيق التراحم بين الناس؛ وانطلاقاً من ذلك ورد في الحثّ عليها أحاديث كثيرة شجعت عليها وعددت فوائدها وألوان الثواب عليها؛ منها ما روي عن النبي w أنه قال: «الهدية تورث المودة، وتجْدُرُ (أي تحوط) الأخوة، وتذهب الضغينة، تهادوا تحابوا»، وعنه w ـ أيضاً ـ: «من تَكْرِمَةِ الرجل لأخيه المسلم أن يقبل تحفته ويتحفه بما عنده ولا يتكلف له شيئاً».

وأما ما ورد في الحث على الصدقة وفضلها فهو كثير، نذكر منه قول النبي w: «تصدّقوا وداووا مرضاكم بالصدقة، فإن الصدقة تدفع عن الأعراض والأمراض، وهي زيادة في أعماركم وحسناتكم». وعنه w أنه قال: «..اتقوا النار ولو بشق التمرة، فإن الله عز وجل يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله حتى يوفّيه إياها يوم القيامة، حتى يكون أعظم من الجبل».


 

 

الفصل الأول

في الهبة

 

المبحث الأول: في الصيغة والشروط

المبحث الثاني: في الهبة المعوَّضة

المبحث الثالث: في لزوم الهبة



 

 

المبحث الأول ـ في الصيغة والشروط:

وفيه أمور:

الأول ـ في تعريفها:

الهبة ـ في الأصل ـ هي: (تمليك عين أو حق تمليكاً طلقاً، منجزاً في حياة الواهب، ببذله مجاناً دون عوض، دون أن يقصد بعمله التقرب إلى الله تعالى)، فخرج بقوله: «طلقاً» الوقف، وخرج بقوله: «منجزاً في حياة الواهب» الوصية، لأنها هبة معلقة على موت الواهب، وخرج بقوله: «دون عوض» البيع ونحوه، وخرج بقيد (عدم قصد التقرب) الصدقة.

هذا، ولا ينافي كونها بدون عوض أن يشترط الواهب على الموهوب له شيئاً في مقابل الهبة، وهي التي يقال لها: (الهبة المعوضة) أو (..المشروطة)، لأن اشتراط العوض فيها أمر طارىء وثانوي غير ملحوظ في أساس المعاملة، وذلك في مقابل غير المعوضة التي قد يطلق عليها: (العطية). كذلك فإن للهبة المعوضة بعض الأحكام الخاصة التي تختلف فيها عن الهبة غير المعوضة والتي سنعرض لها لاحقاً.

الثاني ـ في صيغة العقد:

مسألة 371: الهبة عقد يتحقق بالبذل والعطاء من الطرف الأول، وهو المعبر عنه بـ (الإيجاب)، وبالقبول بذلك البذل والرضا به من الطرف الثاني، وهو المعبر عنه بـ (القبول)، وذلك العقد المشتمل على الإيجاب والقبول يصح بالقول وبالفعل، أما القول فيتحقق بكل لفظ دال عليه، بالعربية الفصحى أو العامية أو بغير العربية من اللغات؛ وأما الفعل فيتحقق الإيجاب فيه بتسليم الواهب العين للموهوب له قاصداً به الهبة، ويتحقق القبول فيه باستلام الموهوب له العين قاصداً قبول الهبة.

الثالث ـ في الشروط:

يعتبر في الهبة توفر أمور نفصِّلها في مسائل على النحو التالي:

1 ـ في الواهب:

مسألة 372: يعتبر في الواهب العقل والقصد والاختيار وعدم الحجر عليه لسفه، وكذا لفلس إذا كان الحجر شاملاً للموهوب، وكذا يشترط فيه البلوغ، فلا تصح هبة الصبي إلا بإذن الولي إن كان في هبة أموال الصبي مصلحة له.

مسألة 373: قد سبق منا القول في مباحث المدخل: «إن المرض لا يمنع من صحة الهبة حتى لو وقعت في مرض الموت ما لم تضر بدَيْن عليه» (أنظر ص 40).

2 ـ في الموهوب له:

مسألة 374: يعتبر في الموهوب له العقل والقصد والاختيار إذا كان هو القابل بنفسه أو بوكيله، وإلاّ قبل عن المجنون وليُّه، وكذا حكم الصبي غير المميز، أما المميز فإن قبوله ـ وقبضه أيضاً ـ صحيح إذا كان بإذن الولي.

3 ـ في المال الموهوب:

مسألة 375: يعتبر في المال الموهوب أن يكون من الأعيان المادية كالدار والنقد والسيارة ونحوها، أو من الحقوق كحق الحضانة أو الاختصاص أو المرور أو استخدام الفضاء أو الاستيراد أو نحوها، فلا يصح الاقتصار على هبة المنفعة بدون العين فإنها هي العارية حينئذ؛ وكذا يشترط في العين الموهوبة أن تكون قابلة للتملك من قبل الموهوب له، فلا تصح هبة عين الخمر أو الخنزير للمسلم؛ أما الدين فإنما تصح هبته لغير مَنْ هو عليه، أما هبته لمن هو عليه فإنه يكون «إبراءً» لا هبة، وله حكم خاص يأتي في باب (الدين). هذا، ولا يشترط في الهبة تسلط الموهوب له على العين والمنفعة معا ومباشرة، بل يصح إبقاء المنفعة تحت سلطة الواهب إلى أجل، وعندها يتملك الموهوب له العين مسلوبة المنفعة.

4 ـ في اشتراط القبض:

مسألة 376: لا يكفي في تحقق الهبـة إنشـاء العقـد، بل لا بد ـ زيادة على ذلك ـ من قبض الموهوب له للعين الموهوبة ووضع يده عليها كي يملكها، فلو مات الواهب بعد العقد وقبل القبض بطل العقد وانفسخ، وانتقل الموهوب إلى ورثة الواهب، فإذا أرادوا إمضاء الهبة لزمهم إنشاء هبة جديدة بينهم وبين الموهوب له؛ كذلك فإنه لو مات الموهوب له لم يقم ورثته مقامه في القبض، فتبطل الهبة ويحتاج تمليكهم العين إلى هبة جديدة.

مسألة 377: يتحقق القبض في المنقول وغير المنقول باستيلاء الموهوب له على الموهوب وصيرورته تحت يده وسلطانه، ومن الواضح اختلاف أشكال القبض باختلاف نوع المال الموهوب، ففي المنقولات كالكتاب والثوب يتحقق القبض بإمساكها وضمها إليه، وفي السيارة أو الدابة بأخذ المفتاح أو بالإمساك باللجام، وفي الأرض بأن يخلّي بينه وبينها؛ هذا، ولكنه لا بد في صحة القبض وشرعيته من تحققه بإذن الواهب ورضاه زيادة على عقد الهبة، وهو بالنسبة لما ليس تحت يد الموهوب له واضح، أما إذا كان تحت يده بمثل العارية أو الإجارة، فإنه لا يحتاج إلى إذن الواهب في إبقائه عنده وضمه إلى أمواله، لعدم انفكاك تمليكه للعين التي عنده عن الإذن ببقائها عنده وضمها إلى أمواله.

مسألة 378: لا تعتبر الفورية في القبض، ولا كونه في مجلس العقد، فيجوز فيه التراخي عن العقد بزمان كثير، كما يجوز تحققه في مجلس آخر غير مجلس العقد؛ ومتى تحقق القبض صحت الهبة وترتبت عليها آثارها من حينه، فإذا كان للموهوب نماء متحقق بعد العقد وقبل القبض، كولد البهيمة أو بيض الطائر، فإنه يكون للواهب لا للموهوب له.

مسألة 379: يقوم الولي مقام الصغير والمجنون في قبض ما وُهِبَ له، ولو وهب الولي أحدهما ما هو في يده كفى ذلك في قبضه له دون حاجة إلى قبض جديد.

مسألة 380: لما كانت الحصة في المشترك المشاع غير متميزة كي يقبضها الموهوب له، فإنه لا بد من أجل الخروج عن إشكال الغصبية من تحقق القبض بإذن الشريك به أو توكيل الموهوب له لذلك الشريك بأن يقبض الحصة الموهوبة نيابة عنه؛ ولكنه لو وضع يده ـ دون إذنه ـ على كامل تلك العين التي له فيها حصة مشاعة ليستفيد منها بالنحو الذي يستفيد منه سائر الشركاء وبالنحو الذي كان يضع فيه الواهب يده عليها قبل الهبة لكفاه ذلك في تحقق القبض ولزوم الهبة رغم كونه آثماً بذلك التصرف.

المبحث الثاني ـ في الهبة المعوَّضة:

وفيه مسائل:

مسألة 381: يراد بالهبة المعوضة: (ما اشترط فيها العوض على الموهوب له حتى لو لم يتحقق الشرط فيما بعد)، فلو لم يعطه الموهوب له العوض فرضي الواهب، أو أعطاه العوض وقدمه له فلم يأخذه الواهب، بل لو بذل الموهوب له العوض للواهب من دون أن يشرطه عليه، عرفاناً منه بجميله، وقبله الواهب، صارت ـ في جميع هذه الفروض ـ (هبة معوضة) وترتبت عليها أحكامها.

مسألة 382: في الهبة المطلقة لا يجب على الموهوب له التعويض عنها إذا طلب الواهب العوض، سواء كانت من الأدنى إلى الأعلى، أو بالعكس، أو كانت من المساوي للمساوي، وإن كان الأولى في الصورة الأولى إعطاؤه. ومن جهة أخرى، لو رغب الموهوب له إعطاء الواهب شيئاً لم يجب على الواهب قبوله، فإن قبله صارت الهبة معوضة كما ذكرنا آنفاً.

مسألة 383: إذا عين الواهب العوض في الهبة المشروطة تعين، ويلزم على الموهوب له بذله، وإن لم يعينه أجزأ اليسير وبرأت به ذمته، إلا أن تقوم قرينة من عادة متعارفة أو غيرها على إرادة المساوي.

مسألة 384: لا يعتبر في العوض المشروط أن يكون للواهب، بل يصح له أن يشترط إعطاء العوض لغيره من أقربائه أو غيرهم؛ كذلك لا يعتبر فيه أن يكون عيناً، فيصح أن يشترط عليه أن يبيعه شيئاً، أو يبرىء ذمته من دَيْن له عليه، أو أن يعمل له عملاً، أو نحو ذلك.

المبحث الثالث ـ في لزوم الهبة:

وفيه مسائل:

مسألة 385: عقد الهبة من العقود الجائزة التي يجوز للواهب الرجوع فيها إلا في موارد:

الأول: إذا كانت الهبة معوضة، فإنه لا يصح الرجوع عنها بعد شروع الموهوب له في الوفاء بالعوض، فإذا تخلف عن العمل بمقتضى ما تعهد به، لعذر أو بدونه، أو كان من نيته الوفاء به ولم يكن قد عمله ولا شرع فيه جاز له الرجوع عن الهبة حينئذ، إلا أن تكون الهبة لذي رحم، أو يكون الموهوب له قد تصرف في العين تصرفاً متلفاً أو مغيراً كما سيتبين لاحقاً.

الثاني: أن تكون الهبة لذي رحم، والمراد بالرحم: (الأقربون الذين يجب وصلهم وتحرم قطيعتهم، لا مطلق القرابة)، فيشمل محارمه الذين لا يجوز التزوج منهم، وهم الآباء والأمهات وإن علوا، والأبناء والبنات وإن سفلوا، والإخوة والأخوات وأبناؤهم، والأعمام والعمات، والأخوال والخالات، كذلك يشمل أبناء العم والعمة والخال والخالة ممن يرى العرف لزوم صلتهم. فإذا وهب واحداً من هؤلاء شيئاً لم يجز له الرجوع عن الهبة، بما في ذلك صورة ما لو كانت الهبة معوضة ولم يفِ الموهوب ذو الرحم بالشرط، وصورة ما لو كان الرجوع قبل التلف أو التصرف المغيِّر.

الثالث: أن تكون العين قد تلفت أو تصرف بها تصرفاً ناقلاً لها عن ملكه أو مغيراً لها، فالتلف مثل تمزق الكتاب واحتراق الثوب وموت الدابة، والتصرف الناقل مثل: بيع العين أو هبتها للغير أو دفعها مهرا أو نحو ذلك، والتصرف المغير مثل: تفصيل قطعة القماش لخياطتها، ومثل جعل الحنطة طحيناً أو خبزاً، والحليب لبناً أو جبناً، ونحو ذلك، أما التصرفات العادية التي لا تستوجب تغيراً في صورة العين، كلبس الثوب والحلي وركوب السيارة والقراءة في الكتاب ونحو ذلك، فإنه لا يضر بحق الواهب في استرجاعه، فيجوز له إرجاعه في هذه الحالة وفي كل حالة تبقى فيه عين الموهوب على ما هي عليه. هذا، ومما يلحق بالتصرف المغيِّر فيعدّ مانعاً من الرجوع بالهبة صورة ما لو نمت العين عند الموهوب له نمواً كبيراً متصلاً غير قابل للانفصال، بحيث لا يصدق معه أن الموهوب ما زال قائماً بعينه، كالفرخ يأخذه أول خروجه من البيضة فيصير دجاجة.

الرابع: إذا مات الواهب بعد إقباض الموهوب لزمت الهبة وإن كانت لأجنبي ولم تكن معوضة، فلا يحق لورثة الواهب الرجوع بالهبة؛ وكذا لو مات الموهوب له، فإن الهبة تلزم وليس للواهب استرجاعها من الورثة.

مسألة 386: حكم الزوجين في الهبة كحكم الأجنبيين، فلو وهب أحدهما الآخر لم تلزم الهبة ما لم يكن بينهما رحم، وإن كان الأحوط استحباباً عدم الرجوع فيها.

مسألة 387: إذا رجع الواهب بالهبة في موارد الرجوع، وكان قد حدث للعين نماء منفصل بعد العقد والقبض، كالولد والروث (الروث: فضلات الحيوان وغائطه)، فإن ذلك النماء ملك للموهوب له، فلا يرجع إلى الواهب، وكذلك حكم الزيادة المتصلة التي تقبل الانفصال، كالصوف واللبن والثمرة، أما الزيادة المتصلة التي لا تقبل الانفصال كالطول والسَّمَنْ فإنها للواهب، فلا يحق للموهوب له أن يطالب الواهب بعوض تلك الزيادة بعد رجوعه بالهبة، نعم إذا كانت الزيادة المتصلة التي لا تقبل الانفصال كثيرة بنحو لا يصدق معه كون الموهوب قائماً بعينه، كالفرخ يصير دجاجـة، فإن الواهب ـ أساسـاً ـ لا يحق له الرجوع بالعين حينئذ، فتكون العين مع الزيادة في مثل هذه الحالة للموهوب له، وهو ما سبق منا ذكره في المسألة 385.

مسألة 388: يتحقق الرجوع بالهبة إما بالقول، كأن يقول: (رجعت)، أو ما يفيد معناه؛ وإما بالفعل كاسترداد العين وأخذها من يد الموهوب له بقصد الرجوع؛ ومن ذلك الإقدام على بيعها أو إجارتها أو رهنها إذا كان ذلك بقصد الرجوع، فتخرج بذلك عن ملك الموهوب له وتصح المعاملة الجديدة؛ أما إذا كان ساهياً حين البيع عن كون العين موهوبة فلا يكون رجوعاً، وإن كان الأولى فعل ما فيه حفظ لحق المشتري وحق الموهوب له، وذلك بمثل التراضي مع الموهوب له أو التراجع عن البيع إن أمكن، أو ما يشبه ذلك.

تفريع فيه مسألتان:

مسألة 389: ما يقدم من هدايا في المناسبات الاجتماعية، كالزواج والولادة والقدوم من سفر الحج والشفاء من المرض ونحوها، إن كان الواهب قد نص على الموهوب له فهو لمن نص عليه، وكذا فيما لو قامت قرينة عليه، كأن تكون الهدية ثوباً أو عطراً أو حلياً خاصاً بأحدهما، أو جرى العرف على أن ما يقدمه أهل أحدهما وأقرباؤه وأصدقاؤه المختصون به فهو لقريبهم وصديقهم ـ بخاصة ـ دون شريكه، فإن المعول في العمل على ما تقوم عليه القرينة من عرف وغيره؛ وأما إذا لم ينص الواهب ولا خصصت القرينة أحد هما فإنه في المناسبات المشتركة بين الزوجين، كمناسبة زواجهما أو سلامتهما معاً من مرض أو حادث أو قدومهما من سفر، فإن الهدية يملكها ـ أيضـاً ـ من جرى العرف على كونها له، وهو ـ بحسب الظاهر ـ الرجل صاحب المنزل، وذلك بقرينة كونه هو الذي يرد مثل هذه الهدايا ويتحمل نفقات هذه الأسرة؛ وكذلك الحكم في المناسبات غير المشتركة، كما في مثل ولادة الزوجة أو شفاء أحد أفراد الأسرة من مرض أو سلامته من حادث أو عودته من سفر، فإن ما يقدم من هدايا للمنزل، كالسجاد والأواني والنقود ونحوهـا يكـون ـ عرفـاً ـ لصاحـب المنزل ورب الأسرة، فإن لم يوجد مثل هذا العرف ولم يعلم من هو الموهوب له من أفراد الأسرة وجب الاحتياط بالتراضي عند التخاصم، أو إبراء الذمة بمثل صرف المال في شؤون الطرف الآخر الذي يشك في كون الهدية له أو في كونه شريكاً مع رب الأسرة فيها.

مسألة 390: ما يقدم في حفلات العرس وغيره، وكذا ما يوضع على موائد الطعام للضيوف، يراد به ـ عموماً ـ هبة ذلك الضيف ما قدم له من طعام أو حلوى أو هدية، ولكن ينبغي الالتفات إلى أنه لا يصح ـ دائماً ـ أخذ شيء منه بعد انتهاء الحفل أو عند مغادرة المكان لتناوله في موضع آخر، بل إن على المكلف أن يرجع في ذلك إلى المتعارف بحسب البلدان وبحسب نوع الأشياء المقدمة، فمثل الحلوى الملفوفة والهدايا يراد منها عرفاً أخذها، ومثل ما يقدم في صحون من بزورات وحلوى وفطائر لا يراد أخذها؛ وهكذا يرى ما هو المتعارف في مثل هذه المناسبات ويعمل به.


 

 

الفصل الثاني

في الصدقة

 

وتفصيل أحكامها يقع في مسائل:

مسألة 391: المشهور كون الصدقة من العقود، فيعتبر فيها الإيجاب والقبول، ولكن الأظهر اختلاف حكمها من هذه الجهة باختلاف مواردها، فإن كانت على نحو التمليك احتاجت إلى إيجاب وقبول، وإن كانت بالإبراء كفى الإيجاب بمثل: «أبرأت ذمتك»، وإن كان بالبذل كفى الإذن في التصرف وهكذا.

ويعتبر فيها قصد القربة، فإذا وهب أو أبرأ أو وقف بلا قصد القربة كان هبةً أو إبراءً أو وقفاً ولا يكون صدقة.

مسألة 392: يعتبر في المتصدق البلوغ والعقل والاختيار والقصد وعدم الحجر لفلس أو سفه، نعم في صحة صدقة من بلغ عشر سنين وجه ولكنه لا يخلو عن إشكال.

مسألة 393: تحل صدقة الهاشمي على الهاشمي وعلى غيره حتى زكاة المال وزكاة الفطرة، وأما صدقة غير الهاشمي، فإن كانت زكاة المال أو زكاة الفطرة فهي حرام على الهاشمي ولا تحل للمتصدق عليه ولا تفرغ ذمة المتصدق بها عنها، وإن كانت غيرهما فالأقوى جوازها، سواء كانت واجبةً، كرد المظالم والكفارات وفدية الصوم، أو مندوبة، إلا إذا كانت من قبيل ما يتعارف من دفع المال القليل لدفع البلاء، ونحو ذلك مما كان من مراسم الذل والهوان، فإنّ في جوازه إشكالاً.

مسألة 394: تجوز الصدقة المندوبة على الغني وعلى المخالف في المذهب وعلى الكافر غير المحارب للإسلام والمسلمين؛ والتوسعة على العيال أفضل من الصدقة على غيرهم، والصدقة على القريب المحتاج أفضل من الصدقة على غيره، وأفضل منها الصدقة على الرحم المعادي.

مسألة 395: المشهور اعتبار القبض فيها مطلقاً، ولكن الظاهر أنه لا يعتبر فيها كلية، وإنما يعتبر فيها إذا كان العنوان المنطبق عليها مما يتوقف على القبض، فإذا كان التصدق بالهبة أو بالوقف الخاص اعتبر القبض إجمالاً، وإذا كان التصدق بالإبراء أو البذل لم يعتبر، وهكذا.

مسألة 396: لا يجوز الرجوع في الصدقة إذا كانت على نحو الإبراء، أي إذا كانت ـ في الأصل ـ دَيْناً للمتصدق على الفقير، فسامحه به وأبرأ ذمته منه؛ وكذا لا يجوز الرجوع فيها إذا كان التصدق على نحو الهبة وكان قد قبضها المتصدق عليه، حتى لو كانت لأجنبي، أو كانت عينها ما تزال باقية، فضلاً عما لو كانت لرحم أو كانت عينها قد تلفت أو تغيرت صورتها بالتصرف فيها. نعم إذا لم تكن مقبوضة جاز الرجوع فيها مطلقاً حتى لو كان قد عزلها أو وضعها في صندوق خاص بالصدقات.

مسألة 397: إذا جُمِعَ مبلغ من المال لبناء مسجد أو غيره من الأعمال الخيرية العمرانية وغيرها، ثم عرض ما عطل ذلك المشروع وألغاه، فإنه يجوز إرجاع نصيب كلٍّ من المتبرعين إليه ما دام على نحو الهبة وما دام المتبرَّع به لا يصلح للوقف، كالنقد مثلاً، وما دام المتبرَّع له لم يقبضه، وأما إذا كان المتبرع به مما يصلح للوقف، كالكتب والأثاث، وكان الدافع قد دفعه بنية الوقف، وقبضه المتبرع له، أو كان هبة، نقداً أو غيره، فقبضه المتبرع له، لم يجز الرجوع به حينئذ، بل لا يجوز الرجوع في الوقف قبل قبضه على الأحوط، وهكذا يُنْظَر في ذلك المال العنوان المنطبق عليه ويرى إن كان يمكن إرجاعه أو لا.

مسألة 398: إذا جُمِعَ مال لعمل معين فعدل عنه وتعطل، ولم يعد يعرف من تبرع بذلك المال، لزم صرفه في أقرب الوجوه إلى المعدول عنه، وإلا صرف في مطلق وجوه البر، وأما إذا عرف مقداره وعرف المتبرِّع به معرفة إجمالية في عدد محصور، أو عرف المتبرع بعينه ولم يعرف المقدار، فإن لهذه الحالات أحكاماً تقدم تفصيلها في الجزء الأول في باب الخمس، ص 538 وما بعدها.

مسألة 399: الصدقة المندوبة سراً أفضل إلا إذا كان الإجهار بها بقصد رفع التهمة أو الترغيب أو نحو ذلك مما يتوقف على الإجهار، أما الصدقة الواجبة فإنه يختلف الحكم فيها باختلاف الموارد في الجهات المقتضية للإسرار والإجهار. ويستحب التوسط في إيصالها إلى المسكين، ففي الخبر: «لو جرى المعروف على ثمانين كفاً لأجروا كلهم من غير أن ينقص من أجر صاحبه شيء».

مسألة 400: يكره كراهة شديدة أن يتملك المتصدِّق من الفقير ما تصدق به عليه بشراء أو اتهاب أو غيرهما، نعم لا بأس بأن يرجع إليه منه بالميراث.

مسألة 401: يكره رد السائل ولو ظن غناه، بل يعطيه ولو شيئاً يسيراً.

مسألة 402: يكره السؤال مع الحاجة ما لم يبلغ حدّ الاضطرار، وأما السؤال من غير حاجة فلا يبعد الحكم بكراهته كراهة شديدة، نعم التظاهر بها مع عدمها حرام.


 

 

الباب الثاني

في العارية

 

المبحث الأول: في الصيغة والشروط

المبحث الثاني: في جواز العقد ولزومه

المبحث الثالث: في كيفية الاستفادة وأحكام التلف

 



 

 

تمهيد:

العارية في مصطلح الفقهاء: (عقدٌ ينتج عنه تسليط الغير على عين ليستفيد من منافعها مجاناً، من قبل متولي تلك العين).

فالعارية هبة لمنفعة تلك العين وبذلٌ لها، وذلك في مقابل (الهبة) التي هي بذلٌ لنفس العين وتمليك لها، فخصت هبة المنفعة وحدها باسم (العارية) تمييزاً لها عنها وتسهيلاً لبيان الأحكام الخاصة بها؛ كذلك فإنها لما كانت مما يُبْذَل مجاناً فقد ناسبت (مقصد الهبات) وصارت باباً من أبوابه كما أشرنا إلى ذلك عند التمهيد للمقصد، وهذا الباب يتكفل ببيان الأحكام الخاصة بها في عدد من المباحث على النحو التالي:

المبحث الأول ـ في الصيغة والشروط:

وهو يتضمن بيان صيغة عقد العارية وشروط المتعاقدين وشروط العين المعارة، وذلك من خلال العناوين التالية:

1 ـ صيغة عقد العارية:

مسألة 403: تتحقق العارية بالتعاقد اللفظي المتضمِّن للإيجاب والقبول بأيِّ لفظ يدل على الإعارة وعلى القبول بها، كلفظ: (أعرتك) و (وهبتك منفعة هذا الكتاب) و (أقدم لك هذا الكتاب لتنتفع به) ونحو ذلك، فيقبل المستعير ذلك بكل لفظ يدل على القبول والرضا بالاستعارة; وهو يصح باللغة العربية وغيرها من اللغات حتى مع القدرة على العربية؛ وكما تتحقق بالتعاقد اللفظي فإنها تتحقق بالتعاقد العملي، وهو المسمى بـ (المعاطاة)، فيعطي المالك العين بقصد العارية ويأخذها المستعير بقصد الاستعارة.

2 ـ شروط المعير:

مسألة 404: لا تصح الإعارة من المجنون، وتصح من الصبي والسفيه إذا كانت بإذن الولي، وكذا تصح من المحجور عليه إذا أذن من لهم دَيْنٌ عليه، وهم المعبّر عنهم بـ (الغرماء).

مسألة 405: يعتبر في المعير أن يكون مالكاً للمنفعة أو مأذوناً في التصرف فيها من قبل المالك أو من جهة كونه ولياً على المالك، فلا تصح الإعارة من قبل الغاصب لمنفعة العين حتى لو كان مأوذناً في التسلط على نفس العين وحيازتها بوديعة مثلاً أو عارية أو نحوهما.

ثم إنه يكفي في ملكية المعير كونه مالكاً للمنفعة خاصة، بإعارة أو إجارة أو بالوصية له بها؛ نعم إذا اشترط عليه في الإعارة أو الإجارة استيفاء المنفعة بنفسه لم يكن له إعارتها لغيره; ولو فرض الإطلاق من هذه الجهة فإنه لو أعارها وصحت منه لم يجز له تسليم العين لغيره إلا بإذن المالك على الأحوط وجوباً.

3 ـ شروط المستعير:

مسألة 406: يعتبر في المستعير أمران:

أ ـ أن يكون أهلاً للانتفاع بالعين المعارة، فمثل المحرم لا يجوز له استعارة ما أخذ بالصيد من حيوانات البر والجو الممتنعة للاستفادة بها في غير الأكل، كالزينة والفرجة والبحث العلمي والاستثمار التجاري ونحو ذلك، من دون فرقٍ بين ما لو كان المعير محلاً أو محرماً.

ب ـ تعيين المستعير، واحداً كان أو جماعة، فلا تصح الإعارة لواحد مردد بين اثنين أو أكثر، أو لاثنين غير معينين؛ ومع التعيين تصح إعارة الشيء الواحد، أو الأشياء، لشخص واحد أو أكثر، فيستفيدون منه بالتناوب أو بالقرعة إذا لم يعين لهم المعير طريقة الاستفادة منه؛ وأما إعارته لعدد غير محدد، كأن يقول: «أعرت هذا الكتاب لكل الناس»، فإنه لا يصح عارية وإن صحت الاستفادة منه لكل واحد من باب الإباحة.

4 ـ شروط العين المعارة:

مسألة 407: يعتبر في العين المستعارة كونها مما يمكن الانتفاع بها منفعة محللة مع بقاء عينها كالعقارات والدواب والثياب والكتب والأمتعة والحلي وكلب الصيد والحراسة وأشباه ذلك، فلا تصح إعارة ما لا ينتفع به إلا بإتلافه كالخبز والدهن والأشربة وأشباهها، كما لا تصح إعارة ما تنحصر منافعه المتعارفة في الحرام ـ كآلات اللهو المحرم والقمار ـ لينتفع به في ذلك.

مسألة 408: لا يعتبر في العين المعارة أن يكون استخدامها في ما اشتهر الانتفاع بها فيه، فتصح إعارة الشجرة للاستظلال بها، والشاة لحليبها، والفحل للتلقيح، وما أشبه ذلك.

مسألة 409: مثلما تصح إعارة (الأشياء) لمنافعها تصحّ إعارة (الحقوق) للانتفاع بها، فتجوز إعارة رخصة الاستيراد مثلاً، أو حق المرور، أو حق استخدام الفضاء واستثماره، ونحو ذلك.

مسألة 410: تصح إعارة المالك العين ليرهنها المستعير مقابل دَيْنٍ عليه، وحينئذ فإنه لا يجوز للمالك مطالبة المستعير بفكاك الرهن خلال مدة الأجل المضروب للوفاء بالدين، فإن لم يكن الدين مؤجلاً جازت له المطالبة ووجب على المستعير الاستجابة له.

ثم إنه يجوز للدائن ـ إجمالاً ـ بيع الرهن لاسترجاع دينه دون أن يمنعه كون العين المرهونة مستعارة وغير مملوكة للمدين من ذلك.

وفي هذه المسألة تفصيل وأحكام أخرى نذكرها في أحكام الرهن.

مسألة 411: لا يشترط تعيين العين المستعارة عند الإعارة، فلو أعاره واحدة من دوابه أو كتبه من دون تحديد صحّت الاستعارة ونفذت في الفرد الذي يختاره المستعير.

المبحث الثاني ـ في جواز العقد ولزومه:

وفيه مسائل:

مسألة 412: عقد العارية من العقود الجائزة التي يصح للطرفين الرجوع عنه وفسخه، فإذا فسخ المعير أو المستعير العقد انفسخ ووجب على المستعير تسليم العين وإرجاعها إلى المالك، سواء كان للعارية أجل محدد أو لم يكن؛ نعم يستثنى من ذلك موارد:

الأول: إذا اشترط المستعير على المالك عدم فسخ العقد إلى مدة محددة، فإنه يجب على المعير الوفاء له بالشرط وترك الفسخ، فإذا خالف الشرط وفسخ العقد ففي انفساخه بذلك إشكال، فلا يترك الاحتياط بفعل ما يوجب اليقين بالبراءة للطرفين بمثل الصلح ونحوه.

الثاني: إذا أعار أرضه للدفن فليس له بعد الدفن والمواراة الرجوع عن الإعارة ونبش القبر وإخراج الميت، وأما قبل ذلك فله الرجوع حتى بعد وضعه في القبر قبل مواراته، وليس على المعير أجرة الحفر ومؤنته إذا رجع بعد الحفر قبل الدفن، كما أنه ليس على ولي الميت طمّ الحفرة بعد ما كان الحفر بإذن المعير.

الثالث: إذا استعار أرضاً للـزرع فالظاهـر أنـه يتضمّـن ـ بحسب الارتكاز العرفي ـ اشتراط عدم فسخ العقد بعد شروعه في العمل إلى أن يدرك الزرع ويستحصد وينتهي أمده، فعلى المالك المعير الوفاء للمستعير بهذا الشرط الضمني والعمل به، بل إنه إذا أراد الرجوع وفسخ العقد فالأقرب أنه ليس له الرجوع، ولم ينفسخ العقد، وإن كان الأحوط استحباباً لهما التراضي والتصالح؛ ومثل ذلك ما لو استعار أرضاً للبناء أو جذوعا للتسقيف ثم رجع المالك بعد ما بنى الأرض أو أثبت الجذوع في البناء.

مسألة 413: إذا جنّ مالك العارية جنوناً مطبقاً، أو أغمي عليه إغماءً مستمراً لا يعلم متى يستفيق منه، بطلت العارية، ووجب على المستعير أن يوصل المال إلى وليه أو يخبره بوجوده عنده؛ ومن ذلك ما لو كان العاقد ولي الطفل أو المجنون، فإذا مات الولي انفسخ العقد ووجب على المستعير أن يوصل المال إلى الولي الجديد فوراً أو يخبره بوجوده عنده؛ فإذا ترك الإيصال أو الإخبار من دون عذر وتلف المال ضمنه المستعير ولو لم يكن مفرطاً أو متعدياً؛ وأما لو كان جنونه أو إغماؤه مؤقتاً فالأقوى عدم البطلان.

مسألة 414: إذا مات مالك العارية بطلت، فإذا انتقل ذلك المال المستعار إلى الوارث من دون أن يتعلق به حق الغير لوصيةٍ أو رهنٍ أو دَيْنٍ وجب على المستعير إيصاله إلى الوارث أو وليه أو إعلامه بذلك، فإن أهمل من دون عذرٍ شرعي ضمن المال عند تلفه ولو لم يكن مفرطاً ولا متعدياً؛ ومن الأعذار المقبولة الرافعة للضمان عدم علمه بكون من يدعي الإرث وارثاً، أو عدم علمه بكون الوارث منحصراً فيه، فإنه يجوز له ـ حينئذ ـ التأخر في ردّ المال حتى تتبين له حقيقة الحال؛ وكذا يجوز الاحتفاظ بالمال إلى حين استقرار أمر المال المستعار في حالة ما لو لم ينتقل إلى الوارث، إما لكونه مالاً قد أوصي به لغير الوارث أو لفعل الخيرات، فينتظر فيه معرفة الموصى له به أو معرفة الوصي المكلف بصرفه في وجوه الخير، وإما لكونه مالا مرهوناً مودعاً عند ثالث باتفاق الراهن والمرتهن، وإما لكونه عوض دين شرعي كالخمس، أو غير شرعي كمهر الزوجة، أو عوض عمل عبادي كالحج، وغير ذلك مما ينبغي إخراجه من أصل التركة وانحصر أداؤه في ذلك المال المستعار.

ثم إنه إذا تعدد الوارث وجب على المستعير دفع المال إلى الجميع أو إلى وكيلهم، فإن دفعه إلى بعضهم من دون إذن الباقين ضمن نصيبهم عند تلفه.

مسألة 415: إذا مات المستعير أو جن جنوناً مطبقاً أو أغمي عليه كذلك بطلت العارية، ووجب على وارثه إيصال المال إلى مالكه أو إخباره بوجود العارية عنده؛ وأما إذا كان الجنون أو الإغماء أدوارياً فالأقوى عدم البطلان.

المبحث الثالث ـ في كيفية الاستفادة وأحكام التلف:

وفيه مسائل:

مسألة 416: تختلف الأشياء المستعارة في جهات الاستخدام على أنواع:

فمنها: ما اختص عند العرف بجهة تغلب عليه لا يتعدّاها، وذلك مثل البساط للافتراش، واللحاف للتغطية، والخيمة للسكن فيها، وما أشبه ذلك، وحينئذ لا يجب النص من قبل المعير على جهة الاستخدام، بل يكفي لإلزام المستعير بها كونها مختصة بها عند العرف.

ومنها: ما تعدّدت جهات الانتفاع به، كالأرض للزرع والبناء، والسيارة ينتفع بها لنقل الأمتعة والركاب، وحينئذ، إن أراد المالك تخصيص جهة الانتفاع بواحدة أو أكثر لزمه النص على ذلك ووجب على المستعير الالتزام بما خصّصه له؛ وإن أراد التعميم جاز له أن ينص على التعميم بمثل قوله: «انتفع بهذه الأرض في جميع الوجوه الممكنة»، وجاز له أن يطلق ويقول: «انتفع بهذه الأرض»، فيجوز له الانتفاع بها في كل الوجوه. نعم في صورة الإطلاق ربما يكون لبعض جهات الانتفاع بالعين خفاء لا يكون معه مراداً بالإطلاق، وذلك كالدفـن فـي الأرض، فإنـه لا بدّ ـ حينئذ ـ من تخصيصه بالذكـر زيادة على الإطلاق الشامل لما عداه من الانتفاعات كي يسوغ الدفن فيها من قبل المستعير.

مسألة 417: يجب على المستعير الاقتصار في نوع المنفعة على ما نص عليه المعير، فلا يجوز له التعدي إلى غيره ولو كان أدنى وأقل ضرراً على المعير؛ وكذا يجب أن يقتصر في كيفية الانتفاع على ما جرت به العادة، فلو تعدى نوعاً أو كيفية كان غاصباً وضامناً، وعليه أجرة ما استوفاه من المنفعة بتمامها، نعم إذا كان التعدي بالزيادة على القدر المسموح له بالانتفاع به عادة، أو بالزيادة على ما شرطه عليه، كما لو أعاره سيارة للركوب إلى مسافة معينة فجاوزها، ضمن أجرة ما تجاوز به فقط ولم تبطل به العارية، وأما إذا كان قد نص في الإعارة على التقييد بعدم الزيادة عن مقدار معين، بنحو كان القيد أساساً في العارية، فإنه إذا زاد عن الحد المنصوص عليه تبطل العارية ويجب عليه ضمان أجرة تمام المسافة التي قطعها.

مسألة 418: لا يجوز للمستعير إعارة العين المستعارة ولا إجارتها إلا بإذن المالك، فتكون إعارته حينئذ في الحقيقة إعارة المالك ويكون المستعير وكيلاً عنه، فلو خرج المستعير الأول عن قابليـة الإعـارة بعـد ذلك ـ كما إذا مات أو جن مطبقاً ـ بقيت العارية الثانية على حالها.

مسألة 419: لا يتحقّق ردّ العارية إلا بردِّها إلى مالكها أو وكيله أو وليه، ولو ردَّها إلى حرزها الذي كانت فيه بلا يد للمالك ولا إذن منه، كما إذا رد الدابة إلى الإصطبل وربطها فيه فتلفت أو أتلفها متلف ضمنها.

مسألة 420: إذا تلفت العارية أو نقصت بفعل المستعير، فإن كان بسبب الاستعمال المأذون فيه من دون تعدٍّ عن المتعارف فليس عليه ضمان، كما إذا هلكت الدابة المستعارة للحمل بسبب الحمل عليها حملاً متعارفاً، وإن كان بسبب آخر غير مأذون فيه لزمه ضمانها.

مسألة 421: العارية أمانة بيد المستعير لا يضمنها لو تلفت إلا بالتعدي أو التفريط، نعم لو شرط الضمان ضمنها وإن لم يكن تعدّ ولا تفريط، كما أنه لو كانت العين المعارة ذهباً أو فضة ضمنها كذلك إلا إذا اشترط المستعير عدم ضمانها.

مسألة 422: إذا علم المستعير بأن العارية مغصوبة وجب عليه إرجاعها إلى مالكها، ولم يجز دفعها إلى المعير.

مسألة 423: إذا استعار ما يعلم بغصبيته فللمالك أن يطالبه أو يطالب الغاصب بعوضه إذا تلف، كما أن له أن يطالب كلاً منهما بعوض ما استوفاه المستعير أو تلف في يده أو الأيادي المتعاقبة عليه من المنافع، وإذا استوفى المالك العوض من المستعير فليس للمستعير الرجوع به على الغاصب.

وأما إذا كان جاهلاً بالغصبية، وكان قد رجع عليه المالك بعوض العين أو عوض المنافع، فإن له أن يرجع على الغاصب بما غرمه للمالك من عوض المنافع، بل ومن عوض العين عند تلفها، إلا أن تكون العارية ذهباً أو فضةً، أو يكون الغاصب المعير قد شرط على المستعير ضمانها عند تلفها.

فائـدة:

مسألة 424: إذا تنجست العارية عند المستعير، بفعله أو بفعل غيره، لم يجب عليه إعلام المالك بذلك إلا إذا كان المالك مبالياً بالدين وكانت العين مما يمكن استخدامها فيما يوجب وقوع المستخدم في مخالفة تكليف إلزامي تحريمي، كاستعمالها في الطعام والشراب، أو في مخالفة تكليف إلزامي وجوبي، كاستعمال الإناء المتنجس في الوضوء أو الغسل وإتيان الفريضة بهما.


 

 

الباب الثالث

في الوصية

 

المبحث الأول: في أقسام الوصية وصيغتها

المبحث الثاني: في شروط الموصي

المبحث الثالث: في الموصى له

المبحث الرابع: في الموصى به

المبحث الخامس: في الوصي



 

 

تمهيد:

الوصية من المشرف على الموت إلى مَنْ بعده من الأحياء فعل إنساني معهود منذ القدم، وهي في اللغة بمعنى (الوصل) و(العهد)، وفي مصطلح الفقهاء هي: (تمليك عين أو منفعة تبرعاً، أو تسليط على تصرف، بعد الوفاة)؛ وعند التأمل في كلا المعنيين اللغوي والاصطلاحي يظهر ما بينهما من تقارب، فإن الهدف من تمليك الإنسان بعض ماله لمن بعده من الأحياء هو التواصل معه وتوثيق عرى المودة والتقارب، كما أن الهدف من تسليطه على التصرف ببعض شؤونه هو عهدٌ منه إليه وإلزام له، فصح في اللغة وفي الاصطلاح أن يقال لكل من ذلك التمليك وذلك التسليط إنه «وصية».

وقد ذكر القرآن الكريم الوصية بكلا قسميها: (التمليكية) و(العهدية) وفصّل بعض أحكامها، وحث الإنسان عليها ورغبه فيها في قوله تعالى: ﯝ  ﯞ   ﯟ  ﯠ   ﯡ  ﯢ  ﯣ  ﯤ  ﯥ  ﯦ.. [البقرة: 180]؛ كذلك فإن الأحاديث الشريفة قد ذكرتها وحثت عليها وفصلت أحكامها، من ذلك ما روي عن النبي w أنه قال: «من لم يحسن وصيته عند الموت كان نقصاً في مروته وعقله».

وزيادة على ذلك، فإن في القرآن الكريم والأحاديث الشريفة نوعاً من الوصية يهدف منه الموصي إلى وعظ مَنْ بعده من الأحياء وحثهم على الالتزام بالعقائد الحقة والأعمال الصالحة، لما في ذلك من فرصة سانحة ومقام يرجى فيه التأثير والاتعاظ؛ من ذلك قوله تعالى: ﮦ  ﮧ    ﮨ   ﮩ   ﮪ  ﮫ  ﮬ  ﮭ  ﮮ  ﮯ  ﮰ  ﮱ  ﯓ  ﯔ      ﯕ  ﯖ [البقرة: 132]، ومنها ما أثر من وصايا النبي w والأئمة الأطهار i لأقربائهم وللمؤمنين والمسلمين من بعدهم بما هو معروف ومشهور ومذكور في كتب الأحاديث والسير.

هذا ولكن بعض الناس قد أفرط في الإيصاء بأمواله، فعمد إلى الإيصاء بتوزيع جميع تركته على ورثته، ربما بهدف تحقيق ما يظنه عدالة في التوزيع بين الذكور والإناث والصغار والكبار والمنتجين من أبنائه وغير المنتجين، متوهماً أن نظام الإرث لا يحقق له تلك العدالة التي يريدها متناسبة مع ظروفه الشخصية؛ إن هذه الظاهرة التي تكاثرت في زماننا هذا لا تتناسب مع المفهوم الإسلامي في توزيع الثروة ولا مع الأحكام الموضوعة للوصية، وكثيراً ما تكون هذه الوصاية باطلة في بعض جوانبها، مضافاً إلى أنها موجبة للنزاع والمخاصمة بين أبناء الميت، وبخاصة بين الذكور منهم والإناث، واستباقاً لما سوف نذكره من أحكام تفصيلية للوصية نذْكُر ما يلي:

أولاً: إن كل إعطاء للورثة بصيغة الوصية باطل إذا تجاوز الثلث ولم يرض به الورثة، وصحيح في حدود الثلث مع لزوم الالتفات إلى أنه سيشمل ما عليه من واجبات تخرج من الثلث.

ثانياً: إن الوصية بحرمان بعض الورثة من الثلثين غير صحيحة إلا إذا رضي المحروم.

ثالثاً: إن كان الموصي يحرص على توزيع تركته في حياته فلا بد أن يكون ذلك بصيغة الهبة الناجزة في الحياة، لا بصيغة الوصية لما بعد الموت، مع الالتفات إلى أن الهبة إذا وقعت في مرض الموت فيجب أن لا تضرّ بما على الميت من دَيْن كما سبق ذكره في مباحث المدخل، ص 40.

رابعاً: إن الهدف من الوصية في الإسلام ليس توزيع الموصي لتمام تركته على وُرَّاثه، بل إن الهدف منها توزيع الموصي للثلث الخاص به في مصارف يراها هو ضرورية له أو مستحسنة عنده، والتي منها تفضيل بعض الورثة بإعطائهم شيئاً من هذا الثلث زائداً على نصيبهم في الميراث، لأن لهم فضلاً على المورِّث، وأما سائر التركة فإن الله تعالى قد وضع نظام الإرث وأراح المكلف من مسؤولية توزيعها لأنه أعدل منه وأعرف بالحاجات، والأجدر بالمؤمن إيكال الأمر إلى الله تعالى.

ثم إن للوصية أركاناً هي عبارة عن أمور أساسية يتشكل منها هيكل الوصية ويقوم عليها بنيانها، وهي ما يلي:

1 ـ المُوصِي: وهو الشخص الذي يريد إبراز مقاصده ورغباته من خلال الوصية.

2 ـ المُوصى به: وهي مجموعة رغبات أظهرها الموصي بالوصية.

3 ـ المُوصى له: وهو ذلك الشخص أو تلك الجهة التي يرغب الموصي بوصلها بشي‏ء مادي أو معنوي وبذله له مجاناً، وذلك كالإيصاء بإعطاء زيد مبلغاً من المال أو حقاً قابلاً للانتقال، أو مثل الإيصاء بصرف مبلغ في سبيل جهاد العدو، ونحو ذلك.

4 ـ الوَصِيّ: وهو من عينه الموصي وكلّفه تنفيذ ما عهد إليه فعله والقيام به من تصرفات متنوعة.

وقد جعلنا الوصية من أبواب مقصد الهبات، لأن الوصية التمليكية هي نوع من الهبة للعين أو المنفعة يملكها الموصى له بعد موت الموصي، فآثرنا ذكرها فيه لأنها أنسب به وأليق، واشتمالها على الوصية العهدية التي لا علاقة لها بالهبة لا يضر بذلك، لأن في بعض مواردها شيئاً من جوهر الهبة.

والله ولي التوفيق.


 

 

المبحث الأول ـ في أقسام الوصية وصيغتها:

وبيان ذلك في عناوين:

الأول ـ في أقسام الوصية:

تختلف رغبات كل إنسان وحاجاته التي يريد الإيصاء بها وتحقيقها بعد مماته، ويجمع ذلك قسمان:

1 ـ الوصية التمليكية: وهي التي يريد الموصي أن يُملِّك بها شيئاً من أمواله، أو من الحقوق التي له، لغيره، شخصاً كان ذلك الغير أو جهة؛ فهي نحو من التمليك أو التخصيص الذي تترتب آثاره بعد الموت من دون حاجة إلى سبب لإحداثه وإيقاعه؛ فمن قال: «سيارتي لزيد»، أو قال: «مكتبتي لمركز الدراسات الفلاني»، يصبح ذلك المال ملكاً للموصى له من دون حاجة إلى جعل جديد من الوصي أو الوارث، لأنه صار مستحقاً له ـ بعد مـوت الموصـي ـ بالوصية التي صدرت منه حين حياته.

هذا، ولا فرق في الوصية التمليكية بين أن يصدر فيها الإعطاء من الموصي بمثل قوله: «هذا المال لزيد أو للمسجد الفلاني أو للفقراء أو لطلاب العلوم الدينية بعد وفاتي»، وبين أن يقول لمن بعده: «أعطوا هذا المال لزيد أو للفقراء بعد وفاتي»، وذلك خلافاً للفقهاء الذين اعتبروا الصيغة الثانية وصية عهدية، بل إن مثل قوله: «بيعوا العقار الفلاني وادفعوا ثمنه لزيد أو للفقراء» هو في جوهره وصية تمليكية، ولكنها معلقة على فعل البيع من الوصي، فتترتب آثارها، وهي ملكية زيد مثلاً لثمن العقار بمجرد موت الموصي، وليس للوصي دورٌ في هذا التمليك أكثر من إيجاد الثمن خارجاً بالبيع.

2 ـ الوصية العهدية: وهي العهد لشخص معيّن بالقيام بأمور معينة مما يرغب الإنسان الموصي بأن يُفعل بعد مماته، وذلك في الأمور التالية:

أ ـ جعله قيِّماً على أولاده القاصرين.

ب ـ أداء ما عليه من الحقوق للناس، من ودائع وديون وحقوق مالية شرعية، كالخمس والزكاة والكفارات ورد المظالم ونحوها.

ج ـ تكليف من يقضي عنه ما عليه من عبادات.

د ـ صرف شي‏ء من ماله في وجوه الخير مطلقاً أو بكيفية خاصة، وليس منها أمره بإعطاء شي‏ء من أمواله للفقراء أو لشخص معين، فإنها من نوع الوصايا التمليكية كما سلف القول.

أما ما يطلبه في الوصايا العهدية غير ما ذكرناه، مما يعتبر تدخلاً في شؤون الغير، فإنه لا يعتبر نافذاً ولا ملزماً للوصي، وذلك كأن يوصي ولده أو صديقه بأن يصلي جماعةً وراء العالم الفلاني، أو يزوج ابنته للرجل الفلاني، أو أن يزرع أرضه أو يدير عمله التجاري بالنحو الفلاني، أو أن يصلي عنه هو ما عليه من قضاء، وما أشبه ذلك مما لا يكون عهداً له بتصرفٍ حقٍ للموصي، بل أمراً له أو لغيره بتصرف ليس له علاقة به.

هذا، وسوف نعقد مبحثاً خاصاً لما تصح الوصية به بقسميها تحت عنوان (الموصى به).

الثاني ـ في حكم الوصية:

مسألة 425: الوصية في أصل التشريع مستحبة، سواء في ذلك الوصية بما يرجع إلى أمور الدين أو الدنيا، وهذا في الوصية التمليكية واضح لا لبس فيه، وأما في الوصايا العهدية فإنه لما كان بعض ما يوصي به المكلف هو من الأمور الواجبة عليه، كوفاء دينه أو قضاء عباداته أو ردّ أماناته ونحوها، فإن الواجب فيها من أجل الخروج عن عهدتها ليس نفس الإيصاء بها، بل الواجب هو قيام المكلف بما من شأنه الاستيثاق من براءة ذمته من عهدتها، فإن توقف ذلك على الإيصاء بها وجبت وإلا لم تجب؛ وهذا الموضوع كنا قد فصلناه في الجزء الأول من هذه الرسالة في مقدمة أحكام الأموات ص 181.

الثالث ـ في صيغة الوصية:

مسألة 426: الوصية من الإيقاعات التي يقصد بها المكلف تحقيق أمر معين بعد وفاته، ويكفي في إنشائها كل ما يدل عليها من لفظ أو فعل أو إشارة، أو كتابة بخطِّ يده أو مذيلة بتوقيعه إذا ظهر منها إرادة العمل بمضمونها بعد موته، وهذا الإنشاء كافٍ في انعقادها وفي ثبوت مضمونها وفي وجوب العمل به دون حاجة إلى تعقبها بقبول الموصى له، سواء كانت عهدية أو تمليكية؛ بل يملك الموصى له العين الموصى بها في الوصية التمليكية حتى مع ردّه ورفضه لها في حياة الموصي أو بعد موته؛ وأما في الوصية العهدية فإنه إذا رد الوصاية ولم يقبلها ولو قبل صدورها من الموصي وبلغ الموصي ذلك الرد في زمن يمكنه تعيين وصي غيره لم يكن الموصى له ملزماً بشي‏ء اتجاهه، وأما إذا كان الرد بعد موت الموصي أو في غيبته ولم يصل إليه، أو في زمان لا يمكن تعيين غيره فيه لم يكن لرده أثر، ولزمه تحمل تبعة الوصاية والقيام بشؤونها، وكذا لو كان ما أوصاه به هو القيمومة على القاصرين من أبنائه، أما إذا كان ما عهد به إليه هو بعض الأعمال التي يريدها منه، كالصلاة عنه قضاءً بنفسه أو الحج كذلك، فإنه إذا قبلها صار ملزماً بها، وله أن يرد مثل هذه الوصية حتى بعد قبوله بها، فيتحلل منها إذا بلغ ردُّه الموصي، وإلا صار ملزماً بها؛ وفي جميع حالات الوصية العهدية، فإنه إذا رد الموصى له الوصية فأصر الموصي ولم يقبل ردَّه صحت الوصية منه ولكن لا يُلزَمُ بها الوصي، وفيما بعد إن عمل بها الوصي فلا إشكال، وإن لم يعمل بها جرى عليها حكم الوصية التي لم يُعيَّن لها وصي فيتصدى لها الحاكم الشرعي.

هذا من جهة وجوب قبول الموصى له بالوصية التمليكية أو العهدية وعدم قبوله، وخاصة إذا كان الموصى به أعمالاً مهمةً مثل الوصاية أو النظارة أو الولاية على القاصر؛ وأما من جهة نفس الأعمال الموصى بها، كالصدقات والقربات والطاعات والعبادات والأموال ونحو ذلك من الأمور المنظور إليها بنفسها، فإنَّ ما هو واجب منها يتأكّد وجوب تنفيذه بالإيصاء به، كقضاء دينه ودفع الحقوق الشرعية التي عليه وقضاء صلاته وصومه ونحو ذلك مما يُخرَجُ من أصل التركة أو من الثلث، وأما ما ليس واجباً منها في حال الحياة، كقراءة مجالس العزاء أو القرآن أو بناء المشروع الخيري الفلاني أو ما أشبه ذلك من وجوه الخير، فإنه يصير واجب التنفيذ على الوصي بشروطه رغم كونه مستحباً في الأصل، بل حتى وصايا الميت في المباحات تصير واجبة التنفيذ إذا لم تكن عبثية، وذلك كما لو أوصى بهندسة البناء الذي أوصى به للأيتام بالنحو الفلاني أو ما أشبه ذلك.

مسألة 427: لا يضر بوجوب العمل بالوصية مرور مدة طويلة عليها أو زوال الداعي لها، فإذا أوصى وبقي حياً مدة طويلة حتى عرض عليه الموت وجب العمل بوصيته ما لم يعلم رجوعه عنها، وكذا إذا كان الدافع لكتابة الوصية خوفَ الموت في سفره الذي يزمع عليه، أو حدوث حرب يَخشَى معها الموت، أو غيرَ ذلك من الدواعي، فإذا عاد من سفره أو انتهت الحرب فإن وصيته تبقى قائمة ويجب العمل بها، إلا أن يعلم أنها كانت مقيدة بذلك الظرف الخاص، فتبطل حينئذ لانقضاء ذلك الظرف الموجب لها.

مسألة 428: الوصية جائزة من طرف الموصي، فإذا أوصى لشخص وعهد له بشي‏ء جاز له العدول عنه وتغييره ما دام حياً مستكملاً للشروط. هذا، ولا يحتاج الرجوع عن الوصية إلى لفظ خاص، بل يكفي أن يوصي بشي‏ء ثم يوصي بخلافه ليكون الثاني رجوعاً وعدولاً عن الأول؛ ومن ذلك ما لو وجدت في أوراق الميت وصيتان مختلفتا التاريخ بخط يده، فالمعتبرة هي الثانية دون الأولى، حتى لو كان الاختلاف بينهما لجهة إثبات شي‏ء في الأولى، كقضاء صلاة عنه، وإهماله وإسقاطه في الثانية، فضلاً عما لو كان بينهما تعارض، كأن جعل الوصي شخصاً في الأولى وجعل غيره في الثانية، ونحو ذلك.

الرابع ـ ما تثبت به الوصية:

مسألة 429: تثبت الوصية المكتوبة إذا حملت توقيع الموصي، أو كانت بخط يده، بنحو يُعلم أو يُطمأن بكونها له وصادرة عنه، حتى لو لم يكن عليها شهود؛ فإذا شك في كونها له للشك في تزوير توقيعه أو تقليد خطه وأمكن تحصيل العلم ورفع الشك بأية وسيلة، بما في ذلك الوسائل المستحدثة المُعتَمدة على آلات متطورة، كفى ذلك في ثبوتها وترتيب الآثار عليها؛ وكذا تثبت الوصية المسجلة على الشريط الآلي المستحدث إذا عُلم أنه صوته، سواء مع صورته أو بدونها، وعُُلم أنه خال من التزوير؛ وكذا تثبت الوصية بكل ما يفيد العلم أو الاطمئنان بصدورها عن الموصي، بل وبما لا يفيد العلم كما سيأتي.

مسألة 430: لا يجب تحصيل العلم أو الاطمئنان بصدور الوصية عن الوصي، تمليكية كانت أو عهدية، بل يكفي فيها غير العلم من وسائل الإثبات المعتبرة في الشرع، وهي على النحو التالي:

أ ـ الوصية التمليكية: لما كانت الوصية التمليكية شأناً مالياً فإنها تثبت بكل ما تثبت به الأموال في الدعاوى المالية، فتثبت بالأمور التالية:

1 ـ شهادة المسلميْن العادليْن ولو لم يكونا على مذهب أهل البيت i.

2 ـ شهادة المسلم العدل الواحد مع يمين الموصى له.

3 ـ شهادة المسلم العدل الواحد مع مسلمتين عادلتين.

4 ـ شهادة النساء وحدهن دون أن يكون معهن رجال، وحينئذ إذا شهد على الوصية أربع نساء ثبت بها تمام المال المشهود عليه، وإذا كن ثلاثاً ثبت بها ثلاثة أرباع المال، وإذا كانتا اثنتين ثبت بها نصف المال، وإذا كانت واحدة ثبت بها ربع المال.

5 ـ إقرار الورثة إذا كانوا بالغين عقلاء ولو لم يكونوا عدولاً، فإذا أقروا جميعاً ثبت تمام الموصى به، وإن أقر بعضهم دون بعض ثبتت الوصية في حصة المقر بنسبتها، فإذا كانت حصة المقر سدساً ثبت له سدس الموصى به، وهكذا، نعم إذا كان في البعض الذي أقر بها من الورثة من تكون شهادته حجة، كأن كان ذلك البعض عدلَيْن، أو عدلاً مع يمين الموصى له أو رجلاً عدلاً مع امرأتين عادلتين أو نحو ذلك، لزمت تلك الشهادةُ المُنكِر وثبت بها تمام الموصى به.

6 ـ شهادة رجلين عدلين في دينهما من غير المسلمين، ذِمِّييْن كانا أو غيرَ ذميين.

ب ـ الوصية العهدية: وهي تثبت بما يلي:

1 ـ بشهـادة رجلين عدلين من المسلمين، أو رجلين عدلين من غير المسلمين؛ فلا تثبت بشهادة الرجل الواحد مع يمين الموصى له، ولا بشهادة النساء، منفرداتٍ عن الرجل أو مُنْضَمَّاتٍ إليه.

