سماحة آية الله العظمى
السيّد محمّد حسين فضل الله (رضوان الله تعالى عليه)
رسول الله محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)
القائد القدوة
إصدار المركز الإسلامي الثقافي
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدِّمة
... إنّها أفكارٌ حيّةٌ كتبها سماحة السيّد (دام ظلّه) منذ ما ينوف عن الثلاثين من الأعوام.. أفكارٌ تستلهم خطوات رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في الدعوة والعمل والجهاد والحركة لإعلاء كلمة الله في الأرض.. كتبها سماحته لتكون العيونَ المفتوحة على الحاضر، والعقولَ المتطلّعة إلى المستقبل، والهِمَم الرساليّة التي لا تخشى في الله لومة لائم، الساعية دوماً للسير في الدروب الموصلة إلى الأهداف العظيمة والكبرى في الحياة، تنطلق من الإسلام، لترى في رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) القائد القدوة والمثال الأكبر في خطّ العمل والدعوة.
ونحن في المركز الإسلامي الثقافي وبمناسبة المولد النبويّ الشريف، نعيد نشر هذه الأفكار التي اقتطعناها من كتاب سماحته الذي يحمل عنوان (خطواتٌ على طريق الإسلام)، لتكون زاداً وفيراً لكلّ العاملين في سبيل الله.
والله الموفّق والمسدِّد
مدير المركز الإسلامي الثقافي
شفيق محمّد الموسوي
ربيع الأوّل 1429هــ
آذار/ 2008 م
الدعوة في مرحلتها السريّة
كانت حياة النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) رسالة كلّها، تتمثّل فيها معالم الرسالة ومفاهيمها، لتكون التجسيد الحيّ الذي يتحرّك، فيجد الناس الرسالة في صورة إنسان، ولهذا كانت حياته قدوة وشريعة فكانت أفعاله كأقواله دروساً إسلامية عملية.. وقد جاء في الحديث المأثور: "كان خُلُقُه القرآن" وبذلك كانت تجربته كإنسان لا تختلف عن تجربته كرسول، إذ لا ازدواجية بين الشخصيّتين في ذاته بل هي شخصيّة واحدة، تؤكّد على الخصائص الإنسانية في الرسالة من خلال حركة الإنسان في حياته، وتبلور جانب الرسالة الواقعي في حركة الإنسان الرسالي. وبهذا فإنّنا سنجد في القرآن كلّ عناصر تجربة محمّد الإنسان الرسول، الذي تمتزج فيه شخصيّتان، لأنّهما كانا ممتزجتين في خُلُق الإسلام كدين.. ولذا، لا بدّ للداعية من أن يلاحق التجربة في القرآن في كلّ أساليب النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ومواقفه وخطواته ليستفيد منها في تجربته المعاصرة.. وقد نجد في السيرة النبويّة الشريفة الّلمحات الخاطفة التي تستطيع أن تغنينا في حركة العمل الإسلامي.
ففي التجربة السابقة على الهجرة، نجد أنّ بداية الدعوة(1) ـــ فيما تُحدِّثنا السيرة ـــ تتمثّل في نقاط مهمّة. فقد أطلق النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الدعوة في مجتمعه بشكلٍ أقرب إلى السريّة منه(2) إلى العلنية فكان يتّصل بالأفراد واحداً واحداً، ويطلب منهم أن يتّصل كلّ واحد منهم بغيره في سريّة وخفاء، لأنّه كان يريد أن يُوجد قاعدة متماسكة ولو صغيرة، ينطلق منها العمل بقوّة حتّى لا يزول لدى أيّ ضغط مفاجئ.
وقد نستطيع أن نفهم من خطوات بعض هؤلاء الذين خاطبهم النبيّ بالدعوة، أنَّ إسلامهم قد بقي في إطار السريّة إلى نهاية حياتهم، حتّى يُخيَّل للكثيرين أنّهم لم يدخلوا الإسلام، وذلك مثل (أبي طالب) عمّ النبيّ(3)، الذي كَفِلَه وربّاه وآواه ونصره.. فقد كانت الرسالة بحاجة إلى شخصيّة قويّة تدعمها وتدعم النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، من دون أن تكون طرفاً في المعركة.. فكان هذا الرجل وتلك الشخصيّة الفذّة... ولولا ذلك لم نستطع أن نفسّر كلّ المصاعب التي لاقاها في سبيل حماية النبيّ ورسالته أو إقراره ولده "عليّاً" على دخوله في الإسلام معلِّقاً على ذلك بأنّه لم "يَدْعُك إلاَّ إلى خير".. أو كلماته التي تبدر منه في بعض الحالات بما يشفُّ عن تلك الروح المؤمنة الصافية(4)... أمّا التفسير الذي يضعه البعض، من إخضاع ذلك إلى الحميّة، وغيرها من الجوانب العائلية والعاطفية فلا نحسب أنّه يثبت للنقد، لأنَّ الإنسان الذي يختلف مع إنسانٍ آخر في العقيدة لاسيّما إذا كانت العقيدتان متباينتين متنافرتين، لا يمكن أن يقف موقف الحياد إلى آخر الشوط دون أن تبدر منه كلمة تأفّف أو تذمّر أو غير ذلك من كلمات الرفض والاحتجاج، كما وجدنا ذلك في عمّه الثاني (أبي لهب)، فلذلك نستطيع أن نفهم التعاطف بين بني هاشم وبين الدعوة الإسلاميّة، لأنّ التاريخ لم يذكر لنا أيّ موقف عنف لهم في هذا المجال. ولسنا بصدد البحث عن هذا الجانب من حياة أبي طالب، ولكنّنا نريد الإشارة إلى هذا الجانب من حياة الدعوة.. حسب اجتهادنا.. وكلّ ما نريد قوله: هو أنّ على الباحث أن يضع في حسابه المرحلة السريّة للدعوة في البداية، وحاجة الرسالة إلى الشخصية القويّة اجتماعيّاً لتدعم وتفاوض من مركز قوّة، لتكون سبيلاً إلى إعطاء الدعوة حريّة في الحركة بأقلّ قدرٍ ممكن من الضغط.. ممّا جعل بقاءها على حالة السريّة ضرورة رسالية.. حتّى بعد خروج الدعوة إلى العلن.. فإذا وضع الباحث ذلك كلّه في حسابه ودرس حياة هذا الرجل كلّها بدقّة وموضوعيّة استطاع أن يفهم كيف يكون إسلام هذا الرجل(5) حقيقة تاريخيّة لا مجال للشكّ فيها أبداً بالرغم من بعض النصوص التي توحي بكثير من الشكّ والافتعال.
تركيز القاعدة
إنَّ الدعوة قد مرَّت في المرحلة الأولى، بالدور المسالِم الذي لا يثير في وجه الآخرين أيّ نوعٍ من أنواع التحدّي والمجابهة والعداء.. فقد كانت الدعوة للإيمان بالله الواحد وللشهادة برسالة محمّد، من دون أن تعلن الحملة على عبادة الأصنام وعبادة القوم لها.. ولم يكن هذا الأمر مثيراً لأيِّ نوعٍ من أنواع الحساسيّة ضدّ الرسالة.. لأنَّ القوم لم يكونوا ملحدين حتّى يتنكَّروا لدعوة التوحيد، ولم يكونوا مشركين بالله بالمعنى الفلسفي للإشراك الذي يتمثّل في الإيمان بقوّتين خالقتين ـــ فيما يبدو ـــ بل كانوا مشركين بالمعنى العبادي للكلمة في تقديسهم للأصنام وعبادتهم لها لأنّها تحمل من المعاني القدسيّة ما يجعل لها قرباً إلى الله ودالّة عليه فتكون بمثابة القوى الشافعة، التي تقرّبهم إلى الله زلفى كما تعبّر الآية الكريمة: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر : 3].
أمّا الدعوة إلى الإيمان بالرسالة فلم تكن مشكلة بالنسبة إليهم.. وربّما كانت باعثة على التندّر والتفكُّه واللامبالاة لديهم.. كما يوحي إلينا بذلك النصّ التاريخي الذي جاء في السيرة النبويّة الشريفة ـــ كما ورد في طبقات ابن سعد ـــ قال: "أمر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن يصدع بما جاء من عند الله، وأن ينادي الناس بأمره وأن يدعوهم إلى الله، فكان يدعو من أوّل ما نزلت عليه النبوّة ثلاث سنين مستخفياً إلى أن أمر بظهور الدعاء".. وقال في رواية أخرى: "دعا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى الإسلام سرّاً وجهراً فاستجاب لله مَن شاء من أحداث الرجال وضعفاء الناس حتّى كثر مَن آمَنَ به، وكفّار قريش غير منكرين لما يقول، فكان إذا مرَّ عليهم في مجالسهم يشيرون إليه أنَّ غلام عبد المطلّب ليُكلَّم من السماء فكان ذلك حتّى عاب الله آلهتهم التي يعبدونها من دونه، وذكر هلاك آبائهم الذين ماتوا على الكفر فشنفوا(6) لرسول الله عند ذلك وعادوه"(7).
وقد يكون السبب في ذلك: هو أن يعطيَ الرسالة مجالاً للانطلاق من ضغوط مباشرة ليكون لها حريّة الحركة في بداياتها الأولى، من أجل تركيز القاعدة الرئيسية في ظروف طبيعيّة.. وهكذا كان كما صرَّح به النصّ السابق.. في دخول الكثيرين من أحداث الرجال(8) وضعفاء الناس(9) الذين لا يجدون أيّ مانع لديهم في الدخول في الإسلام من ناحية ذاتية، بل كلّ ما هناك، أنّهم يخشون من الاضطهاد ويخافون من العذاب، فإذا لم يكن الجوّ خانقاً أو ضاغطاً من هذه الجهة، كانت قضيّة دخولهم في الإسلام، طبيعيّة جداً، لأنَّ الأحداث يلتقون فيه بالفطرة، ولأنَّ الضعفاء يجدون في عقيدته ومفاهيمه وتعاليمه الشعور بالكرامة والاحترام لإنسانيّتهم والحلّ المستقبلي لمشكلتهم..
الهجرة إلى الحبشة كخيار لحفظ الدّين
فقد بدأ الاضطهاد القرشي الكافر للمسلمين بشكلٍ عنيف وغير محتمل بحيث وقف المسلمون بين خيارين، الخضوع للضغط الكافر في خروجهم عن دينهم، أو الهجرة إلى أيِّ بلدٍ آخر.. يأمنون فيه على دينهم.. وكان الخيار الثاني هو الموقف الطبيعي لقوّة الإيمان وثباته وعمقه، إذ لا يمكن لهؤلاء الذين ذاقوا حلاوة الإيمان وعرفوا الطريق الحقّ، وانفتحوا على النور المتدفّق من قلب الرسالة على الحياة، أن يتراجعوا عن ذلك، أو ينحرفوا عنه، أو يستسلموا إلى أيِّ اضطهاد أو إغراء.. ولكنّهم كانوا يريدون أن يعيشوا إسلامهم في أنفسهم، وفي حياتهم، وفي حياة الآخرين ممّا لا يتوفّر لهم لو قُدِّرَ لهم البقاء في مكّة، التي قد تقتحم على الإنسان حياته من دون شعور.. وكانت المبادرة من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) تأكيداً على واقعيّة الرسالة في وعيها لموضوع الصبر والصمود.. فقد يصبح شيئاً مثالياً أو خيالياً لو كانت الدعوة إليه في مجال لم تجتمع فيه مقوّماته أو شروطه، بل كانت في مصلحة الموقف المضادّ، وهو الانهيار والاستسلام، وبذلك يكون تكليفاً بغير المقدور، وهو قبيح بحكم العقل والعقلاء كما يقول علماء الكلام، فلا يمكن أن يصدر من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الذي ينطق عن الله، فيما يأمر به أو ينهى عنه إلاَّ ما فيه المصلحة، والله يقول:
{لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286].
{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78].
ولهذا كان الموقف الطبيعي أن يصمدوا في رسالتهم ويصبروا على دينهم في أرضٍ أخرى يمكن لهم أن يتنفَّسوا فيها هواء الحريّة.. فينمُّوا إيمانهم، كطريق للوصول إلى إيمان الآخرين.. ولهذا قال لهم رسول الله ـــ فيما ترويه السيرة ـــ "تفرَّقوا في الأرض، فقالوا: أين نذهب يا رسول الله.. قال: ههنا ـــ وأشار إلى الحبشة ـــ وكانت أحبّ الأرض إليه أن يهاجر قِبَلها ـــ فهاجر ناسٌ ذوو عدد من المسلمين، منهم مَن هاجر بأهله ومنهم من هاجر بنفسه، حتّى قدموا أرض الحبشة... وخرجت قريش في آثارهم حتّى جاؤوا البحث حيث ركبوا فلم يدركوا منهم واحداً، وقالوا: وقدمنا أرض الحبشة فجاورنا بها خير جار(10) أمَّنا على ديننا وعبدنا الله لا نؤذى ولا نسمع شيئاً نكرهه"(11).
منهج الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في بداية الدعوة
كانت طريقة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في الدعوة منذ إعلانه الرسالة في تحرّكه العلني، في مكّة أنّه "يوافي المواسم كلّ عام يتبع الحاج في منازلهم في المواسم بــ (عكاظ ـــ ومجنة ـــ وذي المجاز)(*) يدعوهم إلى أن يمنعوه حتّى يبلّغ رسالات ربّه ولهم الجنّة، فلا يجد أحداً ينصره ولا يجيبه، حتّى أنّه ليسأل عن القبائل ومنازلها قبيلة قبيلة ويقول: "يا أيُّها النّاس قولوا لا إله إلاَّ الله تُفْلِحوا وتملكوا بها العرب وتذلّ لكم العجم وإذا آمنتم كنتم ملوكاً في الجنّة" و(أبو لهب) وراءه يقول: لا تطيعوه فإنّه صابيء كاذب، فيردّون على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أقبح الردّ ويؤذونه ويقولون: أُسرتك وعشيرتك أعلم بك حيث لم يتّبعوك، ويكلّمونه ويجادلونه ويكلّمهم ويدعوهم إلى الله ويقول: "الّلهُمَّ لو شِئتَ لم يَكونوا هكذا..".
إنّنا نستوحي من هذه الطريقة عدّة جوانب:
الأوّل: إيصال الدعوة إلى كلّ مكان وجماعة بشكلٍ شخصي ومباشر، لأنّ الأسلوب الذي يتّبع الدعوة العامّة لا يحقّق الهدف المطلوب، وهو الدخول في المبدأ والتفاصيل معاً، وإثارة أجواء الحوار من خلال إثارة علامات الاستفهام التي تبحث عن وضع النقاط على الحروف ممّا يعطي وضوحاً في الرؤية واستعداداً طبيعيّاً ـــ ولو بعد حين ـــ لتفاعل القضايا المطروحة في نفوس الناس، عندما ترتفع الحواجز عن السّاحة، ويزول الضغط عن النفوس والعقول، ولهذا كانت زيارة الحُجّاج في منازلهم، ومحاولة التعرّف عليها مسبقاً بشكلٍ يقرب من الإلحاح سبيلاً طبيعياً لتحقيق ذلك.
