مرجعية المرحلة وغبار التغيير

دراسة علمية توضيحية لبعض الطروحات

الفكرية والفقهية والتاريخية

لسماحة آية الله العظمى

السيد محمد حسين فضل الله  دام ظلهî

الشيخ جعفر الشاخوري البحرانيه فضيلة العلامة الشيخ جعفر الشاخوري البحراني حفظه الله من أبحاثنا في شرح العروة الوثقى في كتاب النكاح فرأيته منسجماً مع ما حققناه ودققناه من المطالب الفقهية في درس الخارج، وذلك من خلال التدقيق في تحليل هذه الأبحاث وتوثيقها وترتيبها بأسلوب جيد يحمل في داخله العناصر الجيّدة في الشكل والمضمون بما يتناسب مع دقة البحث وسعة الموضوع«

و

 

مرجعية المرحلة

وغبار التغيير

 

دراسة علمية توضيحية لبعض الطروحات

الفكرية والفقهية والتاريخية

 

لسماحة آية الله العظمى

السيد محمد حسين فضل الله  دام ظلهî

الشيخ جعفر الشاخوري البحراني

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 مقدمة الكتابî

 

والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وأهل بيته الطيبين الطاهرين«

وبعد، هذه الدراسة عبارة عن بحث موجز حاولت أن أستعرض فيه بعض الطروحات الفكرية والفقهية والتاريخية لآية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله  دام ظلهî، خاصة بعد صدور بعض الكتيبات أو الكتب التي تم فيها عرض تلك النظريات بشكل مقلوب مما يستدعي الباحث إعادة ترتيب تلك الأفكار إلى وضعها الطبيعي«

وإذا كانت جثة الإنسان يمكن أن تكون عرضة للتمثيل، وذلك بتقطيع أجزائها فيغدو ذلك الإنسان الجميل المنظر قبيحاً يثير الرعب في نفوس ناظريه، فكذلك يمكن التمثيل بالأفكار وذلك باقتطاعها بشكل مجتزأ أو قراءتها بشكل مقلوب«

وإذا كان هناك مرض يصيب عدسة العين فيجعلها ترى العالي سافلاً والسافل عالياً، فإن عدسة الدماغ أيضاً قد تصاب بمثل ذلك«

ولا نغالي إذا قلنا بأن كل واحد منا ـ ومنهم كاتب هذه السطور ـ قد يصاب بدرجة وبأخرى بهذا المرض، فإذا أحببنا إنساناً لم نلتفت إلى مساوئه، وإذا أبغضناه حاولنا أن نجعل من حسناته سيئات، وهذا ما يشير إليه قول الشاعر

   وعين الرضـا عـن كـل عيب كليلة      كما أن عين السخط تبدي المساويا

وهذا ما له أمثلة كثيرة في حياتنا العامة، ومن ذلك أني أعرف شخصاً مغرماً باكتشاف الأخطاء النحوية والبلاغية واللغوية عند غيره، ولكنه لا يلتفت إلى تلك الأخطاء وأكبر منها إذا صدرت منه، إنه يلحظ القشة في عين غيره ولا يلحظ الخشبة التي في عينه«

وفي الواقع فإن أي كتاب في العالم يمكن أن يكون عرضة للقراءة الذاتية لا الموضوعية، فحتى الكتب المقدسة التي هي وحي الله قد عبثت بها الأيدي، فأصبحت تضم بين دفتيها كثيراً من الخرافة والقيم الأرضية، بل إن القرآن وهو كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ومن خلفه قد تعرض للتحريف المعنوي، حيث نجد كل فرقة تحاول أن تقرأ القرآن على طريقتها الخاصة، حتى أن أكثر الحركات الإسلامية تخلفاً وهي حركة طالبان تؤكد عقائدها وأفكارها السخيفة بالآيات القرآنية«

ويحكي لنا التاريخ أن الخوارج كانوا يؤكدون نظرياتهم العقائدية والفقهية بالآيات القرآنية، مما دفع أمير المؤمنين  ع  بأن يأمر مبعوثه إليهم بأن يحتج بالسنة فإن القرآن حمالٌ ذو أوجه«

إن المشكلة أن كل واحد منا قد يتبع ـ وهو لا يدري ـ أسلوب ذلك الرجل ـ ولو بنسبة الواحد إلى المئة أو الألف ـ الذي كان يقول

     ما قال ربك ويلٌ للأُلى سكروا               بل قال ربك ويلٌ للمصلينا

انه يأخذ المقطع الذي يوافق رغباته ويتجاهل المقطع الذي لا يقف في صالحه«

وإذا كان من المفترض أن أتحدث هنا عن ظروف هذه الدراسة، فإني آثرت الحديث عنها في المقدمات العامة الخمس التي كتبتها على الطريقة الحوزوية التي قد لا تكون مألوفة لدى الأوساط الجامعية، وفضلت الحديث عن بعض الملاحظات التي لاحظها بعض أصدقائي وأحببت الحديث عنها«

الملاحظة الأولى  إن هذه الدراسة تهاجم المنطق الأرسطي الذي هو واجهة العقل البشري، والذي يمثل منهج الواقعية والحقيقة المطلقة، وهذا يعني أن مؤلفه واقع في قبضة السفسطة«

والجواب عن هذه الملاحظة  أني أوضحت أكثر من مرة أن المشكلة ليست في هذا المنطق بل في سوء استغلاله، حيث تكمن المشكلة في المادة التي يتخيلها الإنسان أنها تمثل الحقيقة المطلقة وهي في الواقع محدودة ونسبية، لأن كثيراً من الأفكار تتحرك في مدى معين، وبعد أن تتجاوز هذا المدى ينتهي مفعولها، حتى أن كثيراً من المسلمات كاستحالة الدور والتسلسل والتي بنى كثير من العلماء عليها بعض التحقيقات النحوية والأصولية تبين لهم أخيراً أن حقلها الأمور التكوينية لا عالم الاعتبار، فليس الدور أو التسلسل أو تقدم المعلول على العلة مستحيلاً في عالم الاعتبار    فالاعتبار خفيف المؤنة كما يقولون«

وبعبارة أوضح، معظم الحقائق لها حقل خاص تصح فيه، فإذا نقلناها إلى حقل آخر فإنها تصبح خاطئة، وهذا ما له أمثلة كثيرة في الفكر البشري وفي فكرنا الاجتهادي، فمن باب المثال لا الحصر ذكر صاحب الكفاية أنه يستحيل استعمال اللفظ في أكثر من معنى، وذلك لاستلزامه اجتماع لحاظين في آن واحد على ملحوظ واحد    «

وقد أورد عليه في أصول الاستباط بأن القواعد الفلسفية لا تطبق على اللغة العربية    «

ولعل من هذا القبيل ما ذكره بعض النحاة من استحالة أن يرفع المبتدأ الخبر والخبر المبتدأ وذلك لاستلزامه الدور، وما ذكره الفقهاء في توجيه تأثير غسل العشائين للمستحاضة بالنسبة لصوم النهار، وذلك لاستحالة تقدم المعلول على العلة، وغيرها كثير    «

وقد تمادى أنصار الحقيقة المطلقة إلى تطبيق بعض القواعد الفلسفية التي لها حقل خاص على الله سبحانه وتعالى وهي نظرية السنخية أو الواحد لا يصدر منه إلا واحد، فقالوا إن الله واحد بسيط فكيف صدر منه هذا الكون المتكثر، فاخترعوا فكرة العقول العشرة، يقول الشيخ محمد جواد مغنية   وأبى بعض الفلاسفة إلا إثارة الشبهات مثل أن الله واحد، والواحد لا يصدر عنه إلا واحد بطريق مباشر، علماً بأن الصادرات التي نراها فضلاً عما غاب عنا ـ لا يبلغها الاحصاء« ولكي يجدوا حلاً لهذه المشكلة الشائكة ابتدعوا فكرة العقول العشرة، وسموها بنظرية الفيض، وخلاصتها بأن الله قد فاض عنه عقل واحد فقط، فوجد فيه ثنائية الإمكان بالذات والوجوب بالغير، وعن هذا العقل فاض عقل ثان، وعنه فاض ثالثî وهكذا تتابع فيضان العقول حتى تألفت هيئة من عشرة وزعت فيما بينهما صناعة الكون وخلقه î    «

الملاحظة الثانية  إن مؤلف هذه الأوراق متحيز فكيف يمكن لنا أن نثق بأن بحثه سوف يكون موضوعياً، كما أنه أخذ على غيره استخدام العبارات الساخنة، وقد استعمل نفس الأسلوب وعليه فهذه الدراسة خارجة عن الاسلوب العلمي«

والجواب على هذه الملاحظة  إني أعترف باستحالة الموضوعية المطلقة، فقد ثبت علمياً أنه من المستحيل أو من الصعب أن يكون الإنسان كآلة التصوير التي تنقل الأفكار كما هي من دون أية مبالغة أو تحيز خاصة في الحقول الفكرية والدينية«

وقد يوهم الإنسان نفسه أو يخدعها بأنه يسعى إلى طلب الحقيقة ويريد الوصول إليها بأي ثمن وهو لا يدري أنه آلة صماء بيد العاطفة اللاشعورية الكامنة في أعماق نفسه، فهو إذا أحب شخصاً اتجه تفكيره نحو المبالغة في محاسن هذا الشخص وغض النظر عن مساوئه، وهو يفعل العكس من ذلك حين يكره شخصاً، فتجده يعدد السيئات تلو السيئات ولا يذكر أي حسنة من حسناته، فجميع أفكار الخصم مغلوطة أساساً لا حاجة له في نقاشها«

ومن طريف ما ينقل في هذا الصدد أن رجلاً رأى إبليس في المنام، فاندهش حين رآه جميلاً على العكس مما يصوره الرسّامون« فسأله في ذلك فأجاب الملعون   ماذا أصنع والقلم بيد أعدائيî«

ويبرز التحيز بشكل واضح في الكتب المذهبية والطائفية، حيث لا نجد مفكراً من طائفة أو دين معين يمتدح فكرة لدى طائفة أخرىً أو يذكر حسنة من حسناتها أو حسنات رموزها، ولو فرضنا قام أحدهم بذلك فإن اتباع ذلك المذهب سوف يصرخون بالويل والثبور وعظائم الأمور حيث يقال إن فلاناً قد أشمت فينا الأعداء«

ولتجاوز هذه الملاحظة قمت باستمزاج عينة من الأخوة الذين يمثلون مختلف التيارات الفكرية سواء من الأوساط الحوزوية أو الجامعية، المنفتح منهم والتقليدي المحافظ، بل حتى من يعانون من التحجر الفكري، والأخذ بملاحظاتهم الكثيرة بعين الاعتبار«

وهنا انتهز الفرصة للحديث عما يسمَّى بالتيار المتحجر في الحوزات العلمية، فأقول أننا يجب أن نعترف بأهمية هذا التيار ونأخذ بعين الاعتبار حجمه الذي يمثله على الأرض«

إننا بحاجة إلى المتخلفين لأنهم يمثلون القطب السالب في حركة التاريخ والفكر الإنساني تماماً كما يمثل الواعون القطب الموجب، ونحن كما نحتاج إلى النور فإننا بحاجة إلى الظلام لكي يحصل التكامل بين النور والظلام، هذا بالإضافة إلى أن الفكر الواعي قد يحمل في بعض أحشائه الفكر المتخلف كما أن الفكر المتخلف قد يحمل في أحشائه بعضاً من الفكر الواعي«

وفي الواقع إنني أؤمن بما يقوله الفلاسفة من عدم وجود شر مطلق، فلا بد من وجود بعض النقاط الإيجابية، فالتيار المتحجر هو الذي يقوم باستخراج كنوز المعرفة الثمينة من التيار الآخر، وهو الذي يدفع المفكرين إلى السعي والتنقيب، كما أنه من جهة أخرى يلعب دور الفرامل التي تخفف من سرعة الفكر المتقدم مما يعطيها فرصة الامتداد والانتشار التدريجي لأن الناس سوف تدرس الفكر الواعي على ضوء الفكر المتخلف وتختار الأصلح ولو بعد حين«

وأقول  بعد حينî لأن كثيراً من الأفكار المبدعة قد لا تجد مداها إلا بعد خمسين أو مائتي سنة أو أكثر، والجميع يذكر كيف ثارت الغوغاء على المرحوم السيد محسن الأمين حيث وقفت الأكثرية الساحقة ضده، ولكن لم يمض على رحيله أكثر من خمسين عاماً حتى أصبح الرأي العام الرسمي الشيعي يؤيده«

وهكذا نظرية ولاية الفقيه التي تحدث عنها النراقي أو غيره من الفقهاء، حيث كانت من النظريات الفقهية التي تقابل بالاستهزاء والضحك من قبل الأوساط الحوزوية ـ وقد لاقى الامام الخميني  ره  أيضاً في سبيلها الكثير من الأذى والشتائم ـ ولكنها الآن تمثل الأساس النظري للدولة الإسلامية الفتية في إيران«

وإذا كانت نظرية دارون في تنازع الأنواع وبقاء الأصلح غير مسلمة في مجال الحيوان فإنها صحيحة في مجال الأفكار، فالأفكار تتنازع وتتصارع ولا يبقى إلا الأصلح، فالفكر الواعي هو الذي يتجذر في وعي الناس وعقولهم وقلوبهم، أما الفكر المتخلف فسرعان ما يلفظه الكون والإنسان والتاريخ الذي هو المحكمة الوحيدة التي يذعن إليها الجميع ويسلمون بقراراتها«

وقد قال سبحانه وتعالى في كتابه المجيد  ««« فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض   الرعد      وقديماً قالوا  الكذب حبله قصيرî إذا عممنا الكذب إلى الكذب الخبري وليس المخبري فقط، فالأخبار التي لا تطابق الواقع وإن كان قائلها صادقاً سوف تمتد زماناً قصيراً ثم يتبين خطؤها«

وهنا يمكن أن نقول لكل مصلح أو مفكر إن الناس قد يرجمونك بالحجارة ولكنهم سرعان ما يركضون وراءك ولو بعد حين، فيجب أن يفكر الانسان بالمدى البعيد ولا يفكر بمداه القصير«

وأما القول بأني استعملت العبارات الساخنة، فأرجو من القارىء تصفح هذه الدراسة من أولها لآخرها، فلن يجد فيها أي عبارة يشم منها تكفير الآخر أو الاتهام بالخروج عن حقائق الدين أو المذهب وثوابته«

وإذا كان فيها بعض العبارات القاسية فلن يجد أكثر من الاتهام بالخروج عن حقائق أصول البحث وثوابته   ، وهذا ما أرجو أن يتسع له صدر الجميع، ويعتبروه نوعاً من أنواع العتاب اللفظي«

الملاحظة الثالثة  إن كاتب هذه السطور ليست له مؤلفات أو بحوث في علم التاريخ فكيف يتدخل فيما لا يعنيه، كما أنه كيف يمكن مناقشة كل تلك الأفكار بكتاب صغير«

والجواب  إن هذا الإشكال فيه نوع مغالطة في الصغرى والكبرى، أما في الكبرى فلأن الدرس الحوزوي يفترض بالطالب أن يخوض في مزيج مركب من العلوم المتداخلة بينها، كالرجال والحديث والمنطق والفلسفة والعربية والتاريخ الروائي التي تصب في اتجاه واحد، وهي دراسة التراث الفقهي، والنصيب الأكبر منه هو الجانب الروائي الذي يتقاطع فيه الفقه مع التأريخ تماماً كما يتقاطع علم النفس مع علم الاجتماع وتتداخل بحوثهما، وعليه فلا يعد الدخول في ذلك تطفلاً، خاصة إذا استشهدنا بتحقيقات كبار المختصين في علم السِّيَر والتاريخ من علمائنا الكبار وعرضنا أدلتهم«

نعم، عندما نتحدث في بحوث الفيزياء أو الكيمياء أو الطب وغيرها من الحقول الخارجة عن الدرس الحوزوي فهنا يحق للآخرين أن يعترضوا«

وأما من الناحية الصغروية، فإن البحث التاريخي هو الذي يحتاج إلى بحث تاريخي آخر يناقشه، وأما الأبحاث التي هي عبارة عن مزيج من المسائل العقائدية والفقهية والفكرية ـ وإن زُجّ فيها الاسم المقدّس للزهراء ـ فلا يحتاج فيها إلى تخصص في التاريخ«

وأما الإشكال بصغر حجم الكتاب، فهذا الاشكال يذكّرنا بذلك الإنسان الذي يتصور أنه كلما كبر حجم العمامة كبر علم صاحبها وكلما صغرت صغر علمه، فالباحثون لا يهتمون بحجم الحروف وإنما بالأفكار المطروحة للمناقشة أياً كان قائلها«

هذا ومن اللافت ـ للأسف ـ كثرة المغالطات في أوساطنا، ومن ذلك أن أحدهم كان يشتم الشيخ محمد جواد مغنية بقلة مدة دراسته الحوزوية في النجف الأشرف، حيث لم تتجاوز    عاماً بينما قضى غيره مدة عشرين أو ثلاثين عاماً، فأجابه الشيخ بأن الصحيح أن يقال كم ساعةً دَرَس في النجف وليس كم سنة، لأنه قد يكون هناك شخص يدرس ساعتين في اليوم طيلة العشرين عاماً وشخصٌ يدرس    ساعة في اليوم طيلة الخمس سنوات، فهل من العدل الحساب بالسنوات«

وهناك ملاحظات صغيرة، وذلك ككثرة نقل النصوص وأقوال العلماء، وذلك لأني راعيت العوام ـ من الطلبة وغيرهم ـ الذين ينظرون إلى من قال ولا ينظرون إلى ما قيل«

كما لاحظ بعض الأخوة وجود بعض التهجم أو التهكم على بعض الأوساط الحوزوية أو قراء العزاء، فنرجو من أخواننا أن يتحملوا هذه الهفوات التي لا يقصد بها الأشخاص بقدر ما يقصد بها الأفكار«

وأخيراً ربما تكون هناك حاجة إلى الإشارة إلى الفكرة الموجودة لدى  بعض البسطاء من أن من يتحدث في مثل هذه القضايا ولو بطريقة علمية فإن الزهراء  ع  سوف تغضب عليه، وهذا يماثل منطق الذين يخافون من التحدث حول بعض الطقوس الطارئة كالتطبير أو اضرام نارٍ كبيرة ثم المرور عليها وما إلى ذلك، حيث  أصبح بعض الناس يخافون على الذين يستنكرونها، أو ينقدونها، أن يصابوا ببلاء أو بضربة سماوية في الدنيا، من قِبَل أهل البيت  ع  لأنهم يقفون في مواقف العداوة لهم، ولإحياء شعارهم«« ولم يقتصر الأمر على ذلك بل أصبح بعض علماء الدين يصرح بأنني أخاف من الحسين عليه السلام على نفسي، إذا تعرضت لبعض هذا الحديث«« وكأنما الحسين  ع  وهو يعيش في رحاب الله، إنسان يفكر في القضية من ناحية ذاتية، كما يفكر الناس في قضاياهم الذاتية، فيثأر كما يثأرون من الشخص الذي يعاندها حتى إذا كان ذلك نتيجة اجتهاد فكري أو موقف نفسي صادر عن حسن نيةî   «

إنني اعتقد أن الأكثرية الساحقة من الناس أصبحت تفهم تماماً أن الزهراء  ع  واقفة في مواقع الذين يحركون سفينة الإسلام في العالم في مواجهة الحرب العالمية التي يقودها الاستكبار ضد وجوده، والذين تتفجر فيهم الألغام وهم يواصلون التحرك إلى الإمام محدّقين في الفجر القادم من بعيد«

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين«

جعفر الشاخوري ـ بيروت

الأربعاء 4/رجب/1418هـ

الموافق 5/تشرين الثاني/ 1997م


الفصل الأول

مرجعيات تتعرض لحملات

شهد العالم الشيعي منذ ما يقارب الأربع سنوات بروز مرجعية فقهية كبيرة لها طابعها المميز، حيث تقاطعت فيها عدة عناصر من إبداع الذات إلى الحركية الإسلامية إلى العقل الفقهي المتحرك، ما جعلها تمتد امتداداً مذهلاً وبشكل قياسي في أوساط العالم الشيعي بما لم يعهد من قبل، وهي مرجعية سماحة آية الله العظمى السيّد محمد حسين فضل الله  دام ظله".

وفي الواقع، ان هذه المرجعية كانت تمارس مرجعية حركية منذ ما يقارب الأربعين عاماً في أوساط الإسلاميين الشيعة وغيرهم في مختلف نقاط العالم الإسلامي، والتي تحولت أفكارها إلى برنامج عملي لكثير من الحركات الإسلامية فكان المرجع الذي يفزع إليه الحركيون، وقد تحولت قصائده إلى أناشيد يتغنّى بها المجاهدون ويغذِّون بها فكرهم وروحهم في ساحات المواجهة ضد الاستكبار العالمي«

هذا، وفي الوقت الذي لاقت فيه هذه المرجعية صدىً واسعاً في العالم كانت هناك عدة جهات متضررة من هذا الامتداد، تمحورت في ثلاثة محاور رئيسية سوف نفصلها لاحقاً، وعلى رأس هذه الجهات الاستكبار العالمي المتمثل أساساً في الولايات المتحدة الأمريكية التي تفضل المرجعيات التقليدية على المرجعيات الحركية الأصولية ـ كما يسمونها ـ «

والواقع أن من يدرس حركة المرجعية في العقود الأربعة الماضية، يلاحظ أنه بمجرد أن تتقدم مرجعية تحمل الطابع الحركي الإسلامي إلى الواجهة حتى تتحرك ماكينة الاشاعات والتلفيقات والأكاذيب لتنهال عليها من جميع الجهات، وكلها طبعاً بقصد التقرب إلى الله وأداء التكليف الشرعي

مرجعية الشهيد الصدر الحركية تثير بعض الأوساط

وعندما نحاول أن نتصفح أوراق ذاكرتنا لما قبل عشرين سنة تقريباً، نشاهد بوضوح الحملات المكثفة التي وُوْجِهَت بها المرجعية الحركية الرشيدة للشهيد السعيد السيّد محمد باقر الصدر، الذي دفع بالفكر الشيعي إلى الواجهة في العالم الإسلامي، بما أذهل الكتّاب والمفكرين حيث احتلت كتبه  اقتصادنا ـ فلسفتنا ـ الأسس المنطقية للاستقراء والبنك اللاربوي في الإسلام، الصدارة في ذلك الوقت ولا زالت« وقد تضاعفت الحملة عليه رحمه الله بشكل واضح إبّان صدور رسالته العملية ـ الفتاوى الوا ضحة ـ وكان قد أصدر تعليقات على المنهاج قبل ذلك« وقد اتخذت الحملات أسلوب التشكيك بقدرته الفقهية وأن فكره الفقهي والأصولي عبارة عن فكر جرائد، كما حاولوا اللعب على وتر غرائز البسطاء حيث حاولوا ـ على طريقة الحرتقات ـ أن يصوروا فتاواه وأفكاره وكأنها متأثرة بالفكر السني، بدءاً من اعتبار أصول الدين ثلاثة إلى القول بطهارة النواصب، وجواز التكتف بالصلاة إذا لم يكن بقصد الجزئية، وعدم قتل المرتد الفطري، واعتبار سهم المؤلفة قلوبهم من الأمور المتحركة حيث اتُّهم بموافقة عمر في هذه المسألة كجزء من اللعب بالألفاظ، إلى غيرها من الأمور«

وهذه الحملات ضده رحمه الله وان كان لها مفعول عكسي حيث لفتت الأنظار إلى مرجعيته إلا أنها بسبب صدورها من داخل الحوزة ـ للأسف ـ أدت إلى إضعاف موقفه في مواجهة السلطة الحاكمة وانتهى الأمر بشهادته المباركة«

السيد الحكيم وحملة مضادة ضد مرجعيته

وقبل الشهيد الصدر شهد العالم الشيعي مرجعية كبيرة أطلت على الواقع الإسلامي الحركي بكل قوة وهي مرجعية السيد الحكيم رحمه الله التي امتدت لتتواصل مع الحركات الإسلامية الأخرى وتتعاون معها، والتي انفردت برعاية الحركة الإسلامية الصاعدة في الداخل، وكان الموقف البارز تحريم الانتماء إلى الحزب الشيوعي إبان تصاعد المد الأحمر، وقد انتقمت السلطة منه بعد ذلك باعدام عدد من كبار العلماء من عائلته«

وقد أثارت مرجعية السيّد الحكيم حنق بعض المجهولين فأصدروا كتاباً بعنوان  الوهابية في فتاوى الحكيم مستغلين بعض الفتاوى التي يمكن من خلالها خداع السُذَّج من الناس والتشهير بها، كقوله رحمه الله بعدم مبطلية التكفير ـ وهو وضع إحدى اليدين على الأخرى كما يتعارف عند غيرنا ـ للصلاة، وكذلك عدم مبطلية قول آمين بعد الفاتحة للصلاة، وطهارة أهل الكتاب ـ التي كانت في ذلك الوقت من الغرائب ـ وقد نقل لنا بعض الفضلاء الذين عاصروا تلك الحقبة انه عندما صدرت تلك الفتوى علق بعض الحاسدين من المعممين قائلاً  فليقل بطهارة الخنزير أيضاً 

هذا، وقد شهد العالم الشيعي حدوث بعض الحملات التشهيرية بوجه بعض الشخصيات الفكرية الكبيرة التي لم تتصد للمرجعية كالشيخ محمد جواد مغنية الذي حاولوا إضفاء لقب الشيخ الأحمر عليه نظراً لحواره مع الشيوعيين، وكالشهيد مرتضى المطهري الذي عانى الكثير من جراء ذلك ويمكن للقارىء اقتناء كتاب أجوبة الأستاذ المطهري على كتاب مسألة الحجاب ليعرف حجم تلك الحملات، وقد أشاعوا بأن كتابه ـ مسألة الحجاب ـ قد أدى إلى انتشار السفور، ولكن الإمام الخميني رحمه الله أجابهم بأن المطهري رجل عقائدي وفاهم وأن كتابه سوف يؤدي إلى انتشار الحجاب«

الإمام الخميني وحملات المتحجرين

كما أن الإمام الخميني رحمه الله بدوره لاقى الكثير من الحملات القاسية قبل انتصار الثورة وبعدها من داخل الحوزة حتى قال رحمه الله   إن ما قطعته هذه الفئة المتحجرة من أنياط قلب أبيكم الشيخ العجوز لم تستطع أبداً أن تقطعه كلٍ ضغوط الآخرين ـ عليّ ـ والمشاق التي سببوهاî    ثم قال   فاضافة إلى مواجهة ذاك الرصاص والمدافع، كان هناك رصاص ينطلق من الجبهة الداخلية، كانت هناك رصاصات المكر والتظاهر بالقدسية ورصاص التحجر««« كانت هناك رصاصات التعريض، واللمز والنفاق، وكانت هذه أشد ألف مرة من البارود والرصاص فهي تحرق الأكباد والقلوب وتمزقهاî    «

إلى أن قال   وطائفة  أخرى من المتلبسين بزي العلماء، كانوا قبل انتصار الثورة يقولون بفصل الدين عن السياسة، ويتمسحون بأعتاب البلاط الملكي، تحولوا فجأة إلى متدينين، يوجهون تهم الوهابية وما هو أسوأ منها لعلماء الدين الأُباء والنبلاء الذين تحملوا أشكال الأذى والتشريد والنفي«

وبالأمس كان المتظاهرون بالقدسية عديمو الشعور يقولون بعزل الدين عن السياسة ويحرمون معارضة الشاه؛ أما اليوم فهم يقولون إن مسؤولي النظام الإسلامي أصبحوا  شيوعيينî    «

شركة مساهمة في الحملة ضد مرجعية السيد فضل الله

والواقع أنه يكفي وجود إحدى صفات ثلاث  الحركية الإسلامية السياسية والشخصية الفكرية والمرجعية الفقهية لفتح شهية الجهات المذكورة«

فكيف إذا اجتمعت هذه الصفات كلها في شخص واحد، وهو ما ينطبق فعلياً على مرجعية آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله  دام ظلهî«

فالفكر الواعي المستنير يثير حنق المتحجرين والمتظاهرين بالقدسية والاحتياط، بينما الرسالة العملية تثير غضب الجهات المتضررة من داخل الحوزة، والعمل السياسي المحلي والدولي والاقليمي وخاصة ما يرتبط بالتسوية وصراع الشرق الأوسط يثير غضب الإدارة الأمريكية التي وضعت ـ بحسب تصنيفها ـ اسم سماحته على رأس قائمة الشخصيات الإرهابية في العالم«

وقد تركزت الحملات ضد مرجعية سماحته على صورة مناشير وكتب وكتيبات مجهولة الكاتب تارة ومعلومة الكاتب أخرى« ويجمعها اتباع أسلوب التشهير والشتائم والسباب وان اختلفت في درجته، وقد وصل البعض فيها إلى حد الجنون الهستيري إذ طالت شتائمه حتى من يمر قرب منزل سماحته  بينما اتخذ البعض الآخر اسلوب تحريف كلام سماحته ونسبة الآراء الغريبة التي لا يصدقها حتى المجانين، كجواز الدخول في نوادي العراة وجواز العمل بالقياس، محققين المثل العامي القائل   من أين عرفت الكذبة؟ قال  من كبرها î«

ومن الطريف أن البعض من قراء التعزية ممن حفظ  بعض أسماء المفكرين المتغربين كأركون والجابري وراح يرددها في مؤلفاته، وبدل أن يقرأ كتبهم ويرد عليها راح يحشو ذهنه بأفكار  مشارق الأنوارî للبرسي و  مدينة المعاجزî وترك كتب اعلام الشيعة الكبار كالمفيد والمرتضى والطوسي، ثم وضع نفسه في مقام مصحح عقائد الدين تجاه المشككين، ويقصد بالمشككين كل من لا يقول بالولاية التكوينية بمعنى علم الإمام بما كان وما يكون، كالشيخ الطوسي والسيد المرتضى والشيخ المفيد والسيد الخوئي والشيخ محمد جواد مغنية والسيد هاشم معروف الحسني والشيخ جعفر السبحاني والسيد كاظم الحائري والشيخ عبد الهادي الفضلي إلى آخر القائمة من أعلام محققي الشيعة«

والملفت للنظر أن هؤلاء الجماعة ـ جماعة المشهرّين ـ أثبتوا فشلهم في كل شيء حتى التشهير ـ وهذا من النعم الإلهية ـ حيث إنهم اعتادوا على استخدام الأساليب البدائية التي سرعان ما يتم اكتشاف  فبركتهاî وطريقة صياغتها«

استفتاءات مفبركة

وقد استغل بعضهم طيبة بعض العلماء الذين يجيبون على الأسئلة دون التدقيق في طبيعة السؤال وأهداف السائل، فدرجوا على تقديم الاستفتاءات التي ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب« وإلى القارىء نماذج منها وليقس عليها غيرها

  ـ ما رأيكم بمن يرى محصورية القضاء والقدر بالواقع الكوني دون الواقع الاجتماعي««« الخ«

وعند الرجوع إلى نص كلام السيّد فضل الله  حفظه اللهî الكامل، يتبين أن سماحته كان يتحدث عن الظواهر الكونية الخارجة عن ارادتنا كحركة الشمس والقمر والليل والنهار وكان يقول  ان هذه الأمور لا دخل لنا فيها ولا نستطيع تغييرها، أما الأمور التي نعيشها في واقعنا الاجتماعي كالطواغيت والحكم الظالم والواقع الفاسد فهذا يمكن لنا أن نغيّره وليس هو قضاءنا وقدرنا الذي نقف فيه مشلولين« فلا يصح أن نعتبر الحاكم الجائر كالظاهرة الكونية التي لا يمكن تغييرها، وهذا الكلام يقبله العاقل بدون أي تحفظ، ولكن هؤلاء نقلوا الفكرة بصورة مشوهة«

  ـ ما رأيكم بمن يقول  إن أسلوب القرآن في الحديث عن حياة الأنبياء ونقاط ضعفهم يؤكد القول بأن الرسالية لا تتنافى مع بعض نقاط الضعف البشري من حيث الخطأ في تقدير الأمور؟

ولم ينقلوا الكلام بأسره، وبالرجوع إلى أصل البحث تبين أن سماحة السيّد كان يتحدث عن المو ضوعات الخارجية كما لو تحاكم إثنان إلى المعصوم، وكانت معطيات الدعوى من البينة والشهود في كفة أحدهما فهنا تكليف النبي أو الإمام هو العمل بالظاهر وان كان الواقع خلافه، لأن المعصوم لم يعصِ الله عندما عمل بأصول الاثبات الظاهرية«

ومن الطريف أن العالم الذي استفتوه في هذه المسألة ـ له رأي مخالف لمشهور المتأخرين حيث يقول بجواز السهو على المعصوم في الموضوعات الخارجية  أنظر صراط النجاة ج  ص      وهذا ما لا يقول به سماحة السيد لأن العصمة عنده عبارة عن ملكة لا تتجزّأ« فالمفروض في المقام أن يقفوا في  صف  سماحة السيّد ضد ذلك العالم لا العكس«

  ـ ما رأيكم بمن يقول إن الشفاعة صورية وليست حقيقية؟ أو ما رأيكم بمن ينكر الشفاعة؟

وأيضاً بالرجوع إلى كتب سماحته، لا نجد شيئاً جديداً لديه في هذا المجال فهو يؤكد ما أكده أعلام المذهب من خطأ المعنى الذي يفهمه البسطاء من الشفاعة، والذي ذم القرآن عليه اليهود، قال تعالى   ليس بأمانيكم ولا أمانيّ أهل الكتاب من يعمل سوءاً يجز به ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيرا   النساء»     حيث إنهم يسرقون ويزنون ويقتلون ويتجسسون ويقضون حياتهم في الجريمة ثم يتصورون أنهم عندما يقدم أحدهم الهريسة لحساب الإمام عليه السلام فلا بد أن يخجل الإمام ويتدخل لصالحه عند الله، باعتبار   أطِعمْ الفم تستحي العينî

يقول الشهيد المطهري   الشفاعة المرفوضة بأدلة عقلية ونقلية إنما هي التي تعني أن يجد المجرم وسيلة ينفذ بها إلى الحكم الإلهي ويحول دون تطبيقه، تماماً كما يحدث في المجتمعات البشرية المتخلفة من لعب بالقانون بنفوذ الوساطة« ويظن كثير من عامة الناس أن شفاعة النبي والأئمة إنما هي من هذا النوع« يظنون أن النبي  ص  وعلياً والزهراء والأئمة الأطهار لهم نفوذ في الساحة الإلهية وهم يستغلون نفوذهم لتغيير إرادة الله تعالى ولنقض قوانينهî    «

ويقول أيضاً   ومعنى هذا أن نظام الآخرة ليس كالنظام الاجتماعي البشري الذي يتوسل فيه الإنسان أحياناً بالوساطة أو المال للفرار من القانون وأحياناً يستغل قومه أو عشيرته ويستفيد من نفوذهم لتعطيل أحكامهî    «

ولا بأس بنقل كلام البحّاثة الشيخ جعفر السبحاني في المقام، يقول   ما يفنّد عقيدة اليهود في الشفاعة، وهو الآيات التي خاطبت اليهود الذين كانوا يعتقدون بأن أنبياءهم وأسلافهم يشفعون لهم وينجّونهم من العذاب سواء كانوا عاملين بشريعتهم أو عاصين، وأن مجرد الانتماء والانتساب يكفيهم في ذلك المجال« يقول تعالى   يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم واني فضلتكم على العالمين« واتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون   البقرة»   ـ    î    ثم يقول تحت عنوان الشفاعة المرفوضة   الشفاعة التي كانت تعتقدها اليهود الذين رفضوا كل قيد وشرط في جانب الشافع والمشفوع له« واعتقدوا أن الحياة الاخروية كالحياة الدنيوية حيث يمكن التخلص من عذاب الله سبحانه بالفداء«î   «

ويقول سماحة السيّد  دام ظلهî في هذا المجال   أما الشفاعة التي جاء الحديث عنها في الروايات المتعددة عن السنة والشيعة، فإنها ليست حالة وساطة بالمعنى الذي يفهمه الناس في علاقاتهم بالعظماء لديهم الذين قد لا يستطيع الناس مخاطبتهم بشكل مباشر للحواجز المادية الفاصلة بينهم وبين الناس، ولذلك يلجأ الناس إلى الأشخاص الذين تربطهم بهم علاقة مودة أو مصلحة أو موقع معين ليكونوا الواسطة في ايصال مطالبهم إليهم وقضاء حوائجهم عنده«

إن الشفاعة هي كرامة من الله لبعض عباده فيما يريد أن يظهره من فضلهم في الآخرة، فيشفّعهم فيمن يريد المغفرة له ورفع درجته عنده، لتكون المسألة ـ في الشكل ـ واسعة في النتائج التي يتمثل فيها العفو الإلهي والنعيم الرباني، تماماً كما لو كان النبي هو السبب، أو كان الولي هو الواسطة، ولكنها في ـ العمق ـ إرادة الله لذلك مما لا يملك نبيّ مرسل أو ملك مقرّب أو ولي امتحن الله قلبه للإيمان، أمر تغييرها في الاتجاه الذي تتحرك فيه، وبذلك فإنهم يدرسون مواقع رضا الله في عباده ليقوموا بالشفاعــة أو لـيأذن الله لهـم بالشفـاعـة«««î    «

  ـ ما رأيكم بمن يقول في آية  ولقد همت به وهم بها  إن مشاعر يوسف قد تحركت باتجاه امرأة العزيز من واقع الضعف الإنساني؟ أو أن يوسف  عî هجم عليها كهجوم الجائع على القصعة الشهية؟

فتأمل عزيزي القارىء في أسلوب التحريف الواضح لأن ما ذكره سماحته في كتاب التفسير  من وحي القرآنî لا يزيد عما ذكره أعلام المفسرين الشيعة وعلى رأسهم صاحب  مجمع البيانî الشيخ الطبرسي والسيد المرتضى علم الهدى في  تنزيه الأنبياءî  ص     والشيخ الطوسي في البيان حيث قال ـ ما تلخيصه ـ   إن الهمّ في اللغة على وجوه منها العزم على الفعل« والثاني  خطور الشيء بالبال« والثالث  المقاربة« يقولون همّ بكذا وكذا أي كاد يفعله« والرابع  الشهوة وميل الطباع، فإذا احتمل الهم هذه الوجوه نفينا عنه  ع  العزم على القبيح وأجزنا باقي الوجوهî    ومن تفسير السيد عبد الله شبّر ـ ص     ـ    وهم بهاî مال طبعه إليها لا القصد الاختياري، والمدح لمن كف نفسه عن الفعلî«

وبعد كل هذا يأتي بعض الأشخاص ليقول  انه إذا لم يستطع من قضى عدة عقود من الزمن في الدراسة والجهد العلمي أن يفهم مراد هذا البعض، فمن ذا الذي يخاطبه هذا البعض بكلامه، ويمكنه أن يفهمهاî« ونقول  ماذا تنفع مليون سنة من الدراسة والجهد العلمي إذا قرأ الإنسان بعين الاسقاط والتشهير؟

  ـ ما رأيكم بمن ينكر مظلومية الزهراء وعصمتها والجوانب الغيبية فيها و««« و««« و«««؟

وهذه المسألة تشبه الحملة التي وُوِجه بها الإمام الأكبر السيد محسن الأمين عندما اعترض على بعض الأشياء كالتطبير وايذاء النفس بالضرب بالسلاسل وغيرها، ولم يعترض على الشعائر الحسينية ومجالس العزاء واللطميات والمواكب وغيرها، ولكن أعداءه صوّروا الأمر على أنه اعتراض على الشعائر الحسينية«

وفي المقام، أقصى ما يمكن أن يسجله الآخرون أن سماحة السيد لم يتفاعل ـ فقط ـ مع حديث ضرب الزهراء، تماماً كما هو صريح عبارة كاشف الغطاء  جنة المأوى، ص     ـ  وأما بقية الأمور كالهجوم على الدار والتهديد بالاحراق واشعال النار والاعتداء على حرمة الزهراء والإمام عليهما السلام فلم ينكرها أحد« فلا يصح أن يقال إن سماحته نفى حصول أي عنف في الهجوم على الزهراء كما يورده البعض، ولذلك لا حاجة لأن يُتعب صاحب كتاب مأساة الزهراء  عî نفسه بإيراد أقوال العلماء ـ إلا إذا أراد تكثير الأسماء ـ الذين تتطابق وجهة نظرهم مع سماحة السيد كالمجلسي وأبو صلاح الحلبي والشيخ جعفر كاشف الغطاء والسيد محمد قلي الموسوي والمظفر والسيد عبد الله شبر حيث تقول عبارة الأخير  انه ـ أي عمر ـ همّ باحراق بيت فاطمة  ع  وقد كان فيه أمير المؤمنين  ع  وفاطمة  ع  والحسنان وآذاهمî ـ المأساة، ج ، ص     ـ كما أن على الباحث الموضوعي أن يذكر أسماء العلماء الذين يتفقون معه ويختلفون«

التشيع وجهة نظر واللعب بالألفاظ

وهكذا نجد التهويل واضحاً في عبارة  مراجع الأمة وعلماء المذهب يتصدونî، وقد مر عليك نماذج من طريقة التصدي عن طريق الاستفتاءات المفبركة، وهكذا اللعب على لفظ ان التشيع وجهة نظر والتسنن وجهة نظر التي وردت في سياق الحديث مع الآخرين على طريقة  وإنّا أو إياكم لعلى هدىً أو في ضلال مبين   سبأ»   ، لأنه عندما يقال لهم من البداية اننا الحق وأنتم الباطل فلن يدخلوا في النقاش أصلاً، أما عندما يقال لهم إن لنا وجهة نظر وأنتم لكم وجهة نظر فتعالوا نتناقش فإنه يمكن جذبهم لساحة الحوار، وهذا التعبير مما درج عليه العلماء الواعون في مقام التخاطب مع أهل التسنن، فمثلاً استعمل نفس هذا التعبير الشيخ عبد الله نعمة في كتابه روح التشيع ص     ، حيث قال   ومن أجل هذا يرى الشيعة أن وجهة نظرهم حول وجوب طاعة النبي  صî في جميع الشؤون الدينية والدنيوية، تنسجم مع صريح القرآنî وهكذا السيد عبد الحسين شرف الدين في المراجعة ص   ، في مقام توجيهه انقلاب الصحابة على النص على علي  عî حيث يقول ما نصه   أما ما كان منها متعلقاً بالسياسة كالولايات والامارات، وتدبير قواعد الدولة، وتقرير شؤون المملكة، وتسريب الجيش، فإنهم لم يكونوا يرون التعبد به والالتزام في جميع الأحوال بالعمل على مقتضاه، بل جعلوا لأفكارهم مسرحاً للبحث، ومجالاً للنظر والاجتهاد، فكانوا إذا رأوا في خلافه، رفعاً لكيانهم، أو نفعاً في سلطانهم ولعلهم كانوا يحرزون رضا النبي بذلك، وكان قد غلب على ظنهم أن العرب لا تخضع لعلي ولا تتعبد بالنص عليه، إذ وترها في سبيل الله، وسفك دماءها بسيفه في إعلاء كلمة الله، وكشف القناع منابذاً لها في نصرة الحق، حتى ظهر أمر الله على رغم كل عاة كفور فهم لا يطيعونه إلا عنوة، ولا يخضعون للنص عليه إلا بالقوةî    «

حرتقات لفظية

قد دأب بعض الناس على استعمال أسلوب خبيث في عرض آراء الآخرين ونقلها، فهم ينقلون مقطعاً صغيراً من كلام الآخرين ويحذفون ما قبله وما بعده، فيبدو الكلام في هذه الصورة ـ ظاهراً ـ في غاية القبح، ولكن عندما يعرض الكلام بأكمله يبدو عندئذ طبيعياً«

والواقع أن الكلام مثل جسد الإنسان فكما أن الثاني يمكن تشويهه بتقطيع أعضائه فكذلك الكلام، ولكي أوضح المسألة للقارىء العزيز، أحب أن يتابع معي هذه التجربة التي قمت بها، وهي تقطيع عبارات لعلماء كبار جداً من كتبهم، ولم يأخذ ذلك من وقتي أكثر من خمس عشرة دقيقة، ولينظر كيف يمكن التلاعب بالألفاظ حتى تخرج تماماً عن قصد القائل، وسوف أعرض تلك الأمثلة ـ على طريقة التهويل ـ ثم اذكر الكلام في مصدره الأصلي وللقارىء أن يرجع إليه