2 ـ تثبت بإقرار الورثة جميعاً إذا لم يكونوا عدولاً، وإذا أقر بعضهم وأنكر آخرون ثبتت في حصة المقر بنسبتها، إلا أن يكون في البعض المقر بيّنةٌ عادلة فتثبت في حصة المنكر أيضاً.

مسألة 431: إذا قامت البينة في حياة الموصي بأنه قد أوصى، فأنكر الموصي ذلك نافياً صدور الوصية منه، لم يقبل إنكاره وكانت البينة مقدَّمة على إنكاره، نعم إذا قصد بإنكاره الرجوع عن الوصية والعدول عنها بطلت وصيته حينئذ لعدوله لا لكذب البينة. وإذا فرض العكس، وذلك بأن قامت البينة على أنه لم يوصِ بكذا وكذا، فقال: «نعم إني قد أوصيت»، وكان من قصده إنشاء الوصية، صحّت منه واعتبر ذلك وصية له.

مسألة 432: إذا أقر الوارث بأصل الوصية فليس له أن ينكر وصاية من يدّعي الوصاية لمجرد عدم علمه بتفاصيل الوصية، بل ولا يَسمَعُ منه القاضي مثل هذا الادعاء الاعتباطي، إذ إن إنكار الوارث في مثل هذه الحالة كإنكار غير الوارث، فلا يعتدّ به إلا إذا أثبت كذب مدعي الوصاية. نعم إذا عُلم كذب مدعي الوصاية، وكانت الوصايا في غير أمور الميت، كالقيمومة على القاصر، أو الصرف على العناوين العامة كالفقراء والمساجد ونحو ذلك، كان لكل من يَعلمُ كذبه خصوصاً إذا رأى منه الخيانة أن ينكر عليه وأن يترافع معه عند الحاكم الشرعي من باب كونه معنياً بشؤون غيره من المسلمين، وهو ما يصطلح عليه بـ (الحسبة)، دون فرق في ذلك بين الوارث وغيره؛ وأما إذا كانت الوصايا من الأمور المتعلقة بالميت، كاستئجار من يصلّي عنه أو يزور المقامات المقدسة أو ما أشبه ذلك، فإن الوارث أولى من غيره بالإنكار وإقامة الدعوى على من يعلم ادّعاءه الوصاية عن مورّثه كذباً، وحقه في إقامة مثل هذه الدعوى مقدَّمٌ على حق غيره.

المبحث الثاني ـ في شروط الموصي:

وهو يقع في مسألتين:

مسألة 433: الموصي هو الركن الأساس في الوصية، ولا بد لنفوذ وصيته واعتبارها من توفر عدد من الشروط فيه، وهي أمور:

الأول: بلوغه عشر سنين فما فوق إذا كان ذكراً، فتصح وصية الصبي إذا بلغ عشر سنين وكانت وصيته في شؤون الخير والحق، أو في أمور مقبولة عند العقلاء حتى ولو كانت لغير أرحامه من الغرباء. أما الأنثى فإنها لما بنينا على أنها تبلغ في سن الثالثة عشرة قمريّة، أو برؤية دم الحيض قبل ذلك، فإنه يلحقها حكم الصبّي الآنف الذكر.

الثاني: العقل، فلا تصح وصيّة المجنون ولا السكران ولا المغمى عليه حالة فقدهم العقل، نعم إذا أوصى ثم فقد عقله بواحد من تلك الأسباب لزمت وصيته ووجب تنفيذها.

الثالث: الرشد، فلا يكفي كون المكلف عاقلاً في مضي تصرفاته وصحتها، بل لا بد ـ زيادة على ذلك ـ من الوصول إلى درجة الرشد، وهو حسن تصرّف المكلّف في شؤونه بالنحو المناسب لما جرى عليه العقلاء في تصرفاتهم؛ فلا تصح وصية السفيه في أملاكه حتى لو كان بالغاً عاقلاً، وتصح فيما لا يستلزم بذل مال من أموره التي يرغب بها، كشؤون تجهيزه عند الموت ونصب قيِّم على صغاره ونحو ذلك.

الرابع: الاختيار: فلا تصح الوصية التي تصدر عن المكلف بدون اختيار منه حتى لو رضي بعدما زال عنه الإكراه، بل لا بد من إنشاء وصية جديدة على الأحوط وجوباً.

الخامس: أن لا يكون قاتل نفسه، وهو مَنْ أَحْدَثَ في نفسه ما يوجب هلاكه من شربِ سمّ أو جُرح أو رمي نفسه من شاهق أو نحو ذلك، فإذا أوصى بشي‏ء من أمواله بعد ذلك الفعل لم تصح وصيته ولم تنفذ، بل تبقى ميراثاً لورثته وحدهم؛ نعم تصح وصيته التي كان قد أوصاها في أمواله قبل أن يحدث في نفسه ما يوجب الموت حتى لو كان عازماً على الانتحار حين الوصية، أما وصيته في غير أمواله فهي صحيحة مطلقاً.

مسألة 434: لا فرق في الموصي بين أن يكون سليماً حين الوصية أو مريضاً، فتصح الوصية من المريض ولو كان في مرض الموت.

المبحث الثالث ـ في الموصى له:

وفيه مسائل:

وهو الشخص الذي رغب الموصي بوصله بشي‏ء أو عهد إليه بتحمل أعباء الوصاية أو غيرها من شؤونه، وتفصيل أحكامه يقع في مسائل:

مسألة 435: تصح الوصية التمليكية لكل من يرغب الموصي في وصلهم من الأفراد أو الجهات، سواء في ذلك الوارث وغيره، والصغير والكبير، والعاقل والمجنون، والمسلم والكافر، والفرد والجماعة؛ وكذا تصح الوصية العهدية إجمالاً إلى غير المجنون المطبق والصغير؛ أما الوصية للمعدوم فإن حكمها يختلف على النحو التالي:

أولاً: لا تصح الوصية التمليكية ولا العهدية التنفيذية إلى الميت، فلا يملك الميت ما يوصي له به الحي من أموال، كما لا تصح الوصية له بالوصاية أوالنظارة أو القيمومة أو غير ذلك مما يناط بعمل الحي ونظره، وهذا واضح.

ثانياً: تصح الوصية التمليكية وكذا العهدية لمن سيوجد في حياة الموصي، سواء من أحفاده أو من غيرهم، بل وكذا تصحان لمن سيوجد بعد حياة الموصي على الأقرب، فيصح أن يوصي ببذل مال، لمن سيولد من أولاده وأحفاده أو من أولاد جيرانه وأحفادهم، وكذلك يصح أن يجعل الوصاية أو النظارة لمن سيولد في حياته أو بعد حياته من أحفاده وغيرهم.

مسألة 436: إذا أوصى بإعطاء مال أو صرفه على من سيوجد من أحفاده أو غيرهم فلم يوجد، أو على من اشترط فيه شروطاً فلم تتوفر، رجع المال الموصى به إلى ورثة الموصي يتوزعونه بينهم بنسبة حصصهم.

مسألة 437: إذا أوصى بمال إلى جماعة، ذكوراً كانوا كلهم أو إناثاً، أو ذكوراً و إناثاً، وزع المال عليهم بالسوية حتى لو كان الموصى له ذا رحم، كالأعمام والأخوال وغيرهم.

مسألة 438: إذا مات الموصى له قبل موت الموصي وقبل انتقال المال الموصى به إليه لم تبطل الوصية، بل ينتقل المال إلى ورثة الموصى له مباشرة من الموصي بعد موته، بنحو يبدو وكأن الموصي قد أوصى لهم لا لمورِّثهم، ويترتب على ذلك أن المورِّثَ لمَّا لم تستقر ملكيته على الموصى به فإنه لا يعدّ في أمواله ولا يلحقه حكمها، فلا يحتسب له منه الثلث، ولا تخرج منه ديونه، وتعطى زوجته منه نصيبها ولو كان عقاراً، نعم لا بد من قسمته على ورثته كتقسيم أموال الميراث. ثم لو فرض أن ذلك الوارث مات أيضاً في حياة الموصي، فإن كان الميت واحداً من عدة أفراد من الطبقة الوارثة، ولنفرض أنها الأولى، فإن ذلك الميت يرث نصيبه وكأنه ما يزال حياً، لأن المعيار في احتساب الوارث هو الموجود حين موت الموصى له لا حين موت الموصي، وهذا الوارث كان موجوداً حين موت الموصى له فيرث مع طبقته التي هو منها؛ فإن فُقد جميع أفراد الطبقة الأولى في حياة الموصي انتقل الموصى به من الموصي مباشرة إلى وُرَّاث تلك الطبقة الأولى، أي إلى وارث الوارث.

المبحث الرابع ـ في الموصى به:

وتفصيل أحكامه يقع في مطالب:

المطلب الأول ـ في شروط الموصى به:

مسألة 439: تصح الوصية التمليكية بالأعيان، وبالمنفعة وحدها دون العين، وبالحق القابل للانتقال، كمثل حق الاختصاص والتحجير وغيرهما؛ هذا ولا يشترط في العين كونها موجودة فعلاً، فتصح الوصية بما سيوجد في المستقبل، كحمل الدابة أو ثمر الشجرة، ونحو ذلك، وكذا لا يمنع من الوصية بالعين كونها ديناً في ذمة الغير ولو كان هو الموصى له.

مسألة 440: يشترط أن يكون للعين الموصى بها منفعة محللة معتد بها، فلا تصح الوصية بالخمر والخنزير وآلات اللهو المحرم إذا انحصر الانتفاع بها في الحرام، وإلا صحت الوصية بمثل الخمر القابل للتحول إلى خل، وبمثل آلات اللهو التي يمكن الانتفاع بخشبها في أمور أخرى محللة، ونحو ذلك.

مسألة 441: يشترط في الوصية العهدية أن يكون العمل الموصى به محللاً أيضاً، فلا تصح الوصية بصرف ماله في معونة الظالم أو نشر كتب الضلال، أو بتربية أولاده بما يتنافى مع الدين والقيم. وكذا يشترط في العمل أن يكون مقبولاً عند العقلاء، فلا تصح الوصية بما يعتبر سفهاً وعبثاً.

مسألة 442: إذا كان ما أوصى به من وصاياه التمليكية أو العهدية متعلقاً بما هو مُختَلَفٌ في حليته وحرمته فإن كان جائزاً عند الموصي دون الوصي لم يجز للوصي تنفيذ الوصية، وإن كان العكس جاز للوصي القيام بما أوصى به رغم كونه حراماً عند الموصي.

المطلب الثاني ـ في مقدار الموصى به:

قد اشترط الفقهاء أن لا يزيد المال الموصى به تمليكاً أو عهداً على مقدار معين هو ثلث ما يتركه الميت من أموال، ولا بد لتوضيح هذا الشرط وتفصيل أحكامه من بيانه على النحو التالي:

أولاً ـ كيف توزع التركة:

مسألة 443: التركة هي: (كل مال مات عنه الإنسان وتركه لمن بعده)، فيدخل فيها ويعدّ منها كل مال كان قد دخل في ملكه فعلاً أثناء حياته مما استقرت ملكيته عليه حتى لو لم يكن موجوداً عنده لرهنٍ أو دينٍ أو نحوهما، وكذا يحسب منها ما أَوجَدَ سبَبَه حال حياته فحازه بعد مماته، كالشبكة ينصبها للاصطياد فيقع فيها الصيد بعد وفاته؛ وكذا مثل الدية مما وقع سببه عليه في حياته واستحقه بعد مماته بالجناية عليه بالقتل؛ أما مثل المال الذي يعطى تعويضاً له على عمله بعد وفاته بواحد من حوادث العمل، أو مثل الهبات التي تقدمها بعض المؤسسات أو الدول بسبب الكوارث الطبيعية أو الحروب لمن يقتل فيها، فإنها لا تكون داخلة في التركة، وكذا لا يدخل فيها المال الموصى له به إذا مات في حياة الموصي كما بينّاه سابقاً في المسألة 438؛ وعليه فإنه لا يُعدّ تركة من أمواله إلا ما يكون داخلاً تحت واحد من العناوين الثلاثة الأولى، وهي: ما دخل في ملكه فعلاً في حياته، وما أوجد سببه قبل موته، وما وقع عليه سببه في حياته، دون ما عداها.

ورغم كون الإنسان مالكاً لجميع أمواله ومتسلطاً عليها في حياته، فإنه إذا قرب منه الموت تقيدت سلطته على التصرف به بما سبق ذكره في منجزات المريض ص 40، وكذا تتقيد سلطته عليه عند موته باستحقاقات ما بعد الموت، فلا يكون حراً في الوصية بماله كيف يشاء، بل يجب عليه أن يراعي هو، أو مَنْ بعده، أموراً معينة نفصلها في المسألة التالية.

مسألة 444: توزَّع تركة الميت على مصارف كبرى ثلاثة:

المصرف الأول: على ما يجب إخراجه من أصل التركة، وهي أمور عديدة لها الأولوية على غيرها من مستحقات ما بعد الموت، فتؤخذ من مجموع التركة قبل الوصية وقبل حصص الورثة، وهذه الأمور هي:

1 ـ ما عليه من دين للناس.

2 ـ ما عليه من حق شرعي في أمواله، وهو الخمس والزكاة بخاصة، دون الكفارات ورد المظالم والنذور المالية فإنها لا تخرج من الأصل.

3 ـ نفقات تجهيزه، كتغسيله وتكفينه ودفنه.

4 ـ الحج الواجب بالاستطاعة، دون ما وجب عليه بالنذر فإنه لا يخرج من الأصل.

المصرف الثاني: ما ينبغي إخراجه من الثلث، أي من ثلث الباقي بعد استثناء ما يجب إخراجه من أصل التركة، وهذا الثلث خاص بالميت تخرج منه وصاياه، وهي أمور:

1 ـ كل ما يريد إعطاءه أو صرفه على أشخاص أو جهات أو في وجوه الخير من أمواله، أو في رد المظالم ووفاء النذور والكفارات.

2 ـ كل ما يريد أن يعمل له أو عنه بعد وفاته، من قضاء الصوم والصلاة وسائر القربات والطاعات من الأمور التي تستلزم بذل المال، واجبةً كانت أو مستحبةً أو مباحةً.

3 ـ ما نَصَّ على إخراجه من الثلث من الأمور التي تخرج من أصل التركة، وهي التي ذكرناها في المصرف الأول.

المصرف الثالث: وهو حصص الوُرَّاث التي لها ثلثا الباقي من التركة إن صُرف تمام الثلث في المصرف الثاني، وإلا فإنّ ما يفضل عن الوصية من الثلث يضاف إلى الثلثين ويوزع على الورثة بنسبة حصة كل واحد منهم؛ وكذا إن لم يكن قد أوصى بشي‏ء، فإنه يضم الثلث إلى التركة ويوزع على الوراث بحسب حصصهم.

وعلى هذا الأساس فإنه لا تنفذ وصيته بما يزيد على الثلث الخاص به إلا إذا وافق الورثة، كذلك فإنه ليس للورثة أن يأخذوا حصصهم قبل إخراج ما يجب إخراجه من أصل التركة.

مسألة 445: إذا أوصى بوصايا متعددة، فهي من حيث مصرفها من التركة على أنحاء:

الأول: أن تكون الوصايا كلها من ما يجب إخراجه من أصل التركة، فيجب تنفيذها وإخراجها جميعها من تركته وإن زادت على الثلث.

الثاني: أن تكون الوصايا كلها واجبات لا تخرج من أصل التركة، وذلك مثل الصلاة والصوم والنذورات والكفّارات ونحوها، فإن وفى الثلث بها أخرجت جميعها منه، وإن زادت عليه وأجاز الورثة أخرجت جميعها من الثلث ومما أجازه الورثة، وأما إذا لم يجز الورثة فإن الواجب حينئذ تنفيذ جميع ما أوصى به من أعمال مع الإنقاص من كل عمل بنسبة مجموع الزائد عن الثلث إلى مجموع كلفة الأعمال، فلو كانت كلفة الأعمال الموصى بها ألف وخمسمائة دينار، وكان الثلث ألف دينار، كانت نسبة الزائد (وهو الخمسمائة) إلى مجموع كلفة الوصايا هي الثلث، فيُنقَّص من كل عمل أوصى به مقدارُُ الثلث؛ ومعنى ذلك أننا لا نقتصر في تنفيذ وصاياه على ما يسعه الثلث من الأعمال التي ذكرها في كلامه أولاً فأوَّلاً، إلا أنْ تقوم قرينة على أن هذا هو مراد الموصي وغايته من هذا الترتيب.

الثالث: أن تكون الوصايا كلها تبرعية غير واجبة، تمليكية كانت أو عهدية؛ ولا يختلف حكم هذا النحو من الوصايا عن النحو الثاني.

الرابع: أن تكون الوصايا كلها واجبةً، ولكنّ بعضها مما يُخرَج من الأصل، وبعضها مما يُخرج من الثلث، فإن لم ينص على إخراجها جميعاً من الثلث، يُبدأ بما يُخرج من الأصل فيخرج من أصل التركة، ثم يخرج غيره من ثلث الباقي، فإن وفى به فلا إشكال، وإن لم يف به وأجاز الورثة الصرف من حصصهم فلا إشكال أيضاً، وإن لم يجيزوا وجب التعامل مع النقص بالطريقة التي مرت في النحو الثاني؛ وأما إذا نص الموصي على إخراج الوصايا من الثلث، فإن وفى الثلث بها أخرجها جميعاً، وكذا إن لم يف بها وأجاز الورثة إخراج الزائد من حصصهم، وإن لم يجز الورثة بدأ بما يُخرج من الأصل فأخرجه منه، فإن فضل من الثلث شيءٌ أنفقه على بعض وصاياه مقدِّماً الاستئجار للصلاة والصوم وبطل في الباقي، وإن لم يفِ إلا بما يُخرج من الأصل بطلت الوصية فيما عداه من وصاياه الواجبة.

الخامس: أن تكون الوصايا مختلفة بين الواجب والتبرعي، فإن وسعها الثلث فهو المطلوب، وإن لم يسعها وأجاز الورثة الصرف على الزائد من حصصهم فلا إشكال، وإن لم يجيزوا وجب تقديم الواجب على غيره.

السادس: أن تكون وصاياه مشتملةً على واجبات تخرج من الأصل وواجبات تخرج من الثلث وأعمال تبرعية؛ وهذا النحو يعرف حكمه من مجموع أحكام الأنحاء الآنفة الذكر، وذلك على قاعدة كون الأولوية للواجبات التي تخرج من الأصل، ثم للواجبات التي تخرج من الثلث، ثم للأعمال التبرعية؛ فيَجْري المكلفُ فيه على هذه الطريقة طبق التفاصيل التي ذكرناها.

مسألة 446: إذا أخذ بعض الورثة حصته قبل إخراج ما يجب إخراجه من أصل التركة،كالدين والحج ونحوهما، ولم يدفع ما هو مترتب في حصته مقابل تلك الواجبات، فالواجب على سائر الورثة تحمل ذلك النقص من حصصهم بخاصة، ثم إنّ لهم أن يرجعوا على المتمرد عن الدفع حتى لو كان صرفهم على ما نقص من نصيب الواجبات الأصلية من حصصهم بدون إذن من الوصي أو الحاكم الشرعي.

مسألة 447: لا يمنع الإيصاء بإعطاء الغير عيناً مشخّصة، كداره مثلاً، من توزيع التركة بالنحو اللازم، ويكون استقرار ملكية الموصى له على العين متوقفاً على عدم مزاحمتها لما يخرج من أصل التركة أولاً، وعدم زيادة الباقي منها عن الثلث، فإذا اقتضى تنفيذُ ما عليه من الواجبات الأصلية التصرف ببعض الدار لضيق التركة عن الوفاء بها صحّ الأخذ منها لإتمام ما عليه، ثم ما يبقى من الدار يكون بين الوارث وبين الموصى له ثلثان لهم وثلث له.

مسألة 448: إذا تبرع متبرع بتجهيز الميت، أو أبرأه بعد موته من الدّيْن الذي له عليه، لم يعتبر مالاً جديداً خارجاً عن التركة، بل يعد منها ويلحقه حكمها ويُنَزَّل مصرَفُه الذي كان يجب صرفُه فيه منزلة المعدوم.

ثانياً ـ الوصية بالثلث وحكم الزيادة عليه:

لقد صار واضحاً أن الوصية ينبغي أن لا تزيد على ثلث ما يبقى من التركة بعد إخراج الواجبات الأصلية، فإن زادت عنه لم تنفذ في الزائد إلا إذا رضي الورثة بصرف الزائد من حصصهم، وتفصيل ذلك نذكره في مسائل:

مسألة 449: لا يشترط في صحة الوصية التفات الموصي وقصدُه أن يكون الموصى به من الثلث، فلو أوصى عامداً ملتفتاً بما يزيد على الثلث، بل لو أوصى بجميع ماله، صحت وصيته وتوقف نفوذها فيما زاد عن الثلث على إجازة الورثة.

مسألة 450: إذا أوصى بقسم محدد من ماله من دون أن يصرِّح بكوْنه ثلثاً، فإنه لا بد في نفوذ الوصية فيه من كونه بمقدار الثلث أو أقل، فإن كان أزيد توقف نفوذها فيه على إجازة الورثة.

مسألة 451: إذا كان الموصي قد عين الثلث الذي يرغب بإنفاقه في وصاياه بقسم معين من تركته،كقطعة الأرض الفلانية، أو مقدار النقد الفلاني، فإنه يتعين فيه، فيؤخذ ويصرف في وصيته؛ وإذا فوّض التعيين إلى الوصي كان التعيين من حقه، وليس للورثة الاعتراض على ما يعينه ثلثاً من الأعيان والأموال؛ أما إذا لم يعين هو ولا فوض التعيين للوصي كان الثلث مشاعاً في جميع أجزاء التركة، وحينئذ لا بد من رضا الورثة بما يُعزل من النقد والأعيان ليصرف في الوصية.

مسألة 452: إذا أوصى بثلث ماله (مشاعاً) لشخص بعينه، ثم أوصى بفرسه لشخص آخر بعينه، كأن قال: «أعطوا ثلث مالي لزيد وفرسي هذه لسعيد»، لزم إعطاء تمام ثلث المال إلا ما يساوي قيمة ثلث الفرس لزيد، وأعطي سعيد ثلث الفرس فحسب، وتوقف إعطاؤه ثلثي الفرس الآخرين على إجازة الورثة. نعم إذا كان ما أوصى به ـ بعد الوصية بالثلث مشاعاً ـ شيئاً غير مشخص، كأن يقول: «أعطوا ثلثي لزيد وأعطوا مائة دينار لسعيد»، فإن الظاهر منها أنه يريد إعطاء سعيد ذلك المبلغ منفصلاً ومستقلاً عن ثلث ماله الذي رغب بإعطائه لزيد، فتصح ـ بناءً على ذلك ـ وصيته بالثلث كاملاً لزيد وتتوقف وصيته بالمائة دينار لسعيد على إجازة الورثة.

مسألة 453: إذا أوصى بعين لتصرف في وصاياه أو لتعطى لزيد، كقطعة الأرض الفلانية، فإن تساوت قيمتها حين الوصية مع قيمتها حين الموت فلا إشكال، وإن اختلفت قيمتها حالهما اعتبرت قيمتها بمقدار الثلث حين الموت، فإن زادت قيمتها فصارت عند الموت أزيد من الثلث اقتصر من قيمتها على مقدار الثلث وتوقف التصرف في الزائد على إجازة الورثة، وإن نقصت عن الثلث لم تتمم من حصة الورثة. نعم إذا قامت القرينة على أن مقصود الموصي هو قيمتها حال الوصية، فإنه يجب حينئذ ملاحظة مطابقتها للثلث وعدمها على قيمتها حال الوصية.

وكذلك الحكم فيما إذا أوصى بكسر مشاعٍ فقال: أعطوا «ثلث مالي» دون أن يحدده في قسم من ماله، فإنه إذا استقر على قيمة واحدة إلى حين الموت، أو نقصت حال الموت عن ما كانت عليه حين الوصية، أخذ بقيمته حين الموت دون إشكال، وكذا يؤخذ بقيمته حين الموت على الأقوى إذا زادت عنها حين الوصية، اللهم إلا أن تقوم قرينة على أنه كان يريد بها قيمتها حين الوصية، فيُقتصر على قيمتها حينها ويضم الزائد عنه إلى التركة.

مسألة 454: إذا أوصى من لا وارث له إلا الإمام بجميع ماله للفقراء وأبناء السبيل، أو في وجوه الخير والقربات والطاعات نفذت وصيته، ولا بأس بالإحتياط بالاستجازة من الحاكم الشرعي.

مسألة 455: إذا دفع إنسان إلى آخر مالاً وأوصاه أن ينفقه عنه في أمور معينة، فالظاهر أنه يجب عليه أن يتأكد قبل صرفه في الوصية من كونه بمقدار الثلث، ولا يجوز له المبادرة إلى صرفه من دون ذلك، حتى لو احتمل أنه مأذون من الورثة بهذه الوصية، أو أن له ملزماً شرعياً يقتضي إخراجها من الأصل.

ثالثاً ـ صيغة الإجازة وأحكامها:

مسألة 456: لا يكفي في إجازة الوارث مجرد الرضى القلبي بصرف الوصايا الزائدة عن الثلث من حصته، بل لا بد أن تكون الإجازة متضمنة لما يفيد إمضاء الوصية والقبول بتنفيذها من ماله من الأقوال أو الأفعال.

نعم لا يعتبر فيها أن تكون فور ظهور زيادة الموصى به على الثلث، ولا فور طلب الوصي منهم الإجازة، فلو مضى زمن على ذلك ثم حصلت الإجازة صحت وأثَّرت.

مسألة 457: لا يشترط في الإجازة وقوعها بعد الوفاة، بل يكفي حدوثها حال حياة الموصي وتصح على الأقوى.

مسألة 458: إذا أجاز الورثة بعض الوصايا الزائدة عن الثلث دون بعض نفذت الوصية فيما أجازوا وبطلت فيما لم يجيزوا، وإذا أجاز بعضهم ولم يجز البعض الآخر نفذت الوصية في حصة المجيز دون غيره، وحينئذ فإنه يوزع النقص على جميع الوصايا بنسبته إلى مجموع تكاليفها على النحو الذي سلف ذكره في النحو الثاني من المسألة 445.

مسألة 459: إذا صدرت الإجازة من الوارث في حياة الموصي أو بعد وفاته فليس له أن يرجع عنها ويلغيها؛ ولو ردّ الوصية في الزائد عن الثلث ولم يجزها في حياة الموصي ثم أجازها بعد وفاته صحت إجازته ولزمت، وكذا لو ردها بعد وفاة الموصي ثم أجازها على الأقوى.

مسألة 460: لا يخفى أن إجازة الورثة تصحّ وتنفذ إذا كانوا بالغين عقلاء، وإلا فإن كان فيهم قاصر لصبىً أو جنون أو سفه لم يكن لوليهم أن يجيز مثل هذا التصرف الخالي من المصلحة في أموالهم، وحينئذ، فإما أن يتحمل غير القاصر تمام الزائد في حصته أو يُنتظر في تنفيذه أهلية القاصر بالبلوغ والعقل والرشد.

المطلب الثالث ـ في غموض الوصايا وتعارضها:

وفيه مسائل:

مسألة 461: إذا أوصى بوصايا متعددة متضادّة كان العمل على الوصية الثانية، وتكون الثانية ناسخة للأولى، فإذا أوصى بداره مثلاً لزيد، ثم أوصى بها بتمامها لسعيد، كانت الدار لسعيد؛ ولو عدل عن بعض ما أوصى به أولاً، كانت الثانية ناسخة للأولى بمقدارها، فإذا أوصى بداره لزيد، ثم أوصى بنصفها لسعيد، كان ذلك عدولاً عن تمليك زيد تمام الدار، وتكون مناصفة بين زيد وسعيد، وهكذا أمثال ذلك مما هو معلوم من العرف ومتداول بينهم.

ثم إنه إذا علم تاريخ المتقدم منهما والمتأخر كان العمل عليه بالنحو الذي ذكرناه، وإن جهل التاريخ فاشتبه المتقدم بالمتأخر، فإن تصالحا فهو، وإلا تعين الرجوع إلى القرعة لتعيين الموصى له.

مسألة 462: إذا أوصى بشي‏ء لزيد فتردد بين الأقل والأكثر، كأن قال مثلاً: «أعطوا رزمة النقد الموجودة في خزانتي لزيد»، فوُجِدَ في خزانته رزمتان إحداهما أكثر من الأخرى، استحق زيد الرزمة الأقل، وكذا حكم كل مورد تردد فيه الموصى به بين الأقل والأكثر، فإن الموصى له يستحق الأقل؛ وأما إذا تردد الموصى به بين المتباينين، كأنْ لم يُسمع ما تلفظ به الموصي بوضوح كاف، فدار أمره بين الإيصاء بالدابة أو بالكتب مثلاً، فإن لم يتصالح الموصى له مع الورثة لزمهما الرجوع إلى القرعة.

مسألة 463: إذا عين الوصيَّ ولم يعين له عملاً ولم يعهد له بشي‏ء، وتردد ما ينبغي القيام به بين أمور كثيرة، كتجهيزه وصرف ثلثه وغيرهما، فإن علم أنه لا يريد الوصية بشي‏ء كانت وصيته لغواً، وإن علم أنه يريد الإيصاء بشي‏ء ولم يذكره اتكالاً على عرف سائد يحمل الكلام عليه، حمل كلامه عليه واعتبر ذلك المتعارف وصية له، وذلك كمثل ما يتعارف في بعض البلدان من أنهم يريدون به أنه وصي في إخراج الثلث وصرفه في مصلحة الموصي وأداء الحقوق التي عليه وأخذ الحقوق التي له ورد الأمانات والبضائع إلى أهلها وأخذها؛ نعم في شموله بمجرد ذلك التعارف للقيمومة على القاصرين من أولاده إشكال، والأحوط أن لا يتصدى لأمورهم إلا بعد مراجعة الحاكم الشرعي من جهة، كما أن الأحوط للحاكم الشرعي أن لا ينصب قيِّماً غيره إلا بإذن منه من جهة أخرى؛ وأما إذا لم يكن في ذلك عرف معلوم، وعلم أنه يريد الوصية بأشياء مرددة بين عدة أفراد محصورة على نحو العلم الإجمالي، صحت وصيته وعين مراده بالقرعة.

مسألة 464: إذا أوصى إلى شخصٍ فجعله وصياً ثم أوصى إلى غيره دون أن يخبر الأول بالعدول عنه إلى غيره، فمات الموصي، فعمل الوصي الأول بما كان قد عهد به إليه، ثم علم بعدول الموصي عنه إلى غيره، فإن كان قد حدث في حياة الموصي ما يوجب العلم عادةً بالعدول عنه، كأن هاجر الوصي إلى بلد بعيد يصعب التواصل معه فيه، أو جرت بينه وبينه خصومة وقطيعة لا تنجبر، أو نحو ذلك من الأسباب، ورغم ذلك نَفَّذَ الوصيُّ الأول الوصية، صح عمله إذا وقع مستكملاً لشروطه وترتب عليه براءة ذمة الميت من عهدته، كما لو قضى دينه ورد ودائعه ونحو ذلك، كذلك يصح عمله فيما يحتاج إلى إذن الولي أو الوصي الثاني إذا تعقَّبه الإذن منه بعد انكشاف العدول عنه، وذلك كما لو باع بعض أمواله وصرفها في الوجوه الموصى بها، أو استأجر من يصلِّي ويصوم عنه، فإن البيع والإجارة يصحان إذا أذن الولي أو الوصي الثاني بهما، وأما إذا لم يأذنا بطل البيع أو الإجارة لذلك، وكان التلف الحاصل بسبب هذا البطلان مضموناً على الوصي الأول إذا حدث بين الموصي والوصي الأول ما يُعلم معه ـ عادة ـ بعدوله عنه، وأما إذا لم يحدث شي‏ء من ذلك، فعدل عنه ولم يعلم الوصيُّ الأول بذلك إلا بعدما نَفَّذ مقداراً من الوصية أو تمام الوصية، فإن حكمه هنا كحكمه في الحالة السابقة، غير أن ما يتلف بسبب عدم الإذن له ببعض ما عمله يتحمله الميت في ماله، فيخرج ما يوازي مقدار التالف من أصل التركة ثم يوزَّع الباقي في ما بقي من وصاياه وفي حصص الوُرَّاث.

مسألة 465: إذا أوصى له بصرف مال في موارد مخصصة، فنسي الوصي تلك الموارد، إما كلياً بحيث ترددت بين جميع موارد الصرف التي لا حصر لها، وإما جزئياً بحيث ترددت بين موارد محصورة، فإن كان لهذه الموارد المختلفة جامعٌ يجمعها، ككونها جميعاً من أفراد (وجوه البر)، تخير في صرفها في أي مورد منها، سواء في ذلك ما لو كانت الأفراد مرددة في عدد محصور أو غير محصور؛ وأما إذا كانت متباينة لا تجتمع على جامع، كأن دار الأمر فيها بين أن تكون من موارد البر أو من غيرها، وكانت أفراد كل مورد محصورة، وذلك كما لو دار أمر الوصية بين التصدق بالمال وبين تكريم زعيم دنيوي، تعين الرجوع إلى القرعة، وأما إذا كانت أفراد الشبهة في كل مورد من المتباينين غير محصورة، كان عليه أن يختار بعض أفراد من هذا المورد وبعض أفراد من المورد الآخر بما يوافق العدد المتيقن في الوصية ثم يقرع بينهما، ومثال ذلك:

شخص أوصى بأمرين، فلم يتذكر الوصي من الوصية إلا أنه قد أوصى بصرف ألفي دينار بالتساوي على أمرين هما: إما من أمور البر مشتبهيْن بين موارده الكثيرة، وإما من أمور الدنيا مشتبهيْن بين مواردها الكثيرة، فإن على الموصي أن يختار أمرين من وجوه البر، مثل: إعطاء ألف دينار للأيتام، وألف أخرى لبناء المسجد الفلاني، وأمرين من أمور الدنيا، مثل: إعطاء ألف دينار لجمعية المزارعين الفلانية، وألف أخرى لترميم قلعة أثرية، ثم يقرع بين المجموعتين ليستخرج هذين الفردين أو هذين الفردين.

المطلب الرابع ـ في حكم النماء والتلف العارضين على التركة:

وفيه مسائل:

مسألة 466: إذا حدث النماء في شي‏ء من أموال التركة قبل توزيعها في مصارفها، كأن ولدت الأنعام، وقطفت الثمار، وقبضت أجرة الدور ونحوها، كان ذلك النماء معدوداً في التركة، بما في ذلك ما ينتج من عين مشخصة موصى بها، كمثل ما لو ولدت الدابة التي أوصى بها لزيد، فإن النماء يكون للجميع ويصرف مع التركة بالأولوية التي تقدمت لمصارف ما بعد الموت واستحقاقاته؛ وأما إذا عرض النماء بعد إخراج الواجبات الأصلية، فإن كان النماء لعين شخصية موصى بها، وكانت بمقدار الثلث أو أقل، كان النماء للموصى له، وكذا لو كانت العين أزيد من الثلث وأجاز الورَّاث الزيادة، وإلا شاركوه في ذلك النماء بنسبة الزيادة؛ وإن كان النماء في غير العين الموصى بها كان النماء للورَّاث بخاصة دون الموصى له بتلك العين التي لم يَحدُثْ فيها النماء، وأما إذا لم يكن في الوصية عين موصى بها خاصة، بل كانت الوصية مشاعة في التركة، كان النماء للوصية وللورَّاث بالنسبة.

مسألة 467: إذا عرض التلف الحقيقي على التركة بعد وفاة الموصي وقبل توزيعها على مصارفها، فاحترق شي‏ء منها أو غرق مثلاً، لم ينقص من حصة ما ينبغي إخراجه من أصل التركة شي‏ء، بل يخرج بتمامه، ثم ما يبقى بعد ذلك يوزَّع على الوصية وعلى الورَّاث ثلثاً لها وثلثين لهم، مهما كان مقدار الباقي.

وكذلك الحكم فيما إذا كان التلف حكمياً، وذلك كما لو ضاع شي‏ء من المال أو سرق أو عرض عليه ما منع من الانتفاع به لأمد غير معلوم، كالحرب والجفاف، بحيث صار وجوده كعدمه، فإن الأولوية تبقى أيضاً لما ينبغي إخراجه من أصل التركة، فيُخرج من ما سلم منها بتمامه، ثم ما يبقى يوزع على الوصية والوراث على حسب القاعدة.

مسألة 468: إذا سُلِّمَت التركة للوارث واستقرت يده عليها بعد إخراج ما يجب إخراجه من أصل التركة، فطرأ عليها قبل القسمة وقبل تنفيذ الوصية تلف أو سرقة أو نحوهما من أسباب التلف الحقيقي أو الحكمي، فإن كان الموصي قد حصر الوصية في عين خارجية محددة، كهذه الدار مثلاً، وكانت لا تزيد عن الثلث، فإن تلفت هي خاصة كان النقص على الوصية خاصة ولم يلحق نصيبَ الوراث نقص، وإن كان التلف في غيرها وسلمت العين للموصى له اختص التلف بنصيب الورثة ولم يلحق العين الموصى بها نقص؛ وأما إذا كانت الوصية في حصة مشاعة كان النقص على الوصية وعلى نصيب الوراث كل بنسبة حصته إلى التركة، فإن كانت الوصايا بمقدار الربع أو الثلث احتسب عليها ربع التالف أو ثلثه واحتسب على حصة الورثة ثلاث أرباع التالف أو ثلثاه.

وهكذا الحال إذا كان ما أوصى به مبلغاً محدداً من المال، كألف دينار، ولكنه كان كلياً غير مشخص في قسم بخصوصه، وكان ذلك المبلغ لا يزيد على الثلث، فإنه وإن استحقّ ذلك المبلغ بموت الموصي وصارت الوصية نافذة فيه، لكنه لمَّا حدث التلف على التركة قبل أن يقبض ذلك المبلغ لَحِقَهُ من التلف بنسبة ذلك المال إلى التركة التي يجري توزيعها، وذلك بالنحو الذي سبق ذكره في الوصية المشاعة.

وكذلك الحكم فيما لو كانت الوصية بصرف ثلثه في مصلحته من الطاعات والقربات، بحيث ظل الثلث للميت مشاعاً في التركة مع حصص الوراث، فإنه إذا تلف من التركة شي‏ء كان التلف على الجميع بالنسبة.

مسألة 469: إذا ضَمنَ المُتلِفُ فعَوَّضَ ما أتلفَ، أو وُجِد المال الضائع، أو عاد المغصوب، فإن كان قبل توزيع التركة فلا إشكال، وإن كان بعد توزيعها ناقصة على الوصية والورَّاث بالنسبة، أو على أحدهما بخصوصه، لزم التعويض على كل منهما أو على أحدهما بمقدار ما أُنقص منه.

مسألة 470: لا يختلف الحكم في ضمان التلف عند تمامية شروطه بين ما لو كان المتلف أجنبياً أو كان هو الوارث أو الوصي، فلو فرَّطَ الوارثُ فعرقل تنفيذ الوصية بالمقدار المتعلق به كان ضامناً لما يعرض عليها من التلف، وكذا الوصي عند تعديه أو تفريطه، أو الأجنبي إذا كان التلف مضموناً عليه.

المطلب الخامس ـ في الوصية بالولاية على القاصر:

وفيه مسائل:

مسألة 471: لا يخفى أن الولاية على القاصر من الأمور المهمة التي يحرص عليها الإنسان بعد وفاته ليكفل لأولاده القاصرين رعايةً حسنةً وحياةً مستقرةً، و (القاصر) مصطلح فقهي يراد به: (من لم يحز أهلية التصرف الشرعي بشؤونه وأمواله لفقدانه شرط البلوغ والرشد معاً)، ولا يرتفع هذا العنوان عن الولد إلا بعد بلوغه ورشده، فلو كان رشيداً قبل بلوغه، أو بلغ غير رشيد، لم يكف ذلك في ارتفاع عنوان (القاصر) عنه ولا في استقلاله في شؤونه وأمواله؛ وعملية الرعاية لهذا القاصر يصطلح عليها بـ (الولاية) أو (القيمومة)، ويعبر عن المشرف والراعي للقاصر بـ (الولي)، وبخاصة إذا كان هو الأب أو الجد للأب أو الحاكم الشرعي، وبـ (القيم)، والقيِّم لفظ يكاد يختص بالمنصوب لذلك من قبل أحد هؤلاء الثلاثة، وإن كان يصح إطلاقه عليهم أيضاً، فإن قيل له (الوصي) كان المراد به دائماً من هو غير هؤلاء الثلاثة الذين تنبع ولايتهم من أنفسهم، وهو المنصوب من قبل الأب أو الجد للأب من أجل ذلك بخصوصه، أو من أجل غيره من شؤونه، بعد وفاته.

مسألة 472: تصح الوصية بالقيمومة على القاصر من الأب والجد للأب شرط فقد الآخر، فلا تصح وصية الولد بالقيمومة على أولاده في حياة أبيه، وكذا لا تصح وصية الجد بالقيمومة على أحفاده في حياة والدهم؛ أما الأم أو والدها أو الإخوة أو الأعمام فلا تصح منهم الوصية بها على القاصرين من أولادهم وأسباطهم وإخوتهم وأولاد إخوتهم، لأنهم لم يُجعلوا عليهم أولياء في الشريعة حتى يكون لهم حق نصب قيِّم عليهم بعد وفاتهم، بل إن الولي بعد فقد الأب والجد للأب والوصي من أحدهما هو الحاكم الشرعي. ومثل هؤلاء في عدم صحة الوصية منه بجعل قيّمٍ على القاصر الوصيُّ نفسُه، فإنه وإن كان هو القيم على القاصر لكن قيمومته منحصرة بحال حياته إلا أن يكون مأذوناً من الموصي في ذلك، ومثله في ذلك الحاكم الشرعي، فهو وإن كان له الحق حال حياته بتعيين قيِّم على القاصر، لكنه ليس له الحق بنصب قيِّم عليه بعد وفاته إذا توفر حاكم شرعي غيره يمكنه توليه ورعايته، فإن لم يوجد حاكم شرعي غيره، أو وُجدَ ولكن لم يمكن الوصول إليه، وخيف على ذلك القاصر من الأذى والفساد، جاز للحاكم الشرعي حينئذ أن يوصي من يتولاّه بعد وفاته، وتصح وصيته.

مسألة 473: إن الوصية بجعل قيم على القاصر هي وصية بالتولية والرعاية لشؤون ذلك القاصر بما في ذلك تدبير أمواله، وهي بهذا المعنى تَجعل الوصيَّ بمنزلة الولي الأصلي ومقدَّماً على الحاكم الشرعي في النظر والتدبير، ولكن ينبغي الالتفات إلى وجود فارق مهم بين ولاية الوصي وولاية الأصيل، فإن ولاية الأصيل، وهو الأب والجد للأب والحاكم الشرعي تتعلق مباشرة بالتصرف والإدارة والإشراف على جميع الشؤون التفصيلية العائدة للقاصر بما في ذلك تولية من يقوم مقامهم بالإدارة، بينما لا تتعلق ولاية الوصي مباشرة بأنواع التصرفات التفصيلية، بل إن الشي‏ء الذي أوصي له به هو (الولاية)، وهي تستلزم بطريقة غير مباشرة التصرف التفصيلي والإدارة والإشراف، وعليه، فإنه لا يصح للإنسان، كالأب مثلاً، أن يوصي لغير الجد مع وجوده بمباشرة أمر تفصيلي كتدبير أموال الصغير وأملاكه، وذلك كأن يوصي لذلك الصغير بمبلغ من المال ويُوكل أمر تدبيره لوصيٍّ هو غير الجد، لأن الوصية المباشرة بتدبير المال المملوك للصبي منافية لولاية الجد الموجود؛ نعم يصح للأب مثلاً أن يوصي بمال لولده الصغير ويودعه عند أجنبي ويوصيه بدفعه له عند بلوغه حتى مع وجود الجد.

مسألة 474: يجوز للأب والجد أن يجعل القيمومة على الأطفال لاثنين أو أكثر، كذلك يجوز له جعل ناظرٍ مع الوصي بالنحو الذي سيأتي تفصيله في مبحث الوصي.

مسألة 475: إذا أطلق الموصي ولاية القيِّم شملت كل جوانب التصرف المناسب لأولاده القاصرين، كحفظ نفوسهم وأموالهم وتربيتهم والإنفاق عليهم واستيفاء ديونهم ودفع ما يترتب عليهم دفعه من نفقات السكن والخدم والضمانات والضرائب والحقوق الشرعية وغير ذلك. أما الولاية على تزويجهم وتفاصيل أخرى لها علاقة ببعض ما ورد فقد ذكر بعضها سابقاً ويذكر بعضها الآخر في محله لاحقاً.

وإذا قيّدها بمجال دون مجال انحصرت صلاحياته فيما قيده به، ولم يكن له التعدي إلى غيره من شؤون القاصرين، بل يكون النظر في ما يخرج عن صلاحيات الوصي للحاكم الشرعي إن وجد، وإلا فلعدول المؤمنين الذين قد يكون هو منهم فيجوز له توليها حينئذ، إلا أن يفهم من التقييد عدم رغبة الموصي بتولي الوصي لها.

هذا، وسوف نذكر في (مبحث الوصي) مزيداً من التفاصيل حول بعض هذه الأمور وغيرها.

المطلب السادس ـ الوصية بالحرمان:

مسألة 476: إذا أوصى المكلّف بحرمان بعض ورثته من حصتهم من الميراث لأسباب مختلفة، نبيلة كانت أو غير نبيلة، لم تنفذ وصيته إذا لم يرض المحروم بتحقيق هذه الرغبة، وإلا صحت الوصية وحُرِمَ من نصيبه؛ لكن إذا صدرت هذه الوصية في حالة لم يكن فيها الموصي قد أوصى بثلث ماله بل كان قد تركه ميراثاً في تركته، فبما أنه يملك حق التصرف في ذلك الثلث عطاء أو منعاً لمن يشاء، فإنه إذا أوصى بحرمان بعض ورثته من التركة صحت وصيته بمقدار ما كان سيرثه هذا المحروم من الثلث الخاص بالميت، لو لم يوص بحرمانه، وذلك بأن يقدر نصيبه طبق ما مر من أحكام بعد إخراج الواجبات الأصلية واستقرار المقدار الموروث، فيرث غير المحروم من جميع الباقي من التركة بينما يرث المحروم من ثلثي الباقي خاصة.

المبحث الخامس ـ في الوصي:

وفيه مطالب:

المطلب الأول ـ في الشروط:

وفيه مسائل:

مسألة 477: الوصيّ هو الذي يجعله الموصي متولياً لتنفيذ وصاياه، سواء كان واحداً أو متعدداً، ويعتبر فيه أمور:

الأول: البلوغ إجمالاً، فإن كونه شرطاً لازماً يختلف باختلاف الأمور التي عهد إليه بتنفيذها، وذلك على النحو ا لتالي:

أولاً: يصح جعل الصبي وصياً مستقلاً في الأمور غير المالية إذا كان رشيداً، وذلك كما في أمور تجهيز الميت وغيرها مما لا يستدعي بذل مال، وإن كان الأحوط استحباباً أن يكون تصرفه بإذن الولي.

ثانياً: إذا رغب الموصي في جعل الصبيّ وصياً في الأمور التي تستلزم بذل مال، كالبيع والإجارة والهبة والوقف ونحوها، أو في الأمور التي ترجع إلى القيمومة عليه من أموره الشخصية، بنحوٍ يكون هو المدبِّر لنفسه، صحّت الوصية له إذا أريد أن يكون تصرفه بإذن الولي وإشرافه، وهو الأب أو الجد للأب مع وجوده أو الحاكم الشرعي عند فقدهما، وكذا تصح الوصية إذا أريد بها استقلاله بالتصرف، ولكن تصرفه لا ينفذ إلا مع إذن الولي.

ثالثاً: تصح الوصية له حال صباه بالوصاية على أمور الميت بعد بلوغه ورشده، فإذا مات الموصي قبل بلوغ الوصي وجب تأجيل تنفيذ ما يمكن تأجيله إلى حين بلوغه، وأما التصرفات الفورية فيتولاها ولي الميت في حدود صلاحياته، كمثل شؤون تجهيزه، والحاكم الشرعي في ما لا ولي له فيه، كقضاء دينه ونحوه.

الثاني: العقل، فلا يصح جعل المجنون وصياً حال جنونه المطبق أو الأدواري، وتصح الوصية للمجنون الأدواري حال عقله وتصح تصرفاته ما دام عاقلاً، فإذا جن بقيت الوصية قائمة فيه لكن أثرها يكون معلقاً على عودة العقل إليه، فإن عاد عقله نفذت تصرفاته، وإن طالت فترة جنونه، وكان لابد من إنفاذ بعض أمور الوصية، تولى ذلك وليه أو الحاكم الشرعي إلى حين عودة العقل إليه.

نعم إذا حدث الجنون الأدواري في حياة الموصي وظهر منه الإعراض عنه بطلت وصايته؛ وكذا تبطل الوصية له إذا كان عاقلاً فجنّ جنوناً مطبقاً.

مسألة 478: لا يشترط الإسلام في الوصي من حيث المبدأ، فتصح الوصية لغير المسلم في شتى الأمور التي يرغب في الوصية بها، بما في ذلك القيمومة على أولاده القاصرين، ولكن الأولى، بل الأحوط استحباباً، عدم جعله وصياً إلا بعد فقد المسلم الكفؤ والحاكم الشرعي، كما أن الأولى قصر وصايته على الأمور العادية من معاملاته وشؤونه، دون الأمور الهامة كعباداته والقيمومة على القاصر من أولاده؛ نعم إذا ترتب على الوصية له مفسدة دينية أو دنيوية لم تصح الوصية له حينئذ.

مسألة 479: لا تشترط العدالة في الوصي، بل يكفي كونه ثقةً مأموناً على ما سوف يقوم به من شؤون الموصي المهمة التي يجب الخروج من عهدتها وإبراء الذمة منها، أو تلك التي تعود إلى رعاية أولاده القاصرين، ونحوها، بحيث يطمئن الموصي إلى قيامه بها بالنحو الذي نص عليه وبشروطه المطلوبة شرعاً. نعم إذا كان الموصى به أموراً عادية كمثل ما يدخل في باب المباحات والرغبات الشخصية، جازت الوصية بها لغير الثقة أيضاً، وصحّ تصرفه فيها.

وإذا أوصى إلى العادل أو الثقة ففسق العادل وكذب الثقة، بطلت الوصية له إذا عُلم أن الموصي علّق الوصية له على العدالة أو الوثاقة، فإن لم تعلم إرادة الموصي لذلك لم تبطل.

مسألة 480: يجوز أن يجعل الوصيَّ امرأة أو أعمى، وكذا يجوز أن يجعله واحداً من أبنائه أو غيرهم من ورثته.

مسألة 481: لا يشترط في الوصي أن يكون واحداً، فتجوز الوصية لاثنين أو أكثر على نحو يريد منه اشتراكهما في التصرف؛ أو على نحو الترتيب، فيجعل المتولي والمباشر لأمور الوصية زيداً أولاً، فإن غاب أو فقد أو عجز فالمباشر والمتولي هو سعيد؛ أو يجعلها على نحو يكون فيه كل منهما مستقلاً في أمر خاص من الوصية؛ أو على غير ذلك من الكيفيات التي يرغب فيها الموصي تصريحاً أو من خلال ما يفهم من القرائن؛ فإن أطلق الوصية لهما من دون قرينة على كيفيتها كانت بينهما على نحو الاشتراك.

مسألة 482: إذا أوصى لاثنين على نحو الاشتراك في التصرف لم يكن لأحدهما التصرف منفرداً، لا في جميع ما أوصى به ولا في بعضه، حتى لو أطلق الشريك يد شريكه في التصرف بمعزل عنه ودون مشاورته بنحو ينافي رغبة الموصي في تصرفهما منضمّين؛ وإذا عرض لأحدهما ما يوجب سقوطه عن الوصاية من موت ونحوه، فإن كان هناك قرينة على إرادة الموصي انفراد الآخر بالوصية عندئذ فلا إشكال، وإن لم توجد قرينة على ذلك، أو قامت القرينة على عدم الانفراد عند فقد أحدهما، ضم الحاكم شخصاً إليه بدل المفقود؛ وأما إذا عرض العجز أو الموت عليهما لم يكن الحاكم ملزماً بتعيين شخصين بدلاً منهما، بل يكفي تعيين شخص واحد إذا كان قادراً على القيام بالوصية.

مسألة 483: إذا أوصى لاثنين على نحو الاشتراك فتوافقا فيما بينهما فلا إشكال، وأما إذا لم يتوافقا على كيفية تنفيذ الوصية، كلاً أو بعضاً، بحيث كان من شأن ذلك النزاع أن يؤدي إلى تعطيل العمل بالوصية، فإن كان سبب الاختلاف أمراً شرعياً لا يمكن تجاوزه لكليهما ضم الحاكم الشرعي إلى أحدهما من يتوافق معه في الرأي، وكذا لوكان السبب أمراً عادياً ولم يمكن للحاكم أن يجبرهما على التوافق، وإلا أجبرهما عليه.

مسألة 484: يجوز للموصي أن يوصي إلى اثنين على نحو مختلف، وذلك بأن يعهد إلى أحدهما بتنفيذ وصيته ويجعل الآخر في مرتبة المراقب والمشرف على عمل الأول دون أن يكون له علاقة بالتصرف والتنفيذ، وهو الذي يصطلح عليه بـ (الناظر)، فالناظر وصي أيضاً، لكنَّ دوره مقتصر على الإشراف والمراقبة بالنحو الذي يعهد إليه الموصي ويوصيه به، وهو على نحوين:

الأول: أن يجعل دور الناظر مقتصراً على الاستيثاق من قيام الوصي بما عهد إليه الموصي من تصرفات ومراقباً له، بحيث لو رأى منه خلاف ما قرره الموصي لاعترض عليه، وهو يستلزم أن لا يقوم بعمل إلا بعد إعلام الناظر، فإن كان موافقاً لمضمون الوصية لم يكن له الاعتراض عليه ومضى الوصي في تصرفه وصح منه دون حاجة لاستئذانه؛ ففي مثل ما لو أراد الوصي استنابة من يصلي عن الموصي، فإنه لا تصح منه المبادرة لاستنابته دون إعلام الناظر، حتى لو كانت الاستنابة موافقة للشروط المطلوبة، ويعتبر ذلك العمل منه خيانة للوصية، وأما إذا كان قبل الاستنابة قد أعلم الناظر بذلك ورآه أهلاً فعلاً، لم يكن له أن يعترض عليه ولا أن يطلب منه تعيين غيره.

الثاني: أن يجعل الناظر مشيراً على الوصي، بحيث يكون الوصي خاضعاً في رأيه للناظر وصادراً في عمله عن إذنه وموافقته، فالوصي وإن كان مستقلاً في التصرف والتنفيذ لكنه غير مستقل في الرأي والنظر، فلو استبد الوصي بالعمل دون مشاورة الناظر ولا استئذانه لم ينفذ تصرفه، ففي المثال المتقدم لا يكفي أن يرى الناظر أن من اختاره الوصي جامعٌ للشروط، بل لا بد أن يوافق عليه حتى ينفذ تصرفه.

وعلى هذا الأساس، فإنه وإن لم يكن للناظر دخالة في عملية تنفيذ الوصية، لكنه يعتبر مسؤولاً عن خيانة الوصي، فيجب عليه العمل لمنعه عن الخيانة وحماية المال منه، ويكون ضامناً لما يتلف من مال الوصية بسبب ترك الحماية، بل إنه قد تجب عليه حماية المال من غير هذه الجهة، وهي جهة وجوب الدفاع عن مال المسلم إذا تمت شروطه المذكورة في باب الدفاع.

مسألة 485: إذا مات الناظر وجب على الوصي إخبار الحاكم الشرعي ليجعل ناظراً غيره بالنحو الذي كان عليه.

المطلب الثاني ـ في كيفية القيام بالوصية:

وفيه مسائل:

مسألة 486: قد بينّا فيما سبق أن الوصية مستحبة في المستحبات وواجبة في الواجبات إذا توقف الخروج من عهدتها على الإيصاء بها؛ كما أننا قد بينا أن الوصي لا يجب عليه قبول الوصاية، فإذا ردها لم يلزم بها إذا بلغ الموصي ردُّه في زمان يمكنه تعيين غيره، وإذا قبلها ورضي أن يكون وصياً وجب عليه القيام بها بالنحو الذي يريده الموصي، فإن تعدى كان خائناً.

مسألة 487: إذا أَطلق الوصية فقال للوصي: «أخرج ثلثي وأنفقه»، كان للوصي أن يتصرف بالنحو الذي يراه بعد مراعاة الاعتبارات الشرعية التي سبق ذكرها في تقديم الواجبات، وأما في غيرها فإن الواجب على الوصي ملاحظة مصلحة الميت، فيقدم في الإنفاق ما يكون أصلح له من سائر المصارف، وهو أمر يختلف باختلاف الأموات، فربما يكون الأصلح أداء العبادات الاحتياطية عنه، أو أداء الحقوق المالية الاحتياطية، أو فعل القربات والطاعات والإنفاق في وجوه الخدمات والمصالح العامة، وغير ذلك من وجوه الخير والمعروف التي لا تكاد تحصى كثرة، فإذا تساوت الوجوه في الأهمية تخير بينها، نعم إذا قامت قرينة على تعيين بعضها كان العمل طبقاً للقرينة بلا إشكال.

مسألة 488: الوصي القيِّم على القاصر ينفق على القاصر بالطريقة التي توفر له مطالبه المناسبة لأمثاله في حضانته وفي صحته البدنية والنفسية وطعامه وكسوته وتعليمه ورفاهيته، وذلك بالنحو المتعارف والمناسب لمن هو في سنه وشرفه وعلاقاته؛ دون إسراف ولا تقتير؛ هذا، مضافاً إلى مسؤولية الوصي عن تربيته بالنحو الموافق لمناهج التربية السليمة والتنشئة الإيمانية الصحيحة؛ فإذا لم يلتزم الوصي بما هو واجب عليه في ذلك مع علمه به عدّ خائناً.

مسألة 489: يحق للوصي أن يأخذ أجرة على كل عمل من أعمال الوصية التي جرى العرف على أخذ الأجرة عليها، إلا أن يكون الموصي قد اشترط المجانية وقبل الوصي، سواء في ذلك ما لو كان الوصي فقيراً أو غنياً؛ نعم في القيمومة على اليتيم لا يجوز للقيِّم أخذ الأجرة على عمله إلا إذا كان فقيراً، أو كان الموصي قد حدد له أجرة على خدماته، أو أذن له بأخذ أجرة المثل حين القيام بالعمل.

مسألة 490: إذا قال له: «حج عني بعد موتي بألف دينار» مثلاً، كان ذلك إجارةً إذا قبله الوصي، ووجب عليه القيام به بالنحو الموافق لأحكام الإجارة، وأما إذا قال ذلك له، فلم يصدرقبول به منه، كان ذلك وصية، ولم يكن ملزماً بهـا إذا ردهـا وبلـغ الموصـي رده، وأمـا إذا قـال له: «حج عني بأجرة المثل»، ولم تكن أجرة المثل معروفة للموصي ولا للوصـي، فإذا قبل الوصي ذلك منه في حياته فوراً كان إجارة، لكنها إجارة فاسدة لجهالة الأجرة، فلا يُلزم بالحج عنه من جهة الإجارة، بل ولا من جهة الوصية، لأنها ليست وصية أيضاً بمجردها إلا مع القرينة؛ وأما إذا كان الطلب بصيغة الجُعالة فلا إشكال في كون المطلوب منه غيرَ ملزم بالحج عنه حتى لو كان قد قبل في حياة الجاعل القيام بالعمل.