الثاني: محاولة التعرّف على قبائل العرب ورؤسائهم عن كثب ليأخذه فكرة واضحة عنهم وعن عقليّاتهم وأوضاعهم، هذا من جهة(1). ومن جهةٍ ثانية: محاولة تعريفهم بنفسه ليأخذوا عنه الصورة الصحيحة، من خلال دعوته وطريقه تفكيره، وطبيعة القضايا التي يثيرها ويدعو إلى الإيمان بها، وأسلوب حديثه وكلامه، وسعة قلبه وفكره(2).. ليكون ذلك خطّة عملية لتحطيم الدعايات التي أثارتها قريش ضدّه من نسبة الجنون والسحر والشعر إليه(3).. من دون أن يخشى على خطّته تلك من موقف عمّه أبي لهب وغيره ونسبته إلى الكذب، لأنّه لم يكن ـــ فيما يبدو ـــ يفكّر بالّلحظات الآنية بل كان يفكّر بالمستقبل عندما يرجع هؤلاء إلى بلادهم ويبتعدون عن أجواء مكّة المحمومة بالعداوة له، فيجلسون في نواديهم ويتحدّثون عمّا رأوه وعمّا شاهدوه في رحلتهم ليتناقشوا في ذلك كلّه، أو ليفكِّروا فيه بينهم وبين أنفسهم.. حيث يسترجعون ملامح الصورة تدريجيّاً فتتّضح لهم حقيقتها بشكلٍ كامل واضح.
الثالث: إنّه كان يفتّش ـــ من خلال ذلك ـــ عن قاعدة إقليميّة وبشرية للإسلام، لأنَّ مكّة لم تكن صالحة للانطلاق منها إلى العالم، نظراً إلى القوّة المضادّة، فقد كانت قاعدة للشرك والطغيان، وليس من المستطاع ـــ من وجهة عملية ـــ تفجيرها وتحطيمها من الداخل، بل يجب البحث عن مكانٍ آخر يحشد فيه القوّة، التي يقام بها هذه القوّة الطاغية.. لهذا كانت محاولاته الدائبة المجهدة تتحرّك في هذا الاتجاه دون تعب أو كلل حتّى نجحت هذه المحاولات عند لقائه بأهل يثرب(5) في نهاية المطاف (كما سنرى فيما يأتينا من حديث). وقد نستطيع القول بأنَّ بقاء النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في مكّة مدّة ثلاث عشرة سنة لم يكن أمراً يجري مجرى الصدفة، بل ربّما كانت خطّة محكمة لاستغلال مركز مكّة الديني والثقافي والتجاري الذي كان يجمع إليه الناس من كلّ مكان في سبيل إيصال صوت الدعوة إلى كلّ مكان في الجزيرة العربية وغيرها، ممّا لا يمكن الحصول عليه في أيِّ بلدٍ آخر، فيوفّر على الرسالة جهوداً كبيرة، ومصاعب كثيرة، تستدعي كثيراً من الأسفار والرسل والأموال.. ثمّ في العمل على الوصول إلى هدف إيجاد القاعدة القويّة للمجتمع الإسلامي الجديد، من أجل تحقيق الانطلاقة الإسلامية نحو العالم. حتّى إذا استكملت الخطّة مراحلها ووصلت إلى هدفها.. كانت الهجرة من مكّة إلى يثرب.
الخروج إلى الطائف والموقف الرسوليّ الصلب
جاء في طبقات ابن سعد ـــ قال: "لمّا توفّي أبو طالب تناولت قريش من الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) واجترأوا عليه فخرج إلى الطائف ومعه زيد بن حارثة وذلك في ليال بقين من شوّال سنة عشر من حين نُبِّئ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فأقام بالطائف عشرة أيام لا يدع أحداً من أشرافهم إلاّ جاءه وكلَّمه، فلم يجيبوه وخافوا على أحداثهم فقالوا: يا محمّد أخرج من بلدنا والْحَقْ بمجابك من الأرض. وأغروا به سفهاءهم فجعلوا يرمونه بالحجارة حتّى أنَّ رِجَلَيْ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لتدميان، وزيد ابن حارثة يقيه بنفسه فانصرف رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من الطائف راجعاً إلى مكّة وهو محزون لم يستجب له رجل واحد ولا امرأة، فقال له زيد بن حارثة: كيف تدخل عليهم ـــ يعني قريشاً ـــ وهم أخرجوك.. فقال: يا زيد إنَّ الله جاعلٌ لِمَا ترى فَرَجاً ومخرجاً، وإنَّ الله ناصر دينه ومظهر نبيّه"(4)، ويروي ابن هشام في سيرته، إنّه اطمأنَّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى حائط لعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة وقال: "الّلهمَّ إليكَ أشكو ضعف قوَّتي وقِلَّةَ حيلتي وهَوَاني على الناس يا أرحم الراحمين أنتَ ربُّ المستضعفين وأنتَ ربّي إلى مَنْ تَكِلُني، إلى بعيدٍ يتجهّمني أم إلى عدوٍّ ملَّكته أمري، إن لم يكن بكَ عليَّ غضبٌ فلا أُبالي، ولكنّ عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظّلمات، وصَلُحَ عليه أمر الدُّنيا والآخرة من أن تُنْزِلَ بي غضبك أو يحلّ عليَّ سخطك، لكَ العُتْبَى حتّى ترضى ولا حول ولا قوّةَ إلاّ بك"(6).
ونقف مع هذه القضية وقفة التقديس لهذا الموقف الرسوليّ الذي يبقى مع الرسالة في تجربة المواقف، وفي إقامة الحُجّة، فلا مجال لهدوء، ولا مكان للراحة ولحبِّ السلامة.. فإنَّ هاجس الدعوة في قلبه وفي دمه، لا يتركه لحظة في نومه وفي يقظته.. إنَّه يدعوه للبحث عن منطلق جديد وموقع جديد، يتحرّك فيه من مركز القوّة.. وليست القضية أن يستكمل عناصر النجاح منذ البداية سلفاً، بل يكفيه أن يلاحق احتمالات النجاح، حتّى إذا تمّ له ذاك، كان هو الذي أراده، وإذا لم يتمّ له ما يريد، فحسْبُه أنّه أدّى الرسالة، وأقام الحُجّة.. وتلك هي قضية الرسالة.. وقضية الرسل.. فهم يلاحقون التجربة لتُنتج موقفاً، أو لتفتح قلباً، أو لتُسمع أُذناً.. لأنَّ مهمّتهم أن يشقّوا الطريق للحقّ، ويصنعوا أجواء الرسالة، ويفتحوا العقول على مبادئ الدعوة ومفاهيمها.. لتبدأ رحلة التفكير، لها أو عليها كمرحلة من مراحل الإيمان الذي ينتظر المستقبل من خلال مواقف الحاضر.. وهذا هو ما أكّده القرآن في تأكيده على أنَّ مهمّة الأنبياء هي الإبلاغ والبلاغ.. لأنّهم لا يملكون السبيل إلى قلوب الناس إلاَّ بذلك. وهكذا اندفع النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى الطائف وهو يحسب حساب الفشل على مستوى تحقيق الإيمان، لأنّه قد عرف طبيعة مواقفهم في محاولاته في مكّة، ولكنّه أراد أن يثير الفكرة في داخل مجتمعهم ليثير أحداثهم وشبابهم الذين يتطلّعون إلى المستقبل بعقليّة منفتحة واعية تتطلَّع إلى المستقبل من خلال الشعور بالحاجة إلى التجديد في الفكر والموقف والأسلوب، خلافاً للأجيال القديمة المحافظة التي لا تريد أن تترك ما يعبد آباؤها، أو تغيّر ما تألفه من تقاليدها، وكانت تحسّ بخطر الدعوة الجديدة على الأحداث.. ولهذا كان الحلّ الوحيد عندهم أن يُخرجوه من بلدهم حيث لم يكن لهم سبيل إلى منع شبابهم عنه، ولم يكن لهم قدرة على مناقشته في دعوته.. وقد حصل للنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ما أراده، فقد أحدث لديهم جوّاً من التوتّر والتساؤل والعنف، بما استعملوه ضدّه من أساليب القهر والتنكيل والإهانة، وقد استوفى ما أراده من دعوتهم إلى الإسلام وإبلاغهم حاجته إلى النصرة والمعونة في رسالته، ممّا يجعلهم يفكّرون به أيّاماً طويلة سيظهر أثرها العملي فيما بعد.. عندما ترتفع الحواجز، وتزول الضغوط، وتنطلق قوّة الإسلام لتحقّق للإنسان حريّته في الإيمان بالله دون خوف من القوى المضادّة له.
أمّا ما عاناه من عذاب وتنكيل وسباب، فهو قَدَرُ الرسالات والرُّسل في كلِّ زمانٍ ومكان.. وهو نقطة البداية في ولادة الفجر الجديد من بين الآلام والدموع.
ويبقى الأمل، كمثل أحلام الصباح في ظلمة الّليل الطويل.. لأنَّ الله وعد الرسل بالنصر(5).
ومَنْ أصْدقُ من الله وعداً؟ ومَنْ أعظمُ مِنَ الله قدرة على تنفيذ ما يريد {إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} [الطلاق : 3]. وذلك هو ما أراد النبيّ أن يقوّيَ به موقف زيد بن حارثة لمَّا خاف عليه من دخول مكّة بعد إخراج قريش له منها.. فإنَّ زيداً كان ينظر بمنظار اللحظة الحاضرة.
أمّا النبيّ فهو كالأنبياء في كلّ زمان ومكان ينظرون بعين الإيمان بالله، إلى المستقبل الذي يصنعه الله للحياة بقدرته ورحمته وهدايته، كما صنع الماضي والحاضر.
ومهما كان الأنبياء أقوياء في أنفسهم.. فإنّهم يستمدّون قوّتهم من الله خالق القوّة وصانعها. ولذا فهم ينتظرون لحظات الضعف البشري الذي يهزّ المشاعر، ويستثير القلق، ولو بمثل اللمحة الخاطفة ليقفوا بين يديّ الله في خشوع وإيمان ومحبّة، في دعاء حارّ يرجو ويتوسّل ويستغيث، في تقرير رساليّ روحيّ خالص يجمع مشاعر القلب والعقل معاً.. وتلك هي قيمة لحظات الضعف لدى المؤمنين بالله، أنّها تجدّد لهم الإحساس بالحاجة إلى الله في عمق الشعور المتوتّر، بعد أن كان الإحساس بالحاجة إليه مرتبطاً بالجانب العقلي والإيماني العام في حياة الإنسان من خلال عقيدته وتفكيره.
وهكذا وقف النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ليناجي الله بعد تلك التجربة القاسية التي خاضها مع الكافرين وتحمّل فيها ما تحمّل من العذاب الشديد من هؤلاء، بعد أن أخرجه قومه، ولم يبقَ له قاعدة للقوّة يستند إليها إلاّ قوّة الله العظيمة التي يلجأ إليها الضعفاء ليعطيهم قوّة جديدة وروحاً جديدة، فيواصلوا ـــ من خلالها ـــ رسالتهم ودعوتهم في سبيله.. ولعلّها من أروع الأدعية التي تعبّر عن الحبّ كلّه، والإخلاص كلّه.. التي تطلب من الله ما تريد، وترجو منه ما تحبّ.. ثمّ تترك الأمر إليه ليفعل ما يشاء، ويقضي ما يريد، لأنّه مالك الأمور كلّها، لأنّ الهدف كلّه هو رضاه، فهو الهدف في حالة الشدّة، وهو الهدف في حالة الرخاء، وهو الهدف في الحالة التي يقف فيها بين حالات الشدّة وبين حالات الرخاء.. فهو حسبنا ونِعْمَ الوكيل.
وهناك موقف آخر لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حيث جاء في السيرة النبويّة:
قال ابن هشام في سيرته، أتى النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بني عامر بن صعصعة "فدعاهم إلى الله عزَّ وجلّ وعرض عليهم نفسه، فقال لهم رجل منهم ـــ يقال له بَيْحَرة بن فراس ـــ: والله، لو أنّي أخذت هذا الفتى من قريش لأكلتُ به العرَب، ثمّ قال له: أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك ثمّ أظهرك الله على مَنْ خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال: الأمر لله يضعه حيث يشاء قال: فقال له: أفتُهدف(7) نحورنا للعرب دونك فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا.. لا حاجة لنا بأمرك، فأبوا عليه.. فلمّا صدر الناس رجعت بنو عامر إلى شيخ لهم، قد كانت أدركته السنّ حتّى لا يقدر أن يوافيَ معهم المواسم، فلمّا قدموا عليه ذلك العام، سألهم عمّا كان في موسمهم، فقالوا: جاءنا فتى من قريش، ثمّ أحَدُ بني عبد المطّلب، يزعم أنّه نبيّ يدعونا إلى أن نمنعه ونقوم معه، ونخرج به إلى بلادنا. قال: فوضع الشيخ يديه على رأسه ثمّ قال: يا بني عامر هل لها من تلاف.. هل لذناباها من مطلب(7)، والذي نفس فلان بيده ما تقوّلها إسماعيلي قطّ(8)، وإنّها لحق، فأين رأيكم كان عنكم"(9).
ما الذي نستوحيه من هذه القصّة؟
أوّلاً: الروح الرساليّة القدسيّة التي لا تريد أن تجمع الناس إلى كلمة الإيمان من خلال الوعود المعسولة الكاذبة، تعطي بغير حساب، على حساب المستقبل الذي لن يحقّق لهم الوعد، لأنّه يمثّل القوّة التي لا تستطيع أن تنكث من دون ان تخشى العقاب، لأنَّ الآخرين يكونون قد أصبحوا في موقع الضعف، كما يفعل الكثيرون من أصحاب الدعوات السياسية مع كثير من الأتباع عندما يجعلون من الوعود التي تُغرق الناس بالأحلام طريقاً للوصول إلى مآربهم من تأييدهم في مواقفهم وحملاتهم السياسية.. ولكنّ الأنبياء جاؤوا بالصدق وآمنوا به، وانطلقوا برسالتهم من موقع الصدق مع ربّهم ومع أنفسهم ومع أُمَمِهم.. ومع الحاضر والمستقبل.. ولهذا فهم يواجهون الناس بالحقيقة كلّ الحقيقة دون مواربة، فلا يعطون أيّة كلمة للمستقبل ما لم يعرفوا، من أنفسهم ومن الله، أنَّهم يستطيعون تحقيقها والوفاء بها.. حتّى لو كانت هذه الكلمة تحقّق لهم الربح الكبير على مستوى الحاضر.. وذلك هو موقف النبيّ العظيم الذي جسَّد حقيقة الصدق كأروع ما يكون، مع أنّه بحاجة إلى تأييد هذه القبيلة الكبيرة في موقفه الضعيف بشرياً الذي كان ينتظر أيّة بادرة نُصرة من أيِّ فرد، فكيف بالقبيلة الكبيرة التي تبدي استعدادها للموت دونه إذا أعطاها وعد شرف ـــ مجرّد وعد شرف ـــ على أن يكون لها الأمر من بعده.. فما كان منه إزاء هذا العرض، إلاَّ أن صارحهم بالحقيقة الحاسمة، فهو ليس ملكاً يملك السلطة من خلال قوّة ذاتية، ليستطيع أن يجعلها لكلّ مَنْ يريد من بعده كما يفعل الملوك عندما يُصدرون تعليماتهم وإرادتهم الملكية بتعيين أولياء عهدهم، بل هو نبيّ يستمدّ سلطاته من الله، ولم يجعل له الله إلاّ النبوّة التي يتحمّل مسؤوليّتها لإبلاغ كلمة الله إلى الناس وهدايتهم إلى الحقّ ليُخرجهم من الظلمات إلى النور.. وتنفيذ ذلك ما استطاع إليه سبيلاً.. أمّا الخلافة من بعده، فهي لله يضعها حيث يشاء، وليس له مع أمر الله أمر..
... وهكذا ابتعد هؤلاء عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لأنّهم أرادوها عمليةً تجاريةً يتبادلون فيها المنافع وأرادها النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) رسالة ينطلق فيها الإنسان للتضحية، رغبة فيما عند الله، ورجاءً لثوابه ورضوانه.