  ـ كاشف الغطاء يقول إن الزهراء  ع  خرجت عن حدود الآداب    بينما في المصدر الأصلي قال   «« كيف والزهراء ـ سلام الله عليها ـ شابة بنت ثمانية عشر سنة، لم تبلغ مبالغ النساء وإذا كان في ضرب المرأة عار وشناعة فضرب الفتاة أشنع وأفظع، ويزيدك يقيناً بما أقول أنها ـ ولها المجد والشرف ـ ما ذكرت ولا أشارت إلى ذلك في شيء من خطبها ومقالاتها المتضمنة لتظلمها من القوم وسوء صنيعهم معها مثل خطبتها الباهرة الطويلة التي ألقتها في المسجد على المهاجرين والأنصار، وكلماتها مع أمير المؤمنين  ع  بعد رجوعها من المسجد؛ وكانت ثائرة متأثرة أشد التأثر حتى خرجت عن حدود الآداب التي لم تخرج من حظيرتها مدة عمرها، فقالت له  يا ابن أبي طالب افترست الذئاب وافترشت التراب«« إلى أن قالت  هذا ابن أبي فلانة يبتزّني نحلة أبي وبلغة ابني، لقد أجهد في كلامي، وألفيته الألد في خصامي««« ولم تقل إنه ـ أو صاحبه ـ ضربني أو مدّت يد إلي«««î جنة المأوى ص    «

  ـ السيد الخوئي يقول بجواز السحاق واللواط في الآخرة 

بينما في المصدر الأصلي  سئل   بأي قصد تقرأ المؤمنة هذه الجملة  ومن الحور العين برحمتك فزوّجناî وما أشبهها إذ الظاهر اختصاص ذلك بالرجالî؟

الخوئي   سنّة لزوم تخالف الجنسين في النكاح والزواج من أحكام هذه النشأة ولم يثبت لزومه للنشأة الأخرى، حيث ان سنّة الزواج هنا لغرض التوليد، وتداوم الأمثال بدلاً عما يتحلّل فيها بتمادي قرون الحياة المبنيّة على حكمة تفاني عناصر الكيان والضرام أمد الحي، مهما عاشت في تقلباته ليعمل ناتجاً لما شاء الله تعالى له، وأمره به دون ما هنالك من سنة الجزاء التي لغرض حصاد ما عمله في دنياه من نعيم أو جحيم، فالسرور أو النفور العائدان هناك غير مرهونين بسنّة التوليد وتلاحق الأمثال، فللآخرة شأن آخر، والله العالمî صراط النجاة ج  ص    ««

  ـ السيد عبد الحسين شرف الدين يقول إن الصحابة اجتهدوا في فهم كلام النبي  ص  في حديث الغدير لأنهم لم يكونوا يتعبدون بأقواله  ص  إذا كانت تتعلق بالأمور السياسية كالولايات والامارات 

بينما في المصدر الأصلي قال     ـ الجمع بين ثبوت النص وحملهم على الصحة   ـ الوجه في قعود الإمام عن حقه«

  ـ أفادتنا سيرة كثير من الصحابة أنهم إنما كانوا يتعبدون بالنصوص إذا كانت متمحضة للدين، مختصة بالشؤون الأخروية، كنصه صلى الله عليه وآله وسلم على صوم شهر رمضان دون غيره، واستقبال القبلة في الصلاة دون غيرها، ونصه على عدد الفرائض في اليوم والليلة، وعدد ركعات كل منها وكيفياتها، ونصه على أن الطواف حول البيت أسبوع ونحو ذلك من النصوص المتمحضة للنفع الأخروي«

أما ما كان منها متعلقاً بالسياسة كالولايات والامارات وتدبير قواعد الدولة وتقرير شؤون المملكة وتسريب الجيش فإنهم لم يكونوا يرون التعبد به والالتزام في جميع الأحوال بالعمل على مقتضاه، بل جعلوا لأفكارهم مسرحاً للبحث، ومجالاً للنظر والاجتهاد، فكانوا إذا رأوا في خلافه رفعاً لكيانهم أو نفعاً لسلطانه، ولعلهم كانوا يحرزون رضا النبي بذلك، وكان قد غلب على ظنهم أن العرب لا تخضع لعلي ولا تتعبد بالنص عليه، إذ وترها في سبيل الله وسفك دماءها بسيفه في اعلاء كلمة الله، وكشف القناع منابذاً لها في نصرة الحق، حتى ظهر أمر الله على رغم كل عاة كفور، فهم لا يطيعونه إلا عنوة ولا يخضعون للنص عليه إلا عنوة«««î المراجعات ص     ط دار الثقلين«

  ـ الشهيد مطهري يقول انه ليس هناك إلا أربع مسائل صحيحة عندنا في العبادات والباقي كله غلط 

بينما في المصدر الأصلي قال   «« وعلى ذلك أفلسنا نحن اليوم كأن يكون أعلانا مرجئي وأسلفنا مرجئي مرجئيون فكراً وعملاً؟ ان فكرنا الديني يظهر بصورة نصف ميت بل بصورة ميت« فإذا كان هذا هو فكرنا المرجئي فماذا تكون النتيجة؟ ان الفكر الذي يلغي العمل، فما الذي يبقى؟ الدنيا؟ الآخرة؟ العزة؟ السعادة؟ وهل يبقى  أنتم الأعلون ؟« أبداً«

ينبغي إصلاح فكرنا الديني« ان طريقة تفكيرنا في الدين خطأ في خطأ« وبكل جرأة أقول انه إذا تجاوزنا أربع مسائل في الفروع في العبادات، وبضعة أمور في المعاملات، لا تبقى لدينا أية فكرة صحيحة عن الدين، فلا نحن نشير إلى ذلك في خطبنا من على المنابر، ولا في كتبنا وصحفنا ومقالاتنا، ولا نحن نفكر فيه« اننا قبل أن نفكر كيف نحمل الآخرين على اعتناق الإسلام علينا أن نفكر في أنفسناî« احياء الفكر الديني وقيادة الجيل الشاب ص    ط دار التعارف ودار الرسول الأكرم«

  ـ الشهيد مطهري يقول إن ديكارت ليس كافراً 

بينما في المصدر الأصلي قال   فأشخاص كديكارت لا يمكن تسميتهم بالكفار لأن هؤلاء لا يتصفون بالعناد ولا يخفون الحق، وليس الكفر إلا بالعناد وتغطية الحقيقة« هؤلاء مسلمون بالفطرة وإذا كنا لا نستطيع تسميتهم بالمسلمين فنحن أيضاً لا نستطيع تسميتهم بالكافرين، وذلك لأن تقابل المسلم والكافر ليس من قبيل تقابل السلب والإيجاب أو تقابل الملكة وعدمها باصطلاح الفلاسفة والمنطقيين وإنما هو من قبيل تقابل الضدين لأنهما شيئان وجوديان وليس أحدهما وجودياً والآخر عدمياًî« العدل الإلهي ص     ط الدار الإسلامية«

  ـ الشهيد مطهري يقول  الإمامة ليست أمراً مقدساً 

بينما في المصدر الأصلي قال   معنى الإمام  لا تنطوي كلمة الإمام في حد ذاتها على مفهوم مقدس« فالإمام هو المؤتم به، أي المقتدى والمتَّبع، وهو الشخص الذي يتقدم على جماعة تتبعه، سواء أكان عادلاً ينهج صراطاً سوياً، أم ضالاً يهوي نحو الباطلî الإمامة ص    ط منشورات مؤسسة الثقلين الثقافية«

  ـ الشهيد مطهري يقول  اننا نجد في تاريخ الخوارج حوادث من التضحية والفداء قل نظيرها في تاريخ البشر« وقد ربتّهم روح التضحية ونكران الذات على الشجاعة والجرأة 

بينما في المصدر قال   روحية الخوارج روحية خاصة« كانوا مزيجاً من القبح والجمال، وبلغ جماع أمرهم أنهم وقفوا في صفوف أعداء علي، فكان أن شخصية علي  دفعتهم  ولم  تجذبهم «

اننا هنا نذكر الجانب الإيجابي الجميل عندهم، كما نذكر جانبهم السلبي القبيح الذي جعل من روحيتهم في المجموع روحية خطرة بل مرعبة«

ـ الروحية المناضلة المضحية التي كانت تحملهم على الدفاع عن عقائدهم بكل شدة وصرامة« اننا نجد في تاريخ الخوارج حوادث من التضحية والفداء قل نظيرها في تاريخ البشر« وقد ربتهم روح التضحية ونكران الذات على الشجاعة والجرأةî« الإمام علي  ع  في قوتيه الجاذبة والدافعة ص     ط مؤسسة البعثة«

  ـ الشهيد مطهري يقول  ان الإمام الحسين استشهدت أهدافه على يد أهل المنبر الحسيني

بينما في المصدر الأصلي قال   النهضة الحسينية مدرسة لإلهام المصلحين وليست لافراز المذنبين

الحسين عليه السلام يستشهد ثلاث مرات  ان الإمام الحسين  ع  قد مرّ بثلاث مراحل في استشهاده، بمعنى آخر انه استشهد ثلاث مرات  المرة الأولى، استشهد على يد اليزيديين بفقدانه لجسده«

والمرة الثانية، استشهد من خلال تشويه الأعداء لسمعته ومقامه واسمه ولا سيما على يد المتوكل العباسي«

والمرة الثالثة استشهدت أهدافه على يد أهل المنبر الحسيني« والثالثة فقط هي المرحلة العظمى من مراحل الاستشهاد، والعبارة الشهيرة للعقيلة زينب وهي تخاطب يزيد قائلة   كد كيدك واسع سعيك«««  تنطبق في الواقع وتشمل المراحل الثلاث على حد سواء«

إن فلسفة المدرسة الحسينية ليست مبنية على أساس تربية جيل من المذنبين، بل ما هي في الحقيقة إلا استمرار لمدرسة الأنبياء التي يرد ذكرها في سورة الشعراء« وان احياء هذه الذكرى في كل عام، إنما يستهدف من ورائها تخليداً لتلك المدرسة النبويةî الملحمة الحسينية ج  ص    ط الدار الإسلامية«

  ـ آية الله الشيخ اليزدي يقول  لا بد من إعادة النظر في بعض الأحكام الشرعية  بينما في المصدر الأصلي  كان ثمة اتجاه متحرر في الممارسة الفقهية يريد للفقيه أن ينفتح على المواضيع، في وعي دقيق لها، بحيث يكون منتبهاً إلى ما يطالها من تغيير وتحول، يتبعه تغيراً في الحكم الشرعي بحكم العلاقة بين الحكم والموضوع، بيد أن رئيس القوة القضائية اعتبر هذه الدعوة رتبة تقليدية في التجديد، وحلقة أولية بسيطة في مساره« فالتجديد على هذا المستوى وان كان مطلوباً إلا أنه لا يفي بحاجات الواقع الفقهية، وما يعج به التطبيق من مشكلات« ثم ان الشيخ يزدي يعتقد أن الحكم يبقى ثابتاً أحياناً ومع ذلك تنشأ الحاجة إلى تجديد النظر في الحكم الفقهي« ومرد التجديد هو التغير الذي يطرأ على ذهنية الفقيه من خلال انفتاحه على واقع لموضوع الحكم، تحيطه متغيرات الحياةî صحيفة كيهان العربي عدد     « الخميس   أيار      ملحق   ملخص محاضرة لليزدي بقلم خالد توفيق«

   ـ آية الله الشيخ اليزدي يقول  يمكن إلغاء بعض الأوقاف الشرعية

بينما في المصدر الأصلي  ثم عرج بعد ذلك  أي اليزدي  لتناول مشكلات الوقف خصوصاً في الدائرة التي ترتبط بالأوقاف التاريخية الموروثة، التي تمتد لتشمل مساحة واسعة من الأراضي تشمل البساتين والغابات والمراتع« إذ لاحظ أن عنوان الوقف بات يعود بالاضرار الكبيرة على الوضع العام، من خلال التصرف بالغابات والمراتع والأراضي الشاسعة تحت عنوان شرعي لا يجرؤ العقل الفقهي على الاقتراب منه، نظراً لما يملكه الوقف من تجذر شرعي وزمني تاريخي، حيث تعود بعض العناوين الوقفية إلى مئات السنين« وربما كانت هناك أسباب سياسية للوقف، إذ يرى المالك أن عين السلطان الجائر قد وقعت على قطعة من الأرض خصبة أو بستان يانع الثمر، فيبادر فوراً إلى وقفه ليوفر له الحماية من خلال هذا العنوان، فهل يبقى الآن الواقع على عنوانه التاريخي، أم يمكن أن يغير في إطار تكييف فقهي جديد؟î المصدر نفسه«

   ـ آىة الله اليزدي يقول  من حق المرأة أن تطلق الرجل 

 بينما في المصدر الأصلي  أجل تحدث اليزدي عن عنوان جديد اسمه  نشوز الرجل  وذلك في مقابل العنوان التقليدي في أبواب الفقه  نشوز المرأة « استدل على ما يقول بوقائع عجيبة أعانه في الحصول عليها ملف القضاء، نكتفي بالإشارة إلى اثنتين، إذ حصل ـ عملياً ـ أن زوجاً يعذب زوجته ويتمسك بحق الطلاق الذي بيديه، وهو يمنع زوجته من الطلاق ثماني سنوات، وفي ملف قضية أخرى دام ذلك      سنة  تساءل رئيس القوة القضائية  أي فقه هذا الذي يعطي للرجل  حقî ايذاء المرأة كل هذه السنوات ولماذا لا يستحدث الفقه عنوان نشوز الرجل بحيث يكون من حق المرأة أن تطلق الرجل حين توافر الملاك؟î المصدر نفسه«

   ـ آية الله البروجردي يقول إن الفقه الشيعي على هامش الفقه السني  «

بينما في المصدر الأصلي  يمكن تمثيل العلاقة بين الفقه الشيعي وفقه أهل السنة من خلال مثال« وفي هذا المثال يبدو فقهنا كحاشية على فقه السنة« وذلك شبيه بالحالة السائدة في الرسائل العملية، حيث يأتي الفقيه اللاحق لتحشية رسالة المرجع الذي سبقه، معبراً في هذه الحواشي عن رؤاه« في ضوء هذه العلاقة نعرف أن لفهم متون فقه السنة تأثيره في فهم فقه الشيعة« كما يؤثر في فهم كلام الإمام المعصوم فهم الارتكازات القبلية التي استقرت لدى المتشرعة بفعل فتاوى أهل السنة« وهذه الحالة شبيهة بالارتكازات العرفية التي يتفق الجميع على أنها مؤثرة في كلام الإمام المعصوم« ومحصل هذا الكلام معناه أن فهم المدارس الفقهية لأهل السنة يمكن أن يؤثر في عدد من الموارد، في رواياتنا الفقهيةî« كيهان العربي عدد     ، الخميس    نيسان      ملحق  «

   ـ الإمام السيّد موسى الصدر يقول  إن احتفالات عاشوراء تحولت إلى مراسم شكلية متحجرة يختفى وراءها المذنبون  بينما في المصدر الأصلي

 انتقد الإمام الصدر المغالين من الشيعة لاستعمالهم أساليب مبتذلة في سبيل احياء ذكرى الإمام الحسين« ودعا إلى احياء ذكرى عاشوراء بالعمل، فيقول  المطلوب عدم الاكتفاء بهذه الاحتفالات لئلا تتحول إلى طقوس ومراسم شكلية يختفي وراءها المذنبون««« ولئلا يصبح البكاء والمشاركة في المآتم بديلاً عن العملî فكر الإمام موسى الصدر ص    ط دار الهادي«

   ـ الشيخ محمد جواد مغنية يقول  الكافر أو غير المؤمن الذي نشأ في بيئة الكفر أو الضلال ولم يلتفت إلى الحق معذور حتى ولو كان المحقق الأول في العلم  بينما في المصدر الأصلي قال   أكثر الناس ينشأون على دين الآباء والاجداد، ويطمئنون إليه، ولا يشكون فيه على الإطلاق ويعتقدون أنه الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأن كل ما عداه هراء وضلال، ولا يختص هذا بالعوام ـ كما يظن ـ بل عليه العديد من العلماء وأصحاب الكتب والمؤلفات««« ومنهم من يقول أيضاً بحرمة التقليد في أصول الدين ووجوب البحث والنظر لمعرفتها والعلم بأدلتها« وليس من شك أن الغافل الذاهل غير مكلف ولا مسؤول عما غفل عنه وذهل حتى ولو كان المحقق الأول، لأن التكليف مع الغفلة تكليف بغير المقدور، وقد أطال المحقق القمي الكلام في ذلك في كتاب القوانين، ونذكر من أقواله بعض المقتطفات مع التصرف في الأسلوب فقط بقصد التوضيح والتيسير على الافهام، قال عليه الرحمة والرضوان  ان الله عادل وحكيم ورؤوف رحيم، وعليه إذا افترض أن انساناً نشأ منذ طفولته على دين الآباء والاجداد، واستمر على ذلك حتى الموت دون أن يلتفت إلى أن التقليد يصرف عن الحق، ولا خطر له هذا على بال، إذا كان الأمر على ذلك فبأية وسيلة يتحرر من التقليد؟««« إن التحرر من هذا التقليد صعب وعسير حتى العلماء المرتاضين الذين يحسبون أنهم خلعوا من أعناقهم أغلال التبعية والمحاكاة«« كيف والمفروض أنهم لا يحتملون الخطأ بحال؟«« وأي إنسان بلغ به الأمر إلى هذا الحد فهو بحكم البهائم والمجانين«« أبداً« لا يتجه إليه أمر ولا نهي، ولا حساب ولا عتاب، سواء أكان مسلماً أم غير مسلم« وإليك عبارة القمي بحروفها لتكون على يقين مما أراد   هذا الكلام لا يتفاوت فيه الحال بين الموافق والمخالف والمسلم والكافر على ما تقتضيه قواعد العدلية«« والقول بتعذيب الكفار والمخالفين دون المسلمين خروج عن العدل ـ إلى أن قال ـ   وان كان اطمئنان الغافل من جهة حسن ظنه بأبيه وأمه من غير فرق بين ما صادف الواقع وعدمه في عدم العقاب  ويشهد لقول هذا المحقق العقل الحاكم الجازم بأن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها« وأيضاً يشهد له النقل، وهو قوله تعالى   ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبيَّن له الهدى ويتّبع غير سبيل المؤمنين نولِّه ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً      »النساء  ومعنى هذا أن من اتبع سبيل الكافرين والضالين عن جهل وقصور فإن الله سبحانه لا يوليه ما تولى أي لا يكله إلى من اعتمد عليه، وأخذ منه الكفر والضلال، ولا يصليه نار جهنم وبئس المصير« ثم قدم صاحب القوانين هذا المثال أو هذا السؤال  ما قولك وحكمك فيمن نشأ بين قوم يكرهون الشيعة بالغ الكره وأشده، ولا يسمع من علمائه ورؤساء دينه إلا تكفيرهم، والأحاديث الموضوعة، وتكذيب أو تأويل كل حديث أخذ به الشيعة بما يتفق مع أهواء خصومهم وأعدائهم « ما ظنك بمن نشأ على ذلك، ولم يحتمل أن الحق على غير ما سمع« وما هو المبرّر لحسابه وعذابه  انظر المجلد الثاني في القوانين من ص     إلى ص     طبعة عبد الرحيم  î الدين والشباب ص    ط دار الكتاب الإسلامي«

   ـ السيّد القائد الخامنئي يقول  ان المرحوم آية الله العظمى السيد البروجردي رضوان الله تعالى عليه العالم الكبير والمجتهد والمفكر الفذ، كان يمنع تقبيل عتبات المراقد

بينما في المصدر الأصلي قال   لقد ظهرت مؤخراً بدعة غريبة غير محبذة في باب الزيارة، كلنا يعلم أن أئمة الهدى عليهم السلام كانوا يزورون المرقد الطاهر للرسول الأكرم  ص  كما أن إمامنا الصادق عليه السلام والإمام موسى بن جعفر  ع  وباقي الأئمة الأطهار عليهم السلام كانوا يزورون المرقد الطاهر للإمام الحسين  ع ، كذلك أصبحت المراقد الطاهرة لأهل البيت عليهم السلام في العراق وإيران مزارات يؤمها العلماء والفقهاء والفضلاء، هل سمعتم أن إماماً أو عالماً كبيراً كان ينبطح أرضاً عند دخوله حرم أحد المراقد ويزحف نحو الضريح؟ لو كان هذا الأمر مستحسناً ومحبذاً ومقبولاً لأقدم عليه ائمتنا وعلماؤنا« ولكنهم لم يفعلوا، حتى انه يروى أن المرحوم آية الله العظمى السيد البروجردي رضوان الله تعالى عليه العالم الكبير المجتهد والمفكر الفذ كان يمنع تقبيل عتبات المراقد على رغم أن ذلك قد يكون مستحباً، ويحتمل أن تكون الروايات قد أوردت مسألة تقبيل العتبات، انها مسألة تتناولها كتب الأدعية وكذلك الروايات حسبما يتبادر إلى ذهني، رغم أن ذلك قد يكون مستحباً، كان المرحوم البروجردي يمنع الناس عنه لكي لا يفكر البعض أنهم يسجدون لها وحتى لا يشنع الأعداء بالشيعةî« صحيفة العهد عدد    «

نقل عبارات مبتورة من كتاب  من وحي القرآنî

وقد حاول بعضهم أن يطبق هذه التجربة أو اللغة على بعض المقاطع من كتاب التفسير  من وحي القرآنî، وإليك بعض النماذج

  ـ من المعروف أن هناك عدة اتجاهات تفسيرية لقوله تعالى   وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين، فلما جن عليه الليل رأى كوكباً قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين، فلما رأى القمر بازغاً قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين، فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين   الأنعام»   ـ     فقد ذكر الشيخ الطبرسي في مجمع البيان والشيخ الطوسي في التبيان أربعة اتجاهات لتفسير الآية نذكرها ملخصاً

الأول  إنما حكى الله عن إبراهيم في هذه الآية كان قبل بلوغه، وقبل كمال عقله«

الثاني  إن هذا القول كان من إبراهيم في زمان مهلة النظر، لأن مهلة النظر مدة الله العالم بمقدارها«

الثالث  إن إبراهيم لم يقل ذلك على وجه الشك، ولا في زمان مهلة النظر بل كان عالماً بالله وإنما قال ذلك على سبيل الانكار«

الرابع  إن إبراهيم  عî قال ذلك على وجه المحاجة لقومه بالنظر كما يقول القائل  إذا قلنا إن لله ولداً لزِمَنا أن نقول له زوجة   «

وفي تفسير  من وحي القرآنî كان سماحة السيد في مقام تقرير وجهات النظر التفسيرية التي ذكرت للآية بكل دقة وأمانة ثم في نهاية البحث يستعرض الرأي الذي يرتأيه«

ولكن حاول بعضهم أن يقتطع هذا المقطع الذي ينطبق على الاتجاه التفسيري الأول فنقل هذا المقطع   فخيّل إليه أن هذا هو الإله العظيم الذي يتعبد الناس إليه«« لأن الفكرة الساذجة تجعله في الأفق الأعلى البعيد الذي تتطلع إليه الأبصار برهبة وخشوع، ولا تستطيع الخلائق أن تصل إليه أو تدرك كنههî   «

ولم ينقل المقطع الموجود في آخر البحث وهو   وماذا بعد ذلك؟ هل هي الرحلة الأول في طريق الإيمان لدى إبراهيم«« أو هي محاكاة استعراضية للأجواء المحيطة به، فيما يعتقده الناس من ألوهيته الكواكب والقمر والشمس«« في محاولةٍ إيحائية لمن حوله بسخافة هذه العقائد وتفاهتها وضعفها أمام المنطق الوجداني الصافي، وذلك من موقع ابتعاده عنها بعد اقترابه منها،  مما يعطي لموقفه بعض القوة في الايحاء، باعتباره الموقف الذي عاش التجربة وعاناها«« ثم تمرّد عليها««

ربما كان هذا هو الرأي الأقرب الذي يلتقي مع شخصية إبراهيم فيما حدثنا القرآن عن حياته« فنحن لم نلمح ـ في غير هذه الآية ـ حالة تأثر بالجو المحيط به«« بل ربما نرى الأمر ـ بالعكس من ذلك ـ حالة تمرد على البيئة حتى فيما يتعلق بالجو العائلي المتمثل في أبيه الذي نقل لنا القرآن موقف إبراهيم منه« وقد نستطيع استيحاء الآية السابقة التي حدثنا القرآن فيها عن كلام إبراهيم لأبيه حول الاصنام التي يعبدها أن هذا الموقف سابق لموقفه من هذه العقائدî   «

  ـ في تفسير قوله تعالى   وعصى آدمُ ربَّه فغوى   ـ طه»    ـ حاول أحدهم أن يذكر المقطع الذي وردت كلمة  لأنه كان يعيش الضعف البشري أمام الحرمانî ولم يذكر المقطع الذي يجعل الصورة واضحة وهو قوله  فنسى ما ذكرناهî به فترك الامتثال للنصيحة الإلهية التي لم تكن أمراً إرشادياً يتحرك من المنطق الطبيعي للأمور فيما ترتبط به النتائج بمقدماتها   «

  ـ في تفسير قوله تعالى  ونادى نوح ربَّه فقال ربِّ إن النبي من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين، قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عملٌ غير صالح فلا تسألني ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين  ـ هود»   ـ    ـ « حاول بعضهم أن يقتطع هذا المقطع   ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك حقî فيما وعدتني أن تنقذ لي أهلي عندما أمرتني أن أحملهم، وهو منهم ولكن ذلك لم يحدث   وأنت أحكم الحاكمينî فلا يصدر عنك شيء إلا لحكمة لا يدركها أحد غيرك   ، وحذف هذا المقطع   ما هي علاقة المسألة بالعصمة؟ وقد يتساءل المتسائل عن مدى انسجام هذه الآيات في مدلولها مع عصمة الأنبياء«« فكيف يمكن لنوح النبي«« الذي وقف أمام كل تحديات الانحراف الكافر من كل القوى الشريرة، طيلة هذا العمر المديد الذي يقترب من الألف سنة«« كيف يمكن له أن يعيش لحظة الضعف أمام عاطفة البنوّة«« ليقف بين يدي الله، ليطلب منه إنقاذ ولده الكافر، من بين كل الكافرين«« وكيف يخاطبه الله بكل هذا الأسلوب الذي يقطر بالتوبيخ والتأنيب«« ويتراجع نوح«« ليستغفر ويطلب الرحمة لئلاّ يكون من الخاسرين«

ويمكن لنا أن نجيب عن ذلك، إن المسألة ليست مسألة عاطفة تتمرد، ولكنها عاطفة تأمل وتتساءل«« فربما كان نوح يأمل أن يهدي الله ولده في المستقبل وربما كان يجد في وعد الله له بإنقاذ أهله ما يدعم هذا الأمل لأنه من أهله، ولم يلتفت إلى كلمة  إلا من سبق عليه القولî لأنها لم تكن واضحة«« وهكذا كان منسجماً مع خط الإيمان عندما نادى نداء المتوسل المستفهم«« وكان الرد الإلهي منسجماً مع ما أراده الله له من العصمة، كأسلوب من أساليب التربية التي يربي الله بها أنبياءه ليمنع عنهم الانحراف العاطفي، قبل حدوثه، فيما إذا كانت الأجواء جاهزةً لحدوثه، لولا لطف الله بهم«« وقد تكون الشدة في الرد لوناً من ألوان التأكيد على ذلك«« وكان الانسجام النبوي مع خط التربية الإلهي رائعاً في روحية الخضوع والخشوع التي عبر عنها نوح بالكلمات المستغفرة المسترحمة الخائفة من الخسران، التي كانت تخشى أن يكون في هذه الحالة المستفهمة المتأمّلة بعضاً من ذنب، وإن لم يكن ذنباً، أو بعضاً من حالة تمرد، وإن لم تكن كذلك«« ومن الطبيعي أن لا يبتعد ذلك عن خط النبوة المستقيم الذي عاشَ العمر كله جهاداً في سبيل الدعوة إلى الله، تحت رعاية الله، ووقف الآن في خط الاستقامة التي يحاول أن يخضع كل عواطفه لروحيتها بتوفيق الله وبرحمتهî   «

  ـ في تفسير قوله تعالى   ووهبنا لداود سليمان نعم العبد إنه أوّاب إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب ردوها عليّ فطفق مسحاً بالسوق والأعناق   ص»    ـ   «

حيث ذكر الشيخ الطوسي في تفسير هذه الآيات  إن هذا الخيل شغلني عن صلاة العصر حتى فات وقتها، وهو قول علي  عî وقتادة والسدي، وروى أصحابنا أنه فاته الوقت الأول، وقال الجبائي  إنه لم يفته الفرض، وإنما فاته فعل كان يفعله آخر النهار ففاته لاشتغاله بالخيل وقوله  حتى توارت بالحجاب  معناه توارت الشمس بالحجاب يعني بالغيبوبة وجاز الاضمار قبل الذكر، لأنه معلوم قال لبيد

حتى إذ القت يداً في كافر         وأجن عورات الثغور ظلامها

وقال أبو مسلم محمد بن بحر وغيره  وذكر الرماني أن الكناية عن الخيل وتقديره حتى توارت الخيل بالحجاب بمعنى أنها شغلت فكره إلى تلك الحال«

ثم قال لأصحابه  ردّوها عليّ  يعني الخيل فلما ردت عليه  طفق مسحاً بالسوق والأعناق  وقيل  ان الخيل هذه حربها من غنيمة جيش فتشاغل باعتراضها حتى غابت الشمس وفاتته العصر، قال الحسن  كشف عراقيبها وضرب اعناقها، وقال لا تشغلني عن عبادة ربي مرة أخرى« وقيل  انه إنما فعل ذلك على وجه القربة إلى الله تعالى بأن ذبحها ليتصدق بلحومها لا لعقوبتها بذلك« وإنما فعل ذلك لأنها كانت أعز ماله فأراد بذلك ما قال الله تعالى  لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون  وقال أبو عبيدة  يقولون  مسح علاوته أي ضربها« وقال ابن عباس  جعل يمسح أعراف الخيل وعراقيبها حباً  لها« وقال ابو مسلم محمد بن بحر إغسل اعرافها وعراقيبها إكراماً لها، قال  لأن المسح يعبر به عن الغسل من قولهم  تمسحت للصلاة    «

وحاول بعضهم هنا أن يقتطع المقطع الذي يتحدث فيه سماحة السيد عن فوات صلاة العصر بسبب الاستعراض العسكري للخيل ولم يذكر المقطع الذي يتحدث فيه سماحته عن أن ذلك كان من باب ترك الأولى باعتبار أنه تقديم الصلاة أفضل بلحاظ الوقت«  راجع وحي القرآن ج   ص     «

وهكذا في تفسير قوله تعالى  فطفق مسحاً بالسوق والأعناق «

حيث قال سماحته

 أما تعليقنا على ذلك، فإن الظاهر من الآية قد يؤكد فكرة ضرب أعناقها وسوقها« لأن مسألة تسبيلها في سبيل الله لا يتوقف على ردّها عليه وكما أنه لا يفسّر مسح أعناقها وسوقها، فإن من المتعارف مسح الخيل على نواحيها كما أن هذه الروايات تلتقي مع ظهور الآية في ردّ الفعل الذي قام به سليمان إزاء انشغاله بها عن الصلاة، مما جعله يفكر بالخلاص منها بقتلها، من غير ضرورة لأن يكون ذلك على سبيل الانتقام منها، أو إتلافها كمالٍ محترم لا يجوز إتلافه بل قد يكون ذلك بمثابة ضغط على نفسه التي أحبّت الخيل بهذا المستوى الأمر الذي يريد إيلامها فيما يحبه بهذه الطريقة، مع ملاحظة أن ذلك حلال في شريعته لأن الخيل كانت تذبح كالأنعام، للطعام، والله العالمî   «

إلى غيرها من النماذج التي يكفي للقارىء أن يعرف الضابطة العامة فيما ينقل إليه« مما يفرض على أي إنسان تقي يخاف الله أن يتثبت ويتريث فيما ينقل إليه« ويراجع المصدر الأصلي الذي نقل الكلام عنه« ويقرأ الكلام بأكمله لا أن يقرأه مبتوراً لأن الفكرة تكون عندئذٍ مبتورة أيضاً«

افتراءات بالجملة

قد مرّت نماذج لعدة تحريفات إمّا في طرف الزيادة بأن يضخم كلام المتكلّم ويضاف إليه أشياء كثيرة لم يقلها واما في طرف النقيصة بأن يذكر مقتطع صغير من كلامه مع حذف السياق الكامل«

وأما هذه الموارد فهي افتراءات ليس لها أصل بأي معنى من المعاني، وللأسف فإنها تصدر من بعض الجهات التي درست في الحوزة وإليكم نماذج منها

  ـ العمل بالقياس عند الحاجة ولو في مسألة واحدة أو النهي عن القياس لأجل عدم الحاجة«

وعندما رجعنا إلى المصدر الأصلي تبين أن سماحة السيد كان في مقام تقريب السبب الذي دعا أبا حنيفة للجوء إلى القياس والاستدلالات الذهنية والظنون وهو وغيره من أتباع مدرسة الرأي، أنه لم يصح عنده الا أحاديث قليلة ولم يعتمدوا على الثقل الثاني وهم عترة النبي صلى الله عليه وآله وبذلك لجأوا إلى الاستحسان والقياس   «

وإليك نص عبارة سماحته في كتاب  تأملات في آفاق الإمام موسى الكاظمî قال دام ظله   فنحن نلاحظ أن المسألة هي عدم وجود فراغ في الشريعة يدعو إلى اللجوء للقياس، وإذا كان الناس لا يجدون لديهم مصدر ذلك فإن الأساس في هذا الشعور بالفراغ هو ابتعادهم عن سؤال أئمة أهل البيت الذين يملكون علم ذلك كله، ومعارضتهم لهم فيما يقولون وفيما يروون عن النبي  ص ، وقد قال في حديث آخر يوضح فيه المسألة فيما رواه عثمان بن عيسى قال  سألت أبا الحسن موسى عن القياس قال  ما لكم والقياس إن الله لا يسأل كيف أحل وكيف حرم« وفي هذا دلالة على عنصر التعبد في فهم الحكم الشرعي وعدم النفاذ إلى عمق العلل الواقعية من خلال الظنون السطحيةî   «

  ـ تأجير أماكن للدعارة جائز في بعض الحالات

وحين رجعنا إلى المصدر الأصلي تبين ان سماحته يحرم تأجير الشقق لممارسة الدعارة وذلك بالعنوان الأولي تارة وبالعنوان الثانوي تارة أخرى، وذلك اشارة إلى مبنى السيد الخوئي في مسألة حرمة الإعانة على الإثم«

فتارة يكون التأجير للدعارة مذكوراً في ضمن العقد أو مبنياً عليه فهنا يكون حراماً بالعنوان الأولي وتارة لا يكون كذلك بل علم المؤجر أن المستأجر يفعل هذا المحرم كشرب الخمور وممارسة الدعارة وما إلى ذلك فهنا بالعنوان الثانوي تحرم الإجارة«

والغريب أن نص فتوى السيد كما في مجلة فكر وثقافة العدد        جمادى الأولى        إذا كانت هذه الشقق أماكن للدعارة فلا يجوز ذلك بالعنوان الأولي في بعض الحالات وفي العنوان الثانوي في حالات أخرىî«

والذي حرّف هذا الكلام تحريفاً كلياً جعل الفتوى هكذا  يجوز في بعض الحالات بالعنوان الأولي ويجوز في بعض الحالات بالعنوان الثانويî«

  ـ نُسب إلى سماحة السيد قولٌ مفاده انه لا بد من إعادة النظر في بعض التشريعات لكونها تؤدي إلى الشلل والجمود وعندما رجعنا إلى المصدر الأصلي تبين أن سماحته يتحدث عن بعض الروايات الضعيفة السند الواردة في باب مكروهات السفر والتي عمل بها بعض من يرى التسامح في أدلة السنن وإليك نص الروايات من كتاب الحدائق   ونحوس الشهر ففي العشر الأولى الثالث والخامس وفي العشر الثانية الثالث عشر السادس عشر وفي العشر الثالث  الحادي والعشرون والرابع والعشرون والخامس والعشرون« فقد دلت الاخبار على التحذير من العمل فيها بأي عمل كان ولزوم الإنسان بيته وعدم الحركة لشدة نحوستها كما رواه السيد رضي الدين علي بن طاووس في كتاب الدروع الواقية عن الصادق  ع  والطبرسي في كتاب مكارم الأخلاق عنه  ع  ونحوه أيضاً في كتاب زوايد الفوايد«

وأما اليوم الثالث ففي الدروع عنه  ع  يوم نحس مستمر فاتّق فيه البيع والشراء وطلب الحوائج والمعاملة وفي المكارم عنه  ع  ردي لا يصلح لشيء«

وفي الزوائد عنه  ع  يوم نحس قتل فيه قابيل هابيل لا تسافر فيه ولا تعمل عملاً ولا تلق أحداً«

أما اليوم الخامس ففي الدروع عنه  ع  انه يوم نحس مستمر فلا تعمل فيه عملا ولا تخرج عن منزلك وفي المكارم عنه  ع  رديّ نحس وفي الزوائد عنه  ع  هو يوم نحس وهو يوم نكد عسر لا خير فيه فاستعذ بالله من شره«

وأما الثالث عشر ففي الدروع يوم نحس فاتق فيه المنازعة والخصومة وكل أمر وفي رواية أخرى يوم نحس لا تطلب فيه حاجة وفي المكارم يوم نحس فاتقوا فيه جميع الأعمال وفي الزوائد يوم نحس وهو يوم مذموم في كل حال فاستعذ بالله من شره« وأما السادس عشر ففي الدروع يوم نحس لا يصلح لشيء سوى الأبنية ومن سافر فيه هلك وفي المكارم ردي مذموم لكل شيء وفي الزوائد يوم نحس ردي مذموم لا خير فيه فلا تسافر فيه ولا تطلب حاجة وتوق ما استطعت وتعوذ بالله من شره« وأما الحادي والعشرون ففي الدروع أنه يوم نحس ردي فلا تطلب فيه حاجة وفي المكارم يوم نحس مستمر وفي الزوائد يوم نحس مذموم فاحذره ولا تطلب فيه حاجة ولا تعمل عملاً واقعد في منزلك واستعذ بالله من شره«

وأما الرابع والعشرون ففي الدروع أنه يوم نحس ولد فيه فرعون فلا تطلب فيه أمراً من الأمور وفي المكارم يوم شؤم وفي الزوائد يوم نحس مستمر مكروه لكل حال وعمل فاحذره ولا تعمل فيه عملا ولا تلق أحدا واقعد في منزلك واستعذ بالله من شره«

وأما الخامس والعشرون ففي الدروع يوم نحس ردي فاحفظ نفسك فيه ولا تطلب فيه حاجة فإنه شديد البلاء وفي المكارم ردي مذموم تحذر فيه من كل شيء وفي الزوائد يوم نحس مكره ثقيل نكد فلا تطلب فيه حاجة ولا تسافر فيه واقعد في منزلك واستعذ بالله من شرهî   «

وإليك نص كلام سماحة السيد  دام ظلهî   ولعل هذا هو ما نستوحيه من الحديث المروي عن الإمام جعفر الصادق  ع  قال أبو عبد الله الطيرة على ما تجعلها ان هونتها تهونت وان شددتها تشددت وان لم تجعلها شيئاً لم تكن شيئاً« والحديث المروي عن أبي الحسن الثاني  الإمام الرضا  ع    فيما رواه في الفقيه قال

كتب بعض البغداديين إلى أبي الحسن الثاني  ع  يسأله عن الخروج في يوم الأربعاء لا يدور فكتب  ع   من خرج يوم الأربعاء لا يدور خلافاً على أهل الطيرة وقي من كل آفة وعوفي من كل عاهة وقضى الله حاجته«

إن الفكرة التي تحكم كل هذه الأحاديث هي ان التطير لا ينطلق من واقع موضوعي في الأمور التي يتطير الناس منها، بل هناك عادات معينة تحولت إلى سلوك بشري عام وإلى أوضاع نفسية داخلية صعبة فلا بد من مواجهتها بالموقف المضاد الذي يمثل صدمة قوية للمشاعر وبالوسائل الإيمانية التي تفتح قلب الإنسان على مواقع الثقة بالله في كل شيء والتوكل عليه في كل أمر«

وفي ضوء ذلك نستطيع أن نواجه الأفكار التي أثارتها بعض الأحاديث في التأكيد على نحوسات الأيام والأبراج ونحوها لنخضعها للقاعدة العامة التي تنفي التطير من الأساس كسلوك عام وتوجه الإنسان المسلم إلى عدم التوقف أمام كل الأوضاع والأزمان التي تحمل في داخلها بعض التهاويل الشعورية من خلال العادات الشعبية المتخلفة«

اننا نريد أن نؤكد على ذلك لأن الطريقة التي يثير فيها الأسلوب الفقهي مسألة المكروهات في باب السفر وفي أبواب الأعمال العادية المتعلقة بأوضاع الإنسان العامة والخاصة قد يؤدي إلى الكثير من الشلل والجمود على المستوى العملي بحيث تتعطل مسيرة الحياة العامة للإنسان فتؤدي إلى كثير من الاضرار النفسية والاجتماعية والاقتصادية وقد تنعكس في بعض الحالات على الأوضاع السياسية عندما تتحول الأمة إلى أمة خائفة من الزمن في نشاطاتها العامة والخاصةî   «

  ـ الافتراء على سماحته بأنه يجوِّز الذهاب إلى نوادي العراة أو نظر الرجل إلى عورة الرجل أو نظر المرأة إلى عورة المرأة في غير حالات الضرورة العرفية وكذا عرض مسألة استمناء المرأة بغير وجهها الصحيح مما سوف تقف عليها مفصلاً في داخل الكتاب، ومن الجدير ذكره ان الشهيد المرحوم المطهري استشاط غضباً عندما نسب إليه بعض العلماء مقولة  ان الحجاب أمر غير عملي فقال رحمه الله

 الا لعنة الله على الذين يريدون تطبيق النظام الأوروبي في إيران تطبيقاً عملياً ولعنة الله على المفتري اني اسأل الله تعالى أن لا يسامح كل من يفتري علي وينسب إلي أشياء لم أقلها والله خير الحاكمين«

سبحان الله هل تعتبر كل هذه الانتقادات والأقوال نقداً علمياً ومنطقياً واستدلالياً« وتطلق التهم بأننا نريد النظام الأوروبي ومنها نظام الاختلاط والعري الأوروبي ويا ليت ان واحداً بالعشرة من هذه الانتقادات توجه لواحد من أولئك الذين عملهم استهلاك سهم الإمام فقط وعلى كل حال هذا هو جزاء الشخص الذي يقدم الخدمة لمجتمعنا   «

اقرأوا قبل أن تؤلفوا

وهناك مشكلة تحدث لمن يكتب في موضوع دون أن يتتبع الآراء الموجودة في المسألة، فقد يسمع أو يقرأ رأياً فيتصور أنه الرأي الوحيد الذي يمثل مذهب الشيعة الإمامية، وكل ما عداه خارج عن مسلمات المذهب، ولو تتبع كتب العلماء الكبار لوجد آراء متعددة تختلف عن الرأي الذي سمعه، مما يجعل الإنسان متواضعاً ومتحسباً في إبداء رأيه« وقد أشار أمير المؤمنين عليه السلام إلى هذا النموذج من العلماء حيث قال عليه السلام   لا يحسب العلمَ في شيء مما أنكره« ولا يرى أن من وراء ما بلغ مذهباً لغيره«««î   «

ونذكر عدة أمثلة توضح الفكرة

  ـ اختلف علماء الشيعة في تفسير قوله تعالى   عبس وتولى، أن جاءه الأعمى، وما يدريك لعله يزكى أو يذّكر فتنفعه الذكرى«««   فذهب فريق منهم إلى أن المقصود بالآية رجل من بني أمية أو عثمان بن عفان كما تفسير الصافي  ج  ص      واستقر به صاحب الميزان« وذهب فريق من كبار العلماء والمفسرين الشيعة إلى أن المراد بالآية هو النبي  ص  كما في تفسير الكاشف للشيخ محمد جواد مغنية  ج  ص      والسيد محسن الأمين في أعيان الشيعة  ج   ص     وسيرة المصطفى للسيد هاشم معروف الحسني  ص      وذكره صاحب مجمع البيان كأحد الاحتمالين وكذلك الشيخ جعفر السبحاني« وهناك بعض العلماء اختاروا الوجه الأول ومع ذلك أعطوا توجيهاً للرأي الثاني كالسيد المرتضى علم الهدى حيث قال  فلو صح الخبر الأول  أنها في النبي  هل يكون العبوس ذنباً أم لا، فالجواب أن العبوس والانبساط مع الأعمى سواء إذ لا يشق عليه ذلك فلا يكون ذنباً فيجوز أن يكون عاتب الله سبحانه بذلك نبيه  ص  ليأخذه بأوفر محاسن الأخلاق وينبهه بذلك على عظم حال المؤمن المسترشد ويصرفه أن تأليف المؤمن ليقيم على إيمانه أولى من تأليف المشرك طمعاً في إيمانه  انظر مجمع البيان ج    ص     ط دار إحياء التراث  وقال الشيخ جعفر السبحاني   وما سلكه النبي  ص  لم يكن أمراً مذموماً عند العقلاء، ولا خروجاً على طاعة الله، ولكن الإسلام دعاه وأرشده إلى خلق مثالي أعلى مما سلكه وهو أن التصدي لهداية قوم يتصورون أنفسهم أغنياء عن الهداية، يجب أن لا يكون سبباً للتولي عمن يسعى ويخشى، فهداية الرجل الساعي في طريق الحق، الخائف من عذاب الله تعالى أولى من التصدي لقوم يتظاهرون بالاستغناء عن الهداية«««î  مفاهيم القرآن ج   ص     ط دار الأضواء «

وقال الشيخ محمد جواد مغنية   «« هذا ما ذهب إليه أكثر المفسرين وله وجه أرجح وأقوى من الوجه الأول لمكان ضمير المخاطب  أنت  فإن المراد به الرسول ـ بحسب الظاهر ـ وعليه يكون بياناً وتفسيراً للضمير الغائب في عبس والتفاتاً من الغائب إلى الحاضر«« ولكن قول المفسرين  ان الله عاتب النبي على ذلك لا وجه له على الاطلاق حيث لا موجب للعتاب في فعل الرسول  ص  لأنه أراد أن يغتنم الفرصة قبل فواتها مع أولئك العتاة، أن يغتنمها ويستغلها لمصلحة الإسلام والمسلمين لا لمصلحته ومصلحة أهله وذويه، أمّا تعليم المسلم الأحكام والفروع فليس له وقت محدود بل هو ممكن في كل وقت، وبتعبير الفقهاء ان اسلام الكافر مضيّق يفوت بفوات وقته، أما تعليم المسلم أحكام الدين فموسع يمكن القيام به في أي حين، والمضيق أهم، والموسع مهم والأهم مقدم بحكم العقل«««î  تفسير الكاشف ج   ص     «

  ـ اختلف العلماء في تفسير قوله تعالى   ولقد همت به وهم بها  فذهب البعض إلى أن المراد بقوله   وهم بها  هم بضربها، وذهب آخرون كما في تفسير الصافي  ج  ص     وتفسير الكاشف  ج  ص      إلى أن المراد لولا أن رأى برهان ربه لَهَمّ بها فحذف جواب لولا لدلالة المذكور عليه« وذهب فريق ثالث إلى أن الهَمَّ يقع على وجوه ثلاثة ممكنة وهي خطور الشيء بالبال، والمقاربة، والشهوة وميل الطباع« وأما الوجه الرابع غير الجائز فهو العزم على الفعل  انظر التبيان للشيخ الطوسي ج   ص     ومجمع البيان للطبرسي ج  ص     وتنزيه الأنبياء للسيد المرتضى ص    وتفسير القرآن للسيد عبد الله شبر ص     «

  ـ تفسير قوله تعالى   قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتابî حيث ذكر بعض العلماء ان قوله تعالى   ومن عنده علم الكتاب  يحتمل ثلاثة وجوه  الأول  المنصفون من أهل الكتاب« الثاني  الله سبحانه وتعالى« الثالث  أمير المؤمنين  ع  وأئمة الهدى من أهل البيت  ع  وقد استقر به الشيخ ناصر مكارم الشيرازي  تفسير الامثل ج  ص      حيث قال   ولكن احتمل بعض المفسرين أنها تشير إلى علماء أهل الكتاب الذين قرأوا علائم نبي الإسلام  ص  في كتبهم السماوية ومن جهة حبهم ومعرفتهم آمنوا به لكن التفسير الأول نراه أقرب إلى الصحةî« وممن اختار القول الشيخ مغنية والسيد محمد الشيرازي حيث قال الأول   أمر الله نبيه في هذه الآية أن يقول للمشركين إذا أنكرتم رسالتي فإن الله يشهد بأني رسول من عنده، وأيضاً المنصفون من علماء التوراة والانجيل يشهدون بذلك«« وهذا هو المعنى الظاهر، وهو المراد، وعليه جميع المفسرين، ونحن معهمî«  تفسير الكاشف ج  ص     ط دار العلم للملايين  وقال الثاني     قل  لهم  كفى بالله شهيداً بيني وبينكم  انه يشهد برسالتي وشهادته اعطاء هذه المعجزة الخالدة ـ القرآن ـ لي، فإنه امضاء عملي  و  كفى شهيداً  من عنده علم الكتاب  وهم اليهود والنصارى الذين وجدوا في كتبهم وصف الرسول  ص  وأظهره المنصفون منهم« وما ورد من أن الإمام أمير المؤمنين  ع  مراد بهذا فإنه مصداق ظاهر ممن عنده علم الكتاب، يعلم الكتب والقرآن الحكيم جميعاً وانه  ع  ليشهد للرسول  ص  î  تقريب القرآن إلى الأذهان ج    ص     ط مؤسسة الوفاء «

  ـ سئل السيد الخوئي  هل تزوج ابنا آدم من اخوتهما أم حورية وجنية؟

فأجاب   الاخبار الواردة في ذلك مختلفة ولا محذور فيما لو صدقت إن كان بالأخوات لإمكان انها لم تكن محرمة في شرع آدم  ع  على الأخوةî  صرط النجاة ج  ص     «

ويقول صاحب الميزان«« وظاهر الآية أن النسل الموجود من الإنسان ينتهي إلى آدم وزوجته من غير أن يشاركهما فيه غيرهما حيث قال   وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء  ولم يقل  منهما ومن غيرهماî  الميزان ج   ص     مؤسسة الأعلى      «

وعليه فلا حاجة لاعتبار هذا القول خروجاً عن مسلمات المذهب أو الضرورات إلا إذا لم يكن هناك فرق بين الضرورات لدى العوام والضرورات لدى المحققين.