مسألة 491: يجوز للوصي أن يوكل أمر تنفيذ الوصية ـ كلاً أو بعضاً ـ إلى غيره بالنحو الموافق للاعتبارات الشرعية ولرغبة الموصي، إلا أن يتعلق غرض الموصي بمباشرة الوصي نفسه لها؛ فسواء كانت الوصية مفصّلة أو كانت مجملة، فإنه يصحّ للوصي إيكال العبادات أو الكفارات أو العمارات أو غيرها إلى الخبير فيها؛ بل يجوز له أن يفوِّض أمر تنفيذ جميع الوصايا للمجتهد أو لغيره ممن هو أوفر وقتاً وأعرف من الوصي بوجوه الخير وبالشروط المعتبرة في مورد الصرف والوصول إلى الفقراء ونحو ذلك، فإن الوصاية إلى شخص هي في الحقيقة ولاية في التصرف ولو بواسطة الإيكال إلى الغير.

مسألة 492: تتحقق الخيانة من الوصي بتعدي الحدود التي رسمها له الموصي في الأمور التي يرجع أمر تحديدها له، سواء في أموره الشخصية أو في أمور الطاعات والقربات؛ وكذلك تتحقق الخيانة منه بتعدي الحدود التي رسمها الشرع في الأمور التي أوصى بها؛ وكذا تتحقق في عدم مراعاة مصلحة الموصي والقاصر ومجانبة الحكمة في تدبير الأموال وإدارة شؤون القاصرين؛ وحيث تظهر خيانته يسقط عن مقام الوصاية بالنحو الذي سنفصِّله بعد قليل.

مسألة 493: الوصيّ أمينٌ لا يضمن ما في يده من أموال الميت إلا مع التعدي أو التفريط؛ نعم، يضمن الوصي ـ إذا خان ـ ما يتلف تحت يده في ذلك العمل الذي خان فيه، لأن الخيانة نَفْسَها تعدّ، وأما الأعمال الأخرى التي لم يخن فيها فلا يضمن ما يتلف فيها إلا مع التعدي أو التفريط، إلا أن يخرج بخيانته عن الوصاية فيضمن ما تحت يده من الأموال ولو بدون تعدِّ ولا تفريط حتى يدفعها إلى من يعود إليه أمر تنفيذها، كشريكه في الوصية إن وجد أو الحاكم الشرعي؛ وكذا حكم من خرج عن الوصاية لفقدانه بعض شروطها، فإنه يضمن ما عنده حتى يدفعه لمن هو أولى به.

مسألة 494: إذا أسرف القيِّم في مصارفه على اليتيم كان ضامناً للمقدار الزائد عن المصروف المعتدل؛ وفي هذا الصدد، إذا ادّعى اليتيم بعد بلوغه الإسراف من القيم فالقول قول القيِّم مع يمينه؛ وإذا أنكر أن يكون القيم قد أنفق عليه، فكذلك يكون القول قول القيم مع يمينه؛ وكذا لو ادّعى عليه الخيانة، بأن باع ماله من غير حاجة ولا مصلحة؛ نعم لو اختلفا بعدما بلغ اليتيم فادعى القيم بأنه قد دفع إليه أمواله بعد بلوغه فأنكره اليتيم كان القول قول اليتيم مع يمينه.

المطلب الثالث ـ في حكم فقدان الوصي للشروط:

وفيه مسائل:

مسألة 495: إذا عجز الوصي عن تنفيذ الوصية لكبر أو مرض أو سفر أو غيرها من الأسباب التي تمنعه من المتابعة والإشراف على شؤون الوصية، ولو على جهة التوكيل والاستئجار، ضم إليه الحاكم من يساعده بالمقدار الذي عجز عنه.

مسألة 496: إذا خان الوصي بطلت وصايته إذا كانت مقيَّدة بأمانته، وصار أمر الوصية إلى الحاكم، فإن شاء عين وصياً غيره، وإن شاء تولّى الأمر بنفسه، وأما إذا لم تكن مقيدة بالأمانة فإنها لا تبطل بالخيانة، بل يضم إليه الحاكم أميناً يردعه عن الخيانة، فإن لم يمكن ذلك عزله ونصب غيره أو تولاها الحاكم بنفسه.

مسألة 497: إذا مات الوصي قبل تنفيذ الوصية، كلاً أو بعضاً، تولاها الحاكم بنفسه أو نصّب غيره مكانه، وكذا لو مات في حياة الموصي ولم يعلم بموته، أو علم بموته ولم ينصب غيره، ولم يكن ما يدل على عدوله عن أصل الوصية.

مسألة 498: إذا أوصى إلى العادل ففسق بطلت الوصاية له إذا كانت مقيدة بالعدالة وتولاها الحاكم الشرعي، وإلا بقي على وصايته بعد فسقه.

مسألة 499: يتولى الحاكم الشرعي أمر الوصية في كل مورد تكون فيه الوصاية معلقة على أمر فلا يحدث ذلك الأمر، وذلك كما لو جعل الوصي فلاناً إذا بقي على طلب العلم فلم يبق، أو فلاناً إذا بقي ساكناً في بلده فلم يبق، وهكذا ما أشبهه من الموارد.

مسألة 500: إذا أوصى الميت بوصاياه ولم يعين وصياً لتنفيذها كان وصيه الحاكم الشرعي.


 

 

الباب الرابع

في الوقف والحَبس

 

الفصل الأول: في الوقف

الفصل الثاني: في التحبيس وأخواته



 

 

تمهيد:

الوقف هو: (إخراج المالك العين عن ملكه وحبسها من أجل انتفاع الناس بها دون أن تكون للموقوف عليه سلطة نقلها عن ملكه)، وهو ما يختصره الفقهاء بقولهم: «الوقف هو: تحبيس الأصل وتسبيل الثمرة»، أي المنفعة. ويترتب على الوقف عند حصوله نوع من الملكية ليست في قوة الملكية التي تترتب على غيره من النواقل، كالبيع والهبة والوصية وغيرها، فإنَّ قصر الانتفاع بالعين على الموقوف عليه أشبه بالتخصيص منه بالتمليك، لكن رغم ذلك، فإننا سوف نعبِّر عنه بالتمليك جرياً على ما هو المألوف من عبارة الفقهاء في هذا الباب، ولأن بعض آثار الملكية تترتب على بعض أنواعه.

وكما لا يخفى، فإن الوقف هو نوع من الهبة لتلك العين ومنافعها، وهو من أجل ذلك يندرج في أبواب هذا المقصد؛ ولما كانت معظم الوقوف مما يقصد بها التقرب إلى الله تعالى، فإنها بذلك تصير قسماً من الصدقات، بل إن الغالب في الأخبار التعبير عن الوقف بالصدقة؛ وهو (الصدقة) الجارية التي ورد الحثّ عليها في الأخبار، والتي شاع منها ما عن النبي w أنه قال: «إذا مات المؤمن انقطع عمله إلا من ثلاثة؛ ولد صالح يدعو له، وعلم ينتفع به بعد موته، وصدقة جارية».

ثم إنّ الفقهاء قد ألحقوا بالوقف بحثاً اصطلحوا على تسميته بـ (التحبيس) ويراد به: (حبس المالك منفعة العين على شخص أو جهة مدة من الزمان من دون إخراج العين عن ملكه)، خلافاً للوقف الذي يؤخذ فيه التأبيد ويُخرج فيه المالك العين عن ملكه، وذلك كحبس سيارته وبذلها لخدمة زوار المراقد المطهرة للأئمة المعصومين i مدة من الزمان، أو حبس كتبه على طلاب حوزة علمية كذلك؛ ولكن الفقهاء اصطلحوا في ذلك بـ (السُكنى) على ما لو كانت العين المحبوسة داراً للسكن، فإن كانت مدة تحبيس الدار أو غيره على مدى العمر اصطلحوا عليه بـ (العمرى)، وإن كانت لما دون ذلك فهي (الرُقْبى)، وجميع ذلك متفرع على (التحبيس).

وعليه، فإننا سوف نعالج مباحث هذا الباب في فصلين: الأول: في الوقف، والثاني: في التحبيس.


 

 

الفصل الأول

في الوقف

 

المبحث الأول: في أقسام الوقف وصيغته

المبحث الثاني: في الواقف

المبحث الثالث: في العين الموقوفة

المبحث الرابع: في الموقوف عليه

المبحث الخامس: في كيفية التصرف في الوقف



 

 

المبحث الأول ـ في أقسام الوقف وصيغته:

وبيان ذلك في مطالب:

المطلب الأول ـ في أقسام الوقف:

لا يخفى أنه لما كان الهدف الأهم من الوقف هو تحقيق فائدة مستمرة للموقوف عليه من العين الموقوفة، فإن ذلك يعني عدم انفكاك الوقوف بأسرها عن لحاظ الموقوف عليه حين الوقف، بما في ذلك وقف مكان مسجداً أو مشهداً، رغم أن لحاظ الموقوف عليه في وقف غير المسجد أقوى من لحاظه في وقف المسجد، فمثلما يُلحظ انتفاع طلاب العلوم الدينية مثلاً عند وقف بناء مدرسةً فإنه يُلحظ انتفاع المصلين عند وقف بناءٍ مسجداً، والواقف في كلا الحالتين يريد «تمليك» منفعة هذا البناء للمستفيدين منه، وبذلك لا يكون فرقٌ في الأحكام التي تلحق الوقوف العامة بين المسجد وغيره، نعم تترتب على عنوان المسجدية أحكام خاصة به من غير جهة كونه وقفاً نذكرها لاحقاً، إضافة لما سبق ذكره منها في مبحث (مكان المصلي) في الجزء الخاص بالعبادات. (أنظر في ذلك المسألة 604 وما بعدها من الجزء الأول).

وعلى هذا الأساس، فإن أقسام الوقف، وخاصة من جهة تملك الموقوف عليه للعين والمنفعة معاً أو لإحداهما أو عدم تملكه لهما، هي ما يلي:

الأول: ما يكون وقفاً خاصاً، إما على إنسان، كوقف داره أو سيارته أو كتبه على شخص محدد، كزيد وذريته؛ وإما على شي‏ء، كوقف بستانٍ لهذا المسجد أو لهذا الميتم أو غيرهما مما يوقف على شي‏ءٍ معين.

مسألة 501: إن العين الموقوفة ومنافعها في هذا القسم تكون ملكاً للموقوف عليه إذا أطلق الواقف صيغة الوقف، فضلاً عما لو نص على تمليكهم، بل إن هذا النوع من الوقف يرتكز على تملك الموقوف عليه للعين والمنفعة معاً؛ وعليه فإن جميع آثار الملكية تلحق تلك العين الموقوفة ما عدا نقل نفس العين عن ملك الموقوف عليه، فتجب الزكاة في حصة كل واحد من الموقوف عليهم إذا بلغت حصته نصاباً، وكذا الخمس في النماء إذا اجتمعت شروطه، ويجوز له أن يبيع نماءها ويؤجر منفعتها ويرثها ورثتُه وغير ذلك من آثار الملك.

نعم إذا اشترط الواقف مباشرة الموقوف عليه للانتفاع، كأن يقف الدار على زيد ليسكن فيها بنفسه، أو البستان عليه ليأكل من ثمره، فإنه لا يجوز له إيجار الدار ولا بيع ثمر البستان للاستفادة من أجرة الدار أو ثمن الثمار.

الثاني: ما يكون وقفاً عاماً، وذلك إما على عنوان إنساني له أفراد على مدى الزمن، كالوقف على المرجع الأعلى أو على العلماء أو المسافرين أو الفقراء أو العابرين أو نحو ذلك؛ وإما على عنوان لا ينطبق على الأعيان، بل يراد منه إحداث فعل من أفعال الخير، وهو ما يصطلح عليه هنا بـ (الجهة)، مثل: وقف بستان لصرف نمائه في عزاء الإمام الحسين y أو لصرف نمائه في معالجة المرضى أو إطعام شخص معين أو الفقراء عامة أو تبليغ المذهب أو تعبيد طريق، أو نحو ذلك من المصالح العامة ووجوه الخير.

مسألة 502: العين الموقوفة في هذا القسم إذا كانت موقوفة على عنوان إنساني فإنها تكون ملكاً للموقوف عليهم، بما في ذلك مثل وقف مكان مسجداً أو مصلى أو مشهداً، وأما منافعها ونماؤها فتكون لها إحدى حالات ثلاث:

الأولى: أن يلحظ الواقف انتفاع الموقوف عليهم بأنفسهم من العين الموقوفة، كالصلاة في المسجد، والنوم في الفندق، أو استقاء العابر من البئر، ونحو ذلك من الأوقاف العامة المبذولة منفعتها للعموم من دون توسط أحد.

ومن الواضح أنّ مثل هذه المنفعة لا تجوز المعاوضة عليها، كأن يخلي مكانه في المسجد أو في الفندق مقابل عوضٍ معين، كما أن هذه المنفعة لا تورث، بل إنها حتى إذا كانت من نوع استقاء العابرين من البئر أو أكلهم من ثمرة البستان، أو نحوهما مما كان المبذول فيه نماؤها المنفصل، فإن المستفيد من العابرين ليس له إلا أن يأخذ من الماء ما يصرفه على نفسه، ولا أن يأخذ من البستان إلا ما يأكله، فلا يصح أن يبيع من الماء مقدار ما يحق له أخذه ولا من ثمار البستان ما كان يريد أن يأكله.

الثانية: أن يلحظ الواقف تمليك العنوان ويجعل ولياً على توزيعها على الأفراد الموجودين منه في كل زمان، كوقف ثمار البستان على علماء البلد مثلاً، وحينئذ فإن أفراد العنوان الموجودين لا يملكون حصتهم قبل دفعها لهم من قبل الولي، فإذا دفعها لهم ملكوها، وجاز لهم التصرف بها كما يشاؤون.

الثالثة: أن يلحظ الواقف ملكية أفراد العنوان الموجودين للمنفعة على نحو الإشاعة من دون توسط ولي، على أن يكون نماؤه ملكاً للموجودين منهم حين ظهور الثمرة، أو بكيفية خاصة.

وفي الحالتين الثانية والثالثة إنما يتم ذلك عند كون عدد أفراد العنوان محصورين بحيث يمكنهم الانتفاع من العين بالنحو المناسب بتوسط الولي أو بدونه.

مسألة 503: العين الموقوفة في هذا القسم الثاني إذا كانت على ما اصطلح عليه بالجهة، كمثل وقف نماء بستان ليصرف في إطعام زيد وعائلته، وهي جهة خاصة، أو في مثل: صرف نماء البستان لمعالجة المرضى، وهي جهة عامة، فإن العين ومنافعها تكون ملكاً لتلك الجهة إجمالاً، ولكن في مثل الصرف على إطعام زيد مثلاً، إذا كان مراد الواقف تمليكه النماء فإنه يلحقه حكم القسم الأول الذي يملك فيه الموقوف عليه العين ومنافعها وتترتب عليه جميع آثار الملك ما عدا المعاوضة على نفس العين، وإن كان مراده الصرف عليه من دون تمليك المنافع فإنه لا يملك حينئذ إلا الحصة التي يدفعها له الولي، فله أن ينقلها عن ملكه ببيع ونحوه، وتورث إذا مات عنها، وغير ذلك من آثار الملكية.

المطلب الثاني ـ في أركان الوقف:

وهي أمور:

الأول ـ الصيغة:

مسألة 504: الوقف من الإيقاعات لا من العقود، فيتحقق بمجرد إنشائه بالقول أو الفعل دون حاجة إلى قبول الموقوف عليه، سواء كان وقفاً خاصاً، كالوقف على ذرية شخص معين وما أشبهه، أو كان وقفاً عاماً، كالوقف على الفقراء، نعم إذا كان في حيثيات الوقف ما ينافي حق الغير كأن أوقف فراشاً ليفرش في دار زيد، أو مكتبةً لتوضع في المسجد، صح الوقف ولكنه لا ينفذ ولا يجوز العمل بمقتضاه إلا إذا أذن صاحب الدار في وضع الفراش فيها، أو أذن ولي المسجد في وضع المكتبة فيه، فإن لم يأذنا بطل الوقف حينئذ.

مسألة 505: لا يكفي في تحقق الوقف العزم القلبي عليه دون إظهاره بقول أو فعل، بل لا بد من إنشاء الواقف أو وكيله له بكل ما يظهر إرادته له والتزامه به، ويتحقق الإنشاء بأحد أمرين:

1 ـ بالقول: ويقع بكل لفظ يدل على الوقف، كمثل: (وقفت)، أو: (حبست هذه العين إلى الأبد)، أو: (جعلت هذا المال صدقة جارية مستمرة)، أو غير ذلك من الألفاظ المفيدة لمعنى إخراج العين عن ملك مالكها.

2 ـ بالفعل، مثل: كتابة نص الوقف والتوقيع على الورقة، أو دفع العين الموقوفة لمن يتولى الإشراف على الجهة الموقوفة عليها، كدفع الأثاث لولي المسجد أو خادمه ليضعه فيه، أو بتخلية العين الموقوفة وجعلها في معرض الانتفاع، كفتح أبواب المسجد للصلاة فيه، ونحو ذلك من الأفعال الدالة على إيقاع الوقف وإرادته.

مسألة 506: لا يشترط في تحقق الوقف قصد التقرب إلى الله تعالى، وإن كان قصد التقرب مدعاة لمزيد من الثواب عنده والزلفى لديه تعالى؛ هذا رغم أن بعض الوقوف لا يكاد ينفك عن قصد التقرب، كالوقف لشؤون الجهاد والعلماء وتبليغ الدين والفقراء والأيتام ونحو ذلك.

الثاني ـ التأبيد:

مسألة 507: يعتبر في الوقف التأبيد، فلو وقّته بمدة لم يقع وقفاً، بل يحمل على التحبيس ويصح بالنحو الذي صدر منه وتترتب عليه آثار التحبيس الآتية وأحكامه، إلا أن يريد به الوقف فيبطل.

مسألة 508: إذا وقف عيناً على من يتوقع انقراضه، كالوقف على زيد وأولاده المباشرين، لم يصح وقفاً لخلوه من التأبيد، ولكنه يصح حبساً إلى حين انقراض الموقوف عليه، وحينئذ فإن كان الواقف ما يزال حياً عادت العين إليه، وإن كان قد مات قبل ذلك ورثها من كان من ورثته حياً حين موته لا حين انقراض الموقوف عليه.

وأما إذا وقف على من لا يتوقع انقراضه فاتفق وقوع حادث عليهم استأصلهم جميعاً، فإن كان قد ظهر منه إرادة الوقف عليهم خاصة على نحو وحدة المطلوب فالحكم فيه كحكم الوقف على من يتوقع انقراضه، وإن كان قد أراد الوقف على نحو تعدد المطلوب، أي أراد التصدق بالعين أساساً وجَعلَها على هذا الموقوف عليه لأنه من مواردها، لا لخصوصية فيه، فإنه حينئذ لا يكون حبساً، بل يبقى الوقف ويستمر صدقة جارية، وتحول منافع العين الموقوفة إلى العنوان الأقرب فالأقرب للعنوان الموقوف عليه؛ وسيأتي مزيد تفصيل لأمثال هذه المسألة عند التعرض لمصير الوقف عند طروء خلل عليه.

مسألة 509: إذا وقف عيناً وشرط فيها ما قد ينافي التأبيد، كأن شرط عودها إليه عند حاجته إليها، لم يمنع ذلك من صحته وقفاً، فإذا احتاج إليها أخذها وبطل الوقف؛ ولو فرض بطلانه وقفاً صح حبساً رغم أنه قد لا يحتاجها مدة عمره، فلا يضر في صحته حبساً ـ حينئذ ـ كون المدة أزيد من عمر الحابس كما سنتعرض له في أحكام الحبس.

الثالث ـ التنجيز:

مسألة 510: يعتبر في صحة الوقف التنجيز، أي جعل العين في معرض الانتفاع الفعلي، فيبطل لو علقه على أمر مستقبل معلوم الحصول، كأن يقول: «داري هذه وقف إذا هل الهلال من الشهر الفلاني»، أو: «..إذا قدم المسافر»؛ وكذا إذا علقه على أمر حالي محتمل الحصول، كأن يقول: «داري وقف إن كان هذا الجنين ذكراً»، نعم إذا كان ذلك الأمر الحالي مما تتوقف عليه صحة الوقف فإن الظاهر الصحة،كأن يقول: «داري وقف إن كانت ملكاً لي»، ونحو ذلك.

مسألة 511: إذا أنشأ صيغة الوقف معلقة على وفاته، كأن يقول: «سيارتي هذه وقف على المجاهدين بعد وفاتي»، فإن قصد بها إنشاء الوقف الآن معلقاً على الموت بطل الوقف، وإن قصد بها الوصية بوقفها بعد موته صحت الوصية في الثلث ووجب تنفيذها بعد وفاته.

الرابع ـ كون الوقف على الغير:

مسألة 512: لا يصح الوقف على النفس مستقلاً ولا منضماً إلى الغير، كأن يقول: «داري هذه وقف عليّ وعلى ذريتي» أو كما لو وقف داره واشترط تأجيرها كي تصرف أجرتها في وفاء ديونه العرفية والشرعية بعد الموت، أو لتصرفَ على أداء العبادات الواجبة عليه، أو في قربات وطاعات مستحبة يُهدى ثوابُها إليه.

مسألة 513: إذا وقف عيناً بالنحو الموجب لتمليك المنفعة للموقوف عليه، كأن وقف داره على زيد وذريته مثلاً، واشترط عليه وفاء ديونه وعباداته وغيرها، أو اشترط عليه القيام بمؤنة ضيوفه أو زوجته وأولاده، من حاصل العين الموقوفة ونمائها، صح الوقف إذا كانت الصيغة واضحة في تمليك الموقوف عليه للنماء ثم صرفه في شروط الواقف، أما إذا كان مفاد الصيغة صرف النماء مباشرة في شروط الواقف قبل ملكية الموقوف عليه لها فالوقف غير صحيح؛ وكذا يصح الوقف بهذا النحو إذا كان قد اشترط على الموقوف عليه الصرف عليه من ماله لا من نماء العين الموقوفة.

وعلى هذا الأساس فإنه لا يصح للواقف استثناء شي‏ء لنفسه من نماء العين الموقوفة على الغير، كأن يجعل تمام البستان للموقوف عليه على أن يشاركه في أخذ ما ييبس من أشجاره مثلاً، كالسعف والغصون والأوراق، ونحو ذلك، لأنه من الوقف على النفس. وكذا لا يصح استثناء جميع منفعته لنفسه مدة معينة من الزمان كسنة، أو غير معينة كتمام عمره. أما أن يستثني شيئاً من العين حين وقفها فهو أمر آخر، إذ لا شك في جوازه كما سيأتي، لأن الجزء المستثنى غير موقوف بالأصل، فيصح أن يقف داره ما عدا غرفة منه، أو بستانه ما عدا شجرة أو أشجار، أو يقف شجرة عدا ما ييبس من غصونها وأوراقها، ونحو ذلك.

مسألة 514: إذا رغب الواقف في الاستفادة من العين الموقوفة بعد وقفها في الحالات التي حكمنا فيها بعدم جواز استفادته منها، أَمكنَهُ ذلك بإحدى طريقتين:

الأولى: أن يُملِّك العين لغيره بالهبة أو البيع المراد له جدياً، مشترطاً عليه أن يقفها ذلك الغير لمصلحة المالك الأول بالنحو الذي يريده.

الثانية: أن يؤجرها له مدة طويلة مشترطاً لنفسه حق الفسخ، ثم يقفها وهي مؤجرة للغير، فإذا فسخ الإجارة بعد مدة يعتد بها كسنة ونحوها، انتقلت المنفعة إلى الواقف بمقدار ما بقي من مدة الإجارة لا إلى الموقوف عليه، وبذلك يستفيد الواقف من العين الموقوفة مدة من الزمان يقضي بها حاجاته.

مسألة 515: يجوز لمن وقف مسجداً أو مدرسة أو بئراً على العابرين أو مكتبة على طلبة العلوم الدينية أو نحو ذلك من العناوين العامة التي يلحظ فيها استيفاء الموقوف عليهم للمنفعة بأنفسهم دون أن يتملكوها، يجوز له أن يستفيد من منافع العين الموقوفة بمثل الصلاة والمطالعة والاستقاء والتعلم، وهكذا أشباهها من العناوين العامة.

بل إن للواقف أن يستفيد من العين الموقوفة تمليكاً للغير في الحالات العادية التي يستفيد فيها غيره منها، كمثل نزوله ضيفاً على الموقوف عليه ونومه في الدار أو على الفراش الموقوف من قبله، وكمثل استعارته للعين الموقوفة لبعض الوقت، ونحو ذلك.

مسألة 516: إذا وقف المالك داره مثلاً على عنوان ليس له مصداق غيره، كأن أوقفه على عالم البلد، وكان هو عالم البلد الوحيد، لم يصحّ الوقف، وإلا صحّ.

الخامس ـ القبض:

مسألة 517: لا شك أن حصول القبض من قبل الموقوف عليه موجب لتحقق الوقف ولزومه، أما قبل القبض فإن الأحوط وجوباً في وقف التمليك عدم رجوع الواقف عنه أثناء حياته، وإذا مات وكان الورثة كباراً فإن الأحوط وجوباً تخليهم عن العين الموقوفة وإبقاؤها وقفاً، وإن كانوا صغاراً فالأقرب عدم نفوذ الوقف، واعتبارُها ميراثاً لهم.

أما الوقف العام فلا يشترط القبض في صحته وتحققه، ولا في لزومه، بل يتحقق وقف مثل المسجد أو المدرسة ويخرج عن ملك الواقف ويصبح لازماً بمجرد إنشائه حتى لو لم يصلِّ في المسجد أحد، أو لم يسكن المدرسة الداخلية ساكن أو يتعلم فيها متعلم.

مسألة 518: يتحقق قبض العين بحيازة الموقوف عليه لها وتسلطه عليها في المنقولات، ويتحقق في غير المنقول برفع الواقف يده عنها واستيلاء الموقوف عليهم عليها. ولا يشترط مباشرة الموقوف عليه للقبض، بل يكفي مع أهليته قبض وكيله، أو قبض وليه إذا كان فاقد الأهلية، وإذا كانت العين الموقوفة موجودة عند الموقوف عليه كفى ذلك في قبضها.

مسألة 519: إذا وقف على من هو ولي عليه، كوقف الأب على أولاده، أو الوصي على من له القيمومة عليه، وكانت العين تحت يد الولي، كفى ذلك في قبضها عمن هو مولَّى عليه، نعم إذا كانت عند غيره بوديعة أو عارية فإنه لا بد من أخذها منه ليتحقق قبضه عنه.

مسألة 520: إذا وقف على جماعة، فإن كانوا ذرية كفى قبض الموجود من الطبقة الأولى عمن سيوجد منها، فضلاً عن كفايته عن الطبقات التي ستوجد في مستقبل الزمان، بل يغني قبض واحد من الموجودين عن غيره من أفراد طبقته الموجودين معه إذا كان قبضه من حيث أنه واحد منهم لا بصفته الشخصية؛ وكذا إن لم يكونوا ذرية، كما لو وقف داره على علماء البلد، وكان منهم في زمانه ثلاثة، وإن كان لا ينبغي ترك الاحتياط في مثل هذه الصورة بقبض الجميع مباشرة أو بتوكيل واحد منهم.

مسألة 521: يتحقق القبض في الوقف على الجهات العامة رغم عدم اشتراطه باستخدام الموقوف فيما وقف له، كالمقبرة يُدفن فيها، والمسجد يُصلّى فيه، وذلك من دون حاجة إلى قبض الحاكم الشرعي؛ بل إنه إذا وقف شيئاً عليها، كالأثاث ونحوه، كفى في قبضه وضعه فيها بقصد استعماله؛ ومثله ما إذا أضاف شيئاً على بنائها أو رممه فإنه يكفي في قبضه مجرد قيامه بالعمل دون أن يقبضه منه قابض.

مسألة 522: لا يعتبر إمكان القبض حين الوقف، ولا كون العين الموقوفة تحت سيطرة الواقف، بل يكفي تحقق القبض بعد ذلك وإن كان متعذراً حين الوقف، فيصح وقف الحيوان الشارد والعين المغصوبة ونحوهما مما لا سيطرة للواقف عليه، وكذا يصح الوقف على الغائب والسجين ونحوهما ممن لا يستطيع القبض؛ غاية الأمر أنه يكمل الوقف بقبضهم ولو بعد مدة طويلة إذا ظلت الشروط متوفرة؛ بل إنه لا تجب الفورية في القبض حتى مع القدرة عليه حين الوقف.

مسألة 523: لا ينفك الوقف عن رضا الواقف باستخدامه فيما وقف له، فلا يحتاج قبضه من قبل الموقوف عليه بعد إنشاء الوقف إلى إذن الواقف، بل يجوز للموقوف عليه أن يبادر إلى استعماله في العنوان الموقوف له دون إعلام الواقف ولا استئذانه.

المطلب الثالث ـ في أثر الوقف ولزومه:

مسألة 524: إذا تم الوقف مستكملاً لشروطه صار لازماً، سواء قصد به القربة أو لا، فلا يصح للواقف الرجوع عنه وإعادته إلى ملكه، وإذا كان قد حدد له شروطاً وكيفية وموقوفاً عليه ثبت الوقف ولزم بالنحو الذي أوقفه، وحينئذ لا يجوز للواقف ولا لغيره تبديله ولا تغييره عن النحو الذي وقع عليه، ومن ذلك لزوم الاقتصار على الموقوف عليه، فلا يجوز إخراج الداخل منهم ولا إدخال أجنبي معهم إلا أن يكون قد اشترط لنفسه إدخال من شاء معهم أو إخراج من شاء منهم، فيصح ذلك منه حينئذ، وينفذ تصرفه على حسب الشرط مدة حياته، فإن مات استقر الوقف على النحو الذي مات عليه.

مسألة 525: إذا كان غرض الواقف من الوقف حصول شي‏ء، كأن أراد من وقْف داره مثلاً على أولاده أن يستعينوا به على طلب العلم، فإذا لم يتحقق غرضه لم يبطل الوقف ما دام لم يشترط ذلك على الموقوف عليه، كما سيأتي.

المطلب الرابع ـ في ما يثبت به الوقف:

مسألة 526: يثبت كون الشي‏ء موقوفاً بأمور:

الأول: بالعلم أو الاطمئنان الحاصل من كل سبب، ولو من الشياع واشتهار الوقفية.

الثاني: بالبينة الشرعية، وهي شهادة العدلين به.

الثالث: بإقرار من بيده العين الموقوفة بوقفيتها، فإن كانت العين تحت يد شخص واحد وأقر بالوقف، أو كانوا أكثر وأقرّوا به جميعاً، ثبت الوقف في جميع العين، وإن أقرّ به بعضهم ثبت الوقف في ا لعين بمقدار حصته فيها ولو لم يعترف غيره بها.

ولا فرق في حجية إخبار ذي اليد وثبوت الوقف بإقراره بين أن يكون إخباراً بأصل الوقف وبين أن يكون إخباراً بكيفيته، كأن يخبر بأنه تشريكي أو ترتيـبي، وأنه للذكور فقط أو أنه للذكور والإناث، وأنه على نحو التساوي أو الاختلاف؛ كما أنه لا فرق في الإخبار بين أن يكون بالقول وبين أن يكون بالفعل، كما إذا كان يتصرف فيه على نحو الوقف، وبكيفية خاصة من كيفيات الوقف، فإن تصرفه هذا إذا كان ظاهراً في الإخبار عن حاله وأنه وقف كان حجة في إثبات الوقفية كخبره القولي.

الرابع: بالكتابة المفيدة لكونه وقفاً، وهي كافية بمجرد وجودها على كتاب أو على مدخل بناء أو غيرهما، فضلاً عما لو كان المكتوبُ وثيقةً موقّعةً من الواقف وتتضمن اعترافاً منه بوقف شي‏ء من ماله، سواء في ذلك ما لو كانت للحي أو كانت قد وجدت في تركة الميت.

مسألة 527: إذا وجد شي‏ء عند شخص مكتوب عليه أنه وقف، فأنكر أن يكون وقفاً واعتذر عن الكتابة الموجودة بعذر مقبول، ولم تكن هناك قرينة دالة على الوقفية مما هو المتعارف في العين الموقوفة، فلا يحكم بوقفيته، ولكن الاحتياط بمعاملته معاملة الموقوف مما لا ينبغي تركه.

المبحث الثاني ـ في الواقف:

وفيه مسائل:

مسألة 528: يعتبر في الواقف أن يكون جائز التصرف بالبلوغ والعقل والاختيار وعدم الحجر عليه لسفه أو فلس، فلا يصح وقف الصبي وإن بلغ عشراً إلا أن يأذن وليه ويكون للصبي مصلحة ترتجى من ذلك الوقف، نعم تصح منه الوصية بالوقف بعد وفاته إذا كان حين الوصية قد بلغ عشر سنين.

ثم إنه إذا كان المالك مكرهاً حين صدور الوقف منه، لم ينفذ وقفه إذا صدر منه الرضا بعد زوال الإكراه، وكذا إذا أوقف حال صغره أو جنونه ثم رضي هو أو وليه بعد ذلك، فإنه لا بد في الجميع من تجديد إنشاء الوقف بعد توفر الشرط وزوال المانع.

مسألة 529: يصح الوقف بجميع أقسامه من المريض في مرض الموت ولو كان أزيد من الثلث، أو كان بداعي الإنقاص من حصص الورثة والإضرار بهم، وإن كان ينبغي للمؤمن التنزه عن ذلك ومعاملة إخوانه، فضلاً عن ذوي القربى، بالصفح والتسامح والإحسان.

مسألة 530: لا يشترط الإسلام في الواقف، فيصح الوقف من الكافر إذا كان واجداً لسائر الشروط المطلوبة في شرعنا، فإن وقف على ما لا يحل عندنا، لم يصح وقفه إذا أسلم فيما بعد؛ هذا، ولا يلزم المسلم بمعاملة وقوفات الكافر معاملة الوقف، بل يصح شراؤه مثلاً منه إذا كان بيعه جائزاً عندهم، بلحاظ قاعدة الإلزام.

مسألة 531: (الفُضولي) مصطلح يطلق على غير المالك إذا أنشأ معاملة لمصلحة المالك دون علمه؛ وقد حُكمَ بصحة عمله إذا تعقبه رضا المالك في بعض المعاملات، كالبيع وغيره، والأقوى صحته في الوقف أيضاً، فإذا وقف غير المالك نفذ وقفه بإمضاء المالك.

المبحث الثالث ـ في العين الموقوفة:

وفيه مسائل:

مسألة 532: يجب أن يتوفر في العين الموقوفة أمور:

الأول: أن تكون عيناً، فلا يصح وقف المنفعة وحدها بدون العين.

الثاني: أن تكون موجودة حين إنشاء الوقف أو تابعة لموقوف موجود، كوقف هذه الشجرة، أو وقف الشجرة أو البهيمة مع نتاجها المتجدد من غرس وولد، فلا يصح وقف المعدوم،كولد البهيمة قبل وجوده، والبيت قبل بنائه، والشجرة قبل نباتها، ونحو ذلك، نعم لا يبعد الحكم بصحة وقف الموجود قبل اكتمال وجوده مع الاطمئنان باكتماله في وقته المحدد، كوقف الحمل قبل أن يولد، أو الدار قبل اكتمال بنيانها، ونحوهما، وإلا لم يصح.

الثالث: أن يكون لها تشخص في الخارج، أي وجود محدد يُشار إليه ويُحسُّ به، فلا يصح وقف ما له وجود «كُلِّي» غيرُ محدد، سواء كان ديناً في ذمة الغير، كأن يكون له في ذمة غيره ثوب أو سيارة أو شاة أو نحو ذلك فيوقفها قبل قبضها من الدائن، أو كان فرداً غير معين في مجموع كلي، كشاة من هذا القطيع، أو ثوب من هذه الثياب، فإنه لا يصح وقف الدين ولا وقف غير المعين إلا بعد وجوده خارجاً وتعينه في فرد منظور، كهذه الدار، وهذا الثوب، ونحوهما. هذا، ولا تعد الحصة المشاعة غير معينة أو غير مشخصة، بل لها وجود شخصي مع غيرها، فيجوز وقفها بلا إشكال.

الرابع: أن تكون معينة، فلا يصح وقف المردد، كأن يقول مَنْ عنده داران: «وقفت هذه الدار أو هذه الدار».

الخامس: أن تكون المنفعة المرجوة من العين محللة، فلا يصح وقف آلات القمار ورموز العبادة المحرمة إذا انحصرت فائدتها في الحرام، وكذا لا يصح وقف ما هو محلل ليستخدم في الحرام، كأن يقف الدابة من أجل أن يستخدمها الظالم في ظلمه، أو السلاح من أجل قتال المؤمنين والبغي عليهم، ونحو ذلك.

السادس: أن تكون لها منفعة قابلة للتحصيل مع بقاء عينها، كالشجرة يُنتفع بظلها وثمرها، والبهيمة بركوبها أو لبنها وولدها وصوفها، والحلي في التزين بها، ونحو ذلك، فلا يصح وقف ما يستلزم الانتفاع به إتلاف عينه، كالطعام والفواكه والصابون.

أما النقود فإنه لا يصح وقفها لصرفها في مثل الإقراض ونحوه، فإنها وإن بقيت قيمتها لا تبقى عينها، نعم يصح وقفها للتزيين بها أو لإبقائها تراثاً في متحف ونحوه.

هذا ولا يشترط في بقاء العين الديمومة، بل يصح وقف ما هو أقل بقاءً من مثل الدار، كالثياب والبساتين والأشجار ونحوها؛ كذلك فإنه لا يشترط فعلية الانتفاع، فيكفي صلاحها للانتفاع ولو بعد مدة، كالشجرة الصغيرة التي لم تثمر بعد، أو الدابة الصغيرة التي لا تصلح للحمل أو الاستيلاد، أو المال المغصوب، أو نحو ذلك.

السابع: أن تكون العين مملوكة للواقف، فلا يصح وقف مال الغير إلا أن يأذن بعد ذلك، ولا وقف مثل كلب الهراش، ولا المباحات الأصلية قبل حيازتها، كشجر هذه الغابة، أو مياه هذا النبع، ولا الأرض الموات قبل إحيائها ولو بمثل التحجير، نعم المال المختص بجهة، كمال الزكاة أو الخمس من سهم الإمام، يجوز لمالك العين التي يريد دفعها زكاة أن يقفها على مصارفها، وكذا يجوز للحاكم الشرعي أن يقف مال الزكاة ومال سهم الإمام r على مصارفهما؛ وكذلك يجوز للحاكم الشرعي وقف الأرض الموات، ومياه النبع، وشجر الغابة، ونحو ذلك مما يدخل تحت عنوان المباحات الأصلية والأراضي الموات أو العامرة بالذات.

مسألة 533: يجوز وقف البستان مثلاً واستثناء نخلة منه، وحينئذ يجوز له الدخول إليها بمقدار الحاجة، وليس للموقوف عليهم قلعها، نعم إذا انقلعت من نفسها لم يكن له حق في الأرض، فلا يجوز له زرع غيرها في مكانها؛ وكذا يجوز وقف الدار واستثناء غرفة منه، فإذا انهدمت جاز له تجديدها لأنه يملك الأرض مع الغرفة.

مسألة 534: ما يكون على العين الموقوفة حين وقفها، مثل الثمر على الشجرة، والصوف على الشاة، والحمل الذي في بطنها، يكون عرفاً تابعاً للعين الموقوفة إلا إذا قصد الواقف إخراجه عن الوقف وصرح بقصده أو قامت قرينة عليه.

المبحث الرابع ـ في الموقوف عليه:

وفيه مطلبان:

المطلب الأول ـ في شروطه:

وفيه مسائل:

مسألة 535: يعتبر في الموقوف عليه أمور:

الأول: أن يكون الموقوف عليه موجوداً فعلاً أو سيوجد في المستقبل، وذلك في قبال المعدوم المحض الذي لا يرجى انتفاعه بالموقوف، كمثل الوقف على زيد الذي مات قبل الوقف عليه، أو الوقف على من سيوجد من أولاد زيد الذي مات بدون عقب؛ فيما يصح الوقف الخاص على فرد أو جماعة أو جهة موجودة فعلاً أو ستوجد في المستقبل، كالوقف على الحفيد الذي يرجى وجوده، أو الحمل الذي يرجى تولده حياً، أو على المسجد الذي سيبنيه زيد، أو نحو ذلك، سواء كان مفاد الوقف هو صرف المنفعة عليهم أو تمليكهم إياها؛ وعلى كل حال؛ فإنه لو وقف على الموجود والمعدوم في صيغة واحدة، ثم اشترط انحصار الوقف بمن سيوجد بعد وجوده صح الوقف بلا إشكال.

أما الوقف العام فإن الأمر فيه أوضح منه في غيره، وخاصة فيما كان يراد به الانتفاع المباشر، فإن وجود الموقوف عليه الفعلي والمستقبلي ليس شرطاً في صحة الوقف؛ لأن الملحوظ هو العنوان العام متى اتفق وجوده، وبأي نحو كان ذلك الوجود، والمعدوم المحض وإن كان متصوراً في العنوان العام، إلا أن الوقف عليه عبث موجب لبطلانه، كمثل ما فرضناه في الوقف الخاص.

الثاني: أن يكون معيناً، فلا يصح الوقف على المردد، كالوقف على العلماء أو الفقراء، أو الوقف على أحد المسجدين، نعم إذا كان مراده التخيير بينهما في الصرف، أو الصرف على كل منهما عند الحاجة فإنه لا يكون مردداً حينئذ؛ وكذا لا ينافي التعيين ما لو وقف على عنوان له أكثر من فرد، كما لو وقف نماء داره ليصرف مثلاً في الإعلام الإسلامي الشامل للوسيلة المرئية والمسموعة والمقروءة، أو نحو ذلك.

الثالث: أن يكون محللاً، فلا يجوز الوقف لترويج الباطل ونشر الفساد والرذيلة، ونحو ذلك.

مسألة 536: لا يشترط كون الوقف على المسلم، بل يصح للمسلم أن يقف على الكافر إن كان من أقربائه، كأبويه أو إخوته مثلاً، وأما غيرهم فإن الوقف عليهم صحيح وجائز إذا لم يكن مصداقاً للمُوادَّة، بل كان بلحاظ العناوين الإنسانية أو الخيرية الراجحة في الإسلام بشكل عام، وكان فيه مصلحة أو خصوصية تبرره.

المطلب الثاني ـ في تحديد معاني ألفاظ ترجع للموقوف عليه:

وتفصيلها في مسائل:

مسألة 537: إذا وقف على «المسلمين» كان لمن يعتقد الواقف إسلامه، فلا يدخل في الموقوف عليهم من يعتقد الواقف كفره وإن أقر بالشهادتين، ويعم الوقف المسلمين جميعاً الذكور والإناث والكبار والصغار.

وإذا وقف على «المؤمنين» اختص الوقف بمن كان مؤمناً في اعتقاد الواقف، فإذا كان الواقف اثني عشرياً اختص الوقف بالاثني عشرية من الإمامية إذا كان ملتفتاً إلى هذه الخصوصية في المصطلح الخاص، ولا فرق بين الرجال والنساء والأطفال والمستضعفين، ولا بين العدول والفساق، وكذا إذا وقف الاثنا عشري على «الشيعة»؛ نعم إذا كان الواقف على الشيعة من بعض الفرق الأخرى من الشيعة فالظاهر من الشيعة العموم للاثني عشرية وغيرهم ممن يعتقد الخلافة لعلي y بلا فصل.

مسألة 538: إذا وقف مسلم على الفقراء أو فقراء البلد فالمراد فقراء المسلمين، وإذا كان الواقف من الشيعة فالمراد فقراء الشيعة، وإذا كان كافراً فالمراد فقراء أهل دينه، فإن كان يهودياً فالمراد فقراء اليهود وإن كان نصرانياً فالمراد فقراء النصارى وهكذا، وكذا إذا كان سنياً فالمراد فقراء السنة، وإذا كان السنيون على مذاهب بحيث لا يعطف بعضهم على بعض اختص بفقراء مذهب الواقف، وهذا كله بلحاظ القرينة الحالية المحيطة بالواقف، أو الانصراف للحالة الخاصة بحسب العرف العام.

مسألة 539: إذا قال: «هذا وقف على أولادي»، أو: «..على ذريتي»، فهو وقف على الذرية على مدى الزمن، فيشمل أولاده وأولادهم جيلاً بعد جيل، كذلك فإنه يشمل الذكر والأنثى والخنثى، إلا أن يكون المراد به في عرف بعض البلدان خصوص الذكر فيختص به دون الأنثى، وكذلك الأمر في الأجيال المتعاقبة من الذرية، فإن المراد من كل جيل ما يعم الذكر والأنثى.

وإذا قال: «هذا وقف على الذكور من أولادي» واقتصر عليه أو أضاف إليه قوله: «..نسلاً بعد نسل»، أو قال: «..طبقة بعد طبقة»، فالمراد به الذكور من ذريته الذكور، ولا يشمل الذكور من الإناث.

مسألة 540: إذا وقف على «أجداده» فمراده جداتُه أيضاً، كما أن مراده أجدادُه لأبيه وأجدادُه لأمه؛ وإذا وقف على «إخوته» فمراده خصوص الذكور منهم، لأبوين كانوا أو لأب أو أم، فلا يشمل أولادهم ولا الأخوات؛ وإذا وقف على «إخوته نسلاً بعد نسل» فمراده ما يعم الذكور والإناث من أولاد إخوته الذكور؛ وإذا وقف على «أعمامه وأخواله» اقتصر على الذكور من أخواله وأعمامه المباشرين، لأب وأم كانوا أو لأب أو أم، فلا يشمل غير المباشرين منهم، كأعمام وأخوال أبيه وأمه، ولا العمات والخالات.

مسألة 541: إذا وقف على «أرحامه» أو «أقاربه» فالمرجع فيه من يشملهم هذا العنوان عرفاً، وإذا وقف على «الأقرب ثم الأقرب»، كان الميزان في الأقربية طبقات الميراث.

مسألة 542: إذا وقف على «العلماء» فالظاهر منه في المجتمعات الإسلامية بلحاظ الانصراف علماء الشريعة لا علماء الطب والهندسة وغيرهما إلا أن تقوم قرينة على الشمول.

وإذا وقف على «أهل البلد» اختص بالمنتسبين إليها من أبنائها ولو كانوا غير ساكنين فيها، وخاصة إذا كانوا يترددون عليها في بعض الأوقات، فلا يشمل المسافرين القادمين إليها ولو نَووْا فيها الإقامة مدة من الزمن.

وإذا وقف على «الزوار»، أو «على من يزور المشهد»، فالظاهر الاختصاص بغير أهل بلد المقام ممن يأتي من الخارج للزيارة.

وإذا وقف في «سبيل الله»، أو في «وجوه البر»، فالمراد منه ما يكون قربة وطاعة لله تعالى.

المبحث الخامس ـ في كيفية التصرف في الوقف:

لا يخفى أنه إذا تم الوقف لزم الاقتصار في الانتفاع به على الحدود التي رسمها الواقف وبالكيفية التي نص عليها، وفي هذا الصدد، فإن الواقف قد يجعل ولياً ويعطيه صلاحيات معينة بحيث يجب على المنتفع مراعاتها، وقد يطلق الوقفَ من هذه الجهة فيكون المنتفع حراً في الانتفاع به إلا أن يتدخل الحاكم الشرعي لتنظيم أمر الوقف فيجب حينئذ مراعاة أمره فيه، فهنا ثلاثة مطالب:

المطلب الأول ـ في ولي الوقف:

وفيه مسائل:

مسألة 543: لا بد للوقف إجمالاً من ولي يشرف عليه ويحفظه ويصرفه في مصارفه، والواقف أولى بذلك من غيره، فإن جعل نفسه أو غيره ولياً كان هو الولي، وإن لم يجعل ولياً، فإن كان الوقف على نحو التمليك وكان الوقف خاصاً فالولاية للموقوف عليه، وإذا لم يكن الوقف خاصاً، أو كان خاصاً ولم يكن على نحو التمليك بل على نحو الصرف، فالولاية للحاكم الشرعي.

مسألة 544: يجوز للواقف أن يجعل الولاية على العين الموقوفة لنفسه ولغيره بالنحو الذي يريده، زماناً وكيفية؛ وحينئذ فإن له أن يقتصر على ولي واحد تكون له الاستقلالية بالتصرف، كما أن له أن يشرك معه غيره، واحداً أو أكثر، إما بالتنفيذ وإما بالنظارة، وذلك بالكيفية التي يريدها لذلك الشريك أو الناظر، فقد يرى أن يشركه في القيام بجانب معين من شؤون الوقف، أو في جميع الجوانب، وقد يرى أن يكون ناظراً مراقباً بحيث لا يتم عمل إلا بعلمه، وقد يرى أن يكون ذلك الناظر أكثر من مراقب، بحيث يجعله مشيراً وشريكاً في الرأي للولي، أو غير ذلك من الكيفيات التي تختلف باختلاف الحالات والأشخاص.

مسألة 545: لا يجب على المجعول ولياً قبول الولاية، كذلك فإن صيرورته ولياً لا تتوقف على قبوله، فإذا عين الواقف ولياً صار ولياً ولو لم يصدر منه القبول، بل لا تبطل ولايته بمجرد الرد، فإنه إذا قبلها بعد ذلك ثبتت ولايته بالجعل الأول، كما أنه إذا قبلها لم يكن له ردها ولزمت.

مسألة 546: لا يشترط أن يكون جعل الولي مقترناً بإنشاء الوقف، فإذا كان من نيته جعل ولي فأخره عن إنشاء الوقف لسبب أو بدونه صح منه ذلك الجعل المتأخر ولزم، وكذا لو كان غافلاً عن ذلك حين إنشاء الوقف ثم التفت بعده، أما إذا كان قاصداً لعدم جعل الولي فلم يجعله حين إنشاء الوقف فليس له بعد ذلك أن يجعل نفسه ولياً ولا غيره؛ وإذا جعل ولياً فليس له أن يعزله عن الولاية إلا إذا اشترط لنفسه أنه متى أراد أن يعزله عزله، كما أنه يجب على الجاعل وعلى غيره الاقتصار على ما رسمه في كيفية الولاية وحدودها عندما أنشأها، فلا يتدخل بعد ذلك في ولايته سعة ولا ضيقاً.

مسألة 547: لا يشترط في الولي أكثر من أن يكون جائز التصرف بالبلوغ والعقل والرشد، فلا يشترط فيه الإسلام ولا العدالة، بل يكفي أن يكون ممن يملك إدارة الوقف ولو بالتعاون مع أهل الخبرة، وأن يكون موثوقاً به في رعاية شؤون الوقف، ولا سيّما في الأوقاف العامة، وكذا الأمر في الناظر.

مسألة 548: تتسع ولاية الولي المجعول وتضيق على مقتضى ما يرسمه الواقف، فإن لم يرسم حداً للولاية وجب على الولي القيام بشؤون العين المولَّى عليها بما يحفظها من التلف وبما يكفل استمرارها في صلاحية الانتفاع منها بالنحو المناسب، وبتسهيل انتفاع الموقوف عليهم منها بالنحو الذي وقفت عليه، وليس لغيره مع تصديه أن يتولى شيئاً من أمورها بدون إذنه حتى لو كان في تصرفه صلاح الوقف إلا في صورة ما لو كان الولي هو الحاكم الشرعي، وكان تصدي غيره صلاحاً محضاً؛ نعم ليس للولي المجعول، بل ولا للحاكم الشرعي، منع الموقوف عليهم من الانتفاع بالعين فيما وقفت عليه، كما أنه لا يجب على الموقوف عليه استئذانه من أجل ذلك، وذلك كما في انتفاع المصلين من المسجد والمستقين من البئر والمسافرين من الفندق، ونحو ذلك.

وفي المورد الذي تكون فيه الولاية للموقوف عليه، ويكون الوقف ذرياً، فإن على كل جيل من الذرية أن يراعي في تصرفه مصلحة الأجيال المقبلة مثل مراعاته مصلحة الجيل الموجود، فليس للجيل الموجود أن يؤجر العين الموقوفة مثلاً مدة تزيد عن أعمار الموجودين من أفراده، لما فيه من إلزامٍ للجيل التالي بأمر قد لا يكون فيه مصلحة لهم؛ نعم إذا كان في ذلك مصلحة للوقف، وكان المؤجر هو الولي، فلا ضير فيه.

مسألة 549: إذا جعل الولاية لاثنين أو أكثر على نحو الاشتراك ومات أحدهما، فإن كان وجود ذلك الشريك الذي مات مأخوذاً على نحو القيد الذي تدور الولاية مداره وجوداً وعدماً بطلت ولاية الحي بموته، وإلا ضم إليه الحاكم بديلاً عنه وصحت ولايتهما.

مسألة 550: لا يجب على الولي مباشرة الإدارة ولا القيام بأعمال الولاية بنفسه، بل إن له أن يوكل من يقوم بها نيابة عنه، سواء في ذلك الحاكم الشرعي وغيره، فإذا انعزل الأصيل أو مات بطلت قيمومة ذلك الوكيل على الأوقاف، نعم إذا كان الولي مجعولاً من الواقف وكان قد لحظ في توليته تفويضه نصب قيم على الوقف فإنه لا ينعزل القيم بانعزال الولي أو موته.

مسألة 551: يجوز للواقف أن يجعل للولي شيئاً من نماء العين الموقوفة في مقابل قيامه بشؤون الولاية، سواء أكان بقدر أجرة المثل أم أكثر أم أقل، وحينئذ لا يجوز له أن يأخذ أكثر مما جعل له بعد قبوله به حتى لو كان أقل من أجرة المثل بكثير؛ أما إذا لم يجعل الواقف له أجرة فإنه يجوز له أن يأخذ من نماء الوقف مقدار أجرة مثل عمله إن كان للعمل أجرة عند العرف، كمثل فلاحة الأرض وقطاف الثمرة ونحو ذلك، وإلا لزم قيامه به مجاناً، كمثل إنارة المسجد ورفع الأذان فيه ونحو ذلك، وكذا يجب عليه القيام بالعمل مجاناً إذا كان قد شرط عليه المجانية وقبل الولي شرطه، فإن لم يكن قد قَبِلَ شرطه، وكان الوقف لجهة، كان على الحاكم الشرعي أن يجعل له أجرة.

مسألة 552: إذا لم يقم الولي المجعول بشؤون ولايته خيانة منه لما ولي، أو عجزاً منه عن إدارته بالنحو اللازم، أو لامتناعه عن القيام بها لسبب قاهر أو تكاسلاً منه وإهمالاً، فإن كان الواقف قد عين له خلفاً كان هو الولي، وإلا فإن أمكن معالجة الأمر مع الاحتفاظ بالولي عالجه الحاكم الشرعي، فيجعل مع الخائن من يمنعه من الخيانة، ومع العاجز من يساعده فيما يعجز عنه إن كان فيه بقية قدرة، كذلك يعالج الحاكم أمر الممتنع بإزالة سبب امتناعه إن أمكن، كأن يكون سبب امتناعه مطالبته بالأجرة فيجعل الحاكم له أجرة؛ وإن لم ينقض الأمر بالمعالجة، بل استلزم تعيين ولي غيره، بطلت ولاية الولي المنَصَّب، ولحقه الحكم الذي سبق ذكره للوقف الذي لا ولي له، فيكون وليُّه الموقوفَ عليه إن كان خاصاً، أو الحاكم الشرعيَّ إن لم يكن كذلك.

مسألة 553: قلنا فيما سبق: «إن الواقف لا يحق له أن يعزل الولي بعد تعيينه»، لكنه إذا كان قد ذكر له أوصافاً، أو شرط فيه شروطاً، ففقدها، كأن جعلها للأرشد فصار غيره أرشد منه، أو جعلها له ما دام متلبساً بزي أهل العلم فنزعه، أو ما دام عادلاً ففسق، أو نحو ذلك، انعزل بفقدها وبطلت ولايته، وصار وليه الموقوف عليه أو الحاكم الشرعي بالنحو الذي سبق ذكره.

المطلب الثاني ـ في كيفية التصرف:

لقد صار واضحاً من خلال بعض ما سبق أن الوقوف على ما وقفها أهلها، فإذا رسم الواقف حداً لكيفية التصرف كان هو المتّبع، سواء في إطار صلاحيات الولي أو في إطار انتفاع الموقوف عليهم، غير أن الواقف قد لا يُفصِّل كيفية التصرف ولا يرسم له حداً، فيحتاج الأمر حينئذ إلى بيان ما له علاقة بذلك في هذه المسائل:

مسألة 554: إذا كان للعين الموقوفة منافع مختلفة وثمرات متنوعة فجميعها للموقوف عليه مع إطلاق الوقف، فإذا وقف شجرة مثلاً كانت ثمرتها ومنفعة الاستظلال بها والأغصان اليابسة والغرس الذي ينبثق عنها ونحو ذلك من منافعها ووجوه نمائها المنفصل جميعها للموقوف عليه، فلا يجوز للمالك ولا لغيره التصرف فيها خارج الحدّ المرسوم لها في وقفيتها.

غير أنه لو فرض أن غرساً منها تركه الموقوف عليه حتى نما وصار شجرة، أو قلعه وغرسه في موضع آخر حتى صار شجرة، فإنه لا يكون وقفاً ولا تلحقه أحكام العين الموقوفة، بل يجوز بيعه وصرف ثمنه في الموقوف عليه بالنحو المراد للواقف؛ وكذلك حكم ما لو قطع بعض الأغصان وغرسها فصارت شجرة.

مسألة 555: لا يجوز تغيير العين الموقوفة عن عنوانها الذي وقفت له إذا عُلم من الواقف إرادة بقاء عنوانها إلى الأبد، فإذا وقف بناءً للسكن فيه لم يجز تحويله دكاناً مثلاً، وإذا أوقفه للإجتماعات العامة لم يجز جعله مكتبة للمطالعة أو مستودعاً للبضائع، وذلك دون فرق بين ما لو كان الواقف قد نصّ عليه وبين ما يكون قد فهم من قرائن خارجية، بل لا يجوز التغيير عمّا يحتمل إرادته له ورغبته فيه إذا لم يكن في كلامه تعميم يضعف ذلك الاحتمال، فإن لم يكن شي‏ء من ذلك وأطلق الوقف جاز استخدام الموقوف في غير عنوانه القائم فيه حين الوقف؛ وكذا يجوز التغيير في حال كان الهدف من عنوانه الذي وُقِفَ عليه كثرةَ المنفعة التي كان يجلبها حين الوقف، فإذا قَلَّت المنفعة جاز تغييره لما هو أكثر نفعاً، وإلا لم يجز.

مسألة 556: الشروط المشروعة التي يشترطها الواقف تصح ويجب العمل بها، فإذا اشترط أن لا يؤجر الدار مثلاً أكثر من سنة، أو أن لا يؤجر لغير طلبة العلم، لم تصح إجارته أكثر من سنة أو لغير طلبة العلم، وهكذا.