ثانياً: إنَّ هذه القصّة تؤكّد ما أشرنا إليه من أنَّ الأشخاص الذين يقصدون مكّة، يرجعون إلى بلادهم وأهلهم، فيُسألون عمَّا رأوه وعمّا سمعوه فيحدّثونهم بذلك، ويخبرونهم عن موقفهم من هذا الموضوع أو ذاك، أو من هذا الشخص أو ذاك، فقد يوافقونهم على موقفهم، وقد لا يوافقونهم.. وفي كلا الحالين.. يصبح الموضوع الذي يدور حوله الحديث قضيّة مثيرةً للجدل ومجالاً للتفكير.. كما رأيناه في موقف هذا الشيخ الذي استطاع أن يعرف ملامح الحقيقة فيما نقله إليه قومه الذين اجتمعوا بالنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وطلبوا منه ولاية الخلافة من بعده.. فأنكر عليهم ذلك أشدَّ الإنكار حتّى إنّه أطلق كلمته فيما يشبه الاستغاثة والاستثارة لهم في تلافي ما حدث منهم، لأنَّ ذلك هو الحقُّ كلُّ الحقّ.. واعتبر موقفهم هذا من المواقف البعيدة عن الرأي الصائب الذي يكتشف الحقّ من خلال الفكر النيِّر، لا من خلال المطامع.
.. وقد كان هذا هو أحد الأهداف التي أرادها النبيّ من زيارته للقبائل في منازلهم ودعوتهم إلى الإسلام وعَرْضِ موقفه عليهم من خلال طلبه الإيمان به ونُصرته على قومه من موقع هذا الإيمان، وربّما كان لنا أن نقرِّر أنَّ وفود العرب التي قَدِمَت على النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في المدينة بعد انتصاره على قريش لتعلن له إسلامها وتبايعه على الوفاء والنُصرة، لم تندفع بوحي الانتصارات فقط، بل كان اندفاعها نتيجة تفاعل الدعوات السابقة، والّلقاءات الماضية التي حقَّقت لهم انطباعاً جيّداً عن الرسالة والرسول، وما لبث أن تحوَّل إلى إيمان بعد ارتفاع الموانع التي كانت تقف حائلاً بينهم وبين التنفيذ.
الثبات على المواقف
لقد حاولت قريش بكلّ أساليبها التهديديّة والإغرائية على أن تجعل النبيّ محمّداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يتنازل عن شيء من مواقفه، لاسيّما الموقف الذي كان يتناول سبّ الأصنام، وتسفيه عقولهم وتخطئة آبائهم في تقاليدهم وعاداتهم.. لأنّها ـــ فيما يبدو لنا ـــ كانت تخشى من ظهور أمر النبيّ وتعاظم دعوته، أن يقضي على امتيازاتهم القبلية التي كانت مصالحهم التجارية والمالية والسياسية تخضع لها وترتبط بها.. لأنَّ المجتمع القرشي ـــ في دراستنا لأوضاعه ـــ لم يكن مجتمعاً متديِّناً حتّى بالمعنى الوثنيّ للتديّن، فلم نجد في سلوكهم العملي ما يُوحي بالتصوّف الدينيّ للأصنام بل كان مجتمعاً تجارياً، تحكمه مصالحه المالية.. ولهذا بدأوا بإعلان الحرب على النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بعد هجرته إلى المدينة، عندما شعروا بأنّه يهدّد تلك المصالح، بسيطرته على الطريق التجاري الذي كانت تمرّ عليه قوافلهم من مكّة إلى الشام.. ممّا يؤكّد لنا هذه الفكرة.. ويواجهنا في هذا المجال موقفان:
الموقف الأول:
في حديثهم مع عمّه أبي طالب في شأنه وإنكارهم ما يقوم به رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من مواقف مضادّة لآلهتهم وتقاليدهم، ومحاولتهم الضغط عليه ليجبره على التراجع عن موقفه أو تقديم بعض التنازلات في ذلك.. ثمّ حوار أبي طالب مع النبيّ وجوابه له.. ووقوفه معه بقوّة مهما كان الثمن.
قال ابن هشام في سيرته: "لما بادى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قومه بالإسلام وصدع به كما أمره الله لم يُبعد منه قومه، ولم يردّوا عليه ـــ فيما بلغني ـــ حتّى ذكر آلهتهم وعابها فلمّا فعل ذلك أعظموه وناكروه وأجمعوا خِلافَه وعداوته إلاَّ مَنْ عصم الله منهم بالإسلام، وهم قليلٌ مُستخفُّون، وحدب على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عمُّه أبو طالب ومنعه (23)وقام دونه، ومضى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) على أمر الله مُظهراً لأمره لا يردّه شيء، فلمّا رأت قريش أنَّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لا يُعتبهم(24) من شيء أنكروه عليه، من فراقهم وعَيْبِ آلهتهم ورأوا أنَّ عمّه أبا طالب قد حَدِبَ عليه وقام دونه فلم يُسْلِمه لهم، مشى رجالٌ من أشراف قريش إلى أبي طالب، فقالوا يا أبا طالب، إنّ ابن أخيك قد سبَّ آلهتنا وعابَ ديننا وسفّه أحلامنا وضلَّل آباءنا فإمّا أنْ تُكِفَّه عنّا وإمَّا أن تخلِّي بيننا وبينه فإنَّك على مثل ما نحنُ عليه من خِلافه، فنكفيكه، فقال لهم أبو طالب قولاً رقيقاً وردّهم ردّاً جميلاً فانصرفوا عنه.
ومضى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) على ما هو عليه يُظهرُ دينَ الله ويدعو، ثمّ شرى(25) الأمرُ بينه وبينهم حتّى تباعد الرجال وتضاغنوا(26)، وأكثرت قريش ذِكْرَ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بينها فتذامروا فيه وحضَّ بعضُهم بعضاً عليه، ثمّ إنّهم مشوا إلى أبي طالب مرّة أخرى، فقالوا يا أبا طالب، إنَّ لك سِنّاً وشرفاً ومنزلة فينا، وإنّا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تَنْهَه عنّا، وإنَّا والله لا نصبر على هذا مِن شَتْم آبائنا وتسفيهِ أحلامنا وعيبِ آلهتنا حتّى تكفَّه، ثمّ انصرفوا عنه، فعظم على أبي طالب فراق قومه وعداوتهم ولم يَطِبْ نفساً بإسلام رسول الله لهم ولا خذلانه.
قال ابن هشام: قال ابن اسحاق: إنَّ قريشاً حين قالوا لأبي طالب هذه المقالة بعث إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقال له: يا بن أخي إنَّ قومك قد جاؤوني، فقالوا لي كذا وكذا، للذي كانوا قالوا له، فأبْقِ عليَّ وعلى نفسك، ولا تحمّلني من الأمر ما لا أُطيق، قال: فظنَّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنّه قد بدا لعمّه فيه بَدَءاً(27) وأنّه خاذلُه ومُسْلِمُه، وأنّه قد ضعُف عن نُصرته والقيام معه. قال: فقال له رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): "يا عمّ والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترُكَ هذا الأمر حتّى يظهره الله أو أهْلَكَ فيه ما تركتُه، قال: ثمّ استعبر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فبكى ثمّ قام، فلمّا ولّى ناداه أبو طالب فقال: أقبل يا بن أخي قال: فأقبل عليه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فقال: اذهب يا بن أخي، فقل ما أحببتَ، فوالله لا أُسْلِمُك لشيءٍ أبداً"...(28).
أمّا قيمة هذه القصّة، فتتمثّل في الموقف الحاسم الحازم الذي وقفه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من عَرْض التنازل عن دعوته أمام تهديد قريش له أو لعمّه، فيما نقله إليه أبو طالب.. فقد بدا لنا في موقف العظمة الرسوليّة التي تضع الرسالة في جانب، والشمس والقمر في جانب.. ثمّ لا يترك القضية تحتمل وقتاً طويلاً في عملية التوازن والاختيار، بل يعطي الموقف حقّه من الحسم الفوريّ ليقرّر فيما يُشبه الاستشهاد.. أنّه لن يترك الرسالة.. أو يموت.. فإمّا الرسالة وإمّا الموت.. فأين التهديد وأين الإغراء؟ فذلك (بقاء الرسالة أو الموت) هو شأن الرسل عندما تكون القضية قضية رسالتهم في كلّ مجال.
وإنّنا نتحفَّظ ـــ فيما ذكرته السيرة ـــ من أنّ النبيّ قد استعبر أمام عمّه ليفسّر تجاوب عمّه معه بالهزّة العاطفية التي حصلت لديه أمام هذا الموقف العاطفي الفريد.. لأنّنا لا نجد هناك أيّ انسجام بين هذا الموقف القويّ الذي لا يخلو من شدّة وحزم وتصميم، وبين الموقف الباكي الذي يسجّد الشعور بالضعف والوحدة.. بل نجد تنافراً بين هذا وذاك... ولسنا ننطلق في هذا التحفُّظ من الفكرة التي تنفي استسلام النبيّ لنوازع الضعف البشري فيما لا يرتبط بأمر العصمة، فإنَّنا لا نوافق على ذلك من ناحية المبدأ، لأنّ فكرة البشرية للنبيّ التي أكّدها القرآن تُقرُّ وجود مثل هذا الضعف لديه، ولكنّنا ننطلق فيها من طبيعة الموقف لأنّنا نشعر ـــ من خلال هذه الكلمة الخالدة ـــ بكبرياء النبوّة يتعاظم من خلال الشعور بالعزّة والكرامة التي تهزّ الأعماق في لحظة استشهاد، لتحضن الرسالة في قوّة وحزم دونها قوّة الأبطال الأسطوريّين. وربّما نستشعر أنّ موقف أبي طالب كان فعل إيمان وهزّة انفعال بروعة موقف الرسول أمام كرامة الرسالة، وهذا هو ما يؤكّد نظرتنا إلى شخصيّة أبي طالب كشخصية تلبس لبوس الحياد، لتدعم الموقف، موقف الرسالة من خلال مركزها الاجتماعي الكبير الذي لم يتأثّر بالمعركة الدائرة كطرف، ممّا جعل أسلوبه في مستوى الحكمة والمرونة الاجتماعية التي توحي بموقف ولا تصرّح به لِتَنْفُذَ من خلال الضباب إلى ما تريد.
الموقف الثاني
وهو موقف النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من عتبة بن ربيعة، وحواره معه.. قال ابن هشام: قال ابن اسحاق: "وحدّثني يزيد بن زياد عن محمّد بن كعب القرظي قال: حُدّثت أنَّ عتبة بن ربيعة، وكان سيّداً، قال يوماً، وهو جالس في المسجد وحده.. يا معشر قريش ألاَ أقوم إلى محمّد فأكلِّمه وأَعْرِضَ عليه أموراً لعلَّه يقبل بعضها، فنعطيه أيَّها يشاء ويكفّ عنّا، وذلك حينَ أسلم حمزة، ورأوا أصحابَ رسول الله يزيدون ويكثُرون، فقالوا: بلى يا أبا الوليد قم إليه فكلِّمه، فقام إليه عتبة حتّى جلس إلى رسول الله، فقال: يا بن أخي، إنّك منّا حيث قد علمتَ من السِّطة(29) في العشيرة، والمكان في النسب، وإنّك قد أتيتَ قومَك بأمرٍ عظيم، فرّقت به جماعتهم، وسفَّهت به أحلامهم، وعِبْتَ به آلهتهم ودينهم وكفَّرت به مَنْ مضى من آبائهم، فاسمع منّي أعرض عليك أموراً تنظر فيها لعلّك تقبل منّا بعضها. قال: فقال له رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): قل يا أبا الوليد أسْمَع. قال: يا بن أخي إن كنتَ إنَّما تريد بما جئتَ به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتّى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنتَ تريد شرفاً سوَّدناك علينا حتّى لا نقطع أمراً دونك، وإن كنتَ تريد به مُلكاً ملَّكناك علينا، وإنْ كان هذا الذي يأتيك رَئِيّا(30) تراه لا تستطيع ردَّه عن نفسك طلبنا لك الطبَّ وبذلنا فيه أموالنا حتّى نُبرئك منه، فإنَّه ربّما غلب التابع(31) على الرجل حتّى يُداوى منه، أو كما قال له. حتّى فرغ عتبة، ورسول الله يستمع منه، قال: فرغت يا أبا الوليد؟ قال: نعم، قال: فاسمع منّي، قال: افعل، فقال: {حَم*تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ*كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ*بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ*وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} [فصّلت: 1 ـــ 5].
ثمّ مضى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقرؤها عليه، فلمّا سمعها منه عتبة، أنصتَ لها وألقى يديه خلف ظهره معتمداً عليهما يسمع منه، ثمّ انتهى رسول الله إلى السجدة منها فسجد، ثمّ قال: قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت، فأنت وذاك، فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به. فلمّا جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: ورائي أنّي قد سمعتُ قولاً، والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر، ولا بالسحر، ولا بالكهانة، يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها بي، خلُّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزِلُوه، فوالله ليكوننّ لقوله الذي سمعتُ منه، نبأٌ عظيمٌ، فإنْ تُصِبْه العرب فقد كُفيتموه بغيركم، وإنْ يَظْهَرْ على العرب فمُلْكُه مُلْكُكم وعزُّهُ عِزُّكم، وكنتم أسعدَ الناس به. قالوا: سَحَرَك والله يا أبا الوليد بلسانه! قال: هذا رأيي فيه فاصنعوا ما بدا لكم"(23).
وقد نجد في هذا الموقف بعض الإيحاءات الواقعيّة بالأسلوب العملي للدعوة الإسلامية.. ففي بداية الأمر نلاحظ وجود أصوات عاقلة هادئة في حياة الرسالات تدعو إلى الوقوف أمام الرسالة موقفاً موضوعيّاً، يفكّر فيما تدعو إليه بهدوء، يواجه صاحبها بمحبّة، ويطلب من خصومها أن يفتّشوا عن الحلّ بإلحاح، ولو بالتركيز على التجميد العملي للصراع.
ونلاحظ إلى ـــ جانب ذلك ـــ ارتفاع الأصوات الصاخبة التي تشير إلى هذه الأصوات بإنكار، وإلى أصحابها باتّهامهم بأساليب الإرهاب الفكري التي تكيل الاتهامات بلا حساب، لتمنع الأصوات الطيّبة أن تنفذ إلى عقول الطيّبين الذين يفتّشون عن الأجواء الهادئة التي تتيح لهم التفكير بهدوء وتحصيل القناعة الفكريّة والروحيّة بحريّة ومعرفة. هذا من جهة.. ومن جهةٍ ثانية: تؤكّد قيمة الأسلوب النبويّ الذي واجه به النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هذا الرجل، فقد استمع إليه بهدوء حتّى ظنَّ أنّه سيناقش معه العروض التي عرضها عليه ليصل إلى النتيجة المطلوبة في حلّ المشكلة بينه وبين قريش.. ولكنّ النبيّ طلب من الرجل أن يستمع إليه، كما استمع هو إليه، وفاجأه بالآيات الكريمة التي قرأها عليه لينقله من جوّ العروض المادية إلى جوٍّ روحيّ بعيد كلِّ البعد عن ذلك، ينطلق فيه الإنسان إلى آفاق الله الفسيحة مروراً بقضايا الحياة في صراع الحقّ والباطل والخير والشرّ، وأصناف الناس بين مَن يفتح قلبه للإيمان وبين من يُغلِق قلبه عنه.. وتَرقّ المشاعر وتهدأ الانفعالات، وتصفو النفس، وتنساب الآيات في هدوء الوحي ووداعته، كمثل الصباح الوديع في طُهره وصفائه.. ويدخل الوليد في هذا الجوّ الروحي الّلذيذ الطاهر الذي لم يكن له عهدٌ به.. وينتهي الجوّ بالوصول إلى القمّة الروحيّة التي ترتفع إليها المشاعر، فتعبّر عن نفسها بالسجود لله.. لأنَّ ذلك يمثّل منتهى العظمة والسموّ الروحيّين في رحلة الإنسان إلى الله.. ويترك النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الرجل ليقول له، بعد أن سمع ما سمع وعاش ما عاش.. أنت وذاك، فهذا ما أريده منك ومن غيرك.. إنَّه الانفتاح على أجواء الإيمان بالله.. بأرواحكم وقلوبكم.. ثمّ بالإيمان المنفتح المبصر الواعي، لا الإيمان الأعمى، من دون التقاء بينابيعه، وانطلاق مع آفاقه وانسجام مع آياته الكبيرة في الحياة..