الفصـل الثاني

المقدمات العامة في البحث

قد أشرنا في المقدمة إلى صدور بعض الكتب التي تتناول حادثة الاعتداء على الزهراء  ع ، حيث يخصص فيه مؤلفه البحث من بداية الكتاب إلى آخره في إثبات وقوع هذا الأمر، وربما تعرض فيه لشرح خطبة الزهراء  ع  وما إلى ذلك كمسائل التطبير وضرب الظهور بالسلاسل«

وهذا النوع من الكتب ـ رغم الملاحظات الآتية ـ يمثل درجة عادية من الكتب المتداولة«

وبعبارة أخرى لا يمثل شيئاً خارجاً عن المألوف، وإنما الشيء الخارج عن المألوف أن يكتب إنسان كتاباً يتخذ فيه أسلوب التشهير واستعمال الألفاظ الساخنة وربما عبارات التكفير والخروج عن الدين والمذهب«

وأنا أتصور أن هذا الكاتب لو تريث بعض الوقت حتى تهدأ أعصابه قليلاً ثم درس كتابته بتأنٍ لحقق مقصوده بشكل هادىء، لأن هناك فرقاً كبيراً بين أن يمسك القلم بعقله وبين أن يمسك القلم بعاطفته، ففي الأسلوب الأول لا تجد إلا التحليلات والاشكالات والاحتمالات المتعددة بينما في الأسلوب الثاني تجد تلك الاشكالات مطعمة بالتجريح والعبارات المهوّلة«

وللأسف فإن هذا الباحث جعل عنوان الكتاب  مأساة الزهراء ع î في حين أن هذه المسألة لم تستغرق من بحثه إلا صفحات قليلة ودون أن يدخل في تشريح الروايات المتعارضة وإجابة الشبهات حولها على الأقل  راجع الملحق رقم   ، بل حشر موضوعات متلاحقة كالرجعة والعصمة، وانفجار بئر العبد والمؤسسات الخيرية وبعض المسائل الفقهية كحلق اللحية ولعب الورق والشهادة الثالثة في الإقامة وكأن المسألة تصفية حساب في مواضيع شتّى«

ولا بد قبل الدخول في صلب الموضوع من إثارة بعض المقدمات

المقدمة الأولى  إن هذا النوع من البحوث التي تركز على أمور هامشية ـ لا يعدو كونها تفصيلاً من تفاصيل الحوادث التأريخية ـ وتضخمها وتجعلها في مصاف القضايا الاستراتيجية التي تهدد وجود الإسلام والمسلمين، وتترك الحديث عن الهجمة الاستكبارية التي تجتاح العالم الإسلامي برمته ومذهب أهل البيت بالخصوص، لهو أمر خطير جداً يدل على بساطة من يشترك في هذه المعارك«

وإن من الخطأ أن ينشغل الناس في أحاديث الضلع أو زواج القاسم أو وجود ليلى في كربلاء وعدمه أو في عدد الذين قتلوا على يد الحسين بن علي والعباس بن علي عليهما السلام أو غيرها، من الأمور التي لا تعدو كونها تفصيلاً من التفاصيل ونترك الاستكبار يجتاح كل ثقافتنا وأمننا ويأكل اقتصادنا وثرواتنا وسياستنا ويجعلنا في إطار الأمم المستعبدة«

أيهما أفضل الأكبر أو العباس؟

وإنني أذكر للقارىء حادثة لا زلت أتذكرها، فقد حدث بين شخصين تلاسن بعد أن اختلفا أيهما أفضل العباس بن علي  ع  أو علي الأكبر  ع  ـ ولا أكتم القارىء أنني كنت من أنصار العباس في ذلك الصراع ـ حيث استدل الأول على أفضلية العباس بأنه آخر من استبقاه الحسين  ع  في المعركة إذ لم يعطه الرخصة في القتال، وعندما استشهد قال الحسين  الآن انكسر ظهري مما يدل على أنه العمود الفقري، كما أن العباس رفض أن يشرب من الماء عندما تذكر عطش الحسين فلا بد أن يكون هو الأفضل«

والشخص الثاني استدل على أفضلية  الأكبرî بأنه أشبه الناس خَلْقاً وخُلقاً برسول الله  ص  وأنه أول من قدمه الحسين في المعركة من بني هاشم وثالثاً  لأنه أكثر من أصيب بالجراحات في كربلاء فلا بد أن يكون هو الأفضل«

وسرعان ما تحول هذا الصراع إلى تلاسن وتراشق بالكلمات حتى ظننت في ذلك الوقت أن هناك عداءً مستحكماً بين العباس وعلي الأكبر وكنت أتساءل لماذا تعاونا في المعركة في ذلك الوقت؟   

والأغرب من هذا أنني سمعت أحد قراء العزاء المشهورين يفاضل بين الحسين  ع  والحسن بن علي  ع  ويدعي أنه رأى الزهراء في المنام وأخبرته عن غضبها تجاه قلة اهتمامهم بالحسن  ع  وأن الحسين قد اهتموا فيه كثيراً فلا بد من تحويل الاهتمام إلى الحسن بن علي واستدل على أفضلية الحسن بأن الحسين كان مظلوماً في حياته بينما الحسن كان مظلوماً في حياته وبعد مماته«

وإنني أتصور أن هذا الخطيب لو سمع الشهيد مطهري الذي يقول بأن الحسين استشهد ثلاث مرات فلربما غيّر رأيه«

أعرف شخصاً فقيراً جداً لا يستطيع شراء ملابس لأولاده إلا مرة واحدة كل سبع سنوات« كما أنه قضى ستة عشر عاماً  في بناء منزل له حيث انه كلما وجد بعض المال اشترى بعض الاحجار وتابع البناء، لقد وجدته في بعض المرات يفكر جدياً بشراء كاميرا  آلة تصوير بالفيديوî لكي يراقب الذين يمرون بالقرب من منزله   وهذا ما لم يفعله أكبر الأغنياء في مناطقنا«

إننا نضحك على هذا الإنسان ولكننا للأسف نرتكب نفس أخطائه، ومن شواهد ذلك ـ في مدى القرنين الماضيين ـ اننا نجد أناساً يتظاهرون لمصلحة الحرية والعدالة في وجه الاستعمار فيجتمعون في مكان عام ثم لا يلبث أن يحدث تلاسن بين شخصين من محلتين مختلفتين، وسرعان ما يتطور إلى عراك بالأيدي بين العشيرتين وبذلك يسقط القتلى والجرحى بين صفوف الناس ثم يتفرقون وينسون القضية التي تجمعوا من أجلها«

وهذا ما يفعله الآن بعض الناس الذين لا نشك في إخلاص بعضهم وطيبتهم ـ حيث أن المخابرات المركزية الأمريكية والإسرائيلية ـ والتي تعد الدراسات والتقارير بالآلاف يومياً من أجل دراسة كل نقاط الضعف في المسلمين من أجل تعميق الخلاف والتحاقد بينهم ـ تعمل جاهدة على إشغالنا ببعضنا البعض وإثارة الخلافات التي تؤدي إلى التقاطع بين المؤمنين، ومن ثم العداء المستحكم والتراشق بالسباب والشتائم وتضييع الوقت والجهد الذي يفترض أن يكون مخصصاً لمحاربة أمريكا وإسرائيل في ضرب بعضنا البعض، وتبقى أمريكا وإسرائيل تقهقهان علينا وعلى غبائنا«

التراشق بكلمات التكفير والخروج عن الدين والمذهب

والميزة الثانية التي تميز المجتمع المتخلف هي التراشق بكلمات التكفير والخروج عن الدين والمذهب، وهذا ما نجده واضحاً في الحركات الإسلامية المتخلفة كحركة الطالبان والوهابيين وغيرهم، فإذا اختلفوا مع بعض الناس في أفكار معينة بادروا إلى إشهار سلاح التكفير والمروق من الدين، بل ربما رأوا جواز استحلال أموال معارضيهم وأعراضهم ووجوب قتلهم، وذلك تقرباً إلى الله سبحانه وتعالى دفاعاً عن الحقيقة التي هي واضحة للعين وكالشمس في رابعة النهار، بينما معارضوهم ينكرون هذا الأمر الذي لا يختلف فيه إثنان، أو الأمر الذي لا شك ولا شبهة فيه، أو مما أطبق عليه العقلاء وتسالمت عليه كلمات جهابذة العلم وأساطينه، إلى غيرها من العبارات التي يستعملها أنصار المنطق الأفلاطوني«

والأمر الذي يثير الاستغراب أن هؤلاء الذين يهتمون بهذه الأمور لا نجد لهم كتاباً واحداً أو حتى مقالاً واحداً يتحدث عن أخطر عدو للمسلمين ألا وهو الشيطان الأكبر  الولايات المتحدة الأمريكيةî التي تدير غرفة عمليات الحرب على الإسلام  في العالم في كل مكان وزمان، حيث تقوم سفاراتها في مختلف مناطق العالم بطبع الكتب المشبوهة ونشر الاشاعات والفتن، وإرسال وتدريب الضباط الذين يمارسون مهمة قمع الشعوب وخنق حريتها واختراق الدول الأخرى من أجل توظيف عملائها رؤساء ووزراء ونواب«

وإذا كان من وسائلهم في الستينيات طبع كتاب  الوهابية في فتاوى الحكيمî بأعداد هائلة فإننا لا نعرف حجم عملهم في التسعينيات في مواجهة الاتجاه الحركي الواعي الذي يمثله العلماء والمراجع الطليعيون، والله وحده يعلم حجم الخطط والعمليات التي تديرها المخابرات المركزية في الحرب على الإسلام ومواجهة الصحوة الإسلامية«

وانه لمن المؤسف أن يقوم البعض ـ عن حسن نية ـ بتقديم خدمات مجانية للمخابرات، واننا في ذلك نشبه إلى حد بعيد أولئك الذين ظلُّوا يتنازعون حول جنس الملائكة أهم ذكور أم أناث؟ والفاتح يدق الباب حتى اجتاح المدينة«

وإنني في الواقع أعذر بعض هؤلاء لأنهم يعيشون في غياهب الكتب التي تمثل القرون الماضية، ولم يسمحوا لأنفسهم يوماً بالإطلاع على نشاط المخابرات  في العالم والخطط الاستكبارية لإسقاط الإسلام« فهم يتصورون أن المخابرات المركزية الأمريكية لا يتعدى نشاطها الأراضي الأمريكية، وهي في شغل شاغل عنا ولم يدروا أننا المادة الدسمة المفضلة لدى الأمريكيين«

وهنا أحب أن أؤكد أن القائمين على الحركة الإسلامية لم يتعرضوا لهذا الأمر بتاتاً لا في محاضراتهم ولا في كتبهم، وإنما كان حديثاً في جلسة خاصة« وقد شاءت الظروف أن يقع الشريط في أيدي المخابرات التي استفادت كثيراً من جهل البعض ومن حقد الآخرين وحسدهم، فقاموا بتقطيع الشريط وأخذ عبارات مجتزأة منه ـ وهناك أناس مختصون بهذا الفن ـ وأخذوا يصولون ويجولون واتخذوا من ذلك مادة للتشهير والتهويل والتهويش، وأصبحوا يغضون الطرف عمن ينكر وجود الله أو النبوة، فالحديث عن الضلع يمثل مساساً بحقائق الدين وثوابته وإنكاراً لما تسالم عليه  ملاليî المذهب وخطباؤه« وعلماً بأنه لا أحد من المراجع يتبنى ما يقوله قراء العزاء     «

وهذا ما اضطرني للرد ـ بمقدار الضرورة ـ وإلا فإن الدخول في هذه المساجلات ليس له نهاية محددة كما أنه يخدم أغراض المستكبرين من جهة أخرى«

أما أنه ليس له نهاية محددة، فذلك لأن هذه البحوث لا تبتعد عن الجدل العقلاني، ومن الجدير ذكره ان المتجادلين العقلانيين يتصارعون بسلاح الأدلة العقلية، أو الأقيسة المنطقية، مثلما يتصارع المتحاربون بأسلحتهم المادية« فكل فريق منهم يريد التغلب على خصمه بسلاحه« ولكن هناك فرقاً بين صراع الأسلحة المادية وصراع الأدلة العقلية« فالأول منهما ينتهي عادة عند حد معين وذلك عندما ينهزم الخصم من ساحة المعركة أو يسقط قتيلاً، أما صراع الأدلة العقلية فهو لا ينتهي عند حد معين، لأن الجدال مهما طال بين فريقين ظل كل منهما معتقداً بأن الحق معه وأن الباطل مع خصمه بدليل النقل والعقل«

وأما أن الإيغال في مثل هذه الأمور يخدم أغراض المستكبرين فلأنهم يريدون إشعال التحاقد بين المؤمنين وإلهاءهم عن القضايا الكبرى«

المقدمة الثانية  من المعروف لدى علماء الأصول أن هناك اتجاهين أصوليين في مسألة قبول الروايات والأخبار التي تتحدث عن المسائل التاريخية والكرامات والمعاجز وأمور الثواب والعقاب، فصاحب الكفاية ـ على حسب رأيه ـ لا يرى ثبوت الحجية لتلك الأخبار حتى لو أفادت الظن، وذلك لأنها لا يترتب عليها أثر شرعي، بينما على رأي السيد الخوئي يجوز الإخبار بها إذا كانت من الظنون الخاصة كخبر الواحد الذي لم يصل إلى حد التواتر، حيث قال موضحاً ذلك البحث 

 وأما الظن المتعلق بالأمور التكوينية أو التاريخية، كالظن بأن تحت الأرض كذا أو فوق السماء كذا، والظن بأحوال أهل القرون الماضية وكيفية حياتهم ونحو ذلك، فإن كان الظن مما لم يقم على اعتباره دليل خاص  وهو الذي نعبر عنه بالظن المطلق  فلا حجية له في المقام« والوجه فيه ظاهر« وأما إن كان من الظنون الخاصة فلا بد من التفصيل بين مسلكنا ومسلك صاحب الكفاية  رحمه الله  فإنه على مسلكنا من أن معنى الحجية جعل غير العلم علماً بالتعبد يكون الظن المذكور حجة باعتبار أثر واحد وهو جواز الاخبار بمتعلقه، فإذا قام ظن خاص على قضية تاريخية أو تكوينية، جاز لنا الإخبار بتلك القضية بمقتضى حجية الظن المذكور، لأن جواز الاخبار عن الشيء منوط بالعلم به، وقد علمنا به بالتعبد الشرعي« وهذا بخلاف مسلك صاحب الكفاية  ر ه  فإن جعل الحجية لشيء بمعنى كونه منجزاً ومعذراً لا يعقل إلا فيما إذا كان لمؤداه أثر شرعي وهو منتفٍ في المقام، إذ لا يكون أثر شرعي للموجودات الخارجية ولا للقضايا التاريخية ليكون الظن منجزاً ومعذراً بالنسبة إليه« وأما جواز الإخبار عن شيء فهو من آثار العلم به لا من آثار المعلوم بوجوده الواقعي« لذا لا يجوز الإخبار عن شيء مع عدم العلم به ولو كان ثابتاً في الواقع، كما أن الأمر في القضاء كذلك، فإن الناجي من القضاة هو الذي يحكم بالحق ويعلم انه الحق« وأما الذي يحكم بالحق وهو لا يعلم أنه الحق فهو من الهالكين، كالذي يحكم بغير الحق سواء علم بأنه غير الحق، أو لم يعلم على ما في الرواية«

وظهر بما ذكرناه أنه ـ على مسلك صاحب الكفاية  ره  ـ لا يجوز الإخبار البتّي بما في الروايات من الثواب على المستحبات أو الواجبات، بأن نقول  من صام في رجب مثلاً كان له كذا  بل لا بد من نَصب قرينة دالة على أنه مروي عنهم  ع   بأن نقول مثلاً روي أنه  من صام في رجب كان له كذا î   «

وعلى هذا الأساس فإن العلماء الذين يسلكون مسلك صاحب الكفاية لا يمكنهم الإخبار البتي عن الأمور التاريخية وتفاصيلها بشكل قاطع ما لم يصل الأمر إلى حد التواتر، ومن المعلوم أن دعوى التواتر ليست سهلة على العالم المحقق، فهو أمر يحتاج إلى تتبع الرواة في الطبقات واحراز امتناع اتفاقهم على الكذب لا أن يجد رواية في كتاب سُليم بن قيس أو غيره ثم تأتي المصادر المتأخرة ـ التي هي بالعشرات ـ لتنقل عن هذا الكتاب هذه الرواية ثم يأتي شخص فيقول إن الحديث متواتر

المقدمة الثالثة  لماذا لم يؤلف أحد طيلة هذه العهود كتاباً خاصاً، ويرد فيه على السيد عبد الحسين شرف الدين أو الشيخ كاشف الغطاء أو الشيخ المفيد أو السيد هاشم معروف الحسني    أو الميرزا محسن الفضلي    وغيرهم، ولماذا بدأ الحديث عن التكليف الشرعي الآن، ولو فرضنا أن الإمام الخميني  قده  كان من مؤيدي كاشف الغطاء فهل يرد عليه هذا الباحث أم أنه يلوذ بالصمت؟

تساؤلات مطروحة

وهنا يمكن أن نطرح بعض التساؤلات، فلماذا لم يهاجم هذا الكاتب السيد هاشم معروف الحسني الذي أورد في خاتمة باب الكلمات القصار للإمام زين العابدين  ع  هذا المقطع   ويروي الرواة أن جماعة من أهل العراق دخلوا على الإمام علي بن الحسين  ع  وذكروا أبا بكر وعمر وعثمان بسوء ونالوا منهم، فقال لهم  ألا تخبروني من أنتم، أنتم من المهاجرين الأولين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون قالوا  لا، قال  أفأنتم من الذين تبوّؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، فقالوا  لا، فقال  أما أنتم فقد تبرأتم من أن تكونوا من هذين الفريقين وأنا أشهد أنكم لستم من الذين قال الله في حقهم، والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولأخواننا الذين سبقونا بالايمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا اخرجوا عني فلا بارك الله فيكمî    «

ولماذا لا يرد على الشيخ محمد جواد مغنية الذي يقول   ويكفي من النبوة الإيمان بأن محمداً أيضاً  ص ، رسول من الله صادق فيما أخبر به، معصوم في تبليغ الأحكام، فإن الرسول قد يخبر عن الشيء بصفته الدينية المحصنة أي كونه رسولاً مبلغاً عن الله تعالى، وقد يخبر عنه بصفته الشخصية، أي كونه إنساناً من البشر، فما كان من النوع الأول يجب التعبد به، وما كان من النوع الثاني فلا يجب« أما التصديق والإيمان بأن النبي كان يسمع ويرى وهو نائم، كما يسمع ويرى وهو مستيقظ، وأنه يرى من خلفه كما يرى من أمامه، وأنه عالم بجميع اللغات، وأنه أول من تنشق عنه الأرض، فليس من ضروريات الدين ولا المذهبî    «

ولماذا لم يهاجم الشهيد الثاني الذي احتمل ـ كما في رسالة الإيمان والكفر  تحفة الغريî للسيد محمد البروجردي ـ الإكتفاء في الإيمان بالتصديق بإمامة الأئمة  ع  والاعتقاد بفرض طاعتهم، وإن خلا عن التصديق بالعصمة عن الخطأ« وادعى  أن ذلك هو الذي يظهر من جل رواتهم وشيعتهم، فإنهم كانوا يعتقدون أنهم  ع  علماء أبرار، افترض الله طاعتهم، مع عدم اعتقادهم العصمة فيهم، وأنهم  ع  مع ذلك كانوا يحكمون بإيمانهم وعدالتهم ـ قال ـ   وفي كتاب أبي عمرو الكشي جملة من ذلكî    «

ولماذا لا يردُّ على السيد الخوئي  قده  الذي يقول  ومن هنا يُحكم بإسلام الأولين الغاصبين لحق أمير المؤمنين  ع  ظاهراً لعدم نصبهم ـ ظاهراً ـ عداوة لأهل البيت وإنما نازعوهم في تحصيل المقام والرياسة العامةî    حيث نرى أن هذا القول الذي صدر من السيد الخوئي  قده  لم يثر التكليف الشرعي لصاحبنا، ولكنه أثار غضب مقرر بحث السيد الخوئي حيث قال   ومن الغريب ما عن سيدنا الأستاذ ـ على ما في التقرير ـ  ثم أورد العبارة الآنفة الذكر وقال 

 فإنا نسأل من سيدنا الأستاذ أي عداوة أعظم من الهجوم إلى دار الصديقة واحراق بابها وضرب الطاهرة الزكية وإسقاط ما في بطنها«««î     إلى آخر كلامه«

وقد نسي صاحبنا أن السيد الخوئي لا يعتمد في تحقيقاته الفقهية على ما يسمعه من قراء العزاء ـ علماً بأن السيد الخوئي لم يحكم بصحة رواية كسر الضلع عندما سئل عن صحتها كما في صراط النجاة ج  ص     بل عبر عنها بالمشهورة ـ«

وعلى كل حال فإننا ننتظر كتاباً خاصاً في الرد على السيد الخوئي يتناول فيه إسلام الأولين ويثبت كفرهما على أن لا يتعرض للسيد الخوئي بسوء  قل إن شاء الله «

والحاصل أنّ كل هذه الأمور وغيرها مما صدر من أعاظم علماء الامامية لم تثر التكليف الشرعي عند صاحب كتاب المأساة ولم تعطه المبرر لاتهامهم بالخروج عن حقائق الدين أو المذهب، وأما عدم الجزم بكل ما يقوله قراء العزاء حول ما جرى للزهراء  ع  فهذا خروج عن حقائق الدين وثوابته   تلك قسمة ضيزى«

التشكيك في خبر المسمار

ومن الغريب أن هذا الباحث شكك في الخبر الذي يقول بأن المسمار نبت في صدر الزهراء  ع  حيث يقول ما نصه  ونحن لا نستطيع تأكيد أو نفي هذا الأمرî  المأساة ج  ص     «

والمفارقة هنا ان هذا الباحث عندما يتعرض في كتابه لمسألة الشطرنج وفتوى الإمام الخميني  قده  فيها فإنه يحاول أن يطبق المنطق الأرسطي    حيث يعرض الفتوى معلقة في الهواء فيقول إنَّ الإمام الخميني  قده  جعل المسألة شرطية، وهي وإن كانت كذلك، لكن كل من يعيش في إيران ويقرأ الجرائد هناك يسمع أخبار المسابقات المحلية والدولية في لعبة الشطرنج التي يشترك فيها الإيرانيون مع موافقة المسؤولين هناك، فإذا كان المسؤولون في إيران فهموا الإباحة من فتوى الإمام فلماذا لم يردعهم الإمام أو غيره ويقول لهم إن موضوع القضية الشرطية لم يتحقق بعد؟«

والملفت هنا أنه لم يعتبر الإمام الخميني مخالفاً للمشهور حيث أن المشهور يرى الحرمة حتى مع الخروج عن القمارية، كما أنه لم يشر من قريب أو بعيد إلى رأي السيد الخوانساري ـ صاحب جامع المدارك والذي لا يشترط الخروج عن القمارية كما أن له عشرات المسائل التي خالف فيها المشهور كما سوف نفصّله في كتاب خاص ـ الذي استعان به الإمام الخميني في مواجهة حملة الملالي ـ بحسب تعبير الإمام رضوان الله عليه ـ  ريادة الفقه الاسلامي، ص    «

وعندما يقال له إن السيد الحكيم  قده  هو أول المراجع الذين أفتوا بطهارة الكتابي فإنه يقرأ هذه الكلمة بشكل مقلوب، ولا يدري أن المتحدث يتكلم عن الواقع المرجعي الذي بدأ منذ عهد الشهيد الأول  قده  ولا يتحدث عن معالجات العلماء القدامى في كتبهم الاستدلالية، فالسيد الحكيم هو أول مرجع يفتى فتوى حاسمة بطهارة أهل الكتاب   ، كما أنه في طريقة كلامه يوحي بأن الآخر يستدل على فتاواه بأقوال العلماء، وهذه حيلة من يعجز عن مناقشة الأدلة«

المقدمة الرابعة  ـ  التكليف الشرعي ونزعة التبرير

يلاحظ الانسان وجود عادة سيئة تكثر في أوساط التيارات الإسلامية المختلفة وربما حتى الجهادية منها، وخلاصة هذه العادة أنا نجد بعض المؤمنين يغتاب الآخرين ويبهتهم  البهتان ذكرك أخاك بما ليس فيه  ويشتمهم ويحقد عليهم«

وعندما يقال لهم  كيف تمارسون هذا العمل وهو حرام في الشريعة الإسلامية، فإنهم يجيبون بأن ما يفعلونه ليس محرماً وإنما هو  تكليفهم الشرعي، فعملهم من وجهة نظرهم جائز بل هو واجب«

ولو وسعنا الدائرة لوجدنا بعض الناس يستحل الأموال العامة للأمة ويسرقها  الكهرباء ـ الماء  وعندما يقال له  إن الفقهاء يحرمون السرقة، فإنه يجيبك بأن هذه الدولة ظالمة ولذلك يجوز استنقاذ المال منها، وهكذا تكون أموال الآخرين الذين لا يلتقون معنا في الدين أو المذهب حلالاً أيضاً«

والطريف هنا ما نقل أن بعضهم اعتدى على أعراض بعض المسيحيات معللاً ذلك بأنه وضع يده عليها وبذلك تصبح ملك يمين

وعند بسط الكلام حول هذه النقطة، لا بد من دراسة كلمات علماء النفس الذين يستطيعون أن يضعوا أيديهم على جذور المشكلة فنقول

اعتاد العلماء القدامى  في نظرتهم إلى الإنسان أن يعتبروه مكوناً من ذات واحدة هي التي يشير إليها الإنسان بكلمة  أناî، ولكن هذا الرأي قد تبين خطؤه حيث انا نجد الإنسان كثيراً ما يعاتب نفسه ويخاطبها ويتحدث إليها وربما عاقبها، فكيف يكون ذاتاً واحدة، وعليه لا بد أن تكون هناك أكثر من ذات«

وقد اعتبر هؤلاء العلماء ـ في نظريتهم هذه التي لا نعلم مدى دقتها ـ أن الإنسان مكون من ثلاث ذوات

الذات الحيوانية، والذات البشرية، والذات المثالية«

وهذه الذوات الثلاث قابعة في كل واحد منا حيث يصح أن نقول إن كل واحد منا يمثل ساحة للمعركة بين هذه الذوات الثلاث«

ومن أهم ما يميز الذات الحيوانية  أو صوت الشيطان كما في بعض الروايات  أنها لا شعورية، ويغلب عليها طابع اللذة والألم، فهي تهرب من الألم أو عندما تتعرض للخطر، وتندفع اندفاعاً شديداً نحو اللذة، وهي في هذا لا تعرف الحلال والحرام أو الشروط والقيود«

وهذه الذات تحاول دائماً أن تجر الإنسان إلى أسفل السافلين«

وأما الذات البشرية فهي شعورية واعية، ولكنها ليست مثالية، إنها تشعر بقيود المجتمع وتحاول مراعاتها ويغلب عليها النفاق والمراوغة، فهي لا تحب أن تسرق، مثلاً، أو تقتل لأنها تخشى  الاحتقار الإجتماعي أو تخشى الشرطة والعقاب« ولا تكاد تجد الفرصة المناسبة التي تأمن فيها الاحتقار أو العقاب حتى تندفع وراء الذات الحيوانية اندفاعاً شديداً«

إن الذات البشرية تفهم الحساب والعقاب أكثر مما تفهم المثل العليا، ولولا الذات المثالية التي تراقبها لصارت مطية للطبيعة الحيوانية الكامنة في أعماق النفس«

وأما الذات المثالية  والتي أحب أن أصطلح عليها بشرطي الداخل  وهي التي تسمى في بعض الروايات  صوت الملك  وفي العرف الاجتماعي الضمير، فهي القوة الرادعة في داخل الإنسان حيث  تقوم مهمتها في تحسين الفضائل وتقبيح الرذائل«

وقد كان القدماء يصفون الضمير بأنه  الصوت الإلهي في الإنسانî، وهذا وصف غير دقيق« فالضمير يستمد جذوره من العقائد والتقاليد والقيم الإجتماعية التي ينشأ فيها الإنسان«

إن الضمير نسبي إذن« وهو يتلوّن بلون المجتمع« وهو قد يدفع الإنسان أحياناً إلى القسوة والظلم، إذا كانت القيم الإجتماعية مؤيدة لهما« ويحدث هذا عادة في الحرب وفي التعصب الديني والقومي والطائفي«

إن الضمير صوت المجتمع لا صوت الله« والفرق بين الصوتين كبير« فالله رب الناس جميعاً، وهو رؤوف بهم من غير استثناء« أما المجتمع فهو يفضل أبناءه على غيرهم، وهو لا يبالي بنهب الأموال وسفك الدماء إذا كان ذلك موجهاً ضد الأعداء«

وكما أن سلطة الضمير تختلف من مجتمع لآخر فإنها تختلف من شخص لآخر، ولكنها لا تنعدم كلياً في الإنسان مهما كان شريراً«

ومن الجدير ذكره، أن هذا الشرطي  الضميرî يظل يقظاً حتى في حالة النوم، ولكن سلطته تكون ضعيفة، وبذلك تبقى الذات الحيوانية تسرح وتمرح في النوم، حيث يجد الإنسان نفسه يرتكب كثيراً من الأمور القبيحة التي لا يفعلها في اليقظة، ولكنها ـ رغم كل ذلك ـ لا تستطيع أن تتجاوز كل الخطوط الحمر حيث تبقى  بعض المواقع في سلطة الضمير، فقد يجد الإنسان نفسه سارقاً في النوم ولكنه لا يكون قاتلاً مثلاً«

وقد ذكرنا فيما مضى  أن الذات البشرية شعورية بينما الذات الحيوانية لا شعورية« وهنا يذكر العلماء أن الذات المثالية تقف وسطاً بين تينك الذاتين، فهي شعورية من جانب ولا شعورية من الجانب الآخر«

ويمكن تشبيه الذات المثالية بالحارس الذي يقف على حافة اللاشعور، فهي تمنع الحوافز المنكرة، من الظهور إلى الشعور بينما تسمح للحوافز الأخرى  بالمرور«

ومشكلة هذا الحارس أنه ليس بالحارس الصارم حيث يمكن رشوته في بعض الأحيان أو خداعه بطريقة وبأخرى ، وبذلك يمكن للحوافز الشريرة أن تتنكر بلباس الحوافز الخيرة وتستطيع المرور دون أن يلتفت إليها الضمير«

وهذا ما يصطلح عليه علماء النفس بالتبرير، وهي عملية لا تعدو أن تكون خداعاً للنفس حيث يخدع الإنسان فيها نفسه ويكذب ويضحك عليها ويصدق الإنسان فيها نفسه«

وهذا من أغرب غرائب النفس البشرية، لأننا اعتدنا على أن يقوم الإنسان بالكذب على الآخرين وخداعهم، ولكننا لم نعتد على أن يقوم الإنسان بالكذب على نفسه  جانب اللاشعور على الشعور  وخداعها«

وقد أكد الشهيد مرتضى مطهري هذه الفكرة حيث قال   أثبتت العلوم اليوم أن للإنسان لونين من الوعي  أحدهما ظاهر والآخر مغفول عنه، والأول يكون الانسان ملتفتاً إليه بخلاف الثاني فشعوره الظاهريّ غير مدرك له«

ويعتقد علماء التحليل النفسيّ اليوم أن معظم شعور الانسان هو ذلك الشعور الذي يكون غافلاً عنه، والباقي وهو الأقلّ هو الذي يكون الإنسان ملتفتاً إليه«

ولو قمنا بعمليّة مراجعة لأعماقنا واستبطان لمحتويات ضميرنا لعثرنا على جانب من الأحاسيس والمشاعر والمعلومات والرغبات ومشاعر الحبّ والبغض وما هو من هذا القبيل، ثمّ يسبق إلى وهمنا أنه لا يوجد فيها شيء غير هذه الأمور، بينما في الواقع توجد معلومات ومدركات ومشاعر ورغبات أخرى كثيرة مترسّبة في أعماق الروح ونحن عنها غافلون، أي أن القسم الأعظم من روحي ـ أنا الذي أتحدث إليكم الآن ـ هو مخفيّ عنّي، والجانب الأكبر من أرواحكم ـ أنتم الذين تقرأون كتابي ـ هو مخفيّ عنكم«

ولتقريب هذا الموضوع إلى الذهن يذكرون مثالاً فيقولون لو ألقيت ببطيخة في الماء فإن القسم الذي يبقى خارج الماء ضئيل جدّاً وأما القسم الأعظم فهو غاطس في الماء، وكذا إذا سقطت في الماء قطعة كبيرة من الثلج فإن القسم الأكبر منها يغطس في الماء« وبمثل هذه النسبة ـ ولعلها نسبة تسعة أعشار إلى عشر واحد ـ يكون التفاوت بين الوعي المخفيّ والوعي الظاهرî   «

وقد يصح أن يقال هنا إن الجانب الشعوري الذي يقع تحت بصرنا لا يمثل إلا أمتاراً محدودة من الطبيعة البشرية بينما الجانب اللاشعوري يمثل كيلومترات بعيدة لا يصل إليها بصرنا حيث تبقى تلك المناطق بعيدة عن مجال الرؤية والإستكشاف، ولكنها تملي علينا تصرفاتنا من دون أن نشعر«

فأنت عندما تجلس مع إنسان وتتحاور معه وتختلف معه وتصرخ في وجهه تجد أن جزءك الشعوري  العقل الظاهرî يقول لك إن السبب في هذا الخلاف هو أن أفكار الخصم غير صحيحة، ولكنك عندما تسبر أغوار النفس وتحاول النزول إلى منطقة اللاشعور المترامية الأطراف، فإنك قد تجد أن السبب هو أن خصمك لم يكن حسن الهيئة أو المنظر، أو أنه كان شخصاً فقيراً، ولو كان غنياً أو جميلاً لما اختلفت معه«

وهناك قصة يتداولها العلماء ـ ولا نعرف مدى  صحتها ـ حيث نقل أن الشيخ ميثم البحراني ـ وهو من العلماء الكبار ـ كان قد استدعي لزيارة علمية في النجف، فذهب إلى هناك لابساً الثياب العادية ولم يعلن عن هويته، فدخل مجلساً علمياً ولما امتد به المجلس طرح عدة مسائل عميقة ذات تحقيقات عالية، ولكن الحضور لم تعجبهم تلك الأفكار وبدأوا يحتقرونها، وأسرّها الشيخ في نفسه«

ولكنه ما لبث أن لبس الملابس الجميلة ودخل أحد المجالس العلمية معلناً عن هويته، وطرح فيه مسائل تافهة في وجهة نظره، ولكنها في وجهة نظر الحضور تحقيقات عالية جداً   «

وقد نقل المرحوم الشهيد دستغيب قصة تعكس هذه الفكرة، حيث قال إنه كان هناك شخصٌ يصلي صلاة الجماعة ثلاثين سنة في الصف الأمامي، وفي يوم ما اضطر للتأخر في الصفوف الخلفية فوجد شيئاً في نفسه، وقد اكتشف بعد طول هذه المدة أنه لم يكن يصلي مائة بالمائة لله، بل من أجل أن يكون في عداد أهل الفضل والعلم الذين يصلّون في الخط الأمامي مما جعله يعيد صلاته طيلة هذه المدة«

إن صاحبنا هذا كان جزؤه الشعوري يقنعه بأنه يصلي لله ولكن جزءه اللاشعوري الذي يتحكم فيه من بعيد له رأي آخر«

وقد أوضح الشهيد الثاني ـ رحمه الله ـ في أحد أبحاثه أن الكثير من طلبة العلوم الدينية يتصورون أنهم سلكوا هذا الخط من أجل نشر دين الله والنضال عن الشرع ولكن الباعث الحقيقي هو طلب المال أو الشهرة وما إلى ذلك، حيث يقول   ولو فكر الانسان في نفسه وفتش عن حقيقة عمله لوجد الإخلاص فيه قليلاً وشوائب الفساد إليه متوجهة والقواطع عليه متراكمة، سيما المتصف بالعلم وطالبه، فإن الباعث الأكثري ـ سيما في الابتداء لباغي العلم ـ طلب الجاه والمال والشهرة وانتشار الصيت ولذة الاستيلاء والفرح بالاستتباع واستيثار الحمد والثناء، وربما يلبس عليهم الشيطان مع ذلك ويقول لهم غرضكم نشر دين الله والنضال عن الشرع الذي شرعه رسول الله  ص «

والمظهر لهذه المقاصد يتبين عند ظهور أحد من الأقران أكثر علماً منه وأحسن حالاً بحيث يصرف الناس عنه، فلينظر حينئذ فإن كان حاله مع الموقر له والمعتقد لفضله أحسن وهو له أكثر احتراماً وبلقائه أشد استبشاراً من يميل إلى غيره مع كون ذلك الغير مستحقاً للموالاة فهو مغرور وعن دينه مخدوع وهو لا يدري كيف، وربما انتهى الأمر بأهل العلم إلى أن يتغايروا تغاير النساء فيشق على أحدهم أن يختلف بعض تلامذته إلى غيره وإن كان يعلم أنه منتفع بغيره ومستفيد منه في دينه«

وهذا رشح الصفات المهلكة المستكنة في سر القلب التي يظن العالم النجاة منها وهو مغرور في ذلك، وإنما ينكشف بهذه العلامات ونحوها«

ولو كان الباعث له على العلم هو الدين لكان إذا ظهر غيره شريكاً أو مستبداً أو معيناً على التعليم يشكر الله تعالى إذ كفاه وأعانه على هذا المهم بغيره وكثر أوتاد الأرض ومرشدي الخلق ومعلميهم دين الله ومحيي سنن المرسلينî ثم يقول

 وبالجملة فمعرفة حقيقة الاخلاص والعمل به بحر عميق يغرق فيه الجميع إلا الشاذ النادر المستثنى في قوله تعالى  إلا عبادك منهم المخلصين  فليكن العبد شديد التفقد والمراقبة لهذه الدقائق وإلا التحق باتباع الشياطين وهو لا يشعرî   «

وقد أشار الشيخ مرتضى الأنصاري في أحد أبحاثه إلى تأثير الجانب اللاشعوري في حياة الإنسان، فقد ذكر أن كثيراً من الذين يبكون على الإمام الحسين في مجالس العزاء يتصورون أنهم يبكون لأجله، ولكنهم في واقع الأمر يبكون على المشاكل النفسية التي تعتلج في نفوسهم أو الشهوات التي فاتتهم، وعندما يجدون الناس يبكون فإنها تكون الفرصة المناسبة لتفريغ هذا الحزن، أو على حد تعبيره قدس سره  على ما هو المركوز في النفس الحيوانية من فقد المشتهيات النفسانية لا على ما أصاب سادات الزمانî«