كذلك فإن كل شرط يشترط في الموقوف عليه فيفقده يخرج بفقده عن أهلية الانتفاع بالعين الموقوفة، كما إذا وقف داره على المحصلين من طلبة العلوم، ففقد ساكنها هذه الصفة بعد وجدانها لم يجز له الاستمرار في سكنها، وكذا لو كان الشرط عملاً مطلوباً من الساكن، كأن يشترط عليه قيامه لصلاة الليل، فإنه إذا لم يقم لها يخرج من الوقف أيضاً، وهكذا أمثال ذلك.

مسألة 557: إذا اشترط الواقف مباشرة الموقوف عليهم للانتفاع من العين الموقوفة، كأن يشترط عليهم سُكنى الدار بأنفسهم، وجب عليهم الوفاء بالشرط وترك القيام بما ينافيه، فإذا لم يسكنوا فيها وآجروها بطلت الإجارة؛ نعم لو فرض عدم تمكنهم من الانتفاع بالدار لهجرتهم عن بلدهم، أو لضرر أو حرج مترتب على السكن فيه، فإن كان قيد المباشرة غير أصيل في الوقف، بنحو لا يدور الوقف مداره وجوداً وعدماً، وهو ما يصطلح عليه بـ (تعدد المطلوب)، جاز لهم الانتفاع به بغير ذلك من الوجوه، وإلا بطل الوقف ورجعت العين الموقوفة إلى ورثة الواقف.

مسألة 558: الموقوف على عنوان عام، كالمساجد والمكتبات ونحوها، يجوز الانتفاع به في غير الموقوف لأجله إذا لم يكن منافياً ولا مضراً بالعنوان الأصلي، فمثل المسجد لا يحرم التواجد فيه لغير العبادة كالاستلقاء أو إعطاء الدروس ونحو ذلك ما دام لا يزاحم حق المصلين في صلاتهم فيه، وهكذا غير المسجد مما يشبهه، والمسجد وإن تميز ببعض الأحكام الخاصة به، لكنه لا يختلف من جهة الوقف عن حكم غيره من الأعيان التي وقفت وقفاً عاماً (أنظر في ذلك: الجزء الأول، مسألة 604 وما بعدها، وهذا الجزء الثاني، مسألة 57 وما بعدها).

مسألة 559: لا يمنع من قسمة العين المشتركة على نحو الإشاعة كون جزء منها موقوفاً وجزء منها ملكاً طلقاً (أي غير موقوف)، فيتولّى القسمة مالك الجزء الطلق ومتولي الوقف، سواء كان مالك الطلق هو الواقف، كما في مثل ما لو وقف مالك الدار نصفها، أو كان غيره هو الواقف، فما يتفقان على جعله هو الجزء الموقوف يصير موقوفاً بدون إشكال. بل إنه يجوز تقاسم العين الموقوفة بين الموقوف عليهم في الوقف الخاص على عدد محصور، بمعنى تخصيص انتفاع كل منهم ببعض الموقوف، ما لم يكن ذلك منافياً لشرط الواقف، كما لو وقف على أولاده، وكانوا ثلاثة فتقاسموها، صحت القسمة ما داموا ثلاثة، فإذا زادوا واحداً أو نقصوا بطلت القسمة الأولى وجاز لهم إعادة اقتسامها بما يناسب عددهم، وهكذا، بل إنه يجوز اقتسام العين الموقوفة بالوقف الخاص أيضاً إذا كان على عدد غير محصور إذا صادف كون الموجود منهم قليلاً ممكن الحصر.

مسألة 560: إذا وقف على أولاده أو ذريته أو أصهاره أو أرحامه أو تلامذته أو أساتذته أو جيرانه أو نحو ذلك مما له بحسب طبيعته عدد محصور حقيقة، كالأولاد والأصهار ونحوهما، أو محصور عرفاً، كالأرحام الذين يتسع عنوانهم ويضيق بحسب من يراه العرف رحماً، إذا وقف على عنوان من هذه العناوين كان نماء العين ومنفعتها لهم جميعاً بالتساوي، إلا أن يكون الواقف قد فاضل بينهم فيعمل بما رغب فيه؛ وإذا لم يكن بعضهم حاضراً حين التوزيع عُزل نصيبُه حتى يُمكن إيصاله إليه.

وكذا يجب التوزيع بالسوية على الجميع إذا وقف على إخوته أو أعمامه أو أخواله، حتى لو شرَّك معهم الأخوات والعمات والخالات، سواء كانوا لأبوين أو لأب أو أم.

مسألة 561: إذا وقف على ذريته بقوله: «هذا وقف على أولادي ما تناسلوا وتعاقبوا»، فالظاهر أن أولاد أولاده شركاء معهم، وكذا كل من يولد طبقة بعد طبقة فإنهم يشاركون غيرهم من الطبقة السابقة عليهم ويساوونهم في الحصة؛ وأما إذا قال: «هذا وقف على أولادي نسلاً بعد نسل»، أو «..طبقة بعد طبقة»، أو نحو ذلك، فالأظهر أنه يفيد الترتيب، فلا يستحق الحفيد شيئاً من العين الموقوفة ما دام واحد من أولاد الواقف موجوداً.

وإذا قال: «هذا وقف على أولادي ثم على أولاد أولادي»، فاللازم توزيعها على أولاده وحدهم ما داموا موجودين، فإذا انقرضوا وزِّعت على أحفاده وأولادهم وأحفادهم على نحو التشريك.

مسألة 562: إذا وقف على عنوان عام غير محصور بطبيعته، وإن صادف كونه محصوراً، كالوقف على الفقراء أو المساجد، أو على فقراء البلد الفلاني أو مساجده، كفى صرف الوقف على بعضها ولم يجب الاستيعاب لكل فرد منه، إلا أن يعلم منه إرادة الاستيعاب بالنص عليه أو بقرينة خارجية، وحينئذ يُعطى جميع من يشملهم العنوان، والغائب تعزل حصته حتى يمكنه تسلمها؛ وإذا شُك في عددهم وأنه هل بقي منهم أحد لم يشمله التوزيع اقتصر على الأقل المعلوم، وإن كان الأحوط استحباباً له الفحص حتى يطمئن باستيعابهم جميعاً.

مسألة 563: إذا وقف شيئاً على الإمام الحسين y وجب صرفه أو صرف نمائه فيما هو المتعارف من شؤونه y، وذلك كصرفه في إقامة مجالس عزائه وذكر مناقبه وسيرته بكل وسيلة مناسبة، مع بذل الطعام في ذلك المجلس وبدونه، والأحوط وجوباً إهداء ثواب ذلك المجلس والطعام إليه y، ولا يجب تخصيص مجلس على نية الواقف وبذل الموقوف فيه، بل يكفي إعطاء شي‏ء منه لمن يقرأ العزاء في أي مكان، كالمسجد أو الحسينية أو غيرهما؛ فإن لم يكن عرف بهذا النحو من الصرف وجب حيئنذ التصدق به عنه.

وكذا لو وقف على النبي w أو على سائر أهل بيت العصمة i بمن فيهم إمام العصر r، فإنه أيضاً يصرف في بيان مناقبهم وذكر مواعظهم وتعاليمهم بكل وسيلة نافعة، كإقامة المجالس أو تأليف الكتب أو غير ذلك إن كان ذلك هو المتعارف من وجوه الصرف، وإلا فحيث لا يكون عرف يحدد نوع الصرف يجب التصدق به.

مسألة 564: إذا وقف شيئاً ليصرف على ميت أو أكثر صرف فيما هو مصلحة له، ويقدم الأهم على غيره، فإذا كان عليه دين أو حج واجب بالاستطاعة قدمه على غيره من الواجبات العبادية، إلى أن يصل الأمر إلى غير الواجب، فيصرفه في الصدقات وفعل الخيرات عن ذلك الميت مخيَّراً بين أفرادها.

مسألة 565: إذا وقف شيئاً ليصرف نماؤه على مسجد أو مشهد أو مكتبة عامة أو غيرها من المنشآت العامة، صرف النماء فيما يناسب شأن الموقوف عليه واحتياجاته؛ فالوقف على المسجد يُصرف في تعمير ما يخرب منه وعلى فرشه وإنارته ومُؤَذِّنه ونحو ذلك مما يعدّ من توابعه وشؤونه، بل وكذا على إمام الجماعة التي تقام فيه لأنه من مصالح المسجد، إن لم يكن أهمها؛ وكذا الوقف على المكتبة العامة فإنه يصرف في حاجاتها من فرش وإنارة وصيانة ونحوها، إضافة إلى صرفه على شراء الكتب ونحوه مما يناسب المراكز الثقافية؛ وهكذا سائر الموقوفات.

مسألة 566: إذا أوقف شيئاً على شخصين أو عنوانين وزع عليهما مناصفة، وذلك كما لو وقف نماء داره على زيد وسعيد، أو على العلماء والفقراء؛ وكذلك يصرف مناصفة في مثل ما لو وقفه على زيد وأولاد سعيد، أو على أولاد زيد وأولاد سعيد، فيعطى زيد نصفاً وأولاد سعيد النصف الآخر، وهكذا أمثاله.

مسألة 567: إذا شك في كون الوقف على الذرية ترتيبياً، أي طبقة بعد طبقة ونسلاً بعد نسل، أو تشريكياً، أي مما يشترك به أفراد الطبقة الثانية مثلاً مع الموجودين من الطبقة الأولى، فإن كان كلام الواقف مطلقاً حُمل على التشريك، وإن لم يكن مطلقاً ولا صريحاً في أحدهما لزم إعطاء الطبقة الأولى حصتهم الثابتة لهم على فرض كون الوقف تشريكياً، ثم يُقرع بينها وبين الطبقة الثانية في الحصة الباقية.

مسألة 568: إذا جُهل مصرف الوقف، فإن كانت المصارف المحتملة تلتقي على عنوان مشترك وجب صرفها فيه، كما لو شك في أنه هل يُصرف على العلماء أو الفقراء، فإنه يصرفها على العالم الفقير؛ وأما إذا كانت المحتملات متباينة، فإن كانت المصارف غير محصورة، وكان التصدق بها على الفقراء من الوجوه التي يحتمل إرادة الواقف لها، قُدِّم التصدق بها على غيره من الوجوه المحتملة، وإلا صرفه في سائر المحتملات مقدِّماً أيّها شاء؛ وإن كانت المصارف محصورة، كأن لم يدر أنه وقفه ليصرف على هذا المسجد أو على هذا المسجد الآخر، أو على زيد أو على سعيد، وجب تعيينه بالقرعة. وكذا تجب القرعة عند الشك في أن الوقف على أولاد زيد مثلاً هل هو على نحو الصرف عليهم أو على نحو التمليك لهم.

وأما إذا كان الموقوف أرضاً قد عرض عليها الخراب والموت بعدما كانت عامرة، ولم يعلم تفصيلياً كيفية وقفها ولا عُلم الموقوف عليه، فإن لها حكماً يختلف باختلاف أحوالها، وذلك على صور:

الأولى: ما لا يعلم عنها شي‏ء سوى أنها وقف، فلا يُدرى أنها وقف خاص أو عام، ولا أنها وقف على جهة أو شخص؛ وحكمها أنه يجوز لكل راغب إحياؤها، ويملكها المحيي كغيرها من الأراضي الموات.

الثانية: ما علم أنها وقف على جهة لا على شخص، ولم تعلم تلك الجهة بعينها بين الجهات العديدة غير المحصورة؛ وحكمها أنه يجوز إحياؤها على الأقرب، وإن كان الأحوط استحباباً لمن يقوم بإحيائها بزرع ونحوه أن يعاملها معاملة المال المجهول مالكه، فيستأذن في التصرف فيها من له سلطة عليها كالولي الخاص إن وجد، وإلا فالحاكم الشرعي أو وكيله، ويستأجرها منه ويدفع له أجرتها أو يصرفها في وجوه البر بإذنه، بل إن له أن يشتريها منه ويصح من المتولي بيعها.

الثالثة: ما عُلِم أنها وقف على أشخاص معينين لا على جهة، ولم يعلم الموقوف عليه بعينه وشخصه بين الناس؛ فيشكل الحكم بجواز الإحياء في هذه الصورة، والأحوط وجوباً معاملتها معاملة المال المجهول مالكه بالنحو الذي ذكرناه في الصورة الثانية تماماً.

الرابعة: ما عُلِمَ ـ إجمالاً ـ أنها إما موقوفة على هذا المسجد أو على ذرية زيد الموجودين؛ وحكمها أنه يجب على من يرغب في إحيائها مراجعة متولي تلك الجهة إن وجد، أو الحاكم الشرعي أو وكيله إن لم يكن لها ولي خاص، ومراجعة الموجود من ذرية زيد والاتفاق معهم على استئجارها منهم، ثم إنه إذا أذنت الذرية في صرف الأجرة على الجهة المعينة فلا إشكال، وإن لم تأذن وجب الإقراع بين الجهة وبينهم، فمن وقعت له القرعة كانت له الأجرة.

هذا حكم ما لو جُهل الموقوف عليه وجُهلت كيفية الوقف، أما إذا عُلمت كيفية الوقف وعُلم الموقوف عليه فإن كان موجوداً لم يجز لأحد إحياء الأرض دون إذن من له سلطة عليها، وإن كان قد باد ولم يبق له أثر فإنه يجوز لكل أحد إحياؤها ويملكها، مثلها في ذلك مثل سائر الأراضي المحياة.

مسألة 569: إذا احتاجت الأملاك الموقوفة إلى التعمير أو الترميم والإصلاح من أجل بقائها واستمرار الانتفاع بها، فإن عَيَّن الواقف لها ما يصرف فيها عمل عليه، وإلا وجب الصرف عليها من نمائها مقدَّماً على حق الموقوف عليهم، بل إنه يجب إصلاحه من نمائه في الوقف الذري حرصاً على انتفاع البطون اللاحقة به وإن أدى إلى حرمان البطن المعاصر للإصلاح حرماناً كلياً أو جزئياً.

المطلب الثالث ـ في حكم خراب الوقف وموارد جواز بيعه:

لا غروّ أنّ الوقف يعرض عليه الخراب ونحوه من موانع الانتفاع، سواء من جهة نفس العين الموقوفة، بحرق أو غرق أو نحوهما، أو من جهة الموقوف عليه، فينقرض أو يزول عنوانه، كما أن الخراب العارض يتسبب تارة: بزوال العين كلياً وانعدام الانتفاع بها وزوال عنوانها، وأخرى: بخراب بعض أجزائها وأثاثها؛ وهذه الأمور وغيرها مما يناسبها نستعرضها في مسائل:

مسألة 570: إذا عرض الخراب على العين الموقوفة فعطّلها وألغى العنوان الذي وقفت من أجله، كالبناء الذي يوقف مسجداً أو ميتماً أو مكتبة عامة أو شققاً سكنية لطلبة العلوم الدينية مثلاً أو نحو ذلك، فيعرض عليه الخراب فيهدمه ويلغي هيأته ويُبطِلُ الانتفاع به كلياً فيما وقف له، فإن حكمه يختلف على نحوين:

الأول: أن يكون الواقف قد اعتبر ذلك الهدف وذلك العنوان مقوِّماً للوقفية، بحيث تدور مداره وجوداً وعدماً، فهو قد عزم في نفسه على أن هذا البناء موقوف ما دام مكتبة فحسب، أو أن هذا العقار موقوف ما دام بستاناً فحسب، وهو ما يصطلح عليه الفقهاء بـ (وحدة المطلوب)، فإذا تهدم البناء أو يبست الأشجار تزول الوقفية، وحينئذ يرجع الموقوف إلى الواقف إن كان حياً، وإلا فإلى ورثته، حتى كأنه لم يكن موقوفاً؛ وذلك دون فرق بين المسجد وغيره.

الثاني: أن يكون الواقف راغباً بإخراج هذه العين عن ملكه وجعلها وقفاً بالدرجة الأولى، كذلك فإنه راغب بجعلها ميتماً مثلاً بالدرجة الثانية، بحيث لم يُعلِّق أصل الوقفية على بقاء هذا العنوان، وهو ما يعبر عنه الفقهاء بـ (تعدد المطلوب)؛ هذا النحو من الوقف يختلف حكمه عند عروض الخراب عليه باختلاف حالاته التالية:

الأولى: أن تكون العين في وضع يمكن فيه إعادتها إلى وضعها السابق،فإن لم يوجد متبرع وأمكن إيجار بقايا البناء أو الأرض المبني عليها مدة من الزمن، وتجميع الأجرة وترميم البناء أو تجديده بها وجب ذلك وتعين، وإن لم يمكن إيجاره ولكن أمكن بيع بعض العقار مع شي‏ء من البناء، إن لزم الأمر، أو بدونه من أجل تعمير الباقي بثمنه، وجب ذلك وكان متعيناً ومقدماً على بيع الكل.

وهنا أيضاً لا فرق بين المسجد وغيره، ولكنه إذا كان مسجداً لزم في إجارته مراعاة عدم هتك حرمته.

الثانية: أن تكون العين في وضع لا يسمح بإعادة العنوان إليها أبداً، فهنا طريقان لعلاجها:

1 ـ أن يكون بقايا البناء والعقار مما يمكن الانتفاع به بأي وجه من الوجوه في حالته التي هو عليها، وذلك بمثل الزراعة فيه أو جعله مصنعاً أو نحوهما مما يمكن انتفاع الموقوف عليه به مباشرة أو بمثل تأجيره والانتفاع بأجرته أو بغير ذلك من أنحاء الاستثمار لما بقي من هذه العين، فإذا أمكن ذلك وجب وتعين.

2 ـ أن لا يمكن استثمار الأرض أو ما بقي من البناء بالنحو السابق، فهنا يجوز بيعها، أما الثمن فيجب تقديم صرفه على الأحوط في شراء عين أخرى به ووقفها على نفس العنوان الأول، فإن تعذر وَقْفُها على نفس العنوان الأول وجب وقفها على عنوان آخر قريب منه مراعياً للأقرب إليه فالأقرب؛ فإن لم يمكن شراء عين أخرى بالثمن لزم صرفه على الجهة الموقوف عليها، أي على مسجد آخر إن كان مسجداً أو ميتم آخر إن كان ميتماً، وهكذا.

نعم إذا كان موقوفاً على الذرية وُزِّع الثمن على البطن الذي حصل البيع في زمانه وجاز لهم أن يصرفوه على أنفسهم كيف يشاؤون. (أنظر في المسألة 568 ما له علاقة بهذا الفرع من هذه المسألة).

مسألة 571: إذا عرض الخراب على شي‏ءٍ من أجزاء الموقوف أو أثاثه فخرج عن الانتفاع الذي كان عليه كلياً، وذلك كالشجرة من البستان الموقوف تنقلع وتيبس، أو شي‏ء من الأثاث يبلى ويتهالك، أو غير ذلك من أجزاء الموقوف، فإن كان الواقف قد وقف تلك العين للانتفاع بها في جهة خاصة، كالشجرة الموقوفة للانتفاع من ثمرها خاصة، وكان الخراب قد ألغى جهة الانتفاع المرادة للواقف وعطلها، جاز بيعها حينئذ ووجب صرف ثمنها في مصلحة سائر الأجزاء إن كانت بحاجة، وإلا صُرف على الجهة الموقوف عليها، أي على مسجد آخر إن كان الموقوف مسجداً، أو نحوه من المرافق العامة التي ينتفع بها الموقوف عليه مباشرة، فإن لم يكن كذلك، بل كان من نوع الموقوفات التي لها عنوان عام أو خاص، كالبستان الموقوف نماؤه على الفقراء أو على ذرية زيد، فإنه يصرف الثمن عليهم؛ وكذلك الحكم فيما إذا لم يخص الواقف العين بجهة انتفاع خاصة، وتلف جزء منها، فإنه إن كان مما يمكن الانتفاع به في أمر آخر من شؤون العين الموقوفة، كالشجرة اليابسة تجعل عموداً أو سقفاً في البستان وجب ذلك، وإلا جاز بيعها وصرف ثمنها بالنحو السابق على البستان إن احتاجه، وإلا صرف في الجهة الموقوفة عليها.

مسألة 572: إذا عرض على شي‏ء من أجزاء العين الموقوفة أو أثاثها ما يوجب الاستغناء عنها مع بقائها صالحة للاستعمال، كسجاد المسجد أو المكتبة العامة أو نحوهما إذا استبدل به سجاد جديد أفضل منه، فإن كان مما يمكن الانتفاع به مع بقائه على حاله، وأمكن استعماله في المكان الذي وقف فيه، ولو بنحو آخر من أنحاء الانتفاع، كجعل السجاد ستاراً من الحر أو البرد مثلاً، وجب إبقاؤه على وقفيته والانتفاع به في مكانه، وإن استغني عنه تماماً في مكانه الموقوف عليه، وخيف عليه من التلف والضياع إن بقي معطّلاً وجب جعله في محلٍ آخر مماثل له إن كان من نوع الأوقاف المبذولة للانتفاع المباشر بها، كالمساجد والمدارس الداخلية والحسينيات ونحوها؛ وإن كان من نوع ما يصرف نماؤه على الموقوف عليه بيع وصرف الثمن على العين الموقوفة إن احتاجت، وإلا فعلى الموقوف عليهم، كالفقراء أو ذرية فلان، وذلك بالنحو الذي ذكر في المسألة السابقة.

وأما إذا لم يمكن الانتفاع به مع بقائه على حاله، وكان بحيث لو بقي على حاله لضاع وتلف، وجب بيعه وصرف ثمنه في ذلك المحل إن احتاج إليه، وإلا ففي مكان آخر مماثل له إن كان للانتفاع المباشر العام، فإن لم يكن ثمة مماثل له صُرِفَ في وجوه الخير، وأما إذا لم يكن للانتفاع العام فإنه يصرف حينئذ على الموقوف عليهم.

مسألة 573: إذا وقف داره ليسكن فيه شخص بعينه أو أشخاص كذلك فانقرضوا، أو وقفها لسكن طلاب العلوم الدينية وتدريسهم فلم يوجد منهم أحد، أو وجد وتعذر انتفاعهم بها، أو نحو ذلك من الغايات التي يتعذر تحقيقها واستخدام العين الموقوفة فيها، فإن كان الواقف قد قصد تعليق الوقف وتحديده بهذه الغاية كان ذلك تحبيساً، فإذا انقرض الموقوف عليه أو زالت الجهة الموقوف عليها رجع المال إلى الواقف أو ورثته؛ وإن لم يكن الواقف قد قصد التحبيس بل صادف انقراضه أو زوال عنوانه خرج عن ملكه وصار صدقة جارية تصرف في وجوه البر.

مسألة 574: إذا وقف داره مثلاً ليصرف نماؤه في المسجد الفلاني فخرب ذلك المسجد وزال ولم يمكن تعميره، أو أنه لم يعد بحاجة إلى مصرف لانقطاع من يصلي فيه مثلاً، فإن كان الواقف قد لحظ ذلك المسجد على نحو وحدة المطلوب، بحيث يدور الوقف مداره وجوداً وعدماً كان ذلك تحبيساً، فإذا زال العنوان بطل الوقف ورجعت العين إلى الواقف أو ورثته؛ وإن كان قد لحظه على نحو تعدد المطلوب لزم صرف نماء الدار على مسجد آخر إن أمكن، وإلا صرف في وجوه البر.

مسألة 575: لقد صار معلوماً من خلال بعض ما مر من مسائل في هذا المبحث أن العين الموقوفة لا يجوز نقلها عن الشخص أو الجهة الموقوفة عليها بمثل البيع ونحوه، وإضافة إلى ما ذكرناه في هذا المطلب من موارد جواز البيع عند خراب الوقف، فإن من المناسب التأكيد على ما سبق وذكر ما بقي من الموارد في هذه المسألة، فنقول: لا يجوز بيع الوقف إلا في موارد:

الأول: ما إذا عرض عليه الخراب فمنع من الانتفاع به بالنحو الذي وقف له، كالحيوان المذبوح، والجذع البالي، والبناء المهدم، ونحو ذلك؛ أو بقيت له منفعة قليلة لا يُعتَد بها؛ أو طرأ عليه من أسباب الفساد ما يؤدي بقاؤه عليه إلى الخراب المسقط له عن الانتفاع المعتد به، فيجوز بيعه، ولكن يجب تأخير البيع إلى الوقت الذي تستنفد فيه منافعه قبل طروء الفساد عليه، كالبناء الذي يعرض عليه التصدع، أو البستان الذي تتملح تربته، أو نحو ذلك، وجميع هذه الحالات في هذا المورد يجوز فيها البيع بالنحو الذي سبق ذكره في المسألة: (570 وما بعدها).

الثاني: ما إذا وقع الاختلاف الشديد بين الموقوف عليهم، وهو إنما يحدث في صورة ما لو كان الوقف على نحو التمليك، للذرية أو غيرهم، لا في صورة ما لو كان بنحو الصرف عليهم، أو غير ذلك من أنواع الوقف؛ فإذا وقع الاختلاف بينهم وخيف معه من النزاع المؤدي إلى تلف النفوس والأموال، ولم يمكن الإصلاح فيما بينهم ولا تسوية النزاع إلا بالبيع، جاز البيع بل قد يجب؛ وإذا أمكن بعد البيع شراء عين مماثلة للعين المباعة ووقفها على نهج الوقف الأول دون أن تتسبب بنزاع جديد وجب ذلك على الأحوط.

الثالث: ما إذا اشترط الواقف بيعه عند حدوث أمر معين، من قلة المنفعة، أو كون بيعه أنفع، أو عند احتياج الموقوف عليه إلى ثمنه، أو نحو ذلك من الأمور التي يلاحظها الواقف في شرطه.

مسألة 576: إذا جاز بيع الوقف، فإن كان من نوع الوقف الخاص التمليكي الذي يتولاه نفس الموقوف عليه فإنه لا يحتاج في بيعه إلى إجازة أحد، وإلا فإن كان للوقف ولي خاص جاز له بيعه في موارده، ووجب على غيره استئذانه في البيع؛ وإلا وجب استئذان الحاكم الشرعي ومراجعته في البيع على الأحوط وجوباً.

مسألة 577: يضمن المتلف ما يقع على الوقف بجميع أقسامه من التلف عند توفر شروطه، سواء في ذلك الوقف الخاص أو العام، والتمليكي وغيره، فكما يجب الضمان على من أتلف شيئاً من بستان أو دار موقوف وقفاً خاصاً، كذلك يجب عليه ضمان ما يتلفه من العين الموقوفة وقفاً عاماًً، كالمسجد والمقبرة ونحوهما.


 

 

الفصل الثاني

في التحبيس وأخواته

 

كنا قد أشرنا بشي‏ء من الإجمال عند التمهيد لهذا الباب إلى ما ينبغي أن نعيد التأكيد عليه بشي‏ء من التفصيل، وهو: إن التحبيس هو: (بذل منفعة العين وحدها وقصرها على شخص أو أشخاص محصورين، أو على جهة معينة يصح الوقف عليها، كالفقراء والحجاج والزوار والعلماء وسبيل الله تعالى وخدمة المسجد أو الميتم أو نحو ذلك)؛ لذا فإنه يشترك مع الوقف في تحبيس العين من أجل استيفاء المنفعة تدريجاً، إلا أنه يخالفه في عدم ابتنائه على إخراج العين عن ملك مالكها، بل تبقى في ملكه فتكون موروثة لورثته، وليس لمن حبست له أن يتصرف فيها تصرف المالك بملكه بالبيع والشراء ونحوهما. أما أخواته فهي أمور:

الأول: السُكْنى، وهي اسم للتحبيس إذا كانت العين داراً أو نحوها مما يحبس على خصوص السكن، كالفندق، ومدرسة المنامة الداخلية للطلاب ونحوهما.

الثاني: العُمْرى، وهي اسم لكل تحبيس تكون المدة فيه مدى عمر الحابس أو المحبَّس عليه، داراً كانت العين المحبَّسة أوكتاباً أو غيرهما.

الثالث: الرُّقْبى، وهي اسم لكل تحبيس تكون المدة فيه دون عمر أحدهما، كائناً ما كانت العين.

هذا، وتختص هذه الثلاث بما لو كان المحبَّس عليه شخصاً أو أشخاصاً معينين، فإن كان التحبيس على جهة أو عنوان عام فلا يطلق عليه إلا (الحبس).

أما تفصيل أحكامه فهو يقع في مسائل:

مسألة 578: لا بد في التحبيس من إنشاء مضمونه بما يدل عليه من قول أو فعل، على نحو ما تقدم في الوقف وغيره من الإيقاعات والعقود، كما إذا قال: (حبَّست سيارتي أو داري على زيد)، أو أعطى سيارته لمن يستخدمها في الجهاد أو في نقل الحجاج أو الزوار قاصداً تحبيسها على ذلك، أو نحو ذلك مما يدل عليه من الأقوال والأعمال.

مسألة 579: التحبيس ـ وكـذا أخواتـه ـ إيقاع لا يحتاج إلى القبول من المحبَّس عليه؛ وهو ليس صدقة فلا يتوقف على قصد القربة، ويصبح لازماً بعد قبضه بدون إشكال، أما قبل قبضه فهو لازم أيضاً إن كان التحبيس على جهة، وكذلك إذا كان المحبس عليه شخصاً على الأحوط وجوباً، نعم إذا مات الحابس قبل قبض المحبَّس عليه للعين، وكان الورثة صغاراً، لم يكن الحبس لازماً ورجعت العين إلى الورثة. كذلك فإن الشروط المعتبرة في الواقف والموقوف عليه والعين الموقوفة هي نفسها معتبرة في الحابس والمحبَّس عليه والعين المحبوسة، إلا ما له علاقة بالتأبيد وإخراج المال عن ملك الحابس فإنهما غير معتبرين في التحبيس، بل إنما صار تحبيساً ولم يكن وقفاً لعدم اعتبار توفرهما فيه.

مسألة 580: الحبس وإن كان مبنياً على عدم التأبيد لا يشترط فيه ذكر المدة، لكن له أحكاماً من هذه الجهة نستعرضها على النحو التالي:

أولاً: إذا حبس المالك ملكه مدة معينة لزم في المدة المذكورة حتى لو كانت أزيد من عمر الحابس، وليس له الرجوع عنه قبل مضيِّها، وإذا مات قبل مضيِّها فليس لوارثه الرجوع فيه، فإذا مضت المدة عادت المنفعة له أو لوارثه.

ثانياً: إذا أطلق المالك التحبيس ولم يوقّته بمدة معينة، وكانت الجهة التي حبسه لها محدودة لا دوام لها كشخص معين، فإنه يبطل بموت الحابس، ويرجع ميراثاً لورثته، والظاهر لزومه عليه في حياته، وليس له الرجوع فيه.

نعم، له الرجوع متى شاء إن اقتصر على مجرّد إباحة المنفعة وبذلها دون أن ينشى‏ء التحبيس ويلزم نفسه به، وذلك كما لو أسكن شخصاً الدار أو أخدمه عبده أو استخدم سيارته أو دابته في نقل الحجاج أو الزوّار.

ثالثاً: إذا أطلق المالك التحبيس ولم يوقّته بمدة معينة ولم تكن الجهة التي حبسه لها محدودة، بل كان من شأنها الدوام، كالعلماء والفقراء وخدمة المسجد، فيبقى التحبيس مع إطلاقه نافذاً ما دامت العين باقية؛ وحينئذٍ لا يظهر الفرق عملياً بينه وبين الوقف إلا إذا سقطت العين عن الانتفاع المقصود، حيث تبقى صدقة في الوقف فيما ترجع ملكاً لمن حبَّسها في التحبيس، وكذا الحال إذا صرح الحابس بالدوام والتأبيد، لكن الظاهر في هذه الصورة أنه وقف بصورة التحبيس.

مسألة 581: لما كانت العين في الحبس وما ألحق به لا تخرج عن ملك المالك فللمالك بيع العين مسلوبة المنفعة من دون أن يبطل التحبيس أو ينافيه؛ أما المحبَّس عليه فليس له أن يبيع المنفعة، أو يصالح عليها أو على إسقاطها، لعدم وضوح كونه مالكاً لها، بل يشكل جواز المصالحة معه على أن لا ينتفع بالعين، بنحو يكون للمصالح معه الانتفاع بها بدلاً عنه، لأن الظاهر أو المتيقن أن للمحبَّس عليه الانتفاع بالمباشرة، فمع عدم انتفاعه بنفسه تكون المنفعة تحت سلطة المالك المحبِّس تبعاً للعين التي هي ملكه.

مسألة 582: إذا قيد المالك التحبيس بكيفية معينة وشرط فيه شروطاً وجب على المحبَّس عليه الالتزام بما رسمه له المالك، وإذا أطلق كان له استخدامه بالنحو المتعارف، فإطلاق السكنى مثلاً يقتضي أن يسكن هو وأهله وسائر تابعيه من أولاده وخادمه وضيوفه، بل وماشيته ودوابه إن كان فيها موضع معد لذلك، وله اقتناء ما جرت العادة فيه لمثله من أثاث ومؤن؛ وليس له إجارة العين المحبسة ولا إعارتها لغيره، ولا التصرف فيها بغير ذلك من أنواع التصرفات غير المتعارفة إلا أن يكون مأذوناً من المالك.

مسألة 583: يجوز للحابس استثناء شي‏ء من العين المحبسة وإبقاؤه لانتفاعه، كاستثناء شجرة أو أشجار من البستان، أو غرفة أو أكثر من غرف الدار، ونحو ذلك مما يكون قابلاً للتجزئة، بدون فرق في ذلك بين الوقف والحبس، وكذا يجوز في الحبس أن يستثني شيئاً من المنفعة دائماً أو لمدة معينة، فيصح أن يقول: «حبَّست هذه الدار على طلبة العلوم الدينية ليسكنوا فيها ما عدا يوم الجمعة مثلاً»، وهو بخلاف ما سبق ذكره في الوقف، لأننا قلنا إنه يرتكز على إخراج العين ومنافعها عن ملك الواقف، فينافيه استثناء شي‏ء من المنفعة بعد وقف العين، أما الحبس فلا يتقوم بإخراج العين ولا منفعتها عن ملك الحابس، فلا ينافيه استثناء الحابس لشي‏ء منهما.


 

 

المقصد الثالث

في المعاوضات

 

تمهيد في آداب التجارة ومحرّماتها

الباب الأول: في البيع

الباب الثاني: في الصلح



 

 

تمهيد في آداب التجارة ومحرَّماتها:

نريد بـ (المعاوضات): (المعاملات التي ينتج عنها نقل ملكية الأعيان أو الحقوق مقابل عوض)، وهذا المصطلح يشمل إضافة إلى البيع والصلح الهبة المعوضة، لكننا قد خصصناه هنا بالبيع والصلح لأننا قد ذكرنا في (مبحث الهبة) أن العوض في الهبة المعوضة ملحوظ كأمر طارى‏ء يخرجه عن أن يكون له خصوصية في جوهر الهبة؛ لذا صح ـ حسب منهجنا ـ قصر هذا المقصد على خصوص مباحث البيع والصلح لكونهما متمحضين في المعاوضية.

ثم إن البيع هو محور حركة التبادل التجاري، ومن ثم فهو محور الحركة الاقتصادية عموماً، سواء في إطار دوره في نقل الملكية بين الأفراد أو في إطار دوره الأهم في التجارة، وقد اعتنى الإسلام به عناية كبيرة وشرع له أحكاماً مفصلة، وهدف من تلك التشريعات إلى بناء مجتمع يعيش علاقات اقتصادية مستقرة قائمة على الخلق الفاضل والعدالة الناصعة، كما أنه قد حرص في مقدمة تلك التشريعات العادلة على وضع آداب للتجارة ترتفع بها من كونها موقعاً من مواقع الجشع والأثرة والربح إلى أن تكون موقعاً من مواقع التعاون والمحبة وخدمة الناس وتهذيب النفس. ونحن فيما يلي من أبواب وفصول سوف نستعرض أحكام البيع والصلح من جوانبها المختلفة، لكن بعدما نكون قد قدمنا في هذا التمهيد شيئاً من آداب التجارة وبعض أحكامها العامة التي ليس لها موقع مناسب إلا في هذا التمهيد، وذلك في ثلاثة مطالب:

المطلب الأول ـ في آداب التجارة:

كنا قد ذكرنا في المدخل لهذا الجزء من المعاملات كلاماً حول فضل التكسب وآدابه يشمل التجارة بما هي وسيلة من وسائل التكسب وطلب الرزق، بل ويحث عليها باعتبارها وسيلة مميزة ومرغوبة في النشاط الاقتصادي؛ وذلك الذي ذكرناه نافع هنا، ويستحسن استذكاره والعودة إليه، لكنَّ ثمة أموراً مستحبة خاصة بالعمل التجاري ينبغي ذكرها هنا لتكون حاضرة في قلب المؤمن في مقدمة إقباله على التجارة وعمله فيها تهذيباً لنفسه وتقرباً إلى ربه تبارك وتعالى، وهي أمور نقدمها كما يلي:

أولاً: يستحب للمكلف أن يتعلم أحكام التجارة ويتفقه فيها بالقدر الذي يناسب عمله فيها، بل يجب عليه ذلك إذا كان في معرض الوقوع في مخالفة تكليف إلزامي نتيجة جهله بأحكامها. كذلك فإنه يكره له التعرض للكيل أو الوزن أو غيرهما من المقادير إذا لم يكن خبيراً بها خوفاً من وقوعه في الخطأ.

ثانياً: يكره أن يكون أول الداخلين إلى السوق، ويستحب أن يتشهد الشهادتين عند جلوسه فيه للتجارة، ويكره أن يبيع في المكان المظلم الذي يستتر فيه العيب، كذلك يكره السوم ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس؛ إضافة إلى ذلك، فإنه يحرم عليه عرض بضاعته في أرصفة الطرقات، أو في الطرقات، إذا أضرت بالمارة، كما تقدم تفصيله في أحكام الطرق (أنظر المسألة 50 وما بعدها).

ثالثاً: يكره مدح البائع سلعته، وكذا ذم المشتري لها، وكتمان العيب الموجود فيها، نعم إذا كان المشتري قد طلب منه بيان عيوبها فلم يذكرها وأكّد له سلامتها كان ذلك منه كذباً محرماً، وكذلك لا يجوز كتمان العيب إذا كان مما ينطبق عليه عنوان الغش كما سيأتي بيانه. ويكره الحلف في المعاملة إذا كان صادقاً، وإلا حرم، بل إن حلفه كاذباً من الكبائر، وهو ما يسمى بـ (اليمين الغموس). ويستحب أن يكبر الله تعالى عند العقد.

رابعاً: يستحب أن يساوي بين المشترين في الثمن، فلا يفرق بين المماكس وغيره مثلاً، أو بين إبن البلد والغريب، أو نحو ذلك، نعم لا بأس بالتفريق بينهم لمرجحات شرعية، كالفقر والعلم والتقوى ونحوها. ويكره الربح على المؤمن، وعلى الموعود بالإحسان والمراعاة في الثمن زيادة عن الحاجة؛ كما أنه يكره منافسة المؤمن في الحاجة التي يرغب في شرائها بسعر معين فيزيد عليه لشرائها دونه، إلا في (المزاد العلني) أو ما يشبهه مما يكون المقام فيه مقام طلب الزيادة، وكذا لا تكره الزيادة في صورة ما لو انصرف أحدهما عن المعاملة أو علم عدم تمامها بينهما؛ ويكره منافسة البائع فيما يعرضه على المشتري وقيام غيره بعرض مبيع آخر عليه ليبيعه دونه؛ ويكره للمشتري طلب تنقيص الثمن بعد العقد؛ ويستحب للبائع أن يأخذ الناقص ويعطي الزائد.

المطلب الثاني ـ في ما يحرم الاتجار به:

وهو أمور:

الأول ـ المسكرات:

مسألة 584: يحرم التكسب بكل مسكر مائع في أصل صنعه، بما في ذلك (الفُقَّاع) المستخرج من ماء الشعير المخمر المعروف بـ (البيرة)؛ وكذا يحرم التكسب بكل مسكر جامد مما صار يعرف بـ (المخدرات)، إلا في صورة استخدام المواد المخدرة في الأغراض الطبية، كصناعة الأدوية والتخدير أثناء العمليات الجراحية ونحوهما من المنافع الضرورية، فإنه يجوز التكسب به حينئذ بإشراف وتوجيه الحاكم العادل.

مسألة 585: لا يحرم التكسب بالشراب المتّخذ من ماء الشعير غير المخمّر، وكذا بغيره مما يتخذ من سائر المعتصرات من الفاكهة التي يتخذ منها الخمر إذا لم يكن ذلك العصير مخمّراً، كدبس التمر ودبس العنب وعصيرهما، بما في ذلك بيع العصير العنبي المحكوم احتياطاً بحرمة الأكل أو الشرب قبل ذهاب ثلثيه، فإن مثل هذه المعتصرات ما دامت لا تُعَدّ من المسكرات يجوز التكسب بها دون إشكال.

الثاني ـ الأعيان النجسة:

مسألة 586: يحرم التكسُّب بالأعيان النجسة، كالكلب والخنزير والميتة وغيرها، وذلك على النحو التالي:

أ ـ الكلب: يحرم التكسب بالبيع وغيره بالكلب الذي لا ينتفع به الإنسان، ككلب الهراش، دون ما يكون له منفعة محلّلة مقصودة للناس، ككلاب الصيد والحراسة وكشف الجرائم ونحوها.

ومثل الكلب فـي الحكـم سائــر الأعيـان النجسة الأخرى ـ غيـر الميتـة والخنـزير ـ، كالدم والغائط، فإذا كان لها منفعة محللة مقصودة، كالدم للعلاج، والغائط للتسميد، جاز التكسب بها، وإلا لم يجز.

ب ـ الميتة النجسة: يجوز التكسب بالميتة النجسة إذا كانت لها منفعة محللة مقصودة، كأن تجعل طعاماً للحيوانات الأليفة، أو سماداً للمزروعات، أو غير ذلك من مجالات الانتفاع المحلل، ولا سيّما في زماننا هذا، فإن كان مراد المشتري أن ينتفع بها في مثل الأكل المحرم جاز بيعها له إذا كان ممن يستحل أكلها في شريعته، وإن كان الأحوط استحباباً تركه، وإلا لم يجز بيعها له على الأحوط وجوباً.

ج ـ الخنـزير: يحرم التكسب بالخنزير مع من لا يستحله من المسلمين وغيرهم من أتباع الأديان الأخرى التي تحرم أكله، سواء كان له منفعة محللة مقصودة، كالتسميد بفضلاته أو استخدامه في التجارب الطبية، أو لم يكن له منفعة محلّلة، وأما بيعه لمن يستحله فهو جائز، وإن كان الأحوط استحباباً تركه، سواء في ذلك أيضاً ما لو أريد لمنفعة محللة أو غير محللة. هذا، ولكن رغم جواز بيعه لمن يستحله فإنه لا يجوز للمسلم شراؤه بقصد بيعه لمن يستحله، فيقتصر في ذلك على مورد ملكيته للخنزير بالاصطياد أو بالتربية أو نحو ذلك.

مسألة 587: لا فرق فيما يحرم التكسب به بين أنواع التكسب، فكما يحرم بيع مثل الخمر والخنزير وغيرهما من الأعيان النجسة التي ذكرناها آنفاً، كذلك يحرم جعله ثمناً أو مثمناً في المصالحة، وأجرة في الإجارة ومهراً في الزواج وعوضاً في الخلع وجعالة على عمل، بل تحرم المصالحة عليه وهبته ولو بدون عوض، نعم تجوز إعارة أو إجارة ماله منفعةً محللةً مقصودةً للعقلاء منها، كتأجير بعض الكلاب الهراش لجر العربات على الجليد في بعض البلدان، أو الخنزير للاستفادة من عذرته في التسميد أو في بعض التجارب الطبية ونحو ذلك، أما الخمر، فإنه إضافة إلى عدم جواز التكسب به بأية معاملة لا يجوز نقله ولا العمل في صناعته بأي نحو من الأنحاء. (أنظر في ذلك المسألة: 197 وما بعدها).

مسألة 588: يجوز بيع ما لا تحله الحياة من أجزاء الميتة النجسة أو الخنزير إذا كانت لها منفعة محللة معتد بها، كشعرها وصوفها وعظامها ونحوها، بل وكذا جلودها إذا كانت لها منفعة محللة معتد بها.

مسألة 589: الميتة الطاهرة، كالسمك الطافي والأفاعي الميتة ونحوها، يجوز بيعها والمعاوضة عليها إذا كانت لها منفعة محللة معتد بها عند العرف، وإن كان الأحوط استحباباً تجنب بيعها.

مسألة 590: يجوز بيع الأعيان المتنجسة القابلة للتطهير، كالفراش، أو غير القابلة للتطهير مما لا يتوقف الانتفاع به على كونه طاهراً، كالصابون المصنوع من مادة متنجسة، والزيت والسمن المتنجسين، ونحوهما؛ بل إنه يجوز بيع ما يتوقف استخدامه على طهارته إذا كانت له منافع أخرى لا تتوقف على الطهارة محللة ومعتد بها عند العرف، فإن لم تكن له منافع بالنحو الذي مر لم يجز بيعه على الأحوط وجوباً.

مسألة 591: إن حرمة بيع ما سبق ذكره من الأعيان لا تلغي كون صاحب العين مسلطاً عليها كتسلطه على غيرها من الأعيان محللة البيع، ولكن قابليتها للانتقال من مالك إلى آخر أقل من قابليه الأعيان المحللة؛ رغم ذلك فإنه يثبت لمن كانت هذه الأعيان تحت يده ـ إما بسبب الحيازة، كما في كلب الهراش، أو بسبب طارى‏ء، كانقـلاب الخـل خمراً، أو نحو ذلك ـ ما يصطلح على تسميته بـ (حق الاختصاص)، بنحو لا يجوز لغيره أخذها منه قهراً وغصباً، وإذا رغب صاحبها بنقل هذه العين إلى غيره جاز له أخذ مال مقابل نفس (رفع يده عن العين)، فيصبح الباذل أولى بالعين وصاحب (حق الاختصاص) الجديد؛ وأما أن يبذل له مالاً مقابل نفس (حق) الاختصاص، كمثل ما يبذل من مال عوضاً لحق المرور أو الحضانة أو غيرهما من الحقوق القابلة للنقل، فإن ذلك موضع إشكال، فالأحوط وجوباً ترك المعاوضة عليه بهذا النحو، نعم يصح نقله إلى الغير مجاناً، كالصلح مجاناً، فضلاً عن الهبة غير المعوضة، فضلاً عن انتقاله إليه قهراً بمثل الميراث.

كذلك فإن حرمة بيع هذه الأعيان لا تلغي جواز انتفاع صاحبها بها في غير الجهة المحرمة، مثل التسميد بالعذرات، واستخدامها وقوداً، والصبغ بالدم، ونحو ذلك من مجالات الاستخدام الكثيرة.

مسألة 592: يجب على البائع إعلام المشتري بنجاسة العين المتنجسة إذا كان سوف يستخدمها فيما يعرضه لمخالفة تكليف إلزامي تحريمي، كاستعمالها في الأكل أو الشرب، أو فيما يعرضه لمخالفة تكليف إلزامي وجوبي، كاستعمال الماء المتنجس في الوضوء أو الغسل من أجل الصلاة الواجبة؛ هذا إذا كان المشتري ممن يحتمل في حقه ترتيب الآثار على إعلامه بالنجاسة لكونه ممن يحتمل منه المبالاة بالدين، وإلا فلا يجب إعلامه.

مسألة 593: يجوز بيع ما عدا الأعيان النجسة من الخبائث المحكومة بالطهارة، كفضلات المواشي، وكذا ما هو حي من سباع الطير أو الحيوانات البرية أو القوارض،كالنسر والذئب والفئران ونحوها، وكذا ما يُعَدّ من الحشرات، كالفراش ودود القز ونحوهما، إذا كان لها منفعة محللة معتد بها عند العقلاء، خاصة في زماننا هذا الذي تكاثرت فيه مجالات الانتفاع المحلل، وخاصة في حقلي الصناعة والبحوث العلمية، فإن لم يكن لها منفعة محللة معتد بها لم يجز بيعها على الأحوط وجوباً.

مسألة 594: المراد بـ (المنفعة المحللة) التي تكرّر ذكرها في المسائل السابقة هي: (الفائدة المحللة التي بلحاظها تكون للشي‏ء قيمة سوقية معتد بها، وإن اختص العلم بوجودها ببعض أصحاب الاختصاص، سواء كانت مرغوبة لعامة الناس أو لقسم خاص منهم، وفي مطلق الحالات أو في الحالات الطارئة، كحالات طلبها لاستخدامها في العقاقير والأدوية، أو نحو ذلك).

الثالث ـ آلات الحرام:

مسألة 595: لا تجوز التجارة بما يكون مختصاً بالحرام، بحيث يكون مصنوعاً على هيئة لا تتناسب إلا مع الاستعمال في الحرام، كهدف تتقوّم به ماليته عند الناس غالباً، وله أنواع، منها: ما يكون من شعائر المذاهب الملحدة والأديان الباطلة، كالأصنام ونحوها مما يختص بها ويظهر عقيدة باطلة فيها.

ومنها: ما يكون من آلات القمار التي لا تستخدم في التسلية المحللة، بل ينحصر العمل فيها بالرهان المحرم.

ومنها: ما يكون من آلات الموسيقى التي لا يعزف عليها إلا الألحان المثيرة للشهوات.

هذا، ولا يخفى أنّ ما هو منحصر في الحرام من الصناعات قليل، إن لم يكن نادراً؛ بما في ذلك أدوات القمار والموسيقى، فضلاً عن غيرهما من الآلات والصناعات، مثل الراديو والتلفزيون والكمبيوتر وغيرها، فإن هذه الصناعات وغيرها لا ينحصر استخدامها في الحرام، بل إن مجالات استخدامها المحلّل أوسع بكثير من مجالات الاستخدام المحرم، فإذا كانت مشتركة بين الحرام والحلال، بحيث كانت تستعمل في كل منهما استعمالاً كثيراً، جاز الاتجار بها بيعاً وشراء دون إشكال.

مسألة 596: يجب تغيير صورة الآلات التي تنحصر فائدتها في الحرام إذا توقف النهي عن المنكر وإزالة مظاهره عليه، وإلا لم يجب تغييرها وإن كان هو الأحوط استحباباً. ثم إنه يجوز بيع مادة هذه الآلات من النحاس والخشب والرصاص ونحوها بعد تغيير صورتها، بل قبل تغييرها إذا وثق بأن المشتري يغيرها، فإن لم يثق بذلك، فباعها قبل تغييرها، صح البيع وأثم بترك التغيير.

الرابع ـ في أمور متعددة:

مسألة 597: يحرم الاتجار بأمور:

1 ـ بيع مادة الحرام: يحرم بيع العنب ليعمل خمراً، أو بيع الخشب ـ مثلاً ـ ليعمل صنماً، أو آلة لهو منحصرة في الحرام، وذلك بنحو يكون العقد مبنياً على هذه الغاية المحرمة ومتقوِّماً بها؛ دون فرق في الحرمة وبطلان العقد بين ما لو كان اتفاقهما على ذلك ضمن العقد أو في خارجه، أما إذا كان ذلك بنحو الشرط لا القيد فإنه يصح البيع ويبطل الشرط ويكون الشارط لذلك آثماً. وأما إذا لم يتفقا على ذلك، بل كان البائع يعلم أن المشتري سوف يصنع ذلك العنب خمراً، أو ذلك الخشب صنماً أو نحوه من شعائر الكفر، فإنه يجوز في مثل العنب وغيره من المواد التي يمكن أن يصنع منها آلات الحرام، كآلات اللهو والقمار، دون ما لو كان يعلم أنه سوف يصنع منها أشياء هي من شعائر الكفر.

2 ـ بيع المصحف الشريف: يجوز بيع المصحف الشريف للمسلم، وإن كان الأحوط استحباباً جعل المعاوضة على مثل الجلد لا على نفس المصحف، أو بذله بعنوان الهبة المعوضة لا بعنوان البيع. أما الكافر، فإنه يجوز تمكينه من المصحف الشريف بالبيع أو الهبة أو العارية إذا احتمل اهتداؤه به أو اطلاعه على الحقائق القرآنية كوسيلة ثقافية من وسائل تصحيح معلوماته السلبية عن الإسلام، مما قد يؤدي إلى هدايته أو دفع الحرب الثقافية عن الإسلام.

وأما غير المصحف الشريف من الكتب المشتملة على الآيات والأدعية وأسماء الله تعالى وأحاديث المعصومين i، فإنه يجوز بيعها دون إشكال، وكذا تمكين الكافر منها بالبيع وغيره.

3 ـ بيع كتب الضلال: يحرم بيع وشراء كتب الضلال ونحوها، كالأشرطة المسجلة، ونحوها مما يدون فيه أفكار ومقالات الضلال، إذا احتمل ترتب الضلال عليها لنفسه أو لغيره، فلو أمن من ذلك جاز الاتجار بها، كما يجوز إذا كانت هناك مصلحة أهم، كفضح هذه الأفكار والبدع والتحذير منها. والمقصود بكتب الضلال: (ما يشتمل على العقائد والآراء الباطلة مما يخالف دين الحق أو مذهبه).

مسألة 598: لا يحرم بيع أواني الذهب والفضة، وخاصة إذا كانت للتزيين بها، أما الأكل فيها أو الشرب منها فسيأتي حكمه في باب الأطعمة والأشربة.

وكذا لا يحرم بيع أوراق اليانصيب (أنظر المسألة 214).

المطلب الثالث ـ في ما يحرم فعله حين الاتجار:

مسألة 599: يحرم حين الاتجار فعل أمرين:

الأول ـ الغش: ويتحقق في الحالات التالية:

أ ـ بإخفاء الأدنى بالأعلى، كمزج الجيد بالردي‏ء.

ب ـ بإخفاء غير المراد في المراد، كمزج الحليب بالماء.

ج ـ بإظهار الصفة الجيدة المفقودة واقعاً، كرش الخضروات بالماء ليتوهم أنها جديدة.

د ـ بإظهار الشي‏ء على خلاف جنسه، كطلي الحديد بماء الفضة ليتوهم أنه فضة.

هـ ـ بترك إعلام المشتري بالعيب عند اعتماده عليه في ذلك، فيتوهم أنه صحيح لا عيب فيه.

والغش من كبائر المحرمات، وقد ورد عن النبي w أنه قال: «من غش أخاه المسلم نزع الله بركة رزقه، وسد عليه معيشته، ووكله إلى نفسه». ولكن رغم كونه حراماً فإنه لا يبطل به البيع، فإذا عرف به المغشوش ثبت له به الخيار بين الفسخ وبين الرضا بالبيع كما وقع دون أن يطالب بتعويض ما فاته؛ نعم يبطل البيع في صورة كون الغش بإظهار الشي‏ء على خلاف جنسه إذا كان البيع قد وقع على العين الشخصية أو على كلي في المعين، أما إذا كان المبيع كلياً في الذمة لم يبطل البيع ولم يثبت الخيار، بل إن على البائع دفع الفرد الموافق إذا لم يرض المشتري بالفرد الفاقد.

الثاني ـ الاحتكار: وهو: (حبس السلعة والامتناع عن بيعها بهدف انتظار زيادة قيمتها، مع حاجة المسلمين ومن يلحق بهم من سائر النفوس المحترمة إليها)، وهو حرام في كل سلعة ضرورية، بحيث يوجب فقدها وقوع الناس في المهالك والآلام والحرج الشديد، سواء في ذلك ما كان من نوع القوت أو من غيره من الحاجات التي يصعب الاستغناء عنها، كالوقود والأدوية ونحوها مما يختلف باختلاف الأزمنة والمجتمعات، فضلاً عما هو من قبيل القمح والأرز والسمن والملح وأواني الطبخ ونحوها مما يعد من القوت أو من مقدماته.

هذا ولا يعد من الاحتكار ما لو امتنع التاجر عن بيع ما عنده من هذه الأشياء في زمان الأزمات الاقتصادية بهدف إبقائها لنفسه ولعياله واستخدامها في حوائجهم.

كذلك فإنه ـ نظراً لخطورة آثار مثل هذه المنكـرات ـ يجب على الناس التصدي لهؤلاء المحتكرين ونهيهم عن المنكر وأمرهم بالمعروف ودعم جهود الحاكم العادل المتصدي لذلك، نعم ليس للناهي أن يحدد سعر السلعة لذلك المحتكر بعد بذله لما عنده إلا إذا كان السعر مجحفاً بعامة الناس ومضراً بهم، فيُلزم حينئذٍ بما لا يكون مجحفاً بهم وإن كان أزيد من السعر المتعارف في الظروف العادية.


 

 

الباب الأول

في البيع

 

الفصل الأول: في عقد البيع

الفصل الثاني: في المثمن

الفصل الثالث: في الثمن



 

 

الفصل الأول

في عقد البيع

 

المبحث الأول: في التعريف والصيغة

المبحث الثاني: في شروط المتعاقدين

المبحث الثالث: في شروط العوضين

المبحث الرابع: في التسليم والقبض

المبحث الخامس: في اللزوم والفسخ



 

 

المبحث الأول ـ في التعريف والصيغة:

وفيه مسائل:

مسألة 600: البيع هو: (نقل المال إلى الغير بعوض)، ويتحقق بالعقد القولي أو الفعلي المشتمل على الإيجاب المظهر لرغبة البائع في بذل المثمن بعوض، وعلى القبول المظهر لرغبة المشتري في أخذ المثمن بذلك العوض.

أما العقد القولي فيقع بكل لفظ دال على المقصود، وإن لم يكن صريحاً فيه، فيقع الإيجاب بمثل قوله:«بعت» و«ملكت» و«بادلت» ونحوها، ويقع القبول بمثل قوله: «قبلت» و«رضيت» و«اشتريت» ونحوها؛ وهو يقع باللغة العربية الفصحى أو العامية، بل ويصح بغير اللغة العربية.

ولا يجب أن يكون الإيجاب من البائع والقبول من المشتري، بل يصح أن يوجب المشتري بمثل قوله: «اشتريت منك هذا الكتاب مثلاً بدينار»، فيقبل البائع هذا العرض منه بمثل قوله: «قبلت»؛ بل إنه يصح وقوع العقد من المشتري بصيغة الأمر بمثل قولـه: «بعني هذا الكتاب بدينار» فيستجيب البائـع لـه بقولـه ـ مثلاً ـ: «بعتك الكتاب بدينار»، من دون حاجة إلى قبول المشتري بعد ذلك. وكما يصح العقد القولي باللفظ كذلك فإنه يصح بالكتابة بنفس النحو الذي ذكر للفظ ولو مع القدرة على اللفظ، فضلاً عن العاجز عنه كالأخرس ونحوه.

وأما العقد الفعلي فهو المصطلح عليه بـ (المعاطاة)، ويتحقق بأن ينشى‏ء البائع البيع بإعطاء المبيع للمشتري، وينشى‏ء المشتري القبول بإعطاء الثمن إلى البائع، ولا يشترط في المعاطاة أن يبتدىء البائع بالإعطاء، ولا أن يكون الثمن والمثمن حالَّيْن ولا شخصيين، فتقع المعاطاة بإعطاء البائع المبيع وأخذ المشتري له بلا إعطاء منه إذا كان الثمن كلياً في الذمة، كما تقع بإعطاء المشتري الثمن وأخذ البائع له دون إعطاءٍ منه إذا كان المثمّن كلياً في الذمة. وأما الإشارة فيصح العقد بها ولو من القادر على اللفظ أو الفعل، فضلاً عن العاجز عنهما كالأخرس والمشلول ونحوهما.