.. وفارق عتبة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم).. وانطلق إلى قومه ليفتح عيون قومه على المستقبل الذي ينتظرهم بالتحدّي العظيم الصارخ، فقد عرف هذا الرجل ملامح هذا المستقبل وخطواته، من خلال الجوّ الذي تثيره هذه الآيات في عمق التأثير وقوّته وصفائه، فقد عاش هذه الانفعالات الروحيّة في نفسه، وعرف كيف يمكن أن يعيشها الآخرون، وكيف يمكن لها أن تثير الناس الذين يلتقون بها في أجواء حياديّة متطلّعة إلى كلِّ جديد.. وطلب من قومه أن يوفّروا على أنفسهم جهد هذا الصراع وقساوته، وخطورة المستقبل المظلم عليهم وتحدّياته، فيجمّدوا إعلان الحرب عليه.. لأنّه سيتركهم ما تركوه، فهو صاحب الرسالة الذي يعمل على أن تصل إلى كلِّ قلب، وتدخل في كلِّ فكر، وتقتحم كلَّ باب.. فليس من هدفه أن يقاتل، بل كلُّ هدفه أن يهديَ ويبلّغ ويقيمَ الحُجّة البالغة على الناس، انطلاقاً من مسؤوليّته الرسالية أمام الله.. ولم يقبل منه قومُه ذلك لأنّهم كانوا لا يتطلّعون إلى المستقبل القويّ في موقع الرسالة، بل كانوا ينظرون إلى الحاضر من خلال عنجيّاتهم وكبريائهم في بلاهة وصَلَف، فيحسبون أنّ الحاضر والمستقبل بيدهم، فهم الذين يقرّرون مصير الرسالة والرسول، فكيف يمكن لهم أن يسالموه أو يهادونه، بعد أن كان في قبضة أيديهم، وهكذا كان.. وأُسدل الستار على الموقف.
نتائج الإلحاح على التجربة
فقد نجحت محاولات النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في جولته على جماعات الحجاج في نهاية المطاف، فكان اللقاء الأوّل بجماعة صغيرة من يثرب التقاهم بمنى، وعددهم ثمانية نفر، فعرض عليهم الإسلام فأسلموا، وقال لهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): "تمنعون لي ظهري حتّى أبلَّغ رسالة ربّي.. فقالوا: يا رسول الله نحن مجتهدون لله ورسوله، نحن، فاعلمْ، أعداءٌ متباغضون، وإنّما كانت وقعةُ بُعاث عام الأول، يومٌ من أيّامنا، اقتتلنا فيه، فإن نَقْدَم ونحن كذا لا يكون لنا عليك اجتماع، فدعنا حتّى نرجع إلى عشائرنا لعلّ الله يُصْلح ذاتَ بيننا، وموعدك الموسم العامَ المقبِل، ثم قَدِموا إلى المدينة فدعوا قومهم إلى الإسلام فاسلم مَنْ أسلم، ولم يبقَ دارٌ من دُور الأنصار إلاّ فيها ذكرٌ من رسول الله.. فلمّا كان العام المقبل، لقيه اثنا عشر رجلاً بعد ذلك بعام، فأسلموا وبايعوا على بيعة النساء، على أن لا نُشرك بالله شيئاً ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل أولادنا ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا ولا نعصيَه في معروف، قال: فإن وفّيتم فلكم الجنّةُ، ومَنْ غَشِيَ من ذلك شيئاً كان أمرُه إلى الله، إن شاء عذَّبه وإن شاء عفا عنه. ولم يفَض يومئذٍ القتال، ثمّ انصرفوا إلى المدينة، فأظهر الله الإسلام. وكتبت الأوس والخزرج إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إبعث إلينا مُقرِئاً يُقرئنا القرآن، فبعث إليهم مصعب بن عمير العَبْدَري.. فلمّا حضر الحجّ مشى أصحاب رسول الله الذين أسلموا بعضهم إلى بعض يتواعدون المسير إلى الحجّ، وموافاة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، والإسلام يومئذٍ فَاشٍ في المدينة.. فخرجوا وهم سبعون يزيدون رجلاً أو رجلين في خَمرَ الأوس والخزرج وهم خمسمائة. حتّى قَدِموا على رسول الله مكّة، فسلّموا على رسول الله ثمّ واعدهم، مِنىً وسط أيام التشريق ليلة النفر الأول إذا هدأت الرِّجْل أن يوافوه في الشّعب الأيمن إذا انحدروا من مِنىً بأسفل العقبة حيث المسجد اليوم، وأمرهم أن لا ينبّهوا نائماً ولا ينتظروا غائباً. فخرج القوم بعد هدأةٍ يتسلَّلون الرجل والرجلان وقد سبقهم رسول الله إلى ذلك الموضع، ومعه العبّاس بن عبد المطّلب، ليس معه أحد غيره. ثمّ توافى السبعون ومعهم امرأتان، فكان أوّل من تكلَّم العباس بن عبد المطّلب فقال: يا معشر الخزرج إنّكم قد دعوتم محمّداً إلى ما دعوتموه إليه، ومحمّد أعزُّ الناس في عشيرته، يمنعه للحسب والشرف، وقد أبى محمّد الناسَ كلّهم غيركم، فإنْ كنتم أهل قوّة وجَلَدٍ وبَصَرٍ بالحرب واستقلال بعداوة العرب قاطبة ترميكم عن قوس واحدة فارتأوا رأيكم وأتمروا بينكم ولا تفترقوا إلاّ على ملأٍ واجتماع، فإنَّ أحسن الحديث أصدقُه، فقال البراء بن معرور: قد سمعنا ما قلت، وإنَّا والله لو كان في أنفسنا غير ما تنطق به لقلناه، ولكنَّا نريد الوفاء والصدق وبَذْلَ مُهَج أنفسنا دون رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال: وتلا عليهم رسول الله القرآن، ثمّ دعاهم إلى الله ورغّبهم في الإسلام وذكر الذي اجتمعوا له، فأجابه البراء بن معرور بالإيمان والتصديق ثمّ قال: يا رسول الله بايعنا فنحن أهل الحلقة ورثناها كابراً عن كابر، وقالوا: نقبله على مصيبة الأموال وقتل الأشراف ولغطوا، فقال العبّاس بن عبد المطّلب: أخفوا جَرْسَكُم فإنَّ علينا عيونا، وقدّموا ذوي أسنانكم، فيكونون هم الذين يلونا كلامنا منكم، فإنَّا نخاف قومكم عليكم، ثمّ إذا بايعتم فتفرَّقوا إلى محالكم.. ثمّ ضرب السبعون كلّهم على يده "يد رسول الله" (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وبايعوه.. فقال لهم: إنَّ موسى أخذ من بني إسرائيل إثني عشر نقيباً فلا يَجِدَنَّ منكم أحدٌ في نفسه أن يُؤْخَذَ غيرُه، فإنّما يختارُ لي جبريل، فلمّا تخيّرهم، قال للنقباء: أنتم كفلاء على غيرِكم ككفالةِ الحواريين لعيسى بن مريم، وأنا كفيلٌ على قومي.. قالوا: نعم فقال لهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): فانفضُّوا إلى رحالكم. فتفرَّقوا إلى رحالهم. فلمّا أصبح القوم غدت عليهم جِلَةُ قريش وأشرافهم حتّى دخلوا شِعْبَ الأنصار، فقالوا: يا معشر الخزرج: إنَّه بلغنا أنَّكم لقيتم صاحبنا البارحة وواعدتموه أن تبايعوه على حربنا، وأيمُ الله ما حَيٌّ من العرب أبغضُ إلينا أن تنشب بينا وبيننا الحرب منكم، قال: فانبعث مَنْ كان من الخزرج من المشركين يحلفون لهم بالله ما كان هذا وما علمنا، فلما رجعت قريش من عندهم رحل البراء بن معرور فتقدّم إلى بطن يأجَجَ وتلاحق أصحابه من المسلمين، وجعلت قريش تطلبهم في كلِّ وجه ولا تعدوا طرق المدينة وحزّبوا عليهم فأدركوا سعد بن عباده، فجعلوا يديه إلى عنقه بِنسْعَةٍ وجعلوا يضربونه ويجرُّون شعره وكان ذا جُمّة، حتّى أدخلوه مكّة، فجاءه مطعم بن عديّ والحارث بن أميّة فخلَّصاه من بين أيديهم"(89).
إنَّنا نستفيد من هذه القصّة عدّة أمور:
الأوّل: إنّ المحاولات الفاشلة المتكرّرة التي واجهت النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في دعوته القبائل القادمة إلى مكّة للإسلام، لم تدفعه إلى اليأس والاستسلام للفشل، واجترار أحزان الهزيمة.. بل كانت حافزاً للإلحاح على مواصلة التجربة ما كان له إلى التجربة سبيل.. كإخوانه من الأنبياء الذين تقدّموه وواجهوا الفشل بروح الأمل الممتد على أساسٍ من الإيمان بالله والثقة بوعده الرسلَ بالنصر.
وهكذا التقى النبيّ بالطليعة الأولى من أهل يثرب الذين كانوا يترقّبون خروج نبيّ من مكّة.. من خلال إخبار اليهود لهم بذلك، فيما كانوا يقرأونه عليهم من التوراة من صفات النبيّ الذي يخرج من مكّة ومهاجرته إلى يثرب، ما جعلهم يعيشون الأجواء النفسيّة المتطلّعة إلى ذلك، المستعدّة للإيمان من خلال الإذعان له، أو انتهاز الفرصة السانحة لربح الموقف على اليهود.. وقد حدَّث بعض الرواة بذلك فيما رواه ابن اسحاق، قال: "وكان ممّا صنع الله بهم في الإسلام أنَّ يهود كانوا معهم في بلادهم، وكانوا أهل كتاب وعلم، وكانوا هم أهل الشرك وأصحاب أوثان، وكانوا قد غَزَوْهم ببلادهم، فكانوا إذا كان بينهم شيء قالوا لهم: إنَّ نبيّاً مبعوثٌ الآن قد أظلَّ زمانه، نتّبعه فنقتلكم معه قتلَ عاد وإرَمَ. فلمّا كلَّم رسول الله أولئك النفر ودعاهم إلى الله، قال بعضهم لبعض: يا قوم تعلّموا والله إنَّه للنبيّ الذي توعّدكم به يهود، فلا تسبقنَّكم إليه. فأجابوه فيما دعاهم إليه، بأن صدّقوه وقَبلوا منه ما عَرض عليهم من الإسلام، وقالوا: إنَّا قد تركنا قومنا، ولا قوم بينهم من العداوة والشرّ ما بينهم، فعسى أن يجمعهم الله بك فسنقدم عليهم، فندعوهم إلى أمرك وتَعْرضَ عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم الله عليه فلا رجل أعزَّ منك"(43).
وبهذا نفسّر هذا المدّ الإسلامي السريع الذي شاهدناه في التجاوب الشامل مع الدعوة الإسلامية، ونؤكّد على استيحاء الدروس العمليّة في التركيز على مواصلة التجربة في حركة الإنسان في الدعوة إلى الله، مهما كانت قيمة البوادر الكثيرة للفشل، وفي ملاحقة الأجواء التي تتمتّع بأرضيّة خصبة صالحة للعمل، من خلال دعوات سابقة أو من خلال إعداد نفسي خاص منبثق من بعض الظروف والأوضاع الاجتماعية والدينية، ممّا يجعل النفوس حاضرة للالتقاء بالدعوة الإسلامية، في أوّل تجربة للدعوة من قبل أصحابها العاملين.. فقد نخرج من هذه الملاحقة باكتشاف كثير من المجالات العملية لبناء القاعدة الإسلامية في بلدان ومجتمعات كثيرة عاشت فيها بعض المعاني الحيّة التي تلتقي بمعاني الدعوة ومفاهيمها، ممّا يفسح لها المجال للتقدُّم، أو يقرّب الآخرين إلى أجوائها ــ على الأقلّ ـــ.
الثاني: إنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بايع الجماعة الثانية التي التقى بها في العام الثاني على أساس بيعة النساء، التي يلتقي فيها الإنسان المسلم بمنهج عقيدي وعملي بسيط، لا تعقيد فيه ولا التواء، بل كان قريباً إلى الفطرة، لا يحتاج إلى عمق في التفكير، ولا إلى دخول معقّد في تفاصيل كثيرة أو طويلة تُبعد الإنسان عن بدايات الفكرة عندما يصل به الشوط إلى آخره.. وربّما نستطيع الاستفادة من ذلك في أسلوب الدعوة في حياتنا المعاصرة.. فلا نعمل، كما يعمل البعض في إغراق الناس بالتعقيدات الفكرية، الفلسفية منها والاجتماعية، ولأنّ تلك التعقيدات كانت وليدة عوامل الصراع المعقّدة، في مجالات بعيدة عن الفطرة الصافية البسيطة التي تستجيب للشفاء والبساطة والوضوح أكثر ممّا تستجيب للأساليب الضبابية الغامضة(*).. وبذلك يتّجه التفكير إلى القيام بعملية تنويع للأساليب حسب المجالات التي يتحرّك فيها الدُّعاة، فتكون البساطة في الفكرة، وفي أسلوب العرض، للمجال الذي لا يعاني فيه الإنسان من عقدة سابقة ضدّ العقيدة، أو تفاصيلها، بل كلّ ما يريده هو فهم العقيدة وتصوّرها، ويكون العمق في المضمون، وفي طريقة المناقشة، للمجال الذي يعيش فيه الإنسان علامات استفهام كثيرة، وإشكالات فكرية متنوّعة.. فإنَّ البلاغة مطابقة الكلام لمقتضى الحال.
الثالث: مواجهة النبيّ للموقف بعقلية هادئة واقعيّة، تتعامل مع طبيعة الواقع وحاجته ـــ في حركته الرساليّة ـــ إلى ضمانات عملية للمستقبل، من حيث مصارحتهم بالصعوبات الشديدة التي تواجههم، وبالمعارك العنيفة التي تفرضها القوى الكافرة على المسلمين، وما يستتبع ذلك من دمار وتشريد وهلاك للنفوس والأموال وغير ذلك من عواقب الحرب ونتائجها التي يعرفونها جيّداً، لأنّهم أبناء الحرب العشائرية التي كانوا يخوضونها فيما بينهم في النزاع القبلي المرير بين الأوس والخزرج.. ومن حيث إمكانات وصول الموقف إلى أن تكون جبهتهم الإسلامية، وحدها في مقابلة العرب قاطبة، لأنَّ الإسلام لم يكن قد بلغ أيَّ مركز من مراكز القوّة آنذاك، فقد كانوا، هم القوّة الوليدة الجديدة التي تمثّل بداية القوّة الإسلامية.