ولعل من أبرز العلماء الذين كانوا يدققون في هذا الأمر كثيراً المرحوم الشهيد السيد محمد باقر الصدر حيث كان يحاول دائماً النزول إلى أعماق أعماق روحه وتفتيش زواياها الكثيرة حيث يتأكّد من سلامة نيّته محقّقاً حديث  المؤمن ظنون بنفسهî« فقد ذكر في محاضرة  المحنة  محاولاً استكناه روحه واستطلاع الجانب اللاشعوري

 إني أنا الآن أشعر بألم شديد   لأن العراق مهدد بخطر الشيوعية لكن هل أني سوف أشعر بنفس هذا الألم، وبنفس هذه الدرجة لو أن هذا الخطر وُجِّه إلى إيران بدلاً من العراق، لو وُجِّه إلى باكستان بدلاً عن العراق وإيران لو وجه إلى أي بلدٍ آخر من بلاد المسلمين الكبرى بدلاً عن هذه البلاد هل سوف أشعر بنفس الألم أو لا أشعر بنفس الألم؟ أوجّه هذا السؤال إلى نفسي حتى امتحن نفسي لأرى إن هذا الألم الذي أعيشه لأجل تغلغل الشيوعية في العراق هل هو لأجل خبز سوف ينقطع عنّي؟ 

أو لمقام شخصي سوف يتهدم؟    أو لكيان سوف يضيع؟ 

لأن مصالحي الشخصية مرتبطة بالإسلام إلى حدٍّ ما، فهل أن ألمي لأجل أن هذه المصالح الشخصية أصبحت في خطر؟؟ إذا كان هكذا إذن فسوف يكون ألمي للشيوعية في العراق أشد من ألمي للشيوعية في إيران أو أشدّ من ألمي للشيوعية في باكستان، وأما إذا كان ألمي لله تعالى إذا كان ألمي لأني أريد أن يعبد الله في الأرض وأريد أن لا يخرج الناس من أن يعبد الله في الأرض وأريد أن لا يخرج الناس من دين الله أفواجاً فحينئذ سوف ارتفع عن حدود العراق وإيران وباكستان، سوف أعيش لمصالح الإسلام، سوف اتفاعل مع الأخطار التي تهدد الإسلام بدرجة واحدة دون فرق بين العراق وإيران وباكستان وبين أرجاء العالم الإسلامي الأخرى   «

وهكذا نجده ـ رحمه الله ـ يقول حينما انتشر كتاب فلسفتنا   إني حينما طبعت هذا الكتاب لم أكن أعرف أنه سيكون له هذا الصيت العظيم في العالم والدوي الكبير في المجتمعات البشرية مما يؤدي إلى اشتهار من ينسب إليه الكتاب وأنا أفكر أحياناً أني لو كنت مطلعاً على ذلك وعلى مدى  تأثيره في إعلاء شأن مؤلفه لدى الناس فهل كنت مستعداً لطبعه باسم جماعة العلماء وليس باسمي كما كنت مستعداً لذلك أولاً؟ وأكاد أبكي خشية إني لو كنت مطلعاً على ذلك لم أكن أستعد لطبعه بغير إسميî   «

وقد نقل أن هناك تاجراً في النجف كان يريد أن يستغني عن التقليد فدرس حتى وصل إلى مرتبة الإجتهاد فتجمع حوله الكثيرون الذين أعجبوا بأفكاره العالية ووجدوا أن تكليفهم الشرعي دعم هذه المرجعية ولم يعلموا أن تكليفهم الجيبي قد يكون وراء ذلك«

وربما وقع كاتب هذه السطور ـ من حيث يدري أو لا يدري ـ في هذا الإشكال، فقد حدث ذات مرة أن كتبت ـ في مواجهة بعض الملائية ـ عدة مقالات فكرية، وانتشرت بشكل واسع في أوساط الشباب الجامعي، مما أغضب هؤلاء ودفعهم إلى تشكيل جماعات لتمزيق تلك المقالات بعد جمعها من الناس، وذلك لأنهم لم يستطيعوا الرد عليها أو لأنها كانت في وجهة نظرهم تسبب البلبلة«

وقد كنت سعيداً عندما شعرت أن الفكر الإسلامي الأصيل الذي يمثله تيار الشهيد مطهري والصدر ومغنية وغيرهم من المفكرين قد بدأ ينتشر في أوساط الشباب، ولكني وبعد عدة سنوات حاولت النزول إلى أعماق روحي ومحاولة توجيه التهم إليها، فلربما كان الدافع من وراء ذلك بالإضافة إلى نشر الفكر الإسلامي إسقاط هؤلاء المؤمنين وإبعاد الناس عنهم وتجميعهم حولي  ومن ينطق لساني إذا خلوت بعملي، وسألتني عمّا أنت أعلم به منّيî  مصباح الكفعمي، ص    «

وقد يصح أن  يقال إن كل واحد منا يجب أن يقوم بعملية مداهمة لروحه بين فترة وأخرى ومحاولة تفتيشها والإطلاع على خفاياها، وكتابة التقارير عنها تماماً كما نكتب التقارير في مراقبة الأعداء«

وهذا ما تدعونا إليه توجيهات أئمة أهل البيت عليهم السلام في أدعية المناجاة حيث نجد أن عدداً كبيراً منها يحاول أن يُخرب العلاقة دائماً بين الإنسان ونفسه ويكيل التهم المختلفة إليها حتى يشعر الإنسان بأنه يحمل عدواً خبيثاً مكاراً بين جنبيه فلاحظ ما في المصباح  إلهي إن كنا مجرمين فإنا نبكي على إضاعتنا من حرمتك ما تستوجبه، وإن كنا محرومين فإنا نبكي إذ فاتنا من جودك ما نطلبهî  مصباح الكفعمي، ص     «

وما في مناجاة المنكسرين  وأرى نفسي تخادعني وأيامي تخاتلنيî  البلد الأمين، ص     «

المقدمة الخامسة  في توضيح وجهة نظر العلماء المعاصرين في المنطق الأرسطي الذي هو الطابع العام لمجمل أسلوب مفكرينا ـ وربما تأثر به كاتب هذه السطور من حيث لا يدري ونستطيع أن نختصر هذا المنطق في كلمة واحدة، وهي  منطق الحقيقة المطلقةî، حيث يلجأ فيه الإنسان إلى كلية من الكليات التي يعتبرها من الحقائق الثابتة والتي لا يختلف فيها اثنان، ثم يضع الصغرى بجانبها فتخرج النتيجة، وبذلك يصبح من حق هذ المفكر عند اكتشافه للحقيقة المطلقة أن يصدر حكمه القاطع فيها وأن يعد جميع الآراء المخالفة لحكمه غير صحيحة«

يقول د« عبد الرحمن بدوي  لكن ما هي خصائص الحقيقة؟ وهل هي مطلقة أو نسبية؟ يجيب العقليون بأن الحقيقة يجب أن تتصف بالخصائص التالية

  ـ الحقيقة يجب أن تكون واحدة بالنسبة إلى جميع العقول على السواء، ولا تتوقف على مزاج أحد«

  ـ الحقيقة يجب أن تكون كلية، أي تمتد في الزمان والمكان فلا تتوقف على لحظة من الزمان ولا على موضع من المكان« إنها صادقة في كل زمان وفي كل مكان« ومن خصائصها العميقة أنها لا تحمل تاريخاً، وما هو صادق الأمس هو صادق اليوم وسيكون صادقاً غداً«

وكما قال فرانسس برادلي  المتوفى سنة         ما يصدق مرة يصدق أبداً Once true, always trueî   «

ومن هنا نجد تفسير ظاهرة القاطعية التي أصبحت تفوح من عناوين كتابات هذا المنطق، فنجد أحدهم يؤلف كتاباً عنوانه  السيف البتار في الرد على من يقول بأن الغيم من البخارî، فهو لا يكتفي ببيان بطلان ذلك القول، بل يريد أن يشهر السيف البتار في وجه الزنديق الذي يقول بأن الغيم من البخار«

والمشكلة هنا في طواعية هذا المنطق لمختلف الآراء والمذاهب   ، خاصة إذا تعلق الأمر بالحقول الفقهية والكلامية، وهنا أذكر مثالاً صادف وجوده بين يدي، فقد حدث هناك جدل فقهي بين الفقهاء في مسألة وجوب دفع الخمس إلى المجتهد، فوجدت أحدهم يقول بأن أصل وجوب دفع الخمس معلوم، ودفعه إلى المجتهد قيد زائد نشك في وجوبه، وكل قيد زائد نشك في وجوبه تجري فيه أصاله البراءة« النتيجة  دفع الخمس إلى المجتهد غير واجب«

وأنت إذا تأملت هذا الإستدلال وجدته تاماً، ولكن الرأي الآخر كان يقول بأن الخمس واجب بلا إشكال« وبدون دفعه إلى المجتهد نشك في براءة ذمة المكلف، وكلما شككنا في فراغ الذمة يجري استصحاب الوجوب لأن الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني« النتيجة  لا تفرغ ذمة المكلف إلا بالدفع إلى المجتهد«

وهنا نذكر مثالاً حيوياً ـ مثيراً للجدل ـ على إمكانية صناعة قياس منطقي على قياس عقل الإنسان ذكره أحد الفقهاء في مقام الدفاع عن عادة التطبير وضرب الظهور بالسلاسل، حيث يقول ما نصه

 فقد تمس الحاجة إلى عملية جراحية تفضي إلى بتر عضو أو أعضاء رئيسية حفظاً لبقية البدن  وسداً لرمق الحياة الدنيوية، والحياة الدنيا بأسرها وشيكة الزوال والإضمحلال« أتباح هذه الجراحة الخطرة لفائدة ما دنيوية ولا تباح جراحة ما في إهاب الرأس لأعظمها فائدة وأجلها سعادة أخروية وحياة أبدية وفوز بمرافقة الأبرار في جنة الخلدî«

ثم أضاف  ««« أتبكي السماء والأرض، تلك الحمرة وتأتي بالدم العبيط، ولا يبكي الشيعي بالدم المهراق من جميع أعضائه وجوارحه« ولعل الإذن من الله لسمائه وأرضه أن تنزف على الحسين ما يشعر بترخيص الإنسان الشاعر لتلك المصيبة الراتبة أن ينزف من دمه ما استطاع نزفه إجلالاً وإعظاماً« وهب أنه لا دليل على الندب فلا دليل على الحرمة، مع أن الشيعي الجارح نفسه لا يعتقد بذلك الضرر« ومن كان بهذه المثابة لا يلزم بالمنع من الجرح وإن حصل له منه الضرر اتفاقاًî   «

وعند تحليل هذا الإستدلال نجده يتركب من

  ـ كل جراحة لهدف دنيوي أو أخروي مباحة  الكبرى «

  ـ التطبير جراحة لهدف أخروي  الصغرى «

  ـ التطبير مباح  النتيجةî«

وقد تكون الصغرى  أو  الكبرى  من النوع الذي لا يمكن الإقتراب منها، فقد كتب أحد الفقهاء في مقام تأييد التطبير ما نصه

 على أن الإضرار بالنفس في سبيل مواساة ذلك الإمام الشهيد مما تحمله كثير من أكابر رجال هذا الدين، ومنهم العباس ابن أمير المؤمنين عليهما السلام وهو أفضل أولاد أبيه بين أخويه الحسنين، فإنه بعد أن اخترق بسيفه صفوف أهل الكوفة ووصل المشرعة من شط الفرات، وكان قد أخذ منه العطش مأخذاً لا يوصف مد يده إلى الماء فاغترف منه غرفة، فلما أدناه من فمه ليشرب، ذكر عطش أخيه الحسين وأهل بيته، فرمى  الماء من يده وقال  يا ماء لا ذُقتك وأخي الحسين وعياله عطاشى î«

 إذن فما يمنع سائر أفراد المسلمين من قبول الضرر على أنفسهم في سبيل تلك المواساة، بعد أن قبله على نفسه ذلك الرجل الكبير أعني العباس ابن علي  عليهما السلام  وهو من لا تجهل مكانته السامية، في العلم بدين الله وأحكامه، وتمييز حلاله من حرامهî«

 وإذا حللنا هذه العبارة ورتبنا جملها حسب مقتضيات القياس المنطقي صارت على الصورة التالية

  ـ مؤاساة الشهداء حسنة  مقدمة كبرى  «

  ـ التطبير مؤاساة للشهداء  مقدمة صغرى  «

  ـ إذن فالتطبير حسن  نتيجة «

وهنا يتضح للقارىء كيف استطاع الكاتب أن يدافع عن عادة  التطبيرî باستخدام قياس أرسطو طاليسى صحيح« فأنت لا تستطيع أن تشك في صحة المقدمة الكبرى، لأن الشك فيها قد يصمك بوصمة السفسطة« وكذلك يصعب عليك أن تشك بصحة المقدمة الصغرى  لأن صاحبنا قد جاء بقصة العباس بن علي لتأييدها« والشك فيها قد يصمك بوصمة الزندقة وهذه وصمة أشنع من الأولى «

وصار من الواجب عليك إذن أن تقبل بصحة النتيجة وتسلم أمرك إلى اللهî   «

وإذا تتبع الإنسان مفردات العقل الفقهي فإنه يجد شواهد كثيرة خاصة في مجال المخترعات العلمية الحديثة، فعندما دخل الراديو لأول مرة في مجتمعاتنا كانت فتاوى التحريم تنهال عليه من كل صوب وحدب« باعتباره آلة لترويج الفساد والفجور، وكل ما يؤدي إلى الفجور فهو حرام« فالراديو حرام«

وهكذا جوبه التلفاز بسيل من فتاوى  الحرمة، ولكن سرعان ما تراجعت تلك الفتاوى بعد أن ارتطمت بالواقع العالمي المعاصر الذي يركض بسرعة ويبتكر في كل حين وسائل اتصال جديدة، فأصبحت الفتاوى  الآن تنصب حول  اللاقطî والكمبيوتر  شبكات الانترنتî التي أصبح الدليل على حرمتها أنها تروج الصور الخلاعية والثقافة الإباحية« وعليه فلا بد من منع تداولها   «

وفي الواقع فإن مثل هذا التفكير يشابه إلى حد كبير تفكير ذلك المؤلف الذي ألف كتاباً في أوائل هذا القرن عندما بدأ ظهور المدارس وتعليم النساء، وكان عنوان الكتاب  الإصابة في منع النساء من الكتابةî، وكان دليله أن المرأة إذا تعلمت القراءة والكتابة سوف تبدأ بكتابة رسائل الغرام ومن ثم يشيع الفساد والزنا، وعليه فلا بد من حسم مادة الفساد باقتلاعها من أصلها«

والآن، ونحن نتطلع إلى مثل هذا المنطق فإننا نضحك عليه، ولكن ليعلم القارىء إن الرأي العام في ذلك الوقت كان يفكر بهذه الطريقة، ومن يدري فلعل القرون القادمة سوف تضحك علينا كما ضحكنا على غيرنا«

يوصف منطق أرسطو أحياناً بأنه منطق فوتوغرافي وذلك مقارنة له بالمنطق الجديد الذي هو منطق سينمائي«

فمنطق أرسطو يريد أن يأخذ عن الأمور صورة ثابتة مطلقة ويعتبرها نهائية« هذا بينما الحياة في حركة متواصلة والفوتوغراف لا يمثل من حقيقتها إلا لحظة عابرة« فالمناطقة القدماء قد يحكمون على شيء أنه خير أو أنه شر ويظلون يتدرجون في أقيستهم المنطقية بعدئذٍ استناداً على حكمهم الأول هذا ـ غير دارين بأن الشيء ربما تغير في طبيعته بعد صدور الحكم عليه، وهو ربما أصبح خيراً بعدما كان شراً أو شراً بعدما كان خيراً«

ولا يفوتنا في هذا المجال أن نقول بأن هذا المنطق ـ الذي ينسب وضع أسسه لأرسطو ـ خدم الفكر البشري خدمة جليلة، ولكن عيبه أنه لا يضمن إلا صحة التفكير من ناحية الشكل أو المظهر ولا يضمن الصحة من ناحية المضمون أو الجوهر   «

والحق أن أرسطو عندما أوضح أسس هذا المنطق ـ والتي كانت موجودة ويتحرك بها كل الناس ـ لم يكن قاصداً لهذا الوضع، حيث كان يؤكد على أهمية المضمون  المادةî بالإضافة إلى أهمية الشكل  الصورةî ولكن تلاميذه وأتباعه انحرفوا عن سنة أستاذهم ككثير من الإتباع الذين دائماً ما يغالون بعد رحيل أستاذهم، فأخذوا يهتمون بصورة القياس ويهملون جانب المادة حتى أصبح هذا المنطق يسمى المنطق الصوري، وأصبحوا يحلقون في عالم التجريد الفكري الذي هو بعيد كل البعد عن مجريات الحياة الواقعية«

إن الحقيقة، كما قال  مانهايم ، نسبية ومطلقة في آن واحد، أو هي بعبارة أخرى   ذاتية وموضوعية معاً« هذا ولكن انتصار منطق أرسطو جعل المفكرين يشغلون أنفسهم بالنظر إلى جانب واحد من الحقيقة، وهو الجانب المطلق« فأهملوا بذلك الجانب الآخر الذي لا يقل عنه أهمية ونفعاً«

ولا بد أن نذكر هنا أن الكبريات أو الكليات العامة التي يستخدمها أصحاب هذا المنطق والتي يتصورونها حقائق مطلقة لا يجوز الشك فيها كثيراً ما تكون مألوفات اجتماعية أو رسوماً وآداباً اعتاد عليها الناس وسلّموا بصحتها   «

خذ مثالاً على ذلك ما كان يجمع عليه كل العقلاء وتسالموا عليه بحيث لا يشك فيه اثنان من أن الأرض مسطحة وليست كروية، ولكن هذا الحديث أصبح الآن حديث خرافة   «

ومن الجدير ذكره أن غاليليو العالم الفلكي قد حوكم على تبني هذه الفكرة«

وقد نقل في هذا المجال قصة واقعية حدثت في مضيف أحد شيوخ العشائر في الفرات الأوسط في الثلاثينيات من هذا القرن« وخلاصة القصة أن أحد الحاضرين في المضيف أخذ يحدثهم عن الثلاجة وكيف أنها تعمل بالكهرباء فتبرد الماء وتصنع الثلج« وكان هو قد شاهدها في بغداد ولم يكن الآخرون قد سمعوا عنها شيئاً من قبل فانبرى  شخص منهم وكان من المتعلمين العقلانيين، وصار يكذب الخبر وقال عنه أنه غير معقول، واستند في رأيه على قياس منطقي على النحو التالي

  ـ الشيء الحار لا ينتج البرودة  مقدمة كبرى  «

  ـ الكهرباء شيء حار  مقدمة صغرى «

  ـ الكهرباء إذن لا يمكن أن تنتج البرودة  نتيجة «

 ومن طريف ما يذكر في هذا المجال، أنه اجتمع ذات يوم الجاحظ ـ الذي كان مشهوراً بولعه بالأقيسة المنطقية ـ مع ابن ماسويه الطبيب على مائدة أحد الوزراء فقدمت الأطعمة، وكان فيها سمك ومضيرة« والمضيرة طعام يطبخ باللبن الحامض، وكان المعروف عند أطباء ذلك الزمان أن أكل المضيرة مع السمك مضر بالصحة« فنصح ابن ماسويه الجاحظ بأن لا يجمع بينهما في الأكل« فلم يسمع الجاحظ نصيحته، وأخذ يجادله جدلاً منطقياً إذ قال   أيها الشيخ، لا يخلو أن يكون السمك من طبع اللبن أو مضاداً له، فإن كان أحدهما ضد الآخر فهو دواء له، وإن كانا من طبع واحد فليحسب أنا أكلنا من أحدهما إلى أن اكتفيناî فقال له ماسويه   والله مالي خبرة بالكلام، ولكن كل يا أبا عثمان، وانظر ما يكون في غدî فأكل الجاحظ معانداً فأصيب بالفالج في ليلته« وقال  هذه والله نتيجة القياس المحالî«

إن هذه القصة قد تكون صحيحة أو غير صحيحة« إنما هي على أي حال غير مستبعدة لما نعرف عن الجاحظ من ولع بالقياس المنطقي«

والقصة على فرض صحتها قد تكون مثالاً جيداً للخطأ الذي يتورط فيه المناطقة بأقيستهم« فقد يكفي فيها أن تؤدي بهم إلى الفالج î   «

وقد حدث لكاتب هذه السطور قصة مماثلة« حيث طرح أحد المشايخ فكرة أن الأنبياء والأئمة يعلمون علم ما كان وما يكون وما تسقط من ورقة في ظلمات الأرض ولا حبة ولا يابس إلا وهم يعلمونها، فقلت له أن علماء الشيعة الكبار كلهم كالشيخ المفيد والسيد المرتضى والصدوق والشيخ الطوسي وغيرهم ينفون هذه الفكرة، ويقولون أنها من أفكار الحشوية والغلاة، كما أن النصوص القرآنية الكثيرة تصرح بعكس ما تقول، حيث يقول تعالى   ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم««   التوبة؛     ، وقوله تعالى   قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب   الأنعام؛    ، وقوله تعالى على لسان نبيه  ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء   الأعراف؛     ، فالله أعطاهم نصيباً من الغيب ـ كما يقول الإمام الخميني في كشف الأسرار ص    ـ وأطلعهم على بعض المغيبات وليس كل غيب وإلا صار معنى هذه الآيات لغواً« فانبرى  لي شاهراً سلاح المنطق الأرسطي ـ الذي انقلب من أداة للتفكير إلى أداة للتكفير ـ حيث قال  إن الإنسان محبوس بالزمان والمكان فلا يعرف إلا الأشياء الموجودة في زمنه والمكان الذي يعيش فيه، أما إذا بلغ درجة هائلة من التجرد والصفاء الروحي حيث يتجرد من الزمان والمكان فعندها يخرج من هذا السجن ويصبح فوق الزمان والمكان، فلا يخفى  عليه شيء في مكان أو زمان، وهكذا أقنع الحضور بهذه الفكرة التي هي من ضرورات المذهب، وغفلوا عن الآيات السابقة أو تأوّلوها وكأنهم يقولون إذا تعارض العقل والنقل قدم العقل«

وهنا في خاتمة هذه المقدمة، أحب أن أقدم هدية قيمة لأنصار المنطق الأرسطي، وهي عبارة عن نص للإمام الخميني  رهî يدافع فيه بكل حرارة عن هذا المنطق حيث يقول ما نصه

 وعلى حد قول الشيخ الرئيس لم يذكر أحد أي إيراد إلى الآن على القواعد المنطقية التي حدّدها أرسطو ولم تقع آراؤه مورد نقض وإبرام لمتانتها« وقيل إن ديكارت في عقيدته وبعض كتابنا المحترمين قد أحدثوا انقلاباً في المنطق« لكن من له في هذا الميدان نظر يعلم مقدار معلومات ديكارت في هذا الباب وفي باب الإلهيّات وإلى أيّ حد هي ضعيفة وطفولية« وللأسف أخذتنا هيبة الأوروبيين حتى خسرنا أنفسنا بالمرة وغدونا نتلقى  بسذاجة من الأوروبيين علوماً تخصصنا بها بحيث لن يصلوا إليها حتى ألف سنة أخرى«

وما حاجة من عنده منطق الشفاء وحكمة الإشراق والحكمة المتعالية إلى حكمة ومنطق الأوروبيين التي لا زالت تحضّر في الصفوف« يظن هؤلاء أنه إذا تقدم بلد في سيره المادي فسوف يتقدم في الحكمة الإلهية وهذا من كبائر الاشتباهات ويجب أن يعتبر من مفاسد كتّاب المشرق الإسلاميî   «

وأنا لا أحب أن أؤول هذا النص الذي لا يقف في صالحي ـ كما يفعل الآخرون عندما يجدون نصاً ضدهم ـ وإنما أحب أن أنبه القارىء إلى التأمل في قراءة ما ذكرته في بداية هذه المقدمة مقارنة بما يقوله الإمام رضوان الله عليه، مع احتمال أن يكون نظره  قدس سرهî إلى الإتجاه الغربي الذي حصر المعرفة بالتجربة والحس    ـ والذي تراجع عنه الغربيون كما يشير إليه الإمام بعد عدة صفحات ـ بقرينة قوله  يظن هؤلاء أنه إذا تقدم بلد في سيره المادي««« الخ«

ولا بأس هنا أن أنقل نصاً ذكره العلامة الشيخ محمد جواد مغنية يلقي ضوءاً على الفرق بين المنطق الأرسطي القديم والمنطق الحديث، حيث قال ما نصه   ينقسم المنطق إلى نوعين  صوري وتطبيقي، ونتحدث عن التطبيقي في الفقرة التالية، والآن نتكلم عن الصوري، وأيضاً يسمّى بالمنطق القديم، وبالنظري، والأورسطي نسبة إلى واضعه أرسطو« ويقوم الاستدلال والاستنباط في هذا المنطق على اتساق الفكر وانسجامه مع نفسه بحيث تكون الفكرة واضحة في ذاتها والنتيجة مطابقة لمقدماتها شكلاً وظاهراً بغض النظر عن صلاتها بواقع الحياة ومقوماتها وعن أي شيء من الأشياء الخارجية«

ومن أقيسة هذا المنطق  هذه نار، وكل نار محرقة، فهذه محرقة« والصفات العامة للمنطق الصوري ثلاث     ترتيب النتيجة على المقدمات حتماً وقهراً     لا تصدق النتيجة ولا تكذب إلا على افتراض صدق المقدمات أو كذبها     ليس في النتيجة معرفة زائدة على مقدماتها وعليه فلا يصح أن يسمى المنطق الصوري استدلالاً، إذ لا يستنتج من المعلوم شيء مجهول«

ومن هنا قال كثير من الفلاسفة الجدد  إن قياس المنطق الصوري تحصيل للحاصل، وتطويل بلا طائل تماماً كمن  فسر الماء بعد الجهد بالماءî  هذا إذا كان القياس صحيحاً كالمثال السابق  هذه نار الخî أما إذا كان كاذباً كقياس السفسطائي الذي رأى صورة حصان على حائط فقال  هذا حصان، وكل حصان صاهل، فهذا صاهل ـ فهو تسطير كلام ولقلقة لسانî« ثم يقول

 ولكي يتضح الفرق بين المنطق التطبيقي والصوري نمهد أولاً بالإشارة إلى أهم الفروق بين الفلسفة القديمة والحديثة على وجه العموم« في القديم كانت الفلسفة تتألف من التخمينات حول الأشياء والمشكلات وكفى، ولم يكن الفيلسوف يعتمد على الخبرة والمشاهدة، بل على التفكير المجرد والتأمل الباطني المحض دون أن يستند إلى آلة ومختبر حتى إذا ما تخيل الحقيقة فيما يرى ، أخرجها للناس كأبعد ما تكون عن الشبهة والنقاش في رأيه«« أما الفلسفة الحديثة فإن الفكرة تلتحم فيها بالخبرة والمشاهدة وبالعين والأذن« وبكلمة أن الفلسفة القديمة ذاتية تماماً كالتصوف، والفلسفة الحديثة واقعية وعلمية«

والسر لهذا الفرق أن العقل البشري يتطور مع الزمن وتزيد مقدرته، فقد كان صعود الإنسان إلى القمر فوق تصور العقل، وها هو الأن حقيقة ملموسة، ومثله تماماً أن يسمع الإنسان صوت من في القبور، وأن يحدثه من في المغرب وهو في المشرق«« إلى غير ذلك مما كان فوق قدرة الإنسان الأول وعقله، وكذلك الإنسان الآن فإنه يرى بعض الأشياء من المستحيلات، ولكنها ستكون عند إنسان المستقبل مألوفة تماماً كالسيارة والطائرة عندنا«

وهذا الفارق الجوهري بين الفلسفة القديمة والحديثة، هو الحد الفاصل بين المنطق الصوري والتطبيقي، ينطلق الأول من نشاط الفكر وتأمله وحده مجرداً عن التطبيق العملي  أي الفكر للفكر  أما الثاني فيعتبر التطبيق العملي جزءاً متمماً لصحة الفكر والتأمل  أي الفكر للعمل  وبهذا يكون المنطق التطبيقي دعوة أو نظرة علمية موضوعية، والمنطق الصوري نظرة ذاتية ودعوة صوفية«

ونختم الكلام بالمثال الآتي زيادة في التوضيح«

لنفترض أن رجلاً ألف قياساً من أفكاره وخياله وقال  رأيت هذا الرجل يحاول الطيران في الفضاء، وكل من يحاول ذلك فهو مجنون، فهذا الرجل مجنون« وما من شك أن هذا القياس سليم ومستقيم في عقول السلف لعجزهم وقصور عقولهم عن إدراك هذا الطيران وتصور وقوعه لأنه بعيد عن بيئتهم وما ألفوه في حياتهم، ولكن هذا القياس هزيل وعليل في أفهامنا نحن، لأن كل فرد منا رأى الإنسان يطير في الفضاء، بل ويمشي وينتقل فوق القمر«

وبعد فإن الفكر انعكاس عن الواقع وعالم الشؤون اليومية، وثبت بالخبرة والعلم القاطع أن هذا العالم مجرد حوادث تتحول وتتطور بسرعة، وكذلك الفكر ونظرياته، ومعنى هذا أن الفكر من حيث هو ليس بحجة مطلقة وبرهان شامل حتى ولو انسجمت قضاياه، وتلاءمت النتائج مع المقدمات« وأيضاً معنى هذا أن صحة الفكرة نسبية ومرهونة بتطبيقها العملي على الواقع الذي لا سبيل إلى إنكارهî   «

وهنا لا بد أن نوضح أنه إن كان المراد بالدور الدور المصطلح فإن نفس الإستدلال على بطلان المنطق الأرسطي لاستلزامه الدور هو استدلال بالمنطق الأرسطي لأن الاستدلال يكون هكذا«

الشكل الأول يستلزم الدور«

والدور باطل«

الشكل الأول باطل

هذا الإستدلال هو من الشكل الأول، فهو استدلال بإبطال الشكل الأول بالشكل الأول«

وإن كان المراد أنه لا يجوز الثقة التامة      بالمنطق الأرسطي لاحتمال انكشاف خطأ الكبرى  التي استندنا إليها ولو في المستقبل«

فإن هذا الإشكال لا يرد وذلك لأن حاصل الإستدلال يكون بهذه الصورة

كل شيء ثبت لنا أنه يمكن أن يخطأ ولو في المستقبل لا يجوز الركون الكلى إليه«

والمنطق الأرسطي ثبت لنا خطؤه مراراً«

النتيجة  المنطق الأرسطي لا يجوز الركون الكلي إليه«

فهنا يقال إن هذا الإستدلال هو نوع من أنواع القياس الأرسطي، فإذن لا يجوز الركون الكلي إليه، وهذا صحيح، فبعض الحقائق التي توصلنا إليها يجوز الركون الكلي إليها، ومن هذا النوع الوصول إلى الخالق مثلاً«

وربما يكون نظر بعض علمائنا الإخباريين ـ كصاحب الفوائد المدنية والسيد نعمة الله الجزائري ـ إلى هذا مع شيء من التكلف في توجيه عباراتهم«

وحتى أقطع الطريق على من يريد أن يتهمني بموافقة ابن تيمية ـ الذي شكك في البديهيات وهذا غير ما نقوله ـ فإني أشدد على القارىء بأني اتبنى بالحرف الواحد ما يقوله الشيخ محمد جواد مغنية ـ وقد تقدم نقل عبارته ـ وما ذكره العلماء الشهيد مرتضى المطهري والسيد د« محمد خاتمي رئيس جمهورية إيران الإسلامية، حيث يقول الأول ما نصه

 الحد الأكثر لفن المنطق هو أن يمنع خطأ الذهن في صورة القياس، ولكن المنطق لا يملك قاعدة أو ضابطة لمنع الخطأ في مادة القياس« إذن المنطق يستطيع أن يطمئننا من جهة صورة القياس ولكنه ليس قادراً على أن يطمئننا من ناحية مادة القياس، إذن طريق الخطأ مفتوح والمنطق بلا فائدة« المثل الصحيح على هذه المسألة هو كأن يكون لدينا بيت  في الشتاء ذو بابين فإذا اغلقنا باباً واحداً فمن البديهي أنه مع إبقاء الباب الآخر مفتوحاً فإن البرد سوف يدخل البيت وسيكون إقفال باب واحد بلا فائدة بشكل كلي   «

جواب هذه المسألة هو أن منع الخطأ في صورة القياس يعطينا فائدة نسبية    « ومنع الخطأ في مادة القياس ليس ميسراً للقواعد والضوابط المنطقية، ولكن مع الدقة والمراقبة الكثيرة يمكن أن يطمئن إلى ذلكî   «

ويقول حجة الإسلام الدكتور خاتمي  يوجد بحوث وتعاريف كثيرة حول العقل، فأي شخص يريد أن يطرق هذا البحث يجب أن يحدد أي مفهوم للعقل، الأفلاطوني، الأرسطي، عقل المشائين المسلمين، الإشتراكيين، وعقل ابن رشد وغيرها، والمقصود من العقل هو الأمر المشترك بين الناس والذي نرتبط من خلاله مع الآخرين، وهذا الشيء أو الرأسمال الذي يمكّن الإنسان من الإرتباط مع الآخرين ومع العالم، أصبح أننا نشترك مع جميع الناس، والذي نفهم الأمور من خلاله، وكل فهم نحن نمتلكه إنما هو من خلال هذا العقل، غير أن هذا الفهم هو نسبي، لأنه يتبع الموقع الذي يحتله الإنسان في التاريخ، فهذا العقل لا يستطيع أن يوصلنا إلى كل هذه الحقيقة المطلقة، والمشّاؤون أيضاً أقروا بهذه الحقيقة، لا يمكن أن نصل إلى الكنه المطلق من خلال هذا العقل".


الفصـل الثالث

ملاحظات على كتاب مأساة الزهراء(ع)

الملاحظة الأولى  محاولة التركيز على أن الخصم قد أتى بأشياء تخالف الثوابت حيث يقول

ـ في ص    ج   ولا بد للإنسان أن يعرف حده فيقف عنده، ولا يحاول النيل من قضايا وثوابت الدين والعقيدة والإيمانî«

ـ وفي ص    ج   أما إذا كان هذا الشخص يريد أن ينشر بين الناس اجتهاده المخالف لثوابت المذهب التي قامت عليها البراهين القاطعة ودلت عليها النصوص الصريحة الصحيحة والمتواترةî«

ولم يوضح هذه الثوابت التي يكون انكارها خروجاً على حقائق الدين سوى كسر الضلع، وكأنما القارئ يتصور أن كسر الضلع يمثل ضرورة من ضروريات الدين أو المذهب بحيث تصبح أصول الدين عندنا  التوحيد ـ النبوة ـ المعاد بالإضافة إلى كسر الضلع أو يصبح الفرع الحادي عشر من فروع الدين«

وقد فتشت من بداية الكتاب لآخره عن العلاقة بين كسر الضلع من جهة وثوابت الدين والعقيدة من جهة أخرى فلم أجد تفصيلاً من الكاتب إلا في موضع واحد حيث قال ما نصه:

 ثم هو يقول لك مرة أخرى، لكي يمهد لإقناعك بأنهم مأجورون على غصب الخلافةî ص     ج «

أي إنه يقول إن التشكيك في أن الزهراء تعرضت للضرب تشكيك في غصب الخلافة وإذا ثبت أنهم ليسوا غاصبين للخلافة أو شككنا في ذلك على الأقل فالنتيجة أنهم مأجورون«

وبعبارة أخرى، أنه يقول إن روح غصب الخلافة مرتبط بمحاولة ضرب الزهراء، فلو فرضنا ان الزهراء كانت غائبة عن البيت في تلك اللحظة لانتفى الأساس الرئيسي في غصب الخلافة، وبذلك يكون المساس بهذا الحدث الفيزيائي الخارجي وهو انكسار الضلع مساساً بالقضية المعنوية وهي اغتصاب الخلافة«

وهذا يذكرني بما سمعته من أحد قراء العزاء الذي استنكر على الشهيد مطهري قوله بأن ليلى  أم الأكبرî لم تكن موجودة في كربلاء أصلاً، حيث أورد صاحبنا على الشهيد المطهري بأن التشكيك في وجود ليلى تشكيك في حادثة كربلاء أصلاً وتشكيك بأن الحسين قد قتل«

وأتصور في أغلب الظن أن الشهيد المطهري ـ من وجهة نظر صاحبنا ـ من الخارجين على حقائق الدين وثوابت المذهب لأنه شكّك في أشياء كثيرة في كتابه  الملحمة الحسينيةî، ولكنه نجا والحمد لله لأنه استشهد باكراً«

وفي الواقع، إن كتاب الملحمة الحسينية مثّل كارثة لبعض الناس الذين كانوا يصبون خرافاتهم ليل نهار من دون رقيب أو حسيب، وقد قال لي أحدهم إن هذا الكتاب شكّل صاعقة بالنسبة إليه، والحق أنَّ هذا الكتاب مثّل فتحاً جديداً للجيل المتنوّر من قرّاء العزاء، وقد شاهدت عدداً لا بأس به من قراء العزاء الشبان في لبنان يدققون فيما يروونه للناس، ولا ننسى هنا أيضاً دور المساهمة الفعالة للشيخ الدكتور الوائلي في القضاء على مثل هذه الأمور«

والمفارقة الكبيرة هنا قول الكاتب إن حادثة الضلع دلت عليها النصوص الصحيحة الصريحة المتواترة، قال ص    ج 

ـ  وهناك روايات كثيرة بل متواترة عن المعصومينî ولكنه سرعان ما نسي ما كتبه في ص    ج  حيث صرح في سياق الحديث عن هذه المسألة أنه من الصعب الحصول على الروايات الصحيحة حيث قال

ـ  ليس من حق أحد أن يطلب من الناس أن يقتصروا فيما يثيرونه من قضايا على ما ورد عن النبي  ص  والأئمة  ع  بأسانيد صحيحة وفق المعايير الرجالية في توثيق رجال السند« لأن ذلك معناه أن يسكت الناس كلهم عن الحديث في جل القضايا والمسائل، دينية كانت أو تاريخية أو غيرهاî«

ثم يقول  بل ان هذا الذي يطلب ذلك من الناس، لو أراد هو أن يقتصر في كلامه على خصوص القضايا التي وردت بأسانيد صحيحة عن المعصومين، فسيجد نفسه مضطراً إلى السكوت، والجلوس في بيته، لأنه لن يجد إلا النزر اليسير الذي سيستنفده خلال أيام أو أقل من ذلكî«

والغريب أن الباحث يستعمل كلمة الخروج على حقائق الدين والمذهب من دون أن يدخل في تفاصيل بيان ما هو الضروري وغيره« ويعجبني هنا نقل كلام للشيخ محمد جواد مغنية في بيان ذلك قال رحمة الله

ضرورات الدين والمذهب   

 المسلم من صدّق مقتنعاً بكل ما اعتبره الإسلام من الأصول والفروع، والأصول ثلاثة  التوحيد، والنبوة، والمعاد، فمن شك في أصل منها، أو ذهل عنه قاصراً أو مقصراً فليس بمسلم، ومن آمن بها جميعاً جازماً فهو مسلم، سواءاً أكان إيمانه عن نظر واجتهاد، أم عن التقليد والعدوى، على شريطة أن يكون وفق الحق والواقع«

أما ما ذكره العلامة الحلي، والشهيد الثاني، وغيرهما، من وجوب الاستدلال والنظر في العقائد، وعدم كفاية التقليد فيها، فإن المقصود منه التقليد الذي لا يوصل إلى الواقع، أما إذا كان سبيلاً للتصديق بالحق، فلا ريب في أجزائه وكفايته، وإلا لم يبق من المسلمين سوى واحد من كل مائة، ولذا قال العلامة الأنصاري في كتاب الفرائد   والأقوى كفاية الجزم الحاصل من التقليد «

ويكفي من التوحيد الإيمان بوحدة الله تعالى، وقدرته وعلمه وحكمته، ولا تجب معرفة صفاته الثبوتية والسلبية بالتفصيل، ولا أنها عين ذاته أو غيرها، ويكفي من النبوة الإيمان بأن محمداً، صلى الله عليه وآله وسلم، رسول من الله صادق فيما أخبر به، معصوم في تبليغ الأحكام، فإن الرسول قد يخبر عن الشيء بصفته الدينية المحضة أي كونه رسولاً مبلغاً عن الله تعالى، وقد يخبر عنه بصفته الشخصية، أي كونه إنساناً من البشر، فما كان من النوع الأول يجب التعبد به، وما كان من النوع الثاني فلا يجب«

أما التصديق والإيمان بأن النبي كان يسمع ويرى وهو نائم، كما يسمع ويرى وهو مستيقظ، وأنه يرى من خلفه كما يرى من أمامه، وأنه عالم بجميع اللغات، وأنه أول من تنشق عنه الأرض، فليس من ضرورات الدين ولا المذهب«

ويكفي من المعاد الاعتقاد بأن كل مكلف يحاسب بعد الموت على ما اكتسبه في حياته، وأنه ملاق جزاء عمله، إنْ خيراً فخير، وإنْ شراً فشر، أما أنه كيف يحاسب العبد؟ وعلى أية صورة بالتحديد يكون ثواب المحسن، وبأي لون يعاقب المسيء؟ فلا يجب التدين بشيء من ذلك، فالتوحيد، والنبوة، والمعاد، دعائم ضرورية لدين الإسلام، فمن أنكر واحداً منها، أو جهله فلا يعد مسلماً شيعياً؛ ولا سنياً«

أما الفروع التي هي من ضرورات الدين، فهي كل حكم اتفقت عليه المذاهب الإسلامية كافة من غير فرق بين مذهب ومذهب، كوجوب الصلاة والصوم، والحج، والزكاة، وحرمة زواج الأم والأخت، وما إلى ذلك مما لا يختلف فيه رجلان من المسلمين، فضلاً عن طائفتين منهم؛ فإنكار حكم من هذه الأحكام إنكار للنبوة، وتكذيب لما ثبت في دين الإسلام بالضرورة«

والفرق بين الأصول والفروع الضرورية، أن ا لذي لا يدين بأحد الأصول يكون خارجاً عن الإسلام، جاهلاً كان أم غير جاهل، أما الذي لا يدين بفرع ضروري، كالصلاة والزكاة، فإن كان ذلك مع العلم بصدوره عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فهو غير مسلم، لأنه إنكار للنبوة نفسها، وإن كان جاهلاً بصدوره عن الرسالة، كما لو نشأ في بيئة بعيدة عن الإسلام والمسلمين، فلا يضر ذلك بإسلامه إذا كان ملتزماً بكل ما جاء به الرسول، ولو على سبيل الإجمال، فالتدين بالأصول أمر لا بد منه للمسلم، ولا يعذر فيها الجاهل، أما إنكار الأحكام الفرعية الضرورية فضلاً عن الجهل بها، فلا يضر بإسلام المسلم إلا مع العلم بأنها من الدين، فالإمامة ليست أصلاً من أصول دين الإسلام، وإنما هي أصل لمذهب التشيع، فمنكرها مسلم إذا اعتقد بالتوحيد والنبوة، والمعاد، ولكنه ليس شيعياً«

ضرورات المذهب

ضرورات المذهب عند الشيعة على نوعين  النوع الأول يعود إلى الأصول، وهي الإمامة، فيجب على كل شيعي إمامي اثني عشري، أن يعتقد بإمامة الاثني عشر إماماً، ومن ترك التدين بإمامتهم عالماً كان أم جاهلاً، واعتقد بالأصول الثلاثة، فهو عند الشيعة مسلم غير شيعي، له ما للمسلمين، وعليه ما عليهم، فالإمامة أصل لمذهب التشيع الذي يرجع معناه ودليله إلى حديث الثقلين  مثل أهل بيتي كسفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق «

النوع الثاني من ضرورات مذهب الشيعة يرجع إلى الفروع، كنفي العول، والتعصيب، ووجوب الاشهاد على الطلاق، وفتح باب الاجتهاد، وما إلى ذلك مما اختصوا به دون سائر المذاهب الإسلامية، فمن أنكر فرعاً منها مع علمه بثبوته في مذهب التشيع لم يكن شيعياً«