مسألة 601: لا يختلف بيع المعاطاة عن البيع القولي في الفاعلية والآثار، فيصح في المال القليل والكثير، ويقبل الشرط أثناءه إذا صرح به الشارط وقبله المشروط عليه، فلو قال البائع حين إعطائه المبيع للمشتري: «جعلت لي الخيار إلى سنة مثلاً»، فقبل المشتري حين أخذه للمبيع، صح العقد ولزم الشرط، سواء في ذلك شرط الخيار أو غيره من الشروط؛ كذلك فإنه يشترط في بيع المعاطاة جميع ما يشترط في البيع القولي من الشروط المعتبرة في العقد وفي المتعاقدين وفي العوضين؛ وكذا تثبت فيه جميع الخيارات على نحو ثبوتها فيه.

مسألة 602: قد سبق القول في باب الإجارة والوقف: «إن المعاطاة تصح فيهما»؛ إضافة إلى ذلك فإنها كما تصح في البيع بالنحو الذي ذكرناه، فإنها تصح أيضاً في سائر العقود والإيقاعات ما عدا موارد خاصة، هي: النكاح والطلاق والنذر واليمين، وكذا في عتق العبد وتحليل الأمة لغير سيدها مما لم يعد موضع ابتلاء.

مسألة 603: إذا تولى العقد عن الطرفين شخص واحد لكونه وكيلاً أو ولياً لكليهما، أو لأحدهما إذا كان هو الطرف الثاني، فلا بد في صحته من اشتماله على الإيجاب والقبول، فيوجب ذلك الشخص عمن هو وكيل عنه أو ولي له أو عن نفسه، ويقبل كذلك، وذلك بنفس النحو الذي يكون عليه العقد بين شخصين.

مسألة 604: يشترط في عقد البيع القولي أو الفعلي أمور:

الأول: المبادرة إلى القبول بالبيع قبل انصراف البائع عنه، حتى لو فصل بين الإيجاب والقبول فترة طويلة نسبياً، فلو أنشأ البائع صيغة البيع فلم يبادر المشتري إلى الموافقة حتى مضت مدة، فإن كان البائع حين صدر القبول من المشتري ما يزال منتظراً له صحّ البيع، وإن كان قد انصرف عن البيع لم يكن لقبوله أثر، ولزم إنشاء العقد من جديد.

الثاني: التنجيز، فلا يصح تعليق البيع على أمر غير حاصل حين العقد، سواء كان معلوم الحصول عند ذلك، كولادة الهلال، أو مجهوله، كولادة صبي له؛ كذلك فإنه لا يصح تعليق العقد على أمر مجهول الحصول حين العقد، كأن يقول له: «بعتك هذا الكتاب بدينار إن كان اليوم الجمعة»، نعم إذا كان يعلم أن اليوم الجمعة صح البيع ولم يقدح فيه التعليق.

الثالث: التطابق بين مضمون الإيجاب ومضمون القبول في الثمن والمثمن وسائر التوابع، فإذا اختلف أحدهما عن الآخر بدرجة تصل إلى التضاد بينهما بطل العقد، كأن يقول البائع: «بعتك هذا الثوب بدينار»، فيقول المشتري: «قبلت منك شراء الكتاب بدرهم»، وأما إذا كان الاختلاف بينهما بالإجمال والتفصيل فلا يضر بالعقد، كأن يقول البائع: «بعتك داري بعشرة آلاف»، فيقول المشتري: «قبلت شراء دارك المكونة من ثلاث غرف كل نصف منها بخمسة آلاف»، فإن مثل هذا النحو من الاختلاف بين الإيجاب والقبول لا يضر بصحة العقد.

مسألة 605: لا فرق في لزوم توفر هذه الشروط بين ما لو كان المتعاقدان حاضرين في مجلس واحد وبين ما لو لم يكونا كذلك، كأن تعاقدا بمثل المكاتبة ونحوها، أما شرط التنجيز وشرط التطابق بين الإيجاب والقبول فالأمر فيهما واضح، وأما شرط الموالاة بين الإيجاب والقبول فإنه معتبر في المكاتبة بنفس النحو الذي اعتبر في غيرها، فإذا كتب أحدهما إنشاء البيع وأرسله إلى بلد المشتري، وبعد أيام وصله جواب المشتري بالقبول، صح العقد بهذا النحو ما دام البائع مستمراً على رغبته بالبيع، وإلا لم يصح.

مسألة 606: لا يشترط لصحة العقد وحدة المجلس، فيصح إجراء العقد عبر الهاتف أو بالمكاتبة أو بأي نحو اتفق إذا اشتمل على الأركان المعتبرة فيه.

المبحث الثاني ـ في شروط المتعاقدين:

يشترط في المتعاقدين أمور:

الأول: البلوغ، فلا يصح عقد الصبي في ماله بدون إذن الولي وإن كان مميزاً رشيداً، فإن أذن له وكان خبيراً في إدارة أمواله ورشيداً في التصرف فيها صح بيعه؛ وكذا يصح بيعه إذا جعله الولي وكيلاً عنه في إجراء الصيغة؛ أما بيعه لمال غيره فإنه يكفي في صحته أن يكون مأذوناً من صاحب المال ومميزاً ورشيداً، ولو لم يأذن وليه.

الثاني: العقل، فلا يصح عقد المجنون الأدواري حال جنونه، ولا المجنون المطبق، حتى لو تحقق منه قصد إنشاء البيع.

الثالث: الاختيار، فلا يصحّ البيع من المكرَه عليه، والمكرَه هو: (من يأمُره غيره بالعمل المكروه له، على نحوٍ يخاف من الإضرار به لو خالفه، بحيث يكون وقوع العمل المكرَه عليه من باب ارتكاب أقل المكروهين)؛ وهو بذلك يختلف عن الاضطرار؛ وذلك أن المضطر لبيع داره لتأمين المال الذي أمره الظالم بدفعه وإن كان كارها لبيع الدار، لكنه قد فعله باختياره بسبب انحصار تأمين المال بهذه الطريقة، دون أن يجبره الظالم على نفس البيع، فلا يضر ذلك بصحة البيع رغم كونه مكروهاً له.

والمراد من الضرر المُهدَّد به ما يعم الضرر الواقع عليه أو على ماله أو كرامته وحرمته أو على بعض من يتعلق به ممن يهمه أمره، كزوجته وأولاده وأبويه ونحوهم، كذلك فإن المراد به خصوص الضرر المعتد به مما يحرص العقلاء على دفعه عن أنفسهم وعن من يهمهم أمرهم، فإن كان الضرر المهدد به يسيراً لا يوجب الخوف في النفس لم يتحقق به الإكراه.

مسألة 607: إذا أمكنه التهرب من الإكراه ببعض الطرق الشرعية لم يجب عليه استخدامها؛ وذلك كأن يدّعي ـ بطريقة التورية ـ أن هذه الدار ليست له، ويكون قصده أنها لله تعالى، ونحو ذلك من أساليب التمويه والخداع للظالم، فإذا لم يستخدم التورية، وبقي عنوان المكرَه صادقاً عليه، فباع عندئذٍ بطل البيع.

مسألة 608: إذا توجه الإكراه إلى أحد الشخصين أو وقع على أحد الشيئين مردداً بينهما، تحقق له نفس الأثر في بطلان البيع، فإذا قال الظالم: «ليبع زيد أو عمرو داره» فبادر زيد فباع داره، أو بادرا معاً فباعا داريهما بطل البيع؛ وكذا لو قال الظالم لزيد: «بع دارك أو سيارتك» فباع سيارته وحدها أو باعها مع الدار دفعة واحدة بطل البيع، نعم إذا باع الثاني داره بعدما علم ببيع الأول لداره في المثال الأول لم يبطل بيعه، وكذا لو باع زيد داره بعدما باع سيارته في المثال الثاني لم يبطل البيع.

مسألة 609: لو أكرهه على بيع دابته مثلاً، فباعها مع وليدها، بطل بيع الدابة وصح بيع الولد، إلا أن يكون الوليد غير قادر على البقاء والعيش بدون أمه، فيبطل بيعه أيضاً حينئذٍ.

الرابع: يشترط في صحة البيع كون كل من العاقدين مالكاً لما تحت يده من الثمن أو المثمن ملكية نافذة، أو يكون بحكم المالك كذلك، كالمأذون من المالك أو الوكيل عنه أو الولي عليه، فإن لم يكن كذلك لم يصح منه البيع إلا بإذن المالك أو مَنْ هو بحكمه إن كان فضولياً، أو بإذن الغرماء إن كان محجوراً عليه لفلس.

مسألة 610: إذا تصدى للبيع أو الشراء عن الغير مَنْ ليس مأذوناً من قبله ولا وكيلاً عنه ولا ولياً عليه توقفت صحة العقد المصطلح عليه بـ (عقد الفضولي) على إجازة المالك أو مَنْ في حكمه، فإذا أجازه صح ونفذ وترتبت عليه آثاره، وإذا رده بطل.

مسألة 611: إذا باع مال غيره معتقداً كونه مالكاً له أو ولياً أو وكيلاً عن المالك، فتبين خلافه، جرى عليه نفس حكم الفضولي، فإن أجازه المالك صحّ وإن ردّه بطل؛ ولو باعه باعتقاد كونه غير مأذون فتبين كونه مأذوناً بوكالة أو ولاية صح البيع ولم يحتج إلى إجازة المالك، وكذا يصح البيع في صورة ما لو اعتقد كونه أجنبياً فتبين كونه مالكاً حين البيع، بدون حاجة إلى موافقة جديدة منه على البيع الصادر عنه إلا إذا كان بحيث لو عرف أنه مالك لما رضي بالبيع فلا بد من الإجازة، نعم إذا ملك الفضولي العين التي باعها بهبة أو ميراث أو شراء أو غيرها قبل إجازة المالك لم يصح البيع الصادر عنه إلا إذا رضي به وأجازه.

مسألة 612: إذا باع مال غيره فضولاً، فتبين أن المالك باعه أيضاً إلى شخص آخر، صح بيع المالك، وتوقفت صحة بيع الفضولي على إجازة المالك الجديد الذي اشترى من المالك الأصلي، فإن أجازه صح وإن رده بطل.

مسألة 613: لا يكفي في صحّة بيع الفضولي علمه برضا المالك بالبيع، بل لا بد لصحة البيع عنه من صدور الإذن منه بخصوصه بما يدل عليه من قول أو فعل؛ كذلك فإنه لا يكفي في إجازة البيع علم الفضولي برضا المالك الباطني، بل لا بد من الدلالة عليه بقول أو فعل، مثل: (رضيت) و (أجزت) ونحوهما من الأقوال، أو بأخذ الثمن الذي باعه به أو نحوه من الأفعال الدالة على الرضا.

مسألة 614: الإجازة تجعل العقد الفضولي صحيحاً ونافذاً ومؤثراً من حين صدوره لا من حين الإجازة، ويترتب على ذلك أن نماء الثمن في فترة ما بين وقوع العقد وإجازته ملك من انتقل إليه الثمن، ونماء المثمن فيها ملك للمشتري.

مسألة 615: إذا كان المالك قد أكد على الفضولي عدم بيع ماله فباعه، كانت إجازة المالك للبيع رغم ذلك معتبرة ونافذة؛ كذلك فإنها تعتبر نافذة أيضاً إذا لم يكن قد سبق البيعَ صدورُ المنع، لكنَّ المالك كان قد رد عقد الفضولي ثم أجازه؛ أما إذا أجاز البيع ثم ردّه فليس لرده أثر، ويستمر البيع صحيحاً لازماً.

مسألة 616: إذا باع الإنسان ماله ومال غيره صفقة واحدة صح البيع فيما يملك وتوقف في غير ما يملكه على الإجازة، فإن أجازه المالك صح وإن لم يجزه بطل، وحينئذ يثبت للمشتري خيار تبعض الصفقة، فيحق له فسخ البيع في الجزء الذي يملكه البائع، وسيأتي في مبحث اللزوم والفسخ عند الحديث عن الخيارات كلام في كيفية تحديد ثمن الجزء الذي رضي المشتري باستمرار العقد فيه. (أنظر المسألة 728).

مسألة 617: إذا رد المالك بيع الفضولي، وكان المثمن ما يزال عند المالك، أو كان الثمن ما يزال عند المشتري، فلا كلام، وأما إذا كان أحد العوضين قد انتقل إلى غير من هو تحت يده، فإن كان المثمن عند الفضولي رجع المالك عليه، وإن كان قد دفعه إلى المشتري رجع المالك على الفضولي أو على المشتري؛ وأما إذا تلف المثمن فإن للمالك أن يرجع على الفضولي إن لم يكن قد دفعه إلى المشتري، وإلا رجع على أحدهما ببدل العين إن كانت مثلية وبقيمتها في يوم الأداء إن كانت قيمية. هذا من جهة المثمن، أما من جهة الثمن فإنه إن كان عند الفضولي وطلبه المشتري وجب عليه تسليمه له، وإن كان قد تلف عنده فهو مضمون عليه ببدله أو قيمته.

مسألة 618: قلنا في المسألة السابقة: «إن لمالك العين المباعة فضولاً أن يرجع بضمانها على الفضولي أو المشتري إذا كانت قد تلفت عند المشتري»؛ وتفصيل ذلك كما يلي:

أولاً: إذا رجع المالك على الفضولي قبل أن يقبض الثمن المسمى من المشتري، فَعَوَّضَ عليه بدل العين أو قيمتها، فإن للفضولي أن يرجع إلى المشتري الذي تلفت عنده العين بما يوازي مقدار الثمن المسمى مما دفعه، لأن المشتري هو الضامن حقيقة للتلف، إلا أن يكون ما دفعه الفضولي كبدل للعين أو قيمتها أزيد من الثمن المسمى، ولم يكن قد أوهم المشتري بأنه هو المالك، بل كان معتقداً أنه مالك العين مثلاً، فإن له أن يرجع بالزائد عليه أيضاً. وأما إذا كان الفضولي قد قبض الثمن من المشتري، فلا ضرورة حينئذ لرجوع الفضولي على المشتري بعدما كان الثمن المسمى موجوداً بين يديه، إلا أن يكون ما دفعه أزيد منه، ولم يكن غاراً للمشتري، فيرجع بالزائد فقط عليه.

ثانياً: إذا رجع المالك على المشتري مباشرة فليس للمشتري أن يرجع بما دفعه على البائع، إلا أن يكون مغروراً من قبله فيرجع عليه بما يدفعه زيادة على الثمن المسمى؛ وهذا الحكم واضح تماماً في صورة ما لو لم يكن المشتري قد دفع الثمن للفضولي، وأما إذا كان قد دفع له الثمن فمن المؤكد أنه يجب على الفضولي إرجاع ما قبضه منه، إذ إنه بعد فساد البيع يرجع كل مال إلى صاحبه كما ذكرنا في المسألة السابقة.

مسألة 619: كما تُضمن العين للمالك عند من تلفت عنده كذلك تضمن منافعها المستوفاة وزياداتها العينية، كالدابة يركبها والدار يسكنها والكتاب يقرأ فيه واللبن يأكله والصوف والبيض ونحوه من وجوه النماء المنفصل؛ وما ذكرناه في ضمان العين يجري في ضمان المنافع والنماء، فيضمنه من استولى على العين واستوفى منافعها وزياداتها، وإن كان يجوز للمالك الرجوع على الفضولي إذا كان المستوفي لها هو المشتري، وحينئذ يحق للفضولي الرجوع بما دفعه على المشتري ما لم يكن قد غره، وإذا رجع المالك على المشتري لم يرجع على البائع إلا إذا كان مغروراً.

هذا إذا استوفى الفضولي أو المشتري منافع العين، أما إذا لم يكن قد استوفى شيئاً من منافعها، كأن لم يكن قد سكن الدار ولا ركب الدابة ولا قرأ في الكتاب، فإن كان للعين منافع يبذل بإزائها المال،كسُكنى الدار وركوب السيارة، بحيث تفوت على المالك عند حبس العين، كانت مثل هذه المنافع مضمونةً حتى لو لم ينتفع بها المستولي على العين، وهي ما يصطلح عليها بـ (المنافع المفوَّتة)؛ وإن كانت مما لا يبذل المال بإزائها عند فوتها على مالكها، كالقراءة في الكتاب، لم يضمنها المستولي على العين، وهي ما يصطلح عليها بـ (المنافع الفائتة). هذا وإننا سوف نتعرض في باب الغصب لأمور أخرى قد يكون لها علاقة ببعض جوانب هذا الموضوع فليرجع إليه.

مسألة 620: لا بد في تصحيح عقد الفضولي بالإجازة من بقاء المشتري على التزامه بالبيع إلى حين الإجازة، فلو أعرض عنه لم تنفع الإجازة في تصحيحه، فإذا باع الفضولي دار سعيد لأحمد، فأعرض أحمد عن البيع قبل إجازة سعيد للبيع، لم تنفع إجازته بعد إعراض أحمد في تصحيح البيع.

مسألة 621: الوكيل في البيع عن شخص لا يجوز له شراء العين لنفسه إلا إذا فهم من الإطلاق رغبته ببيعها لكل مشترٍ بمن فيهم الوكيل نفسه، وكذا حكم الوكيل في غير البيع من المعاملات، كالزواج والإجارة وغيرهما، ويلحقه حكم الفضولي.

المبحث الثالث ـ في شروط العوضين:

لا بد لصحة البيع من توفر شروط في الثمن والمثمن، وهي أمور:

الأول: يشترط في المبيع (المثمن) أن يكون عيناً، والمراد بها ما يقابل المنفعة، فلا يقع البيع على مثل منفعة الدار أو السيارة، ولا على منفعة الشخص، كالخياطة ونحوها، بل هي مورد للإجارة كما سلف بيانه. أما الثمن فلا يشترط فيه ذلك بل يصح أن يكون عيناً أو منفعة، فيبيعه داره مثلاً ويجعل ثمنه فلاحة المشتري لأرض البائع لمدة سنة، أو نحو ذلك، فيصح البيع وينفذ بالنحو الذي تعاقدا عليه.

مسألة 622: (الحق): «حالة اعتبارية ناتجة من أسباب متعددة تفيد تسلط صاحبه بمقتضاه على شي‏ء أو شخص»، كحق الحضانة الناتج عن الولادة، وحق المرور الناتج عن الجوار، وحق الاختصاص الناتج عن ملكية العين، وحق التأليف والاختراع والاستيراد ونحوها. وهذا الحق نوعان: فمنه ما هو مختص بصاحبه لخصوصية شرعية أو قانونية توجبه، كحق الاستمتاع بالزوجة، أو الولاية على القاصر، ونحو ذلك، فهو لا يقبل النقل إلى الغير؛ ومنه ما ليس خاصاً بصاحبه، وليس فيه ما يمنع من نقله إلى الغير، وذلك كحق الاختصاص والتحجير والحضانة ونحوها. ثم إن ما لا يقبل الانتقال من الحقوق نوعان: فمنه ما يقبل الإسقاط كحق الاستمتاع، ومنه ما لا يقبل الإسقاط كحق الولاية. كذلك فإن ما لا يقبل النقل من الحقوق لا يصلح لأن يكون مثمناً ولا ثمناً، نعم يجوز جعل رفع اليد عن الحق وتعليقه أو إسقاطه إن كان يقبل الإسقاط ثمناً، بل ومثمناً كذلك؛ وأما ما يقبل النقل فما دام له اعتبار مالي وقيمة يتنافس فيها العقلاء فإنه يجوز جعله مثمناً وثمناً مثله في ذلك مثل الأعيان، فضلاً عن أنه يجوز جعل رفع اليد عنه وتعليقه ثمناً ومثمناً.

هذا، وإنه قد سبق في أكثر من مورد ذكر حكم بعض الحقوق، كما أنه سيأتي ذكر بعضها الآخر. (أنظر في ذلك المسائل: 35/41/42/53/360/ 472/591).

الثاني: أن يكون كل من العوضين مملوكاً لباذله أو بمنزلة المملوك؛ وتفصيل ذلك كما يلي:

إن الأعيان المملوكة أو التي هي بمنزلة المملوكة قد اصطلح لها على أسماء مختلفة من حيث درجة حضور العين لدى المالك عند حصول العقد، وذلك على النحو التالي:

1 ـ أن تكون العين شخصية ومحددة في الخارج بنحو يشار إليها، وقد اصطلح عليها باسم (العين الشخصية)، وهي لا تكون إلا مملوكة حين التعاقد، فإذا قال البائع: «بعتك هذا الكتاب» فلا بد أن يكون مملوكاً صرفاً له حتى يصح وقوعه ثمناً أو مثمنا. وعليه فإنه قد يحدث بين الناس وقوع المعاملة التالية، وهي: أن يرى زيد بضاعة من القمصان ـ مثلاً ـ معروضة عند سعيد للبيع بسعر معين، فيذهب زيد قبل شرائها من سعيد إلى خالد فيبيعه تلك القمصـان ـ التي ما تزال على ملك صاحبها سعيد ـ بسعر معين، مثل السعر المطلوب أو أقل أو أكثر، وذلك بقصد أن يذهب إلى سعيد ويشتري منه البضاعة ويحضرها لخالد؛ إن مثل هذا البيع غير نافذ ولا تام، لأن زيداً في الواقع قد باع خالداً مال سعيد، وهو بيعٌ فضولي تتوقف صحته على إجازة المالك الذي هو سعيد حسب الفرض.

2 ـ أن تكون العين جزءاً من كُلّي معين، كدونم من الأرض من هذه القطعة الكبيرة، أو طناً من القمح المخزون في هذا المستودع، أو سيارة من نوع معين في موقف فيه عدة سيارات من نفس النوع، وقد اصطلح على هذا المبيع باسم (الكلي في المعين)، أي أن المبيع فردٌ غير مشخّص من كلي مشخص، فهو إذن (كلي في معين)، ويصح وقوع البيع عليه لأنه مملوك ملكاً صرفاً واضحاً.

3 ـ أن تكون العين غير موجودة عند البائع بشخصها، ولا ضمن موجود كلي، بل إن لها وجوداً اعتبارياً متمثلاً في التزام البائع بإيجادها مستقبلاً، وذلك كتاجر البناء الذي يبيع شقة قبل شروعه في البناء اعتماداً على أوصافها في الخارطة الهندسية، أو الذي يبيع ثوباً موصوفاً قبل شرائه البضاعة من مصدرها، ونحو ذلك مما هو بمثابة الالتزام والتعهد من قبل البائع بأن يحضر المثمن للمشتري، وهو ما يصطلح عليه بـ (الكلي في الذمة)؛ ورغم أن البائع قبل شراء البضاعة لا يكون قد ملك شيئاً، إلا أن تعهده بإحضار ما باعه وصيرورته في ذمته هو بمنزلة الملك وقوته، وهذا هو الذي أردناه بقولنا في بداية الشرط الثاني: «..أو بمنزلة المملوك»، والذي على أساسه يصح وقوعه ثمناً أو مثمناً في البيع. ولا يخفى أن ذلك مختلف عما لم نجوزه من البيع الذي ذكرناه في الفقرة السابقة رقم (1)، فإن البيع هناك قد وقع على بضاعة معينة وشخصية قبل تملك البائع لها، وهنا قد وقع على بضاعة (كلية في الذمة)، فلم يصح في الأول لأنه باع ما يملكه غيره، وصح في الثاني لأنه بيع كلي في الذمة، فلا ينافيه عدم كونه تحت يده فعلاً.

وعلى هذا الأساس الذي بيناه فإن كلاً من العوضين يجب أن يكون مملوكاً، سواء كان عيناً شخصية أو كلياً في المعين، أو يكون بمنزلة المملوك، أي كلياً في الذمة، فلا يصح البيع قبل الملك، سواء في بيع ملك غيره فضولاً أو في بيع شي‏ء قبل تملكه من كل أحد، كأن يبيعه هذا الطائر الذي في السماء، أو هذه السمكة التي في الماء، قبل أن يصطاده، أو حطب هذه الشجرة البرية قبل حيازتها، لأنه من بيع المعين الشخصي، أما إذا باعه طائراً في الذمة، فذهب فاصطاد طائراً وسلمه إياه، فإن البيع صحيح، لأنه قد باعه ما هو بمنزلة الملك، أي كلياً في الذمة.

مسألة 623: لا يمنع كون العين مرهونة من بيعها لغير المرتهن، وخاصة مع إجازة المرتهن، غاية الأمر يثبت للمشتري خيار الفسخ مع جهله بالحال.

مسألة 624: الأرض الخراجية، وهي العامرة حين فتحها عنوة، لا يجوز بيعها إجمالاً، وفي ذلك تفصيل قد تقدم في باب (أحكام الأراضي)، فانظر في ذلك مسألة 37 وما بعدها.

الثالث: أن يكون الملك طلقاً، فلو كانت العين موقوفة لم يجز بيعها إلا في موارد تقدمت في كتاب الوقف (المسألة 575).

الرابع: معرفة جنس العوضين وصفاتهما التي تختلف القيمة باختلافهما، كالألوان والطعوم والجودة والرداءة والرقة والغلظة والثقل والخفة ونحو ذلك من الأمور التي لها دخالة في القيمة، أما ما لا يوجب اختلاف القيمة فلا تجب معرفته، وإن كان مرغوباً عند شخص وغير مرغوب عند آخر. ويكفي في كيفية التعرف عليه كل ما يرفع الجهالة به من المشاهدة الحالية عند البيع، أو الرؤية السابقة على البيع، أو بتوصيف البائع له.

الخامس: تحديد مقدار كل من العوضين بالنحو الذي يرفع الجهالة الموجبة لوقوع أحد المتعاقدين أو كليهما في الغرر وتحقق غير المراد، ويكفي في تقدير كل جنس ما تعارف أهل بلد المعاملة على التقدير به، من الوزن أو الكيل أو العدّ أو المساحة، ويصح التقدير بغير المتعارف منها إذا كان رافعاً للجهالة ونافياً للغرر، أما إذا تعارف الناس على بيعه بالمشاهدة فإنه يجب الاقتصار فيها على مواردها المتعارفة، فلا تغني هي في تقدير مثل الموزون والمعدود ونحوهما، نعم مثل القماش والأرض والسجاد ونحوها مما يكون تقديره بالمساحة دخيلاً في زيادة القيمة، فإنه وإن كان ينبغي تقديره بالمساحة إلا أنه يصح بيعه بالمشاهدة إذا كانت المشاهدة رافعة للغرر، وذلك كما هو الغالب في الدور والحصر والسجاد.

وإذا كان الشي‏ء مما يباع في حال بالمشاهدة وفي حال أخرى بالوزن أو الكيل، كالثمر يباع على الشجرة بالمشاهدة وفي المخازن بالوزن، فصحة بيعه بأحدهما تابعة لما هو المتعارف في كل حالٍ من حالاته.

مسألة 625: إذا اختلفت البلدان في تقدير شي‏ء، بأن كان موزوناً في بلد ومعدوداً في آخر ومكيلاً في ثالث، فالمدار في التقدير على بلد المعاملة، وإن كان يجوز البيع بتقدير البلد الآخر إذا لم يكن فيه غرر، ولا سيّما وأنه قد شاعت في زماننا هذا مقادير عالمية للوزن والكيل والمساحة، وذلك إلى درجة أنها صارت تضاهي المقادير المحلية، بل وتفضل عليها.

مسألة 626: قد يؤخذ الوزن شرطاً في الممسوح أو المكيل، كأن يبيعه عشرة أذرع من القماش بشرط أن يكون وزنها ثلاثة كيلوات، أو نحو ذلك مما يلحظ صفة كمال في المبيع لا مقوماً له، فإذا تبين تخلف الشرط وكون وزن ذلك المقدار من القماش أقل مما اشترط فيه أو أزيد لم يبطل البيع، بل يثبت للمشتري خيار تخلف الوصف، فإن أمضى العقد كان عليه تمام الثمن دون أن يُنقص منه بمقدار ما نقص من الوزن المشترط، كما أنه إذا زاد فالزيادة له أيضاً.

مسألة 627: يكفي في معرفة المقدار إخبار البائع به ولو كان فاسقاً، والأحوط وجوباً اعتبار حصول الاطمئنان بإخباره.

مسألة 628: إذا تبين كون المثمن ناقصاً عن المقدار المطلوب كان المشتري بالخيار بين إمضاء المعاملة والقبول بها على ما هي عليه من النقص وبنفس الثمن، وبين فسخ العقد وإلغاء المعاملة، وإذا تبين زيادة المثمن فكذلك يكون البائع مخيراً بين القبول بالمعاملة بالزيادة التي وقعت وبنفس الثمن، وبين فسخ المعاملة.

وكذلك حكم ما لو كان الثمن زائداً أو ناقصاً عن المقدار المطلوب.

السادس: أن يكون كل من العوضين مقدوراً على تسليمه، فلا يجوز بيع المال الضائع، أو الدابة الشاردة، أو الطير الهارب، أو المال المغصوب، دون فرق بين علم المتعاقدين بالحال وجهلهما به، نعم إذا كان الطرف الثاني قادراً على إيجاد المال الضائع، أو الدابة الشاردة، أو كان قادراً على استنقاذ المغصوب، صح البيع؛ كذلك فإنه يصح التعاقد على غير المقدور على تسليمه مع الضميمة المستكملة للشروط، كأن يبيعه سيارته المسروقة مع كتاب ديوان المتنبي بألف دينار مثلاً؛ كما أنه يصح بيع العين المغصوبة للغاصب وإن كان البائع لا يقدر على أخذها منه حين التعاقد.

مسألة 629: إذا علم بالقدرة على التسليم فتبين العجز عنه بطل البيع، وإذا اعتقد العجز عنه فباع فبانت قدرته على التسليم صح البيع.

مسألة 630: إذا طرأ العجز عن التسليم في وقت الاستحقاق بعد القدرة عليه، وكان يعلم بقدرته عليه بعد ذلك، كأن يعلم بعد أن باع سيارته الموجودة عنده أن ولده ذهب بها في سفر، فإن كانت مدة التأخير معلومة وكانت يسيرة، لم يضر بالعقد، وإن كانت طويلة لا يتسامح بها، فالبيع صحيح إذا كان المشتري عالماً بالحال، وكذا إذا كان جاهلاً به ولكن يثبت له الخيار، وأما إذا كانت مدة التأخير غير معلومة فالبيع باطل.

مسألة 631: إذا كان العاقد هو المالك، أو مَنْ هو وكيل عنه في إجراء الصيغة فقط، فالاعتبار إنما هو بقدرة المالك، وأما إذا كان العاقد وكيلاً في المعاملة، كعامل المضاربة، فالاعتبار بقدرته أو قدرة المالك، فإن لم يقدرا على التسليم بطل البيع.

مسألة 632: من اشترى شيئاً ولم يقبضه، فإن كان من غير المكيل ولا الموزون جاز بيعه بربح أو بدونه، وإن كان مكيلاً أو موزوناً، ولم يكن من الثمار، وباعه لغير البائع، لم يجز بيعه بربح، أما إذا كان من الثمار، أي من الفاكهة والخضروات، كالتمر والبطيخ والخيار والخس ونحوها، أو باعه للبائع، فإنه يجوز للمشتري بيعه قبل قبضه مرابحة. هذا، ولا يجري هذا الحكم في ما لو حصل النقل والانتقال بغير البيع، فيجوز لمن ملك شيئاً بالميراث أو الهبة أن يبيعه قبل قبضه بأي نحو كان، كما يجوز لمن اشترى شيئاً أن ينقله مرابحة إلى غيره قبل قبضه بغير البيع، كالصلح والهبة المعوّضة وأجرة لعمل، ونحو ذلك.

تتمة في ما يدخل في المبيع:

ويراد بهذا العنوان بيان وتحديد المثمن (المبيع) عند إطلاق لفظه من جهة ما يدخل معه من توابعه وما يخرج، وتفصيل ذلك في مسائل:

مسألة 633: إذا كان للعين المباعة أشياء تابعة لها ولاحقة بها لم يدخل فيها حين إطلاق لفظها عند البيع إلا ما قصد المتبايعان دخوله فيها دون غيره، ويعرف قصدهما من خلال مدلول اللفظ ومعناه اللغوي، أو من خلال قرينة خاصة أو عامة تكون مصاحبة للعقد حين إجرائه؛ فمثل كلمة (البستان )تدل بمعناها اللغوي على الكل المتكون من الأرض والشجر والبئر والحظيرة ونحو ذلك من التوابع، فإذا وقع لفظ البستان في عقد البيع كان هذا المعنى اللغوي هو مراد المتعاقدين وقصدهما؛ فإن أرادا إدخال شي‏ء زيادة عما يدخل فيه لغوياً، أو إخراج شي‏ء مما هو داخل فيه كذلك، فلا بد من التصريح بذلك في العقد أو الاتكال على وضع خاص قد أحاط بالعقد ودل على دخول ذلك الزائد أو خروج الداخل، وهو ما يعبر عنه بـ (القرينة الخاصة)، أو أنهما يعتمدان في ذلك على وجود عرف عام يحدد ما يدخل في المثمن وما يخرج منه، وهو الذي يعبر عنه بـ (القرينة العامة).

مسألة 634: من باع أرضاً لم يدخل فيها الشجر بحسب المعنى اللغوي، ومن باع الشجرة لم تدخل فيها الثمرة، ومن باع الحيوان الحامل لم يدخل فيه الولد، بل يبقى الشجر والثمرة والولد للبائع، نعم إذا كان ثمر الشجرة بحاجة إلى علاج كي يعتد به ويكون له شأن، كشجر النخيل الذي يحتاج إثماره إلى تلقيح، وهو ما يصطلح عليه بـ (التأبير)، فإنه إذا باع النخل ولم يكن قد أبره ولقحه فثمره للمشتري، وإن كان قد لقّحه فثمره للبائع؛ وهذا الحكم مختص ببيع النخل من بين سائر المعاملات والأشجار، فلو نقل النخل عن ملكه بغير البيع، كالهبة والصلح ونحوهما، أو باع غير النخيل مما يحتاج ثمره إلى علاج وتلقيح، كان الثمر دائماً للبائع حتى لو لم يكن ملقحاً. وهذا كله إذا لم تقم قرينة على خلاف ذلك، وإلا اعتمد مدلول القرينة ولو كانت هي التعارف الخارجي.

وكذلك الأمر في مثل الدار والسيارة والمصنع والدكان، وغير ذلك من الأشياء التي تعرض للبيع، فإن نفس الحكم يجري عليها، فيتبع الدار في البيع أرضها والبناء الأعلى والأسفل وكلُّ ما اشتمل عليه البناء من أبواب وأسلاك كهربائية وأنابيب وحديقة، فيما لا يكون أثاثها وفرشها داخلاً في المبيع إلا مع القرينة. وهكذا يُنظر في سائر الأشياء مدلولُ لفظها أو القرينة لتحديد ما يدخل منها في المبيع.

مسألة 635: ما يكون عميقاً في باطن الأرض من ثروات طبيعية كالمعادن وغيرها ليس مملوكاً لصاحب الأرض تبعاً لملكيته لها، فلا يكون داخلاً في المبيع عند بيع الأرض. (أنظر في ذلك المسألة 1103 من الجزء الأول، والمسألة 148 من هذا الجزء).

مسألة 636: إذا باع الشجرة، وبقي ثمرها للبائع، واحتاجت الثمرة للسقاية، جاز له سقايتها وليس للمشتري منعه، كما أن الشجرة إذا احتاجت للسقاية جاز لمشتريها سقايتها دون أن يكون للبائع الحق في منعه، نعم إذا تضرر أحدهما بالسقي والآخر بتركه فلا بد من الرجوع إلى ما هو المتعارف في مثل هذا الموضوع أو إلى الحاكم الشرعي مع عدم وجود عرف خاص.

مسألة 637: إذا باع بستاناً وأبقى له شجرة أو أكثر، فإن له الممر إليها والمخرج عنها، كما أن له أن ينتفع من الأرض التي حولها بمدى غصونها، وكذا عروقها القريبة منها مما يحتاج إلى عناية ورعاية، دون ما يمتد من العروق بعيداً، وليس للمشتري منعه من ذلك.

المبحث الرابع ـ في التسليم والقبض:

وتفصيل أحكامه في مسائل:

مسألة 638: إذا تم عقد البيع مستكملاً لشروطه وجب على كلٍّ من المتبايعين الوفاء لصاحبه وتسليمه ما التزمه، ويكفي في تسليم البائع للمثمن بذله للمشتري والتخلي عنه وإزالة المانع من حيازته له واستيلائه عليه، كما يكفي ذلك في بذل المشتري الثمن للبائع، سواء كانت العين منقولة أو غير منقولة؛ فلا يجوز لكل واحد منهما تأخير التسليم مع الإمكان، إلا إذا كان قد اشترط ذلك أو رضي صاحبه بالتأخير، فإن امتنعا أجبرا، وإن امتنع أحدهما مع تسليم صاحبه أجبر الممتنع.

ثم إنه إذا قبض كل منهما ما بُذل له وسُلِّم إليه، فاستولى عليه وصار في عهدته، فقد خرج الباذل بقبض المبذول له عن ضمان ما قد يحدث على العين، ثمناً كانت أو مثمناً، ويتحقق القبض لغير المنقول بالتخلية وإزالة المانع، كما في التسليم، ويتحقّق للمنقول بالاستيلاء عليه زيادة على التخلية، وذلك بمثل أخذ الدينار، والإمساك بلجام الدابة، ونحو ذلك مما يختلف باختلاف المنقولات.

مسألة 639: إذا بذل البائع المبيع فامتنع المشتري عن أخذه كفاه في الخروج عن عهدته والمسؤولية عنه إخراجه من حوزته بحيث يستطيع المشتري أخذه، فإن كان امتناعه لعجزه عن أخذه لمرضٍ أو نحوه وجب على البائع حفظه من باب (الحسبة)، والحسبة: (نوع من التكافل يقضي بلزوم تحمل تبعات معينة اتجاه الغير)، ومنها حفظ ماله من التلف في مثل هذا المورد، ولكنه إذا مضت أيام ثلاثة على بذله المبيع دون أن يتسلمه المشتري ولو لعذر، ولم يكن قد سلمه الثمن، ثبت له الخيار بين الفسخ والإمضاء. وهكذا الحال في الثمن لو بذله المشتري وامتنع البائع عن قبضه.

مسألة 640: ما تقدم الكلام فيه في المسألتين السابقتين إنما هو فيما إذا كان المبذول عيناً شخصية، أما إذا كان المبذول ثمناً أو مثمناً كلياً، كأن يبيعه سيارة في الذمة بهذه الخمسة آلاف، أو يبيعه هذه السيارة بخمسة آلاف في الذمة، فإن حق المشتري مثلاً بذلك الكلي الذي في ذمة البائع لا يتعين في فرد خاص عند التسليم إلا برضاهما معاً؛ فإن اتفقا على تعيينه في فرد خاص، وبَذَلَهُ البائع فلم يأخذه صاحبه، كان له إلزامه بقبضه مع قدرته، فإن امتنع خلى بينه وبين المال وخرج عن عهدته، وإذا لم يأخذه لعذر بقي أمانة بيد البائع لا يضمنها إلا مع التعدي أو التفريط. ولو فرض أنهما اختلفا في تعيين فرد من الكلي، أو امتنع أحدهما من التعيين فالمرجع هو الحاكم الشرعي في فض الخصومة.

مسألة 641: إذا اشترط أحدهما تأخير التسليم إلى وقت معين، فقد قلنا سابقاً: «إنه يجوز ذلك»؛ لكنَّ هذه المدة المشترطة لا يجوز أن تكون مجهولة أو مرددة دون تعيين، بل لا بد من تعيينها؛ إما بأجل مضبوط، كالأسبوع والشهر، أو بمجهول قابل للضبط، كموسم الحصاد، أو رجوع الحاج، أو يجعلها مستمرة باستمرار بقاء العين. وهذا النحو من التوقيت غير كاف في بيع الكلي المؤجل المصطلح عليه بـ (بيع السلف) بل لا بد فيه من ضبط الأجل بحد معلوم، كما سيأتي.

ثم إنه إذا حل الأجل وسلمه العين فلا كلام، وإن لم يسلمه تمرداً أو عجزاً كان المشروط له بالخيار بين الفسخ أو الإمضاء والصبر عليه حتى يسلمه.

مسألة 642: إذا كان أحد العوضين مشغولاً بمتاع أو بضاعة لغير من انتقل إليه، وجب على المالك الأول إفراغه مما فيه عند تسليمه، إلا أن يشترط بقاءه فيه دائماً أو لمدة معينة، أو يرضى المالك الجديد ببقائها كذلك من دون اشتراط، ويكفي في الاشتراط تعارف تأخير الإخلاء إلى ما بعد التسليم والقبض في بعض الموارد، كما في الأرض المزروعة إذا بيعت قبل وقت الحصاد وبقي الزرع للبائع، أو الشاحنة تباع اليوم وفيها حمولة لا يمكن تفريغها إلا في وقت معين، وهكذا.

وإذا توقف تفريغه على التصرف بالعين بمثل هدم جزء من الجدار، أو إحداث ثقب في السقف أو خلع قفل أو كسر باب، فإن كان مثل هذه التصرفات متوقعة وملحوظة لم يجب استئذان المشتري، إلا إذا كان البناء العرفي أو غيره على استئذانه، كما وأنه لا يجب على البائع إصلاح الخراب إلا مع الاشتراط أو التعارف؛ وأما إذا لم يكن مثل هذا التصرف متوقعاً ولا ملحوظاً، بحيث لم يبتن البيع عليه، وجب على البائع استئذان المشتري وتحمل الخراب الناتج عن التفريغ، أو الاتفاق مع المشتري على حلٍ مرضٍ للطرفين، كشراء المشتري لما في المبيع ونحوه.

مسألة 643: يجوز لكلٍّ من المتعاقدين اشتراط تأخير التسليم، كأن يبيعه السيارة الفلانية المعينة ويشترط تسليمها له بعد أسبوع مثلاً بالثمن الفلاني على أن يسلمه الثمن بعد أسبوع، سواء في ذلك ما لو كانت الأعيان فيه شخصية أو من نوع الكلي في المعين، أو من نوع الكلي في الذمة.

مسألة 644: يصح أن يشترط البائع لنفسه أو لغيره سكنى الدار المباعة أو ركوب الدابة أو زراعة الأرض مدة معينة قبل تسليمها للمشتري، ويكون ذلك من باب اشتراط التأخير.

مسألة 645: إذا طلب أحد المتبايعين من الآخر إرسال البضاعة أو ثمنها إلى مكان معين، أو طلب تسليمها إلى شخص معين، كان مجرد إرسالها إلى ذلك المكان المعين، أو تسليمها إلى ذلك الشخص المعين، بمنزلة قبض المالك الجديد، ويخرج به المرسل عن المسؤولية لو حدث على العين شي‏ء حين نقلها إليه.

مسألة 646: إذا تلف أحد العوضين أو كلاهما قبل القبض، فإن كان التلف بسبب طبيعي سماوي أو أرضي، أو بما يشبه السبب الطبيعي كالدابة الهائجة، كان تلفه من مال مالكه الأول، ثمناً كان أو مثمناً، وينفسخ به البيع ويبطل، وفي حكم التلف بالسبب الطبيعي ما لو تعذر الوصول إليه بسبب السرقة أو الغرق أو فرار مثل الطائر أو نحوه من الأسباب التي تبقى معها العين موجودة ولكن لا يمكن الوصول إليها، ولم يكن لها بدل يمكن الاستعاضة به عن التالف، وإلا لم يبطل، ولزم المالكَ دفعُ البدل.

وأما إذا كان التلف بفعلٍ بشري ممن يمكن الرجوع إليه في تدارك الخسارة، كأن يتلفه المالك نفسُه أو غيره فالأقوى صحة العقد، وحينئذ لو فرض أن التالف هو المثمن فإن للمشتري الخيار بين الاستمرار بالعقد والرجوع على المتلف وبين فسخ العقد لتعذر التسليم؛ وكذلك الحكم فيما لو كان التالف هو الثمن، فيثبت نفس الخيار للبائع.

هذا إذا تلف أحد العوضين كله، أما إذا كان جملةً له أفراد متعددة فتلف بعضها قبل القبض، بسبب طبيعي أو بشري، انفسخ البيع في المقدار التالف، ثمناً كان أو مثمناً، وأرجع ما يقابله من الثمن أو المثمن، وكان مَنْ تَلِفَ عليه المال بالخيار في الباقي بين الإمضاء أو الفسخ بخيار تبعض الصفقة.

مسألة 647: إذا حصل نماء في المبيع بعد البيع فتلف الأصل قبل قبض المشتري له، كان النماء للمشتري بمقتضى العقد رغم انفساخه بعد التلف في موارد الانفساخ، فضلاً عما لو لم ينفسخ في الموارد الأخرى التي يوجب التلف فيها ثبوت الخيار؛ وكذلك الأمر لو حدث نماء في الثمن بعد البيع وتلف الأصل قبل قبض البائع له، فإن نماء الثمن للبائع بنفس النحو الذي ذكر لنماء المبيع.

مسألة 648: إذا حدث في أحد العوضين عيب قبل القبض لم يبطل به البيع، وكان لمن تعيب عليه رد المعيب والمطالبة بفرد غير معيب، أو المطالبة بالأرش إذا لم يمكن الرد.

المبحث الخامس ـ في اللزوم والفسخ:

إذا وقع عقد البيع مستكملاً لشروطه وقع لازماً، فلا يحق للمتعاقدين فسخ العقد إلا في موردين، الأول: فسخه من قبل أحد الطرفين برضا الآخر وموافقته عليه، وهو ما يسمى بـ (الإقالة)؛ والثاني: فسخه بواحد من الخيارات الثابتة لأحد الطرفين أو لكليهما؛ وتفصيل ذلك يقع في مطلبين:

المطلب الأول ـ في الخيارات:

(الخيار) في اللغة هو: (الاختيار)، وقد يقال له: (الخيرة) بكسر الخاء وفتح الياء، وفي الاصطلاح الفقهي هو: (حق للمتبايعين، أو لأحدهما، يقتضي التسلط على فسخ العقد أو إمضائه، عند حدوث موجبه)، وموجباته تصل إلى الاثني عشر، وقد سمي كل خيار باسم موجبه وسببه، ولكننا سوف نذكر خيار التفليس في مباحث الدَيْن من الجزء الثالث، كما أننا سوف نذكر خيار الرؤية وخيار التدليس تحت عنوان (خيار تخلف الوصف)، فتكون بذلك عناوين هذا المطلب تسعة، هي على النحو التالي:

الأول ـ خيار المجلس:

ويقع في مسائل:

مسألة 649: إذا تم العقد بشروطه، وكان المتبايعان حاضرين في مجلس التعاقد، لم يحكم على العقد باللزوم إلا بعد تفرقهما وانفضاض مجلس التعاقد، فما داما مجتمعين يحق لكل واحد منهما فسخ ما عقده وإلغاؤه، فإذا فسخ كان على الآخر الاستجابة له وإعادة ما قد أخذه منه؛ وهنا عنصران مقوِّمان لموجب هذا الخيار، نبينهما كما يلي:

الأول: عنصر المجالسة والاجتماع: فلا يراد بالمجالسة خصوص لبثهما معاً في مكان معين، بل يراد به أيضاً اجتماعهما وتلاقيهما حين التعاقد ولو كانا ماشيين أو راكبين؛ فإذا تعاقدا عن بُعد بحيث كان أحدهما يسمع الآخر ولو صياحاً، أو بواسطة الهاتف، أو بالمكاتبة، لم يثبت خيار المجلس.

الثاني: عنصر المتعاقدين: فلا يشترط كون المجتمعين للتعاقد هما الأصيلين، بل يكفي اجتماع الأصيل مع وكيل الآخر بالمعاملة، أو مع وليه، كما يكفي كونهما معاً وكيلين عن الطرفين في المعاملة، أو وليين لهما، أو أحدهما وكيل كذلك والآخر ولي؛ فإن لم يكونا كذلك، بل كانا وكيلين في إجراء الصيغة فقط، أو كان أحدهما كذلك، لم يُغن اجتماعهما عن حضور الأصيل مجلس التعاقد.

مسألة 650: إذا كان المباشر للعقد شخصاً واحداً أصالة عن نفسه ووكالة في المعاملة عن الآخر أو ولاية عنه، أو كان وكيلاً في المعاملة عن الطرفين أو ولياً عليهما، فإن كان حين العقد ماكثاً في مكان ثبت له خيار المجلس للطرفين ما دام في مكان العقد، وإن كان حين العقد ماشياً أو راكباً لم يثبت له خيار المجلس، بل الأحوط استحباباً عدم ثبوته حتى في صورة ما لو كان جالساً في مكان.

مسألة 651: تتحقق المفارقة لمجلس العقد بالخروج من مكان التعاقد واحداً بعد الآخر، فإن خرجا معاً وظلا متصاحبين لم يتحقق به التفرق؛ وتتحقق المفارقة من الماشيين أو الراكبين بتباعدهما عن بعضهما.

ولو فرض حضور الأصيلين مع الوكيلين المباشرين للعقد، كان المعيار في الافتراق هو افتراق المباشرين للعقد، فإن تفرقا سقط خيار المجلس حتى لو ظل الأصيلان مجتمعين، وذلك إذا كان المباشران وكيلين في المعاملة أو وليين، فإن لم يكونا كذلك، بل كانا وكيلين في إجراء الصيغة، فإننا قد قلنا سابقاً: «إن اجتماعهما لا يغني عن اجتماع الأصيلين»، وحيث لا بد لثبوت الخيار في هذه الحالة من حضور الأصيلين مجلس العقد، فإن مفارقتهما هي التي توجب سقوطه دون مفارقة الوكيلين.

مسألة 652: إذا مات أحد العاقدين في مجلس البيع فهو بحكم الافتراق، فيسقط به الخيار ويلزم البيع.

مسألة 653: إذا تلف أحد العوضين أو كلاهما بعد قبضه وقبل التفرق عن مجلس العقد، أو خرج كذلك عن ملك مالكه الجديد بناقل يمكن الرجوع فيه، كالهبة لغير رحم، أو بناقل لا يمكن الرجوع فيه، كالبيع والصدقة والهبة للرحم، فإن الخيار لا يسقط بذلك التلف وذلك النقل، بل يضمنه من هو تحت يده ـ عند الفسخ ـ بدفع فرد آخر بدلاً عنه إن كان مثلياً، أو دفع قيمته إن كان قيمياً. هذا إذا تلف أحد العوضين أو نقل، أما إذا تعيّب أو نقص فإنه يضمن العيب بالنسبة.

مسألة 654: يسقط هذا الخيار إضافة لما سبق ذكره بأمور:

الأول: اشتراط عدمه في ضمن العقد أو في ضمن عقد آخر.

الثاني: إسقاطه صراحة بعد العقد وقبل التفرق بكل قول يدل على إسقاطه، مثل: «أسقطت حقي في الخيار» أو «تخليت عن حقي فيه» أو نحو ذلك، ومتى أسقطه لم يكن له أن يرجع فيه، وإذا رجع لم يرجع حقه؛ بل يتحقق الإسقاط بكل ما يدل عليه ولو لم يكن صريحاً فيه، وذلك بمثل ما يظهر منه المضي في البيع وعدم التردد فيه، كتفصيل الثوب لخياطته، أو عرض ما اشتراه للبيع، أو نحو ذلك مما يدل بصورة غير مباشرة على إسقاط الخيار.

مسألة 655: يختص هذا الخيار بالبيع، فلا يجري في غيره من المعاوضات كالإجارة، فضلاً عن غيرها كالهبة.

الثاني ـ خيار الحيوان:

وفيه مسائل:

مسألة 656: إذا كان أحد العوضين حيواناً حياً ثبت الخيار لآخذه ثمناً أو مثمناً ثلاثة أيام، وذلك دون فرق بين ما لو كان أهلياً أو ممتنعاً، ولا بين ما لو كان مما يؤكل لحمه أو لا يؤكل، ولا بين ما لو كان طاهر العين أو نجسها إذا جاز بيعه، ككلب الصيد مثلاً، ولا بين ما لو كان قد أخذه للاقتناء أو للأكل، فلو كان الحيوان ذبيحة مذكّاةً لم يجر فيه خيار الحيوان.

مسألة 657: تحتسب الأيام الثلاثة في هذا المورد كاحتسابها هي أو غيرها في سائر الموارد، وقد سبق ذكر مبدأ هذا الاحتساب في أحكام الحيض وفي أحكام السفر، وهو مبدأ واحد ملخصه ما يلي: إذا تم البيع في فجر اليوم فاللازم احتساب ثلاثة أنهر (جمع نهار) تنتهي في غروب النهار الثالث، ضمنها ليلتان؛ وإذا تم البيع بعد الفجر من أوقات النهار فاللازم احتساب بقية النهار الأول، ثم نهاران بعده، ثم جزء من النهار الرابع ينتهي بنفس الوقت الذي كان قد تم فيه البيع من اليوم الأول، فيدخل ضمنها ثلاث ليالٍ.

مسألة 658: إذا بقي المتعاقدان في مجلس البيع حتى مضت ثلاثة أيام سقط خيار الحيوان وبقي خيار المجلس.

مسألة 659: إذا تلف الحيوان خلال مدة الخيار، قبل قبضه أو بعده، كان تلفه على مالكه الأول، فإن كان مثمناً كان تلفه على البائع، ويبطل به البيع، ويرجع عليه المشتري بالثمن إن كان قد دفعه إليه، وإن كان الحيوان ثمناً كان تلفه على المشتري ويبطل به البيع، ويرجع عليه البائع بالمثمن إن كان قد دفعه إليه؛ وذلك بغض النظر عن أحكام الضمان المترتبة على هذا الإتلاف مما يرجع فيه إلى قواعد الضمان وأحكامه.

مسألة 660: إذا تعيَّب الحيوان خلال مدة الخيار شملته أحكام خيار العيب الآتية، لكن إذا كان مثمناً، وكان قد تعيب بعد قبضه بتفريط من المشتري سقط خياره.

مسألة 661: يسقط خيار الحيوان في غير تلف ولا تعيب خلال مدة الخيار بنفس الأمور الثلاثة التي ذكرناها في خيار المجلس. (أنظر المسألة 654).

مسألة 662: يثبت هذا الخيار في خصوص البيع دون غيره من المعاوضات.

الثالث ـ خيار التأخير:

مورد هذا الخيار ما إذا أمهل البائع المشتري في تأخير تسليم الثمن من دون تعيين مدة الإمهال صريحاً ـ بل ولا ضمناً بمقتضى عرف أو عادة ـ ولم يُسلِّم البائع المبيع حتى يجي‏ء المشتري بالثمن، وحينئذ يجب عليه إمهاله ثلاثة أيام، فإن جاء بالثمن فهو أحق بالمبيع وإلا كان للبائع فسخ العقد.

وهو غير الخيار الذي ذكرنا في مبحث (التسليم والقبض) أنه يثبت عند عدم تسليم المشترِط عند حلول الأجل ما كان قد اشترط تأجيل تسليمه، ثمناً كان أو مثمناً، حيث يثبت للمشروط له خيار الفسخ على رأس المدة المحددة. (أنظر المسألة 641).

وتفصيل أحكامه يقع في مسائل:

مسألة 663: يتميز خيار التأخير بما يلي:

1 ـ اختصاصه بعقد البيع فلا يجري في غيره.

2 ـ اختصاصه بالبائع إذا لم يُسلِّمه المشتري الثمن، فلا يشمل المشتري إنْ لم يسلمه البائع المبيع، فإن حكمه قد ذكر في مبحث (التسليم والقبض).

3 ـ إن مورده هو حالة عدم التقابض مع استعداد البائع للتسليم، وإنما لم يسلم المبيع لأن المشتري غير قادر على تسليم الثمن الآن؛ والظاهر أن قبض بعض الثمن أو بعض المثمن هو بمنزلة عدم القبض، فيبقى موجب الخيار متحققاً.

4 ـ بما أن العقد قد استكمل جميع شروطه سوى تسليم المشتري للثمن، فإن البيع تام، ويجب على البائع الوفاء به إلى ثلاثة أيام، فإن لم يُسلِّم المشتري الثمن جاز للبائع فسخ العقد.

مسألة 664: لا إشكال في ثبوت الخيار فيما إذا كان المبيع شخصياً أو من الكلي في المعين، كذلك فإنه يثبت فيما لو كان المبيع وحده كلياً في الذمة، وإن كان الأحوط استحباباً عدم الفسخ بعد الثلاث إلا برضى المشتري.

مسألة 665: تحتسب الأيام الثلاثة بالنحو الذي ذكرنا احتسابها فيه في خيار الحيوان في المسألة 657.

مسألة 666: إذا كان المبيع من نوع الخَضْروات أو الفاكهة أو اللحوم أو نحوها مما يسرع إليه الفساد، أو يُرغَب في أكله طازجاً، ثبت فيه الخيار للبائع أيضاً ولكن لأقل من ثلاثة أيام، فيصبر البائع إلى الوقت الذي يخشى عليه فيه من التلف، والذي يرجو فيه البائع بيعه لغيره كي لا يبيت عنده ويتلف عليه، وهو الوقت الذي يختلف باختلاف الأصناف والأعراف.

مسألة 667: إذا تلف المثمن عند البائع فإنه يتلف عليه ما دام عنده وفي عهدته، سواء كان تلفه في خلال الأيام الثلاثة أو بعدها، حال ثبوت الخيار أو بعد سقوطه ولزوم البيع، أما الضمان فإنه يرجع فيه إلى قواعده التي قد تختلف باختلاف فروع هذه المسألة.

مسألة 668: يسقط خيار التأخير بإسقاطه من قبل البائع بعد مضي ثلاثة أيام، وكذا يسقط بإسقاطه قبل مضيها، كما يسقط باشتراط سقوطه في ضمن عقد البيع أو عقد آخر غيره؛ أما إذا مضت الأيام الثلاثة ولم يكن قد دفع المشتري الثمن فإنَّ دفْعهُ بعدها قبل فسخ البائع البيع لا يوجب سقوط الخيار، وكذا لا يسقط الخيار ـ في هذه الحالة ـ بمطالبة البائع المشتري بدفع الثمن، نعم إذا بذله المشتري وأخذه البائع منه بعنوان الجري على المعاملة والرضا بها صريحاً أو من خلال القرائن الدالة عليه سقط الخيار، ومثله في السقوط ما لو فعل بالثمن ـ بعد مضي الأيام الثلاثة وقبل قبضه ـ ما يدل على رضاه بالمعاملة، كأن باعه أو وهبه لذي رحم أو نحو ذلك.

مسألة 669: يجوز للبائع التراخي في استخدام هذا الخيار بعد الثلاث ولو لغير ضرورة.

الرابع ـ خيار تخلف الوصف (الرؤية):

وفيه مسائل:

مسألة 670: يتحقَّق خيار تخلف الوصف فيما إذا كان قد رأى عيناً على صفة معينة، أو وصف له المالك عيناً غائبة بأوصاف معينة، فلما صارت في يده وجدها على خلاف ما رآها أو وصفت له، فيتخير بين الفسخ والإمضاء؛ وذلك في خصوص العين الشخصية، كهذه الدار، أو الكلي في المعين، كمُد من هذه الصبرة من القمح، أو شاة من هذا القطيع، أما إذا كان المبيع كلياً في الذمة، وكان الفرد المدفوع على خلاف الوصف، فإن كان له بدل لم يكن له سوى المطالبة بفرد آخر واجد للصفات، وإن لم يكن له بدل كان له الخيار بين الفسخ والإمضاء.