لقد كان هذا هو الأسلوب الواقعي الذي يمثّل الصدق والأمانة اللذين يعتبرهما الإسلام مفتاح شخصية الإنسان المسلم، لترتبط المواقف بين القاعدة والقمّة، بالثقة المبنيّة على الصراحة فيشعر الناس في دخولهم في الإسلام، أنَّ ذلك ليس نزهةً يعيش فيها الإنسان أحلامه في هدوء واسترخاء لذيذ، بل هو الجهاد في أصعب مراحله.. فقد أراد النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن يصارحهم بذلك كلّه ولا يُغرقهم بالوعود المعسولة، فيستغلّ اندفاعهم الروحي في سبيل إدخالهم في المأزق، ليكون الحساب بينه وبينهم بعد فوات الأوان.. لأنّ ذلك ليس من خُلُقه، وليس من خُلُق الإسلام، ولأنّ هذا الأسلوب هو الذي يضمن ثباتهم وصمودهم واندفاعهم الواقعي ومواجهتهم للموقف بقوّة، ما دام الموقف خاضعاً للرؤية الواضحة للحاضر، والمعرفة الشاملة للمستقبل، والإيمان العميق بالنتائج المترقّبة في الدنيا والآخرة.
... وهكذا انسجم القوم مع كلّ ذلك وأعلنوا للنبيّ أنّهم لا يجهلون النتائج المستقبليّة ولا يخافون منها لأنّهم أبناء الحرب، فلا يخافون من عواقبها بشكلٍ طبيعي، فكيف إذا كان ذلك في سبيل الله.
ولم يقتصر النبيّ على ذلك، بل حاول أن ينظّم العلاقة بينه وبينهم على أساس تحديد مسؤوليّتهم في هذا الالتزام العقدي بالنسبة إلى أصحابهم، فيكون هناك كفلاء منهم، إزاء كفالته هو لأصحابه المسلمين في مكّة، ليشعروا بأنَّ القضية ليست مجرّد اتّفاق كلامي، بل هي خاضعة لالتزامات متبادلة محدّدة، يشعرون معها بالجديّة والواقعيّة.. لأنّ إبقاء المسؤوليّات في إطارها العام الذي يُخضع الموقف للحالات النفسية والخطوات الذاتية، يترك الموضوع عرضة للاهتزاز والارتباك.. وبالتالي للفوضى والانفلات.
الرابع: التأكيد على الجانب السرّي للتحرّك سواء في التحضير للاجتماع، أو في موعد عقده، أو في طريقة الحديث أو في طريقة التفرّق.. ممّا يلفت النظر إلى انسجام الإسلام مع واقع الأمور، من أجل المحافظة على سلامة العمل في الظروف الصعبة التي يملك فيها الكفر أو الباطل كلّ مقوّمات القوّة المادية التي لا يملكها الإيمان والحقّ، ويدلّل على رفض الفكرة القائلة إنّ على الحقّ أن يجهر بدعوته مهما كانت الظروف، ولا يلجأ إلى السريّة، لأنّها مظهر ضعف وتخاذل. ولعلَّ الذي يدعو إلى الإعجاب، هو هذه الدقّة في السريّة التي اتّبعها الأنصار بحيث لم يشعر بهم رفاقهم، الذين أنكروا حدوثَ مثل هذا الشيء عندما سألتهم قريش عن ذلك.
الخامس: أسلوب قريش القَلِق في ملاحقة المؤمنين بالدين الجديد حتّى الذين هم من غير أهل مكّة، ممّا يدلّ على أنّها بدأت تعتبر نفسها مسؤولة عن حرب الإسلام في الداخل والخارج، نظراً إلى ما تُحسُّ به من خطورة على مركزها وامتيازاتها المالية والسياسية.. الأمر الذي يعرّفنا مدى العنف الذي كانت تواجه به قريش إيمانَ المؤمنين في مكّة.. وما تقوم به ضدّهم من تعذيب واضطّهاد، ويكشف لنا، في الوقت ذاته، عظمة الصمود الذي كان يقابل به المؤمنون ذلك العنف كلّه.
خلاصة التجربة
لقد استطعنا أن نجد في النقاط التي عرضناها بعض الدروس العمليّة في التجربة النبويّة قبل الهجرة.. ممّا يمكننا من تطبيقه في حركة الإسلام المعاصرة.. سواء في ذلك إطار العمل الذي يستهدف الدفاع عن الإسلام ضدّ القوى الكافرة أو الضّالة، في البلاد الإسلامية التي سيطر عليها الكفر والضلال، أو استطاع أن يحصل فيها على مركز قوّة، أو في إطار العمل الذي يستهدف إدخال الآخرين إلى الإسلام وما يستتبع ذلك من صراع عنيف.. أو في طريقة العمل غير المألوفة التي يعارضها التقليديون والمحافظون الذين لا يريدون الخروج عن الطرق المعتادة لهم، فيرفضون، على أساس ذلك، العملَ التنظيميَّ الذي يضمّ العاملين في تكتّلات بشريّة إسلاميّة.. فقد يكون من الضروري أن نفكّر في العمل السريّ في بعض المراحل الأوليّة والثانوية حسب الظروف اللازمة التي تفرض ذلك، لأنَّ العمل العلني في ظلّ الأخطار الكبيرة التي تواجهه من قبل الأعداء قد يُعتبر عملاً رائعاً من أعمال الفروسية الذاتية، ولكنّه لن يُعتبر من الأعمال الجيّدة على مستوى الرسالة، لأنّه يتحوّل إلى انتحار للعمل إن لم يكن انتحاراً للعاملين.. ولذا فإنّه لا يمثّل قيمة إسلامية في حساب الجهاد والإخلاص.
وربّما وجدنا في الأسلوب النبويّ الذي لا يفاجأ الناس المخالفين لهم بالتحدّيات لِمَا يعتقدونه، بل يكتفي ـــ في البداية ـــ بعرض المفاهيم التي يؤمن بها من خلال ما تمثّله من إيجابيّات، وما تعطيه من خير للحياة بعيداً عن كلّ ما يثير الإحساس المضادّ، أو يبعث على توتّر النفوس بالحقد والعداوة والبغضاء.. ليستطيع أن يملأ الجوَّ بمفاهيمه، ويعبّأ النفوس بأفكاره.. ويبني القاعدة في المجتمع على أساس عقيدته، حتّى إذا انطلق بالتحدّيات العنيفة ضدّ القوى المعادية، كان انطلاقه من مركز قوّة، بحيث يمكنه أن يواجه ردود الفعل بموقف قوي وثابت لا يتزعزع ولا ينهار، مهما كانت القوى المواجهة له، كما رأينا ذلك في التجربة النبويّة مع قريش، فقد استطاع النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن يوحيَ إليها بالأمن من الخطر، فيما أطلقه من شعارات الرسالة، حتّى إذا استكمل في دعوته، الإعداد اللازم، بدأ في التحرّك المضادّ من موقع قويّ.. ولعلّنا نشعر بالحاجة إلى ذلك في كثير من الظروف المعاصرة للدعوة الإسلامية، أو الظروف المستقبلية التي نستشرفها من خلال حركة الواقع، في ضراوة الكفر وشراسته، لنضمن للحركة خطواتها المتّزنة القويّة التي لا تنفعل بزهو الموقف بل تستسلم لمصلحته، وتنسجم مع مقوّمات سلامته.
وقد نستفيد من أمر النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) للمسلمين الأوّلين بالهجرة إلى الحبشة، حيث الأمن والطمأنينة والحريّة في ممارسة العقيدة والدعوة إليها(34). أو أمره إليهم بالهجرة إلى المدينة حيث الانطلاق بالعمل من قاعدة المجتمع الإسلامي الجديد في جناحيه الأنصار والمهاجرين، ليمارسوا الحركة في توسيع القاعدة، ثمّ الانطلاق بها إلى مواقع جديدة.
قد نستفيد من هذا، أنَّ الهجرة من البلد الذي يعيش فيه العملُ الإسلاميّ الاختناق، ويفقد فيه الحريّة تُعتبر من الأمور الحيويّة في حركة الإسلام نحو استكمال عملية الوجود والتطوّر، ليواجه الحركة من موقعين، في الداخل، حيث يظلّ الباقون جادّين في مواصلة التحرّك من الموقع الصعب الذي يرسف بأكثر من قيد، وفي الخارج، حيث ينطلق المهاجرون إلى مواقع جديدة ليعملوا فيها بكلِّ حريّة واطمئنان، وبهذا يمكن للعاملين الذين يعانون الصعوبات الكبيرة في العمل، أو الذين يتعرّضون للاضطهاد والتعذيب والسجن في البلدان الكافرة أو الضّالّة، أن يهاجروا إلى بلدان أخرى، من موقع حريّة الحركة، لا من موقع الهروب والانهزام وحبِّ السلامة كما خيِّل للكثيرين ممّن يتولّون إصدار الأحكام على الآخرين من أبراجهم العاجية.
أمّا طريقة النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في ملاحقة الحاج إلى منازلهم لإبلاغهم الدعوة، وطلب النصرة والدخول في الإسلام، فقد يحتاج أن يفهمها أولئك الذين يصرّون على فكرتهم الانعزالية التي لا تُوجب على الإنسان أن يتحرّك خارج نطاق بيته ومركزه ومسجده، بل قد لا توجب عليه أن يتحرّك حتّى في داخل هذا النطاق بأن يتسلَّم هو زمام المبادرة في ذلك، بل كلّ ما يجب عليه، أن يجيب إذا سُئِل فيما إذا لم يحتمل الضرر.. قد يحتاج هؤلاء أن يفهموا هذا الجانب من السيرة ليعرفوا أنّ الرسالة تفرض على صاحبها التحرّك والسبق إلى مخاطبة الناس قبل أن يخاطبهم الآخرون، حيث لا يبقى هناك مجال للدعوة، بل للصراع، وأمّا إذا حاولوا أن يفسّروا ذلك بأنَّ السيرة تجسّد لنا الموقف في بدايات الدعوة التي ليس لها موقع الآن.. لأنَّنا نعيش في العصور التي جاءت بعد تقديم الرسالة كاملة للنّاس، فأين اليوم من الأمس؟ وأين بدايات الدعوة من المراحل المتأخّرة حتّى عن نهايتها؟.. أمّا إذا حاولوا ذلك.. فإنَّنا نجيب عليه:
أوّلاً: إنَّ الحاجة إلى التبليغ مستمرّة، ما دام هناك حكم شرعي مجهولاً، وما دامت هناك تحدّيات كافرة أو ضالّة تطرح الكثير من علامات الاستفهام، وتشوّه كثيراً من المفاهيم أو تضلّل كثيراً من الناس وتفسح المجال للكفر والضلال أن يركّز وجوده ويثبّت أقدامه على الأرض، وإنَّ طبيعة هذا الأسلوب لم تنطلق من مجرّد الدعوة إلى الدخول في الدين، بل من حاجتها إلى النصرة والمعونة، واستكمال أسباب القوّة ممّا يجعل القضية مطروحة في كلّ زمانٍ ومكان تعاني فيه الرسالة من الضعف في وجودها العام. وقد نجد في روعة الموقف الرافض للوعود المعسولة التي تطلب شيئاً مستقبليّاً لنفسها من الرسالة كشرط لارتباطها به، الأسلوب العملي الرائع، الذي يجسّد قوّة الموقف حتّى في أشدِّ حالات الضعف، ليرفض النصرة على أساس الزيف والكذب والدجل، لأنَّ ذلك يدخل في طبيعة الخطّة ولا يرتبط بظروف التحرّك.. وبذلك نبتعد عن بذل الوعود بما يبذله الكثيرون للبسطاء من الناس، أو لأهل الأطماع، كوسيلة لإدخالهم فيما يريدون، أو لإقناعهم بأفكارهم ومبادئهم وحركاتهم. أمّا المواقف الأخيرة للنبيّ، فيما يتمثّل فيها من صمود وإصرار، وفيما يتجلّى فيها من حكمة وواقعية، وفهم عميق للظروف والأشخاص وفيما تجسّده من أساليب صافية تقترب من العفوية، ولا تبتعد عن العمق في عرض الإسلام للآخرين في مجالات الدعوة، ومن خطوات عمليّة وواقعيّة في بدايات التحرّك الذي يستهدف بناء قواعد المجتمع الإسلامي الجديد في المدينة، حيث نأخذ منها الدرس العملي الرائع في اعتبار الصراحة في القضايا المحرجة على المستوى الشخصي أساساً في تقرير القضايا المصيرية، فلا مجال للمجاملة، ولا لأساليب الّلف والدوران، ولا للكلمات الضبابية التي تُفصح عن محتواها، ولا للكلمات التي تحتمل ألفَ وجه ووجه، لأنَّ ذلك كلّه ينعكس على قضية المصير التي إذا ضعفت ركائزها، تعرَّضت الرسالة في وجودها وبقائها للخطر... الأمر الذي يجعل الموقف كلّه من الأساس عبَثاً لا طائل تحته.. أمّا هذه المواقف فنستطيع أن نحوّلها إلى مواقف جديدة في حياتنا، ونستوحيها وننمّيها ونمتدّ بها إلى مجالات واسعة تتجاوز خصوصيّات الزمان والمكان في فهم الحاضر والمستقبل على أساس تجارب الماضي، لأنَّ ذلك هو السبيل الوحيد لإعطاء التجربة عمق الجذور وأصالتها، وحداثة الأساليب وتطوّرها.. ممّا يجعل لمفهوم (الحداثة) و(العصرنة) معنى لا يبتعد عن الارتباط بالتاريخ الحيّ، ولا يغرق فيه، بل يأخذ منه المبادئ الأصيلة التي لا تعتبر مجرّد تاريخ للأُمّة، بل حقيقة من حقائق الحياة التي تخترق حواجز الزمن، لتضم الأزمنة كلّها في وحدة رائعة، ثمّ يتحرّك معها في أسلوب وأجواء ومبادرات جديدة تتّفق مع عقلية المجتمع وظروفه.
التجربة النبويّة بعد الهجرة
تتميَّز التجربة النبويّة بعد الهجرة بكثرتها وتنوّعها وامتدادها وسعتها خلافاً للتجربة قبل الهجرة بالنظر إلى الظروف التي تحكم التجربة، والمجال الذي تتحرّك فيه والأوضاع التي تلاحقها.. فقد كانت للنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في مكّة شخصية الرسول الداعية الذي كان يفتّش عن مكان تتركَّز فيه الرسالة كقاعدة، وعن مجتمع يتحرّك من أجل تحقيق أهداف الإسلام في الحياة.. ولذا فقد كانت التجربة محكومة لهذا الهدف المحدود.. أمّا في المدينة فقد انطلقت الأهداف من حيث انتهت تلك، فقد وُجِدَت القاعدة ووُلِدَ المجتمع وبدأ النبيّ يعمل والمسلمون معه في سبيل إغناء تلك التجربة التي أنتجت ذلك الواقع بتجارب جديدة في أسلوب الدعوة وفي طريقة الحكم، وفي تنظيم الحياة على أساس قانون جديد متوازن يرعى جانب المادة كما يرعى جانب الروح، وينظّم حقوق الفرد كما ينظّم حقوق المجتمع، ويعمل لتركيز العدالة على أساس من الحقّ، ويدعو للمحبّة على أساس الرحمة ويعمل للعزّة والكرامة، كما يدعو للتسامح وللعفو وللصبر الجميل، ويشرّع للحرب كما يشرّع للسلم.. ويحمّل المسلمين مسؤوليّة حمل الدعوة إلى العالَم كلّه.