وأغتنم هذه المناسبة لألفت نظر من يحتج على الشيعة ببعض الأحاديث الموجودة في كتب بعض علمائهم، ألفت نظره إلى أن الشيعة تعتقد أن كتب الحديث الموجودة في مكتباتهم فيها الصحيح والضعيف، وإن كتب الفقه التي ألفها علماؤهم فيها الخطأ والصواب، فليس عند الشيعة كتاب يؤمنون بأن كل ما فيه حق وصواب من أوله إلى آخره غير القرآن الكريم، فالأحاديث الموجودة في كتب الشيعة لا تكون حجة على مذهبهم، ولا على أي شيعي بصفته المذهبية الشيعية، وإنما يكون الحديث حجة على الشيعي الذي ثبت عنده الحديث بصفته الشخصية«

وهذه نتيجة طبيعية لفتح باب الاجتهاد لكل من له الأهلية، فإن الاجتهاد يكون في صحة السند وضعفه، كما يكون في استخراج الحكم من أية رواية«

ولا أغالي إذا قلت  أن الاعتقاد بوجود الكذب والدس بين الأحاديث ضرورة من ضرورات دين الإسلام من غير فرق بين مذهب ومذهب، حيث اتفقت على ذلك كلمة جميع المذاهب الإسلاميةî   «

عرض الروايات

ولا بأس هنا بإيراد جملة من الروايات الواردة حول هذه القضية وما أفاده بعض الأعلام حولها، ففي الكتاب القيم  سيرة الأئمة الاثني عشر 

 وجاء في تاريخ اليعقوبي ص     من المجلد الثاني أنه بلغ أبا بكر أن جماعة من المهاجرين والأنصار قد اجتمعوا مع ابن أبي طالب في منزل فاطمة الزهراء فأتوا في جماعة حتى هجموا على الدار وخرج علي ومعه السيف فلقيه عمر بن الخطاب فكسر سيفه ودخلوا الدار فخرجت فاطمة وقالت لتخرجن أو لاكشفن شعري وأعجّن إلى الله فخرجوا وخرج من في الدار   «

وقال أبو الفداء في صفحة    من المجلد الثاني من تاريخه  إن عمر بن الخطاب أقبل ومعه النار ليحرق عليهم البيت فخرجت فاطمة وقالت له  إلى أين يا ابن الخطاب جئت لتحرق دارنا قال  نعم، أو تدخلوا فيما دخل فيه المسلمون«

وأيد ذلك المسعودي في مروجه وابن قتيبة في الإمامة والسياسة والطبري وابن أبي الحديد في شرح النهج، وغير هؤلاء من المؤرخين والمحدثين«

وتنص بعض المرويات أن بعض الصحابة لفت نظره إلى أن في الدار فاطمة وولدها في معرض الإنكار عليه، فرد عليه بقوله وإن كانت فيها، ووقفت الزهراء تستغيث بأبيها وتقول ماذا لقينا من أبي بكر وابن الخطاب من بعدك يا رسول الله، وتنص بعض المرويات أنهم أخرجوا علياً من الدار وانطلقوا به إلى المسجد وطلبوا منه البيعة وهددوه بالقتل إن لم يبايع فقال إذن تقتلون عبد الله وأخا رسوله، واندفع ابن الخطاب نحوه يقول  أما عبد الله فنعم، ولكنا لا نعترف لك بأكثر من ذلك« وتضيف إلى ذلك تلك المرويات أن أبا بكر أحس بأن الأكثرية من المسلمين لا يستسيغون هذا الأسلوب الفج المتغطرس مع رجل كعلي بن أبي طالب لا سيما وقد رأوا فاطمة بنت نبيهم تتململ بين يديه تستغيث بأبيها تارة وبالمسلمين أخرى، فخاف أن يستفزهم هذا الموقف المؤلم وينقلبوا عليه، فتركه ورجع الإمام  ع  فاتجه نحو قبر النبي شاكياً ما يلقاه من قومه يقول  يا رسول الله إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلوني«

وفي رواية أخرى أنهم لما أرادوا الدخول إلى بيتها وإخراج علي منه أرادت أن تحول بينهم وبين ذلك فضربها قنفذ على وجهها وأصاب عينها، وفي رواية ثانية ان عمر بن الخطاب ضربها بالسوط فأثر ذلك في عضدها كالدملج على حد تعبير الراوي«

وفي رواية ثالثة أنها وقفت خلف الباب لتمنعهم من دخوله فاندفعوا نحو الباب ودفعوه نحوها وكانت حاملاً فأسقطت ولداً كان رسول الله قد سماه محسناً«

وفي رواية الكافي عن عبد الله بن محمد الجعفي عن أبي جعفر الباقر وأبي عبد الله الصادق أن فاطمة الزهراء لما كان من أمر القوم معها ما كان أخذت بتلابيب عمر بن الخطاب فجذبته إليها ثم قالت  أما والله يا ابن الخطاب لولا أني أكره أن يصيب البلاء من لا ذنب له لقلت إني إذا أقسمت على الله أجده سريع الإجابة«

وفي بعض المرويات أنها خرجت خلف علي  ع  ومعها نسوة من مخدرات بني هاشم وأقبلت نحو المسجد وقالت لهم خلّوا عن ابن عمي والذي بعث محمداً بالحق إن لم تخلوا عنه لانشرن شعري ولاضعن قميص رسول الله على رأسي فما ناقة صالح بأكرم على الله مني ولا فصيلها بأكرم عليه من ولدي، وكان سلمان الفارسي قريباً منها وهي تخاطب القوم كما يزعم الراوي، فقال  لقد رأيت حيطان المسجد تعلقت من أسفلها حتى لو أراد الرجل أن يخرج من تحتها لخرج، فجئت إليها وقلت لها يا بنت رسول الله  لقد بعث أبوك رحمة فلا تكوني أنت السبب في هلاك هذه الأمة، ولما رأى القوم ما حل بهم تركوه ورجع معها إلى بيته«

إلى كثير من المرويات التي لا تثبت أسانيدها في مقابل النقد العلمي، ومع ذلك فليس ببعيد على الله أن يستجيب لها لو سألته أن يأخذ لها بحقها منهم، ولكنها وأباها وأبناءها الكرام على كثرة ما مر عليهم من ظلم واضطهاد وترويع من أعدائهم لم يسألوا الله سبحانه أن ينتقم لهم في الدنيا وقابلوا كل أنواع البلاء بالصبر الجميل والرضا بقضائه لينعموا بما أعده الله للصابرين في الدار الأخرى وقدموا بذلك أروع الأمثلة في الجهاد والتضحية في سبيل الله والعمل لخير الناس أجمعينî   «

الملاحظة الثانية  التناقض الكثير في المعلومات والأفكار التي يطرحها الكاتب، وهذا ما سوف نبينه بالشواهد الواضحة لاحقاً، وهذا يدل على أن الكاتب لم يكن يفكر بروية وتأنٍ، فيكتب معلومة وسرعان ما ينافيها«

فمن باب المثال، يقول ان ما كتبه هو مجرد مناقشة في الأفكار وليس تشهيراً، ثم بعد صفحة واحدة يعترف أنه تشهير« وان الذي أدىّ إلى هذا التشهير هو أن المُشَهَّر به قد أتى بأفكار مخالفة لثوابت الدين والعقيدة«

وهاك هاتين العبارتين ـ ففي ص    ج  يقول  إذا كانت مناقشة الأفكار ونقدها تشهيراً، فاللازم إغلاق أبواب المعرفة والعلمî أي أنه يقول إن هذا ليس تشهيراً وإنما هو نقاش علمي«

ـ وفي ص    ج  يقول  ان المبادرة إلى نقد الفكرة ليس تجنياً وتشهيراً، بل ان الاصرار على طرح الأمور التي تمس الثوابت الدينية أو المذهبية أو التاريخية أو غيرها بطريقة خالية من الدقة العلمية، وتجاوز الحدود الطبيعية هو الذي يؤدي إلى التشهير بصاحبهاî«

وبالمناسبة، إذا كان إنكار أو التشكيك بحادثة تاريخية هو إنكار لثوابت الدين والعقيدة، فإن هذا الباحث قد أنكر كثيراً من الأمور التي تسالم عليها قراء التعزية أو عامة الناس   ، خذ مثالاً على ذلك، انكاره للحديث الذي يقول ان أمير المؤمنين  ع  أخبر عن ظهور النفط في الظهران، وإنكاره أيضاً للرواية التي تقول عن الإمام علي   لو شئت لجعلت من هذا الماء نوراًî من جملة اخباراته عن الكهرباء، وانكاره اكتشاف أمير المؤمنين الذرة أيضاً، ورفضه للروايات«  راجع علامات الظهور ص   ،   î ولو شئنا أن نتبع أسلوبه في التشهير والتهجم وإثارة غرائز البسطاء لقلنا ان فلاناً ينكر علوم أهل البيت وكراماتهم ويحاول أن يرفض بتحليلاته العقلية ما جاء عن أهل البيت بالطرق الصحيحة والمتواترة ـ وهذه هي العبارة التي يستخدمها كثيراً ـ

والأكثر من هذا قوله بإمكانية سهو المعصوم، حيث يقول ما نصه

 وأخيراً««« فإن الروايات عن أهل البيت في هذا الموضوع قريبة من التواتر   ، ومنها خمس معتبرات««« لكن ليس فيها ما يوجب الاشكال بما تقدم ولا ما يوجب ردّها، وقد كتب التستري رسالة في هذا الموضوع في أواخر ج    من كتاب قاموس الرجال فليراجعها من أراد«««

نعم««« ومن الممكن ـ والكلام للكاتب ـ أن يسهي الله نبيه الأعظم  ص  لمصلحة تقتضي ذلك، وحاله حاله من الجلالة والرسالة«

ويمكن أن نذكر من وجوه المصلحة لذلك

  ـ أن لا يغلو الناس فيه، فيؤلهونه««« أو يثبتون له بعض الصفات التي ليست له«««

  ـ إن الله تعالى أراد أن يفقههم، كما في رواية الحسن بن صدقة، التي رواها الكليني«««

  ـ إن الله تعالى هو الذي أنساه رحمة للأمة، ألا ترى لو أن رجلاً صنع هذا لعيّر؟  وقيل له  ما تقبل صلاتك؛ فمن دخل عليه اليوم ذاك، قال  قد نسي رسول الله  ص ، وصارت أسوة الخ««« وقد ورد شبيه ذلك في نومه  ص  عن صلاة الصبح في السفر«««

إيراد وجوابه  ولربما يقال  إن فعل النبي  ص ، وقوله، وتقريره حجة« وقضية السهو، تنافي ما اتفق عليه المسلمون من حجية فعله، بل وتنافي حجية قوله أيضاً«« وهذا يبطل الوثوق به والاعتماد عليه««« وهو مناف لحكمة النبوة والرسالة«

ويمكن أن يجاب عن هذا  بأنه إنما ينافي ذلك لو أقر على سهوه، وأخذ الناس الحكم الخطأ عنه««« ولكن إذا لم يقره الله عليه بل بينه له بنحو ما فإنه لا مانع منه عقلاً، ولا شرعاًî   «

وهذا الرأي لا ننكره عليه، لأن هذه المسألة من المسائل الاجتهادية بين علمائنا، ولكن الذي نحب أن نشير إليه أن هذا الرأي لو صدر من بعض المراجع الحركيين لثارت ثائرة الغوغاء ولدخلت أجهزة المخابرات عبر مجلاتها المعروفة لكي تدافع عن الأئمة  ع  وتنفي عنهم شبهة السهو«

والحاصل أننا إذا أردنا أن نجعل المرجع في تحديد ثوابت الدين والعقيدة من ليس له خبرة في قضايا العقيدة والشريعة، فعلى  التشيّع السلام، لأن علينا أن نخرج جميع فقهائنا وعلمائنا عن التشيع ونبقي الأشخاص الذين يقولون بأن كل راية قبل ظهور الحجة هي راية ضلال وأن أمير المؤمنين حضر في يوم كربلاء بصورة الأسد  والعياذ باللهî وما إلى ذلك«

الملاحظة الثالثة  محاولة إبراز الاجتهادات والأفكار التي ورثناها عن العلماء السابقين كأشياء مقدسة لا يجوز البحث فيها أو دراستها، وهذا ما نحب أن نصطلح عليه بـ  عقدة المشهورî حيث نقل نصاً عمّن ناقشه مفاده  يخاف البعض أن يؤدي طرح المسائل الفكرية والعقائدية إلى مس أفكار متوارثة قد تكون صحيحة، وقد لا تكونî«

وعلق على ذلك بقوله  إننا لا ندري ما هو المبرر لهذا التصريح الخطير الذي ضمّنه اتهاماً بأن بعض أفكار وعقائد مذهبنا الحق قد لا تكون صحيحةî«

وكأن هذا الباحث لم يطرق سمعه كتاب  تصحيح الاعتقادî الذي ألفه الشيخ المفيد رداً على الشيخ الصدوق، ومن اسم الكتاب نفهم أنه يريد أن يرد على الشيخ الصدوق ويصحح اعتقاداته أي أن بعض الأفكار أو العقائد غير صحيحة، فكان الأولى بهذا الباحث أن يؤلف كتاباً في الرد على الشيخ المفيد ويبين له أن العقائد التي كتبها الشيخ الصدوق صحيحة      لا يجوز المساس بها لأنها مما دلت عليها الأدلة القاطعة والبراهين الساطعة

يقول السيد ابن طاووس   ««« إنني وجدت الشيخ العالم في علوم كثيرة القطب الراوندي ـ واسمه سعيد بن هبة الله ـ رحمه الله ـ قد صنّف كرّاساً وهي عندي الآن في الخلاف الذي تجدَّد بين الشيخ المفيد والمرتضى رحمهما الله، وكانا من أعظم أهل زمانهما، وخاصة شيخنا المفيد، فذكر في الكرّاس نحو خمس وتسعين مسألة قد وقع الخلاف بينهما فيها في علم الأصول،  أي العقائد  وقال في آخرها   لو استوفيت ما اختلفا فيه لطال الكتابî وهذا يدّلك على أنّه طريق بعيد في معرفة ربّ الأربابî« ثم علق الفيض الكاشاني بقوله   أقول  ومما يزيد ذلك تأكيداً التعليقات التي كتبها الشيخ المفيد رحمه الله على اعتقادات الصدوق أبي جعفر بن بابويه طاب ثراه، فإنه خالفه فيها في كثير من العقائد الدينية وطعن فيه لأجلها، وبالغ في ذلكî   «

والظاهر أنه يعتقد أن فكر المجتهدين يساوي النصوص القرآنية فكلها تمثل الفكر الإلهي الذي لا يجوز مناقشته«

والغريب في الأمر أن هذا الكاتب ألف كتاباً في تأييد الشيخ المفيد وَوَصفه بأنه يمثل المدرسة المتوازنة في العقائد مما يعني أنه من مؤيديه، وهذا يعني ضمناً عدم تأييد الشيخ الصدوق في تلك الطروحات التي ناقشها الشيخ المفيد، فلماذا يبيح لنفسه ما يرفضه لغيره«

لفتة إجتماعية  ـ ولا بأس هنا بإيراد بعض كلمات علماء الاجتماع في النزعة الطائفية لدى بعض الكتاب، والذين يمثلون أكثرية أي مذهب ودين ـ وتحليل جذور المشكلة، فنقول  إن الإنسان إذ ينشأ في بيئة إجتماعية معينة، ويظل قابعاً فيها لا يفارقها ذهنياً، نراه يؤمن بصحة ما فيها من معتقدات وتقاليد وقيم، فهو يعتقد اعتقاداً جازماً أنها خير ما يمكن أن يكون في الدنيا كلها، وأن ليس هناك ما هو أفضل منها، وهو كلما فكر وتأمل لا يستطيع أن يخرج من إطار هذا الإعتقاد الجازم« لأنه واقع تحت تأثير  التنويم الإجتماعيî الذي يشبه كثيراً التنويم المغناطيسي الذي يوجه على الفرد« إن العقائد التي ينشأ عليها قد تكون  سخيفةî جداً ولكنها في نظره  معقولةî جداً، وهو يتعجب ويتساءل لماذا لا يؤمن بها المخالفون مثلما يؤمن هو بها، ولا يدري أن المخالفين يتعجبون ويتساءلون مثله«

ولعلنا لا نخطىء إذا قلنا  إن الإنسان كلما ازداد تجوالاً في الآفاق واطلاعاً على مختلف الآراء والمذاهب انفرج عنه إطاره الفكري الذي نشأ فيه واستطاع أن يحرر تفكيره من القيود قليلاً أو كثيراً«

وكلما كان الإنسان أكثر انعزالاً كان أكثر تعصباً وأضيق ذهناً«

فالذي لا يفارق بيئته التي نشأ فيها ولا يقرأ غير الكتب التي تدعم معتقداته الموروثة لا ننتظر منه أن يكون محايداً في الحكم على الأمور« إن معتقداته تلوّن تفكيره حتماً وتبعده عن جادة البحث الصحيح«

وبذلك يركز المؤلف الطائفي دائماً على معائب المعتقدات والقيم الموجودة في الطوائف الأخرى ، أما معائب طائفته فهو يغض النظر عنها أو يحاول تبريرها بمختلف الأدلة  النقليةî  و العقليةî«

وكمثال حي على الكاتب الموضوعي العلامة السيد هاشم معروف الحسني، فهو في الوقت الذي يبين عيوب صحيح البخاري والروايات المحرفة فيه يذكر الروايات القلقة في الكافي بنفس الصراحة والوضوح«

وكمثال آخر لا ينسى، السيد محسن الأمين العاملي الذي ثار على ما لحق بالطقوس والمواكب الحسينية من تحريف وخاصة عادة التطبير وضرب الظهور بالسلاسل، وقد قامت عليه قيامة الغوغاء وخاصة من رجال الدين«

ومن الجدير ذكره في هذا الشأن أن كثيراً من المتعلمين هم عوام في أعماق عقولهم، فهم يحفظون بعض المعلومات الدينية أو العلمية ويتحذلقون بها أمام الناس، ولكنهم في حقيقة أمرهم لا يختلفون عن العوام من حيث تمسكهم بكل ما نشأوا عليه من معتقدات وقيم ولسان حالهم يقول  إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون   الزخرف؛    «

الملاحظة الرابعة  يقول الكاتب  إن العلوم الإسلامية كثيرة وفيها سعة وشمولية ظاهرة، بالإضافة إلى أنها بالغة الدقة في تفاصيلها فلا غضاضة على العالم أن يتريث في الإجابة على كثير من الأسئلة التي توجه إليه«««  إلى أن يقول   ولا غضاضة عليه لو اكتفى  بعرض ما توافق عليه أعاظم علماء المذهب وأساطينه، من دون إلتفات إلى ما تفرد به هذا العالم أو ذاك حيث لا يمكن التزام الشاذ وترك المشهور المنصورî«

وأجيبُ هنا بأن هذا العالم لو أتى  بما يقوله المشهور من علمائنا فإنه لن يسلم من هذه الحملات، خذ مثالاً على ذلك

إن المشهور من علمائنا كالشيخ الطوسي والسيد المرتضى علم الهدى والشيخ المفيد وغيرهم من أعلام المذهب ـ كالشيخ الصدوق الذي يقول بسهو المعصوم ـ يقولون بأن المعصوم غير مقدم في الصناعات وعليه أن يرجع لأهل الخبرة« ولا يعلم علم ما كان وما يكون  راجع تلخيص الشافي للشيخ الطوسي، ج ، ص    ، مطبعة الآداب، الطبعة الثانية     هـ ـ     م ـ أوائل المقالات للشيخ المفيد، ص   ، سلسلة مؤلفات الشيخ المفيد، دار المفيد، الطبعة الثانية     هـ ـ     م ـ رسائل الشريف المرتضى، ج ، ص    ، منشورات مؤسسة النور للمطبوعات ـ وراجع الشيعة في الميزان، الشيخ محمد جواد مغنية، دار الجواد ودار التيار الجديد، الطبعة العاشرة     هـ ـ     م «

فالمشهور كلهم على خلاف قول الكاتب حيث يقول إن الأئمة يعلمون علم ما كان وما يكون ـ راجع الكتاب ص     ـ وهذا عين عقيدة الغلاة التي يمثلها يونس بن ظبيان ومحمد بن جمهور ومحمد بن مقلاس أبو الخطاب وغيرهم ممن حاربهم الأئمة، فكيف ترك الكاتب الرأي المشهور المنصور وأيّد عقيدة الغلاة؟    «

هذا أولاً، وثانياً  إن إجابة المرجع على تساؤلات الناس التاريخية أو العقائدية ليست بدعا من الأمور، فكتب السيد الخوئي طافحة بمثل هذه المسائل« فمن باب المثال سئل السيد الخوئي عن مدى ثبوت قصة زواج القاسم بسكينة في كربلاء، فقال  لم يثبت لدينا القضية المذكورة  صراط النجاة، ج ، ص     ، وسئل أيضاً عن سهو المعصوم فقال ما نصه  القدر المتيقن من السهو الممنوع على المعصوم هو السهو في غير الموضوعات الخارجية  صراط النجاة، ج ، ص      فلماذا لم يشن الكاتب حملة على السيد الخوئي ويأمره بالاقتصار على مسائل الفقه والأصول وترك مخالفة المشهور المنصور؟

والغريب في الأمر أن هذا الكاتب يرى نفسه مختصاً في الأمور التاريخية ولكنه في هذا المقام ينسى نفسه فيناقش في مسائل الفقه والتفسير والعقائد مع أنه ليس له درس في الفقه أو التفسير أو أي نشاط يذكر في هذا المجال«

نمط من التفكير  ولا يحتاج هنا أن نؤكد أن هذا الطراز من التفكير الذي نستطيع أن نلخصه بكلمة  فلا غضاصة عليه لو اكتفى بعرض ما توافق  عليه أعاظم علماء المذهب وأساطينهî هو نفس نمط التفكير الذي يجابه به العوام كل مصلح أو فقيه، ولو التفت كل مفكر أو فقيه لهذا الكلام لتوقف تاريخ الفكر الاجتهادي والإصلاح عن الحركة والتقدم«

السيد الأمين والمعترضون

وبين يدي لحسن الحظ بعض هذا النمط من الإشكالات التي أثيرت بوجه بها السيد محسن الأمين العاملي، وأرجو من القارىء التأمل فيها ومقارنتها بتلك الإشكالات

  ـ إن الأعمال التي انتقدها السيد محسن هي من الشعائر التي توارثها الناس خلفاً عن سلف، واستمرت عليها مئات السنين، فلم ينكرها أعاظم العلماء ولا صلحاء أهل الدين«

  ـ إن السيد محسن قد بذر بدعوته بذور الشقاق بين أبناء طائفته في وقت هم في أشد الحاجة فيه إلى الوئام وتوحيد الكلمة«

  ـ إن منع هذه الشعائر غير ممكن في مقابل تيار العامة« إذن فما الذي دعا السيد إلى هذا التشنيع والتهويل مع أنه لم تجتمع له شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر«

  ـ إن المنكر هو الفعل الصريح في المعصية، لا الفعل الذي يراه صاحبه مباحاً« والتطبير إذا لم يكن راجحاً فهو على الأقل مباح، كيف وهو من أكبر القربات وأفضل المستحبات وأعظم علائم المودة في القربى«

  ـ إن محن الاسلام ومصائبه كثيرة لا تعد ولا تحصى« فما بال السيد ساكتاً عنها كأن التطبير أشد نكراً من الفجور وشرب الخمور، أو هو أبشع من هدم مراقد البقيع«

هذا هو نمط الاحتجاج الذي جاؤوا به« وقد نسوا أو تناسوا أنه احتجاج يصدق على كل مصلح« فكل مصلح لا بد أن يفرق بدعوته الجماعة، وأن يشجب العادات التي وجد الناس عليها آباءهم، وأن يلقى من العامة عنتاً وثلباً««« ولو أن المصلحين اكترثوا لمثل هذه الحجج لما قام في الدنيا إصلاح أبداً، ولو أن الامام الخميني التفت إلى هذا الكلام وقال  إن الرأي العام على عدم القول بولاية الفقيه وإن مهمة الفقهاء في عصر الغيبة التشريع فقط فلا بد من متابعة الجو العام، لما كان عندنا دولة إسلامية بل ولا كل هذه الصحوة الإسلامية«

مغالطة شائعة

هذا ولا بد أن نشير إلى وجود مغالطة تكاد تكون شائعة لدى الطلاب نتيجة عدم تحديد مصطلح كلمة المشهور، وعدم تحديد المصطلح يوقع دائماً في المغالطات، فتارة يقصد بالمشهور العلماء المحققون، وتارة يقصد المشهور بين الناس وعوام الطلبة وقرّاء العزاء، فقد يكون الشيء مشهوراً لدى العوام وليس مشهوراً لدى المحققين، مثال ذلك  الرواية المتداولة على ألسنة الطلاب عن أمير المؤمنين  ع    لو شئت لجعلت لكم من الماء نوراًî فهذه الرواية يرددها حتى العلماء الكبار ولكن الذين حققوا هذه الرواية ومنهم الكاتب نفسه ينفون صحتها، وهكذا مسألة زواج القاسم في كربلاء وكراهة أن يكون الانسان حائكاً، وغيرها، ولذلك شاعت كلمة  كم من مشهور لا أصل لهî«

وهنا أتحدى هؤلاء، أن يكون من شكك في بعض تفاصيل ما جرى على الزهراء قد خالف مشهور المحققين، وأنا متأكد أنهم لو سألوا العلماء الكبار ـ من الذين لا يتسامحون في أدلة السنن لا الملائية ـ من أمثال السيد الخامنئي أو السيد السيستاني أو السيد مرتضى العسكري أو العلاّمة الفضلي أو السيد محمد تقي الحكيم لكان الجواب واحداً   «

وأنا أتصور أن ما ذكره العلامة السيد هادي خسروشاهي ـ مستشار وزير الخارجية الإيراني ـ يعبّر عن رأي مجمل المحققين في هذه المسألة، حيث قال ما ملخصه   إن مثل هذه الإشاعات وتلفيق التهم الجزاف والتي قد تصدر أحياناً حتى على لسان علماء الدين الذين يدعون التحقيق العلمي في أمور تاريخية ليس لها سند محكم في أمهات الكتب، لا يمكن أن تبرر صدقية الدفاع عن المذهب أو الدينî«  الشرق الأوسط العدد     ، الاثنين   ربيع الأول     هـ،  » »    م، ص   «

الملاحظة الخامسة  يلاحظ القارىء أن الكاتب مصاب بعقدة المشهور فلذلك يستنكر اجتماع عدة فتاوى  مخالفة للمشهور ولم يدر أن الفقيه الذي يرجع إليه هو في تقليده قد خالف المشهور كثيراً، يقول ما نصه  على أن اجتماع فتاوى  شاذة كبيرة لدى شخص واحد قد يؤدي إلى أن يصبح هذا الشخص خارج دائرة المذهب الفقهي الذي ينتمي إليهî ص    ، ج «

ولا بد هنا عند بسط الكلام حول هذه النقطة من أن نوضح أن المقصود بالمشهور في كلمات العلماء، هم العلماء القدامى كالشيخ الصدوق والمرتضى والمفيد والطوسي وابن البراج وابن أبي عقيل وابن الجنيد وأمثالهم وليس الفقهاء المعاصرين، لأنه لا قيمة للشهرات أو الإجماعات المتأخرة وإذا كان هذا الباحث يقصد هذا المشهور فإن علماءنا المعاصرين خارجون كلهم عن دائرة المذهب الشيعي وخذ مثالاً على ذلك المقارنة بين كتاب الشيخ الصدوق  الهدايةî أو الشيخ المفيد في الفقه  المقنعةî وكتاب منهاج الصالحين للسيد الخوئي حيث ستجد أن هناك عشرات المسائل التي خالف فيها السيد الخوئي مشهور القدامى  ولو أن الشيخ الصدوق قد قدّر له مطالعة كتاب المسائل المنتخبة للسيد الخوئي لأصيب بالدهشة، وخذ بعض الأمثلة التي خالف فيها السيد الخوئي المشهور«

  ـ جواز الإجهاض بالنسبة للمرأة في حال الخوف على الحياة«

  ـ عدم اشتراط حضور الإمام في الجهاد الإبتدائي«

  ـ عدم جواز الكذب على الزوجة على الأحوط وجوباً«

  ـ عدم التفريق بين القرشية وغيرها في مسألة الحيض على الأحوط وجوباً«

  ـ جواز خروج المرأة من دون إذن زوجها إذا لم يناف حق الإستمتاع   «  وإن احتاط في الرسالة العملية «

  ـ مَنْ زنا بذات بعل فلا تحرم عليه مؤبداً«  وإن احتاط في المنهاج ولكنه أفتى بذلك في حالات خاصة    «

  ـ جواز الأكل بالنسبة لطالب الصيد لهواً«

  ـ وجوب دفع الخمس إلى الأعلم على الأحوط وجوباً«

  ـ عدم ثبوت استحباب كثير من الأغسال«

   ـ عدم وجوب الترتيب بين الجانب الأيمن والأيسر في الغسل«

   ـ جواز القتل حال الإكراه، إذا كان الطرف المكرَه  بالفتحî أهم من الذي يراد قتله«

   ـ عدم وجوب الوضوء لكل صلاة بالنسبة للمستحاضة الكثيرة«

   ـ عدم ثبوت الكثير من أحكام الحائض من الواجبات والمحرمات والمستحبات والمكروهات بالنسبة للنفساء  قراءة الآيات ـ المكث في المساجد ـ وضع شيء فيها «

   ـ حصول المغرب بسقوط القرص على الأحوط بل الأظهر بالنسبة لانتهاء وقت العصر«

   ـ جواز حلق اللحية بالنسبة لمن يستهزأ به أو يتوقف عليه عمله«

   ـ جواز حلق العارضين مع عدم الإفتاء بحرمة أصل الحلق«

   ـ عدم اشتراط الاجتهاد في القاضي مع عدم توفر من له الملكة بشرط أن يحكم طبق رأي المجتهد«

   ـ جواز بقاء العامي على تقليد الميت في المسائل التي تعلمها من فتاواه حال حياته ولم ينسها خلافاً للمشهور الذي يجوِّز البقاء مطلقاً«

   ـ إذا توضأ بماء فانكشف بعد الفراغ أنه لم يكن مباحاً فالأظهر البطلان خلافاً للمشهور الذي يرى الصحة«

   ـ عدم إشتراط العدالة في من يؤم صلاة الميت«

   ـ الأحوط ترك المعاملة الربوية بين الوالد وولده وكذا بين الزوجين خلافاً للمشهور الذي يرى الجواز«

   ـ الاحوط وجوباً حضور صلاة الجمعة إذا أقيمت«

   ـ بطلان الصلاة  بالتكلم بحرف واحد وإن لم يكن مفهماً خلافاً للمشهور الذي يشترط الحرفين«

   ـ عدم التفريق بين من كان عمله السفر وعمله في السفر«

   ـ عدم ثبوت الكفارة حتى في النومة الثالثة بالنسبة للصائم«

   ـ يجوز للمرأة أن تشترط لنفسها التوكيل في الطلاق«

   ـ جواز أخذ الأجرة على الواجبات على تفصيل«

   ـ جواز العقد الدائم على الكتابية وجواز الرقص غير الجنسي«

   ـ الجلود المشكوكة التذكية التي تأتي من بلاد الغرب محكومة بالطهارة«

   ـ يجوز أكل السمك الذي مات في الشبكة حتى ولو كان داخل الماء«  راجع المسائل المنتخبة وصراط النجاة «

إلى كثير من الأمثلة التي تجدها عند المقارنة بين الكتب الفقهية القديمة والمعاصرة« ولو أردنا أن نستوعب ما خالف فيه السيد الخوئي المشهور أو الإجماع لبلغ بنا الرقم إلى مئتين أو ثلاثمائة فتوى، وهكذا حال الإمام الخميني والحكيم وغيرهما من المراجع ـ وسوف يصدر لنا قريباً كتابٌ خاصٌ عدّدنا فيه لأبرز مراجع الشيعة من الشيخ الصدوق والمفيد مروراً بالعلامة والحلي وانتهاء بالسيد الخوئي و السيد الخميني والسيد السيستاني وغيرهم العشرات من الفتاوى الشاذة لكل واحد منهم ـ علماً بأن المسائل التي يمكن أن يحصيها صاحب كتاب المأساة على من وجّه إليه اتهامه في مخالفة المشهور لا تتجاوز عدد الأصابع فلماذا يجوز للآخرين مخالفة المشهور في عشرات المسائل ولا يجوز لهذا الفقيه هذه المخالفة«

وهنا أرجو من القارىء أن يقارن بين المقولة التي طرحها الكاتب، والتي تقول   على أن اجتماع فتاوى شاذة كبيرة لدى شخص واحد قد يؤدي إلى أن يصبح هذا الشخص خارج دائرة المذهب الفقهي الذي ينتمي إليهî«

وبين مقولة أخرى لأحد المجتهدين التقليديين، حتى يعرف القارىء أنه حتى التيار التقليدي في الحوزة لم يصل إلى هذا المستوى في الطرح، يقول المرزا محمد التنكابني ـ وهو يتحدث عن الكتاب الفقهي المعروف مستند الشيعة للمولى  النراقي المعروف بكثرة الفتاوى الشاذة ـ   وكتاب مستند الشيعة كتب فيه عدة كتب فقهية باستدلال وقد أجاد وذكر تحقيقات كثيرة، وكان أصولياً صرفاً لكن كان غالباً يقوي ما هو خلاف المشهور مثل أنه يرى طهارة العصير العنبي قبل ذهاب الثلثين وبعد الغليان ويرى أن وقت الغروب بين استتار القرص وذهاب الحمرة الشرقية كما هو مذهب أبي حنيفةî ثم يقول

 ولا يخفى أن الملا أحمد لم ير الكثير من الأساتذة ولم يدرس كثيراً وهذه التحقيقات والتدقيقات هي من فطانته وذكائه والله العالم وذوقه الفقهي بعيد عن ذوق المشاهير الحذقة المهرة وكان غالباً يقوّي الأقوال الضعاف« وهذا خلاف مسلك الاحتياط بل المستحسن متابعة المشهور وإفهام الفقهاء في مدرك الأحكام بل في أخبار الأئمة  ع  أيضاً أمر بمتابعة المشهورî    «

وهنا انظر الفرق بين القولين، ففي الوقت الذي يقول فيه الأول إن كثرة مخالفة المشهور قد توجب الخروج من المذهب، يقول هذا المجتهد ـ غير المحسوب على التيارات المنفتحة والذي لا نتفق معه في هذه النقطة لأن المقصود بخذ بما اشتهر بين أصحابك، ما اشتهر من الروايات كما فهمه الأصوليون وليس ما اشتهر من آراء ـ بأن من المستحسن عدم مخالفة المشهور«

وانظر إلى الفارق الكبير ـ بين السماء والأرض ـ بين تلك المقولة وبين مقولة أحد الفقهاء الذين ينتمون إلى التيار المنفتح، وهو آية الله العظمى السيد القائد الخامنئي الذي يؤكد على احترام الآراء الجديدة حتى ولو كانت خاطئة بشرط أن لا تكون اعتباطية، فكيف بالآراء الفقهية المحكمة التي لا يستطيع الآخرون بل ولا يتجرأون أصلاً في الدخول في مناقشتها، وإنما أقصى  ما يقدرون عليه اتهامها بمخالفة المشهور، يقول  دام ظلهî   المهم؛ يجب أن لا نعمد إلى رفض كل من يطرح فكرة أو فتوى فقهية جديدة حتى لو كانت خاطئة، بحيث نعاجله بالرد عليه، والقول بأن فلاناً جاء بفتوى سخيفة في الموضوع الفلاني؛ لأن ذلك يبقى في النهاية رأياً فقهياً يجب طرحه على بساط البحث، وفتح الباب أمام إبداع الأفكار الجديدة، علماً بأن هذا الأمر يحتاج إلى قوانين وضوابط خاصة لئلا يتحول إلى طرح اعتباطي للأفكارî   «

وقد حاول البعض أن يفرق بين الفتاوى  الشاذة والفتاوى  المخالفة للمشهور مع أن صريح كلام الإمام  عî التقابل بينهما حيث يقول كما في مقبوله عمر بن حنظلة  ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابكî، وعلى التنزل فإن مورد إشكال هذا الباحث مخالفات المشهور وليس مخالفات الإجماع«

الاحتياط الوجوبي والفتوى 

ومن الجدير ذكره أن الكثير من المتعلمين في الحوزات ينظرون إلى الاحتياطات الوجوبية نظرتهم إلى الفتاوى  مع العلم أن هناك فرقاً كبيراً بينهما، فالإحتياط الوجوبي هو عبارة عن نصف فتوى ، حيث أن الفقيه يفتح المجال فيه لمقلديه بالرجوع إلى غيره، وذلك لعدم وضوح الدليل عنده حيث أنه لا يستطيع أن يعطي جواباً حاسماً، بينما تمثل الفتوى جداراً عالياً لا يستطيع أحد أن يتجاوزه«

وبذلك نعرف أن كثيراً من الإحتياطات الوجوبية التي تكثر في الرسائل العملية هي مخارج للمكلفين حيث أنهم يستطيعون مع مراعاة الأعلم فالأعلم    ـ رغم الإشكال الذي سنذكره للسيد هبة الدين الشهرستاني لاحقاً في مسألة كثرة الاحتياطات ـ أن يرجعوا إلى من يحل لهم المشكلة على أساس الموازين الشرعية«

وقد سئل السيد الخوئي بما نصه  أفتيتم بحرمة حلق اللحية على الأحوط وجوباً، فهل أن حالق اللحية فاسق وإذا كان كذلك فهل تجوز غيبته؟

الخوئي  نعم حرام على الأحوط، ولكن لا تجوز غيبة حالق اللحية لاحتمال رجوعه إلى من يجوِّزُه، أو كونه مضطراً إليه ولو بمقدار الحرج والمشقة التي لا تتحمل عادة والله العالم   «

وقد تعرض العلاّمة الشيخ عبد الهادي الفضلي إلى بيان حقيقة الاحتياط الوجوبي فقال   الرأي المجرد  ويراد به الرأي المجرد من الفتوى، أي الذي لم يُتبعه الفقيه بالفتوى على وفقه« ذلك أن الفقيه قد يوصله البحث إلى رأي فقهي في المسألة، لكنه لا يفتي على وفقه لسبب يمنعه من ذلك« ويأتي هذا في جملة من المسائل التي يفتي فيها الفقيه بالاحتياط الوجوبي«

وهذا مثلما لو أدى الاستدلالُ الفقيه إلى أن النصوص الشرعية تفيد طهارة أهل الكتاب، إلاّ أنه يرى أمامه فتوى مشهور فقهاء الامامية بنجاستهم فتجعله يتراجع عن الإفتاء بالطهارة   «

والطريف أن أحدهم حاول أن ينظّر لفكرة اجتماع الفتاوى الشاذة بما هو موجود في البلاغة من أن الكلمات قد تكون فصيحة ولكن اجتماعها يجعلها غير فصيح وذلك بالبيت المعروف

وقبر حرب بمكان قفر                 وليس قرب قبر حرب قبر

وهذا المنظِّر من أشد الناس مقتاً للقياس ولكنه في مقام المخاصمة تجده يندفع اندفاع أبي حنيفة في التعلق بأي فكرة يجدها مشابهة للفكرة التي يطرحها ولو من وجه من الوجوه، فتراه يطبق قواعد البلاغة ويجعلها قواعد أصولية تماماً كما فعل الماركسيون عندما أرادوا تطبيق قواعد الكيمياء والفيزياء على قوانين المجتمع في مسألة التغيرات الكيفية والكمية«

وبالمناسبة فإننا نقول لهذا الشخص بأن الرأي العام لدى علماء الأصول أن الشهرات الفتوائية ليست حجة وإنما الممنوع أن يخالف الفقيه الاستظهارات العرفية  راجع المحكم في أصول الفقه، السيد محمد سعيد الحكيم، ص    ، ج  «

والحاصل أن مخالفة المشهور كثيرة، خاصة بعدما شاعت عادة تغليف الفتاوى بالاحتياطات الوجوبية وقد سئل السيد الخوئي بما نصه   صحيح  أن الاحتياط الورعي طريق النجاة، ولكن ما الوجه لديكم ـ سيّدي ـ في إلزامية هذا الإحتياط على المكلّفين، مع أنه ليس من فروع العلم الإجمالي حتى يجب، ومجرّد عدم مخالفة المشهور في بعض المسائل ـ مع العلم أنكم لا ترون حجّية المشهور ـ لا توجب الإلزام سيدي، كما في مسألة طهارة الكتابي مع تمامية الدليل الشرعي على ذلك، وكما في مسألة مفطرية الدخان والبخار حيث أوجبتم الإحتياط رغم وجود  موثقة عمرو بن سعيدî في عدم البأس في الدخنة التي تدخل الحلق، وعدم صحة قياس البخار على الغبار، فما الوجه العلمي في كل ذلك؟

الخوئي  قد يكون هناك جهات تقتضي عدم الإفتاء في المسألة، فإن الإفتاء في مسألة مع وجود من به الكفاية من المجتهدين غير واجب عيناً فليراجع فيها غيرنا   «

ولعل بعض هذه الجهات التي تقتضي عدم إعلان الفتوى والإسرار بها لمن يثق به المرجع، خطر الغوغاء مما يدفع ذلك المرجع ـ بحسب قناعته ـ إلى تغليف الفتوى بالاحتياط، وقد أشار إلى ذلك العلاّمة الشيخ محمد جواد مغنية حيث قال في تفسيره   أما نحن فنرى طهارة أهل الكتاب، وقد صرحنا بذلك مع الدليل في الجزء الأول من فقه الإمام جعفر الصادق، وعلى هذا كثير من المراجع الكبار، منهم السيد الحكيم والسيد الخوئي الذي أسر برأيه لمن يثق بهî   «

والحاصل أنه ليس هناك ما يجعلنا نعتقد أن المشهور يمثل القول المعصوم الذي لا يجوز الخروج عليه، وما أجمل ما ذكره آية  الله السيد هبة الدين الشهرستاني في المقام، حيث قال

 وأما في القرون الأخيرة فالسيطرة أضحت للرأي العام على رأي الأعلام««« فصار العالم والفقيه يتكلم من خوفه بين الطلاب غير ما يتلطف به بين العوام وبالعكس، ويختار في كتبه الاستدلالية غير ما يفتي به في الرسائل العملية ويستعمل في بيان الفتوى  فنوناً من السياسة والمجاملة خوفاً من هياج العوام« حتى أنه بلغنا عن فقيه سأله أحد السوقيين عن يهودي بكى على الحسين  ع  فوقعت دمعته على ثوبي، هل نجس الثوب أم لا؟ فأجاب المسكين خوفاً منه  إن جواب هذه المسألة عند الزهراء  ع « وسأل سوقي آخر فقيها عمن يشج رأسه للحسين  ع ، فأجابه كذلك، إلى غير ذلك« لكن هذه الحالة تهدد الدين بانقراض معالمه واضمحلال أصوله، لأن جهال الأمم يميلون من قلة علمهم ونقص استعدادهم وضعف طبعهم إلى الخرافات وبدع الأقوام والمنكرات« فإذا سكت العلماء ولم يزجروهم أو ساعدوهم على مشتهياتهم غلبت زوائد الدين على أصوله، وبدعه على حقائقه، حتى يمسي ذلك الدين شريعة وثنية همجية تهزأ بها الأمم««î   «

ولا بأس يإيراد ما ذكره آية الله الشيخ أحمد آذري القمي حيث قال

 إن الإحتياط مطلقاً خلاف الإحتياط سيما الإحتياط في جميع الأحكام ولا سيّما في هذا الزمن إذا سهل الإحتياط كمثل الغناء وضرب الأوتار في الشبهة الموضوعية والحكمية، أعني ما يكون الإحتياط بالترك الذي لا مؤونة له، إذ الإحتياط وإن كان لا شبهة في حسنه ذاتاً، بل لعلّه مقدّم على الإجتهاد والتقليد ولكنّه بلحاظ الأمور الجنبي حرام قطعاً فإذا صار الإحتياط منشأً لترك أصل الواجب أو فعل المحرّم أو تشويه صورة النظام الإسلامي وتبعيد الناس عن الإسلام وعقائده وأحكامه، أو ترك أهم الواجبات الدينية أو تهويد أو تنصير المسلمين وغير ذلك فلا شبهة في زوال حسنه بل عروض الحرمة، حتى أنّي أعتقد  وإن لم يكن في المسألة رواية  بلزوم الإكتفاء بالمرة أو المرتين في الشاك في القبلة، كما أفتى به السيد الخوئي والميلاني وغيرهما في حاشية العروة واحتاط الآخرون مثل السيّد الحكيم والكَلبايكَاني قدس سرهما، واحتاط السيّد الكَلبايكَاني بقضاء الصلاة في صورة ضيق الوقت وعدم الإكتفاء بالمرّة أو المرتين في الوقت« ففي الحديث  إن الله يحب أن يؤخذ برخصه كما يحب أن يؤخذ بعزائمه وفي خاطري أن بعض السنوات التي حججت فيها انحرف بعض رفقائي عن الإسلام بواسطة لزوم رعاية الوقت في الجمرات وحين الإزدحام مع أنّ العجزة أُبيح لهم الرمي بعد نصف الليل« ويظهر مما ذكرنا سرّ إصرار الإمام الراحل  قدس  على بيان حكم الشطرنج وحليّة اللعب به عند خروجه عن آلية القمار وجواز بيعه وشرائه في صورة صيرورته من الآلات المشتركة، وتحليل أكثر الأصوات، إلا نادراً في اشتراك النساء في مسيرات الجمهورية الإسلامية، والتأكيد على جواز تعليمهن الرمي وغيره، وحرمة البحث عن وجوب ستر وجوههن في مجلس الشورىî   «