مسألة 671: يُراد بالوصف الذي يوجب تخلُّفُه الخيارَ ما يعم وصف الكمال الذي تزيد به المالية لعموم الرغبة فيه، كالسِّمَن في الشاة، وكون الجلد أصلياً في مثل الحقيبة والحذاء، ونحو ذلك من الصفات المطلوبة في الشي‏ء زيادة على عنوانه الذي يتقوم به، كما يُراد به ما يعم غيره من الصفات المرغوبة عند بعض الناس كثروا أو قلوا، حتى ولو كانت الرغبة فيه نادرة، كالأُميَّة أو كبر السن في الخادم، وكون الثوب أصفر أو أسود. أما إذا كان الوصف المتخلف مما يتقوم به عنوان المثمن أو الثمن، كأَنْ طلب أن يبيعه شاة فباعه بقرة، أو قمحاً فباعه شعيراً، أو نحو ذلك، فإنه لا يكون مورداً للخيار بل يبطل به البيع حتى لو بذل له المطلوب بعد ذلك.

مسألة 672: كما يثبت خيار تخلف الوصف للمشتري إذا وجد المبيع على خلاف الوصف المطلوب كذلك يثبت الخيار للبائع إذا وجد الثمن على خلاف الوصف المطلوب؛ وكذا يثبت الخيار للبائع في المبيع وللمشتري في الثمن إذا كان الفرد المدفوع هو غير المراد اشتباهاً.

مسألة 673: خيار تخلف الوصف يقضي بتخيُّر من له الحق بين فسخ العقد وردّ العين، وبين ترك الفسخ والرضا بالموجود على ما هو عليه دون المطالبة بالأرش، كذلك فإنه لو بذل مَنْ عليه الحق الأرش، أو تعهد له بدفع بدلٍ واجدٍ للوصف، لم يجب القبول على من له الحق.

مسألة 674: حيث لا توجد ظروف موجبة لتأخير استخدام الخيار والتراخي فيه تجب المبادرة العرفية إلى استخدامه وحسم الأمر بالفسخ أو الإمضاء، وإلا سقط حقه في الخيار.

مسألة 675: يسقط هذا الخيار كسابقيه بإسقاطه قبل انكشاف الأمر ورؤية تخلف الوصف في العين وبعده، وبالتصرف الدال على الالتزام بالعقد بعد رؤية العين مختلفة أوصافها عن المطلوب، بل وقبلها إذا كان التصرف دالاً على الالتزام بالعقد؛ وباشتراط عدمه في ضمن عقد البيع أو عقد لازم آخر.

مسألة 676: يدخل في عنوان هذا الخيار ما قد يذكره بعض الفقهاء تحت عنوان مستقل، وهو: (خيار التدليس)، ومورده ما لو كان صاحب العين المشاهدة قد حسَّن أوصافها وزيَّنها بما يظهرها على خلاف ما هي عليه، أو ذكر له أوصافاً حسنة في العين الغائبة على خلاف ما هي عليه، وذلك من أجل خداعه وإغرائه بها؛ فإذا انكشف الأمر للمدلَّس عليه كان بالخيار بين الرضا بالبيع بالنحو الذي وقع وبين فسخ العقد وإلغاء المعاملة.

وإذا رضي بالبيع كما وقع فليس له المطالبة بأرش التفاوت بين العين المطلوبة والعين المبذولة، إلا في مورد واحد في النكاح، هو: (ما لو تزوج امرأة على أنها بكر فبانت ثيباً)، كما سيأتي بيانه في باب النكاح.

ومن الواضح أن الخيار في التدليس سببه تخلف الوصف، ولذا لم نذكره تحت عنوان مستقل، كذلك فإن للتدليس خصوصية، وهي ثبوته في غير المعاوضات من العقود، أي في عقد الزواج، كما سيأتي بيانه في مبحث (العيوب) من باب النكاح.

الخامس ـ خيار تخلف الشرط:

قد جرت عادة الناس في معاملاتهم المختلفة على اشتراط أحد المتعاقدين أو كليهما شروطاً بحيث تبتني عليها المعاملة وتكون جزءاً في عناصر التعاقد؛ وينتج عن ذلك أنه يجب على المشروط عليه الوفاء لصاحبه بما شرطه عليه، فإن لم يفِِ له كان الآخر في حل من المعاملة، فيجوز له فسخها إن شاء إجمالاً. وفي البيع ـ بخاصة ـ يصح أن يشترط المتعاقـدان ـ كلاهمـا أو أحدهمـا ـ أي شرط مشروع على الآخر، كأن يشترط عليه خياطة ثوبه أو دفع مقدار من المال أو قراءة القرآن عن أمواته، أو أن يقوم برياضة عند الصباح أو نحو ذلك من الشروط، فإذا لم يف الآخر بالشرط كان للشارط فسخ عقد البيع، وهذا ما يسمى بـ (خيار تخلف الشرط)؛ كما أنه يصح أن يشترط أحدهما أو كلاهما أن يكون له خيار الفسخ لمدة معينة وبكيفية معينة، بنحو يكون لصاحب الشرط فسخ المعاملة خلال المدة بسبب أو بدون سبب، وهذا ما يسمى (خيار الشرط). ورغم ما بينهما من تقارب، فإن ثمة خصوصيات تستوجب الفصل بينهما، لذا فإننا قد خصصنا هذا العنوان لبيان الشرط وأحكامه، بما فيها ثبوت خيار الفسخ عند تخلفه في العقود اللازمة، ثم أفردنا بعده بحثاً مستقلاً لبيان أحكام (خيار الشرط)، وعلى هذا الأساس نقول:

(الشرط) في الاصطلاح هو: (طلب أحد المتعاقدين أو كليهما عيناً أو منفعة أو عملاً أو حقاً من الآخر، وذلك إما من أجل استمرار الشارط بالالتزام بعقده، كما في البيع وغيره من العقود ما عدا الزواج، أو كمطلوب زائد على مفاد العقد، كما في بعض العقود الأخرى التي لا تقبل الفسخ عند تخلفه، كالزواج)، فإذا قبل المشروط عليه بذلك صار الوفاء بالشرط لازماً عليه إجمالاً؛ وتفصيل أحكامه يقع في مسائل:

مسألة 677: كما يجب الوفاء بالعقد اللازم يجب الوفاء بالشرط المجعول فيه، بل يجب الوفاء بالشرط المجعول في العقد الجائز ما دام الشارط مستمراً في العقد؛ فإذا باع سيارته بثمن معين واشترط على المشتري أن يخيط له ثوبه، أو أن يتنازل له عن حق الحضانة، أو أن ينتفع بداره لشهر، أو أن يقرأ القرآن عن أمواته، وجب على المشروط عليه الوفاء بالشرط، وكذا لو شرط الرجل أو المرأة في عقد الزواج أموراً، فإنه يجب على الآخر الوفاء بها، وهكذا غير البيع وغير الزواج من العقود اللازمة، كالإجارة ونحوها. أما الشرط في العقود الجائزة فمثل ما لو أعاره كتاباً مدة شهر مثلاً واشترط عليه أموراً كالتي مرت، فإنه يجب على المستعير الوفاء بالشرط ما لم يُرجِعْ العارية أو يسترجعها الشارط أو ينتهي أمدها، وهكذا غيرها من العقود الجائزة.

أما الإيقاعات، كالطلاق والإبراء وغيرهما، فلا تقبل بطبيعتها الاشتراط، بمعنى وقوعها معلقة في تأثيرها على التزام الموقع للطلاق مثلاً بالشرط وعدمه، بل إن الإيقاع إذا ألقي معلقاً على شرط يقع لاغياً، كأن يقول: «أنت طالق إن تنازلت عن مهرك»، أو: «أنت مبرأ الذمة من الدين الفلاني إن أهديتني كتاباً»، ونحو ذلك، نعم يصح أن يكون نفس إيقاع الإبراء أو الطلاق شرطاً، كأن تقول: «إن سامحتني بمهرك أطلقك»، لأنه يكون وعداً بإيقاع الطلاق عند تحقق الشرط، وهكذا غيره.

مسألة 678: يجوز اشتراط كل ما يرغب به الشارط من الأعمال والأموال والأقوال والحقوق ولو لم تكن مألوفة، وذلك في جميع مجالات الحياة العامة والخاصة، من المباحات والواجبات والمستحبات والمكروهات، بشرط أن تتوفر فيه الأمور التالية:

الأول: أن يكون غير مخالف لما هو إلزامي في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، فلا يجوز ولا يصح اشتراط ما يخالف الشرع مما يتضمن طلب فعل الحرام، كشرب الخمر والزنا وأكل الميتة ولحم الخنزير ونحوها، أو يتضمن طلب ترك الواجب، كأن يفطر في شهر رمضان، أو يكشف عورته، أو لا يخمس، أو نحو ذلك؛ كما أن منه طلب الإخلال بشرط لازم في متعلقات الأحكام الشرعية وموضوعاتها، مثل أن يطلب منه فعل ما اشترط الشرع عدمه في العمل، كأن يطلب منه الصلاة في ثوب من الحرير إذا كان رجلاً، وهذا هو الشرط العدمي، أو يطلب منه عدم فعل ما اشترط الشرع وجوده، كأن يطلب منه الصوم من دون نية، أو الصلاة من دون استقبال، وهذا هو الشرط الوجودي، وهو إنما يكون حراماً ويترتب عليه بطلان العمل إذا كان الشارط قد شرط عليه الاكتفاء به، فهو تفويت للعمل محكوم بالحرمة؛ ومما يدخل في عنوان ما يخالف الشرع أمور قد أبطلها الشرع وألغى أثرها، وذلك مثل اشتراط جعل مهر امرأة نكاحَ امرأةٍ أخرى، وهو المعروف بـ (نكاح الشغار) الذي كان معمولاً به في الجاهلية، وهكذا أشباه ذلك من الموارد.

هذا، ولا يضر بالشرط ما لو كان مخالفاً للكتاب والسنة في غير ما ذكر من الأمور غير الإلزامية، كأن يشترط صاحب العمل على العامل ترك صلاة النوافل حين قيامه بعمله عنده، أو يشترط عامل المضاربة ترك التبكير إلى العمل، أو يشترط الزوج على زوجته ترك الصيام المستحب خلال حياته الزوجية معها؛ وكذا الأمر فيما لو اشترط المستأجر أو الزوج فعل بعض المكروهات، فإنها وإن كانت مخالفة لآداب الإسلام الواردة في الكتاب والسنة، لكنها لما كانت غير إلزامية فإنه يجوز إلزام الغير بفعلها بسبب مزاج أو مصلحة طارئة أو نحو ذلك، رغم أن فيها ما فيها من عدم اللياقة مع الله تعالى.

الثاني: أن يكون الشرط غير مناف لمقتضى العقد، كما إذا باعه بشرط أن لا يكون له ثمن، أو استأجر منه الدار بشرط أن لا يكون له أجرة، وهكذا.

الثالث: أن يكون مضمون الشرط حين التعاقد من الأعمال الممكنة الحصول، فلا يصح فيما لو كانا عالمين حين التعاقد بعدم التمكن منه، إما لكونه ممتنعاً في ذاته، كالبقاء حياً في الماء نصف ساعة، أو لأن المشروط عليه عاجز عنه، كأن يطلب من الجاهل الأمي تعليمه القراءة والكتابة؛ وكما يحكم ببطلان الشرط الذي يعلمان بتعذر حصوله حين التعاقد، فإنه يحكم أيضاً ببطلان الشرط إذا اعتقد التمكن منه ثم بان العجز عنه من أول الأمر، أو كان متمكناً فعلاً ثم طرأ العجز عنه.

الرابع: أن يكون متعلق الشرط أمراً واضحاً ومحدداً بدرجة يعتدّ بها، ويكفي فيه أن يكون متعيناً في الواقع وإن لم يكن معلوماً لدى أحد الطرفين أو كليهما إذا لم يستتبع جهالة أحد العوضين، فيصح منه أن يبيعه سيارته مثلاً ويشترط عليه أن يقضي ما فات والده المتوفى من الصلاة مما هو مردد بين السنة والسنتين، وكذا يصح توقيته بمثل رجوع الحجاج أو وضع الحمل، ونحوهما مما له أجل معلوم إجمالاً، أما إذا كان غير معين ولا معلومٍ أبداً، أو كان تعينه في الواقع مستلزماً لجهالة أحد العوضين واختلال شروط البيع، كأن يبيعه قماشاً في الذمة مشترطاً أموراً مسجلة في قائمة موجودة في مكتبه غائبة حين البيع، فإن جهالة الشرط بهذا النحو قد أوجبت جهالة المبيع، فيبطل بها البيع، وهكذا أمثال ذلك من الجهالة بالشرط الموجبة لبطلان الشرط وحده أو مع البيع.

الخامس: أن يكون الشرط مذكوراً في العقد ومصرّحاً به فيه، أو يكون العقد مبنياً عليه ومقيداً به، إما لذكره قبل العقد أو لأجل التفاهم العرفي الحاضر في ذهن المتعاقدين حين التعاقد، وهو ما يسمى بـ (الشرط الضمني)؛ فلو ذُكر الشرط قبل العقد ولم يكن العقد مبنياً عليه عمداً أو سهواً لم يجب الوفاء به.

مسألة 679: لا يعتبر في صحة الشرط أن يكون منجَّزاً وفعلياً، بل يجوز أن يشترط عليه أن يصلي عنه بعد موته إن مات قبله، أو أن يسكن الدار المباعة إذا لم يسافر، وهكذا.

مسألة 680: لا بأس بأن يبيع ماله ويشترط على المشتري أن يبيعه له ثانية بعد مدة، نعم لا يصح أن يبيعه نسيئة ويشترط عليه أن يبيعه له نقداً بأقل مما اشتراه، ونحو ذلك من الموارد التي قد يترتب فيها على مثل هذا الشرط منافاة لأحكام الشريعة من جهة أخرى، كما سيأتي في مبحث النقد والنسيئة (أنظر المسألة 807).

مسألة 681: إذا تضمن العقد شرطاً فاسداً، فإن كان فساده غير موجب للإخلال بشروط العقد صح العقد وبطل الشرط، وحينئذ يترتب على العقد جميع آثاره ويكون الشرط الفاسد معدوم الأثر؛ وأما إذا كان فساده من جهة كونه منافياً لمقتضى العقد وشروطه، بحيث يستلزم الوفاء بالشرط فقدان العقد لبعض عناصره وشروطه، فإنه يحكم حينئذ ببطلان الشرط والعقد معاً، وذلك كما لو اشترط وقوع البيع بلا ثمن، أو اشترط أن يكون مهر المرأة في هذا الزواج المؤقت تزويجه امرأة أخرى، أو إيقاع الطلاق بدون شهود، ونحو ذلك مما مر ذكر أمثلة له في بعض المسائل السابقة.

مسألة 682: إذا وقع الشرط صحيحاً فامتنع المشروط عليه من الوفاء به، فإن كان ذلك عن تمرد وعصيان، جاز للشارط إجباره بالطريقة المناسبة والمشروعة، دون فرق بين العقود المختلفة، وزيادة على ذلك، فإنه يجوز للشارط فسخ العقد الذي تخلف فيه شرطه إذا كان العقد من العقود اللازمة غير الزواج، كالبيع والإجارة وغيرهما، وذلك حتى في صورة رضوخه للإجبار ووفائه بالشرط بعد تمنع. أما الزواج فإنه ليس للشارط فسخه حتى لو انتهى الأمر به إلى عدم وفاء المشروط عليه؛ وأما إذا كان عدم الوفاء بالشرط لعجز عنه، ولو كان طارئاً بعد القدرة عليه، بطل الشرط وحده وصح العقد ولم يكن للشارط خيار الفسخ. وعليه فإن )خيار تخلف الشرط( لا يثبت إلا في العقود اللازمة عدا الزواج، وفي خصوص ما لو كان عدم الوفاء مقترناً بالقدرة.

مسألة 683: إن مقتضى خيار تخلف الشرط أن صاحبه يكون فيه مخيراً بين الرضا بالعقد بدون الشرط وبدون أن يطالب بقيمة ما فاته بفقدان الشرط، وبين فسخ العقد وإرجاع العين إلى صاحبها؛ نعم إذا كان قد اشترط عليه مالاً جزاء مخالفته شروط العقد إضافة إلى حقه في الفسخ جاز له مطالبته به وإلزامه به.

مسألة 684: إذا تضمن العقد أكثر من شرط، كفى عدم الوفاء ببعضها في ثبوت خيار الفسخ، فإذا فسخ الشارط العقد سقطت سائر الشروط، ولم يكن له شي‏ء على المشروط عليه؛ نعم إذا تضمنت هذه الشروط بنداً جزائياً بسبب الفسخ، فإنه لا يسقط ويجب على المشروط عليه الوفاء به بالنحو المشروط.

مسألة 685: يسقط خيار تخلف الشرط إذا أسقطه صاحبه وحده دون أن يُسقط معه الشرط، أو إذا أسقط الشرط وتخلى عنه، فإن معنى إسقاط الشرط إسقاط ما له من أثر، فلا يجب على المشروط عليه الوفاء له به، كما أنه لا يحق للشارط الفسخ إذا لم يفِ له به بعد الإسقاط.

السادس ـ خيار الشرط:

وفيه مسائل:

مسألة 686: مثلما يصح اشتراط كل شي‏ء سائغ في العقد فإنه يصح اشتراط خيار الفسخ فيه، فيجعل أحد المتعاقدين أو كلاهما لنفسه أو لغيره حق فسخ العقد إلى وقت معلوم وبكيفية خاصة، فهو (خيار) ناتجٌ ومسبَّبٌ عن الاشتراط، ولذا سمي (خيار الشرط)، فإذا شرطه أحدهما وقبله الآخر جاز لصاحبه بمقتضاه أن يكون مخيراً بين فسخ العقد ورد العوض وبين الرضا بالعقد بالنحو الذي وقع عليه.

مسألة 687: لا يصح اشتراط الخيار في الإيقاعات، كالطلاق والإبراء، لمنافاته لطبيعة الإيقاع، وكذا لا يصحّ في العقود الجائزة لأن الخيار فيها للطرفين موجود في طبيعتها، ويجوز اشتراط الخيار في العقود اللازمة بما فيها الضمان ما عدا الزواج والصدقة والهبة اللازمة.

مسألة 688: يجوز اشتراط الخيار لمدة قصيرة أو طويلة، متصلة بالعقد أو منفصلة عنه، وكلما كانت المدة معلومة المبتدأ والمنتهى كان ذلك أفضل، وإن كان يكفي تقديرها بمثل: (.. ما دام العمر)، أو بما هو معلوم في الواقع مجهول عند المتعاقدين أو أحدهما، كقدوم زيد من السفر، ونحوه مما تكون المدة فيه معلومة إجمالاً، فإذا لم تكن المدة محددة بمثل ما تقدم بطل الشرط وصح العقد؛ ومنه ما لو جعل الخيار شهراً مردداً بين الشهور من غير تعيين له في الواقع، فإنه أيضاً يبطل به الشرط ويصح العقد. وأما إذا لم يحدد كون المدة متصلة بالعقد أو منفصلة عنه فإن مقتضى العقد كونها متصلة به، فإذا جعل الخيار لنفسه شهراً انصرف إلى الشهر الذي يبتدأ من أول لحظة تلي العقد، والذي ينتهي بمضي ثلاثين يوماً من تلك اللحظة.

مسألة 689: إذا تلف المبيع خلال مدة الخيار، فإن كان الخيار مشترطاً للبائع كان تلفه على المشتري، فإذا فسخ البائع البيع وأرجع الثمن وجب على المشتري إعطاؤه مثل المبيع أو قيمته، وإن كان الخيار مشترطاً للمشتري كان تلفه على البائع، فإذا فسخ المشتري فأرجع له البائع الثمن لم يكن للبائع مطالبته ببدل المبيع التالف؛ أما إذا كان الخيار لهما فإنَّ تلفَ المبيع حينئذ على (صاحب المال)، أي على المالك الجديد الذي هو المشتري، ومعنى ذلك أنه يجب على المشتري عند فسخ البيع ضمان المبيع للبائع، سواء كان الفاسخ هو المشتري أو البائع. وكذلك حكم ما لو كان التالف هو الثمن، فإن حكمه في حالة ما لو كان الخيار لأحدهما وفي حالة ما لو كان الخيار لهما هو نفس حكم تلف المبيع الآنف الذكر في هاتين الحالتين.

مسألة 690: يجوز اشتراط الخيار من قبل البائع بطريقة مصطلح عليها بـ (بيع الخيار)، وهي: أن يبيع المالك داره بثمن هو في العادة أقل من ثمنه الحقيقي، ويجعل فيه لنفسه خيار الفسخ إذا ردّ الثمن المدفوع فيه للمشتري، إما بعد مدة معينة أو في أي وقت يرد فيه الثمن، وإلا لزم البيع بالنحو الذي وقع عليه.

أما الفائدة المرجوة من ذلك فهي أن البائع قد استفاد من ثمن البيت خلال هذه السنين واستثمره، ثم استرجع بيته دون أن ينقص منه شي‏ء؛ وأن المشتري قد سكن خلال هذه المدة مجاناً ثم عاد ماله إليه لم ينقص منه شي‏ء.

مسألة 691: كما يصح اشتراط الخيار بهذا النحو لصالح البائع على المثمن، فإنه يصح اشتراطه بنفس النحو لصالح المشتري على الثمن، فلو كان ثمن مائة كتاب سيارةً، فاشترط المشتري باذل الثمن الذي هو السيارة أن يكون له خيار فسخ البيع بعد سنة، على أن يرد له المثمن الذي هو مائة كتاب، صح منه ذلك،. بل إنه يصح لكل منهما أن يشترط على الآخر رد ما عنده بهذا النحو.

مسألة 692: يجب على المتبايعين أن يقع منهما قصد البيع بهذه الطريقة على نحو الحقيقة، فلو لم يتحقق منهما هذا القصد لم تصح هذه المعاملة بعنوان البيع ولم تلحقها أحكامه، بل هي معاملة جديدة يقتصر فيها على ما ينطبق عليها من أحكام مناسبة.

مسألة 693: يحق للمتبايعين في بيع الخيار وضع تفاصيل الشروط، من المدة وكيفية الدفع وغيرهما، بالنحو الذي يريدانه مما يوافق ما تقدم من أحكام البيع والشرط، فمن جهة المدة المضروبة لإرجاع الثمن لا يختلف الأمر فيها بين أن تكون متصلة بالعقد أو منفصلة عنه؛ كما أن له أن يشترط على البائع رد نفس الثمن المدفوع، أو يرضى منه برد بدله إذا تصرف فيه ببيع ونحوه؛ وله أن يشترط أيضاً أنَّ له الفسخ في تمام المبيع إذا رد بعض الثمن، أو الفسخ في بعض المبيع إذا رد بعض الثمن، وسنذكر فيما يأتي بعض الأحكام التي لها علاقة بما يصح اشتراطه وبما لا يصح.

مسألة 694: المراد من رد الثمن إلى المشتري، أو رد المثمن إلى البائع، إحضاره عند المشتري وتمكينه منه، فلو أحضره كذلك جاز له الفسخ حتى لو امتنع المشتري من تسلمه؛ وإذا تعذر تمكينه منه لغيبته مثلاً حين حلول الأجل، كفى في صحة الفسخ تمكين الحاكم الشرعي أو وكيله منه إن لم يكن قد اشترط عليه تسليمه الثمن إليه نفسه، وإلا وجب الصبر حتى يرجع من غيبته ليسلمه له بيده؛ وكذا لو عرض الجنون على المشتري عند حلول الأجل، فإنه يكفي في رد الثمن إحضاره لولي المشتري وتمكينه منه، فإن كان له وليّان كالأب والجد للأب جاز رده لغير من باشر العقد منهما، إلا إذا كان قد اشترط عليه المباشر رده إليه نفسه.

وفي هذا الصدد لو فرض ارتفاع ولاية الولي، كأن كان محجوراً عليه حين العقد لصغرٍ أو جنون، فبلغ الصغير أو عقل المجنون عند حلول الأجل، وجب على البائع إحضار الثمن عند المالك لا عند الولي.

مسألة 695: يجب حين الرد رد نفس العين مع وجودها، ورد بدلها إن كانت تالفة، فإن كانت مثلية رد مثلها، وإن كانت قيمية رد قيمتها؛ بل لا يجوز اشتراط رد البدل مع وجود العين، ولا اشتراط رد مثلها إن كانت قيمية ولا قيمتها إن كانت مثلية، نعم للبائع أن يشترط لنفسه رد بدل المبيع عند عدم التمكن من رد العين ـ رغم وجودها ـ، كما أن للمشتري أن يشترط على البائع رد عين الثمن، بحيث لا يثبت له الخيار في الفسخ إذا تلفت، ولكن شرط المشتري هذا لا يصح إلا إذا كان الثمن الذي دفعه المشتري عيناً شخصية، أما إذا كان الثمن كلياً في ذمة المشتري كما هو الشأن في معظم البيوع فدفع منه فرداً للبائع بعد وقوع البيع، كفى في صحة الفسخ ـ عندئذ ـ أن يرد البائع فرداً غيره، إلا إذا صرح بلزوم رد عين ذلك الفرد المقبوض.

ولـو فرض ـ في هذا الصدد ـ أن المال الذي يريد المشتري دفعه ثمناً في بيع الخيار قد كان موجوداً عند البائع قبل العقد ديناً في ذمته للمشتري، فإذا جعله ثمناً للدار الذي اشتراه من البائع ببيع الخيار، تحول ذلك المال من عنوان كونه دَيْناً، وبرأت ذمة البائع منه، إلى عنوان كونه ثمناً لذلك الدار، فإذا أراد البائع حين حلول الأجل رد الثمن للمشتري كفاه أن يرد فرداً منه، ما دام المشتري لم يُقبضْه عيناً شخصية ثمناً كي يكون ملزماً بردها بنفسها أو ببدلها؛ وأما إن كان للمشتري عين تحت يد البائع، بالإجارة أو العارية أو غيرهما، فإنه إذا جعلها في بيع الخيار ثمناً لداره، وجب على البائع حين حلول الأجل ردّ نفس العين إن كانت باقية أو بدلها إن كانت تالفة، وذلك بالنحو المتقدم في مستهل هذه المسألة.

مسألة 696: لا يجوز للمشتري في فترة ما بين العقد وانتهاء مدة الخيار أن يتصرف في المبيع تصرفاً موجباً لانتقاله عن ملكه، كالبيع والهبة ونحوهما، وإذا تصرف أثم وكانت صحة تصرفه موضع إشكال؛ وكذا لا يجوز له التصرف المتلف للعين، كهدم الدار، وتمزيق الثوب، ونحو ذلك، فإن تصرف به كذلك أثم وكان عليه ضمانه بمثله أو قيمته عند رد البائع الثمن، ولا يسقط بهذا الإتلاف خيار البائع، إلا أن يعلم ابتناء بيع الخيار في قصد المتبايعين على بقاء المبيع بنفسه، مما هو على خلاف الغالب فيه.

مسألة 697: إذا مات البائع قبل استخدام حقه في الخيار انتقل الخيار إلى ورثته، ولهم أن يفسخوا العقد عند رد الثمن إلى المشتري إن اتفقوا عليه، فإن فسخوا كان المبيع المسترجع بينهم على حسب حصصهم في الميراث؛ ولو امتنع بعضهم عن الفسخ لم يصح من الآخر فسخ العقد لا في تمام المبيع ولا في بعضه. وإذا مات المشتري قبل حلول الأجل كان للبائع الفسخ برد الثمن إلى ورثته، إلا أن يكون المشتري قد اشترط عليه رد الثمن إليه بشخصه، فإنه إذا مات سقط حق البائع في الخيار.

مسألة 698: لا يعتبر التلفّظ بالفسخ، بل يكفي مجرد رد الثمن إلى المشتري مقترناً بقصد إيقاع الفسخ به، فضلاً عن أنه يصح بقوله: «فسخت» ونحوه من الألفاظ الدالة على إنشاء الفسخ.

مسألة 699: يسقط هذا الخيار إضافةً لما سبق ذكره من حالات السقوط أثناء ما سبق من المسائل بانقضاء المدة المجعولة له مع عدم الرد، وبإسقاطه من قبل صاحبه بعد العقد.

مسألة 700: قد سبق منا القول في باب الإجارة: «إن طريقة بيع الخيار تجري في الإجارة كجريانها في البيع» (فلاحظ في ذلك المسألة 250).

السابع ـ خيار الغبن:

وتفصيل أحكامه يقع في مسائل:

مسألة 701: يتحقق (الغبن) في البيع عند بيع العين بأقل من قيمتها المجعولة لأمثالها في السوق، أو عند شراء العين بأكثر من قيمتها المجعولة لأمثالها في السوق؛ وليس للقلة والكثرة حدّ محدود بمثل الثلث أو الربع أو الخمس منسوباً إلى كلي الثمن المدفوع، بل إن المقياس فيهما هو عدم تساهل غالب الناس بالمقدار الزائد أو الناقص، وهو أمر يختلف باختلاف نوع المعاملة التجارية وكميتها، فبعض المعاملات التجارية الكبرى يكفي في صدق الغبن فيها كون التفاوت بمقدار العشر أو نصف العشر، فيما لا يضر ذلك بمعاملات أخرى، فالمعيار في القلة والكثرة هو تساهل الغالبية من الناس وتسامحهم فيها أو عدم تسامحهم.

كذلك فإنه لا بد ـ عند لحاظ القلة أو الكثرة ـ من لحاظها مع الشروط التي أخذها أحد المتعاقدين أو كلاهما على الآخر، مما قد يكون له علاقة بزيادة الثمن أو نقصه في السوق.

مسألة 702: إذا تحقق الغبن تخير المغبون ابتداءً بين الرضا بالمعاملة بالثمن الذي وقعت عليه دون مطالبة المغبون بمقدار التفاوت، وبين فسخ العقد وإلغاء المعاملة، نعم إذا جرى عرف البلد الذي تمت فيه المعاملة، في جميع المعاملات أو في بعضها، على قاعدة مفادها: (أن للمغبون المطالبة بمقدار التفاوت أولاً، فإن رضي الغابن بدفعه لم يكن للمغبون فسخ العقد، وإن لم يرض بدفعه كان له أن يفسخ العقد حينئذٍ)، كان الخيار للمغبون عندئذ بذلك النحو المتعارف.

مسألة 703: إذا ثبت الخيار للمغبون بين الفسخ والرضا بالعقد كما وقع لم يجب عليه قبول مقدار التفاوت إذا بذله الغابن، بل إن له الفسخ رغم ذلك إذا كان راغباً به؛ كما أن له أن يصالحه على الرضا بالعقد مقابل مبلغ يدفعه الغابن لإسقاط المغبون حقه في الفسخ؛ فإذا تصالحا كذلك سقط الخيار، ووجب على الغابن دفع عوض المصالحة.

مسألة 704: إنما يثبت الخيار للمغبون بالنحو المتقدم في صورة ما لو كان جاهلاً بالغبن ومبالياً وحريصاً على التعامل بسعر السوق، فلو كان عالماً بالغبن وخبيراً بالأسعار، أو كان جاهلاً لكنه لم يكن مبالياً بالتعامل بسعر السوق وراغباً بالسلعة بأي سعر كان، لم يكن له الخيار في الحالتين.

مسألة 705: إذا باع أو اشترى شيئين بثمنين صفقة واحدة، أي بشرط كونهما مجتمعين في مبيع واحد، وكان مغبوناً في أحدهما دون الآخر، لم يكن له التبعيض في الفسخ، بل إن عليه إما فسخ البيع فيهما أو الرضا به كذلك بثمنه الذي وقع البيع عليه.

مسألة 706: الظاهر اعتبار الفورية العرفية في خيار الغبن، بمعنى لزوم مبادرة المغبون لاستخدام حقه في الفسخ إذا عزم عليه، وعدم تأخيره أزيد مما هو متعارف فيه بحسب موارده المختلفة في نوع وكيفية المبادرة، وذلك عند حصول العلم بثبوت الغبن وثبوت الخيار له بسببه، فلا يضر في ثبوته مرور مدة كان فيها جاهلاً بهما أو بأحدهما أو غافلاً عن ذلك أو ناسياً له إذا بادر لاستخدام حقه بالنحو المتعارف بعد العلم والالتفات. كذلك لا يضر التأخير الذي لا يعد توانياً ومماطلة في استخدام الخيار وإعماله، كما لو انتظر حضور الغابن، أو ليستشير نفسه ويتفكر في الفسخ وعدمه، أو نحو ذلك مما لا يتنافى عرفاً مع الفورية.

مسألة 707: الظاهر كون خيار الغبن ثابتاً من حين العقد لا من حين ظهور الغبن، ويترتب على ذلك أن المغبون حال جهله بالغبن إذا فسخ المعاملة بسبب أو بدون سبب يصح فسخه إذا ثبت الغبن واقعاً، فلا يحتاج معه إلى فسخ جديد بعد ظهور الغبن.

مسألة 708: يشكل ثبوت خيار الغبن في صورة ما لو كان مغبوناً حين العقد، ثم تغيرت الأسعار فزال الغبن قبل استخدام الخيار وفسخ العقد، وعليه حينئذ إما الرضا بالمعاملة أو الاحتياط الوجوبي بالتصالح مع الغابن على الفسخ وتحصيل رضاه به.

مسألة 709: يجري الخيار المذكور في كل معاوضة لا تبتني على التسامح واغتفار الزيادة والنقص، كالإجارة ونحوها، وإلا لم يجر فيها الخيار، وذلك كما في الصلح الذي يُهدف منه إلى قطع النزاع وفضِّ الخصومة ولو كان فيها نقص عليهما أو على أحدهما.

مسألة 710: يسقط خيار الغبن ـ إضافة لسقوطه بما سبق ذكره ـ بأمور:

الأول: إسقاطه بعد العقد، ولو قبل ظهور الغبن، نعم إذا أسقطه بانياً على التساهل بالغبن إلى حد معين فتبين كونه أفحش من ذلك وأكثر بطل الإسقاط وثبت له الخيار، إلا أن يكـون حين الإسقـاط غيـر مهتـم بدرجـة الغبـن ـ لو انكشف ـ بقدر اهتمامه بإعفاء الغابن من مسؤولية الغبن وإسقاط حقه عنه. وكذا الحكم لو تصالحا على إسقاط خيار الغبن قبل ظهور الغبن إذا ظهر وتبين كونه أكثر مما كان يتوقع.

الثاني: اشتراط سقوطه في متن العقد؛ ولو فرض أنه بنى قبوله الضمني بالشرط على ما لو كان التفاوت معقولاً فتبين كونه أفحش مما توقع فإنه يجري فيه التفصيل المتقدم في الأمر الأول.

الثالث: أن يتصرف المغبون بالعين بعد علمه بالغبن تصرفاً يدل على التزامه بالعقد واختياره المضي فيه، وذلك بمثل تفصيل الثوب أو بيعه أو هبته أو نحو ذلك؛ وأما إذا تصرف بها قبل العلم بالغبن، ولم يظهر من تصرفه هذا ما يدل على رضاه بالعقد على كل حال، كما هو الغالب في التصرف بالعين في حال الجهل بالغبن، لم يسقط الخيار بذلك التصرف، حتى لو كان متلفاً للعين أو مخرجاً لها عن الملك بالبيع ونحوه، وإلا سقط الخيار إذا دل تصرفه على الرضا بالعقد على كل حال.

مسألة 711: إذا ظهر الغبن للبائع المغبون، ففسخ البيع، فإن كان المبيع ما يزال موجوداً عند المشتري استرده منه؛ وإن وجده تالفاً بفعل المشتري أو بغير فعله ضمنه للبائع، فيرجع البائع عليه حتى لو كان المتلف آفة طبيعية أو شخصاً أجنبياً، نعم إذا كان متلف المبيع هو المغبون نفسه لم يرجع على المشتري حينئذ؛ وكما هي القاعدة في كل مورد من موارد الضمان، فإن على المشتري دفع مثل المبيع إن كان مثلياً أو دفع قيمته إن كان قيمياً، وذلك بحسب قيمته يوم الأداء.

ويثبت حكم الإتلاف هذا ـ أيضاً ـ فيما إذا نقل المشتري المبيع إلى غيره، سواءً بالعقد اللازم، كالبيع والهبة المعوّضة والصدقة ونحوها، أو بالعقد الجائز كالهبة غير المعوضة والبيع بالخيار، فليس للبائع المطالبة باسترجاع عين المبيع حتى مع إمكانه من قبل المشتري، ولو طلبه البائع لم يجب على المشتري إجابته؛ نعم إذا رجعت العين إلى المشتري بأي سبب كان، بما في ذلك ما لو كان قد اشتراها ممن انتقلت إليه، وذلك قبل فسخ المغبون للعقد أو بعده وقبل دفع المشتري البدل له، وجب عليه رد العين إليه حينئذٍ.

هذا، ولا يمنع من رد العين كونها مسلوبة المنفعة بإجارة أو عارية، بل له الاستمرار في عقده ولو كان جائزاً، ويخلي ما بين المالك وبين العين المباعة مسلوبة المنفعة، مع تعويض ما ينقص من قيمتها بسبب ذلك.

مسألة 712: إذا فسخ البائع المغبون عقد البيع، وكان قد طرأ على المبيع تغير بفعل المشتري وتصرفه فيه، أو بغير فعله، كفعل أجنبي أو بحادث طبيعي، فإنَّ حكمه يختلف بين ما لو كان التغير بالزيادة تارة وبالنقص أخرى وبالامتزاج ثالثة، وذلك على النحو التالي:

أولاً ـ حكم التغير بالنقص:

فإذا حدث بسبب التصرف في المبيع نقص كان للبائع استرداده مع ضمان المشتري له بمثل ما نقص أو قيمته؛ كذلك فإن عليه أن يدفع زيادة على ذلك أرش النقص الذي قد يحدث على القسم المسترد من العين إذا كان فقدانها لجزء منها موجباً لحدوث نقص في قيمتها لا يعوضه ما دُفع من قيمة الجزء الناقص أو من مثلٍ له.

ثانياً ـ حكم التغير بالزيادة:

إذا حدثت زيادة في المبيع عند المشتري، ففيه حالات ثلاث:

الأولى: أن تكون الزيادة صفة متحققة في العين دون أن تُحدث فيها زيادةً في نفس مادتها، كالطحن للقمح والصبغ للثوب، فإن لم توجب مثل هذه الزيادة زيادة في القيمة أخذها البائع منه دون أن يترتب عليه شي‏ء للمشتري عوضاً لتلك الزيادة، وكذا إن أوجبت زيادة في القيمة على الأقرب، وذلك من دون فرق بين ما لو كانت بفعله، كصبغ الثوب، أو بغير فعله، كما إذا اشترى منه خلاً قليل الحموضة فزادت حموضته من نفسه.

الثانية: أن تكون الزيادة صفة موجبة لزيادة مادة العين نفسها، فإن لم تكن قابلة للانفصال عنها، كسمن الحيوان ونمو الشجرة، فإن حكمها هو نفس حكم الحالة الأولى.

وأما إذا كانت قابلة للانفصال، كالصوف واللبن والثمر والبناء والزرع ونحوها، فإن الزيادة كلها للمشتري، وحينئذ فإن لم يلزم من فصل الزيادة عند استرداد البائع للعين ضرر على المشتري كان له إلزامه بفصل الزيادة عن العين وأخذها، بل إن له إلزامه ولو كان فيه ضرر على المشتري، وإن كان الأحوط استحباباً التراضي بينهما على ذلك، أو ضمان البائع للمشتري ما يحدث عليه من ضرر الفصل. وفي مقابل ذلك، فإنه ليس للبائع منع المشتري من فصل تلك الزيادة، لكنَّ على المشتري تدارك ما يحدث من نقص على العين للبائع، فإذا أراد مثلاً قلع شجرته أو هدم بنائه، كان عليه أن يطمّ الحفرة ويسوي الأرض عند إرجاعها إلى البائع.

الثالثة: أن تكون الزيادة بامتزاج المبيع بغيره، كامتزاج ماء الورد بالماء، أو الخل بالسكر، أو الزيت بالزيت ونحو ذلك، وحكمه يختلف باختلاف الآثار الناتجة عن الامتزاج على النحو التالي:

أ ـ أن يكون الامتزاج بغير جنسه، فإن أوجب الامتزاج استهلاك المبيع وصيرورته بحكم التالف، كامتزاج ماء الورد بكمية كبيرة من الماء، ضمن المشتري المبيع للبائع بمثله أو قيمته؛ وإن أوجب الامتزاج تولد طبيعة ثالثة بسبب التفاعل بين الممتزجين، كالشراب المعروف في بعض البلاد بـ (السكنجبين) المصنوع من الخل والسكر، فحكمه اشتراك البائع والمشتري في العين بنسبة مقدار العنصر الذي يملكه كل منهما إلى المجموع لا بنسبة قيمة ذلك العنصر؛ وإن لم يوجب الاختلاط تولد طبيعة ثالثة؛ بل عد الموجود خليطاً من موجودات متعددة لا يمكن فرز بعضها عن بعض إلا بكلفة بالغة، كمزج مقدار من القمح بمثله من الشعير، فليس للبائع إلزام المشتري بفرز المبيع عن الزيادة الغريبة التي طرأت عليه، بل ولا إلزامه بدفع بدله، بل يتصالحان على حل مُرضٍ لهما بوجه لا يستلزم الربا، على ما سنذكره في (ربا المعاملة).

ب ـ أن يكون الامتزاج بموجود من جنسه، فإن بقيا بالامتزاج متمايزين، كاختلاط القمح بالقمح، فحكمه هو نفس حكم الامتزاج بغير جنسه مما لا يمكن فرزه عنه، دون فرق في ذلك بين ما لو كانا متماثلين في الجودة والرداءة أو مختلفين؛ وإن صارا بالامتزاج موجوداً واحداً، كخلط الطحين بالطحين، أو السمن بالسمن، فإنهما يشتركان فيه بنسبة مقدار ما لكل منهما.

مسألة 713: إن ما ذكرناه في المسألة السابقة والتي قبلها حول حكم تلف أو تغير المبيع عند المشترى إذا كان البائع هو المغبون يجري بنفسه في صورة ما لو كان المغبون هو المشتري، وكان حين فسخ البيع قد تلف المبيع عنده، أو تصرف به تصرفاً مغيراً له بالزيادة أو النقص أو الامتزاج؛ أو كان البائع الغابن قد تصرف بالثمن بما أوجب تلفه أو تغيره، أو كان البائع المغبون قد تصرف هو بالثمن بما يوجب تلفه أو تغيره، فإن حكم تلف العين ونقل المنفعة ونقص العين وزيادتها ومزجها بغيرها، وسائر الصور التي ذكرناها هناك، يجري بنفسه في جميع هذه الفروع.

مسألة 714: إن ما ذكرناه في المسائل السابقة من أحكام تلف أحد العوضين، أو تغيره بالزيادة أو النقص، يرجع إلى ما لو كان المتلف هو غير مالكه الأول (أي: غير من ستؤول إليه العين بعد فسخ العقد)، فلو كان متلف المبيع الموجود عند المشتري هو مالكه الأول، أي البائع، أو كان متلف الثمن الموجود عند البائع هو مالكه الأول، أي المشتري، فإن حكم التلف والتغير سوف يختلف كما يلي:

أولاً: إذا أتلف البائع المغبون المبيع عند المشتري، أو أتلف المشتري المغبون الثمن عند البائع، ثم فسخ العقد لم يكن له شي‏ء عند الآخر، فلا يطالبُ البائعُ المشتري بالمبيع لأنه هو الذي أتلفه، وعليه إرجاع الثمن للمشتري، وكذا لا يطالب المشتري المغبونُ البائع بالثمن لأنه هو الذي أتلفه، وعليه ردُ المبيع له؛ والحكم نفسه يثبت لو كان المتلفُ غابناً وأراد صاحبُه المغبونُ فسخَ العقد، فإنه ليس له شي‏ء على المغبون إذا كان هو الذي أتلف العين التي كان ينبغي ردها إليه.

ثانياً: إذا حدث تغيّر في أحد العوضين بالزيادة أو النقص من قِبَل من سيؤول إليه بعد فسخ المغبون العقد، كأن يُحدثَ البائعُ المغبونُ في المبيع الذي هو تحت يد المشتري ما يوجب الزيادة فيه أو النقص، أو يُحدثَ المشتري المغبونُ في الثمن الذي هو تحت يد البائع حدثاً كذلك، فإن كان زيادة فلا إشكال، لأن مآل العين إليه بعد الفسخ والزيادة منه، فهي ـ إذاً ـ منه إليه، وإنْ كان نقصاً مضموناً، فإنه هو الفاعل في ملكه فلا إشكال أيضاً؛ وفي كل الأحوال ليس على الطرف الآخر سوى تسليم العين التي عنده ثمناً أو مثمناً لمالكها الأول على حالتها التي هي عليه من زيادة أو نقص ما دامت بفعله، كما أنّ على هذا المالك الأول أن يرجع ما عنده من ثمن أو مثمن لذلك الطرف الآخر.

الثامن ـ خيار العيب:

وتفصيل أحكامه يقع في مسائل:

مسألة 715: يثبت خيار العيب للمشتري عند انكشاف عيب في المبيع، وللبائع عند انكشاف عيب في الثمن، والمراد من العيب هو: (ما يكون من نقص أو زيادة في الشي‏ء على خلاف طبيعته وخلقته الأصلية، أو ما يكون معدوداً عند العرف عيباً حتى لو كان تامّ الخلقة وطبيعي التكوين، مما يختلف باختلاف الأعيان والمجتمعات)؛ نعم إذا كانت معظم أفراد النوع معيبة بذلك العيب لم يثبت بسببه خيار العيب، إلا أن يكون فيه عيب آخر. هذا ولا يشترط في العيب أن يكون موجباً لنقص المالية، بل يثبت به الخيار إن عُدّ عيباً رغم عدم نقص ماليته، غاية الأمر أنه لا يثبت به الأرش في موارد ثبوته ما دامت العين غير ناقصة المالية.

مسألة 716: إذا ثبت العيب في العين ثبت الخيار به لصاحبها، فإن شاء أمضى المعاملة ورضي بالعين كما هي دون أن يطالب بأرش (أي: عوض) التفاوت الواقع بين العين السليمة والمعيبة، وإن شاء فسخ المعاملة ورد العين إلى مالكها الأول؛ فإن لم يمكن الرد لزمه المضي في المعاملة والمطالبة بالأرش، وإنما يمتنع الرد في موارد:

الأول: تلف العين بأي سبب ومن أي متلف، فيتساوى في ذلك ما لو كان آفة طبيعية أو فعلاً بشرياً، وما لو كان المتلف هو المالك الأول أو الثاني أو الأجنبي، إذ إن حدوث التلف على العين بأي نحو موجبٌ لزوال حق صاحب الخيار بالفسخ ورد مثلها أو قيمتها وانحصار حقه بالرضى بالمعاملة مع أخذ أرش التفاوت.

الثاني: خروجها عن الملك بناقل لازم، كالبيع والهبة المعوضة، أو بناقل جائز كالهبة غير المعوضة.

الثالث: التصرف بالعين حال كونها عند مالكها الجديد، سواءً بفعله أو بفعل غيره، وذلك بتصرف خارجي موجب لتغير العين، كمثل صبغ الثوب أو خياطته أو نحوهما، دون ما لو كان غير مغير لها، كلبس الثوب وقيادة السيارة ونحوهما؛ أو بتصرف اعتباري مستلزم لتغير وضع العين، بمثل خروج منفعتها عن سلطة مالكها بالإجارة أو الرهن، لا بمثل إعارتها لأجنبي أو بمثل استخدامها من قبل أهل بيته ونحو ذلك مما لا يعد تصرفاً مهماً بها.

الرابع: حدوث عيب في العين بعد قبضها من مالكها السابق، دون فرق بين ما لو كان العيب بفعل أحدهما أو بفعل أجنبي أو حادث طبيعي.

مسألة 717: إذا اشترى ما هو من المكيل أو الموزون بجنسه بدون تفاضل تجنباً للربا، فإنه إذا ظهر عيب في أحدهما فله المطالبة بأرش التفاوت عند عدم التمكن من الرد على الأقوى، وإن كان الأحوط استحباباً عدم المطالبة به، والرضا بالعقد على ما هو عليه.

مسألة 718: كما يثبت الخيار بالعيب الحادث قبل العقد كذلك يثبت بالعيب الحادث بعده قبل القبض، وذلك بالنحو السابق، نعم إذا لم يتمكن من رد العيـن للأسبـاب المذكـورة في مسألة سابقة جاز لمن انتقلت إليه العين المعيبة ـ ولنفرض أنه المشتري ـ أخذ الأرش إذا لم يكن ذلك العيب الحادث بعد العقد بفعله، وإلا فلا شي‏ء له.

مسألة 719: إذا كان الثمن أو المثمن شيئين على نحو الصفقة الواحدة المأخوذة بشرط الاجتماع وبقاء جزئيها، فظهر عيبٌ في أحد الشيئين، كان صاحب العين المعيبة بالخيار بين فسخ العقد برد المعيب وحده أو برد المعيب وغيره، لكنه إذا ردّ المعيب كان للآخر فسخ العقد في الصحيح بخيار تبعض الصفقة.

مسألة 720: إذا اشترك شخصان في شراء شي‏ء أو بيعه، فوجدا الثمن أو المثمن معيباً، جاز لأحدهما الفسخ في حصته، إضافة إلى جوازه لهما معاً في حصتيهما، لكنه إذا فسخ أحدهما في حصته كان للمالك الأول، بائعاً أو مشترياً، أن يفسخ العقد في حصة الآخر بخيار تبعض الصفقة.

مسألة 721: إذا زال العيب قبل ظهوره لمالك العين الجديد سقط خياره.

مسألة 722: المعيار في تحديد مقدار التفاوت بين قيمة الشي‏ء صحيحاً وقيمته معيباً ـ وهو الذي يسمى (الأرش) ـ، أن يُرجَعَ إلى أهل الخبرة لتقويمه صحيحاً وتقويمه معيباً، فتؤخذ النسبة بينهما وينقص بقدرها من الثمن، سواء كان مختلفاً عن قيمته صحيحاً عند أهل الخبرة أو متفقاً معها؛ مثلاً: إذا كان قد اشترى الكتاب بثمانية، وكان سعره صحيحاً عند أهل الخبرة ثمانية ومعيباً بأربعة، كان الأرش الذي ينقص من الثمن هو الأربعة، أي نصف ثمنه صحيحاً؛ وإذا كان قد اشتراه بأربعة، وقوم صحيحاً ومعيباً بالسعرين السابقين، فإنه ينقص من الثمن مقدار نصفه وهو اثنان، وهكذا.

وإذا اختلف أهل الخبرة في تقويمه لوحظت النسبة بين القيم المختلفة، فإن اتحدت أسقط من الثمن بمقدارها؛ ومثال ذلك: أن يقومه بعضهم صحيحاً بثمانية ومعيباً بأربعة، وبعضهم الآخر صحيحاً بستة ومعيباً بثلاثة، فالنسبة بين القيمتين في كل من التقويمين هي النصف، فيسقُط بالأرش نصفُ ثمن المعيب.

وأما إذا اختلفت النسب بين التقويمين أو التقاويم وجب اعتماد الطريقة التالية التي نبينها على ضوء المثال التالي، وهو الذي افترضنا فيه حدوث الاختلاف بين تقويمين فقط، كما أننا افترضنا فيه الثمن المسمى أربعة دنانير ثمناً للثوب، مثلاً:

التقويم الأول: الصحيح ثمانية والمعيب أربعة.

التقويم الثاني: الصحيح عشرة والمعيب ستة.

فهنا نجمع قيم الصحيح مع بعضها ونقسمها على عدد التقاويم، فإن كانت اثنين قسم المجموع على اثنين، وإن كانت ثلاثة قسم على ثلاثة، وفي المثال المفروض لدينا تقويمان، فنأخذ نصف مجموع قيمتي الصحيح، ومقداره (9)، وهو حاصل الحساب التالي: (8+10÷2=9)؛ ثم نجمع قيم المعيب مع بعضها البعض بنفس الطريقة السابقة، ثم نأخذ نصف مجموع قيمتي المعيب المفترضتين في المثال، ومقداره (5)، وهو حاصل الحساب التالي: (4+6÷2=5) فتكون النسبة بين نصفي المجموعتين هي (5/9)، وهو الذي يمثل النسبة الواجب دفعها من الثمن المسمى، والذي هو حسب الفرض (4)، فيكون ما يجب دفعه من هذه الأربعة دنانير ثمناً لذلك المعيب هو: (2/2)، أي ديناران وجزءان من عشرة أجزاء من الدينار، وهو حاصل الحساب التالي: 4×5/9=20/36= (2،2) تقريباً، ويكون مقدار الأرش الساقط من الأربعة دنانير هو: (8،1)، وهو حاصل الحساب التالي: 4×4/9=16/36= (8،1) تقريباً.

مسألة 723: إنما يثبت خيار العيب فيما إذا كان الثمن أو المثمن المعيب عيناً شخصية، أما إذا كان كلياً ودفع البائع أو المشتري منه فرداً معيباً فلا خيار، بل إن على دافع العين المعيبة إبدالها بفرد صحيح، فإن امتنع كان للآخر عليه خيارالفسخ لتعذر التسليم.

مسألة 724: تعتبر الفورية العرفية في هذا الخيار، فلا يصح من صاحبه التباطؤ في استخدامه وتأخير الفسخ إن أراده أكثر من المتعارف فيه بحسب اختلاف موارده، وحيث لا يعتبر في نفوذ الفسخ حضور مَنْ عليه الخيار، فإنه لا يكون انتظار حضوره عند غيبته عذراً في ترك الفورية إلا إذا كان المتعارف في المعاملات حضوره عند إيقاع الفسخ.

مسألة 725: يسقط الرد والأرش بأمور:

الأول: ببراءة أحد الطرفين أو كليهما من العيب حين العقد، مما يعد تعبيراً عن اشتراط عدم رد العين المعيبة وترك المطالبة بأرشها.

الثاني: بالاشتراط الصريح لسقوط حقه في الرد والأرش معاً وقبول الآخر بالشرط، وعليه فإنه لو اشترط سقوط الرد وحده دون الأرش صح الاشتراط، فيسقط الرد ويبقى الأرش.

الثالث: بإسقاط حقه في الخيار رداً وأرشاً، وإلا فإنه يسقط ما ينص على سقوطه منهما دون الآخر.

الرابع: بالعلم بالعيب قبل العقد.

الخامس: بالرضا بالعقد والالتزام به بعد العلم بالعيب، إذا ظهر منه ما يدل على تنازله عن الأرش، وإلا لم يكف مجرد الرضا بالعقد في سقوط الأرش.

التاسع ـ خيار تبعض الصفقة:

وفيه مسائل:

مسألة 726: يثبت خيار تبعض الصفقة في كل مورد لا يتم البيع فيه في بعض المبيع أو في بعض الثمن؛ وذلك إما لكونه شيئاً واحداً فينكشف كون جزء منه غير داخل في المبيع لكونه وقفاً، أو مملوكاً للغير ـ وكان قد باعه فضولياً، ولم يجز المالك البيع ـ، أو لثبوت الخيار فيه لعيب ونحوه؛ وإما لكونه شيئين أو أكثر وكان قد تم بيعهما صفقة واحدة بشرط الارتباط والاجتماع، فينكشف بطلان البيع في واحد من المبيع أو أكثر للأسباب المتقدمة؛ فحيث تتبعض الصفقة بهذا النحو يثبت لمن تبعضت العين التي تحت يده حق الفسخ بسببه أو الرضا بالبيع بالمقدار الذي وقع فيه مع إرجاع البائع للمشتري من الثمن بمقدار ما نقص من المبيع، أو إرجاع المشتري للبائع من المبيع بمقدار ما نقص من الثمن.

مسألة 727: كما يثبت هذا الخيار في البيع يثبت في غيره من المعاوضات، كالإجارة، وقد تقدم ذكر ثبوته في كل مورد تتبعض فيه الصفقة في الإجارة وفي المباحث السابقة من بحوث البيع، وربما فيما يأتي أيضاً، وذلك لأن مواردها موزعة، ويذكر كلُّ منها في موضعه المناسب.

مسألة 728: إذا رضي المشتري بالبيع في البعض ولم يفسخ العقد قُوِّم ذلك البعض عليه بحصته من الثمن وأرجع البائع له الباقي؛ ولتحديد حصة ذلك البعض من الثمن صورتان:

الأولى: أن تكون قيمة الأجزاء أو الأفراد المجتمعة واحدة في حال اجتماعها وفي حال تفرقها، وحينئذ ينظر ما يساوي الناقص منها من الثمن فيُحسم ويرد إلى المشتري مثلاً.

الثانية: أن تكون الأجزاء أو الأفراد مختلفة القيمة زيادة أو نقصاً عند اجتماعها عنها عند تفرقها، فإن تساوت قيمة كل جزء من الأجزاء منفرداً في زيادتها أو نقصها عن قيمة كل جزءٍ منها مجتمعاً فالأمر فيه سهل، إذ نحسم من الثمن الكلي مقدار قيمة ما نقص من الأجزاء بسعر المفرد منه، فلو فرض كتاب ذو عشرة أجزاء ثمنه مجتمعاً ثلاثون، أي ثلاثة لكل جزء منه، وثمن كل جزءٍ منه منفرداً أربعة، لزم حسم أربعة لكل جزء ينقص منه، وهكذا.

وأما إذا اختلفت قيمة الأجزاء بسبب ذلك الاجتماع فزادت في بعضها ونقصت في البعض الآخر أو زادت في بعضها أكثر منها في البعض الآخر، أو نحو ذلك من وجوه الاختلاف، فإن الطريقة المعتمدة في معرفة نصيب الباقي من الثمن هي التالية:

أولاً: نقوم ذلك المبيع صفقة عند أهل الخبرة متفرقة أفراده تارة ومجتمعة أخرى، ولنفرض المثال على شاة مع وليدها، فنقصت الأم من المبيع وظل الجدي، وكان ثمنهما المسمّى عشرين، فَقَوَّمَ أهلُ الخبرة ذلك الجدي منفرداً بثلاثة، ومجتمعاً مع أمه باثني عشر ثمناً لهما معاً، فتكون نسبة الثلاثة إلى الاثني عشر هي الربع حسب تقويم أهل الخبرة.

ثانياً: نأخذ تلك النسبة وهي (الربع)، ونرى مقدارها في الثمن المسمى وهو العشرون، فإن ربعها خمسة، فنعتبرها ثمناً للجدي الباقي من الصفقة، ويُرجع البائع للمشتري من الثمن المسمى ما يقابل حصة الأم التي نقصت من المبيع، وهو خمسة عشر.

وهكذا نفعل في سائر الموارد.

تتمة فيها فائدتان:

الأولى ـ في وراثة الخيار:

وفيها مسائل:

مسألة 729: الخيار من الحقوق القابلة للانتقال عن طريق الإرث وحده، فلا ينتقل بالبيع مثلاً ولا بالهبة ولا بغيرهما من العقود، وإن كان يصح إسقاطه مجاناً أو بعوض؛ فإذا مات مَنْ له الخيار خلال المدة المحددة له انتقل إلى وراثه وشملته أحكام الميراث، فيُحرم منه من يحرم من إرث المال بالقتل والكفر، ويُحجَبُ عنه من يحجب عن إرث المال، ونحو ذلك مما هو مذكور مفصلاً في باب الإرث. بل إن أحكام الإرث تشمل صورة ما لو كان العقد الذي فيه الخيار متعلقاً بمال يحرم منه بعض الورثة، بسبب الإشتراط أو غيره.

مسألة 730: إذا تعدد الوارث للخيار فلا بد في نفوذ الفسخ من قبلهم من اتفاقهم عليه، فلو رغب به بعضهم وامتنع عنه آخرون لم ينفذ فسخ ذلك البعض إلا أن يرضى من عليه الحق بفسخهم في ذلك البعض فيصح في حصته.