وقد كان من الطبيعي أن يهتمّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بتنظيم هذا المجتمع الرائد الذي يحمل المسؤوليّة الإسلامية في قلبه وكيانه، فكانت هناك بعض التجارب التي تتحدّث عنها كنموذج يُحتذى ويُقتدى به في كلّ حركة إسلامية معاصرة، لأنّنا لسنا في معرض استيعاب الحديث عن التجارب جميعها، ولسنا في مجال دراسةٍ لحياة النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أو لحركة المجتمع الإسلامي في نموّه وتكامله، بل نحن هنا لنورد بعض النماذج التي تشير إلى المنهج الذي ندعو إليه في فهم التجارب النبويّة على ضوء ما نحتاجه من قضايا وأساليب.
جاء في طبقات ابن سعد: "قالوا: لمّا قَدِم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) المدينة آخى بين المهاجرين بين بعضهم البعض، وآخى بين المهاجرين والأنصار، آخى بينهم على الحقّ والمساواة ويتوارثون بعد الممات ذوي الأرحام"(35).
ماذا نفهم من هذه القصّة؟ إنّنا نفهم من دلالاتها طريقة عمليّة في توثيق العلاقات بين أتباع الدين الجديد، فقد كان من الطبيعي أن تبدأ الرواسب النفسيّة، والعقد التاريخيّة التي يختلف فيها المهاجرون مع بعضهم البعض ويختلف فيها الأنصار مع بعضهم البعض، ويختلف فيها المهاجرون والأنصار فيما بينهم، في التعبير عن نفسها بالخلافات المتنوّعة والمنازعات المختلفة، وقد لا يمكن السيطرة عليها بالمشاعر العاطفيّة التي يولّدها الإيمان، فكانت هذه التجربة ـــ فيما يمكن أن يكون قد قصده النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ـــ محاولة لإيجاد رابطة عضوية، بين الأنصار أنفسهم، وبين المهاجرين أنفسهم، وبينهم وبين الأنصار، لتتعمّق المشاعر الإيمانية، فلا تتركها طافية على السطح، وتركّز العلاقات الروحيّة فلا تبقى عُرضةً للاهتزاز، ليتحقّق للمجتمع الجديد التوازن والتماسك والارتباط، ولتبدأ عملية المواساة في إطار محدود يشعر فيها الإنسان بحدود المسؤوليّة التي لا تبتعد عن حدود قدرته، ولا تتركه ضائعاً أمام عمليات الاختيار في المجتمع الكبير.. وبهذا تحوّلت المواساة الأخويّة إلى طريقة تربوية رائعة للترابط الإيماني في المجتمع الجديد حتّى إذا استطاعت هذه الطريقة أن تحقّق نتائجها العملية فيما حصل عليه المجتمع الإسلامي الأوّل من قوّة وتماسك ومواساة.. واستطاع المسلمون أن يكتشفوا ـــ بفضل هذه التجربة ـــ قيمة الأخوّة في الله التي تعتبر بديلاً عن الأخوّة في النسب والرّضاع، فيما عاشوه من حياة رائعة في حالة الحرب والسلام، وبدأوا يجرّبون المبدأ في إطاره العام، فتجاوز كلُّ واحد منهم الرابطة الخاصة، إلى الرابطة العامّة، لأنّه عرف أنّ ما حدث كان طريقة تجريبيّة يتعرّفون فيها إلى طبيعة العلاقة الجديدة، وليست مجرّد شيء خاص يقتصر على مورده.. وانطلق الإسلام بعد ذلك في الصورة التي حاول أن ينظّم فيها علاقات المجتمع الجديد، ليفسح المجال للأخوّة الإيمانيّة ـــ بشكلٍ عام ـــ فحمّل فيها المؤمنين مسؤوليّة هذه الأخوّة، في الإطار العمليّ للعلاقات الإيجابيّة والسلبيّة للمجتمع.. وبقيت الأخوّة الإسلامية شعاراً إسلامياً في جانب المشاعر والأعمال، يضمّ المسلمين في المشرق والمغرب، في وحدة شعوريّة رائعة، ليصل العاملون من خلالها إلى المجالات العملية الأخرى من الوحدة.
ونحن قد نستطيع الاستفادة منها في العمل الإسلامي بين المؤمنين أنفسهم، فنحاول تجسيد هذه التجربة في توثيق علاقاتهم ببعضهم على مستوى المسؤوليّة المحدّدة التي تربط واحداً من هنا بواحد من هناك، مع التركيز على إيجاد هذا الارتباط بين الفئات التي تخضع لبعض العوامل والمؤثّرات المقتضية لوجود علاقات سلبيّة، من أجل أن تؤدّيَ هذه الرابطة الروحيّة إلى تجميد كلّ تلك العوامل والمؤثّرات أو إلغائها بصورة كليّة.. وربّما استطعنا أن نحقّق الكثير من النجاح في اتّباع هذا الأسلوب في مرحلتنا الحاضرة، كما استطاع المسلمون في عصور الإسلام الأُولى أن يُحقِّقوا ـــ من خلاله ـــ النجاح الكبير، حيث ساهم في انطلاق العامل الإسلامي في حياتهم ليكون له الأثر الكبير في علاقاتهم الروحية والعملية.
التخطيط لبناء المجتمع المتماسك
ثانياً: بناء المسجد، كان من أوّل الأعمال التي بدأها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في المدينة، بعد وصوله إليها بناء المسجد. ويقصّ علينا ابن هشام في سيرته الجوَّ الرائع الحميم الذي كان يهيمن على المسلمين في عملية البناء.. قال: ".. فعمل فيه (أي المسجد) رسولُ الله ليرغِّب المسلمين في العمل فيه، فعمل فيه المهاجرون والأنصار ودأبوا فيه، فقال قائل من المسلمين:
لَئِنْ قَعَدْنا والنبيُّ يعملُ لذاكَ منَّا العملُ المضلِّلُ
وارتجز المسلمون وهم يبنونه يقولون:
لا عيش إلاَّ عيش الآخره الَّلهمَّ ارحَم الأنصار والمهاجره
قال ابن هشام: هذا كلام وليس برجز.
قال ابن اسحاق: فيقول رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لا عيش إلاّ عيش الآخرة، الَّلهمَّ ارحم المهاجرين والأنصار. قال فدخل عمّار بن ياسر، وقد أثقلوه باللَّبِن فقال: يا رسول الله: قتلوني، يحملون عليَّ ما لا يحملون، قالت أُمّ سلَمَة زوج النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): فرأيت رسول الله ينفُضُ وَفْرَته بيده وكان رجلاً جَعْداً، وهو يقول: ويح ابن سميّة، ليسوا بالذي يقتلونك، إنّما تقتلك الفئة الباغية.
وارتجز عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه يومئذٍ:
لا يستوي من يَعْمُرُ المساجدا يدأب فيه قائماً وقاعدا
ومَنْ يُرَى عن الغبار حائدا
قال ابن هشام: سألت غير واحد من أهل العلم بالشعر عن هذا الرّجز، فقالوا: بلغنا أنَّ عليّ بن أبي طالب ارتجز به، فلا يُدرى أهو قائله أم غيره.
قال ابن اسحاق: فأخذها عمّار بن ياسر فجعل يرتجز بها.
قال ابن هشام: فلمّا أكثر، ظنَّ رجلٌ من أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنَّه يُعرّض به، فيما حدّثنا زياد بن عبد الله البكائي عن ابن اسحاق، وقد سمّى ابن اسحاق الرجل.
قال ابن اسحاق: قال: قد سمعت ما تقول منذ اليوم يا بن سميّة، والله إنّي لأراني سأعرض هذه العصا لأنفك. قال: وفي يده عصا، قال: فغضب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ثمّ قال: ما لهم ولعمّار.. يدعوهم إلى الجنّة ويدعونه إلى النار، إنَّ عمّاراً جِلْدَة ما بين عيني وأنفي فإذا بلغ ذلك من الرجل فلم يُسْتبق فاجتنبوه"(33).
إنَّ القيام ببناء المسجد، كأوّل عمل قام به رسول الله في المدينة يدلّ على ما كان يفكّر به النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من تخطيط لبناء المجتمع المتماسك الخالي من الحساسيّات والعُقد الذاتيّة والقبليّة، فقد قَدِمَ إلى هذا البلد المتنافر المنقسم على نفسه في تاريخه الدامي المملوء بالحروب والمنازعات القبلية بين عشيرتي الأوس والخزرج، بالإضافة إلى اليهود الذين كانوا حلفاء لكلا الجانبين، فتحارب فئة منهم مع الأوس، وفئة مع الخزرج.
وكان أهل المدينة حديثي عهد بالإسلام ولم يدخلوا جميعاً في الإسلام، فقد بقيت بقيّة منهم، على شركها ـــ حتّى ذلك الحين.. فربّما أراد النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم).. أن يُفسح المجال لهم للتعايش الأخويّ في ظلِّ المعاني الروحيّة والمشاعر القدسيّة التي يُوحيها الإيمان بالله بعيداً عن كلِّ ما له صلة بالتاريخ الدامي القبلي، ليمتصّ بذلك كلّ المعاني والأحاسيس المضادّة.. فكان المسجد الذي يجتمع فيه المسلمون للوقوف بين يديّ الله والخضوع له والإقبال عليه في مناجاة روحيّة خاشعة، هو المكان الذي أُريد منه أن يحقِّق هذا الهدف، ويشارك في خلق هذا الشعور الرائع.. وهو المكان الذي يلتقون في رحابه ليتحدّثوا فيه بما ينفعهم ويفيدهم، فيما ينبغي لهم أن يتعلَّموه، وفيما يجب عليهم أن يعرفوه من شؤون المعرفة بالله ورسالته ومن شؤون المعرفة بالحياة في علومها العمليّة التي تبني للإنسان حياته على أساس من وعي وعمق وإيمان، ويستقبلون به الوفود التي تأتيهم، للعلم، أو للدين، أو للحياة، ويثيرون فيه قضايا الحرب وقضايا السّلم، وما يستتبعهما من شؤون الدين والدنيا وغير ذلك من الأمور التي أُريد من المسجد أن يكون مجمعاً لها، كسائر المجامع التي اعتاد الناس الّلقاء فيها لمعالجة شؤونهم العامّة والخاصّة.. وتبقى قيمة المسجد هي في هذا الإيحاء الدائم بالله، وبالمعاني الخيّرة التي يثيرها بالنفس، ممّا يجعل كلّ هذه الأمور متّصلة بالله خاضعة لإرادته، مسيّرة لأوامره ونواهيه.. فلا يستسلمون فيها لنوازع الشرّ والعدوان، فإذا غفلوا عن أنفسهم واستسلموا لشيء من ذلك ردّهم إلى الله، جوٌّ طاهرٌ ووحي خاشع وعبادة توحي للنفس دائماً بما يعيدها إلى الله ويربطها به من جديد.
وذلك هو شأن المسجد، فيما أراده الإسلام له، وهو أن يحقّق معنى العبادة الشامل الذي يشمل الصلاة، فيما تشتمل عليه من تكبير وتهليل وشهادة وركوع وسجود وغيرها من أجزاء وشروط، ويشمل العلم الخالص لله النافع للنّاس، ويشمل الحرب التي تدفع العدوان وتهاجمه، والسلم الذي يثير الخير وينشر الخصب والرخاء، والجدال والحوار الذي يُراد بهما الوصول إلى الحقّ وردّ الباطل، ويشمل التعارف بين الناس الذي يُراد به التعاون والتكامل الاجتماعي. ومن هنا، كان للمسجد دوره في كلّ شؤون الحياة في الإسلام، وكانت له فعالياته في قضايا الناس.. وكانت له ندواته الممتدّة المستمرّة التي تعطينا في كلّ يوم علماً جديداً وروحاً جديدة.. حتّى إذا تقلّص دور المسجد وابتعدت عنه الحياة، حتّى في الصلاة التي أُريد لها أن تنفتح على الحياة لتطهّر للإنسان ضميرَه ووجدانه فتطهّر من خلالها حياته.. حتّى الصلاة انعزلت عن وظيفة الوسيلة التي تشدُّ الإنسان إلى الله، ليبقى لها دور الفريضة التي لا يُقصد منها إلاّ الخروج عن العهدة، وإبراء الذمّة، وامتثال الواجب، ليحصل بذلك جلب الثواب ودفع العقاب.. ولا شيء غير ذلك.
وربّما كان من مهمّة العمل الإسلامي تجديد دور المسجد وإخراجه من هذا الطوق الذي ضُرب حوله، فجمّد آفاقه وشوَّه صورته الحقيقيّة المنطلقة من الحياة.
وقد يطيب لنا في نهاية المطاف، أن نعايش الجوَّ الرائع الذي نشاهد فيه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وهو يعمل في بناء المسجد، لا ليرغّب المسلمين في العمل، كما يقول ابن هشام، بل لأنّه يريد أن يكون قدوة لهم في الشعور بالمسؤوليّة وممارستها فلا يكتفي بإصدار الأوامر فيما هو من شؤون الإسلام، بل يبادر إليه بنفسه ليدلّل لهم من موقع الممارسة، أنَّ العمل يقف في المستوى الذي يحبّ ويرغب فيه من كلّ واحد حتّى منه نفسه، وهو مَنْ هو في مستوى المسؤولية الرسالية.
ثمّ تجد المسلمين يعملون في هذا الجوّ الرائع الذي يطرحون فيه الشعار ـــ الهدف ـــ فهم لا يعملون في الدنيا، لعيش الدنيا، وإن كان له من الأهمية المقام الكبير، بل يعملون في الدنيا لعيش الآخرة الذي وعد الله به عباده المتّقين.. ثمّ يبتهلون إلى الله، في الموضع الذي يبنونه ليكون موضعاً للابتهال، في أن يرحمهم أنصاراً أو مهاجرين. ونلفت فجأة لنرى عمّار بن ياسر الذي عُذِّب واضطُّهد من أجل عقيدته، وكاد أن يموت تحت التعذيب كما مات أبواه، لولا أن قال كلمة الكفر، بعد إكراه، وقلبه مطمئن بالإيمان.. فنرى هذا الرجل مثقلاً بحمله حتّى ليكاد أن يسقط صريعاً تحت وطأة هذا الحمل الثقيل، فيشكو أمره إلى رسول الله، فيتحدّث إليه بالغيب الذي أعلمه الله إيّاه، بأنّه تقتله الفئة الباغية.
وينظر عليّ (عليه السلام) ناحية، فيرى بعض المسلمين يحيدون عن الغبار، ويبتعدون عن المشاركة، فيرتجز الرجز المتقدّم ويتلقَّفه عمّار ويكرّره، ويلتفت ذلك البعض إلى نفسه ويشعر بأنّه مقصود به، فيثور على عمّار بما يُشبه التهديد.. ويقف النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من جديد مع عمّار ليعبّر عن حبّه له وعلاقته به وتقديره له، لِمَا قدّم من تضحية، ولِمَا تحمّل من عذاب، لأنّه لا يريد للمجاهدين المخلصين أن ينالهم أحد بسوء لا سيّما إذا كان مثل هذا ممّن لم يقّدم للإسلام شيئاً من جهده ومن جهاده.
وهكذا عشنا في جوِّ بناء المسجد الأوّل، في الأجواء النفسيّة التي كان يعيشها المسلمون يومئذٍ، واستطعنا أن نعرف كيف كانوا يفكّرون، ويتجادلون ويتنازعون، وكيف كان النبيّ يدير هذه الخلافات ويُحلّها أو يعلّق عليها بأسلوب رساليّ حازم. وربّما نأخذ من ذلك درساً عملياً في الاهتمام الشديد، برعاية المجاهدين الذين يُعَذّبون ويُضطَّهدون في سبيل العقيدة، وتقييم مواقفهم في كلّ مناسبة والوقوف بحزم ضدّ الأشخاص الذين يُسيئون إليهم لتبقى للجهاد قيمتُه في حياة الناس، عندما يرونه قيمة كبيرة تجعل أصحابه في مقدّمة المجتمع قوّةً ومكانةً وانسجاماً مع قول الله تعالى: {فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُـلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً} [النساء : 95].