الملاحظة السادسة  ـ عدم اعتماد هذا الباحث على توثيق الروايات ودراسة أسانيدها، بل يعتمد دائماً على ذكر المصادر الكثيرة من العامة والخاصة في الهامش مما يوحي للقارىء الساذج إن هذه الرواية مؤكدة، وهو يخاف من ذكر السند لأنه لو ذكر بعض رجاله لتبين أنهم إما مجهولون أو كذابون أو ضعاف«

وهذا على طريقة ذلك الشخص الذي  اخترع إشاعة في وسط الناس فصارت الآلاف تتناقلها ثم عندما نبحث عن المصدر يتبين لنا أن المصدر هو إنسان واحد«

فمن باب المثال يقول  روى الديلمي««« وروى الصدوق رحمه الله««« وعن أبي عبد الله  ان بنات الأنبياء لا يحضن««« وفي رواية عن أبي جعفر««« وهكذا  راجع ص    من ج   من دون التعرض للسند، وهو أسلوب الاخباريين الذين يحشدون روايات كثيرة من الخاصة والعامة دون أن يفتشوا عن الأسانيد ـ كما فعل صاحب تفسير الصافي في إثبات تحريف القرآن ج  ص    ـ    ـ «

والمثال الذي نذكره على عدم تدقيقه في الأسانيد قوله في ص   مأساة ج   بل يأبى الإلزام أو الإلتزام بما ورد عن النبي الكريم  ص  وعن الأئمة الطاهرين  ع  من أنها عليها السلام قد ولدت من ثمر الجنةî«

ولكننا عندما نقرأ كتب العلماء الكبار نجد السيد هاشم معروف الحسني يقول تعليقاً على هذه الرواية  أن من الجائز القريب أن تكون هذه الرواية من صنع الغلاة وقد نسبت إلى سدير الصيرفي زوراً وبهتاناًî   «

وذلك في فصل خاص عقده بعنوان   من مرويات الغلاة عن مولد السيدة فاطمة الزهراء  ع  فراجع«

المخالفون يدسون روايات في فضل أهل البيت

والمشكلة هنا أن الكثير من البسطاء عندما يسمعون حديثاً في فضل أهل البيت حتى ولو كان مروياً من طرق الغلاة والمنحرفين عن التشيع صدَّقوا به واتهموا من ينكره أو يشكّك فيه بأنه لا يؤمن بالغيب« ودخلوا في دراسة طويلة عريضة عن الإيمان بالغيب بطريقة توحي بأن الآخر لا يؤمن بالغيب أصلاً أو لا يرتاح إلى سماع فضائل أهل البيت  ع  وكراماتهم«

ومن الجميل هنا أن نذكر بعض التوجيهات التي ركز عليها أئمة أهل البيت  ع  في مواجهة هذه الأكاذيب، ففي كتاب الموضوعات في الآثار والأخبار  وجاء في رواية الصدوق عن الرضا  ع  إن إبراهيم بن أبي محمود قال له  يا بن رسول الله، إن عندنا أخباراً في فضائل أمير المؤمنين وفضائلكم أهل البيت وهي من رواية مخالفيكم ولا نعرف مثلها عندكم أفندين بها؟ فقال الإمام الرضا  ع   يا بن أبي محمود إن مخالفينا وضعوا أخباراً في فضائلنا وجعلوها على ثلاثة أقسام  أحدها الغلو، وثانيها التقصير في أمرنا، وثالثها التصريح بمثالب أعدائنا، فإذا سمع السامع الغلو فينا كفَّروا شيعتنا ونسبوهم إلى القول بربوبيتنا، وإذا سمعوا التقصير اعتقدوه فينا، وإذا سمعوا مثالب أعدائنا بأسمائهم ثلبونا بأسمائنا، وقد قال الله سبحانه   ولا تسبوا الذين كفروا فيسبوا الله عدواً بغير علم ، إلى أن قال يا بن أبي محمود احفظ ما حدثتك به فقد جمعت لك فيه خير الدنيا والآخرةî«  الموضوعات في الآثار والأخبار ص     «

وقد علق العلامة المحقق الشيخ محمد تقي التستري ـ صاحب قضاء أمير المؤمنين ـ على هذه الرواية بقوله   وأظن أن الأخبار التي روت العامة في تفسير قوله تعالى   والنجم إذا هوى  أن المراد سقوط نجم في دار عليّ بن أبي طالب  ع  دليلاً على إمامتهî من هذا القبيل الذي قاله الرضا  ع  وإن نقله بعض الخاصة غفلة عن حقيقة الحال فإن أصغر النجوم أكبر من الأرض إلى التخوم فكيف يعقل سقوط نجم في دار« وإنما روى الكافي أن المراد بالآية القسم بالنبي  ص  إذا قبض، وروى تفسير القمي أنه قسم النبي  ص  إذا أُسري به وقال  إنه ردّ على من أنكر المعراج«

ولما قلنا كان المحققون من القدماء كيونس بن عبد الرحمن، وأحمد بن محمد بن عيسى، ومحمد بن الحسن بن الوليد يدققون كثيراً في أمر الحديث ولا يعملون بكل خبر، فمرّات قيل ليونس  ما أكثر إنكارك لما يرويه أصحابنا؟ فقال   حدثني هشام بن الحكم أنه سمع الصادق  ع  يقول  لا تقبلوا علينا حديثاً إلا ما وافق القرآن والسنة، أو تجدون معه شاهداً من أحاديثنا المتقدمة فإن المغيرة بن سعيد دسّ في كتب أصحاب أبي ما لم يحدِّث أبي بهاî«

وقال  عرضت كتب كثير من أصحاب الصادق  ع  على الرضا  ع  فأنكر منها أحاديث كثيرة أن تكون من الصادق  ع ، وقال   إن أصحاب أبي الخطّاب يدسُّون إلى يومنا في كتب أصحاب الصادق  ع  فلا تقبلوا علينا خلاف القرآن فإنا إذا تحدّثنا حدّثنا بموافقة القرآن وموافقة السنة إنا عن الله وعن رسوله نحدّث ولا نقول   قال فلان وقال فلانî فيتناقض كلامنا« إن كلام آخرنا بمثل كلام أولنا وكلام أولنا مصدِّق لكلام آخرنا وإذا أتاكم من يحدّثكم بخلاف ذلك فردُّوه عليه وقولوا  أنت أعلم وما جئت به فإن مع كلِّ قول منا حقيقة، وعليه نور« فما لا حقيقة له ولا نور عليه فذلك قول الشيطانî   «

وقد أضاف العلامة السيد هاشم معروف الحسني على ذلك بقوله   ومهما كان الحال فرواية الصدوق عن الرضا  ع  تعبر تعبيراً صادقاً عن واقع أكثر الموضوعات في الفضائل والمثالب لأن أعداء أهل البيت قد استعملوا جميع الأساليب لإيجاد فجوة بينهم وبين الناس، فسلكوا هذا الطريق بعد أن وجدوا أن حرب الإبادة تدر عليهم العطف وتقربهم من الناس ونجحوا في هذا الأسلوب إلى حد ما، فدسوا بين مروياتهم مئات الأحاديث في شتم الخلفاء والصحابة، وفي إعطاء الأئمة صفة الخالق المدبر والإتكال على ولاية علي وبنيه، وظلت آثار هذه الموضوعات تعصف في الآذهان وتعبث في الأفكار والعقول حتى يومنا هذا بالرغم من تلك الجهود المخلصة التي توالت للكشف عن تلك الموضوعات وتصفية الحديث والعقيدة مما علق بها من آثار تلك الموضوعات ومفاسدهاî   «

الملاحظة السابعة  ـ محاولة حشر أفكار لا يلتزم بها الآخرون وإدخالها على أنها تمثل أفكارهم لزيادة التشنيع على طريقة  أكثر من البهارات حتى يكون الطعام شهياًî وهنا أكثر من الزيادات والتحريفات حتى يمكن التهويل والتهويش«

وهنا نذكر عدة أمثلة على ذلك

  ـ ادعاؤه بأن سماحة السيد استفاد عصمة الزهراء من البيئة حيث يقول ما نصه  وحديثه هذا يستبطن أن الزهراء  ع  لو عاشت في بيئة أخرى  ليست ببيئة صلاح وخير وإيمان، فلسوف تطبعها بطابعها الخاص، فتكون المرأة الشريرة والمنحرفة، والعياذ بالله  î

ولا ندري من أين أتى  بهذه الفكرة حيث اختلق فكرة في ذهنه ونسبها إلى غيره، وهذه مشكلة من يقرأ السطور من خلال عاطفته فهو لا يقرأ الكلمات كما هي بل يقرأها بشكل مقلوب، وبذلك يحاول أن يلتمس أي عبارة فيها ظاهر بنسبة     وخلاف الظاهر بنسبة الـ    فيتمسك بـ   ، وإلا فمن أين أتى  بهذه الفكرة التي لم نسمعها في أي محاضرة من محاضرات السيد أو كتبه، ولو كان هذا الباحث دقيقاً لذكر المصدر ولكنه ينسب الآراء من دون ذكر المصدر، فيقول  قال البعض ويكتفي بذلك«

وكذا الإشكال الذي ذكره على وصف  مصحف الزهراءî بأنه من مؤلفات الزهراء  ع ، مأساة ص     مع أنَّ السيد محسن الأمين يقول في أعيان الشيعة  ج ، ص     واصفاً كتاب الجامعة  من مؤلفات أمير المؤمنين الجامعة «

  ـ نقل نصاً عن سماحة السيد يقول فيه  إننا لا نجد في التاريخ ما يشير إلى نشاط اجتماعي للسيدة فاطمة الزهراء في داخل المجتمع الإسلامي إلا في رواية أو روايتينî«

ومن الواضح هنا أن السيد يقصد أن الرواة لم يفيضوا في هذا الجانب الاجتماعي، وليس في مقام إنكار نشاط الزهراء الاجتماعي بدليل العشرات من المحاضرات التي ألقاها سماحته في هذا الموضوع والكتب التي تحدث فيها عن الدور الاجتماعي والسياسي والفكري الذي قامت به، فهي المعلمة والمربية والمحاضرة والمدافعة عن حق علي  ع «

ولكن هذا الكاتب حاول أن ينهال بهذه العبارة المتقدمة، ليقوّل السيد ما لم يقله، وهذا من أخطر أساليب التحريف، لأن من السهل على الإنسان أن يدافع عن الافكار التي يتبناها أما أن ينسب إليه غيره أفكاراً مشبوهة للتشهير فهذا لا يمكن قبوله«

  ـ يقول في ص   ، ج   فلا يصح ما يردده البعض من أن المطلوب هو مجرد الارتباط الفكري بهم  ع  من خلال معرفتنا بسياساتهمî فهو يقوّل الآخر مقولة مفادها أن ارتباطنا بالائمة  ع  كارتباطنا بأرسطو والفارابي وغيرهم من المفكرين الذين نعجب بأفكارهم، وهنا نتساءل أين الأمانة العلمية التي هي أمانة العلماء الذين يحفظون الشريعة؟

  ـ يقول في ص   ، ج   ومن أغرب ما سمعناه مقولة أطلقها البعض مفادها أن الزهراء  ع  قد عوضت النبي  ص  عن عطف الأم، حيث أن أمه ماتت، وهو لا يزال طفلاً، فلأجل ذلك أطلق عليها لقب أم أبيها««« إن هذا الكلام لا يمكن قبوله إذ لا يمكننا قبول مقولة  إن النبي  ص  كان يعاني من عقدة نقص، نشأت عن فقده أمه، فاحتاج إلى من يعوضه ما فقدهî«

ومثلها العبارة التي ينقلها في ص    ، ج  عندما يقول السيد  إن طبيعة الأمور تقتضي أنه إذا اجتمعت المعارضة ليتمردوا على الخلافة أن يبادر الحكام لمواجهتهمî فهنا طرح هذا الباحث أنه كيف يقال إن الإمام علي متمرد«

وبالنظر إلى هذين النصين ينكشف بشكل واضح أنه يبتني على قاعدة  احمل أخاك على سبعين محملاً من الشر ولا تحمله على المحمل الحسن ما وجدت إلى حمله على الشر سبيلاً  لأنه من الواضح أن الحديث لا ينسب النقص إلى النبي  ص  وإنما يتعرض للعمل الذي قامت به الزهراء التي كانت تمسح رأس النبي من الأوساخ التي يرميها عليه المشركون، وتداوي جراحه وتقوم مقام عمل الأم في العناية بولدها، فصارت أم أبيها« وليس المراد أن النبي ناقص.


ملحق 1

علامات استفهام حول بعض ألسنة الرّوايات

ولا يفوتنا في هذا المجال أن نسجل بعض الملاحظات على تفاصيل بعض ما روي:

لماذا تأخر أمير المؤمنين (ع) عن إنقاذ الزهراء حيث جاء في حديث سليم "فأحرق الباب ثُمَّ دفعه عمر فاستقبلته فاطمة (ع) وصاحت يا أبتاه يا رسول اللّه فرفع السيف وهو في غمده فوجأ به جنبها فصرخت فرفع السوط فضرب به ذراعها فصاحت يا أبتاه فوثب عليّ بن أبي طالب (ع) فأخذ بتلابيب عمر ثُمَّ هزه فصرعه ووجأ أنفه ورقبته وهمّ بقتله فذلك قول رسول اللّه وما أوصى به من الصبر والطاعة "كتاب سليم ص:250" حيث لا يعقل أن ينتظر أمير المؤمنين أن يكيل هذا الشخص الضربات للزهراء وهو ينظر إليه ثم بعد ذلك يتدخل.

وثانياً  حسب رأي المتأخرين أن المعصوم لا ينسى فكيف تقول هذه الرواية،  فذكر قول رسول اللهî«

على أن المستفاد من الأخبار أن علياً موصى بعدم المطالبة بحق الخلافة بالسيف وليس موصى بعدم الدفاع عن نفسه وأهله، ففي دلائل الامامة عندما بلغ أمير المؤمنين  ع  أن البعض همّ بنبش قبر الزهراء  ع  بحجة الصلاة عليها  فخرج  علي  مغضباً قد احمرت عيناه ودرت أوداجه وعليه القباء الأصفر الذي كان يلبسه في الكريهة وهو يتوكأ على سيف ذي الفقار«««  إلى أن يقول  فأخذ عليّ بجوامع ثوبه ثم ضرب به الأرض وقال يا بن السوداء أما حقي فقد تركته مخافة ارتداد الناس عن دينهم وأما قبر فاطمة فوالذي نفس علي بيده لئن رمت أنت أو أصحابك شيئاً لأسقيّن الأرض من دمائكم«««î    «

  ـ ما جاء في رواية الاختصاص على لسان الزهراء  ع    والله لئن لم تكفّا عنه لأنشرن شعري ولأشقن جيبي ولآتين قبر أبيî  الاختصاص ص      حيث كيف يعقل أن الزهراء تكشف شعرها وتهدد بارتكاب هذا الشيء المحرم حيث أن فرض الكلام أن الدار وخارجها ممتلئة بالمهاجمين«

  ـ ما جاء في بعض الروايات  فركل الباب برجله وألصقها إلى الجدار ثم لطمها على خدها من ظاهر الخمار حتى تناثر قرطهاî حيث أنه من المعلوم أن الزهراء ـ في حديث القرط المشهور ـ قال لها النبي  ص   ما لآل محمد والدنياî ـ فليس لديها قرط، هذا أولاً«

وثانياً  إن هذه الرواية تخالف ما قاله أمير المؤمنين في وصف حال آل محمد حيث قال  ونحن أهل بيت محمد  ص  لا سقوف لبيوتنا ولا أبواب ولا ستور إلا الجرائد وما أشبههاî  رواية الاختصاص ص     «

وقد يقول الآخرون ما المانع من أن تحصل على قرط جديد؟

وجواب هذا التأمل في رواية محمد بن الحنفية الطويلة ـ الآتية ـ التي تدل على أن حال أهل البيت وخاصة الزهراء  ع  حال أضعف الناس، وليس من الوارد تغير سلوك الزهراء بعد أبيها  ص «

  ـ اشتمال بعض هذه الروايات على الأمور المنكرة مثل  فلم يشعر الجمع إلا ويد خارجة من القبر المطهر متجهة نحو أبي بكر وصوت لا يشكون أنه صوت النبي  ص   يا هذا أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلاًî«  بصائر الدرجات ص    «

أو ما روي في الاحتجاج للطبرسي ص     يقول سلمان الفارسي كنت قريباً منها فرأيت والله أساس حيطان مسجد رسول الله قد تعلقت من أسفلها حتى لو أراد الرجل أن ينفذ من تحتها لنفذî«

  ـ اشتمال بعض هذه الروايات على مقولة غريبة لعمر، وهي  لما سمعت لها زفيراً عالياً كدت أن ألين وانقلب لولا أن أتذكر كيد محمد وولوغ علي في دماء صناديد العربî فهل يعقل أن يعلن كفره البواح على المسلمين ويفضح نفسه على رؤوس الأشهاد«

  ـ ما جاء في رواية الاختصاص أيضاً على لسان علي  ـ اللهم إنك تعلم أن النبي الأمي قال لي  إن تموا عشرين فجاهدهم، وهو قولك في كتابك  فإن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين والتساؤل هنا هل أن بني هاشم وحدهم لم يصل عددهم إلى العشرين، ثم إنه لو كان عدد الآخرين مائتين أفهل يحتاج أمير المؤمنين إلى غيره أصلاً«

كما أن هذه الرواية خلاف ما روى من قوله  ع    أما والله لو كان لي عدة أصحاب طالوت أو عدة أهل بدر وهم أعدادكم لضربتكم بالسيفî  تحف العقول ص     «

وخلاف الرواية التي تحدد العدد بالثلاثين، وفيها   ثم خرج من المسجد فمر بصيرة فيها نحو من ثلاثين شاة فقال والله لو أن رجالا ينصحون لله عز وجل ولرسوله بعدد هذه الشياه لأزلت ابن آكلة الذبانî«  روضة الكافي، نقلاً عن وفاة الصديقة الزهراء  ع  المقرّم، ص   

وخلاف ما روي في الاختصاص أيضاً فيما رواه محمد بن الحنفية ـ في محاورة أمير المؤمنين  ع  لليهودي من قوله  ع    ولو لم أتق هذه الحال يا أخا اليهود ثم طلبت حقي لكنت أولى ممن طلبه لعلم من مضى من أصحاب محمد  ص  ومن بحضرتك منهم، إني كنت أكثر عدداً وأعز عشيرة وأمنع رجالاً وأطوع أمراً وأوضح حجة««« الاختصاص ص     والخصال ص     «

والملفت أن الإمام  ع  في هذه الرواية الطويلة ـ التي رواها في الخصال أيضاً والتي تعرض فيها أمير المؤمنين  ع  لجميع المحن التي أصابته في حياته منذ صغره إلى آخر حروبه وهي من أصح ما روي في هذا الباب ليس فيها أي تعرض لهذا الأمر وإنما ذكر  ع  كيف تم اغتصاب الخلافة منه حيث قال  ع    وحملت نفسي على الصبر عند وفاته بلزوم الصمت والاشتغال بما أمرني به من تجهيزه، وتغسيله وتحنيطه وتكفينه، والصلاة عليه، ووضعه في حفرته، وجمع كتاب الله وعهده إلى خلقه، لا يشغلني عن ذلك بادر دمعة ولا هائج زفرة ولا لاذع حرقة ولا جزيل مصيبة حتى أدَّيت في ذلك الحقَّ الواجب لله عزَّ وجلَّ ولرسوله  ص  عليَّ، وبلّغت منه الّذي أمرني به، واحتملته صابراً محتسباً ثم التفت  ع  إلى أصحابه فقال  أليس كذلك؟ قالوا  بلى يا أمير المؤمنين« فقال  ع 

وأما الثانية يا أخا اليهود، فإنَّ رسول الله  ص  أمّرني في حياته على جميع أمّته وأخذ على جميع من حضره منهم البيعة والسمع والطاعة لأمرى، وأمرهم أن يبلّغ الشاهد الغائب ذلك، فكنت المؤدِّي إليهم عن رسول الله  ص  أمره إذا حضرته والأمير على من حضرني منهم إذا فارقته، لا تختلج في نفسي منازعة أحد من الخلق لي في شيء من الأمر في حياة النبيِّ  ص  ولا بعد وفاته، ثمَّ أمر رسول الله  ص  بتوجيه الجيش الذي وجّهه مع أسامة بن زيد عند الّذي أحدث الله به من المرض الّذي توفاه فيه، فلم يدع النبيُّ أحداً من أفناء العرب ولا من الأوس والخزرج وغيرهم من سائر الناس ممن يخاف على نقضه ومنازعته ولا أحداً ممن يراني بعين البغضاء ممّن قد وترته بقتل أبيه أو أخيه أو حميمه إلاّ وجّهه في ذلك الجيش، ولا من المهاجرين والأنصار والمسلمين وغيرهم والمؤلّفة قلوبهم والمنافقين، لتصفو قلوب من يبقى معي بحضرته، ولئلا يقول قائلٌ شيئاً ممّا أكرهه، ولا يدفعني دافع من الولاية والقيام بأمر رعيّته من بعده، ثمَّ كان آخر ما تكلّم به في شيء من أمر أمّته أن يمضي جيش أسامة ولا يتخلف عنه أحد ممّن أنهض معه، وتقدّم في ذلك أشدَّ التقدُّم وأوعز فيه أبلغ الايعاز وأكّد فيه أكثر التأكيد فلم أشعر بعد أن قبض النبيُّ  ص  إلاّ برجال من بعث أسامة بن زيد وأهل عسكره قد تركوا مراكزهم، وأخلوا مواضعهم، وخالفوا أمر رسول الله  ص  فيما أنهضهم له وأمرهم به وتقدَّم إليهم من ملازمة أميرهم والسير معه تحت لوائه حتى ينفذ لوجهه الّذي أنفذه إليه، فخلّفوا أميرهم مقيماً في عسكره، وأقبلوا يتبادرون على الخيل ركضاً إلى حلِّ عقدة عقدها الله عزَّ وجلَّ لي ولرسوله  ص  في أعناقهم فحلّوها، وعهد عاهدوا الله ورسوله فنكثوه، وعقدوا لأنفسهم عقداً ضجَّت به أصواتهم واختصَّت به آراؤهم من غير مناظرة لأحد منّا بني عبد المطّلب أو مشاركة في رأي أو استقالة لما في أعناقهم من بيعتي، فعلوا ذلك وأنا برسول الله  ص  مشغولٌ وبتجهيزه عن سائر الأشياء مصدود، فإنّه كان أهمّها وأحقّ ما بدىء به منها، فكان هذا يا أخا اليهود أقرح ما ورد على قلبي مع الّذي أنا فيه من عظيم الرَّزيّة، وفاجع المصيبة، وفقد من لا خلف منه إلاّ الله تبارك وتعالى، فصبرت عليها إذا أتت بعد أختها على تقاربها وسرعة اتّصالها، ثمَّ التفت  ع  إلى أصحابه فقال  أليس كذلك؟ قالوا  بلى يا أمير المؤمنين، فقال  ع 

وأما الثالثة يا أخا  اليهود فإن القائم بعد النبيِّ  ص  كان يلقاني معتذراً في كلِّ أيّامه ويلوم غيره ما ارتكبه من أخذ حقّي ونقض بيعتي ويسألني تحليله، فكنت أقول  تنقضي أيّامه، ثم يرجع إليَّ حقّى الّذي جعله الله لي عفواً هنيئاً من غير أن أحدث في الاسلام مع حدوثه وقرب  عهده بالجاهليّة حدثاً في طلب حقّي بمنازعة لعلَّ فلاناً يقول فيها  نعم وفلاناً يقول  لا، فيؤول ذلك من القول إلى الفعل، وجماعة من خواصِّ أصحاب محمّد  ص  أعرفهم بالنصح لله ولرسوله ولكتابه ودينه الاسلام يأتوني عوداً وبدءاً وعلانية وسرّاً فيدعوني إلى أخذ حقي، ويبذلون أنفسهم في نصرتي ليؤدوا إلي بذلك بيعتي في أعناقهم، فأقول  رويدا وصبراً قليلاً لعلَّ الله يأتيني بذلك عفواً بلا منازعة ولا إراقة الدِّماء، فقد ارتاب كثيرٌ من الناس بعد وفاة النبيِّ  ص ، وطمع في الأمر بعده من ليس له بأهل، فقال كلُّ قوم  منَّا أمير، وما طمع القائلون في ذلك إلاّ لتناول غيري الأمر، فلمّا دنت وفاة القائم وانقضت أيّامه صيّر الأمر بعده لصاحبه، فكانت هذه أخت أختها، ومحلّها منّي مثل محلّها وأخذا مني ما جعله الله لي فاجتمع إليَّ من أصحاب محمّد  ص  ممّن مضى وممّن بقي ممّن أخّره الله من اجتمع فقالوا لي فيها مثل الّذي قالوا في أختها، فلم يعد قولي الثاني قولي الأوَّل صبراً واحتساباً ويقيناً وإشفاقاً من أن تفنى عصبة تألّفهم رسول الله  ص  باللّين مرَّة وبالشدَّة أخرى، وبالنُّذُر مرَّة وبالسّيف أخرى حتّى لقد كان من تألّفه لهم أن كان الناس في الكرِّ والفرار والشبع والرَّيِّ، واللباس والوطاء والدِّثار ونحن أهل بيت محمّد  ص  لا سقوف لبيوتنا، ولا أبواب ولا ستور إلاّ الجرائد، وما أشبهها ولا وطاء لنا ولا دثار علينا، يتداول الثوب الواحد في الصلاة أكثرنا، ونطوي اللّيالي والأيّام عامّتنا، وربما أتانا الشيء ممّا أفاءه الله علينا وصيّره لنا خاصَّة دون غيرنا ونحن على ما وصفت من حالنا فيؤثر به رسول الله  ص  أرباب النعم والأموال تألّفاً منه لهم، فكنت أحقَّ من لم يفرِّق هذه العصبة الّتي ألّفها رسول الله  ص  ولم يحملها على الخطّة الّتي لا خلاص لها منها دون بلوغها أو فناء آجالها لأنّي لو نصبت نفسي فدعوتهم إلى نصرتي كانوا منّي وفي أمري على إحدى منزلتين إمّا متّبع مقاتل، وإمّا مقتول إن لم يتّبع الجميع، وإمّا خاذل يكفر بخذلانه إن قصّر في نصرتي أو أمسك عن طاعتي، وقد علم الله أنّي منه بمنزلة هارون من موسى، يحلُّ به في مخالفتي والإمساك عن نصرتي ما أحلَّ قوم موسى بأنفسهم في مخالفة هارون وترك طاعته ورأيت تجرُّع الغصص وردَّ أنفاس الصعداء ولزوم الصّبر حتّى يفتح الله أو يقضي بما أحبَّ أزيد لي في حظي وأرفق بالعصابة الّتي وصفت أمرهم  وكان أمر الله قدراً مقدوراًî ولو لم أتّق هذه الحالة ـ يا أخا اليهود ـ ثمَّ طلبت حقي لكنت أولى ممّن طلبه لعلم من مضى من أصحاب رسول الله  ص  ومن بحضرتك منهم بأنّي كنت أكثرَ عدداً وأعزَّ عشيرة وأمنع رجالاً وأطوع أمراً وأوضح حجّة وأكثر في هذا الدِّين مناقب وآثاراً لسوابقي وقرابتي ووراثتي فضلاً عن استحقاقي ذلك بالوصيّة التي لا مخرج للعباد منها والبيعة المتقدِّمة في أعناقهم ممّن تناولها، وقد قبض محمّد  ص  وإنَّ ولاية الأمّة في يده وفي بيته، لا في يد الأولى تناولوها ولا في بيوتهم، ولأهل بيته الّذين أذهب الله عنهم الرِّجس وطهّرهم تطهيراً أولى بالأمر من بعده من غيرهم في جميع الخصال، ثمَّ التفت  ع  إلى أصحابه فقال  أليس كذلك؟ قالوا  بلى يا أمير المؤمنينî«

وعلى كل حال رغم وجود هذه الإشكالات وغيرها فإن احتمال تعرض الزهراء  ع  للإعتداء يبقى وارداً ـ رغم وجود المبعدّات السابقة ـ وذلك لعدة مقربات

  ـ الرعونة التي كان يتحلى بها بعض من شارك في الإعتداء ـ وعلى ذلك عشرات الشواهد التي لا تخفى على أحد«

  ـ الجو الغوغائي الذي يحدث في مثل هذه الأمور حتى إنه قد وطىء الحسنان في يوم مبايعة أمير المؤمنين  ع  ـ كما في بعض الروايات ـ وهو جو فرح، فكيف بحادثة اقتحام الدار، وقد ذكر أيضاً أن أحد الصحابة كاد أن يقتل في مثل هذا الظرف وهو سعد بن عباده«

  ـ تكثر الروايات ـ رغم ضعف سندها واختلافها في المضمون من ناحية حجم الاعتداء«

  ـ اعتذار أبي بكر في آخر عمره وتأسفه على تفتيش بيت الزهراء  ع  كما هو متفق عليه بين الجميع«  مروج الذهب، المسعودي، ج ، ص    

  ـ العمر الصغير للزهراء  ع  مما يقرب أن وفاتها كانت بسبب غير طبيعي«

وكما قلنا فإن هذه القضية وغيرها ـ كتفاصيل ما جرى في كربلاء ـ تبقى في دائرة النقاش والبحث التاريخي الذي يجب أن يكون مرتكزاً على الأسس العلمية، وبعيداً عن الميول العاطفية مهما أمكن ـ وذلك لصعوبة الموضوعية التامة في الحقول التاريخيةـ.


ملحق

العصمة التكوينية

اختلف علماء الشيعة الامامية في تحديد حقيقة العصمة وحدها بعد اتفاقهم على ثبوتها للأنبياء والائمة عليهم الصلاة والسلام«

وهذا البحث من البحوث التحليلية لا التركيبية« فليس المطلوب إثبات العصمة لأنها مما اتفق عليها الكل، وإنما المطلوب تحليل روحها، فنقول

إن هناك ثلاثة اتجاهات رئيسية في مرحلة الثبوت

  ـ العصمة التكوينية أو الحتمية«

  ـ العصمة الاختيارية«

  ـ العصمة التوفيقية«

وحاصل الرأي الأول  العصمة التكوينية  إن الله كما خلق شمساً لا ظلمة فيها لحاجة الإنسان على هذه الأرض، خلق المعصوم الذي هو نور كله لا ظلمة فيه للحاجة الفكرية والعملية في تبليغ رسالات الله ووحيه وهداه ومن أنصار هذا الاتجاه صاحب الميزان الذي فسر العصمة بالعلم الذي لا ينفك عن العمل بحال«  راجع كتاب مع علماء النجف الأشرف، ص     «

وأما الرأي الثاني  العصمة الاختيارية  فهو يقول أن العصمة ليست شيئاً خارجاً عن الذات، بل هي مما حصل عليه المعصوم بقدرته وتربيته وجهاده مع نفسه الذي جعله يصل إلى درجة الانكشاف التام الذي يجعله يتصور أن ارتكاب الذنب الصغير هو مثل السير عارياً في الشارع أو لمس الكهرباء مثلاً، فيستحيل صدور المعصية منه كما يستحيل للعاقل العادي لمس الكهرباء«

وبعبارة أخرى، كما أن هناك أشخاصاً كثيرين يتحلون بالعدالة ـ التي هي عصمة نسبية ـ بنسبة      أو      هناك أشخاص يتحلون بالعدالة بنسبة       وهؤلاء هم المعصومون«

وأما القول الثالث  العصمة التوفيقية  فهو القول الذي يوفّق بين هذين القولين، فليست العصمة تكوينية وليست اختيارية بل أمر بين أمرين، وقد نسب هذا القول للشهيد الصدر والشيخ المفيد وربما حملت عليه كلمات الأكثر الذين عبروا عنه باللطف المقرّب«

الاشكال الرئيسي المتوجه على العصمة التكوينية

وفي الواقع فإنّ كلا القولين الأول والثاني  العصمة التكوينية والاختيارية  يواجه  اشكالاً عويصاً

أما العصمة التكوينية  فهو أنه إذا كان المعصوم مجبوراً على الطاعة وترك المعصية كالشمس فكيف يستحق التفضيل علينا نحن البشر العاديين، وكيف يكون المعصوم أفضل منا وليس حاله إلا حال الانسان الآلة التي توجه إلى الطاعة وترك المعصية« وكيف يكون المعصوم قدوة لنا  العصمة، السيد كمال الحيدري ص    «

وأما الاشكال الذي يتوجه على العصمة  الاختيارية  فهو أن هؤلاء يقولون إن المعصوم معصوم حتى وهو في بطن أمّه أو في حال كونه طفلاً صغيراً فيستحيل صدور الذنب منه حتى ولو كان عمره سنة أو سنتين أو ثلاث، فكيف نقول إن ذلك حصل بنشاطه الذاتي ودراسته وجهده والحال أن عمره سنة أو سنتين«

وقد أجاب أصحاب العصمة التكوينية عن الاشكال بأن هذا الاشكال مبني على أن الانسان يستحق على الله الثواب والعقاب على عمله تماماً كما يستحق العامل الأجر على المستأجر، وهذا غير صحيح، وذلك لأن العامل عندما يعمل لدى مستأجره فإنه يقدم له عملاً وجهداً فيبنى له المنزل وبذلك يستحق الأجر عليه، وأما نحن في علاقتنا مع الله فلا نستحق شيئاً« لأن كل ما نقدمه إلى الله هو من الله فلو صلينا وصمنا أو حجينا أو تصدقنا فحركة جسمنا هي من الله، وحركة لساننا بذكر الله من الله، والأموال التي ندفعها من الله، فليس عندنا شيء نقدّمه، وبذلك لم نقدّم شيئاً فهو تفضّل من الله لا نستحقه، وعليه فليس هناك ظلم عندما يعطي الله المعصوم من فضله لأنّنا أيضاً أعطانا الله من فضله وليس ذلك ناتج عن عملنا وجهدنا«

وعلى كل حال فـ  جبرية العصمة تلتقي مع اختيارية العصمة بحسب ما يفهمون لأننا عندما نقول بوجوب العصمة أو أن العصمة حتمية فإن ذلك يعني لا بدّية العصمة، غاية الأمر أنه تارة يقال أن معنى لا بدّية العصمة أن النبي  صî أو الإمام  عî يصبح آلة متحركة بلا وعي ولا علم وهذا هو التفسير الخاطىء«

وتارة يقال ان الله أودع فيه درجة من العلم بحيث انه لا يتوجه أو يعزم على المعصية ولا يقع في الخطأ«

فهو علم يكشف له الحق فلا يخطىء وعلم يؤكد الحق في شخصيته فلا يعصي«

فهو يصلي ويصوم ويعبد الله بكل اختيار، ولكن هذا النوع من العلم الذي أودعه الله فيه ليس اختيارياً، فهي ليست جبرية مباشرة بل جبرية غير مباشرة«

وهذا يلتقي مع تفسير المشهور للعصمة بأنها لطف إلهي مما يعني أن هذا اللطف يعطيه مناعة ضد الباطلî   « وبذلك ينتفي إشكال القدوة«

وأما أصحاب  العصمة الاختيارية  فإنهم يتوقفون عند أشكالهم من دون إجابة فيقولون إن المعصوم معصوم في بطن أمه وذلك أيضاً باختياره وبوعيه وهذا ما لا نستطيع فهمه كما أن الدليل الذي يستدلون به على العصمة  دليل الوثوقî لا يكفي إلا لأثبات العصمة في التبليغ ولا يشمل العصمة الكاملة«

مثال المدرس والطالب

وقد حاول أصحاب العصمة الاختيارية أن ينظّروا لفكرتهم بهذا المثال، حيث قالوا  أن المدرس عندما يعيش مع طلابه فإنه يستطيع أن يخبر أن فلاناً سوف يحصل على الدرجة الكاملة وإن فلاناً سوف يرسب، واخباره هذا لا يعتبر أنه جعل الطالب الذكي حاصلاً على الدرجة الكاملة تكويناً أو سبباً في رسوب الآخر، وهكذا عندما أراد الله سبحانه أن يخلق الناس اطلع على وجود بشرٍ هم أطهر الخلق وهم الذين لهم القابلية في هداية الناس، فاصطفاهم واختارهم لأن عندهم القابليات والأرضية الصالحة للنبوة والامامة، ولم يكن ذلك جبراً من الله وتدخّلاً تكوينياً من قبله حتى تكون العصمة تكوينية فيثبت المطلوب«

ولكنك خبيرٌ بهذه المغالطة الواضحة، فهناك فرق كبير بين المدرس والخالق جل شأنه، فالمدّرس عندما يدخل إلى الصف المدرسي لم يكن له مدخلية في صنع ذكاء الطالب الممتاز، بينما الله سبحانه هو الذي خلق كل القدرات التي هي للمعصوم، وهل يمكن أن يقبل العاقل أن يشبه الله بالمدرس حيث يتصور الله وهو يبحث قبل خلق هذا الكون ويتطلع هنا وهناك حتى اكتشف جماعة هم أطهر وأصفى الخلق فاختارهم وجعلهم الانبياء والائمة«

وبعبارة أخرى دور المدرس هو دور المكتشف الذي اكتشف المؤهلات الحسنة لدى الطالب الذكي، فنمّاها ورعاها، بينما دور الخالق هو دور الصانع فكل ما لدى المخلوق حتى المعصوم هو من صنع الله عقله وقلبه وشعوره وجسده وكل شيء في وجوده«

وقد اكتشف هذا الفرق صدر المتألهين الذي جوبه بمناقشة واسعة من المحقق السيد الخوئي   «

وقد أشار إلى هذا الإمام زين العابدين في مناجاته حيث قال  ع   إلهي وعزتك وجلالك وعظمتك، لو أني منذ بدعت فطرتي من أول الدهر، عبدتك دوام خلود ربوبيتك، بكل شعرة، من كل طرفة عين، سرمد الأبد، بحمد الخلائق وشكرهم أجمعين، لكنت مقصراً في بلوغ شكر خفي نعمة من نعمك علي«««î   «

وما في مناجاة أمير المؤمنين  ع   إلهي إن حمدتك فبموا هبك، وإن مجدّتك فبمرادك، وإن قدّستك فبقوتك، وإن هلّلتك فبقدرتكî   «

وفي مناجاة الشاكرين  فكيف لي بتحصيل الشكر، وشكري إياك يفتقر إلى شكرî   «

يقول السيد ابن طاووس   فقلت له يوماً  ما تقول في عيسى بن مريم عليهما السلام لما قال في المهد   إنّي عبْدُ الله آتاني الكتاب وجعلني نبيَّآî، كانت معرفته بالله جلّ جلاله في مهده بنظره؟ فتحير وعجز عن الجواب«

وقلت له يوماً  ما تقول في الناظر في معرفة الله جلّ جلاله أما يكون في أول نظره شاكاً في  الله جلّ جلاله؟

قال  بلى «

قلت  أفتقول أن النبي محمداً ووصيّه علياً عليهما السلام مضى عليهما زمان شكّ في الله جل جلاله؟

فقال  غلبتني ما أقدر أقول هذا، وهو خلاف المعلوم من حالهما«

فقلت له  وأقول زيادة، هب أنّك توقفت عن موافقتي لأجل اتباع عادتك أما تعلم أن العقل ـ الذي هو النور الكاشف عن المعارف ـ ما هو من كسبك ولا من قدرتك، وأنّ الآثار التي تنظر فيها ما هي من نظرتك، وأن العين التي تنظر بها ما هي من خلقتك، وأنّ البقاء الذي تسعى فيه لنظرك وكلّ ما أعانك على تفكرك ما هو من تدبيرك ولا من مقدورك، وأنّه من الله جلّ جلاله«

قال  بلى، ثمّ قال  ولكن متى قلت أن المعرفة بالله جلّ جلاله لا تكون بنظر العبد ما يبقى  له عليها ثواب«

فقلت  وإذا كانت المعرفة بالله جلّ جلاله بنطر العبد فيلزم عليها أيضاً أنّه لا ثواب عليها، فاستعظم ذلك وقال  كيف قلت؟

فقلت ما معناه  لأنك قبل أن تعرفه وشعرت تنظر في المعرفة بنظرك في الجوهر والأجسام والأعراض، ما تدري نظرك هل يفضي إلى الإقبال على تصديق المعرفة، أو الإدبار عنها أو الإعراض، فلا تكون قاصداً بنظرك التقرب إلى الله جلّ جلاله لأنّك ما تعرفه، وإنما تعرفه على قولك في آخر جزء من أجزاء نظرك، وقد فات نظرك كلّه بغير معرفة وغير ثواب، فانقطع عن الجواب   ««

وقد حاول أنصار القول الثالث أن يوفقوا بين هذين الرأيين، فقالوا أن العصمة حتمية أي يستحيل صدور المعصية من المعصوم ولكن عدم صدور المعصية باختياره، وقد قرب الشيخ المفيد الفكرة بمثال، فقال أن حال العصمة حال الحبل الذي يلقى للغريق فيلتقطه، فلولا الحبل لما كان معصوماً، وهو في نفس الوقت مختار لأنه التقط الحبل بإرادته   «

وقد أشار السيد نعمة الله الجزائري إلى دقة هذا المطلب، حيث قال   فهذا مما يدلك على أن تحقيق هذا المقام مما حجب عن أبصار العقول فلا ينبغي التفكر فيه لأنه يؤول إلى مكان دقيق فيرجع العقل عنه متلبّساً بمذهب أهل الجبرî   «

ولتسليط الضوء أكثر على هذه المسألة، لا بد لنا من استعراض رأي صاحب الكفاية الذي اختار رأياً أكثر تطرفاً من القول الأول وهو ما اصطلح عليه بمبدأ الخباثة الذاتية، حيث اعتبر في مبحث الطلب والارادة في خاتمة البحث أن الشرير في هذا الكون شرير لأنه خلق كذلك، كما أن الخير خير لأنه خلق على هذه الطينة، فالناس كالمعادن فمنها القيم ومنها الردىء ولا يمكن أن تسأل لماذا كان الذهب قيماً ولماذا كان التراب رخيصاً لأن الأمور الذاتية لا تعلل فلا يسأل عن بياض البياض أو سبب حلاوة السكر، لأن ما بالعرض لا بد وأن ينتهي إلى ما بالذات، وبذلك انتهى صاحب الكفاية إلى رأي يقترب من الجبرية، حيث قال ما نصه

 إن قلت  إذا كان الكفر والعصيان والإطاعة والإيمان بإرادته  تعالىî التي لا تكاد تتخلف عن المراد، فلا يصح أن يتعلّق بها التكليف لكونها خارجة عن الاختيار المعتبر فيه عقلاً«

قلت  إنما يخرج بذلك عن الاختيار لو لم يكن تعلّق الارادة بها مسبوقة بمقدماتها الاختيارية، وإلا فلا بد من صدورها بالاختيار، والإ لزم تخلّف إرادته عن مراده، تعالى عن ذلك علواً كبيراً«

إن قلت إن الكفر والعصيان من الكافر والعاصي ولو كانا مسبوقين بإرادتهما إلا أنهما منتهيان إلى ما لا بالاختيار، كيف وقد سبقهما الارادة الأزلية والمشية الإلهية، ومعه كيف تصح المؤاخذة على ما يكون بالآخرة بلا اختيار؟

قلت  العقاب إنما بتبعة الكفر والعصيان التابعين للاختيار، الناشيء عن مقدماته، الناشئة عن شقاوتهما الذاتية، اللازمة لخصوص ذاتهما، فإنّ السعيد سعيد في بطن أمه والشقي شقي في بطن أمه، والناس معادن كمعادن الذهب والفضة ـ كما في الخبر ـ والذاتي لا يعلّل، فانقطع سؤال أنه لم جعل السعيد سعيداً والشقي شقياً، فإن السعيد سعيد بنفسه والشقي شقي كذلك، وإنما أوجدهما الله  تعالىî،  قلم اينجارسيدسر بشكستî   «

وقريب من هذا ما ذكر في إرشاد الفحول حيث قال  إن فاعل القبيح إما أن يكون متمكناً من الترك أو لا يكون فإن لم يتمكن من الترك فقد ثبت الاضطرار وإن تمكن من الترك فإما أن يتوقف رجحان الفاعلية على التاركية على مرجح أو لا يتوقف، إن لم يتوقف فاتفاقي لا اختياري لعدم الارادة، وإن توقف فذلك المرجح إما أن يكون من العبد أو من غيره أو لا منه ولا من غيره، فالأول محال لأن الكلام فيه كما في الأول فيلزم التسلسل وهو محال، والثاني يقال فيه إن عند حصول ذلك المرجح إما أن يجب قبول الأثر أو لا فإن وجب فقد ثبت الاضطرار، لأن قبل وجود هذا المرجح كان الفعل ممتنع الوقوع وعند وجوده صار واجب الوقوع، وليس وقوع هذا المرجح بالعبد البتة، فلم يكن للعبد تمكن في شيء من الفعل والترك ولا معنى للاضطرار إلا ذلك، وإن لم يجب حصول هذا المرجح لا يمتنع وجود الفعل تارة وعدمه أخرى فترجيح جانب الوجود على جانب العدم إما أن يتوقف على انضمام مرجح إليه أو لا يتوقف، إن توقف لم يكن الحاصل قبل ذلك مرجحاً تاماً وقد فرضناه مرجحاً تاماً هذا خلف، وإن كان حصول ذلك المرجح لا من العبد ولا من غير العبد فحينئذٍ يكون واقعاً لا لمؤثر فيكون اتفاقياًî   «

وقد رد المحقق الميرزا النائيني على صاحب الكفاية بقوله

 والحاصل  أنه لو كانت الأفعال معلولة للإرادة« وكانت الإرادة معلولة لمباديها السابقة، ولم يكن بعد الإرادة فعل من النفس وقصد نفساني، لكانت شبهة الجبر مما لا دافع لها، وقد وقع في الجبر من وقع مع أنه لم يكن من أهله، وليس ذلك إلا لإنكار التغاير بين الطلب والارادة وحسبان أنه ليس وراء الارادة شيء يكون هو المناط في اختيارية الفعل«

وأما بناء على ما اخترناه من أن وراء الإرادة والشوق المؤكد أمراً آخر، وهو عبارة عن تصدي النفس نحو المطلوب وحملتها إليه، فيكون ذلك التصدي النفساني هو مناط الاختيار، وليس نسبة الطلب والتصدي إلى الارادة نسبة المعلول إلى علته حتى يعود المحذور، بل النفس هي بنفسها تتصدى نحو المطلوب، من دون أن يكون لتصديها علة تحملها عليه«

نعم الإرادة بما لها من المبادي تكون من المرجحات لطلب النفس وتصديها، وللنفس بعد تحقق الإرادة بما لها من المبادي التصدي نحو الفعل، كما أن لها عدم التصدي والكف عن الشيء، وليس حصول الشوق المؤكد في النفس علة تامة لتصدي النفس، بحيث ليس لها بعد حصول ذلك الكيف النفساني الامتناع عن الفعل، كما هو مقالة الجبرية، بل غايته أن الشوق المؤكد يكون من المرجحات لتصدي النفس ولا يخفى الفرق بين المرجح والعلةî   «

وقوله رحمه الله  بل النفس هي بنفسها تتصدى نحو المطلوب، من دون أن يكون لتصديها علة تحملها عليهî رجوع إلى نفس الأشكال الذي وقع فيه صاحب الكفاية وإنما الاختلاف في الألفاظ، والظاهر ـ كما ذكر النائيني نفسه ـ إن الوجدان كافٍ في الحكم بالفرق بين حركة المرتعش وإلقاء الإنسان نفسه من شاهق، وهذا الفرق الواضح بينهما يؤكد بطلان تلك التحليلات الفلسفية التي توهم سلب الاختيار بالنسبة للإنسان«

ومن الجدير ذكره أنه نسب إلى الأشاعرة  أن علمه سبحانه بالأشياء في الأزل علة لوقوعها في الأبد، فكل ما يقع في هذا العالم من الفسوق والمعاصي فهو مستند ومعلول لذلك العالم القديم، حتى أن بعضهم ربّما لاط أو زنا ولما عنّف أجاب بأن الله سبحانه قد علم منّي ذلك في الأزل فلو لم أفعله لكان قد انقلب علمه سبحانه جهلاً، فهو على عصيانه يرى أن له الأجر والإحسان على الله تعالى حيث أنه لم يخالف علمه سبحانهî   «

وما أجمل ما ورد في بعض المناجاة من تحليل لإرادة الإنسان حيث يقول  ع   من تبعاتٍ ومظالم وجنايات، هي بيني وبين خلقك، ساقني القضاء والقدر إليها، وبعثني الشقاء والبلاء عليها، وقد كان سبق علمك بكونهما مني قبل أن تخلقني، من غير إجبار ولا اكراهî  البلد الأمين، ص     «

ومن الجدير ذكره هنا أن البعض في مقام المحاججة العقائدية أو الفقهية يقول أن هذه العقيدة الفلانية توافق ما يقوله البلخي أو الأشاعرة مثلاً في محاولة لإيهام القارىء أن هذه الفكرة بعيدة عن الفكر الشيعي وإنها ملتقطة من المذهب الفلاني، مع أن الإنسان العالم المتطلع على مختلف الآراء يدرك أن علماء السنة أنفسهمم يختلفون كما يختلف علماؤنا الشيعة في كثير من تفاصيل المسائل الفقهية والعقائدية، ونظرة واحدة في كتب السنة والشيعة تجعل الإنسان يعتقد بأن أكثر المسائل التي أصبحت مورداً لتعدد الآراء عند الشيعة هي موردٌ لتعدد الآراء عند السنة«

ومن الطريف هنا أن أحدهم كان يقول  أن الفقيه الذي لا يرى مفطرية البقاء على الجنابة عمداً يوافق عائشة« فقلت له  وإن الفقيه الذي يرى المفطرية يوافق أبا هريرة«

النتيجة  إن العصمة مما اتفق عليها علماء الشيعة وإنما الخلاف في تحليل العصمة وهذا من شغل العلماء ولكلِّ أن يدلي دلوه والله الموفق للوصول إلى الصواب.