مسألة 731: إذا فسخ الورثة بيع مورثهم لزمهم دفع العين إلى مالكها السابق إن كانت موجودة، وإن كانت تالفة أو منتقلة عنه بناقل لازم أو جائز أخرج مثلها أو قيمتها من تركة الميت كسائر ديونه.

الثانية ـ في مدى تأثير العقد في زمن الخيار:

مسألة 732: ينفذ العقد ويؤثر أثره بمجرد وقوعه مستكملاً لشروطه، ولا يتوقف على مضي زمن الخيار، فالمبيع خلال مدة الخيار في ملك المشتري، والثمن في ملك البائع، ونماء كل منهما لمن هو تحت يده، أي لمالكه الجديد، كما أن تلفه إذا تلف عليه، غير أنه لابد من إلفات النظر إلى ما يلي:

أولاً: لا يخفى أن القاعدة العامة المقررة في باب الضمان تقضي بأن الخسارة الناتجة عن التلف تقع على مالك العين التالفة، وهو هنا المالك الجديد إذا كان قد قبض العين، فإذا تلف المبيع مثلاً بعدما قبضه المشتري وصار تحت يده كانت خسارته على المشتري، وهو وحده الذي يتحمل تبعة هذه الخسارة، كتحصيل حقه ممن أتلفه ونحو ذلك، وليس على البائع شي‏ء تجاه ذلك إلا أن يكون هو المتلف، فيضمن حينئذ ما أتلفه من مال غيره على طبق قواعد الضمان؛ وكذا لو كان التالف هو الثمن بعدما قبضه البائع، فإنه يتلف على مالكه الجديد وهو البائع، ويجري فيه نفس الكلام السابق؛ وذلك من دون فرق في جريان هذه القاعدة في البيع بين البيع الخياري وغيره، ودون فرق في البيع الخياري بين سائر الخيارات ما عدا بعض الحالات في بعض الخيارات التي لها زمان محدد، فإن ثمة قاعدة أخرى مفادها: (إن التلف في زمن الخيار ممن لا خيار له)، أي: إن العين التي تتلف في زمان الخيار الذي يكون ثابتاً لطرف دون الآخر تكون تبعة تلفها ومسؤوليته على من لا خيار له منهما، فهو المسؤول عن رد مثل العين أو قيمتها لمن هي مضمونة له إذا فسخ صاحب الخيار العقد، وهو المسؤول عن متابعة المتلف وتحصيل حقه منه؛ ولذا فإنه قد يكون ذلك الطرف المسؤول هو نفسه مالك العين الجديد وقد يكون المالك السابق؛ أما مورد ذلك فهو منحصر في ما يلي:

1 ـ في خيار الحيوان: إن التلف فيه دائماً على المالك السابق، فإذا كان المثمن حيواناً دون الثمن، فالتلف على البائع لأن الخيار فيه للمشتري؛ وإذا كان الثمن حيواناً دون المثمن، فالتلف على المشتري لأن الخيار فيه للبائع.

2 ـ في خيار الشرط: إن التلف فيه دائماً على المشروط عليه، فإذا شرط البائع الخيار لنفسه دون المشتري، كان تلف المبيع على المشتري لأنه لا خيار له، ولو انعكس الفرض، بأن جعل المشتري الخيار لنفسه دون البائع، انعكس الحكم، وكان تلف المبيع على البائع دون المشتري؛ وهكذا الحكم لو كان التالف هو الثمن.

وبناءً على ذلك، فإنه لو كان الخيار الزماني للطرفين، كما في خيار المجلس، وكما لو كان العوضان حيوانين في خيار الحيوان، وكما لو جعل كل منهما الخيار لنفسه في خيار الشرط، فإن تلفه يكون على ما هو مقتضى القاعدة العامة، أي أن تلفه دائماً على من هو تحت يده، فلا يكون مشمولاً لهذه القاعدة الاستثنائية، لأن موردها هو خصوص ما لو كان الخيار في المعاملة لأحد الطرفين على الآخر.

أما خيار التأخير، فهو وإن كان خياراً زمانياً، إلا أنه خارج عن مقامنا هذا، لأن مقامنا مختص بما لو كان التلف بعد قبض المالك الجديد للعين، فيما خيار التأخير قائم على بقاء المبيع عند البائع، وفي مثله يكون التلف عليه دائماً، كما سبق ذكره في مبحث (خيار التأخير).

ثانياً: كنا قد ذكرنا في مبحث (التسليم والقبض) أن نماء أحد العوضين يكون لمالكه ولو كان قد حدث بعد العقد وقبل القبض، ولا يختلف الحكم فيه بين ما لو كان النماء قد حدث في زمن الخيار من البيع الخياري وبين ما لو لم يكن البيع خيارياً، لكن إذا فُسخ العقد بالخيار رد من عليه الخيار العين مع ما يلحق بها من النماء عرفاً، كاللبن في الضرع، دون غيره من نمائه، وكنا قد عرضنا لحكم النماء تفصيلياً في مبحث الغبن مما هو غير مختص بالغبن في خطوطه العامة والأساسية، بل يجري في كل حالة يقع فيها الفسخ وتُرد فيها العين إلى مالكها السابق، والحكم في الجميع لا يخرج عن تلك القاعدة؛ نعم قد ورد أنه يستحب لمن كان الحيوان تحت يده، واستفاد من حليبه خلال أيام الخيار الثلاثة، ثم فسخ من له الخيار العقد، ورده إلى صاحبه، يستحب له أن يدفع ثلاثة أمداد من القمح لصاحب الحيوان مقابل ذلك الحليب. (المد: وزن قديم يساوي ثلاثة أرباع الكيلو تقريباً).

المطلب الثاني ـ في الإقالة:

الإقالة هي: (فسخ العقد من قبل أحد المتعاقدين بعد طلبه من الآخر)، وتفصيل أحكامها يقع في مسائل:

مسألة 733: تقع الإقالة بكل ما دل عليها من قول أو فعل، فتقع بالقول بكل لفظ يدل على المراد ولو لم يكن عربياً، كما تقع بالفعل بمثل أن يطلب أحدهما الفسخ من صاحبه، فيجيبه إلى طلبه بدفع ما تحت يده إليه، فتتحقق به الإقالة، وحينئذ يجب على الطالب إرجاع ما في يده إلى صاحبه. وإذا تحققت الإقالة لزمت، فلا يجري فيها فسخ ولا إقالة.

مسألة 734: تجري الإقالة في عامة العقود اللازمة بما في ذلك الهبة اللازمة، ما عدا النكاح والضمان والصدقة؛ وكما تصح في جميع ما وقع عليه العقد من أجزاء وأفراد فإنها تصح في بعضه، فإذا استقاله في البعض وأجابه الآخر قسط الثمن على الباقي بالنسبة.

مسألة 735: إذا كان طرفا العقد أو أحدهما متعدداً صحت إقالة البعض في حصته ونفذت ولو لم يرض الآخر.

مسألة 736: تختص الإقالة بطرفي العقد، فلا تجرى ولا تصح من الوارث بعد موت أحدهما.

مسألة 737: يجوز جعلُ مال أو عمل في مقابل الإقالة شرط أن يكونا مستقلين عن الثمن والمثمن، سواء مِنْ طالبِها أو من المستجيب لها، كأن يقول له: «أقلني ولك علي ألف درهم» أو: «لك علي خياطة ثوبك» أو نحوهما، فإذا أقاله لزمه القيام بما شرطه على نفسه بعد الإقالة؛ نعم لا يجوز أن يكون ذلك الجَعْل بزيادة على الثمن أو المثمن، فإذا قال له المشتري: «أقلني ولك علي أن أرجع لك الكتاب كتابين»، أو يقول: «..على أن أرجع لك الكتاب مع درهم زيادة عليه»، لم يصح ذلك إقالة، وبقي كل عوض على ملك من هو تحت يده.

مسألة 738: تلف أحد العوضين أو كليهما لا يمنع من صحة الإقالة، فإذا تقايلا رجع كل عوض إلى صاحبه الأول، فإن كان موجوداً أخذه، وإن كان تالفاً رجع بمثله أو بقيمته يوم الأداء؛ كذلك فإن خروج العين عن ملك مالكها الجديد ببيع أو هبة أو نحوهما بمنزلة التلف، ويلحقه حكمه.

مسألة 739: إذا تعيب أحد العوضين في يد من هو عنده صحت الإقالة، فترجع العين المعيبة إلى مالكها الأول مع الأرش.

مسألة 740: إقالة النادم مستحبة، وقد ورد الحث عليها في عدد من الروايات منها: «أيما عبد أقال مسلماً في بيع أقاله الله عثرته يوم القيامة».


 

 

الفصل الثاني

في المثمن

 

المبحث الأول: في بيع الثمار

المبحث الثاني: في بيع الحيوان

المبحث الثالث: في بيع السلف



 

 

تمهيد:

نريد بهذا العنوان بحث كل ما له علاقة بـ (المثمن) من حيث كونه هو المبيع المطلوب والمبذول بإزائه الثمن، ورغم أن ما سبق ذكره من أحكام العقد في الفصل السابق شامل لكل مثمن، إلا أن له أحكاماً أخرى من حيث كونه من الثمار أو من الحيوان، ومن حيث كونه حالاً أو مؤجلاً، وهي أمور يستدعي بيانها وضع مباحث ثلاثة على النحو التالي:

المبحث الأول ـ في بيع الثمار:

يراد بالثمار كل نبت من الشجر التي يراد ثمرها، كالتمر والتفاح والموز، أو التي يراد ورقها، كالشاي والحناء والسدر، بل وسائر أجزائها، كلحائها وأغصانها ونحوهما، كما في شجر الأفاويه والتوابل؛ وكذا يراد بالثمار كل نبت من الخضروات على أنواعها، كالبطيخ والخيار والفجل والنعناع؛ وكذا كل نبت من الحبوب، مثل الفول والعدس والقمح والأرز ونحوها، وقد يراد به خصوص الأشجار المثمرة من الفاكهة وما أشبهها، كالجوز واللوز ونحوهما، وذلك في قبال الزرع الذي يراد به الحبوب بخاصة والخُضَر.

وهي ـ من حيث المبدأ ـ سلعة لا تختلف في أحكام البيع عن غيرها من السلع التي تقع ثمناً أو مثمناً إذا كانت مستكملة لشروط البيع، وخاصة لجهة كونها معلومة المقدار، ولم تكن قد بيعت بالتفاضل إذا كانت من المكيل أو الموزون؛ غير أنّ الذي فرض تخصيصها بهذا المبحث هو أن الكثير من بيوعات الثمار تحدث إما قبل ظهور الثمرة بنحو يكون مَظنَّة جهالة المقدار، وإما أنها تباع بثمرة أخرى من جنسها أو من غير جنسها بنحو يكون مَظنَّة الربا؛ وتفصيل ذلك يقع في مطلبين:

المطلب الأول ـ في بيع الثمرة قبل ظهورها:

وفيه ثلاثة فروع:

الفرع الأول ـ في بيع الثمار (الفاكهة):

وفيه مسائل:

مسألة 741: لا إشكال في جواز بيع الثمرة على شجرها منفردة دون أصولها إذا كانت قد ظهرت واستبان حالها فبدت سليمة ووصلت إلى مرحلة يمكن تقديرها بـ (التخمين) بنحو يقارب مقدارها الواقعي ويرفع عنها جهالة النوع والمقدار إجمالاً، سواء في ذلك ثمرة التمر وغيرها من سائر الفواكه التي تنمو على شجر؛ وأما إذا ظهرت الثمرة ولكن لم تصل في ظهورها إلى درجة الاستبانة في نوعها ومقدارها بالنحو الآنف، فإنه لا إشكال أيضاً في جواز بيع نفس الثمرة الظاهرة بما هي عليه من المقدار ومن درجة الاستبانة إذا كان لها مالية معتد بها، سواء اشترط على المشتري أن يقتطفها في الحال أو بعد نضجها، كما أنه يجوز في مثل هذه الحالة بدون إشكال أيضاً وقوع البيع على الثمرة الظاهرة لا بما هي عليه من المقدار ودرجة النضج، بل بما ستؤول إليه من النضج فيما بعد إذا باعها لمدة عامين متواليين أو أكثر، أو لمدة عام واحد مع ضميمة شي‏ء آخر معلوم المقدار والأوصاف إليها، أما إذا باعها بعد ظهورها وقبل استبانتها على غير ذلك من الوجوه فالأقوى الجواز، وإن كان ينبغي الاحتياط بترك البيع.

وأما إذا كان الشجر في مرحلة الإزهار؛ ولم يكن قد ظهر شي‏ء من ثمره، فإن الأحوط وجوباً ترك بيعه في هذه الحالة في خصوص عامه هذا دون ضميمة، وإن كان للجواز وجه؛ فيما يجوز بيعه دون إشكال لمدة عام مع الضميمة، ولمدة عامين أو أكثر من دون ضميمة.

هذا كله إذا بيعت بدون أصولها، أما إذا بيعت مع أصولها فلا إشكال فيه مطلقاً.

مسألة 742: إذا كانت الشجرة تثمر مرتين في العام كفى ذلك في جواز بيعها عاماً واحداً قبل ظهور الثمرة دون حاجة إلى ضميمة معها، ونُزِّل حملُها مرتين منزلة ما لو بيعت لعامين.

مسألة 743: يعتبر في الضميمة المجوزة لبيع الثمرة قبل ظهورها أو استبانة حالها أمور:

الأول: أن تكون مملوكة لمالك الثمرة.

الثاني: أن تكون لها مالية يعتد بها مستقلة عن الثمرة، سواء كانت مثل الشجر أو الأغصان اليابسة، أو مثل الثوب والكتاب والخاتم وغيرها من الأموال والحقوق.

الثالث: أن يكون الثمن المدفوع من المشتري مدفوعاً في قبال الثمرة والضميمة معاً على نحو الإشاعة.

الرابع: أن تكون الضميمة على درجة من الاعتبار المالي تناسب ما بذل فيها وفي الثمرة من ثمن إذا لم تظهر الثمرة وخسرها المشتري، فلا يكتفى فيها بما لَه مالية ضئيلة بنحو يضيع معها رأس مال المشتري إذا لم تظهر الثمرة.

هذا، ولا يشترط في الضميمة أن تكون هي المقصودة أساساً في البيع بنحو تكون الثمرة تابعة لها، بل يكفي فيها أن تكون تابعة للثمرة.

مسألة 744: يجوز في مثل البستان المشتمل على أشجار قد ظهر ثمرها واستبان حالها وعلى أشجار لم يظهر ثمرها ولا استبان حالها أن يبيع ثمار الأشجار غير الظاهرة منضمة إليها الثمار الظاهرة إذا اجتمعت فيها الشروط الآنفة للضميمة، سواء في ذلك ثمر البستان الواحد أو المتعدد، وسواء كانت الضميمة من جنس المبيع أو من غيره.

مسألة 745: يجوز لبائع الثمرة أن يستثني من الثمار المباعة ثمرة شجرة أو أشجار معينة، كما يجوز أن يستثني منها مقداراً محدداً، وذلك إما بالكسر، كمثل الثلث والنصف، أو بوزن معين كمائة كيلو مثلاً، غير أنه في صورة ما لو استثنى مقداراً محدداً، ونقص الحاصل عن مقدار التخمين، كان النقص عليهما والزيادة لهما إذا كان المستثنى مقدراً بالكسور، فيما يكون النقص عليهما دون أن تكون الزيادة بينهما إذا كان التقدير بغيرها، كالوزن أو العد أو نحوهما، وذلك أنه في صورة لو كان البائع قد استثنى ثلث الحاصل فإن له ثلث ذلك الحاصل مهما كان مقداره قليلاً أو كثيراً، وأما في صورة ما لو كان التقدير بالوزن مثلاً، ولنفرض أنه استثنى مقدار مائة كيلو منه، فإنه ليس له عند تساوي الحاصل مع مقدار التخمين وعند زيادته عليه إلا المائة كيلو التي طلبها، أما إذا نقص الحاصل عن مقدار التخمين فإنه يلحق البائع من النقص بنسبة مقدار النقص من الحاصل إلى مجموعه، فلو خُمِّن الحاصلُ بثلاثمائة، وكان عند القطاف مائتين، فإن الناقص مائة ونسبته إلى الثلاثمائة هي الثلث، فينقص من المائة كيلو المستثناة للبائع مقدار الثلث. وهكذا دائماً.

مسألة 746: إذا باع الثمرة عاماً أو أعواماً، ثم باع أصولها على شخص آخر، صح بيع الأصول دون أن يضر ببيع الثمرة السابق، فتنتقل الأصول إلى المشتري مسلوبة المنفعة مدة بيع الثمرة؛ فإن كان مشتري الأصول عالماً بذلك فلا إشكال، وإن كان جاهلاً به كان له خيار الفسخ.

مسألة 747: إذا اشترى ثمرة فتلفت قبل القبض انفسخ البيع، وكان تلفها على البائع، مثلها في ذلك مثل كل مبيع يتلف قبل قبضه.

مسألة 748: لا يبطل بيع الثمرة بموت البائع، بل تنتقل الأصول إلى ورثته مسلوبة المنفعة إلى حين انتهاء أمد البيع، وكذا لا يبطل بموت المشتري، بل ينتقل حقه في الثمرة إلى ورثته، مثله في ذلك مثل كل مالٍ يملكه.

الفرع الثاني ـ في بيع الزرع (الحبوب):

وفيه مسائل:

مسألة 749: يراد بـ (الزرع) ما يبذر من الحب، كالقمح والفول والعدس ونحوها، وهذا الزرع إن كان ما يزال بذراً لم ينبت منه شي‏ء فوق الأرض لم يجز بيعه مستقلاً عن الأرض على الأحوط، وإن كان للجواز وجه؛ ويجوز بيعه مع الأرض وتبعاً لها من دون إشكال؛ كذلك فإنه يجوز بيع الزرع بعد ظهوره، سواء وصل في نموه إلى درجة (القصيل) أو كان في مرحلة دون ذلك، فضلاً عما لو كان قد صار سنبلاً، كما أن له في جميع هذه المراحل أن يبيعه مع أصوله أو بدونها.

مسألة 750: إذا باع الزرع بعد ظهوره بدون أصوله بعدما صار قصيلاً، أو قبل ذلك على أن يبقى حتى يصير قصيلاً، على أن يقطعه في مرحلة كونه قصيلاً، فإذا قطعه وبقيت أصوله في الأرض فصارت سنبلاً بعد ذلك كان السنبل للبائع، وإن لم يقطعه كان البائع بالخيار بين أمور ثلاثة:

1 ـ أن يفسخ البيع ويلغي المعاملة.

2 ـ أن يجبره على قطعه، فإن لم يمكن إجباره قَطَعَهُ هو، والأحوط وجوباً أن يكون قطعه بإذن الحاكم الشرعي مع الإمكان.

3 ـ أن يبقيه في الأرض مع مطالبة المشتري بأجرة الأرض عن مدة بقائه فيها حتى يقطعه، فإذا استمر في نموه حتى صار سنبلاً دون أن يقطعه البائع ولا المشتري كان قصيله وسنبله للمشتري.

هذا، ولا يختص حكم هذه المسألة بالزرع، فلو اشترى نخلاً بشرط أن يقلعه، فلم يقلعه حتى أثمر، جرى عليه نفس الحكم المذكور بوجوهه المختلفة.

مسألة 751: إذا اشترى الزرع بعد ظهوره مع أصوله الثابتة، فإن عليه أن يقطعه قصيلاً، وليس له إبقاؤه في الأرض إلا إذا اشترط على البائع إبقاءه فيها ما شاء، أو يأذن له به، أو يكون ثمة عرف يقتضي بقاءه، فإذا أبقاه حتى صار سنبلاً، كان السنبل له، ولزمته أجرة الأرض لصاحبها ما لم يشترط إبقاءه مجاناً؛ وأما إذا قصله قبل أن يصير سنبلاً، فنمت الأصول الثابتة في الأرض حتى صارت سنبلاً، فالسنبل للمشتري ـ أيضاً ـ، لكن ليس عليه أجرة الأرض إلا إذا كان قد طلب منه البائع (صاحب الأرض) إزالتها فلم يزلها.

مسألة 752: يجوز بيع الزرع محصوداً، ولا يشترط فيه معرفة مقداره بالكيل أو الوزن، بل تكفي فيه المشاهدة.

الفرع الثالث ـ في بيع الخَضْروات:

وفيه مسائل:

مسألة 753: لا يجوز على الأحوط بيع الخضروات الظاهرة، كالخيار والطماطم (البندورة) والبطيخ ونحوها مما له ثمر ينفصل عنه، وكالنعناع والبقدونس والخس ونحوه مما يراد بنفسه فيجز عند أخذه، قبل ظهور الثمرة في الأولى، وقبل ظهور الأوراق في الثانية، وإن كان للجواز وجه؛ ويجوز بيعها دون إشكال بعد ظهورها مع مشاهدة ما يمكن مشاهدته منها، دون أن يضر بكفاية المشاهدة كون بعض الثمار مستوراً بالأوراق، كما لا يضر عدم اكتمال نموها حين المشاهدة. ونفس الحكم المذكور ثابت لما يباع ورقه، كالشاي والحناء ونحوهما.

أما الخضروات المستورة في الأرض، مثل الفجل والجزر ونحوهما، فإنه يجوز بيعها قبل قلعها في مختلف مراحل نموها.

مسألة 754: لا بد من تقدير ما يباع من الخضروات بأنواعها المختلفة بما يرفع الجهالة بها، والمرجع في ذلك عرف المزارعين في كل بلد، وذلك كمثل ما هو متعارف في بعض البلاد من بيع مثل النعناع والبقدونس مقدَّراً بـ (الجزة)، وبيع مثل الخيار والبطيخ بـ(اللقطة)، وبيع مثل ورق الحناء والتوت بـ (الخرطة)، وهكذا، فإن التقدير بذلك وأمثاله مما يكون في مقداره معلوماً ومعيناً في عرف المزارعين كاف في صحة البيع.

المطلب الثاني ـ في ما تباع به الثمرة:

وفيه مسألتان:

مسألة 755: يجوز بيع الثمار في أصولها والزرع والخضروات بكل ثمن مرغوب فيه، بالنقود وغيرها، كالأمتعة والحيوان والطعام، وبالمنافع والأعمال وغيرهما؛ كذلك فإنه يجوز لمن اشتراها أن يبيعها بثمن زائد على ثمنها الذي اشتراها به أو ناقص عنه أو مساو له، سواء باعه قبل قبضه أم بعده، مثلُه في ذلك مثل غيره، ويستثنى من ذلك ما لو كان المبيع هو ثمرة النخيل على أصولها في مختلف مراحلها، تمراً أو رطباً أو بُسْراً، (البُسْر هو مرحلة ما قبل الرطب، وهو ما يقال له في بعض البلدان «بلحاً»)، أو غيرها من مراحل نمو ثمرة النخيل، فإنه لا يجوز بيعها بمقدار معلوم من التمر، دون الرطب والبسر وغيرهما، سواء في ذلك ما لو كان الثمن تمراً من نفس حاصل أشجار النخيل المباعة أو من غيرها، وسواء كان في الذمة أو معيّناً في الخارج؛ وهو ما يصطلح عليه بـ (المُزابنة)، والمزابنة مأخوذة من كلمة (زَابَنَهُ)، أي: باعه ما لا يُعلم كيلاً أو عداً أو وزناً بمعلوم المقدار. نعم يجوز ذلك في صورة ما لو كان له نخلة واحدة في دار غيره، وكان يشق عليه الدخول إليها، فإنه يجوز له أن يبيع ثمرتها لصاحب الدار في أية مرحلة من مراحلها قبل أن تصبح تمراً بجزء منها عندما تصير تمراً، وهو ما يصطلح عليه عند الفقهاء بـ (بيع العُرْيَة)، وهو اسم للنخلة الواحدة، والظاهر أنه مستعار من كونها قد تعرت وانفصلت عن بستانها، وهو في الأصل: مصدر(عَرِي).

أما غير النخل فإنه ـ أيضاً ـ لا يجوز بيع ثمره على أصله بثمر من نفس حاصله، كأن يبيعه عنب هذه العريشة بعشرين كيلواً منها، وإن كان يجوز بيعه بعنب من غيرها.

مسألة 756: لا يجوز بيع سنبل القمح بالقمح، سواء كان من نفس الحاصل أو من قمحٍ غيره، كما لا يجوز بيع سنبل غير القمح من الحبوب بحبٍّ من نفس الحاصل، ويجوز بحبٍ مثلِه من غير الحاصل، وإن كان الأحوط استحباباً تركه في الشعير. وهو ما يصطلح عليه بـ (المحاقلة)، وهي مأخوذة من(حَاقَل)، أي: باعه الزرع قبل ظهور صلاحه.

تتمة في التَقَبُّل:

وفيه مسائل:

مسألة 757: يراد بـ (التقبل): (ما لو كان نخل ـ أو شجـرٌ غيـرُه أو زرع ـ مشتركاً بين اثنين أو أكثر، ورغب أحدهما بشراء حصة الآخر بعد تخمينها بمقدار معين بنفس ذلك المقدار، سواء زاد حاصلها عن ذلك المقدار الذي خمنت به أو نقصت عنه)؛ هذا هو (التقبل)، وهو معاملة مستقلة وجائزة، وإن كانت ملحقة بـ (الصلح) فيما لو كان المقدار الذي تعهد الشريك بدفعه لشريكه غير معين في شجر خاص، بل كان في الذمة، إذ إن معنى ذلك ـ في الحقيقة ـ هو أن زيداً الشريكَ البائعَ لحصته قد صالح سعيداً على أن ينقل (أي زيد) حصته المعينة في هذه الشجرات بمقدارها الذي خُمِّنت به إلى ذمة سعيد بمئة كيلو من التمر حسب المثال.

مسألة 758: يكفي إنشاء هذه المعاملة بكل لفظ يدل على ذلك التبادل، بل وتصح فيها المعاطاة كغيرها من المعاوضات. ويقال للشريك الراغب في شراء حصة شريكه (مُتَقَبِّل)، ويقال للثمر المدفوع بدلاً لتلك الحصة: (المُتَقَبَّل به).

مسألة 759: لا فرق في هذه المعاملة بين أن يكون المقدار المتقبَّل به من نفس حاصل الأشجار مثلاً أو في الذمة، نعم إذا كان منها فتلفت الثمرة فلا ضمان على المتقبِّل، بخلاف ما لو كان في الذمة فإنه يكون مضموناً عليه.

المبحث الثاني ـ في بيع الحيوان:

ليس في بيع الحيوان ـ في زماننا هذا ـ ما يختلف به عن سائر المبيعات، وخاصة في بيع البهائم، سوى ما سبق ذكره في مبحث الخيارات من اختصاصه بخيـار مسمىً باسمه، وسوى عدد من المسائل التي لها علاقة بما يترتب على بيعه ـ أحياناً ـ من شركة فيه بين البائع والمشتري، وهو ـ من هذه الجهـة ـ وإن كان أمسَّ صلة بأحكام الشركة، وأجدر بأن يبحث في بابها، لكن علاقته بالبيع قوية ـ أيضاً ـ، مضافاً إلى أن في ذكرها هنا في باب البيع مجاراة للمألوف عند الفقهاء في ذكرهم له فيه.

أما تفصيل أحكامه فيقع في مسائل:

مسألة 760: لا يصح شراء جزء معين من الحيوان الحي الذي يراد الإبقاء عليه للركوب أو الحمل أو الانتفاع من نتاجه أو نحو ذلك، كشراء رأسه أو رجليه أو نحوهما من أجزائه، فإن اشترى كذلك بطل البيع ولم يكن شريكاً مع البائع بخصوص ذلك الجزء؛ بل لا بد من شراء جزء مشاع منه، كثلثه أو نصفه ليكون شريكاً فيه بمقدار حصته؛ فإن لم يرد إبقاء ذلك الحيوان، بل كان في معرض الذبح، جاز ـ حينئذ ـ شراء جزء معين منه؛ وذلك دون فرق بين ما هو مأكول اللحم من الحيوان وبين ما لا يؤكل لحمه ما دام لأجزائه مالية معتد بها.

مسألة 761: إذا اشترى جزءاً معيناً من حيوان حي في معرض الذبح، فإن ذُبح كان له ذلك الجزء الذي اشتراه، وإن لم يذبح لسبب أو بدون سبب، كان المشتري شريكاً في الحيوان الحي مع مالكه بنسبة قيمة الجزء المشترى إلى قيمة الكل من الحيوان مذبوحاً، فلو كانت قيمة الرأس والفخذين مثلاً ربع قيمة الحيوان المذبوح، كان للمشتري ربع الحيوان الحي ولمالكه ثلاثة أرباعه؛ وكذا لو باع الحيوان للذبح واستثنى منه جزءاً معيناً ثم عرض ما منع من ذبحه.

أما إذا اشترك اثنان أو أكثر في شراء حيوان ليذبحوه أو مطلقاً، فإذا شرط أحدهم أن يعين حصته في جزء معين منه بعد ذبحه، فلم يذبح، بقي على حصته التي كانت له قبل التعيين.

مسألة 762: يجوز في البهائم التفرقة بين الأم وولدها ما لم يؤدِّ إلى موت الولد بنحوٍ يصدق عليه إتلاف المال المحترم من غير ضرورة ملزمة.

المبحث الثالث ـ في بيع السلف:

لا يخفى أن الثمن والمثمن إن كانا حالَّيْن وتقابض المتبايعان فلا إشكال، بل إن ذلك هو الوضع الطبيعي الغالب في البيوع، وأما إن كانا على خلاف ذلك فهو على ثلاثة أنحاء: الأول: أن يكون العوضان مؤجلين، وسيأتي ذكره في المسألة 771 إذا كان من فروع بيع السلف، وأما إذا لم تنطبق عليه شروط بيع السلف فقد سبق ذكره في المسألة 643؛ الثاني: أن يكون المثمن مؤجلاً والثمن حالاً؛ وهو هذا البحث المصطلح عليه بـ (بيع السلف)؛ الثالث: أن يكون المثمن حالاً والثمن مؤجلاً، وهو المعروف بـ (النسيئة)، وهو ما سنبحثه لاحقاً تحت عنوان (النقد والنسيئة).

وأما تفصيل أحكام بيع السلف فيقع في مطالب:

المطلب الأول ـ في الصيغة:

مسألة 763: (السلف) هو: (بيع كلي في الذمة مؤجل بثمن حال)، أي أن هذا النوع من البيع يبتني على كون المبيع أمراً كلياً في الذمة مُؤجَّلَ التسليم إلى وقت محدد، فلا يشمل ما لو كان عيناً شخصية أو من الكلي في المعين، فإنه إذا أُجِّل تسليمه وكان ثمنه حالاً لا تلحقه أحكام السلف، بل يكون بيعاً عادياً قد اشترط فيه تأخير تسليم المثمن، وهو ما قد ذكرنا أحكامه سابقاً في مبحث (التسليم والقبض).

كذلك فإن هذا البيع يبتني على تسليم المشتري الثمن للبائع، وهو الذي من أجله سمي بـ (بيع السَّلَم) أيضاً، بل إن هذا الاسم صار هو المعتمد في تسمية أركان العقد، فسمي المشتري بـ (المُسلِّم)، والبائع بـ (المُسلَّم إليه)، والثمن بـ (المُسلَّم)، والمثمن بـ (المسلَّم فيه).

مسألة 764: يصح في عقد بيع السلف اللفظي صدور الإيجاب من كلٍ من البائع والمشتري وصدور القبول من الآخر؛ فإذا كان الموجب هو البائع فالصيغة هي نفسها صيغة البيع، ويكفي فيها مثل قول البائع: «بعتك خمسة أثواب بصفة كذا إلى مدة كذا»، فيقول المشتري: «قبلت»؛ وإذا كان الموجب هو المشتري فإنه ينبغي تضمينه ما يفهم منه التسليف بكل لفظ يدل عليه، ويكفي فيه مثل قوله: «أسلفتك (أو أسلمت إليك) مائة دولار ـ مثلاً ـ في طن من القمح بصفة كذا إلى أجل كذا»، فيقول البائع: «قبلت».

كذلك فإنه يصـح ـ كغيـره من العقـود ـ بالمعاطاة بكل فعل دل عليه وأوضح المراد منه، ومن ذلك الكتابة.

المطلب الثاني ـ في الشروط:

يشترط في بيع السلف توفر أمور:

الأول: تعيين المبيع من حيث أوصافه ومقداره على النحو التالي:

أ ـ من حيث الأوصاف: فإنه يجب ذكر الأوصاف بالنحو الذي يجعله معلوماً ومحدداً عرفاً من جهة الجودة والرداءة والطعم والريح واللون وغيرها من الخصائص التي تتمايز بها الأشياء وتختلف قيمتها باختلافها؛ فيصح السلف في كل ما أمكن ضبط أوصافه وتحديدها بنحو يرفع الجهالة بالمبيع في مثل الحيوان والخضراوات والفواكه والحبوب والجوز واللوز والملابس والأدوية ونحو ذلك من الأعيان.

ب ـ من حيث المقدار: فإنه يجب ذكر مقداره وزناً أو كيلاً أو عداً، فلا يصح السلف مع جهالة المقدار.

مسألة 765: لما كان المبيع في السلف (كلياً في الذمة) فإنه لا يصح في الأعيان التي لا تتبين أوصافها إلا بالمشاهدة إذا كانت أفرادها تختلف فيما بينها اختلافاً كبيراً، بنحو لا ترتفع الجهالة في كل فرد منها إلا بعد مشاهدته، وذلك كما في أغلب الأحجار الكريمة والبساتين ونحوها، فإذا وقع البيع على الفرد المشاهد صار المبيع (عيناً شخصية) أو (كلياً في المعين)، ومعه لا يكون البيع سلفاً.

نعم إذا كانت أفراد العين المشاهدة لا تختلف فيما بينها اختلافاً معتداً به عند العرف لم يضر ذلك في وقوع البيع على فرد منها في الذمة مع مشاهدة الكل، وذلك كما في الجوز والبيض.

الثاني: أن لا يكون العوضان من الذهب أو الفضة، أو أحدهما من الذهب والآخر من الفضة، فإن لم يكونا كذلك صح السلف فيه كائناً ما كان المبيع إذا كان ثمنه ذهباً أو فضة، أو كان المثمن ذهباً أو فضة وكان ثمنه من جنس آخر غيرهما، وذلك بدون إشكال في الموردين، وأما إذا كان العوضان من المكيل أو الموزون، أو أحدهما من المكيل والآخر من الموزون، لم يجز أن يكون الثمن من جنسه، بل ولا من غير جنسه على الأحوط وجوباً، كذلك فإن الأحوط وجوباً في المعدود أن لا يكون الثمن من جنسه مع الزيادة العينية في أحدهما عن الآخر.

الثالث: تعيين أجل مضبوط لتسليم المبيع فيه، وذلك بالأيام أو الشهور أو السنين أو نحوها مما هو محدد معلوم، فلا يصح تحديده بمثل زمان الحصاد أو عودة المسافر أو نحوهما، وإذا وَقَّتَ الأجل به بطل البيع. هذا، ولا حدَّ للأجل قلة وكثرة، فيصح يوماً ويصح عشرين سنة.

مسألة 766: إذا جعل الأجل شهراً، دون تحديد كونه قمرياً أو شمسياً، فإنه يُحمَلُ على ما هو المتعارف عند المتبايعين؛ فإن وقع البيع في أول الشهر فالمراد تمام ذلك الشهر، وإن وقع أثناءه فالأحوط استحباباً تحديد منتهى الأجل بالنص عليه في أي يوم هو من الشهر التالي، فإن لم ينصا عليه فالأحوط لهما استحباباً التراضي على يوم نهاية الأجل بنحو يشمل التراضي على أصل البيع وتملك كل منهما لما في يده، فإن لم يتراضيا عليه كان اليوم الثلاثين من يوم وقوع البيع هو نهاية الشهر.

هذا، ويجري نفس الكلام فيما لو كان الأجل شهرين أو أكثر، وذلك من جهة كونهما قمريين أو شمسيين، ومن جهة تحديد نهاية الشهرين فيما لو وقع العقد في أول الشهر أو أثناءه.

مسألة 767: إذا جعل الأجل حلول شهر له أول وثان، كجُمادى أو ربيع، أو كانون أو تشرين، دون أن يذكر كونه الأول أو الثاني، حمل على أولهما من تلك السنة، وحل الأجل في القمري بحلول أول جزء من ليلة الهلال، وفي الشمسي على ما هو المتعارف في التقويم الميلادي، وهو أول جزء بعد منتصف ليل آخر يوم من الشهر المنصرم؛ إلا أن ينصا على خلاف ذلك ساعةً للتسليم.

وكذا إذا جعل الأجل حلول يوم الجمعة مثلاً، فإنه يحمل على يوم الجمعة الذي يقدم من الأسبوع الذي هما فيه، ويحل فيه الأجل في أول جزء من فجر نهار ذلك اليوم.

الرابع: تعيين بلد التسليم في العقد إذا اختلفت الأمكنة في صعوبة التسليم وسهولته وتعلقت به الرغبات ولزمت منه الخسارة، بحيث يكون الجهل به موجباً لوقوع المتبايعين في الغرر، كما هو الشأن في الكثير من البيوعات، وبخاصة في زماننا هذا الذي تعاظم فيه الاستيراد من الخارج وتعاظمت معه أهمية مكان التسليم. أما إذا لم يكن للمكان أهمية في المعاملة فإنه لا يجب النص على مكان التسليم في العقد، بل إن إطلاق العقد من هذه الجهة ـ حينئذ ـ يستلزم التسليم في بلد العقد، إلا أن تقوم قرينة على )الإطلاق(، أي على التسليم في أي مكان يختاره البائع، أو تقوم القرينة على تعيين بلد آخر غير بلد العقد، ولو كانت هي التعارف الخارجي.

مسألة 768: إذا كان المبيع حين التسليم في غير البلد المتفق على تسليمه فيه، فإن تراضيا على تسليمه في موضعه جاز، وإلا فإن أمكن نقله إلى بلد التسليم وجب على البائع نقله، وإلا كان المشتري بالخيار بين الانتظار حتى يسلمه المبيع في بلد التسليم وبين أن يفسخ البيع ويرجع بالثمن الذي دفعه دون زيادة ولا نقصان.

الخامس: أن يكون البائع حين العقد غير عالم بعجزه عن التسليم حين حلول الأجل، وفي البلد الذي اشترط التسليم فيه، سواء كان العجز المعلوم مستمراً من حين العقد أو طارئاً بعده، وسواء كان العجز الطارى‏ء عامَّ الوجود، ككثرة الثلوج المانعة من الانتقال، أو نادره، كمصادفة كونه موعد دخوله السجن؛ فإن كان عالماً بعدم قدرته على التسليم بالنحو المذكور بطل العقد. أما إذا لم يكن عالماً مسبقاً بذلك، وكان ظاهر الأمور يشير إلى إمكان دفع ما تعهد به وقدرته على تسليمه، فعرض ما لم يكن بالحسبان فمنع من التسليم في الوقت المحدد، فإن المشتري حينئذ يتخير بين الصبر على البائع حتى يسلمه المبيع، وبين الفسخ والرجوع بالثمن أو ببدله دون زيادة ولا نقصان.

وكما يثبت الخيار للمشتري عند العجز عن دفع الكل كذلك يثبت له الخيار عند تمكن البائع من دفع بعض المبيع فقط، فيتخير المشتري في الباقي بين فسخ البيع فيه فقط أو في جميع المبيع وبين الانتظار حتى يسلمه تمام المبيع، لكنه إذا فسخ في الباقي جاز للبائع الفسخ في المقدار الآخر بخيار تبعض الصفقة.

مسألة 769: إذا عجز البائع عن دفع المبيع حين حلول الأجل لم يجز للمشتري ـ على الأحوط لزوماً ـ استغلال ذلك وبيعه للبائع بأكثر مما اشتراه منه.

السادس: قبض الثمن قبل التفرق عن مجلس العقد إن اجتمعا، أو إقباضه إياه قبل العقد إن كان التعاقد بينهما عن بعد، كما لو كان بالتخابر الهاتفي أو بالكتابة، أو بما أشبه ذلك من وسائل الإقباض قبل العقد، ومن ذلك ما لو كان له دَيْنٌ في ذمة البائع، وكان قد حل أجله قبل العقد، أو بعده قبل افتراقهما؛ فإن لم يكن قد حل وقت الوفاء به، أو لم يقبضه الثمن بالنحو الذي سلف، بطل البيع. ولو أقبضه بعض الثمن صح فيه بمقدار نسبته إلى الثمن وبطل في الباقي؛ وحيث تتبعض الصفقة بذلك ثبت خيار تبعض الصفقة وجاز فسخ المعاملة في المقدار الذي صح البيع فيه.

المطلب الثالث ـ في الأحكام العامة:

مسألة 770: إذا حل الأجل فدفع البائع المبيع مطابقاً للوصف والمقدار المطلوبين لم يكن للمشتري أن يمتنع عن قبوله، وأما إذا كان ما دفعه مخالفاً لهما أو لأحدهما فحكمه كما يلي:

أولاً: إن كان على غير الوصف وكان وصفه دون المطلوب، فإن رضي به صح، وإلا وجب عليه دفع الفرد الموافق للصفة. وإن كان أزيد من الصفة وأعلى منها، فإن كانت رغبة المشتري قد تعلقت بخصوص الصفة المطلوبة بالنحو الذي ينفي غيرها ولو كان أحسن لم يجب عليه القبول، ولزم البائع دفع الفرد الموافق، وإلا وجب عليه القبول.

ثانياً: إن كان المدفوع على خلاف المقدار المطلوب، وكان دونه، فإن رضي به وأبرأه من الباقي صح البيع، وإلا ألزمه بدفعه المقدار المطلوب، وإن كان أكثر من المطلوب لم يجب عليه قبول المبيع إلا بعد تجريد البائع له من الزيادة التي فيه.

مسألة 771: إذا أراد المشتري بيع ما اشتراه سلفاً فحكمه كما يلي:

أ ـ لا يجوز بيعه لغير البائع قبل حلول الأجل لا نقداً ولا نسيئة، ومهما كان جنس المبيع.

ب ـ يجوز بيعه لبائعه قبل حلول الأجل نقداً، ولا يجوز نسيئة.

ج ـ يجوز بيعه للبائع وغيره بعد حلول الأجل نقداً بدون إشكال، وأما نسيئة فإنه يجوز أيضاً إلا إذا استلزم الربا، وما يستلزم منه الربا له موردان:

1 ـ ما لو كان العوضان من المكيل أو الموزون وكانا متحدين في الجنس بدون إشكال، أو مختلفين فيه على الأحوط وجوباً.

2 ـ ما لو كان العوضان من جنس واحد، وكانا من المعدود، مع زيادة عينية في أحدهما على الآخر، كأن يبيعه ألف جوزة بألفٍ ومائتين على الأحوط وجوباً.



 

 

الفصل الثالث

في الثمن

 

المبحث الأول: في مقدار الثمن

المبحث الثاني: في ربا المعاملة

المبحث الثالث: في النقد والنسيئة



 

 

تمهيد:

نريد من هذا الفصل أن نستعرض أحوال الثمن من جهة كونه بمقدار رأس مال المثمن أو أزيد منه أو أنقص، ومن جهة كونه من جنس المثمن وحكم الزيادة عليه حينئذ، ومن جهة كونه مدفوعاً حالاًّ أو مؤجلاً إلى أمد؛ فاقتضى ذلك وضع مباحث ثلاث نتناول فيها تفصيل الأحكام المتعلقة بهذه الأمور، وذلك على النحو التالي:

المبحث الأول ـ في مقدار الثمن:

وفيه مسائل:

مسألة 772: لا يشترط في الثمن أن يكون على مقدار محدد حين نسبته إلى المثمن، فيجوز للبائع أن يطلب الثمن الذي يريد مهما كان زائداً عن كلفة السلعة ورأسمالها، والمشتري مخيّر بين أن يأخذها بالثمن المطلوب أو يدعها؛ نعم إذا كان السعر المطلوب مرتفعاً بدرجة تضر بعامة الناس وتؤثر على الوضع الاقتصادي العام، ولو بسبب ظروف طارئة، فإن للحاكم الشرعي أن يتدخل في ذلك ويأمره بخفض السعر بما يكفل استقرار السوق ويحمي مصالح الناس، خاصة إذا ترافق ذلك مع قيام البائع باحتكار بعض السلع الأساسية طلباً لزيادة سعرها، كما تقدم بيانه. (أنظر المسألة 599).

ثم إن المشتري تتجه رغبته ـ غالباً ـ عند التعاقد إلى الحصول على المثمن بثمن معقول، دون أن يلحظ ـ بنحو أساسي ـ كلفة السلعة ورأسمالها الذي استقرت عليه عند البائع، وقد اصطلح الفقهاء على هذه المعاملة التي لا يلحظ فيها المتعاقدان رأسمال السلعة وكلفتها بـ (المساومة)، وهي المعاملة العادية التي لا يترتب عليها أدنى إشكال وليس لها أحكام متفرعة عنها.

في مقابل ذلك، فإن المشتري قد يرغب أحياناً في معرفة رأس مال السلعة ومقدار كلفتها على البائع كي يجري التعاقد معه بثمن معين ملحوظ فيه مدى زيادته عن مقدار الكلفة أو نقصه عنه أو مساواته له، وقد اصطلح الفقهاء على تسمية المعاملة التي يكون الثمن فيها زائداً عن مقدار الكلفة بـ (المرابحة)، والمعاملة التي يكون الثمن فيها ناقصاً عنه بـ (المواضعة)، والتي يكون الثمن فيها مساوياً له بـ (التولية)، ورتبوا عليها بعض الفروع التي نذكر أحكامها في المسائل التالية.

مسألة 773: إذا تم التعاقد بين المتبايعين على أساس لحاظ رأس المال فلا يكفي أن يذكر البائع ذلك بنحو الإجمال، كأن يقول:«بعتك هذا الكتاب برأس ماله وزيادة درهم»، أو «..بنقصان درهم»، بل يجب التصريح برأس المال بمثل أن يقول: «بعتك هذا الكتاب برأسماله وهو عشرة دراهم وزيادة درهم عليه»، أو «..بنقصان درهم عنه»، أو يقول: «..بثمنه الذي اشتريته به وهو عشرة دراهم»؛ ويكفي في تحديد الربح أو النقصان أن يقول: «بعتك هذا الكتاب بمائة درهم وربح درهم في كل عشرة»، أو نحو ذلك مما يفهم منه المشتري مقدار رأس المال ومقدار الربح المطلوب عليه أو المقدار الموضوع والمحسوم منه حين التعاقد ولو بعد التفكر وإجراء الحساب لمعرفته. ولو فرض أن البائع كان قد اشترى مجموعة من الكتب صفقة واحدة، فإذا أراد بيع واحد منها أو أكثر لزمه أن يذكر له رأس مال الصفقة أولاً، ثم تقويمه لرأس مال هذا الكتاب المفرد منها، ثم مقدار ما يريده ربحاً عليه إذا أراد بيعه مرابحة، فلا يكفي ذكر قيمة المفرد منها دون التصريح بما دفعه ثمناً للصفقة كلها؛ فإن باعه مواضعة أو تولية كفى ذلك ولم يجب التصريح بثمن الصفقة.

مسألة 774: إذا كان البائع قد اشترى السلعة نسيئة، وأراد بيعها مرابحة قبل حلول أجل دفعه لثمنها، فإنه يجب عليه حين بيعها أن يصرِّح للمشتري بأن رأس مال هذا الكتاب مثلاً هو عشرة دراهم نسيئة إلى الوقت الفلاني، فإن لم يخبره بالأجل كان المشتري مخيراً بين فسخ العقد وبين إمضائه مع تأجيل دفع الثمن له إلى تلك المدة التي أمهله البائع الأول إليها.

مسألة 775: يدخل في ما يعتبر رأس مال للسلعة ما يتكلفه البائع عليها أجرةً لبعض الأعمال التي استأجر غيره ليعملها فيها، وحينئذٍ يكفيه ضمّ الأجرة إلى الثمن المشترى به واعتبار المجموع رأس مال السلعة؛ أما إذا كان هو الذي باشر العمل بنفسه فإنه يجب عليه تخصيصه بالبيان دون أن يضمه إلى ثمن الشراء، وذلك بأن يقول: «بعتك هذا الكتاب برأس ماله وهو عشرة، وبزيادة درهم عليه أجرة تجليدي له، وبربح درهم عليه».

مسألة 776: إذا كان البائع الأوّل قد تفضّل على البائع الثاني فأسقط عنه شيئاً من الثمن المذكور في العقد، جاز للبائع الثاني أن يعتبر أن رأس مال هذه السلعة التي يريد بيعها هو الثمن المذكور في العقد لا ما بقي منه بعد الإسقاط.

وعلى العكس من ذلك ما لو ظهر عيب في السلعة في البيع الأول، فأسقط من ثمنها أرش ذلك العيب، فإن رأسمالها الذي يجب ذكره في البيع الثاني هو ما بقي من ثمنها بعد أخذ الأرش منه.

مسألة 777: إذا تبين كذب البائع في مقدار رأس المال، بأن تبين أنه أقل مما ذكره، صح البيع وثبت للمشتري الخيار بين فسخ البيع وبين القبول بالبيع بالثمن المكذوب به.

مسألة 778: إذا عرض البائع سلعته للبيع لم يجز لبعض الحاضرين أن يزيد في الثمن وهو لا يريد شراءها بهدف تشجيع من يسمعه على الزيادة عليه، سواء كان متفقاً مع البائع في ذلك أو لم يكن، وبخاصة ما لو كان في طريقة الزيادة تغرير وغش للغير، بل ولو لم يكن فيها تغرير على الأحوط لزوماً.

المبحث الثاني ـ في ربا المعاملة:

كنا قد ذكرنا في شروط العوضين: «لزوم كونهما معلومي المقدار بنحو لا يوجب وقوع المتبايعين في الغـرر»؛ ولكنَّ مـا بـه يكون التقديـر ـ وهو الوزن والكيل والمساحة والعد، والذي سنسميه (المقدار) ـ له أحكام خاصة من جهة نفس كونه (مقداراً)، سواء كان في المبيع أو في الثمن؛ لذا فإن ما يمكن قوله هنا إجمالاً وتمهيداً لما سيأتي هو ما يلي:

إنه يصح ـ إجمالاً ـ بيع كل سلعة بغير جنسها مطلقاً، سواء كان العوضان مشاهدين أو موزونين أو مقدرين بغير ذلك من أنواع المقادير، ومع التفاضل وبدونه؛كذلك فإنه يجوز ـ إجمالاً ـ بيع السلعة بمثلها إذا لم يكن العوضان معاً من المكيل ولا الموزون ولا من الذهب والفضة ومطلقاً أيضاً، أي سواء كانا معدودين أو ممسوحين أو مشاهدين، ومع التفاضل وبدونه، وإنما قلنا: «إجمالاً» في الموردين إلفاتاً لما سيأتي من الاستشكال في بيع النسيئة في مطلع المطلب الأول الآتي في هذا المبحث، (أنظر الوجه الثاني من المسألة 779)؛ فإن كانا معاً من المكيل أو الموزون، أو كانا معاً من النقدين الذهب أو الفضة، فإن للعوضين حينئذٍ أحكاماً خاصة نذكرها في مطلبين: الأول: في بيع المكيل والموزون، وهو ما يصطلح عليه بـ (ربا المعاملة)، والثاني: في بيع الصرف؛ لكنه لما كان مدار الأحكام في بيع الصرف (النقدين) على كون الذهب والفضة من الموزون، فإنهما يلحقهما حكم المكيل والموزون عموماً لولا بعض الخصوصيات التي استدعت إفرادهما بمطلب مستقل، ومن هنا صح أن نعنون هذا المبحث الشامل لهذين المطلبين بعنوان واحد مشترك هو (ربا المعاملة).

والربا من كبائر المحرّمات، وقد أغلظ القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة في النهي عنه وتشديد العقاب عليه بما هو مشهور ومعروف، وله موردان هما: ربا المعاملة وربا الدين، وقد اعتمدنا ما هو المعروف في نهج الفقهاء، فقدمنا ذكر ربا المعاملة في هذا الباب، وأخرنا ذكر ربا الدَّين إلى باب الدين الآتي إن شاء الله تعالى، انسجاماً مع ما في كل منهما من خصوصيات تستلزم إفراده بالذكر.

المطلب الأول ـ في بيع المكيل والموزون:

وهو يقع في مسائل:

مـسألة 779: يختلف حكم الربا في البيع على وجهين، وتفصيلهما كما يلي:

الوجه الأول: في البيع نقداً، وحكمه يختلف باختلاف موارده على النحو التالي:

أ ـ يجوز بيع المتحدين في الجنس من المكيل والموزون أحدهما بالآخر نقداً دون زيادة في أحدهما على الآخر، كبيع عشرين كيلواً من القمح بعشرين منه، سواء اتفقا في الصنف وفي الجودة والرداءة أو اختلفا.

ب ـ يجوز بيع المختلفين في الجنس أحدهما بالآخر نقداً، سواء كانا من المكيل والموزون أو كانا من غيرهما، وسواء بالزيادة أو بدونها، فيجوز مثلاً بيع عشرين كيلواً من القمح بعشرة كيلوات من الأرز نقداً، وهكذا غيره من أمثلة الموارد الأخرى مما هو أوضح منه.

ج ـ لا يجوز بيع المتحدين في الجنس من المكيل والموزون نقداً مع الزيادة في أحدهما على الآخر، مثل أن يبيعه عشرين كيلواً من القمح باثنين وعشرين كيلواً منه، سواء كانا معاً من الموزون، كالمثال المتقدم، أو كانا من المكيل، كأن يبيعه مُدَّيْن من القمح بمد ونصف منه، أو كان أحدهما مكيلاً والآخر موزوناً، كأن يبيعه مداً يزن في بعض البلاد خمسة عشر كيلواً من القمح بعشرين كيلواً منه.

هذا، ولا فرق في الزيادة المذكورة في هذا الوجه الأول بأنحائه الثلاثة بين الزيادة العينية وبين الزيادة الحكمية، والزيادة العينية هي: (الزيادة المادية التي هي من جنس المبيعين أو من غير جنسهما، كالقمح والكتاب والثوب والنقود ونحوها من الأمور الخارجية المنظورة)، وأما الزيادة الحكمية فهي: (ما كانت بخلاف ذلك، كالحقوق والأعمال ونحوها)، كأن يبيعه عشرين كيلواً من القمح بعشرين كيلواً منه نقداً مع تعهده بخياطة ثوبه مثلاً، أو تعهده بإعطائه حق المرور في ملكه إلى أرضه المجاورة مثلاً، ونحو ذلك من الأمور التي ليس لها أعيان خارجية.

الوجه الثاني: في البيع نسيئة، وحكمه أيضاً يختلف باختلاف موارده على النحو التالي:

أ ـ يحرم بيع المتحدين في الجنس والمقدار نسيئة إذا كانا من المكيل أو الموزون، كأن يبيعه عشرين كيلواً من القمح بعشرين كيلواً منه مؤجلاً لشهر. لأن هذا التأجيل يُعدّ ميزة لأحدهما على الآخر و (زيادة حكمية) تجعله رباً محرماً.

ب ـ يشكل بيع المختلفين في الجنس من المكيل والموزون نسيئة، سواء اتحدا في المقدار، كأن يبيعه مائة كيلو من القمح مثلاً بمائة كيلو من الأرز لشهر، أو كانا مختلفين في المقدار، كأن باعه مائة كيلو من الأرز بمائةٍ وعشرين كيلواً من القمح لمدة شهر.

ج ـ يشكل بيع المتحدين في الجنس من المعدود مع الزيادة العينية نسيئة، كبيع عشرين جوزة بخمس عشرة جوزة لشهر مثلاً.

وما عدا ذلك من موارد هذا الوجه جائز ما لم يحرم من جهة أخرى.

مسألة 780: المعيار في كون الشيئين مثلين هو اتحادهما في الجنس والذات معاً، كما في كونهما معاً من القمح أو الغنم أو زيت الزيتون أو نحو ذلك، أو اتحادهما في الجنس دون الذات، كما في كون أحدهما من الغنم والآخر من الماعز، أو أحدهما من الحنطة والآخر من الشعير، أو نحو ذلك، فإذا اتحدا بهذا النحو كانا مثلين حتى لو لم يتفقا في الصفات، كالسمن والضعف، والجودة والرداءة، والصحة والمرض، والسماكة والرقة، وغير ذلك من الأوصاف التي تختلف باختلاف الأعيان.

مسألة 781: قد ذكر الفقهاء أموراً يعرف بها اتحاد جنس الأشياء واختلافه، وذلك على النحو التالي:

1 ـ الحبوب كل واحد منها جنس، فالعدس والحمص والفول والأرز والقمح كل واحد منها جنس مختلف عن الآخر، نعم تعتبر الحنطة والشعير جنساً واحداً هنا في باب الربا رغم أنهما في الزكاة جنسان.

2 ـ الحيوانات كل واحد منها جنس، فالوحشي يختلف عن الأهلي وإن كان لهما اسم واحد، فالبقرة الأهلية جنس مختلف عن البقرة الوحشية، والحمار الأهلي جنس مختلف عن الحمار الوحشي، والبقر والغنم والإبل والغزال كل واحد منها جنس، نعم يعتبر الغنم والماعز جنساً واحداً، وكذا البقر والجاموس، وكذا ما يعرف من الإبل بـ (العراب) فإنه غير ما يعرف منها بـ (البخاتي).

وكل ما سمي من الطيور والأسماك باسم فهو جنس برأسه، فالعصفور غير الحمام، وهما غير الحجل، وهي غير الشقراق، نعم مثل الدوري والقبرة وأسود الرأس ونحوه مما هو من أصناف العصفور يعد جنساً واحداً، وكذا أصناف الحمام؛ وهكذا الأسماك كالبوري والعرموط والشبوط ونحوها، فإن كل ما اختص منها باسم يعد جنساً برأسه، وهكذا سائر الأشياء.

3 ـ اللحوم والأسمان والألبان والزيوت ونحوها مما هو نتاج منفصل لشي‏ء آخر أو معتصر منه تختلف باختلاف مصدرها، فيعد كل ما كان منها من جنس برأسه جنساً مستقلاً، فمثل لحم الغنم ولحم البقر جنسان، فيما يعد لحم الغنم ولحم الماعز جنس واحد، وهكذا اللبن والسمن؛ وكذا الزيوت، فإن زيت الزيتون غير زيت الذرة، وهما غير زيت السمسم، وهكذا تتعدد أجناسها بتعدد مصادرها النباتية.

أما حكم هذه الفروع مع أصولها فإن المرجع في صيرورة الفرع جنساً مستقلاً عن أصله هو العرف، فإذا كان الاختلاف بين ثمرة الزيتون وزيته على درجة من التباين يراهما فيها العرف شيئين مختلفين فهما شيئان مختلفان حينئذ، وذلك من قبيل الخل والعنب والسمسم وزيته، بل وسائر الزيوت وكثير من السوائل المعتصرة من مصادرها، كالورد ومائه وما أشبهه من النباتات المأخوذة سوائلها بالتقطير؛ فيما لا يرى العرف تبايناً بين الرمان وعصيره مثلاً، ولا بين الحليب والجبن، ولا بين القمح والطحين، وهكذا. هذا، ومما يعد من المثلين لحم الحيوان المذكى والحيوان من جنسه، فلا يجوز بيع أحدهما بالآخر مع التفاضل.