الانفتاح على الآخر
ثالثاً: كُتُبه إلى الملوك وغيرهم من الناس وبعثاته إليهم، لقد قام الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ـــ فيما ترويه كتب السيرة النبويّة الشريفة.. بإرسال وفود وكتب إلى ملوك زمانه وإلى زعماء البلاد ووجهاء القوم وإلى كثير من الناس، يدعوهم فيها إلى الدخول في الإسلام، بأساليب متنوّعة، تأخذ بالإيجاز تارّة، وبالتفصيل أخرى. وقد يغلب على بعضها الرفق، وقد يقرب بعضها الآخر من العنف تبعاً لما تقتضيه المصلحة، ويفرضه الموقف، وكتب إلى كثير من الناس من العرب في أمور متعدّدة تتمثّل فيها شخصية الرسول الداعية كما تتمثّل فيها شخصية الحاكم الذي يهدّد ويتوعّد، ويهب ويعطي ويمنع، ويقطع الأراضي، ويحدّد لكلّ شخص حدوده.. وقد نلمح فيها شخصية المشترع الذي يشرّع أحكام الشرائع المالية والعبادية، وغيرها.. وقد نجد في دراسة هذا الجانب من سيرة النبيّ، فوائد كثيرة على مستوى الأسلوب والمحتوى والروح، وقد نتعرَّف من خلال ذلك على نظرة الإسلام لأهل الأديان الأخرى وطريقة مخاطبتهم، وأسلوب التعامل معهم على أساس العقود والمواثيق والالتزامات.
فمن ذلك ما رواه صاحب الطبقات الكبرى، فقد روى أنّهم "قالوا: وكتب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لأسقف بن الحارث بن كعب وأساقفة نجران وكهنتهم ومَنْ تبعهم ورهبانهم أنَّ لهم ما تحت أيديهم من قليل وكثير من بِيَعِهم وصلواتهم ورهبانيّتهم وجوار الله ورسوله، لا يُغَيَّر أسقفٌ عن أسقفيّته، ولا راهب عن رهبانيّته، ولا كاهن عن كهانته، ولا يُغيَّر حقٌّ من حقوقهم ولا سلطانهم ولا شيء ممّا كانوا عليه ما نصحوا وأصلحوا فيما عليهم غير مثقلين بظلم ولا ظالمين"(37).
فقد نفهم من هذا الكتاب، أو نستوحي منه ما نسمّيه بــ "الحريّة الدينيّة" وعدم التدخّل في شؤونهم العامّة والخاصّة، وعدم تغيير أيّ شيء ممّا كانوا عليه، شريطة أن ينصحوا ويُصلحوا فيما عليهم من دون أن يظلمهم أحد أو يظلموا أحداً.. وأحسب أنّنا لا نجد أروع من هذا الأسلوب النابض بروح المحبّة والرحمة والإنسانية السمحة، الذي يعبّر عن نظرة الإسلام إلى أسلوب التعايش السلمي بين أهل الأديان المختلفة عندما يعيش أحدُها في ظلِّ الحكم الإسلامي.
قالوا: وكتب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى ضغاطر الأسقف: "سلام على مَنْ آمن. أمَّا على أثر ذلك، فإنَّ عيسى بن مريم روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم الزكيّة، وإنّي أؤمن بالله وما أُنزِلَ إلينا وما أُنزِلَ إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أُوتي موسى وعيسى وما أُوتي النبيُّون من ربّهم لا نفرِّق بين أحدٍ منهم ونحن له مسلمون. والسلام على مَن اتّبع الهدى"(38).
وقد نلاحظ في هذا الكتاب التواضع النبويّ عندما يبدأ النبيّ ورسالته بالعقيدة الإسلامية في عيسى، إيذاناً بالّلقاء بينه وبينهم في احترام عيسى بما يرفع من مقامه ومنزلته، ثمّ يُتبع ذلك ببيان ما يؤمن به من وحدة الرسالات وتآخي الرّسل من دون أن يضيف إلى ذلك شيئاً من دعوته، أو بعضاً من مواطن الاختلاف بين الدينين، ليترك الأمر له، ليفكّر فيقنع ويؤمن، أو لا يؤمن فيكون قد أقام عليه الحُجّة، وأهاب به أن يفتح باب الحوار، من دون أن ينتقص من قيمة مقدّساته، بل حاول أن يعطيها حقّها من القداسة بما أضفاه عليها من الألفاظ القرآنية الرائعة... وفي هذا الأسلوب، الدلالة على التهذيب الإسلامي، في الشكل والمضمون والروحيّة السمحة.
وقد نلتقي في هذا المجال بالتعليمات التي كان يوجّهها إلى الدُّعاة الذين يُرسلهم إلى الناس.. فقد روى بعض الرواة، أنَّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال لأصحابه: وافوني بأجمعكم بالغداة وكان (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إذا صلَّى الفجر حبس في مصلّاه قليلاً يسبّح ويدعو، ثمّ التفت إليهم فبعث عدّة إلى عدّة، وقال لهم: انصحوا الله في عباده فإنّه مَن استرعي شيئاً من أمور الناس ثمّ لم ينصح لهم حرَّم الله عليه الجنّة، انطلقوا ولا تصنعوا كما صنعت رسل عيسى بن مريم، فإنّهم أتوا القريب وتركوا البعيد فأصبحوا ـــ يعني الرّسل ـــ وكلّ رجل منهم يتكلّم بلسان القوم الذين أُرسل إليهم، فذكر ذلك للنبيّ، فقال: هذا أعظم ما كان من حقّ الله عليهم في أمر عباده.
ونلاحظ في هذه الوصية الموجزة التأكيد على جانب عظيم الأهمية في حياة العمل الإسلامي، والعاملين له، وهو أنَّ بعض هؤلاء يختارون الأماكن القريبة إلى بلادهم، لئلاّ يتشجَّموا عناء الغربة البعيدة، أو متاعب السفر الطويل، وقد أراد الرسول من هؤلاء الدُّعاة أن لا يلجأوا إلى هذه الطريقة في ممارستهم للمسؤوليّة، لأنَّ الانسجام مع متطلّبات الدعوة في كلّ مكان من بين الشروط الأساسية لمبدأ النصيحة لله في عباده التي يجب عليهم أن يقوموا بها بعد أن استرعاهم الله أمور الناس في شؤون الدعوة والحياة.. فمن لم يقم بواجب النصيحة ويتحمّل المتاعب، وهو قادر على ذلك فإنَّ الله يحرّم الجنّة عليه، ويُبعده عن ساحة لطفه ورضوانه ورحمته.. ثمّ ضرب لهم مثلاً بالرسل الذين كانوا ينطلقون بالرسالة من قِبَل عيسى إلى الناس فكانوا يتركون البعيد ويأتون القريب، فكان من بلاء الله لهم أنَّهم أصبحوا بمعجزة من الله، وكلّ واحد منهم يتكلّم بلسان القوم الذين أُرسل إليهم ليضطر، بسبب ذلك إلى القيام بمسؤوليّته كاملة غير منقوصة.. ونحن نشعر بقيمة هذه الوصية في واقع الدعوة الإسلامية.. فنجد الكثيرين من علماء الدين ومن الدّعاة إليه، ينصرفون عن المناطق النائية في أوطانهم، أو في خارج أوطانهم، لئلّا يتحمّلوا بعض التعب، وبعض المشقّة، وقد نجد الكثيرين منهم يفضّلون حياة المدن على حياة الأرياف، لا لأنّهم يشعرون بحاجة المدن المكتظّة بالسكان إلى التوجيه أكثر ممّا تحتاجه الأرياف، القليلة العدد، بسبب كثرة الهجرة منها، بل لأنَّ حياة المدينة أكثر راحة وأكثر رفاهية، وأوسع مدخولاً من جهة المال، وبهذا يعاني أهل القرى، ولاسيّما النائية، الفراغ الهائل من ناحية التوجيه الديني.. ممّا يجعلهم لقمة سائغة لأعداء الله من أصحاب المبادئ الكافرة أو الضّالة الذين يستغلُّون نقاط الضعف الفكرية والماديّة، وحرمانهم من الخدمات العامّة التي توفّرها الدولة لبعض القرى دون بعض لحساب الامتيازات السياسية والطائفية والشخصية، وتمنعها عنهم، فيتبعونهم في كلِّ ما يريدونه دون مقاومة من فكر أو علم.. قد يكون هؤلاء بحاجة إلى دراسة هذه الجوانب من السيرة ليعرفوا من خلالها أنَّ المسؤولية لم تنبع في حياة هؤلاء من تكليف رسول الله لهم بشكل شخصي، لأنَّه لم ينطلق في ذلك من حالة خاصة، بل من حالة عامّة، وهي حاجة الناس إلى الدعوة والدُّعاة من أجل أن ينفتحوا على رسالة الله بقوّة ووضوح انطلاقاً من التبليغ الذي تقوم به الحُجّة وتُزاح به العلّة، وتَنحلُّ به كثيرٌ من الشبهات، وتنكشف به كثير من الآفاق الغائمة في أكثر من جانب.
لذلك، فإنَّ المسؤولية تُوجَد، حيثما وُجدت الحاجة، وَوُجِد الجاهلون.. في زمان الرسول.
غنى التجربة الروحي والعملي
رابعاً: وفود العرب عليه، لقد كانت قوّة الإسلام العسكرية أمام تحدّيات الكفر الكثيرة وعدوانه المتكرّر، وثبات المسلمين في كلِّ تلك الحروب التي خاضوها مع الكافرين، سبباً في اندفاع العرب بشكل لا نظير له في الوفادة على النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والدخول في الإسلام، لاسيّما بعد فتح مكّة.. لزوال القوّة الضخمة التي كان الناس يخشون سطوتها فيمتنعون عن الإسلام لذلك.. وهكذا جاءت الوفود تَتَتالى.. وكانت لرسول الله أساليبه المتنوّعة في محاورتهم وإكرامهم بمختلف ألوان الإكرام، ودعوتهم إلى الإسلام... وقد تمثّلت فيها أخلاق رسول الله العظيمة أصدق تمثيل.. وربّما كان من الخير، أو من الواجب، للدُّعاة المسلمين أن يتوفّروا على دراسة هذا الجانب من حياة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لأنّه يحتوي على كثير ممّا نحتاج إليه من غنى التجربة الروحي، وعطائها العملي.. وقد نحتذيه في كثير من الّلقاءات التي تحصل بين العاملين للإسلام وبين الناس الآخرين في الحالات المماثلة أو القريبة منها. ولا بأس بأن نقدِّم بعض هذه النماذج التي يمكن أن يحتذيها العاملون في عملهم الإسلامي.
1 ـــ فقد روى صاحب الطبقات الكبرى: "قال بعثت بنو سعد بن بكر في رجب سنة خمس، ضمام بن ثعلبة، وكان جلداً أشعر ذا غديرتين، وافداً إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فسأله فأغلظ في المسألة، سأله عمَّن أرسله وبما أرسله، وسأله عن شرائع الإسلام، فأجابه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في ذلك كلّه، فرجع إلى قومه مسلماً قد خلع الأنداد وأخبرهم بما أمرهم به ونهاهم عنه، فما أمسى في ذلك اليوم في حاضره رجلٌ ولا امرأةٌ إلاّ مسلماً، وبنوا المساجد وأذَّنوا بالصلوات(39).
فقد نستفيد من هذا النموذج، أنَّ رسول الله استطاع أن يعرف من إلحاح هذا الرجل في المسألة، وملاحقة كلّ علامات الاستفهام التي تتلاحق في ذهنه والتشديد على الدقّة في الجواب عليها، أنَّ هذا الرجل جاد في قضية الإيمان بالرسالة، لأنّ طبيعة الأسئلة لا تنطلق من حبِّ التحدّي، أو من طبيعة التباهي بما يملك من معلومات، فاستقبله ـــ بكلّ رحابة صدر ـــ وأجابه عن كلِّ سؤال مهما يكن محرجاً أو مضحكاً.. حتّى إذا استقام له أمرُ الإيمان، واطّلع على دقائقه، انطلق إلى بلده، فاقتنع الجميع بقناعته، أو أنّهم اقتنعوا بما أخبرهم به من أوامره ونواهيه وطبيعة الرسالة والرسول، وهكذا كان النبيّ مدركاً لقيمة هذا الشخص من ناحية ذاتية، ومن ناحية تأثيره على الآخرين.
وعلى ضوء ذلك، فإنَّ القضية تخضع في دراسة هذا النموذج لجانبين:
الأوّل: الجانب الرساليّ للداعية كصفة ذاتية، ممّا يستدعيه أن يجيب عن كلِّ سؤال، ويُقبل على كلِّ سائل، ويفتح قلبه ووجدانه للنّاس كافّة، تماماً كما كان النبيّ يفعل مع هذا الرجل ومع غيره.
الثاني: الجانب العملي، وتأثيره على حركة الواقع الإسلامي، فقد يختلف أمر الاهتمام بالسائل، قوّة وضعفاً، مع المحافظة على المبدأ، بين من لا يستفيد أحد من ثقافته، إلاّ نفسه، وبين من يستفيد منه جماهيرُ كبيرة من الناس، فإنَّ الاهتمام بالثاني بشكلٍ كبير متعاظم يوفّر على الداعية جهداً كبيراً لإدخال جماعته في الإسلام، لأنَّ ذلك يحوّل السائل المتفهّم إلى مؤمن واعٍ داعيةٍ لله سبحانه في نفسه وأهله وأصدقائه.. ولا بدّ للإنسان المنفتح الواعي من أن يدقّق في الشخصيات التي يدخل معها في عملية الحوار من حيث قيمة تأثيرها في مجتمعها، ومدى فعاليتها في الحياة.
وفي الطبقات، "قالوا ـــ وقدم على رسول الله ـــ وفد بني عبد بن عديّ، وفيهم الحارث بن أهبان وعويمر بن الأخرم وحبيب وربيعة إبنا مُلّة ومعهم رهط من قومهم، فقالوا: يا محمّد نحن أهل الحرم وساكنه وأعزّ مَنْ به ونحن لا نريد قتالك، ولو قاتلتَ غيرَ قريش قاتلنا معك ولكنّا لا نقاتل قريشاً، وإنَّا لنحبّك ومَنْ أنت فيه، فإن أصبتَ منّا أحداً فعليك ديّته، وإذا أصبنا أحداً من أصحابك فعلينا ديّته، فقال: نعم، فأسلموا"(40).