ملحق (3)

في دراسة منهجية مؤلف كتاب

مأساة الزهراء(ع)

وقد آثرت أن ألقي إطلالة على منهجية مؤلف  المأساةî من خلال جوله سريعة في بعض مؤلفاته المختلفة، لأن من الخطأ أن ندرس الإنسان من خلال بحث واحد لأنه قد يختلف الكاتب من كتاب لآخر«

وهذا مما له شواهد كثيرة في تاريخنا الشيعي، فمن باب المثال نجد أن المحدث المرحوم النوري  صاحب مستدرك الوسائلî قد ألف كتاباً ممتازاً في دراسة الروايات الواردة حول واقعة كربلاء عنوَنه بـ  اللؤلؤ والمرجانî وقد أوضح في هذا الكتاب الكثير من الخرافات التي تذكر على المنابر حتى أن الشهيد  مرتضى المطهري قد اعتمد عليه بالدرجة الأولى  في كتابه  الملحمة الحسينيةî وقد أشاد به إشادة عظيمة   «

ولكن هذا المؤلف ألف كتاباً آخر في المنامات يختلف كثيراً عن الكتاب الأول، وقد نسب إليه كتاب آخر وهو  فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأربابî    يثبت فيه أن القرآن الذي بين أيدينا ناقص، وهذا من غرائب عالم التأليف«

وهكذا نجد شواهد أخرى ، ككتاب الأخبار الدخيلة للمحقق التستري الذي يكشف عن ذهنية علمية واسعة، ولكنه ألف كتاباً آخر كان محل انتقاد العلماء المحققين، وهو كتاب قضاء أمير المؤمنين    «

هذا من جهة، ومن جهة أخرى ، فإن تسليط الضوء على مختلف الكتابات لأي باحث يعطينا تصوراً واضحاً عن أسلوبه وطريقته في التفكير، وقد آثرت جعله كملحق حتى لا أقع في نفس الخطأ الذي وقع فيه الأخرون من زج مسائل متعددة في بحث لا علاقة له بتلك المسائل«

وتنقسم  النقاط التي استفدتها من دراسة ذلك المنهج، إلى نقاط إيجابية ونقاط سلبية، ولا أدعي أنني الحكم الفصل، فربما يكون ما اعتبرته سلبياً هو إيجابيٌ عند البعض وبالعكس، وسوف نذكرها كلاً على حدة«

النقاط السلبية في المنهج

  ـ إثارة بعض البحوث الهامشية  وهذا ما تجد له أمثلة كثيرة في البحوث المتنوعة، ونذكر هنا عدة نماذج، وعلى القارىء أن يتابع الباقي

أ ـ البحث في أن عائشة هل كانت جميلة ولونها أحمر كما هو المعروف ـ أم أنها ليست كذلك، بل هي سوداء، حيث يقول في صدد التعليق عما روي عن جمال عائشة   نحن نقطع بعدم صحة ذلك كلهî ثم يقول   فما يقال عنها أنها كانت شقراء، ثم الاستشهاد على ذلك بقول رسول الله  ص  لها  يا حميراء«« يصبح موضع شك وريب كبيرî«

 الصحيح من السيرة ج ، ص     ـ     «

وبقطع النظر عما ورد في وسائل الشيعة   ، فإننا لا نفهم ما هو شغلنا بلون وجه عائشة وشكلها، فالمهم عندنا دراسة سلوكها وما قامت به من أفعال أثرت سلبياً على الإسلام والمسلمين وأوجبت الفتن بينهم، وأما لون الوجه فهو من خلق الله سبحانه وتعالى ، وحتى لو زايد الآخرون في وصف رموزهم من جهة الشكل، فليس من المهم إثارة تلك الأمور على الأقل، وها نحن نجد القرآن في استعراضه للتاريخ البشري لا يذكر لنا شيئاً عن لون وجه فرعون و النمرود أو طوله وعرضه، وإنما يثير ما قام به هؤلاء من جرائم على مستوى  الإنسان والتاريخ«

ب ـ الإشارة إلى مسألة تحقيق مكان الجنة، وعدم نفيه لأهمية هذا البحث وإنما إحالة القارىء إلى موضع آخر، حيث يقول  وتحقيق مكان الجنة ليس هنا محلهî«

 ج  من الصحيح من السيرة، ص    «

ت ـ هل جرح الإمام علي  ع   في قتاله مع عمرو بن ود أو لم يجرح؟ النتيجة أنه لم يجرح حيث يقول

 وهل جرح علي حقاً بسيف عمرو؟  وكان ذا شجتين؟  أم أن المقصود هو إظهار شجاعة عمرو وفروسيته في مقابل علي عليه السلام؟ إن البلاذري يقول  ويقال  إن علياً لم يجرح قطî«

 الصحيح من السيرة، ج ، ص     «

هـ ـ هل أن أبا بكر جميل أم قبيح؟ النتيجة التي توصل إليها أنه قبيح حيث أنه خفيف العارضين، معروق الخدين، غائر العينين، أجنأ  يعني مائل الظهرî لا يمسك إزاره«

 راجع الصحيح من السيرة ج ، ص     «

وهنا أيضاً ما شغلنا بشكل أبي بكر، وما هو الربط بين فعل الإنسان وشكله الذي هو خلق الله سبحانه وتعالى، وها نحن نجد أناساً مجرمين ككلنتون ونتنياهو أشكالهم ليست قبيحة ولكنهم من أكبر السفاحين والإرهابيين في العالم، وفي المقابل هناك أشخاص طاهرون مؤمنون ولكن صورتهم الشكلية ليست جميلة، فجمال الخلقة أو قبحها من صنع الله ولا ربط له بفعل الإنسان من قريب أو بعيد«

وربما يكون نظره إلى ما ذكره علماء الفراسة القدامى  ـ ومنهم الفخر الرازي ـ الذين كانوا يربطون بين فعل الإنسان وشكله حيث يرون أن الصفات الظاهرة تدل على الصفات الباطنة في الإنسان، فإذا رأوا إنساناً قبيح الوجه استاؤا منه واعتبروا ذلك عقوبة إلهية مستدلين بقوله تعالى   سيماهم في وجوههم««î، وإذا رأوا الجميل رحبوا به«

وقد اتضح الآن علمياً أن علم الفراسة من أبعد العلوم القديمة عن الصواب وليس هناك أية علاقة مباشرة بين أخلاق الإنسان وبين ملامح وجهه أو شكل بدنه«

ويكفي لعرض سخافة هذا العلم أن نذكر للقارىء نماذج مما ذكره بعض علماء الفراسة في هذا الصعيد

  ـ من كان طويل الوجه فهو وقح، هذا الدليل مأخوذ من الكلب«

  ـ من كان نحيف الوجه فهو مهتم بالأمور لأن كثرة الأفكار توجب اليبوسة«

  ـ من كان لحيم الوجه فهو كسلان جاهل« هذا الدليل مأخوذ من الثيران«

  ـ من كان أنفه يبتدىء من الجبهة متقوساً فهو وقح، وهذه الدلالة مأخوذة من الغراب«

  ـ من كانت عيناه جاحظتين فهو جاهل مهذار، وهذه الدلالة مأخوذة من مشابهة الحمار«

  ـ من كانت حدقته شديدة السواد فهو جبان وذلك لأن اللون الأسود يدل على الجبن ولأن السواد يدل على المادة السوداوية الموجبة للجبن«

  ـ من كان لون عينيه أزرق أو أبيض فهو جبان وذلك لأن اللون الأبيض يدل على استيلاء البلغم«

  ـ الحاجب الكثير الشعر يكون صاحبه كثير الهم والحزن وذلك لأن تكون الشعر إنما هو من المادة الدخانية فكثرة شعر الحاجب تدل على كثرة المادة الدخانية التي من الدماغ فتدل على استيلاء طبيعة السوداء على الدماغ وذلك يوجب الغم والحزن«

  ـ من كانت أصداغه منتفخة وأوداجه ممتلئة فهو غضوب لأن الإنسان في وقت الغضب هكذا يكون«

   ـ قبيح الوجه لا يكون حسن الخلق إلا نادراً لأن المزاج للخَلْق الظاهر والخُلُق الباطن واحد« فإذا كان ذلك المزاج كاملاً ظهر أثر الكمال في الظاهر والباطن معاً وإن كان ناقصاً ظهر أثره كذلك   «

ولا يحتاج هنا أن ننبه إلى أن تطبيق مثل هذه الأفكار يؤدي إلى كثير من الظلم الإجتماعي، وللأسف فإني رأيت كثيراً من المتدينين يؤمنون بمثل هذه الأفكار ويرسلونها إرسال المسلمات التي لا يختلف فيها إثنان«

والأغرب من ذلك« أن يتأثر بعض الفقهاء بمثل هذه الأفكار فيفتون بكراهة التزوج من الزنوج وذلك لأنهم خلق مشوه«

  ـ تضخيم الأمور الصغيرة الجزئية وربطها بأسس الدين أو النبوة والإمامة

مثال ذلك  ما روي من أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قام بعملية غرس لبعض النخيل، وكانت كل نخلة غرسها رسول الله قد أثمرت، وقد حاول عمر أن يغرس نخلة ولكنها لم تعش، فأخذها رسول الله وغرسها من جديد فعاشت، فهنا يعتبر عدم إثمار النخلة التي غرسها عمر هو حفظ لناموس النبوة، وكأنها لو صادف أن نمت لتهدمت نبوة النبي محمد  ص  وهذا نص كلامه

 ولكن قد شاءت الإرادة الإلهية أن يحفظ ناموس النبوة، وأن تخيب كل الطموحات، وتتحطم كل الآمال، التي تريد أن تنال من ذلك الناموس، أو تستفيد منه في مسار انحرافي آخر، لا يلتقي معه ولا ينتهي إليه، وتجلى هذا اللطف الإلهي في أن النخل قد أثمر كله سوى هذه، حتى أعاد رسول الله  ص  غرسها بيده الشريفة من جديد، فظهرت البركات، وتجلت الكرامة الإلهيةî«

 الصحيح من السيرة، ج ، ص    «

فالإنسان الذي يربط بين نمو النخلة وهدم النبوة فإنه بالتأكيد يستطيع أن يربط بين التشكيك بانكسار الضلع وهدم الإمامة  

  ـ التركيز على سلبيات الآخر وتسليط الضوء على خرافات الآخرين  من دون ذكر بعض الإيجابيات التي قد يصادف وجودها عندهم، وبذلك تكون نتيجة البحث دائماً في الطرف السلبي، وهذا الأسلوب ـ رغم نجاحه في أوساط العوام عندنا ـ يؤدي إلى فشل مثل هذه الكتابات في اختراق العالم السني، بل من المستحيل أن تجد لها قارئاً سنيّاً، على العكس من كتابات السيد عبد الحسين شرف الدين والسيد هاشم معروف الحسني والسيد مرتضى العسكري والشيخ محمد جواد مغنيّة التي لها صدى واسع في العالم الشيعي والسني على السواء«

وهنا نذكر عدة نماذج مقتطعة بشكل مختصر من الكتاب، وعلى القارىء أن يتابع الباقي

أ ـ هل أن أبا بكر أعتق بعض المسلمين كبلال، وعامر بن فهيرة من الذين كانوا تحت التعذيب؟ النتيجة  ولكنا نشك في أن يكون أبو بكر هو الذي اشتراهما واعتقهما«

ب ـ هل عذب المشركون أبا بكر؟««« هذا ويذكرون أن أبا بكر قد تعرض للعذاب في سبيل الإسلام««« مع أنهم يقولون إن أبا بكر كان رئيساً متبعاً، وكبيراً مطاعاً«««

ملاحظة  هل كان أبو بكر رئيساً؟  إننا إنما ذكرنا هذا الذي سبق آنفاً لبيان تناقض كلماتهم، إذ لو صح هذا لم يمكن أن يصح ذاك، وإلا فنحن نشك في أن يكون أبو بكر رئيساً معظماً، وكبيراً مطاعاًî«

 الصحيح من السيرة، ج ، ص   ،    «

وبالنتيجة خرج أبو بكر لا رئيساً ولا معذباً«

حـ  ـ هل أن عمر كان قارئاً، وأنه قد قرأ الصحيفة بنفسه؟ نحن نشك في ذلك أيضاً لاعتقادنا أنه لم يكن يعرف القراءة والكتابة، ولا سيما في بادىء أمره  ثم لما كانت هناك رواية في تحريف القرآن وردت عن طريق السنة، ولا يمكن أن تتم إلا باعتبار أن عمر كان يعرف القراءة قال

 إلا أن من الممكن أن يكون عمر قد عاد فتعلم القراءة والكتابة بمشاق ومتاعب جمة، ويمكن أن يستدل على  ذلك بأنه روى في البخاري ـ كان يقول  إنه لولا أن يقال إن عمر قد زاد في كتاب الله لكتب آية الرجم بيده؟ î

 الصحيح، ج ، ص     ـ     «

مع أنه يعلم أن هذه الرواية موضوعة، ولكنه يستعملها ضد خصمه، فيبطل رأي خصمه بالحق والباطل، وهذا ما نهانا عنه أهل البيت عليهم السلام في مقام محاججة الفرق الأخرى  حيث وجهوا أتباعهم بأن يتخذوا قاعدة  قليل من الحق يغني عن كثير من الباطل  أساساً للحوار«

وقد أوقعه مثل هذا الأسلوب إلى ارتكاب المفارقات، فمثلاً في مسألة مبارزة أبي بكر لولده في يوم أحد، حاول بكل جهده أن يبطل أدلة هذه المسألة ونقل الأقوال التي تفندها مثل ما قاله ابن ظفر في الينبوع   لم يثبت أن أبا بكر دعا ابنه للمبارزة، وإنما هو شيء ذكر في كتب التفسيرî ثم ذكر رد الأسكافي على الجاحظ الذي تبجح في عثمانيته بهذه الحادثة«

 الصحيح، ج ، ص     ـ     «

ولكنه في مسألة تحقيق تاريخ اسلام أبي بكر، وبيان تأخره وبطلان الأقوال التي تدعي تقدمه قال   ««« وأولاد أبي بكر حالهم معلوم، حتى أن أحدهم قد طلب مبارزة أبيه ـ أبي بكر ـ يوم أحد أو بدر، كما سيأتي، فكيف يقول  أنه قد أنعم الله عليه وعلى والديه بعد النبوة بسنتين، ويطلب من الله أن يوفقه لشكر هذه النعمة؟ î«

 الصحيح، ج ، ص     «

والأن نريد أن نعرف الحقيقة، وهل الصحيح ما هو موجود في الصحيح من السيرة الجزء   أم في الصحيح من السيرة الجزء  ؟

د ـ ويقولون أنه بعد حرب بدر شرب عمر الخمر، وشج رأس عبد الرحمن بن عوف بلحى  بعير، ثم قعد ينوح على قتلى  بدر من المشركين في ضمن أبيات تقول

 وكائن بالقليب قليب بدر          من الفتيان والعرب الكرام«««

وعلى كل حال، فإن روايات شرب عمر للخمر بعد الهجرة كثيرة جداً««« بل نجد أن ركوة عمر كانت تسكر كل من يشرب منها«««  ثم أمطر عمر بوابل من الأدلة التي تدينه بشرب الخمر إلى أن اكتفى ثم نقل الكلام بصورة خاطفة إلى أبي بكر  فقال

 وأما أبو بكر فيقول الفاكهي  إن الذي أنشد الأبيات المتقدمة في رثاء قتلى  بدر هو أبو بكر، ومطلع الأبيات

تحيّر أم بكر بالسلام              وهل لي بعد قومك من سلام

واعتمد نفطويه على هذه الرواية، فقال  شرب أبو بكر الخمر قبل أن تحرم ورثى  قتلى  بدر من المشركين«

 ثم أمطره بأدلة كثيرة تدينه، راجع الصحيح، ج ، ص     ـ     «

فبدأ هجوماً واسعاً على عمر ثم بعد عدة صفحات حوّل تلك الإتهامات إلى أبي بكر وسلط الضوء عليه، وبذلك ركز في ذهنية القارىء كلا الإسمين مع أن الذي قام بتلك المسألة أحدهما لا كلاهما«

وهذا الأسلوب من أنجح الأساليب في استقطاب تأييد العوام   ، لأن عوام أي مذهب لا يسألون عن صحة سند الرواية التي تهاجم عدوهم، ولسان حالهم يقول

لا يسألون أخاهم حين يندبهم        في النائبات على مــــا قــــال بـرهــانـــــا

بل إن التيار الغوغائي في العوام ـ الذين يجب أن ننظر إلى ظروفهم الفكرية وثقافتهم بعين الرحمة والشفقة ـ سوف يمطرون أي إنسان يلمحون منه التوقف بسيل من اللعنات والمنامات التي تصور ذلك الإنسان وقد جاء يوم القيامة قد تخلى  عنه الأئمة والزهراء وحرموه من شفاعتهم«

ومن الجدير ذكره هنا أن مثل هذه المؤلفات التي تركز كل جهودها على إبراز مساوىء رموز السنة حتى الأمور الخلْقية والأمور العادية التي لا ربط لها بالتاريخ تتسبب في نفور الناس من التشيع على العكس من الكتابات المتوازنة ككتاب المراجعات  للسيد شرف الدين  ومعالم المدرستين  للسيد مرتضى العسكري ، حيث أنها تسببت في انتشار الفكر الشيعي بشكل واسع لأن القارىء السني عندما يجد فيها الموضوعية واللغة الهادئة فسوف تنفتح شهيته على قراءتها ودراستها«

هـ ـ يقول   ويعتقد اليهود  أن الله سيغفر لهم كل ما يرتكبونه من جرائم وعظائم« وهذا ما يشجعهم على الفساد والإنحراف، والإمعان في المنكرات والجرائمî«

 الصحيح، ج ، ص    «

من دون الإشارة إلى نفس الفكرة الموجودة لدى العوام منا، حيث يعتقد الكثيرون أن النار أو العذاب لن يصيبهم مهما امتلأوا بالذنوب والقتل وشرب الخمر والربا والزنا ما داموا قد خلقوا من طينة معينة أو عملوا بعض الهريسة لأحد الأئمة عليهم السلام أو بكى  أحدهم مقدار جناح بعوضة، ولسان حالهم   أم عندهم خزائن رحمة ربك««î  ص     ولم يعرفوا أنهم بمزايدتهم على القرآن وأهل البيت سوف ينزلون نقمة ربك على الناس«

وهذا يؤكد ما ذكرناه مراراً من أن طبيعة الإنسان بوجه عام أنه عندما ينشأ على معتقدات وتقاليد معينة يتصور أنها أفضل المعتقدات في العالم وإن كانت مليئة بالخرافات والأباطيل« فهو يركز نظره على خرافات المجتمعات الأخرى ، وينتقدها انتقاداً لاذعاً بينما هو يغض النظر عن خرافات مجتمعه، وقد يأتي بالأدلة والبراهين لتبريرها أو تمجيدها« وهذا هو الذي جعل الإنسان يقاوم كل دعوة جديدة لإصلاح مجتمعه مهما كانت الدعوة فاضلة في حد ذاتها« ومن الجدير بالذكر أن القرآن أشار إلى ذلك في بعض آياته حيث ذكر تمسك كل قوم بما وجدوا عليه آباءهم وكيف أنهم يحاربون كل نبي يظهر بينهم وإن كان يدعو إلى معتقدات وتعاليم هي أفضل من تلك التي نشأوا عليها«

  ـ صراع المنهجين  الحديث والقديم  يلاحظ الإنسان وجود صراع لدى  الكاتب بين المنهج الحديث   التشكيكيî وبين المنهج القديم  القطعيî تعبر عنه كلمة تتردد كثيراً في كتاباته وهي

 ونحن نشك في صحة ذلك بل نجزم بعدم صحتهî حيث انهزم المنطق الحديث أمام القديم في نهاية المطاف، حيث يلاحظ الإنسان وجود أعداد هائلة من علامات التعجب والإستفهام التي لا تكاد تخلو منها صفحة من الكتاب  الصحيح من السيرة ، وربما تفلت المؤلف من المنهج القديم لمصلحة الحديث في بعض الأحيان فيتكلم بلغة الشك وعدم الجزم، فمن باب المثال يقول

ـ  إننا نشك في دعواهم تلك ـ إنه  ص  لــم يـتزوج بكراً غير عائشة ـ î«

 الصحيح، ج ، ص     «

ـ  إننا لا يمكن أن نطمئن بشكل نهائي إلى ما يقال  من أن عثمان قد تزوج ابنتي رسول الله  ص  للإحتمال القوي بأن تكونا ربيبتيهî«

 الصحيح، ج ، ص     «

ـ وفي باب هجرة أبي بكر قال   ونحن نشك في ذلكî«

 الصحيح، ج ، ص     «

ـ وفي بحث بئر رومة وهل أنه كان من صدقات عثمان قال   ونحن نشك في صحتهاî إلى غيرها من الأمثلة«

وهذا خلاف ما يؤكد عليه، حيث يقول   إنه ليس أسهل على الإنسان من أن يقف موقف المشكك والنافي للثبوت، والمتملص من الإلتزام بالقضايا، والهروب من تحمل مسؤولياتها«وليس ذلك دليل علمية ولا يشير إلى عالمية في شيء«

والعالم المتبحر، والناقد، والمحقق هو الذي يبذل جهده في تأصيل الأصول، وتأكيد الحقائق«  وإثبات الثابت منها، وإبعاد المزيفî«

 ص   من ج  من المأساة «

  ـ عدم الإلتزام بأسس التحقيق التي رسمها هو نفسه

فهو يلتزم بها في موارد ولا يلتزم بها في موارد أخر، فمن باب المثال كثيراً ما نجده يرفض بعض الروايات لوجود التناقض فيما بينها، فمن باب المثال«

ـ رفض رواية أن عثمان اشترى  بئر رومة وجعلها صدقه وذلك لاختلاف الروايات وتناقضها، فبعضها يقول أن ثمنها    ألفاً وبعضها    ألفاً، وبعضها أنه حفرها ولم يشترها«««î«

 الصحيح، ج ، ص     «

ـ التشكيك في أن يكون النبي  ص  قد رعى  لغير أهله بأجر تزهد منه العجائز وذلك لأننا نجد أولاً أن اليعقوبي ـ وهو المؤرخ الثبت ـ قد نص على أنه  ص  لم يكن أجيراً لأحد قط«

وثانياً  تناقض الروايات فبعضها يقول لأهلي، وبعضها يقول  لأهل مكة، وبعضها يقول  بالقراريط«

 الصحيح، ج ، ص    «

ـ التشكيك في أن أبا بكر أعتق بعض العبيد، وذلك لأسباب منها تناقض الروايات، فبعضها يقول إنّ الثمن سبع أواقٍ وبعضها تسع وبعضها خمسî«

 الصحيح، ج ، ص    ـ    «

فإذا كانت هذه الروايات مشكوكاً فيها وذلك لاختلافها في تحديد الثمن فلماذا لا نطبق هذا الكلام على الروايات التي تقول أن الإمام علي عليه السلام لم يثُر وذلك لأنه لم يحصل على عشرين رجلاً، وبعضها تقول عدة بدر أي     رجلاً، أو الروايات الواردة حول تفاصيل الإعتداء على الزهراء عليها السلام حيث أن بعضها يقول إن عمر لطم الزهراء على وجهها حتى انتثر قرطها وبعضها يقول إن الذي فعل ذلك هو قنفذ، وفي رواية أن عمر ضربها بالسوط فأثر ذلك في عضدها كالدملج، وفي رواية رابعة أنه وجأها بالسيف وهو في غمده، وفي رواية خامسة أنه عصرها بالباب«

وفي رواية سادسة أنه شاهدها في الطريق فأخذ منها صك فدك ومزقه فقالت له الزهراء  ع   بقر الله بطنك كما بقرت صحيفتي هذه من دون الإشارة إلى تعرضها إلى الضرب«

وفي رواية سابعة  إن عمر رفسها بعد أن أخذ منها الصك«

وفي رواية ثامنة  إنهم اقتحموا الدار وأخذوا علياً وخرجت الزهراء إلى قبر أبيها  ص  من دون الإشارة إلى تعرضها للضرب أيضاً، وكما نبهنا، فإن بعض تلك المرويات تنسب هذا العمل لقنفذ، كما أن بعضها  كما في الصحيح من السيرة، ج ، ص     « ينسب هذا العمل للمغيره بن شعبه، وإليك نص العبارة  وقد روي قول الإمام الحسن  ع  للمغيره بن شعبة   أنت ضربت أمي فاطمة حتى أدميتها، وألقت ما في بطنها استذلالاً منك لرسول الله  ص î، فالحاصل أن بعض الروايات تنسب هذا العمل لعمر، وبعضها لقنفذ، وبعضها للمغيره، وبعضها لا يتعرض لهذا الأمر أصلاً، فهل يمكن أن يدعى أن كل هذه الروايات صحيحة وإن الثلاثة ضربوها، وهل يمكن أيضاً أن يدعي أن الزهراء  ع  ضُربت بالسيف في غمده وعصرت بالباب ولطمت على وجهها ورفست في بطنها وضرب بالسوط وأن جميع هذه الأمور حصلت عملاً بقاعدة الجمع مهما أمكن أولى  من الطرح؟

ومن اللافت أن المؤلف يركّز على الاعتماد على القرآن كأساس في محاكمة الروايات وينقل محادثة حدثت بين شخص اسمه أبو قره وبين الإمام الرضا عليه السلام حول رؤية الله، وفيها

 فقال أبو قرة  فتكذب بالروايات؟

فقال أبو الحسن  عليه السلام   إذا كانت الروايات مخالفة للقرآن كذبتها«««î وعلق بقوله   وفي الرواية دلالة على حجية ظواهر الكتاب وعلى حجية السياق القرآني أيضاًî«

 الصحيح، ج ، ص    «

ولكنه لا يطبق هذه النقطة في محاكمة النصوص التي تقول إن الأئمة يعلمون ما كان وما يكون المخالفة لصريح القرآن الذي يقول على لسان رسوله  ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء   الأعراف؛     «

وهكذا نجد المؤلف في مقام التركيز على بيان أسس البحث العلمي يؤكد على أن المعيار في ثبوت النص عدم مخالفته للحقائق الثابتة أو الأحكام العقلية الفطرية، حيث يقول  ومن ذلك حكم العقل بوجوب أن يكون النبي  ص  والإمام عليه السلام معصوماً    عن الخطأ، مبرءاً من الزلل، فالنص الذي يريد أن ينسب إلى النبي  ص  والإمام  ع  خطأ وزللاً، لا نتردد في رفضه، ولا نشك في أنه من وضع أعداء الدين، وأصحاب الأهواء««î«

 الصحيح من السيرة، ج ، ص     «

ولكنه للأسف في مقام معالجته للنصوص التي تصور أمير المؤمنين بأنه  اشتمل شملة الجنينî وتشبيهه بالولد، لا نجد فيه روحية الرفض بل مجرد التردد والتوقف«

وهكذا في الرواية التي تصور الزهراء ـ المعصومة بنص القرآن ـ تبكي وتشتكي إلى رسول الله بسبب تعيير النساء لها من زواجها من علي ـ وقد عبر عنها بالرواية الصحيحة المنسجمة مع سيرة وروح الزهراء  ع  في قبال روايات أُخَر من طرق العامة أشد عنفاً من هذه ـ وهنا أذكر نص الرواية كما ذكرها لنرى  هل أن هناك عقلاً شيعياً يمكن أن يقبلها«

ـ  إنه  ص  قال لإبنته في رابع يوم زفافها   كيف أنت يا بنية، وكيف رأيت زوجك؟

قالت له  يا أبت خير زوج، إلا أنه دخل عليَّ نساء من قريش وقلن لي  زوَّجك رسول الله من فقير لا مال له«

فقال لها  يا بنية، ما أبوك بفقير، ولا بعلك بفقيرî«

ثم ذكر  ص  لها فضائل علي  عليه السلام  ومناقبه«

وروى  ابن أبي الحديد الشافعي المعتزلي أن رسول الله  ص  سأل فاطمة عن حالها، فقالت  لقد طال أسفي، وأشتد حزني، وقال لي النساء  زوَّجك أبوك فقيراً لا مال له«

فقال لها  أما ترضين أني قد زوجتك أقدم أمتي سلماً، وأكثرهم علماً، وأفضلهم حلماً؟

قالت   بلى، رضيت يا رسول اللهî«

 الصحيح، ج ، ص     «

وقد تنبه المؤلف ـ رغم وصفه لهذه الرواية بأنها صحيحة ـ إلى هذا الإشكال فحاول أن يؤول الرواية بأن الزهراء لم تكن حزينة وإنما أرادت أن تُسكت نساء قريش اللاتي عيّرنها وذلك بأن تأخذ تصريحاً من النبي يُظهر فضائل الإمام علي  ع ، ولكن هذا التأويل عليل، لأنه كيف يمكن أن نؤول مقطع  لقد طال أسفي وأشتد حزنيî أو المقطع الذي يصورها وهي تبكي راجع«

 ص،     ، ج  «

وقد تحفظ العلامة السيد هاشم معروف الحسني حول كل هذه المرويات التي تنسب الخلاف بين الزهراء وعلي  عليه السلام  أو تنسب إليها الشكوى من زواجها، فراجع ص    من ج   من سيرة الأئمة الإثنا عشر«

النقاط الإيجابية في أبحاث المؤلف

وقد أشرنا في سياق الحديث المتقدم إلى بعض الجوانب الإيجابية لدى المؤلف مثل    ـ تأكيده على الإعتماد على الظواهر القرآنية والسياق القرآني في محاكمة الروايات،   ـ رفض النصوص التي تختلف مع بديهيات العلم الحديث أو الحقائق الثابتة مع ذكر أمثلتها فراجع«

وهنا نستكمل تلك النقاط

  ـ العقلية التحليلية

وهذا ما نجد له من الشواهد الكثيرة ـ خارج إطار الكتابات السجالية ـ، حيث نلاحظ أن غيره من المؤلفين يكتفي بوجوه قليلة في التحليل التاريخي بينما نجده يذكر وجوهاً كثيرة ومتنوعة، مثال ذلك

ـ مناقشته الواسعة لحديث شق الصدر  الصحيح من السيرة، ج ، ص     حيث أنه استطاع استخراج المصدر الجاهلي لهذا الحديث«

ـ وهكذا في مناقشته للرواية التي تقول بأن الأصل في فرض الصلاة كان خمسين صلاة، ولكن مجادلة النبي موسى  ع  للنبي محمد  ص  جعل الرقم ينزل إلى الخمس، حيث فند هذا الحديث بتحليلات جيدة«

 لاحظ الصحيح، ج ، ص    «

وهكذا نجد المؤلف يستعين بتلك العقلية التحليلية ـ التي تستعين بضبط التواريخ ـ في كتابه القيم  دراسة في علامات الظهور والجزيرة الخضراءî حيث

ـ حلل كتاب  بيان الأئمةî واستخرج الكثير من الروايات الموضوعة«

 لاحظ الصفحات من    ـ    «

ـ وهكذا تحليله للخطبة الموضوعة على لسان أمير المؤمنين  عليه السلام  المشهورة  بخطبة البيانî«

ولكن هذه الذهنية التحليلية قد تستطرد ـ بعض الأحيان ـ في أبحاث خارجة عن بحوث السيرة، وذلك مثل هذه البحوث  خصائص الشيعة ـ الخمس بين السياسة والتشريع ـ إعجاز القرآن ـ بحث العصمة ـ بحث البداء  اللذان هما من أبحاث علم الكلام  فلو طبعت هذه البحوث بشكل مستقل لكان أكثر فائدة وأكثر انسجاماً مع منهج البحث«

كما أن هذه الذهنية التحليلية قد تستظهر رأياً، ولكنها تخاف من مخالفة الإجماع، مثال ذلك، أن المؤلف يستظهر في بحث استغفار ابراهيم لأبيه أن المراد بالأب هو والد إبراهيم نفسه ولكنه يتوقف بسبب الإجماع الذي شكك هو في مستنده وهو دلاله الأخبار، حيث ناقش بالإستفادة من قوله  ص   لم يزل ينقلني الله من أصلاب الطاهرين إلى أرحام المطهرات«««  بأنه قد يكون المقصود الطهارة من العهر أو من الأرجاس والرذائل، وهو لا يلازم الكفر«

وأما قوله تعالى   الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين  والرواية التي تفسرها بأنه  ص  لم يزل ينقل من صلب نبي إلى نبي، قال

ويمكن المناقشة في ذلك أيضاً بأن الآية تقول أنه تعالى يراه حال عبادته وسجوده، فهو  ص  في جملة الساجدين فعلاً، وغيرهم« لا أنه يراه وهو يتقلب في أصلاب الأنبياءî«

ثم قال ما نصه   ثم ذكر ما استظهرناه نحن أيضاً من أن من الممكن أن يكون نفس والد إبراهيم قد كان مشركاً يجادله في الإيمان بالله، فوعده بالإستغفار له، ووفى  بوعده، ثم عاد فآمن بعد ذلك فكان يدعو له بعد ذلك أيضاً حتى في أواخر حياته هو كما أسلفنا«

وهذا الاحتمال وإن كان وارداً حيث لا ملزم لحمل الأب في القرآن والوالد على المجاز إلا أنه ينافي الإجماع والأخبارî«

 الصحيح من السيرة، ج  ، ص     «

  ـ الإستقراء الواسع لكثير من المصادر الشيعية والسنية

وهذا ما يساعد الباحث على اكتشاف مختلف الأقوال ويساعد أيضاً على انفراج إطاره الفكري بشرط أن يقرأها بروح الإستكشاف والمعرفة لا بروح النقض، ويكفي أن تراجع الجزء العاشر من كتاب الصحيح من السيرة، ولكن المشكلة في ذلك أن المؤلف لا يلتزم بذكر سند الروايات، بل يكتفي غالباً بذكر المصادر الكثيرة من الشيعة والسنة، ومن المعلوم أن كثرة المصادر ليست دليلاً شرعياً على صحة الرواية، خاصة إذا كانت تلك المصادر راجعة إلى مصدر واحد، مثال ذلك رواية أن الزهراء خلقت من تفاحة في الجنةî حيث ذكر المؤلف لها    مصدراً من كتب الشيعة والسنة، ومن بين تلك المصادر من وصف تلك الرواية بأنها موضوعة  كميزان الاعتدال، ج ، ص     طبعة دار المعرفة «

وقد قيدنا الأمر بكلمة غالباً لأن المؤلف يذكر السند في بعض الأحيان، مثال ذلك ما ذكر في تفسير الآيات   ـ    من سورة الإسراء«

حيث قال   لقد وردت بعض الروايات ـ التي ليست لها أسانيد معتبرة ـ تفيد أن الفساد الأول هو قتل علي، وطعن الحسن عليه السلام، والعلو الكبير هو قتل الحسين، ووعد أولاهما نصر دم الحسين، والمبعوثون أولاً هم قوم قبل خروج القائم، وكان وعداً مفعولا  خروج القائم« وثم رددنا الكرة عليهم  خروج الحسين في سبعين من أصحابه«

وفي تفسير القمي  الفساد الأول  فلان وفلان، ونقضهم العهد، والعلو الكبير  ما ادّعوه من الخلافة« ووعد أولاهما  الجمل« وجاسوا خلال الديار  طلبوكم، وقتلوكم، ورددنا لكم الكرة  بنو أمية، ووعد الآخرة  القائم  عليه السلامî، وكما دخلوه أول مرة  رسول الله  ص «

وعلق على ذلك بقوله   وواضح  أن مفاد هذه الروايات ليس هو محط نظر الآيات صراحة، وإنما هي ـ إن صحت ـ من باب الإشارة إلى أن ما يجري لبني إسرائيل، يجري مثله لهذه الأمة أيضاً، إذ من الواضح  أن ما ذكرناه في مفاد الآيات لا ينسجم مع ما جاء في هذه الروايات، كما يظهر بالملاحقة، والمقارنةî«

 الصحيح من السيرة، ج ، ص    «


ملحق  

نص المحاضرة التي ألقاها سماحة آية الله العظمى

السيد محمد حسين فضل الله  دام ظلهî

بتاريخ 11جمادى الأولى 1418هـ 13/9/1997م

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله الطيببين وأصحابه المنتجبين وعلى جميع أنبياء الله المرسلين«

عندما نذكرها:

عندما نذكرها سواء في ذكرى ولادتها وهي تنفتح على الحياة، أو في ذكرى وفاتها وهي تنفتح على رحاب اللّه لتلتقي في أقرب موعد بأبيها رسول الله، عندما نتذكرها وهي لم تتخط شبابها بل ربما فارقت الحياة وهي في وسط الشباب، عندما نتذكرها وهي الإنسانة التي كانت رسالة متحركة في عقلها وفي روحها وفي فكرها وفي علمها وزهدها وعبادتها وصلابتها وقوتها في الحق، عندما نتذكرها نتذكرها هذه الصدّيقة الطاهرة التي كانت الطهر كلّه، وكانت العصمة كلها، وكانت الحق كلّه«

هذه الإنسانة التي عاشت المعاناة منذ طفولتها الأولى كأقسى ما تكون المعاناة وانفتحت على المعاناة حتى وهي زوجة لعلي  ع  في كل متاعبها في بيتها وفي مجتمعها، وعاشت المعاناة في فقدها لأبيها التي كانت منه العقل من العقل والروح من الروح والحياة المنفتحة على حياة الرسالة بحيث تمتزج الحياتان معاً في خط الإنسانية في روح الرسالة، وعاشت المعاناة كذلك في بيتها وفي نفسها وفي القضية الكبرى التي دافعت عنها كأقوى ما يكون الدفاع«

لم تعش لنفسها

إن خلاصة حياة هذه الإنسانة فاطمة الزهراء  ع  في أنها لم تعش لنفسها لحظة واحدة وإنما عاشت لأبيها رسول الله ولزوجها ولي الله ولولديها اللذين هما إمامان إن قاما وإن قعدا، ولم تعش لهم قرابة فقط، ولكنها عاشت لهم رسالة، ولذلك كانت الرسالة تجري معها وتسير معها وكانت تطل على الناس كلهم لتفكر بآلام الناس قبل أن تفكر بآلام نفسها وهكذا كانت ابنة رسول اللّه في رسالته كما هي ابنة رسول الله في نسبه، فتعالوا نتحدث من خلال حديث رسول الله  ص  في شأنها مما رواه الفريقان من المسلمين، ولعلّ أفضل من نظم في الزهراء  ع  هو أمير الشعراء  أحمد شوقيî حيث قال