ثم إنه إذا اتفق العرف على اعتبارهما مختلفين أو مثلين فلا إشكال، وأما إذا اختلفت نظرة العرف إليهما، فإن كان ذلك بين عرف هذا البلد وعرف ذاك البلد أخذ كل بلد بالعرف المتفق عليه عنده، وإن كان الاختلاف في عرف البلد الواحد فلا مفر من الاحتياط الوجوبي بمعاملتهما معاملة المثلين.

مسألة 782: إذا اختلفت البلدان في ما تقدر به بعض الأشياء، فكان في بلد مقدراً بالوزن وفي آخر بالعد، كان لكل بلد حكمه؛ وأما إذا اختلف تقديره في البلد الواحد بين الوزن والعد مثلاً، فالأحوط وجوباً ترك بيعه بالتفاضل فيه وإن كان نقداً.

وإذا كان الشي‏ء الواحد في حال موزوناً وفي حال أخرى معدوداً، وذلك كالثياب، فإنها تباع بالوزن مستعملة وتباع بالعدد جديدة، أو نحو ذلك، فإن لكل حالة حكمها، فيجوز بيع الجديدة بالمستعملة مع التفاضل نقداً، وكذا يجوز بيع الجديدة بالجديدة كذلك لأنها من المعدود، فيما لا يجوز بيع المستعملة بالمستعملة نقداً مع التفاضل لأنها من الموزون.

وإذا كان الأصل مما يوزن وفرعه المتحد معه في الجنس مما يعد، وذلك كالصوف المجتز من الحيوان والثياب المنسوجة من صوف غيره إن رآهما العرف جنساً واحداً، فإنه يجوز بيع أحدهما بالآخر مع التفاضل، وهكذا أشباهه كالقطن والكتان والثياب المنسوجة منهما، وغير ذلك من موارد اتحاد الأصول مع فروعها عند اختلاف تقدير أحدهما عن الآخر.

مسألة 783: إذا اختلف مقدار الموزون بين حالتي رطوبته وجفافه في مثل العنب والزبيب والرُّطب والتمر، فإنه لا شك في جريان ما تقدم من الأحكام عليه حال بيع الجاف منه بالجاف والرَّطب منه بالرطب، أما بيع الرَّطب بالجاف فهو غير جائز مع التفاضل، حتى لو لوحظ في التفاضل مقدار ما سينقص من الرَّطب عند جفافه بحيث يصير مساوياً للجاف عندئذٍ، وجائز على كراهة مع التماثل نقداً.

مسألة 784: الأوراق النقدية المستحدثة في هذا الزمان معتبرة من المعدود، فلا يحرم بيع بعضها ببعضها الآخر متفاضلاً مع اختلاف الجنس نقداً أو نسيئة، فيجوز مثلاً بيع خمسة دنانير كويتية بعشرة دنانير عراقية مطلقاً؛ كذلك فإنه يجوز بيعها مع اتحادها في الجنس نقداً بالتفاضل، وأما نسيئة فإن الاحتياط الوجوبي يقتضي تركه.

مسألة 785: يحرم ربا المعاملة على الأحوط لزوماً على من استثناهم مشهور الفقهاء من الحكم بحرمة الربا، وهم:

أ ـ الوالد وولده، فإنه لا يجوز لهما التعامل بالربا وأخذ أحدهما الزيادة من الآخر على الأحوط لزوماً، وذلك دون فرق في الولد بين الذكر والأنثى، والصغير والكبير، ومن كان من صلبه أو كان ولداً لابنه أو ابنته مهما تسلسلوا.

ب ـ الزوج والزوجة، دائمة كانت أو متمتعاً بها أو في عدة طلاق رجعي، فإنه لا يجوز لكل منهما أخذ الزيادة الربوية من الآخر على الأحوط لزوماً.

ج ـ الكافر الحربي، فإنه لا يجوز للمسلم أن يأخذ منه الربا على الأحوط لزوماً، بل ولا يجوز أن يعطيه إياه. أما الذمي فتحرم المراباة معه كالمسلم، لكن إذا عصى المسلم فتعامل معه بالربا جاز له أخذ الزيادة منه إذا كان الربا حلالاً في شريعته، وإلا لم يجز أخذها بدون رضاه، وكذلك كل شخص يُجوِّز ذلك في التزاماته الدينية أو القانونية.

مسألة 786: يمكن التخلص من الربا بضم شي‏ء آخر على أحد العوضيين أو عليهما من غير جنسهما، وذلك على النحو التالي:

أ ـ من أجل التخلص من الربا في بيع المثلين نقداً مع التفاضل، يمكنه أن يضم شيئاً من غير جنسهما إلى الطرف الناقص، ويقصد أن يكون في مقابل المقدار الزائد في الطرف الثاني، ومثاله: أن يبيعه عشرين كيلواً من القمح وكتاباً بخمسة وعشرين كيلواً منها نقداً.

ب ـ من أجل التخلص من الربا في بيع المثلين نقداً أو نسيئة، ولو مع التفاضل، يمكنه أن يبيعه مثلاً عشرين كيلواً قمحاً وكتاباً بثلاثين كيلواً وكتابين، على أن يكون قصدهما جعل الكتاب مقابل الثلاثين من القمح وجعل الكتابين مقابل العشرين، أو بالعكس؛ والقاعدة فيه: أن يجعلا الضميمة في كل طرف في مقابل المثمن أو الثمن في الطرف الآخر.

ج ـ ونفس الفرض (ب) يمكن استخدامه للتخلص من الربا في البيع النقدي خاصة ولكن بصورة أخرى، وذلك في نفس المثال بأن يقصدا كون الكتاب في الطرف الناقص مقابل الكتابين والمقدار الزائد من الطرف الآخر.

ولكن يجب في المورد (ب) و(ج) المتقدمين أن يكون قصد كون الكتاب في قبال القمح جدياً، بل وأن يكون في إقدامهما على التورط في مثل هذه المعاملة قدرٌ من الضرورة العرفية المحقِّقة للقصد الجدي والمعذِّرة في اقتحام الشبهة، فإن لم يكن كذلك، بل كان هدفهما الحقيقي والجدي هو تملك القمح بالتفاضل، فيما يكون قصدهما من التعاقد على الكتاب تصحيح تملك القمح واقعاً دون أن تكون لملكية الكتاب أهمية تذكر، فلا تعتبر هذه المعاملة صحيحة حينئذٍ.

مسألة 787: يختص ربا المعاملة بكل معاوضة بين عينين، سواء كانت بالبيع أو بالصلح، أو كانت بالمبادلة المحضة دون قصد العوضية والمعوضية، فكما يحرم الربا بالنحو المتقدم في البيع فإنه يحرم بالصلح بمثل أن يقول: «صالحتك على عشرين كيلواً من القمح بثلاثين منه»؛ فإن كانت المعاوضة بالصلح على غير العينين مباشرة، بل على أن يهبه عشرين من القمح مثلاً مقابل أن يهبه الآخر ثلاثين، لم يكن ذلك من الربا إذا قصدا الهبة جدياً، وكذا لو تم التعاوض بالتبارؤ، وهو يتحقق فيما لو كان لكل منهما مقدار من القمح مثلاً في ذمة الآخر فاتفقا على أن يبرأه من العشرين مداً من القمح التي له في ذمة صاحبه على أن يبرأه صاحبه من الثلاثين مداً التي له في ذمته، فإنه لا يكون ذلك ربا أيضاً إذا قصدا الإبراء جدياً.

هذا، فيما إذا كانت المعاملة معاوضة، أما المعاملات الأخرى، كالهبة ولو كانت معوضة والصدقة ونحوهما مما يمكن أن يجر للطرفين نفعاً متبادلاً، فلا يجري فيها الربا بالنحو المتقدم في المعاوضات.

مسألة 788: المعاملة الربوية باطلة إذا صدرت من العالم بحرمة الربا، فلا يتملك المال الربوي ولا يحل له التصرف فيه، وعليه إرجاعه لمن أخذه منه، مسلماً كان المأخوذ منه أو كافراً ذمياً، بل وحربياً على الأحوط وجوباً؛ نعم يكفي في تملكه له علمه برضا صاحبه بأن يتملكه رغم عدم استحقاق الآخذ له، وكذا يكفي في تملكه ما إذا كان صاحب المال غير مسلم وكان الربا حلالاً في شريعته أو في القوانين التي يلتزم بها. وأما الجاهل بحرمة الربا حكماً أو موضوعاً فإنه يتملك ما أخذه بالربا، ولا يجب عليه إرجاعه إلى المأخوذ منه، وعليه أن يقلع عن ذلك بعد علمه بالحرمة.

المطلب الثاني ـ في بيع الصرف:

ويراد به بيع المعدنين الثمينين الذهب والفضة بغض النظر عن كونهما نقدين أو ليسا بنقدين، بما في ذلك ما لو كانا حلياً مصوغة، وكذا بغضّ النظر في النقدين منهما عن كونهما مسكوكين أو غير مسكوكين، وعن كونهما متداولين في حركة التبادل التجاري أو غير متداولين، وعن كونهما مما يباع بالوزن أو بالعدِّ مثلاً؛ إذ إنهما قد لوحظا في ما سوف نذكره من أحكام لهما بما لهما من صفة الذهبية والفضية مجردة عن تلك الخصوصيات، ثمناً كان أحدهما أو مثمناً، رغم أن الوضع التاريخي لهما قد كرسهما كنقدين ملحوظين بمقدارهما الموزون، ورغم أن بيع الصرف ينصرف إلى ما كان نقداً من هذين المعدنين بسبب سيادة وغلبة معدني الذهب والفضة في عالم النقد قديماً على غيرهما من المعادن.

أما تفصيل أحكام بيع الصرف فهو يقع في مسائل:

مسألة 789: لا يجوز بيع الذهب بالذهب، ولا الفضة بالفضة، مع الزيادة في أحدهما عن الآخر، حتى لو كان الناقص مصوغاً حلياً، سواء في ذلك البيع نقداً، أو نسيئة بطريق الأولى؛ وكذا لا يجوز بيع أحدهما بالآخر مع الزيادة أو بدونها إذا كان البيع نسيئة، دون ما لو كان البيع نقداً، فإنه يجوز مطلقاً. هذا، ويثبت حكم بيع النقدين المذكور لبيع أحدهما بأجزاء منه، كبيع الليرة الرشادية المعروفة في هذا الزمان بنصفين منها، لأنّه ما يزال يعتبر من الموزون.

مسألة 790: لا بد في بيع الصرف من التقابض قبل الافتراق عن مجلس العقد، سواء بيع الذهب أو الفضة بمثله أو بيعه بالآخر، فلو تفرقا ولم يتقابضا بطل البيع، ولو تم القبض في البعض صح فيه وبطل في الجزء الذي لم يقبض، بل إنه لا بد من التقابض حتى في صورة ما لو كان أحدهما قد ضم إلى النقد غيره، كما لو باعه درهماً وكتاباً بدرهمين، فإنه إن لم يتقابضا يبطل البيع في النقد ويصح في الضميمة، وهي الكتاب في المثال. هذا، ولو فرض أنهما خرجا عن مجلس العقد مصطحبين، فلا بد من تقابضهما قبل التفرق أيضاً.

مسألة 791: إذا تعاقدا بالتخابر الهاتفي أو بالكتابة فلا بد من التقابض أيضاً، وذلك إما بأن يوصل كل منهما العين إلى الآخر قبل العقد، أو يوكل من يقبض عنه عند التعاقد، وإلا لم يصح البيع.

مسألة 792: رغم أن القبض شرط في صحة بيع الصرف لكن الإقباض ليس واجباً على كل واحد من المتبايعين حتى لو أقبضه صاحبه، ومعنى ذلك أن لكل منهما أن يتسبب ببطلان البيع وإلغاء أثر العقد بامتناعه عن إقباض ما بيده لصاحبه؛ بل إن عقد البيع في الصرف لا يحقق الانتقال قبل القبض بنفس القوة التي يحدثها العقد في بيع غير الصرف، ولذا فإن نماء المبيع أو الثمن ومنافعه المتحققة قبل القبض هي للمالك الأول، أي لمن انتقل عنه لا لمن انتقل إليه.

مسألة 793: تختص شرطية التقابض في الصرف بالبيع، فلو تمت المعاوضة في الصرف بالصلح لم يجب فيه التقابض.

مسألة 794: إذا كان أحد العوضين ديناً في ذمة الآخر فباعه إياه بنقد آخر، من جنسه أو من غير جنسه، كفى قبض الدائن ما يدفعه إليه المدين ثمناً، ولم يحتج المدين إلى قبض ما في ذمته ما دام حاضراً عنده ولو اعتباراً.

نعم إذا باع الدائن ماله في ذمة زيد على غيره، وليكن هو سعيداً مثلاً، فإنه لا بد من قبض سعيد لما في ذمة زيد، بل إنه حتى لو وكل سعيد زيداً بأن يقبض ما في ذمته نيابة عنه لم يغنِ ذلك التوكيل عن لزوم إخراج زيد لما في ذمته وتشخيصه في نقد معين وقبضه وكالة عن سعيد.

مسألة 795: إذا اشترى زيد عشرة دنانير مثلاً بمائة درهم، ثم باعها قبل قبضها لسعيد، لم يصح البيع الأول حتى يقبض زيد ما اشتراه قبل التفرق، أما البيع الثاني فإنه محكوم بالبطلان على كل حال، أي حتى لو قبض سعيد بعد ذلك ما اشتراه من زيد قبل التفرق.

مسألة 796: يجوز بيع أحد النقدين بجنسه مع الزيادة إذا جعل مع الآخر ضميمة ذات مالية معتد بها وإن كانت في قيمتها أقل بكثير من الزيادة الموجودة في الآخر، فيصح أن يبيعه عشر ليرات ذهبية إنكليزية مع كتابٍ معين بخمس عشرة ليرة رشادية ذهبية.

هذا، ولما كان الشائع في سك النقود إضافة معدن النحاس مع الذهب حتى يشتد، وإضافة معدن الرصاص مع الفضة، وهي الإضافة التي يصطلح عليها بـ (الغش)، لكنه غش مقبول وضروري من الناحية الصناعية، فإن هذا المقدار من النحاس الموجود في النقد لا يصلح ضميمة مبررة للزيادة في النقد الآخر الذي من جنسه، بنحو يعتبر فيه المتعاقدان أن الزيادة هنا مقابل كمية النحاس الموجودة هناك في داخل تلك الليرات أو الدنانير، وذلك لأنه لا مالية له، كما أن لحاظه كضميمة ليس بجدي.

مسألة 797: لا بأس في بيع الشي‏ء المحلى بالذهب أو بالفضة بنقد من جنس الحلية، كالكتاب والسبحة والسيف ونحوها، حتى لو كانت الحلية أقل من الذهب النقدي، بل ولا يجب على مشتري السيف مثلاً أن يقصد كون الزائد من الثمن في مقابل الآلة، وذلك لأن الملحوظ في المبيع هو ا لآلة المحلاة لا الحلية التي عليها.

مسألة 798: قد ذكرنا في أول مسألة من هذا المبحث ما يفيد بأن كون أحد المعدنين الثمينين مصوغاً حلية لا يبرر جعل النقد الذي في مقابله أزيد منه إذا كان من جنسه، بل ومن غير جنسه إذا كان البيع نسيئة، بقصد أن يكون الزائد في مقابل الصياغة؛ وزيادة على ذلك نقول:

لا يجوز أن يبيع مثقالاً ـ مثلاً ـ من الذهب الخالص بمثقال من الذهب (المغشوش) بشرط أن يصوغ له خاتماً، حتى لو قصدا كون (صياغة الخاتم) في مقابل ما يزيد في الذهب الخالص عن النقد الذهبي المغشوش؛ نعم، يجوز أن يطلب منه صياغة خاتم على أن تكون (جعالة) هذا العمل وأجرته أن يبيعه مثقالاً من الذهب الخالص بمثقال من الذهب المغشوش، ولكن شرط أن يكون ذلك على سبيل القصد الجدي؛ كذلك فإنه يجوز أن يبيعه ـ مثلاً ـ مثقالاً من فضة غير مصوغٍ بمثقال منها مصوغٍ خاتماً، إذ لا تعتبر الصياغة في الآخر زيادةً ربوية.

مسألة 799: النقود المعدنية من غير الذهب والفضة المتداولة في هذا الزمان تعتبر من المعدود لا من الموزون، فيجوز بيع نقد منها بالآخر مع الزيادة حتى لو كانت من جنس واحد، وكذا يجوز صرفها إلى أبعاضها مع التفاضل، فيصح بيع المارك والجنيه ونحوهما من القطع المعدنية بنصفين منها أو أربعة أرباع حتى لو كان وزن تلك الأجزاء والأبعاض مجتمعة أكثر من وزن القطعة الواحدة من فئة (المارك) مثلاً؛ كذلك فإنه لا يشترط التقابض في بيعها قبل التفرق عن مجلس البيع.

وأما العملة الورقية المتداولة في زماننا هذا، بل والغالبة في التداول النقدي، فلا إشكال ـ مطلقاً ـ في بيع بعضها ببعض مع التفاضل؛ بل ولا يشترط فيها التقابض في مجلس العقد، حتى لو كان رصيد تلك العملة الورقية ذهباً.

فائدة فيها مسائل:

مسألة 800: إذا كان له في ذمة غيره نقدٌ ذهبيٌ معيّن، كالليرة العثمانية، فطلب منه تحويلها ليرة إنكليزية، أو ليرات عثمانية من فئة الربع ليرة، أوأجزاءً أخرى من الليرة العثمانية أو غيرها، أو كان له في ذمته أجزاء من الليرة الذهبية فطلب تحويلها إلى نقد ذهبي من فئة الليرة، وما أشبه ذلك، فإذا قبل المدين طلب الدائن تحول ما في ذمته إلى ما طلبه منه، ولزم ذلك (التحويل) عليهما، ولم يكن لأحدهما التراجع عنه إلا برضا الآخر.

مسألة 801: من اشتغلت ذمته لآخر بنقد معين من الذهب أو الفضة، كأن اقترض منه عشرين ليرة رشادية، أو كان مهراً لزوجته، أو جعله ثمناً في البيع، فتغير سعره حين الوفاء به عما كان عليه حين اشتغال الذمة به، لم يكن عليه إلا نفس النقد، زادت قيمته أو نقصت، فإن أراد قيمته من العملات الأخرى فليس له عليه إلا قيمته الحالية مهما كانت قليلة أو كثيرة.

مسألة 802: لا يجوز تزوير العملات الورقية والمعدنية المتداولة في زماننا هذا في ظل النظام النقدي العالمي المتعارف، كما لا يجوز التعامل بها في البيع والشراء، بل يجب التصدي لفاعل ذلك عالماً متعمداً ونهيه عن هذا المنكر بكل وسيلة محققة للارتداع بالنحو الذي يذكر في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما يجب إلفات الجاهل إلى حرمته ومنعه من الجري على مقتضى جهله رغم كونه معذوراً.

وكذلـك الحكـم في النقـد الذهبـي أو الفضـي ـ رغم قلة التعامل بهما ـ وبخاصة ما لو كان التزوير أو الغش كبيراً بالغاً حدّ تغير الحقيقة وانعدام عنصر الذهب أو الفضة منه؛ نعم يذكر الفقهاء كلمة (الغش) في فتاواهم ويريدون به في النقدين كونهما ممزوجين بمقدار من معدن آخر، كالنحاس في الذهب والرصاص في الفضة، مما هو مقصود عند سك النقود ومعلوم ومقبول في عرف الناس، وذلك في مقابل النقد المسكوك من الذهب الخالص، إن مثل هذا (الغش) المقصود منه معناه اللغوي لا الأخلاقي كان جائزاً ومقبولاً، وهو جائز فعلاً حيث يكون رائجاً ومقصوداً، سواء كان معلوماً عند المتعاملين به أو مجهولاً، فإن لم يكن رائجاً فهو عمل محرم وغش ممقوت.

المبحث الثالث ـ في النقد والنسيئة:

يراد بـ (النقد): (دفع الثمن عند تمام العقد)، وبـ (النسيئة): (تأجيل دفع الثمن بعد تمام العقد مدة محددة)؛ وفي ذلك مسائل نستعرضها كما يلي:

مسألة 803: إذا تم العقد بين المتبايعين مستكملاً لشروطه دون أن يشترط أحدهما تأجيل الثمن كان الثمن مستحقاً للبائع فور تمام العقد، فللبائع المطالبة به ـ حينئذ ـ، وعلى المشتري دفعه، وإذا دفعه وجب على البائع أخذه. وأما إذا اشترط أحدهما تأجيل الثمن إلى مدة معينة لزم على المشروط عليه الوفاء بالشرط، فإذا كان الشارط هو المشتري لم يكن للبائع مطالبته به قبل حلول الأجل، لكنه إذا دفعه إليه قبل الأجل وجب عليه قبوله وأخذه، إلا أن تقوم قرينة على رغبة البائع باستلامه حين الأجل بخاصة، والتي منها (أي: من القرينة) ما لو كان البائع هو الذي اشترط التأجيل، فإن فيه قرينة على رغبته باستلام الثمن عند حلول الأجل بخاصة، لا قبله.

مسألة 804: يجب أن يكون الأجل واضحاً عند المتبايعين بأدنى التفات إليه، فلا يصح تحديد الأجل بما يحتاج إلى تفكير وحساب ورجوع إلى أهل الخبرة حتى لو كان دقيقاً ومعلوماً بعد الحساب، كمثل: أول دخول الشمس في برج الحمل مثلاً، فضلاً عن عدم صحته إذا حدده بأمر قابل للزيادة والنقصان، كمثل موسم الحصاد، أو بأمر مجهول، كمثل: عودة المسافر؛ نعم لا يضر بالمعلومية ما لو حدده بشهر هلالي مردد بين الزيادة والنقصان، أو بسنة مرددة بين الشمسية والقمرية، أو نحو ذلك مما يكون النقصان فيه، أو الزيادة، مما لا يعتد به.

أما كيفية حساب اليوم أو الأيام أو الشهر، من جهة كونه في أول اليوم أو الشهر أو في أثنائهما، فهولا يختلف في حكمه وكيفيته عما ذكرناه في مبحث السلف وغيره. (أنظر المسألة: 657 و766 و767).

مسألة 805: إذا كان الثمن حالاًّ، أو كان الثمن ديناً مؤجّلاً لوقت غير معين، لم يجز للبائع أخذ شي‏ء زيادة عليه مقابل تأجيله إلى وقت معين؛ وكذا لا يجوز له الزيادة على الثمن المؤجل لوقت معين مقابل زيادة الأجل، ولا أن يزيده في الأجل في مقابل أن يعجل له المدين ببعض ما عليه من الدين. أمّا أن ينقص البائع من الثمن مقابل تعجيل وقت أداء المؤجل فهو جائز؛ ويكون ذلك منه على وجه إبراء ذمة المشتري من جزء من الثمن.

مسألة 806: يجوز بيع الأكثر المؤجل إذا كان عيناً شخصية، أو من قبيل الكلي في المعين بالأقل الحال في غير ما يكال أو يوزن، مثل: أن يبيعه هذه الألف جوزة، أو ألفَ جوزة من هذه الصُبَّرة، مؤجلة إلى شهر بثمانمائة جوزة حالـة؛ فإن كان العوضان من المكيل أو الموزون لم يجز ذلك لأنه ربا. وأما إذا كان المبيع كلياً في الذمة فإنه يكون من بيع السلف، وهو ما تقدم حكمه في المسألة 771.

مسألة 807: ما يشتريه نسيئة يجوز له أن يبيعه بعد تمام العقد، سواء باعه قبل حلول أجل دفعه الثمن أو بعده، وسواء باعه بزيادة عن ثمنه أو نقص عنه أو بما يساويه، وسواء كان البيع الثاني حالاً أو مؤجلاً، وسواء كان المشتري هو البائع أو غيره؛ نعم كنا قد ذكرنا في مباحث الشرط: «إنه لا يصح لمن باع شيئاً نسيئة أن يشترط على المشتري أن يبيعه له نقداً بأقل مما اشتراه منه، كما أنه لا يصح لمن اشترى نقداً أن يشترط على البائع أن يشتريه منه نسيئة بأكثر مما باعه نقداً، فإن اشترط البائع أو المشتري ذلك على الآخر حكم ببطلان البيع في الفرضين». (أنظر المسألة 680).

مسألة 808: لا مانع أن يجعل التاجر سعراً لبضاعته نقداً وسعراً آخر أزيد منه نسيئة، فإذا اختار المشتري أحدهما فباعه به صح البيع دون إشكال. نعم يبطل البيع إذا جعل البائع ثمنين مختلفين حال إنشاء البيع، بنحو ينعكس تردداً وعدم وضوح فيما وقع به البيع، فيبطل البيع بقوله: «بعتك هذا الكتاب بثمانية دراهم نقداً وبعشرة نسيئة»، وكذا يبطل لو قال: «بعتك هذا الكتاب بثمانية دراهم مؤجلاً لأسبوعين وبعشرة دراهم مؤجلاً لشهر»، وذلك لجهالة الثمن إجمالاً.


 

 

الباب الثاني

في الصلح

 

المبحث الأول: في صيغة الصلح وخصائصه

المبحث الثاني: في موارد الصلح



 

 

تمهيد:

الصلح في مصطلح الفقهاء هو: (الاتفاق بين طرفين على تمليك عين أو منفعة، أو على إسقاط دين أو حق، بعوض أو مجاناً، ومع النزاع وبدونه). وهو ـ حسب تعريفه ـ وإن أفاد فائدة عقود المعاوضة في نقل الملك من طرف إلى طرف، بل وفائدة الإبراء الذي يتضمن في الحقيقة تمليك ما في ذمة الغير لمن هو في ذمته، لكن ميزته أنه يشملها جميعاً في صيغة واحدة، ويكون (بديلاً) عن كل منها، دون الالتزام بشروطها وقيودها، فالمالك (يبيع) بالصلح، و(يؤجر) و(يوصي) و(يهب) و(يعير) و(يبرأ) ذمة غيره و(يسقط) ما له من حق عنده، بصيغة الصلح وعقده، وبقدر أكبر من الحرية في مجالات التوافق والتراضي، دون الالتزام بشروط البيع أو الإجارة أو الهبة ـ مثلاً ـ وأحكامها. ونظراً لما له من خصوصيات فإننا سوف نبين أحكامه في مباحث:

المبحث الأول ـ في صيغة الصلح وخصائصه:

وفيه مسائل:

مسألة 809: الصلح من العقود المستقلة بنفسها، فلا يرجع في أحكامه وشروطه إلى غيره من العقود والإيقاعات وإن أفاد فائدتها، فالصلح ـ مثلاً ـ على تمليك عين بعوض ليس بيعاً، فلا تجري فيه جميع الخيارات التي تجري في البيع، وإن جرى فيه بعضها، كما أنه لا يشترط فيه التقابض قبل التفرق إذا كان العوضان من النقدين؛ وإذا أفاد الصلح تمليك عين مجاناً فلا يشترط فيه قبض العين كما اشترط ذلك في الهبة، وهكذا فإن للصلح أحكامه الخاصة المتناسبة مع طبيعته كما سوف يتبين خلال المسائل القادمة.

مسألة 810: يحتاج عقد الصلح ـ كغيره من العقود ـ إلى الإيجاب والقبول حتى فيما أفاد فائدة الإبراء، فمن كان له دين في ذمة شخص فأبرأه منه كان ذلك (إيقاعاً) غير محتاج إلى القبول من الطرف الآخر، لكنه إذا صالحه على إبرائه من ذلك الدين دون مقابل لزم قبول الطرف الآخر، وإلا لم يكن صلحاً.

ويتحقق الإيجاب والقبول بكل لفظ يدل عليه، وإن كان لفظ (صالحتك) هو الأفضل في إفادة المراد، فيقول الموجب ـ وهو الباذل للعين ـ: «صالحتك على داري هذه بخمسين ألفاً» مثلاً، فيقول المبذول له: «قبلت المصالحة». بل تصح المعاطاة فيه ـ أيضاً ـ، فيعطي صاحب الدار داره لشخص قاصداً مصالحته عليها بمبلغ متفق عليه سابقاً، أو مجاناً، فيتسلمها الآخر قاصداً قبول الصلح بذلك المبلغ.

مسألة 811: يعتبر في المتصالحين البلوغ والعقل والاختيار والقصد، كما يعتبر فيمن تقتضي المصالحة أن يتصرف بماله منهما أن لا يكون محجوراً عليه لسفه أو فلس.

مسألة 812: يتحقق الصلح من الفضولي ويؤثر أثره بعد إجازة المالك حتى فيما يتعلق منه بإسقاط دين أو حق مما أفاد فائدة الإبراء والإسقاط، وذلك على رغم أن الإبراء المستقل عن الصلح ـ أو الإسقاط كذلك ـ إذا وقع من الفضولي لم يؤثر أثره حتى بعد إجازة صاحب الحق، بل لا بد فيهما من إنشاء إيقاع جديد من قبل صاحب الحق أو وكيله أو وليه.

مسألة 813: عقد الصلح لازم في نفسه حتى ما كان منه بدون عوض، وكانت فائدته فائدة الهبة أو العارية، لذا فإنه لا ينفسخ إلا في موارد:

الأول: ما لو تراضى المتصالحان على الفسخ، فأقال أحدهما الآخر.

الثاني: أن يجعل أحدهما ـ أو كلاهما ـ للآخر على نفسه حق الفسخ، وهو المعروف في البيع بـ (خيار الشرط).

الثالث: ما لو شرط أحدهما على الآخر شروطاً، ومنها تسليمه العين المتصالح عليها ـ أو بها ـ في وقت معين، فلم يفِ المشروط عليه بالشرط، وهو ما يسمى في البيع بـ (خيار تخلف الشرط).

الرابع: ما لو أخر تسليم العين ـ عوضاً أو معوّضاً ـ عن الحد المتعارف، فإن لمن له الحق خيار فسخ الصلح، وهو يشبه خيار التأخير الثابت في البيع لكن لا تجري أحكامه هنا، بل يقتصر منه على هذا المقدار فقط.

الخامس: ما لو تخلف الوصف في العين ـ عوضاً أو معوضاً ـ عما رآها أو عما وصفت له، وهو المعروف في البيع بـ (خيار تخلف الوصف)، وجريانه هنا على نحو جريانه هناك.

السادس: ما لو ظهر عيب في العين ـ عوضاً أو معوضاً ـ، لكنه يشكل فيه ثبوت حق لصاحب العين المعيبة بأخذ التفاوت بين قيمتها صحيحة ومعيبة.

هذا، ولا يثبت فيه خيار الحيوان ولا خيار المجلس، وكذا خيار الغبن إذا كان الصلح في مقام فض النزاع، وأما في غير مقام النزاع فإن ثبوته محل إشكال.

المبحث الثاني ـ في موارد الصلح:

وفيه مسائل:

مسألة 814: يجوز إيقاع الصلح في كل مقام وعلى كل أمر، وخاصة في الأمور غير الواضحة وفي مقام التنازع والخصومة، شرط أن لا يكون مضمونه مخالفاً للكتاب الكريم أو السنة النبوية المطهرة، بنحو يكون موجباً لتحليل الحرام أو الالتزام بما لا يصح الالتزام به من أجزاء وشروط الأفعال فعلاً وتركاً، كما مر بيانه عند التحدث عن الشرط في مبحث الخيارات في باب البيع. (أنظر المسألة 678).

وعلى هذا الأساس، فإنه يصح التصالح مع العوض على العين والمنفعة والدين والحق، بالعين والمنفعة والدين والحق، فهذه ست عشرة صورة ناتجة من ضرب أربعة في أربعة، فإذا زدنا عليها حالة ما لو كان التصالح على تلك الأربعة بدون عوض، تصير الصور عشرين صورة كلها صحيحة.

مسألة 815: يختلف أثر معاملة الصلح باختلاف متعلق الصلح، فإذا كان التصالح على عين أو منفعة، وعلى حق قابل للانتقال، كحقي التحجير والاختصاص مثلاً، فإنه يفيد انتقالها إلى الطرف الآخر، وكذا يفيد الانتقال في صورة ما لو تصالح مع المدين على دفع الدين الذي عليه إلى شخص ثالث محدد، سواء في ذلك ما لو كان بعوض أو بدون عوض. أما إذا كان التصالح على بذل الدين لمن هو في ذمته فإنه يفيد الإسقاط، وكذا يفيد الإسقاط إذا وقع التصالح على الذي يقبل الإسقاط من الحقوق غير القابلة للنقل الاختياري ولا الانتقال القهري، مثل حق الشفعة ونحوه، وأما ما لا يقبل الانتقال ولا الإسقاط فلا يصح الصلح عليه.

مسألة 816: يجوز الصلح على ثمار وخضر وزرع العام الواحد قبل ظهورها بدون ضميمة، وذلك من دون إشكال فيه، وذلك رغم أنه قد مر معنا في باب البيع أن الاحتياط الذي لا ينبغي تركه يقتضي ترك البيع في هذه الصورة. (أنظر في ذلك مبحث بيع الثمار من هذا الجزء، ص: 507 وما بعدها).

مسألة 817: يصح الصلح على الانتفاع بالعين بأي نحو من أنحاء الانتفاع مع بقاء العين على ملك مالكها، بعوض كان ذلك أو بدونه، فيصح أن يصالح شخصاً على أن يسكن داره مدة معينة، أو يلبس ثوبه كذلك، أو على أن يكون له الممر في أرضه، أو على أن يبني فوق داره، أو غير ذلك من جوانب الانتفاع التي لا تحصى.

مسألة 818: كما لا يجوز الربا في معاملة البيع في النقدين أو في المكيل والموزون بالنحو الذي مر تفصيله، فإنه لا يجوز الربا في معاملة الصلح أيضاً، فلـو كان لكلٍ منهما مال في يد الآخر أو في ذمته، وكان أحدهما أزيد من الآخر، وكانا من المكيل أو الموزون أو النقدين، لم يجز التصالح على مبادلة أحدهمـا بالآخـر، بـل وكـذا مـع احتمـال الزيـادة في أحدهمـا على الآخر على الأحوط وجوباً، نعم يجوز ـ في مثل هذه الموارد ـ التصالح على أن يهب أو يبرأ كل منهما ما في يد الآخر على أن يهبه أو يبرأه الآخر ما له في يده. (أنظر المسألة 787).

مسألة 819: لا يعتبر في الصلح العلم بالمصالح به، فلو اختلط مال أحد الشخصين بمال الآخر دون معرفة مقدار كل منهما، جاز لهما أن يتصالحا على أن يكونا شريكين فيه بالتساوي أو بالاختلاف، كما يجوز لأحدهما أن يصالح الآخر بمال خارجي معين مقابل ماله غير المعلوم مقداره، وذلك دون فرق بين ما لو كان التمييز بين المالين متعذراً أو غير متعذر.

لكن لو فرض علْم المدين بمقدار ما عليه من الدين وجهل الدائن به، فصالحه الدائن على أقل مما يستحقه، لم تبرأ ذمة المديون من المقدار الزائد إلا أن يكون الدائن ـ حين المصالحة ـ على حالة من الرضا المطلق حتى فيما لو علم بقاء شي‏ء له في ذمة الدائن. هذا، ويجري نفس الكلام في صورة علم المدين الإجمالي بزيادة مقدار الدين عن المقدار المصالح به.

مسألة 820: لا يخفى أن أهم موارد الصلح هو حالة التنازع، فبدل التداعي يلجأ المتخاصمان إلى التراضي بينهما على فض النزاع بنحو معين يتفقان عليه، وحيث يتم الصلح بين المتنازعين يسقط حق الادعاء من قبل المدعي، وكذا يسقط اليمين عن المنكر، وليس للمدعي تجديد الادعاء والترافع في القضية المتصالح عليها؛ غير أن الصلح وإن فَضَّ النزاعَ لا تحصل به براءة الذمة الواقعية، فلو كان المنكر ظالماً للمدعي لعلمه باستحقاقه، لم تبرأ ذمته بذلك الصلح مما عليه، إلا أن يعلم رضا صاحب الحق بنتيجة الصلح مطلقاً حتى في صورة ما لو علم بقاء شي‏ءٍ له في ذمة المنكر؛ وكذلك الحكم في صورة ما لو كان المدعي هو الكاذب.

مسألة 821: إذا طلب المدعى عليه أن يصالحه المدعي على العين المتنازع عليها مثلاً، لم يكن ذلك منه إقراراً بحق المدعي فيها، لأن الصلح حالة من التراضي المرغوب في حال الإقرار والإنكار من قبل أحد الطرفين أو كليهما، نعم إذا طلب منه أن يبيعها له أو أن يملِّكه إياها كان ذلك منه إقراراً بحق المدعي فيها.

مسألة 822: إذا اختلط مال شخصين فلم يتمايزا، ثم تلف منه مقدار، فإن كان الاختلاط موجباً لاشتراكهما في الخليط، كما في الحبوب والزيوت ونحوهما، وكان مقدار مال كل منهما معلوماً، كان التلف عليهما بنسبة ما لكلٍ منهما، وأما إذا لم يكن المقدار معلوماً، وتصالحا على تحديد مقدار كل منهما كان التلف عليهما ـ أيضاً ـ بمقدار ما حدد الصلح لكل واحد منهما، أو أنهما يتفقان ويتصالحان على مقدار ما يتحمله كل منهما من التلف.

وأما إذا كان الاختلاط غير موجب للشركة، كما في اختلاط نسختين من كتاب واحد، أو أثواب متشابهة، وكان مقدار مال كل منهما معلوماً، ووقع التلف على جزء من ذلك المال المختلط دون أن يعلم في أي المالين حدث، فإن كان المالان متساويين كان التلف عليهما والباقي بينهما نصفين مثلاً، وأما مع اختلاف نصيب كل منهما، فإن كان نصيب أحدهما بالنسبة إلى الآخر من الضعف على نحو لا يعتد به، كنسبة الواحد أو الخمسة إلى الألف أو العشرة آلاف، كان التلف كله على صاحب النصيب الكبير، وإن لم يكن كذلك لزم احتساب نصيب كل منهما من التالف بنسبة التالف إلى المجموع، فلو كان المجموع عشرة، وكان لأحدهما درهمان مثلاً وللآخر ثمانية، وكان التالف درهماً واحداً، كانت حصة صاحب الدرهمين من التلف: 2/10 من الدرهم، وحصة صاحب الثمانية من التلف: 8/10 من الدرهم؛ ولو كان التالف خمسة دراهم، كان على صاحب الدرهمين درهم، وعلى صاحب الثمانية أربعة، لأن نسبة التالف إلى المجموع هي النصف فينقص من حصة كل منهما نصفها، وهكذا أمثاله.

مسألة 823: لو اشترط المصالح على المتصالح معه أن يَقف المالَ المبذول له صلحاً على جهة خاصة ترجع إلى المصالح نفسه أو إلى غيره أو إلى جهة عامة، في حياة الموصي أو بعد وفاته، صح الاشتراط ولزم الوفاء بالشرط.

مسألة 824: لما كانت الشركة تقتضي أن يكون رأس المال منهما والربح والخسارة بينهما، فإن للشريكين بعد انتهاء الشركة بينهما أن يتصالحا على أن يكون رأس المال لأحدهما، والربح للآخر والخسارة عليه.


 

الفهرست

 

المقدمة ........................................................................................................................................

تصدير ........................................................................................................................................

مدخل في أنواع الملكيّة وأهليّة المالك

تمهيد ...........................................................................................................................................

المبحث الأول: في الملكية وأنواعها .........................................................................

أولاً: من جهة المالك ....................................................................................................

ثانياً: من جهة المملوك .................................................................................................

المبحث الثاني: في أسباب التملك ........................................................................

المطلب الأول: في أسباب التملّك ....................................................................................

المطلب الثاني: في توضيح بعض المصطلحات ...............................................................

المبحث الثالث: في المالك وأهليته .........................................................................

الفرع الأول: في ما يرجع إلى فقدان الأهلية ........................................................

المطلب الأول: في الأسباب .........................................................................................

1 ـ مانعية الصغر .............................................................................................

2 ـ مانعية الجنون ............................................................................................

3 ـ مانعية السفه ..............................................................................................

المطلب الثاني: في الولاية على فاقد الأهليّة ........................................................

1 ـ مراتب الأولياء .........................................................................................

الأولى: ولاية الأب والجد ...................................................................

الثانية: ولاية الوصي .............................................................................

الثالثة: ولاية الحاكم الشرعي .............................................................

الرابعة: ولاية العدل المؤمن ................................................................

2 ـ حدود ولاية الولي ..................................................................................

3 ـ التنازل عن الولاية ................................................................................

4 ـ صلاحيات أخرى للولي .......................................................................

الفرع الثاني: في ما يرجع إلى مانعية الإضرار بالغير .........................................

المطلب الأول: في حكم الجوار ..................................................................................

المطلب الثاني: في منجزات المريض .........................................................................

المبحث الرابع: في ما يُملك من الأعيان ..............................................................

المبحث الخامس: في ما يُحلّ التكسّب به وما يحرم ......................................

المبحث السادس: في ما به يثبت الُملك ................................................................

المبحث السابع: في ما به يزول الُملك ...................................................................

المبحث الثامن: في فضل التكسّب وآدابه ..............................................................

المطلب الأول: في فضل التكسّب ......................................................................................

المطلب الثاني: في الآداب العامة للتكسّب .....................................................................

المقصد الأول: في تملّك المباحات الأصليّة

تمهيد ...........................................................................................................................................

الباب الأول: في أحكام الأراضي

تمهيد ...........................................................................................................................................

الفصل الأول: في الأرض الموات وإحيائها ........................................................................

المبحث الأول: في أصناف الموات وسبب ملكيتها .....................................

المبحث الثاني: في الإحياء وأحكامه ................................................................

الفصل الثاني: في الأرض العامرة .....................................................................................

تمهيد ....................................................................................................................................

المبحث الأول: في أصناف العامرة وحكم كل صنف .................................

الأول: الأرض العامرة بالذات حين الفتح .............................................................

الثاني: الأرض التي فتحها المسلمون حرباً وعنوة ...............................................

الثالث: أرض الصلح ...................................................................................................

الرابع: الأرض التي أسلم أهلها عليها ....................................................................

المبحث الثاني: في حكم العامر إذا مات .........................................................

خاتمة في أحكام الطرق والمرافق العامة .....................................................................

تمهيد ....................................................................................................................................

المبحث الأول: في أحكام الطرق .........................................................................

الأول: الطريق النافذ ...............................................................................................

الثاني: الطريق غير النافذ .....................................................................................

المبحث الثاني: في حكم الانتفاع بالمرافق العامة ...................................

تتمة في وجوب حفظ النظام العام ....................................................................

الباب الثاني: في تملّك الثروات الطبيعيّة

الفصل الأول: في الثروة الحيوانية ...................................................................................

تمهيد ....................................................................................................................................

المبحث الأول: في موجبات تملك الحيوان ...................................................

المبحث الثاني: في ما يحل منه وما يحرم ...................................................

الأول: في حكم حيوان البر .......................................................................................

الثاني: في حكم حيوان البحر .................................................................................

الثالث: في حكم الطيور ...........................................................................................

المبحث الثالث: في تذكية الحيوان ....................................................................

تمهيد .............................................................................................................................

المطلب الأول: في صيد الحيوان البري والطائر .....................................................

تمهيد ......................................................................................................................

الفرع الأول: في الصيد بالآلة ....................................................................

أولاً: في آلة الصيد ...................................................................................

ثانياً: في الصائد...........................................................................................

الفرع الثاني: الصيد بالحيوان .....................................................................

الفرع الثالث: في الأحكام المشتركة .........................................................

المطلب الثاني: في صيد السمك والجراد ...............................................................

الفرع الأول: في صيد السمك ...................................................................

الفرع الثاني: في صيد الجراد ......................................................................

المطلب الثالث: في الذباحة والنحر ........................................................................

الفرع الأول: في شروط الذبح والنحر ..................................................

الفرع الثاني: في ذكاة الجنين .......................................................................

الفرع الثالث: في الأحكام العامّة .............................................................

فائدة في العناية بالحيوان .......................................................................

خاتمة في ما تعرف به التذكية ......................................................................

الفصل الثاني: في الثروة المائية  .......................................................................................

تمهيد ....................................................................................................................................

المبحث الأول: في ملكية المياه ...........................................................................

المبحث الثاني: في حريم الموارد المائية ......................................................

أولاً: حريم الانتفاع .................................................................................................

ثانياً: حريم البقاء ...................................................................................................

الفصل الثالث: في الثروة المعدنية والنباتيّة .................................................................

تمهيد ....................................................................................................................................

المبحث الأول: في المعادن .....................................................................................

المبحث الثاني: في النبات ......................................................................................

خاتمة في ثروات البحر .............................................................................................

الباب الثالث: في أحكام العمل أو (إجارة النفس)

تمهيد ...........................................................................................................................................

الفصل الأول: في ما يحرّم من الأعمال وما يحلّ .......................................................

تمهيد ....................................................................................................................................

مبحث في ما يحرّم من الأعمال وما يحلّ ......................................................

الأول: أخذ الأجرة على الأعمال الدينية ...................................................

الثاني: معاونة الكفار وبناء معابدهم .........................................................

الثالث: معاونة الظلمة والعمل عندهم .....................................................

الرابع: الإنتاج الفكري قولاً وكتابةً وفناً ....................................................

الخامس: حقل الصحافة والإعلام ...............................................................

السادس: الأعمال التمثيلية .............................................................................

السابع: فن التصوير والنحت .........................................................................

الأول: التصوير بالآلة ...................................................................................

الثاني: التصوير اليدوي (الرسم) ............................................................

الثالث: النحت ................................................................................................

الثامن: الغناء والموسيقى ...............................................................................

الأول: في الغناء ...............................................................................................

الثاني: في الموسيقى ........................................................................................

الثالث: في أحكام لهما مشتركة .................................................................

التاسع: الرقص ......................................................................................................

العاشر: صناعة الغذاء وعمل المطاعم .....................................................

1 ـ الخمر ............................................................................................................

2 ـ الميتة ولحم الخنـزير .................................................................................

3 ـ الأعيان الطاهرة .......................................................................................

الحادي عشر: أعمال الطب ..............................................................................

الثاني عشر: صناعة الملابس وعرضها .....................................................

الثالث عشر: صناعة التجميل ........................................................................

الرابع عشر: الأعمال الجنسية .......................................................................

الخامس عشر: أعمال السحر والخفة وما أشبهها ..............................

الأول: في ما هو من السحر .......................................................................

الثاني: في ما هو من الإخبار بالمغيبات ..................................................

1 ـ التنجيم .................................................................................................

2 ـ المَنْدل ....................................................................................................

3 ـ القيافة ....................................................................................................

4 ـ التبصير ..................................................................................................

5 ـ التنبؤ بالأحوال الجوية ...................................................................

الثالث: في ما هو من الرقى والتعاويذ ...................................................

السادس عشر: أدوات القمار والتسلية واليانصيب .................................

السابع  عشر: أعمال الخدمات ......................................................................

الأول: في أعمال النشر والدعاية والإعلان ........................................

الثاني: في خدمة فاعل الحرام ....................................................................

الثالث: في خدمة أمكنة الحرام ..................................................................

الفصل الثاني: في إجارة النّفس ........................................................................................

تمهيد ....................................................................................................................................

المبحث الأول: في العقد والمتعاقدين ............................................................

الأول: عقد العمل .................................................................................................

الثاني: في أهلية المتعاقدين .........................................................................

الثالث: في شروط العمل ..................................................................................

الرابع: في شروط الأجرة ..................................................................................

المبحث الثاني: في لزوم العقد وموارد الفسخ .............................................

الأول: في لزوم العقد ................................................................................................

الثاني: في موارد الفسخ ...........................................................................................

أولاًً: الفسخ بالخيار ......................................................................................

1 ـ خيار العيب ........................................................................................

2 ـ خيار الغبن ..........................................................................................

3 ـ خيار اشتراط الفسخ ......................................................................

4 ـ خيار تخلّف الشرط .........................................................................

5 ـ خيار تبعض الصفقة .......................................................................

6 ـ خيار تعذر التسليم ..........................................................................

7 ـ خيار الشركة ......................................................................................

8 ـ خيار التدليس ....................................................................................

9 ـ خيار التفليس ....................................................................................

ثانياً: الفسخ بغير الخيار ...........................................................................

فائدة في أثر الفسخ على الأجرة ..................................................................

المبحث الثالث: في أحكام أداء العمل وتسليمه ...........................................

المبحث الرابع: في أحكام التلف والإفساد .....................................................

الفصل الثالث: في المزارعة والمساقاة................................................................................

تمهيد ....................................................................................................................................

المبحث الأول: في المزارعة ...................................................................................

المطلب الأول: في العقد وشروطه .......................................................................

المطلب الثاني: في أحكام الخلل والتلف ........................................................

خلاصة فيها فائدة مهمة ...........................................................................

المطلب الثالث: في أمور عامّة ...................................................................................

خاتمة في المغارسة ....................................................................................................

المبحث الثاني: في المساقاة ................................................................................

تمهيد .............................................................................................................................

المطلب الأول: في العقد وشروطه .............................................................................

المطلب الثاني: في أحكام اللزوم والفسخ .............................................................

المطلب الثالث: في أمور عامة ...................................................................................

الفصل الرابع: في الجعالة....................................................................................................

تمهيد ....................................................................................................................................

المبحث الأول: في الصيغة والشروط ................................................................

المبحث الثاني: في أحكام الأداء والتنازع .......................................................

1 ـ أحكام الأداء ....................................................................................................

2 ـ حكم التنازع وأثر الفسخ أو البطلان ...................................................

خاتمة في إجارة الأعيان .....................................................................................................

تمهيد ....................................................................................................................................

المبحث الأول: في شروط العين المستأجرة ................................................

المبحث الثاني: في لزوم العقد وأحكام الفسخ ............................................

1 ـ خيار الغبن ........................................................................................................

2 ـ خيار العيب ......................................................................................................

3 ـ خيار الشرط .....................................................................................................

4 ـ سائر الخيارات .................................................................................................

المبحث الثالث: في أحكام التسليم ...................................................................

المبحث الرابع: في حدود التصرف بالمنفعة وأحكام الإخلاء ............

المبحث الخامس: في ما تجوز إجارته من الأعيان ....................................

الأول: في حكم إجارة الأرض ........................................................................

الثاني: في حكم إجارة غير الأراضي ............................................................

المقصد الثاني: في الهبات

تمهيد ...........................................................................................................................................

الباب الأول: في الهبة والصدقة

تمهيد ...........................................................................................................................................

الفصل الأول: في الهبة ........................................................................................................

المبحث الأول: في الصيغة والشروط ................................................................

الأول: في تعريفها ...................................................................................................

الثاني: في صيغة العقد ..........................................................................................

الثالث: في الشروط ...............................................................................................

1 ـ في الواهب .................................................................................................

2 ـ في الموهوب له ..........................................................................................

3 ـ في المال الموهوب .....................................................................................

4 ـ في اشتراط القبض ..................................................................................

المبحث الثاني: في الهبة المعوَّضة ...................................................................

المبحث الثالث: في لزوم الهبة ............................................................................

الفصل الثاني: في الصدقة .................................................................................................

الباب الثاني: في العارية

تمهيد ...........................................................................................................................................

المبحث الأول: في الصيغة والشروط .......................................................................

1 ـ صيغة عقد العارية ................................................................................................

2 ـ شروط المعير ............................................................................................................

3 ـ شروط المستعير ......................................................................................................

4 ـ شروط العين المعارة .............................................................................................

المبحث الثاني: في جواز العقد ولزومه ..................................................................

المبحث الثالث: في كيفية الاستفادة وأحكام التلف .........................................

فائدة ...................................................................................................................................

الباب الثالث: في الوصية

تمهيد ...........................................................................................................................................

المبحث الأول: في أقسام الوصية وصيغتها ..........................................................

الأول: في أقسام الوصية .............................................................................................

1 ـ الوصية التمليكية ...........................................................................................

2 ـ الوصية العهدية ...............................................................................................

الثاني: في حكم الوصية ..............................................................................................

الثالث: في صيغة الوصية ...........................................................................................

الرابع: ما تثبت به الوصية .........................................................................................

المبحث الثاني: في شروط الموصي ........................................................................

المبحث الثالث: في الموصى له .................................................................................

المبحث الرابع: في الموصى به ...................................................................................

المطلب الأول: في شروط الموصى به ................................................................................

المطلب الثاني: في مقدار الموصى به ...............................................................................

أولاً: كيف توزع التركة .......................................................................................

ثانياً: الوصية بالثلث وحكم الزيادة عليه ....................................................

ثالثاً: صيغة الإجازة وأحكامها ........................................................................

المطلب الثالث: في غموض الوصايا وتعارضها .............................................................

المطلب الرابع: في حكم النماء والتلف العارضين على التركة .................................

المطلب الخامس: في الوصية بالولاية على القاصر ....................................................

المطلب السادس: الوصية بالحرمان ..............................................................................

المبحث الخامس: في الوصي . ....................................................................................

المطلب الأول: في الشروط ................................................................................................

المطلب الثاني: في كيفية القيام بالوصية ..................................................................

المطلب الثالث: في حكم فقدان الوصي للشروط .........................................................

الباب الرابع: في الوقف والحَبس

تمهيد ...........................................................................................................................................

الفصل الأول: في الوقف ......................................................................................................

المبحث الأول: في أقسام الوقف وصيغته ........................................................

المطلب الأول: في أقسام الوقف ..............................................................................

المطلب الثاني: في أركان الوقف ..............................................................................

الأول: الصيغة ..................................................................................................

الثاني: التأبيد ....................................................................................................

الثالث: التنجيز .................................................................................................

الرابع: كون الوقف على الغير ..................................................................

الخامس: القبض ..............................................................................................

المطلب الثالث: في أثر الوقف ولزومه ...................................................................

المطلب الرابع: في ما يثبت به الوقف ....................................................................

المبحث الثاني: في الواقف ....................................................................................

المبحث الثالث: في العين الموقوفة ..................................................................

المبحث الرابع: في الموقوف عليه .....................................................................

المطلب الأول: في شروطه ..........................................................................................

المطلب الثاني: في تحديد معاني ألفاظ ترجع للموقوف عليه .........................

المبحث الخامس: في كيفية التصرف في الوقف .......................................

المطلب الأول: في ولي الوقف ...................................................................................

المطلب الثاني: في كيفية التصرف ..........................................................................

المطلب الثالث: في حكم خراب الوقف وموارد جواز بيعه ..................................

الفصل الثاني: في التحبيس وأخواته .............................................................................

المقصد الثالث: في المعاوضات

تمهيد في آداب التجارة ومحرّماتها ..................................................................................

المطلب الأول: في آداب التجارة ...............................................................................................

المطلب الثاني: في ما يحرم الاتجار به ................................................................................

الأول: المسكرات ...........................................................................................................

الثاني: الأعيان النجسة ............................................................................................

الثالث: آلات الحرام ....................................................................................................

الرابع: في أمور متعددة ............................................................................................

1 ـ بيع مادة الحرام ................................................................................................

2 ـ بيع المصحف الشريف .................................................................................

3 ـ بيع كتب الضلال ...........................................................................................

المطلب الثالث: في ما يحرم فعله حين الاتجار ....................................................................

الأول: الغش ....................................................................................................................

الثاني: الاحتكار ............................................................................................................

الباب الأول: في البيع

الفصل الأول: في عقد البيع...............................................................................................

المبحث الأول: في التعريف والصيغة ...............................................................

المبحث الثاني: في شروط المتعاقدين ..........................................................

المبحث الثالث: في شروط العوضين ...............................................................

تتمة في ما يدخل في المبيع ................................................................................

المبحث الرابع: في التسليم والقبض ...............................................................

المبحث الخامس: في اللزوم والفسخ ...............................................................

المطلب الأول: في الخيارات .......................................................................................

الأول: خيار المجلس .......................................................................................

الثاني: خيار الحيوان ......................................................................................

الثالث: خيار التأخير .....................................................................................

الرابع: خيار تخلف الوصف (الرؤية) ....................................................

الخامس: خيار تخلف الشرط .....................................................................

السادس: خيار الشرط .................................................................................

السابع: خيار الغبن .........................................................................................

الثامن: خيار العيب .......................................................................................

التاسع: خيار تبعض الصفقة .....................................................................

تتمة فيها فائدتان .........................................................................................

الأولى: في وراثة الخيار ...........................................................................

الثانية: في مدى تأثير العقد في زمن الخيار ....................................

المطلب الثاني: في الإقالة ........................................................................................

الفصل الثاني: في المثمن .....................................................................................................

تمهيد ....................................................................................................................................

المبحث الأول: في بيع الثمار ................................................................................

المطلب الأول: في بيع الثمرة قبل ظهورها ............................................................

الفرع الأول: في بيع الثمار (الفاكهة) ....................................................

الفرع الثاني: في بيع الزرع (الحبوب) .....................................................

الفرع الثالث: في بيع الخَضْروات .............................................................

المطلب الثاني: في ما تباع به الثمرة .....................................................................

تتمة في التَقَبُّل .....................................................................................................

المبحث الثاني: في بيع الحيوان .........................................................................

المبحث الثالث: في بيع السلف ...........................................................................

المطلب الأول: في الصيغة ..........................................................................................

المطلب الثاني: في الشروط ......................................................................................

المطلب الثالث: في الأحكام العامة .........................................................................

الفصل الثالث: في الثمن .....................................................................................................

تمهيد ....................................................................................................................................

المبحث الأول: في مقدار الثمن ..........................................................................

المبحث الثاني: في ربا المعاملة .........................................................................

المطلب الأول: في بيع المكيل والموزون ......................................................................

المطلب الثاني: في بيع الصرف .................................................................................

فائدة فيها مسائل .................................................................................................

المبحث الثالث: في النقد والنسيئة ..................................................................

الباب الثاني: في الصلح

تمهيد ...........................................................................................................................................

المبحث الأول: في صيغة الصلح وخصائصه .......................................................

المبحث الثاني: في موارد الصلح ...............................................................................

الفهرست .................................................................................................................................

5

9

 

15

17

17

18

19

19

20

22

23

23

23

23

24

26

26

26

27

29

30

30

33

34

35

35

39

40

42

43

44

46

46

49

 

55

 

59

61

63

65

69

71

71

71

72

74

75

75

77

79

80

80

85

86

89

 

93

95

97

99

100

103

104

106

106

107

107

109

109

111

112

113

115

115

117

118

119

123

124

126

128

131

133

133

137

138

139

141

143

143

146

147

 

153

157

159

160

160

162

163

165

166

168

169

169

171

172

172

172

174

175

175

177

177

178

179

179

182

182

182

183

183

184

184

185

185

185

185

186

187

188

188

189

190

193

195

199

199

202

204

209

211

211

212

212

213

215

216

217

217

218

218

219

219

219

221

222

232

237

239

241

241

247

252

253

255

256

256

256

259

262

263

265

266

269

269

271

273

275

277

279

280

280

281

282

285

292

296

296

298

 

303

 

307

309

311

311

311

312

312

312

312

313

314

315

319

 

325

325

325

326

326

327

328

330

332

 

335

339

339

339

340

340

341

343

346

347

349

349

350

350

355

357

358

361

363

366

367

367

371

375

 

379

381

383

383

386

386

387

388

389

391

393

393

395

396

398

398

400

402

402

406

414

421

 

427

428

429

429

430

434

435

435

435

435

436

436

437

 

441

443

446

452

459

461

465

465

466

468

469

472

474

480

485

493

498

500

500

500

503

505

507

507

508

508

511

512

513

515

515

517

517

518

522

525

527

527

530

531

538

542

544

 

549

549

551

557