ما تمنى غيرها نسلاً ومن          يلد الزهراء يزهد في سواها

لماذا الاهتمام بالزهراء  ع ؟

وهذا هو الذي يجعلنا ـ أيّها الأحبة ـ نهتم بذكرى الزهراء  ع  لأننا عندما نذكرها نذكر قضية الرسالة في خط الدعوة، وكيف كانت الزهراء  ع  فيها، ونذكر خط الحركة الإسلامية في القضايا المتحركة في داخل الإسلام التي كانت الزهراء عنصراً حيوياً فيها« إننا نتذكرها في ذلك كلّه لأن هناك أشخاصاً في التاريخ ينتهون عندما يموتون لأن حياتهم تختصر في داخل ذاتهم، وهناك أناس يبقون في الحياة حياة تنفتح على رسالتهم ليبقوا ما بقيت رسالتهم« وفاطمة الزهراء  ع  من هؤلاء، ذلك أنك لا تستطيع أن تذكر رسول الله إلا وتذكرها، ولا تستطيع أن تذكر علياً  ع  إلا وتذكرها، ولا تستطيع أن تذكر طفولة الحسن والحسين وزينب  ع  إلا والزهراء هي سرّ الطهر في طفولتهم، لذلك ندعو إلى أن تبقى الزهراء في عقولنا وفي قلوبنا رسالة وفكرة لا مجرد دمعة، لأننا لا نملك إلا أن ننفتح عليها بدموعنا، ولكن الأكبر من ذلك أن ننفتح عليها برسالتها لأنها عاشت كلّ دموعها للرسالة ولم تعشها لنفسها طرفة عين، وهذا هو سرّ أهل البيت  ع  في أنهم عاشوا للإسلام كله، ومن هنا فإن علينا أن نوظف كلّ ذكراهم من أجل الإسلام كلّه«

استنطاق الزهراء  ع

عندما نريد أن نستنطق الزهراء  ع  في كلمات رسول الله  ص  فنحن نلتقي أولاً بـ  البخاريî في سنده عن رسول الله  ص    فاطمة بضعة مني من أغضبهاأغضبنيî، ونلتقي بمسلم صاحب الصحيح   إنّما ابنتي فاطمة بضعة مني يؤذيني ما آذاهاî، وفي رواية أخرى لمسلم  إنّما ابنتي بضعة مني يريبني ما رابها ويؤذيني ما أذاهاî«

عندما نريد أن نستنطق هذه الأحاديث ورسول الله  ص  كما عرّفنا الله إياه لا ينطق عن الهوى  إن هو إلا وحيٌ يوحى   النجم     وحيٌ في القرآن ينزله الله آيات ووحي في عقله يركزه الله بالحقيقة في المفاهيم، ووحي في سنّته عندما يحرّك سنته لتكمل خط الكتاب، وهو الصادق الذي لا يتقوّل على الله  ولو تقول علينا بعض الأقاويل   لأخذنا منه باليمين   ثم لقطعنا عنه الوتين   الحاقة      لذلك عندما يتكلم فإنه لا يتكلم عاطفةً ليعطي القيمة من خلال العاطفة، ولكنه يتكلم رسالة ليعطي القيمة من خلال الرسالة، هو بشرٌ يحضن ابنته كما يحضن أي بشر ابنته، ولكن عندما يعطي القيمة فإنه بشر يوحى إليه، ولذلك عندما يقول  بضعة منيî فما معنى أن يكون إنسان ما قطعة من رسول الله  ص ؟ معناه إنه يرتبط برسول الله ارتباطاً عضوياً كما لو كان جزءاً حياً في جسده، وعندما يكون شخص قطعة من رسول الله فإن عقله يختزن بعضاً من عقل رسول الله وأن روحه تختزن بعضاً من روح رسول الله، وأن حياته تختزن الطهر والنقاء والصفاء والروحانية والصدق والأمانة من كل حياة رسول الله  ص  وعندما يقول رسول الله  ص  من أغضبها فقد أغضبني ومن آذاها فقد آذاني فهل يتحدث عن الأب عندما يؤذي الناس ولده أو ابنته؟ إنّ أصحاب الرسالات لا ينفعلون عاطفياً عندما يُغضب الناس أولادهم بالحق، فإذا كنت أباً صالحاً واغضب الناس ولدك لأنه أساء ولأنه أذنب فهل يجوز لك بأن تتحدث عن أن من يغضب ولدك يغضبك؟ لا يمكن ذلك، إذاً فمعنى ذلك أن فاطمة  ع  هي الإنسانة التي لا يمكن أن تسيء إلى أحد ولا يمكن أن تسيء في قول أو في عمل حتى يكون للناس الحق في إيذائها، وحتى يكون للناس الحق في اغضابها، بل هي الإنسانة التي لا يملك أحد أن يغضبها من ما خلال  تثيره من غضب على أساس الانحراف ـ تقدست عن ذلك ـ ومعنى ذلك إن فاطمة  ع  هي الإنسانة التي لا تسيء، والإنسانة التي لا تذنب ولا تنحرف، ولذلك فمن أغضبها فإنه يغضب الحق ويغضب الخط المستقيم«

هكذا أفهم كلام رسول الله  ص   من أغضبها أغضبني ويؤذيني ما آذاهاî وهي لا تتأذى إلا عندما يُعصى الله ولا تتأذى إلا عندما ينحرف الناس عن طريق الله، ولذلك يتأذّى رسول الله بآذاها، وإلا كيف يمكن أن يتأذى رسول الله بأذاها إذا كان آذاها ليس مبرراً من جانب الحق أو من جانب الرسالة؟

أشبه الناس برسول الله  ص

ثم نتابع في كتاب  الاستيعابî وهذه ليست مصادر شيعية، لنبيّن من خلال ذلك أنها تمثل مصادر حيادية، لأن بعض الناس قد يتهم الشيعة بأنهم يتحدثون بعاطفتهم، ففي  الاستيعابî لإبن عبد البر بأسانيده كما يقول عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت  ما رأيت أحداً كان أشبه كلاماً سمتاً وهدياً ودلاً برسول الله من فاطمة، وكانت إذا دخلت عليه قام إليها فقبّلها ورحّب بها كما كانت تصنع هي إذا دخل عليها فإنها تقوم وتقبّله وترحب بهî وفي رواية لأبي داود في سننه  كان إذا دخلت عليه قام إليها فأخذ بيدها فقبّلها وأجلسها في مجلسه، وكانت إذا دخل عليها قامت إليه فأخذت بيده فقبلتها وأجلسته في مجلسهاî«

عندما ندرس هذا النص سواء مما ورد عن عائشة في الاستيعاب أو في سنن أبي داود ماذا نفهم؟ إنه يوحي بعمق العلاقة الروحية بين رسول الله  ص  وبين فاطمة  ع  لأن رسول الله لم يفعل ذلك مع غيرها ولم تفعل ذلك مع غيره إذ لم ينقل أنها فعلت ذلك مع علي  ع  ولم ينقل أن رسول الله  ص  فعل ذلك مع علي  ع  ولكنه فعله معها وفعلته معه، لماذا؟ لأن العلاقة بين فاطمة الزهراء  ع  وبين رسول الله بدأت منذ طفولتها الأولى« ربما لم تحدثنا السيرة عن طفولتها مع رسول الله في حياة أمها ولكن السيرة النبوية الشريفة حدثتنا عن طفولتها بعد وفاة أمها وكان رسول الله  ص  وحيداً في بيته؛ مات عمه  أبو طالبî االذي كان يرعاه ويحميه من عنف قريش، وماتت زوجته  خديجةî أم المؤمنين التي كانت تعيش معه وله بكل وجودها وأصبح يعيش الوحدة تماماً«

أمُّ أبيها

كما عاش الوحدة عندما افتقد أمه وهو رضيع، والنبي  ص  وهو الممتلىء بمحبة الله كان بشراً يحتاج إلى الحنان والعاطفة والمحبة كما يحتاجها البشر وليس ذلك نقصاً في ذاته وليس ضعفاً في ثقته بنفسه وامتلائه بربه، ولكن ـ أيها الناس ـ إنَّ النبي يجوع كما نجوع ويعطش كما نعطش، ونحن نجوع إلى الحنان عند حاجتنا إلى الحنان، ونحتاج أن نشبع منه، كما نجوع إلى الغذاء ونحتاج أن نشبع منه، وكان النبي  ص  يريد اللمسة الحلوة والاحتضان الرقيق وتفرغت الزهراء  ع  بكل ما في قلبها من حنان وعاطفة وطهر ونقاء وصفاء واحتضنت آلامه واحتضنت حياته واحتضنت كل متاعبه في رسالته حتى اكتشف النبي  ص  أن أمه قد بعثت من جديد وانطلقت كلمته الخالدة  إنّها أم أبيهاî ربما حاول البعض أن يصور حديثنا عن هذه الأمومة التي انفتحت فاطمة من قلبها وروحها على أبيها من خلالها، أننا نتحدث عن ضعف في النبي، وقد يحمل ذلك كالذين يحملون الكلام على الأسوء، إنها تسيء إلى كماله وعصمته، ولكن أيها الناس هل تنافي العصمة أن يجوع النبي ويربط حجر المجاعة على بطنه، أن يظمأ النبي ويشرب الماء ليستقي به، فكذلك جوع الحنان وشبع الحنان وظمأ العاطفة وارتواء العاطفة، وقد لا يعي الناس هذه المعاني التي أكدها الله سبحانه وتعالى عندما تحدث عن حزن النبي وتحدث عن ذهاب نفسه حسرات من أجل قومه، وتحدث عن كثير مما يعانيه من مشاعره التي تبقى مشاعر الإنسان« وهذا ما يفسر عمق هذه العلاقة التي امتدت حتى وفاته  ص  فلقد كان هناك عشق روحي متبادل، وربما نستطيع أن نؤكد أن هناك وحدة تمثل هذا الاندماج الروحي بين الزهراء  ع  وبين رسول االله  ص «

ثم نتابع في نفس الجو وفي عدة روايات  إن فاطمة أقبلت ما تخطىء مشيتها مشية رسول الله  ص î تأثرت به حتى في طريقة مشيه لأنه كان أستاذها وكان المربي لها وكان المعلم لها وكان الذي يعطيها في كل يوم خلقاً من أخلاقه وروحاً من روحه وعقلاً من عقله، كانت معه في مكة في الليل والنهار يناجيها وتناجيه، ومن هنا كان علم فاطمة من علم رسول الله، كما كان علم زوجها من علم رسول الله ، لم يتحدث التاريخ عن أستاذ لفاطمة  ع  غير رسول الله  ص  كما لم يحدثنا التاريخ عن أستاذ لعلي  ع  غير رسول الله  ص «

عمق العلاقة

ومن هنا كان زواج علي من فاطمة بعد ذلك، كان زواج التلميذ الذي تلقى من نفس المصدر من التلميذة التي تلقت من نفس المصدر، وكان هذا هو الذي جعلهما يعيشان الإنسجام في عقليهما وفي روحيهما وفي أخلاقيتهما وفي كل سلوكهما الروحي، لأن الأستاذ واحد، ولذلك فإننا عندما نقرأ علياً إنما نقرأ رسول الله  ص  في علي، وعندما نقرأ فاطمة فإننا نقرأ شيئاً من رسول الله في فاطمة«  ع «

روى الحاكم في  المستدركî وهو الذي استدرك على الصحيحين بسنده عن أبي ثعلب قال   كان رسول الله إذا رجع من غزاة أو سفر أتى المسجد فصلى فيه ركعتين شكراً لله على أنه أرجعه من سفره، ثم ثنّى بفاطمة ثم يأتي أزواجهî مما يعني أن فاطمة تقف في المركز الأول في علاقته بالناس حتى في علاقته بزوجاته«

وبسنده أي سند الحاكم في المستدرك عن عبد الله ابن عمر  أن النبي  ص  كان إذا سافر كان آخر الناس به عهداً فاطمةî أي آخر من يلتقيه هو فاطمة لتبقى صورة فاطمة وليبقى حنان فاطمة وعاطفة فاطمة التي تفيضها عليه معه في سفره يعيش فيه ويرتاح له  وإذا قدم من سفر كان أول الناس عهداً به فاطمةî لأنه كان يعيش الشوق إليها كما لم يعش الشوق إلى أي إنسان آخر، ولذلك كان يعبّر عن حرارة هذا الشوق باللقاء بها، أول من يلتقيه من الناس«

وفي  الاستيعابî بسنده سئلت عائشة أم المؤمنين  أي الناس كان أحبّ إلى رسول الله؟   قالت   فاطمةî، يقول الراوي قلت  من الرجال؟ قالت   زوجها إن كان ما علمته صواماً قواماًî وهذه شهادة منها لعلي  ع «

وروى أبو نعيم في  الحليةî بسنده عن عائشة ما رأيت أحداً قط أصدق من فاطمة غير أبيها، إنها الأصدق التي لم يقترب أحد من المسلمين ليكون أفضل منها، وهذه درجة توحي بأنها اندمجت برسول الله في الصفة المميزة لرسول الله، فلقد كان الصدق صفة رسول الله التي هيأت الأجواء لنبوته في نفوس الناس وركزتها على قاعدة الصدق والأمانة، والصدق يجتذب الأمانة ويمكن أن تعيش الأمانة في داخله، لأنك عندما تكون صادقاً فإنك لا يمكن أن تكون خائناً لأن الخيانة تمثل نوعاً من غش الناس أو غش الحياة والغش هنا وهناك، لذلك فقد انفتحت على صدق أبيها وارتفعت بهذا الصدق حتى كانت الأصدق في الدرجة الثانية، كان أبوها الأصدق في الناس كلهم، وكانت الأصدق في الناس كلهم ما عدا أبيها لأن صدقها مستمدٌ من صدق أبيها الذي زرع الصدق في عقلها ليكون فكرها فكر الصدق وزرع الصدق في قلبها لتكون عاطفتها عاطفة الصدق وزرع الصدق في حياتها لتكون حياتها صدقاً كلها«

وكانت وهي الطفلة تتابع أباها وهو يأتي من المسجد، كانت تشعر بمسؤوليتها عنه تماماً كمسؤولية الأم لولدها، وتذكر السيرة النبوية الشريفة  إنّ قريش القت سلا الجزور على ظهر النبي وهو ساجد فجاءت فاطمةî والظاهر أنها كانت تتحرك معه عندما كان يذهب إلى صلاته في المسجد الحرام  فطرحته عنهî قد تكون تلك قصة صغيرة ولكنها توحي بكم الاهتمام من هذه البنت الطاهرة لأبيها الرسول، بحيث كانت تتابع وضعه وتتابع كل ما يقوم به المشركون معه«

معه حتى في معاركه

وهكذا نتابع متابعتها له بأنها كانت تخرج معه في بعض معاركه فمن أخبارها بالمدينة، يقول المؤرخون بأنه  لمّا جرح النبي يوم أحد جعل علي ينقل له الماء في ورقته من المهراس وينسك فلم ينقطع الدم وهنا كان دور فاطمة  ع  دور الممرضة  فأتت فاطمة ـ فأعطته أولاً جرعة من الحنان ـ فجعلت تعانقه وتبكي وأحرقت حصيراً وجعلت على الجرح من رماده فانقطع منه الدمî وهذا مما يوحي بعمق العلاقة والمتابعة منها بأبيها وأنها هي التي كانت ترعاه، وكان له أكثر من زوجة في ذلك الوقت كانت تشعر أنها المسؤولة عنه وعن رعايته وتضميد جراحه أكثر من زوجاته المسؤولات عنه««

قصة زواجها بعلي  ع

وفي الحديث عن زواجها من علي  ع  وكان علي الفقير كأفقر ما يكون الناس، ولقد خطب فاطمة الكبار من المهاجرين، وكان النبي  ص  يقول كما تقول الرواية  أنتظر أمر ربيî وقيل لعلي  لمَ لم تخطب فاطمةî وكان يستحي من ذلك، وجاء إلى رسول الله  ص  وحدّثه عن ذلك وانفرجت أسارير رسول الله  ص  فكأنما كان ينتظر ذلك، وكأنه كان يُعدّ لذلك، وقال له ماذا عندك و يعرف كل ما عنده لأنه هو الذي رباه وهو الذي يعرف كل ميزانيته المالية كما يعرف كل فضائله العلمية والروحية والحياتية، كان معه في بيته، ولم يكن له بيت منفصل عنه، وكان معه في الليل والنهار  وكم سائل عن أمره وهو عالمُî ما معك؟ قال معي درعي وسيفي، وهذه الثياب التي ألبسها، وأنت تعرف ذلك، قال   أما سيفك فلا تستغني عنه، لأنه السيف الذي تذب به عن الإسلام، وعن وجه رسول الله  ص  ولكن أعطني درعك، وبيع الدرعُ بـ       درهم، وكان ذلك مهر الزهراء  ع ، وعاشا كأفقر الناس حتى أن الزهراء  ع  كانت تعاني من الفقر ومن الجهد والتعب والمشقة في بيتها ما لم تعانه امرأة سواها«

هنا نأتي إلى الحديث عن زواجها وعن قيمته ففي  كشف الغمةî روي عن أبي عبد الله  ع  جعفر الصادق، قال   لولا أن الله تبارك وتعالى خلق أمير المؤمنين  ع  لفاطمة ما كان لها كفؤ على وجه الأرضî فلو كانت الكفاءة بالنسب فما أكثر أبناء عمّ النبي، ولو كانت الكفاءة في هذا الجانب في الإسلام فما أكثر المسلمين، ولكن هناك سرٌّ في علي  ع  وسرٌّ في فاطمة  ع  لا يعلمه إلا الله فهو شيء من غيبه، ولكن هناك شيء يلتقي به علي بفاطمة و ما أشرنا إليه وهو أنهما عاشا معاً مع رسول الله  ص  علماً روحاًوأخلاقاً بما لم يعش به أي صحابي أو صحابية، لأن علياً وفاطمة كانا معه في الليل وفي النهار، وكانا يعيشان معه تماماً كما يعيش الإنسان الذي يستلهم كل ما عنده، وكان ينطلق هو أيضاً ليربيهما على صورته إستجابة لنداء الله  وأنذر عشيرتك الأقربين   الشعراء       وعندما انكفأت عنه عشيرته كان أقرب عشيرته إليه إيماناً وروحاً علي وفاطمة، ولذلك فإن ما يعيشه علي من روح ومن أفق ومن انفتاح على الله ومن معرفة بالله كانت تعيشه فاطمة  ع «

ومن هنا فإننا إذا درسنا عبادة علي  ع  ودرسنا عبادة فاطمة  ع  فإنا نجد نفس القوة والجهد والانفتاح على الله سبحانه وتعالى، مما يعني أنهما يعيان معنى القرب إلى الله سبحانه وتعالى معاً في هذه الدرجة من معرفة الله ومن الانفتاح على كل أسرار قدسه وعلى كل صفات غيبه«

وروى  الصدوقî في  عيون أخبار الرضاî بسند عن أبي الحسن الرضا عن أبيه موسى الكاظم عن آبائه عن علي  ع  وهذه هي سلسلة السند الذي قال عنها الإمام  أحمد ابن حنبلî أنّها  لو وضعت على المجنون لأفاقî لأنها من إمام إلى إمام إلى إمام إلى علي  ع  إلى رسول الله، عن علي  ع  أنه قال   قال لي رسول الله  ص  يا علي لقد عاتبني الرجال من قريش في أمر فاطمة وقالوا خطبناها إليك فمنعتنا وزوجتها علياً فقال  ما أنا منعتكم وزوجته بل الله منعكم وزوجهاî ليس الأمر أمري في ذلك ولكن أمر الله سبحانه وتعالى«

الإخلاص لزوجها

وهكذا عاشت الزهراء  ع  حياتها كأية زوجة تخلص لزوجها في كل مسؤوليتها الزوجية، لم تميز نفسها عن أية زوجة مسلمة مع زوجها من خلال أنها ابنة رسول الله  ص  كانت مسلمة كأفضل ما تكون المسلمات في مسؤولياتها الزوجية، كانت تطحن وتعجن وتخبز، وكانت تربى أولادها، وكان أولادها يتتابعون وهي ما هي عليه من الضعف منذ بداية حياتها كما ينقل الذين كتبوا سيرتها، وكانت هناك نقطة مهمّة في هذا البيت الذي ضم علياً وفاطمة، وهي أن الزهراء  ع  أعطت علياً من روحها ومن استقامتها ومن عبادتها ومن زهدها، أعطت علياً  ع  الجو الإسلامي للبيت بحيث كان علي يدخل البيت ويرى الإسلام يحيط به من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله لأن الزهراء  ع  كانت تملىء البيت بذلك كله، فكان علي يتنفس الإسلام في المسجد مع رسول الله وكان يتنفس الإسلام في البيت مع ابنة رسول الله، وكان علي أيضاً الزوج المسلم الذي كان مع الحق وكان الحق معه، كان يعطي فاطمة  ع  من عقله ومن روحه ومن استقامته ومن عبادته ومن زهده هذا الجو الإسلامي، فكانت تتنفس الإسلام في بيتها من خلال علي، وكانت ابتهالاتهما لله وعبادتهما له وسجودهما بين يديه، وتنهداتهما في المحبة لله والخوف منه، كانت تمتزج ببعضها البعض«

الجار ثم الدار

وكانت الزهراء  ع  تعيش هذا الجوّ الروحي في هذا البيت، حتى أن أولادها كانوا يتنفسون في طفولتهم ذلك، ويحدّث ولدها الإمام الحسن  ع  بعد حين، وقد كان طفلاً وكانت تقوم الليل، وكان يراقبها وكان يراها تعبد الله ليلة وليلة، حتى قال إنها كانت تقوم الليل حتى تتورم قدماها، ومن الطبيعي أن ذلك يكون من خلال طول قيامها لأن طول القيام هو الذي يضغط على القدمين، وطول القيام يوحي بطول المناجاة وطول الانفتاح على الله ويصغي إليها بكلّ طهر طفولته، وفي ركعة الوتر كانت تدعو للمؤمنين والمؤمنات، وينتظر هذا الطفل الإمام أن تدعو لنفسها وهي الضعيفة بدنياً والتي عاشت المعاناة في كل أوضاعها، فلا يسمع ذلك فيسألها بعد أن تفرغ من صلاتها  أمّاه لم لا تدعين لنفسك؟ وأنت الأحوج إلى الدعاء، وصلاتك تفيض بالروحانية وهو الجو الذي يحقق استجابة الدعاء من الله لأن الإنسان كلما أقبل على الله بروحه وقلبه كلما أفاض الله رحمته عليه أكثر واستجاب دعاءه أكثر«

قالت   يا بني الجار ثم الدارî، نحن نفكر بالمسلمين قبل أن نفكر بأنفسنا، ولذلك نتحسس آلام المسلمين فندعو الله أن يخفف آلامهم، ونتحسس أحلام المسلمين فندعوا الله أن يحقق أحلامهم، ثم بعد ذلك، لعلّ الله يرحمنا عندما يرانا ندعو للمسلمين فيعطينا مثلما نطلب لهم، وقد خلّد القرآن هذه الروح التي امتاز بها أهل البيت  ع ، فلم تكن وحدها في ذلك بل كان كل أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، فعاشوا الطهر في الروح والعقل والحياة  ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً   إنّما نطعمكم لوجه الله   الإنسان    ـ   ، نطعمكم ونبقى جائعين، نطعمكم ونبقى صائمين لم نتناول فطورنا لأنكم قبلنا ونحن بعد ذلك  الجار ثم الدارî  لا نريد منكم جزاءاً ولا شكورا   إنا نخاف من ربنا يوماً عبوساً قمطريرا   فوقاهم الله شرّ ذلك اليوم ولقاهم نظرة وسرورا   الإنسان    ـ    «

وانطلقت فاطمة  ع  وقد عاشت المعاناة في بيتها من أثر التعب والمرض، فقال لها علي  ع  ماذا لو جئت أباك لنطلب منه خادماً يريحك بعض الشيء ويخفف متاعبك، لكنها امتنعت لأنها تعلمت أنّ رسول الله هو الذي يبادر، وتعلمت أن تعيش مع رسول الله في كل أجوائه ـ حتى أنها كما تقول كتب السيرة ـ لبست قلادة أو إسوارة أهداها إليها علي  ع  أو أنها وضعت ستاراً على بيتها جديداً وجاء رسول الله  ص  من سفر فلما رآها أو رأى السوار ـ حسب اختلاف الرواية ـ رجع وفوجئت الزهراء  ع  أنها لم تتعود من النبي أن يرجع حينما يؤب من سفره، فتساءلت  وما الذي تغيّر؟ فنظرت إلى السوارين أو إلى القلادة أو إلى السوار، ففي رواية أنها أخذت السوارين أو القلادة وباعتهما واشترت عبداً وأعتقته لوجه الله، وفي رواية أنها جمعت الستار وأعطته لولديها الحسن والحسين  ع  وهما طفلان، وقالت  إذهبا إلى أبي وقولا له  ما أحدثنا بعدك غير هذا فاصنع به ما شئت«

فجاءا يدرجان والنبي  ص  على المنبر فصعدا المنبر وقدّما إليه هذا الستار وبلّغاه رسالة أمّهما ـ وهنا كما تقول الروايات في السيرة ـ اهتزّت أريحية رسول الله  ص  فقال   فداها أبوها، فداها أبوها«« فداها أبوها، ما لآلِِ محمد وللدنيا، إنهم خلقوا للآخرةî«

تسبيح الزهراء  ع

ولذلك استجاب علي  ع  على أساس أن يتحدث هو لا هي عن الخادم ـ ووصلا إلى النبي  ص  فتحدث علي  ع  قائلاً   إنها طحنت بالرحى حتى مجلت يداها ـ أي إخشوشنت ـ وأثرَّ في صدرها وكنست البيت ـ أو كسحت البيت ـ حتى اغبرّت ثيابها ـ وكأنه قال وهي تعاني من تربية أولادها ـ وطلب منه خادماً فيما يأتيه من بعض الأسرى، فقال النبي  ص  وهو يخاطب روحيتهما ليرتفع بها وليربطهما بالله سبحانه وتعالى لتتخفف متاعبهما الجسدية من خلال ذلك، قال  ألا أعلمكما شيئاً إذا فعلتماه كان خيراً من الخادم، إذا أخذتما منامكما فكبّرا الله      مرة واحمداه      مرة وسبِّحاه      مرة فهو خيرٌ لكما من الخادم، فقالا  رضينا بالله   وخلّد الإسلام تسبيح الزهراء الذين نتذكر معه متاعب الزهراء  ع  ونتذكر معه أن الزهراء ابتعدت عن متاعبها من خلال تكبير الله وتحميده وتسبيحه لنعرف كيف فهو العيش مع الله وكيف هو ذكر الله عندما يعيش الإنسان آلامه«

وفي رواية رواها  الكافيî بسنده عن الإمام الصادق  ع  قال  لما جاءت فاطمة تشكو إلى رسول الله بعض أمرها أعطاها كربة ـ أصل السعفة العريض وكان يكتب عليها ـ فكان يربيها على أن تنفتح على العلم والروح أكثر من الانفتاح على الجوانب المادية ـ قال   تعلمي ما فيها فإذا فيها من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الأخر فليقل خيراً أو يسكتî«

وكان هذا هو ما أراده الرسول  ص  لفاطمة  ع  في تخفيف آلامها من خلال الانفتاح بآلامها في أجواء القيم الإسلامية التي تشغل فكرها فيما تبلغه للناس ليكون ذلك انتصاراً على كل  ما تعانيه من قسوة ومن ألم، ومعنى ذلك فيما نستوحيه أن على الإنسان أن يكون وعيه لرسالته أقوى من وعيه لآلامه لينتصر برسالته على آلامه، لأن الإنسان إذا عاش الاهتمام بالشيء الكبير فإنه ينسى الشيء الصغير«

دورها في تعاليم المسلمات

ولقد عاشت الزهراء وانطلقت وكانت ـ كما ينقل بعض المؤرخين ـ تعلم المسلمات ما تتعلمه من رسول الله  ص  وينقل صاحب  دائرة المعارف الإسلاميةî أنّها أضاعت بعض الأوراق التي كانت تكتبها فقالت لخادمتها  فضةî وهي التي قامت على خدمتها في أواخر حياتها  ابحثي عنها فإنها تعدلُ عندي حسناً وحسيناًî لأهمية هذه الكلمات التي اكتسبتها من رسول الله  ص  مما يعني أنها مع كل هذه المعاناة كانت تعيش المسؤولية الإسلامية في تثقيف المسلمات، وكنّ ـ أي المسلمات ـ يأتينها بين وقت وآخر«

وتنقل لنا أحاديث أهل البيت  ع  أنّ لها كتاباً يطلق عليه  مصحف الزهراءî وقد ظنّ بعض الناس من خلال كلمة المصحف أنه قرآن غير هذا القرآن الذي يقرأه المسلمون، لكنه قد عبّر عنه في بعض الأحاديث ـ كما في الكافي في باب الزكاة ـ بأنه كتاب فاطمة لأنّ المصحف مأخوذ من المصحف وهي الأوراق، ففي القرآن يقول الله تعالى   إنّ هذا لفي الصحف الأولى   صحف إبراهيم وموسى   الأعلى     ـ    ، أو كما في قوله  في صحفٍ مكرّمة   عبس     ، فهي الأوراق التي يكتب فيها، وقد اختلف الناس فيما يشتمل عليه مصحف الزهراء بين قائل أنه يشتمل على وصيتها مع بعض الأحكام الشرعية، وبين قائل أنها تشتمل على بعض الغيبيات وما إلى ذلك«

وعلى أية حال، فإنه ليس موجوداً في أي مكان في العالم، ولذلك فإن الجدل فيما يتضمنه وماذا يحويه ليس له أية ثمرة، لأنه ليس موجوداً حتى نختلف فيه، وإنا نأخذ من ما حدثنا أهل البيت  ع  عنه كما نأخذ من كتاب علي  ع  ـ وهو ليس بين أيدينا ـ ما حدثنا الأئمة  ع  عنه، وهكذا بالنسبة إلى  الجامعةî وإلى  الجفرî مما أثر عن أهل البيت  ع  أنها مصادرهم«

دراسة خطبة الزهراء  ع

ومن هنا ـ  كانت الزهراء  ع  من خلال كل ما تقدم ـ تمثل الإنسانة العالمة، الداعية التي تنفتح على القضايا الإسلامية من موقع الغنى العلمي والروحي، ولعلنا عندما نقرأ خطبتها في المسجد عندما انطلقت لتطالب بحقها في فدك لا من خلال الناحية المادية ولكن لأغراض أخرى تتصل بالقضية العامة التي كانت تدافع عنها، كانت تنطلق من خلال الدفاع عن حق أمير المؤمنين الذي تعتقده ونعتقده في مسألة خلافة رسول الله  ص «

وعندما ندرس خطبتها فإننا نجد الفصل الأول من الخطبة يمثل شرحاً للقيم الإسلامية وللفرائض الإسلامية ولكثير من الخطوط الإسلامية مما يدلّ على غنى علمي وثقافي يمكن للإنسان أن يجعل منه متناً لشرح كبير يبيّن أكثر التعاليم الإسلامية، وهكذا أيضاً عندما دخلت في الجدل القرآني حول إرثها والآيات التي تحدثت بها كأساس لتأكيد أنّ لها الحق في الإرث من أبيها ورفض ما روي عن  أننا معاشر الأنبياء لا نورّث، ما تركناه صدقةî فذلك يعبّر أيضاً عن ثروة فقهية كبيرة تعتمد على القرآن في استنطاقه في الجوانب الفقهية«

وعندما نلاحظ حديثها مع المهاجرين والأنصار فإننا نجد أنه يمثل الصلابة في الموقف، ويمثل القوة في تحميل المسؤولية بحيث أننا لا نتصورها تلك الإنسانة الضعيفة البدن المنهدّة الركن التي يغشى عليها ساعة بعد ساعة ـ كما يقولون ـ ولكننا نتصورها المرأة القوية التي تقف أمام الرجال كلّهم مع اختلاف درجاتهم لتتحدث عنهم بالمنطق القوي الذي يقيم الحجة والذي يردّ الشبهة بما لم نعهده في امرأة قبلها«

ظلامات الزهراء  ع

وكانت تعيش آلامها وتعاني من الكثير من الظلامات التي وقعت عليها، ولعلّ ما يرويه السنّة والشيعة معاً ومنهم  ابن قتيبة  في الإمامة والسياسة أنهم جاءوا بالحطب ليحرقوا بيت علي  ع  وفاطمة  ع  تهديداً للمعارضة التي اجتمعت عند علي  ع  كما يقول المؤرخون، فلقد قيل لقائد الحملة  يا هذا إنّ فيها فاطمة   وفاطمة هي الإنسانة التي التقى كلّ المسلمين على حبّها وعلى احترامها وعلى تعظيمها لأنها البنت الوحيدة التي تركها رسول الله  ص  من بعده ولأنها بضعة منه يغضبه ما أغضبها ويؤذيه ما آذاها فكيف تأتي بالنار لتحرق بيت فاطمة  ع ، ولكنه قال   وإن  î ونحن نعتبر هذه الكلمة من أخطر الكلمات، لأنّ معناها أنّ لا مانع من أن نحرق البيت حتى ولو كانت فاطمة  ع  في داخله، إنها من أخطر الكلمات التي عبّر الشاعر المصري  حافظ ابراهيمî في قصيدته العمريّة عن خطورتها، لأنها تعني فيما تعنيه أنه لا مقدسات في هذا البيت فلا مانع من أن يُحرق على أهله«

ولذا  فإننا نعتبر أنّ هذه الكلمة تعبّر عن أبشع الظلم على الزهراء  ع  سواء صدق الرواة فيما يتحدثون به عن دخولهم البيت وفعلهم ما فعلوا، أو لم يصدقوا في ذلك، لكن هذه الكلمة تشير إلى الروحية وإلى ما كان القوم يهيئون له، وإنني أتصور لو أنهم فتحوا باب الحوار الإسلامي والكلمات الطيبة فإنّ علياً كان إنسان الحوار في كل حياته حتى عندما أصبح خليفة، وإنّ فاطمة  ع  هي إنسانة الحوار لأنّ القرآن هو كتاب الحوار الذي تعلّما منه، ولكن الجو كان لا يوحي بأيّ حوار«

وعليه، فقد عانت الزهراء  ع  من ذلك كلّه ولكنها لم تتحدث عن ذلك، وإنما تحدث علي  ع  عندما تحدث مع رسول الله  ص  بعدما دفن فاطمة وذلك بقوله   وستحدثك ابنتك عمّا نالها وما أصابها بعدكî ولقد لاحظنا أن ما كان يشغل فاطمة هو القضية الإسلامية العامة التي كانت تعتقد أنها القضية الحيوية التي تمثل خط الإسلام باعتبار أنّ عليّاً  ع  كان يمثل الإنسان الذي علّمه رسول الله  ص  ألف باب من العلم يفتح له من كلِّ باب ألف باب وأنه مع الحق والحق معه، وأنه منه بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعده، وأنه الإنسان الذي عاش حياته كلّها جهاداً في سبيل الله، وكانت ضربته تعدل عبادة الثقلين، وكان الإنسان الذي تربّى مع رسول الله  ص  في كل شيء، فكانت ترى فيه الإنسان المؤهل الذي يقود المسلمين إلى الخير وإلى الانتصار«

حوارها مع الأنصار والمهاجرين

ولقد عدّ العلماء في  الاجتماعî و معالي الأخبارî و شرح النهجî لابن أبي الحديد و أمالي الشيخî وفي  كشف الغمةî عن صاحب كتاب  السقيفةî أنها لما مرضت المرضة التي توفيت فيها، واشتدّت عليها، اجتمعت إليها نساء المهاجرين والأنصار ليعدنها فسلّمن عليها، وقلن لها  كيف أصبحت من علّتك يا بنت رسول الله؟ فحمدت الله وسلّمت على أبيها، ثم قالت  أصبحت والله عائفة لدنياكنّ قالية لرجالكنّ، لفظتهم بعد أن عجمتهم وشأنتهم بعد أن سبرتهم فقبحاً لفلول الحدّ واللعب بعد الجد وقرح الصفاة وصدع القناة وخطل الآراء وزلل الأهواء«

إلى أن قالت  وما الذي نقموا من أبي الحسن، نقموا منه والله نكير سيفة وقلة مبالاته بحتفه وشدة وطأته ونكال وقعته، وتنمّره في ذات الله عزّ وجلî إنها لا تتحدث عن زوجها ولكنها تتحدث عن إمامها الذي يختزن في ذاته كل هذه الصفات  وتالله لو مالوا عن الحجة اللائحة وزالوا عن قبول الحجة الواضحة لردّهم إليها وحملهم عليهاî«

قال سويد بن غفلة فأعادت النساء كلامها إلى رجالهن فجاء إليها قوم من المهاجرين والأنصار معتذرين وقالوا  يا سيدة النساء لو كان أبو الحسن ذكر لنا هذا الأمر من قبل أن يبرم العهد ويحكم العقد لما عدلنا عنه إلى غيره« فقالت  إليكم عني   فلقد بقيت على صلابة الموقف  فلا عذر بعد تعذيركم ولا أمر بعد تقصيركمî«

فعلى هذا الأساس كانت كل قضيتها هي هذه، حتى يقال في بعض الروايات إنها كانت تطوف على جموع المهاجرين والأنصار لتحدثهم عن حق علي  ع  ونستفيد من هذا بقطع النظر عن خصوصيات القضايا أنها كانت تعيش للقضايا الكبرى ولم تعش للقضايا الصغرى، أنها كانت تعيش الإسلام كلّه وكانت تعيش الحق كلّه حتى أنها كانت قوية صلبة في هذا المجال لم تحابِ ولم تداهن ولم تتراجع ولم تضعف في ذلك كله«

حوارها مع الخليفتين

وينقل  ابن قتيبةî في  الإمامة والسياسةî حواراً بينها وبين الخليفتين أبي بكر وعمر، قال عمر لأبي بكر إنطلق بنا إلى فاطمة فإنّا قد أغضبناها، فانطلقا جميعاً، فاستأذنا على فاطمة، فلم تأذن لهما فأتيا علياً فكلّماه فأدخلهما عليها فلما قعدا عندها حولت وجهها إلى الحائط، فسلّما عليها فلم تردّ عليهما السلام، فتكلّم أبو بكر، فقال   يا حبيبة رسول الله والله إنّ قرابة رسول الله أحبّ إليّ من قرابتي، وإنّك لأحبّ إليّ من عائشة ابنتي، ولوددت يوم مات أبوك أنّي مت ولا أبقى بعده، افتراني أعرفك وأعرف فضلك وشرفك وأمنعك حقّك وميراثك من رسول الله  ص  إلا أني سمعت أباك رسول الله يقول  لا نورّث ما تركناه فهو صدقةî«

فلم تعلّق على هذه الناحية لأنها عالجت المسألة في خطبتها، ولأن المفارقة التي تقف أمام هذه المسألة هي أنه لم يروِ هذا الحديث أحدٌ غير أبي بكر، وثانياً  أنّ رسول الله  ص  الذي كان يحبّ فاطمة أعظم الحبّ وكان يقيها من كل سوء، كيف لم يخبر فاطمة بهذا الحكم الشرعي إذا كان تخصيصاً للقرآن مع أنّ الكتاب الكريم صريح في مسألة الإرث، كيف لم يخبرها ولو على نحو الإشارة ليجنّبها أن تقف هذا الموقف الذي تعترض فيه على رواية تروى عن رسول الله؟

حتى أنّ علياً  ع  جاء وشهد بحق فاطمة لكن شهادته لم تقبل، فكأن الزهراء  ع  قد فرغت من المسألة ولم ترد أن تعالجها من جديد بعد أن عالجتها فيما سبق ولكنها أرادت أن تقيم الحجة فيما عرض لها من أذى ومن ظلامة في الأوضاع التي أحاطت بها، فقالت   أرأيتكما إن حدثتكما حديثاً عن رسول الله  ص  تعرفانه وتفعلان به، قالا  نعم، فقالت  نشدتكما الله ألم تسمعا رسول الله يقول  رضى فاطمة من رضاي وسخط فاطمة من سخطي فمن أحبّ ابنتي فاطمة أحبّني ومن أسخط فاطمة أسخطني، قالا  نعم سمعناه من رسول الله، قالت  فإني أشهد الله وملائكته أنكما أسخطتماني وما أرضيتماني ولئن لقيت النبي لأشكونكما إليه، فقال أبو بكر  وأنا عائذ بالله من سخطه وسخطك يا فاطمة، وهي تقول  والله لأدعون عليك في كل صلاة أصلّيهاî«

حزنها على النبي  ص

كانت تعيش الصلابة في كل مواقفها، وكانت تعيش الحزن الكبير على أبيها، وبكت من فراقه وهو حيّ عندما اعتنقته وهو في حالة الاحتضار، فبكت ثم اعتنقته ثانية فضحكت، فسئلت بعد ذلك ـ كما تقول الرواية ـ أنّه أخبرها أولاً بوفاته فبكت وأخبرها ثانياً بأنها أول أهل بيته لحوقاً به فضحكت، وانظروا إلى هذه الإنسانة الشّابة، الأم، الزوجة التي لم تأخذ الكثير من الحياة، كيف هو اندماجها بحبّ رسول الله أنها تفرح لأنها لن تفارق حياة رسول الله كثيراً بل ستلتقي به في أقرب وقت بعد وفاته«

وينقل الرواة في حزنها على رسول الله  ص  ما رواه  الكلينيî بسنده عن الصادق  ع  قال  عاشت فاطمة بعد رسول الله خمسة وسبعين يوماً لم تُر كاشرة ولا ضاحكة تأتي قبور الشهداء في كل أسبوع مرتين الإثنين والخميس، فتقول  ها هنا كان رسول الله وها هنا كان المشركون، وفي روايةعن الصادق  ع  أنها كانت تصلي هناك وتدعو حتى ماتت«

وهكذا ـ أيها الأحبة ـ عاشت الزهراء  ع  حياتها كلها وهي الإنسانة التي نعتقد أنها المعصومة في كل ما قالته وكلّ ما فعلته أولاً لأنها سيدة نساء العالمين ومن كانت بهذه المنزلة لا تخطىء في قول أو في فعل، وثانياً  أنها من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، وثالثاً  لأننا في دراستنا لحياة الزهراء  ع  منذ طفولتها حتى لاقت وجه ربّها لم ترَ أيّ باطل، فكانت المعصومة بإرادتها وبلطف ربها وإفاضته عليها الكثير من اللطف، والروحانية والرعاية وما إلى ذلك، عاشت الألم كلّه والجهاد كله والإسلام كله والقوة كلها في خط مواجهة القضايا الكبرى حتى أنها أوصت بأن تدفن ليلاً وأن لا يحضر جنازتها الذين واجهتهم في الموقف والذين اعتبرتهم لم يقفوا مع قضايا الحق«« ليكون دفنها في الليل الاحتجاج الأخير بعد وفاتها إمتداداً للاحتجاج قبل وفاتها، كما أرادت أن يسوّى قبرها من أجل أن يكون ذلك دليلاً على كل هذه المأساة التي كانت لله وفي سبيل الله ومع رسول الله وهكذا بقيت فاطمة  ع  سيدة النساء وقدوة للمؤمنين والمؤمنات في الموقف وفي مواجهة القضايا الكبرى لتقول للجميع إن هناك أكثر من قضية تنتظركم في سبيل الإسلام، وإن هناك أكثر من قضية تنتظركم في سبيل وحدة المسلمين، وإن هناك أكثر من قضية تنتظركم من أجل الدعوة للإسلام والعمل في سبيله ليكون الأقوى والأعزّ والأرفع من خلال كل ما تملكونه من فكر ومن روح وفي كل ما تتحركون به من خطوات«

كونوا للإسلام«« هذا هو نداء فاطمة  ع  كونوا للإسلام كما كنتُ للإسلام«« واعملوا من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الشيطان هي السفلى« وإذا كان الموقف يفرض أن تقفوا وتتوحدوا وتجمدوا الكثير من القضايا بالرغم من آلام التاريخ ومآسيه فليكن الإسلام هو الهدف الكبير والعنوان الكبير«

سلام الله عليها يوم ولدت ويوم توفيت ويوم تبعث حيّة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.