ونلاحظ في حوار النبيّ مع هذا الوفد الذي جاء ليُسلم، وأنّه يريد أن يستثني من مسؤوليّاته الإسلامية المفروضة على كلّ مسلم المشاركة في الجهاد الإسلامي ـــ حرب النبيّ مع قريش ـــ لأنّهم يعيشون معهم في منطقة واحدة ولا يريدون لأنفسهم أن يدخلوا معهم في حرب أو قتال.. واستجاب النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لهذه الرغبة، انسجاماً مع أسلوبه الواقعي الذي سار به في أكثر من حادثة في الاستجابة لبعض المطالب والرغبات التي يتقدّم بها بعض الراغبين في الإسلام، نظراً لصعوبة الالتزام بها سلباً أو إيجاباً، لأنَّ عدم الاستجابة لهم يعطّل هذه الرغبة، ويعوّق عملية الدخول في الإسلام لِمَا لهذه القضية من الأهمية لديهم، لعلاقتها بمصالحهم الحيويّة، لاسيّما في مثل هذه الحالة التي تتّصل بخروجهم من ديارهم أو بقائهم فيها، إذا خاضوا الحرب ضدّ قريش، أو لم يخوضوها.. ولعلّ السرّ في هذا الأسلوب، أنَّ الداخلين في الإسلام ـــ غالباً ـــ لا ينطلقون ـــ عادة ـــ من إيمان عميق بالإسلام بالمستوى الذي يدفعهم إلى التضحية بكلّ شيء ـــ في البداية ـــ لأنّهم لا يفهمونه فهماً حقيقياً كاملاً، فقد يريد النبيّ أن يتسامح معهم في ذلك، على أساس خطّة الرسالة في التدرّج في الدعوة ليكتشفوا بعد إسلامهم ما يشتمل عليه أو يحتويه من روحيّة وانفتاح وقوّة، فينفتحوا عليه انفتاحاً كاملاً ويلتزموا به التزاماً شاملاً في نهاية المطاف.
وفي الطبقات: "عن رجل عن عنس بن مالك بن مذحج قال: كان منّا رجل وَفَدَ على النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فأتاه وهو يتعشّى، فدعاه إلى العشاء فجلس، فلمّا تعشّى أقبل عليه النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقال: أتشهد أن لا إله إلاَّ الله وأنَّ محمّداً عبده ورسوله.. فقال: أشهد أن لا إله إلاَّ الله وأنَّ محمّداً عبده ورسوله.. فقال: أراغباً جئت أم راهباً؟.. فقال: أمّا الرغبة فوالله ما في يديك مال، وأمّا الرهبة فوالله إنّني لَبِبَلدٍ ما تبلُغه جيوشك، ولكنّي خُوّفت فخفت، وقيل لي آمن بالله فآمنت، فأقبل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) على القوم فقال: ربّ خطيب من عَنَس"(41).
فقد نفهم من هذه القصّة، أنّ هناك فئات من العرب، كانت تعيش التفكير في الإسلام وفي شريعته أو في مفهومه للدنيا والآخرة.. فإذا أقبلت عليه أقبلت عن قناعة، لا عن رغبة ولا عن رهبة، كما نجده في هذا الرجل الذي أعلن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنَّ خوفه من الدار الآخرة دعاه إلى التفكير ثمّ الإيمان.. ونستفيد منها أنّ الصراحة لا المجاملة، كانت شأن العرب وطريقتهم في حديثهم مع كبار القوم كما هي مع صغارهم.
وقد نلتقي ببعض النماذج الحيّة، في هذه الوفود التي كانت تفد على النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كما يحدّثنا ابن سعد في طبقاته عن وفد (تُجيب) فقال: "قدم وفد تُجيب على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) سنة تسع، وهم ثلاثة عشر رجلاً، وساقوا معهم صدقات أموالهم التي فرض الله عليهم، فَسُرَّ رسولُ الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بهم وقال: مرحباً بكم! وأكرم منزلهم وحباهم، وأمر بلالاً أن يُحسن ضيافتهم وجوائزهم وأعطاهم أكثر ممّا يجيز به الوفد، وقال: هل بقي منكم أحد؟ قالوا: غلام خلفناه على رحالنا وهو أحدثنا سنّاً، قال: أرسلوه إلينا، فأقبل الغلام إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقال: إنّي امرؤٌ من بني أبناء الرهط الذين أتوك آنفاً فقضيتَ حوائجهم فاقضِ حاجتي، قال: وما حاجتك؟.. قال: تسأل الله أن يغفر لي ويرحمني ويجعل غنايَ في قلبي، فقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): الّلهمَّ اغفرْ له وارْحَمْهُ واجعلْ غِناهُ في قلبه: ثمّ أمر له بمثل ما أمر به لرجل من أصحابه، فانطلقوا راجعين إلى أهليهم، ثمّ وافوا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في الموسم بمنى سنة عشر، فسألهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن الغلام فقالوا: ما رأينا مثله أقنع منه بما رزقه الله، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إنّي لأرجو أن نموت جميعاً"(42).
فقد يلفت نظرنا هذا الغلامُ الطيِّبُ الذي لم يشأ أن يطلب لنفسه شيئاً ماديّاً، ممّا طلبه قومه، أو ممّا اعتاد الناس أن يطلبوه، بل طلب غفران الله ورحمته، وأن يحقِّق له غنى نفسه الداخلي، ممّا يوحي لنا بالروح الكبيرة التي تتجسَّد في هذا الغلام الذي أدرك أنَّ مطالب النفس لا تنتهي، وأنَّ فقر النفس أشدّ من فقر المال، لأنّه يجعل الإنسان لاهثاً أمام أطماعه وأشواقه ورغباته، ويحطّم عزّته وكرامته ومبادئه، أمام أيِّ حاجة إلى غيره إذا فرض عليه، غيرُه، في مقابلها الذلَّ والانحرافَ.. أمّا الغنى الداخلي، فإنّه يملأ النفس بالشعور العميق وبالاكتفاء بأقلّ شيء، وبذلك يملك نفسه وكرامته ومبادئه بعيداً عن أيِّ ضغط وعن أيِّ ابتزاز لأنّه يشعر في هذه الحالة بأنَّ الآخرين ليسوا قوّة فوقه، بل هم مثله، له حاجاته ولهم حاجاتهم، فإذا كان هو، محتاجاً إلى بعض ما لديهم فإنّهم محتاجون إلى كثيرٍ ممّا في أيدي الآخرين، فلماذا يضع نفسه تحت رحمتهم إزاء بعض رغباته، ليشعروا بالفوقيّة في مقابل شعوره بالدونيّة، ما دام قادراً على أن يصبر على نفسه، من أجل أن تبقى له نفسه، كما ورد في الحديث عن الإمام عليّ (عليه السلام) في بعض كلماته:
"أكْرِم نفسك عن كلِّ دنيئة وإن ساقتك إلى الرغائب فإنَّك لن تعتاض بما تبذله من نفسك عِوَضاً..".
وهكذا قضى النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لهذا الغلام حاجته، فقد دعا له النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بما طلب واستجاب له الله دعاءه، حتّى أصبح مضرب المثل في قناعته بما رزقه الله.. ومات على ذلك.
ويظهر من القصّة.. أنّ مثل هذا الغلام النموذج قد ملأ قلب النبيّ إعجاباً وتقديراً، ولذلك بدأ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قومه بالسؤال عنه، عندما قَدِموا عليه مرّة ثانية في الموسم (موسم الحجّ) بمنى.. وتلك هي بعض عظمة النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فقد كان لا ينسى مثل هذه النماذج الحيّة التي ترتبط بالحياة من خلال المبادئ لا من خلال الأطماع، فيبادر بالسؤال عنها حتّى يشعر الناس بقيمة المعاني الكبيرة التي يجسّدها هؤلاء، ليقتدوا بهم في ذلك كلّه.. وتلك هي دروس السيرة النبويّة التي تواجهك في كلّ موقف وفي كلّ مكان.
وقد نجد في بعضها المثل الحيّ من أخلاق رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كما نجد ذلك في قصّة عديّ بن حاتم عندما قَدِمَ على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مسلماً، قال، فيما يرويه ابن هشام في سيرته.. "خرجت حتّى أُقدِمَ على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) المدينة، فدخلت عليه، وهو في مسجده، فسلّمت عليه، فقال: مَنِ الرجل؟ فقلت: عديّ بن حاتم. فقام رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فانطلق بي إلى بيته، فوالله إنّه لعامد بي إليه، إذْ لَقِيَته امرأة ضعيفة كبيرة فاستوقفته، فوقف لها طويلاً تكلّمه في حاجتها قال: قلت في نفسي: والله ما هذا بِمَلِك قال: ثمّ مضى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حتّى إذا دخل بي بيته تناول وسادة من أدَم محشوّة فقذفها إليّ فقال: اجلس على هذه، قال: قلت: بل أنتَ فاجلس عليها، فقال: بل أنت، فجلست عليها، وجلس رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالأرض قال: فقلت في نفسي والله ما هذا بأمر ملك، ثمّ قال: إيه يا عديّ بن حاتم ألم تكن ركوسيا(*)؟.. قال: قلت: بلى، قال: أَوَلَم تكن تسير في قومك بالمرباع(**)؟.
قال: قلت: بلى، قال: فإنَّ ذلك لم يكن يحلّ لك في دينك، قال: قلت: أجل والله، وقال: وعرفتُ أنّه نبيٌّ مرسل يعلم ما يُجْهَل. ثمّ قال: لعلّك يا عديّ إنَّما يمنعك من دخولٍ في هذا الدين ما ترى من حاجتهم، فوالله ليُوشِكَنَّ المالُ أن يفيض فيهم حتّى لا يُوجَد مَنْ يأخذه، ولعلَّك إنَّما يمنعك من دخولٍ فيه ما ترى من كثرة عدوّهم وقلّة عددهم، فوالله ليُوشِكَنَّ أن تسمع بالمرأة تخرج من القادسية على بعيرها حتّى تزور هذا البيت لا تخاف، ولعلّك إنّما يمنعك من دخولٍ فيه أنّك ترى أنَّ المُلْكَ والسلطان في غيرهم، وأيمُ الله ليُوشِكَنَّ أن تسمع بالقصور البيض من أرض بابل قد فُتحت عليهم، قال: فأسلمت.
وكان عديّ يقول: قد مضت اثنتان وبقيت الثالثة، والله لتكونَنَّ، قد رأيت القصور البيض من أرض بابل قد فُتحت، وقد رأيتُ المرأة تخرج من القادسية على بعيرها لا تخاف حتّى تحجّ هذا البيت، وأيمُ الله لتكونُنَّ الثالثة، ليَفيضَنَّ المالُ حتّى لا يوجد مَنْ يأخذهُ"(43).
إنَّنا ننقل هذه القصّة لا لتؤكّد عظمة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من خلال إخبار النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لعديّ بن حاتم بالمغيِّبات، لأنّ ذلك ليس مجال حديثنا هنا، كما أنَّنا نتحفَّظ حول هذا الموضوع، لأنّنا لم نألف من النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هذا الأسلوب في دعوة الآخرين إلى الإسلام، فيمنّيهم بالمال والجاه والسلطان، لأنَّ هذا كلّه ليس هدفاً للإسلام من حيث كونه موجباً للرغبة الذاتية لدى الناس، وقد يؤكّد هذا التحفُّظ أنَّ صاحب الطبقات الكبرى لم ينقل هذه التفاصيل عند نقله لهذه القصّة، بل إنَّنا ننقل هذه القصّة لنؤكّد عظمته في وقوفه الطويل مع المرأة الضعيفة الكبيرة التي استوقفته في الطريق طويلاً من أجل حاجتها، وفي تواضعه الرائع في بيته مع عديّ بن حاتم الذي جاء ليدخل في الإسلام، حيث جلس على الأرض، وأجلس ضيفه على الفراش ممّا أوحى لعديّ بعظمة النبوّة التي تتعاظم وتستطيل على عظمة المال والمُلك والشرف.
إنَّ كثيراً من هذه الّلفتات الرائعة التي تعبِّر تعبيراً رائعاً عن الإسلام وعن أخلاقه وتعاليمه وعن شخصيّة النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في حياته العامّة والخاصّة، جديرة بالدراسة الدقيقة الواعية التي تكشف الكثير من جوانب الدعوة الإسلامية، والعلاقات الإسلاميّة بين الحاكم والمحكومين، في إطار التنظيم الإسلامي للحياة.
مخاطبة الأُمّة في القرآن من خلال النبيّ
تتنوَّع الأساليب القرآنية في الدعوة من أجل تعميق المبدأ، وشموله وامتداده، وارتفاعه عن أيّ موقع من المواقع التي تتميَّز بضخامة المركز وقداسته، فيترك للإنسان انطباعاً رسالياً، عن الخطّ الرسالي الذي يقف عند الرسالة، ولا يتوقّف عند الشخص مهما كان مركزه أو موقعه في الحياة.. فهي الأساس والأصل، أمّا الأشخاص فهم الأدوات الحيّة لتنفيذها وتجسيد مفاهيمها في الواقع، وهي القيمة التي ينطلق التقييم من خلالها ليصنّف الناس إلى قسمين، قسم يلتزم بها ويرعاها ويحميها ويعمل بها ولها، فهم المخلصون المؤمنون العاملون، وهم المقرّبون لدى الله والناس، وقسم يرفضها ويعاديها ويحاربها ولا يعمل بها، بل يعمل ضدّها، فهم الكافرون المنافقون المتخاذلون، وهم البعيدون عن الله وعن الناس.
وبهذا كانت الرسالة مصدراً لتقييم الإنسان، وليست الاعتبارات الأخرى من مال أو جاه أو نسب أو جمال أو علم.. ولذا، فإنَّ قيمته الإنسانية بما يحقّق من عمل، وبما يعطي من نتائج، وبما يبني من خير وحياة.. وعلى أساس هذه الحقيقة كانت القاعدة الإسلامية التي قرَّرها القرآن الكريم بقوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات : 13].
وقرَّرها النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في الحديث المأثور عنه: "لا فضل لعربيّ على أعجمي ولا لأبيض على أسود، إلاّ بالتقوى".. وليست التقوى إلاّ الكلمة الدينية التي تعبّر عن الانضباط النفسي مع الفكرة كسبيل من سبل الانضباط العمليّ الذي يحقّقه الإنسان من خلاله في حياته وعلاقاته.
وقد عبَّر عنها القرآن في آيات أخرى بطريقة تُبرز الجوانب التفصيلية للمبدأ، وهو يتحرّك في الحياة، وذلك هو قوله تعالى في حديثه عن المجاهدين والقاعدين، أمام شريعة الجهاد من أجل إعلاء كلمة الله.
{لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُـلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً*دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} [النساء: 95 ـــ 96].
وقوله تعالى: في حديثه عن إبعاد الكثرة والقلّة عن مقياس التقييم واقتصاره على طبيعة الالتزام بالمبدأ: {قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُواْ اللّهَ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 100].
وقوله تعالى: في حديثه عن الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله قبل الفتح والذين ينفقونها بعد ذلك: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [الحديد: 10].
ولم يقتصر القرآن الكريم على هذا الأسلوب في معالجة الفكرة.. بل حاول أن يؤكّدها بأسلوبٍ آخر، وهو إثارة قضية الانحراف، كفرضيّة مطروحة في سلوك النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ليسجّل ـــ من خلالها ـــ المبدأ الذي ألمحنا إليه، وهو استبعاد قداسة الشخص وقداسة المركز عن موضوع المسؤوليّة وتحمّل نتائج المسؤولية ومبدأ التقييم الإنساني.. فالانحراف يساوي في الإسلام العقاب والبُعد عن الله، وانحطاط الدرجة.. من غير فرق بين أن يفرض الشخص الذي يمارسه نبيّاً أو وليّاً أو إنساناً عادياً من سائر الناس.. وقد عبَّر القرآن الكريم عن ذلك بآيات عديدة نقدّم بعضها أمام هذا الحديث: قال تعالى: في حديثه عن الشرك وتأثيره في حبط الأعمال، في خطاب موجّه إلى النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وإلى الأنبياء الذين سبقوه: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر : 65].
وقال تعالى: في حديثه عن القرآن بأنَّه تنزيل من ربّ العالمين، ورَفَض الكلمات التي يوجّهونها إليه من نسبته إلى قول الشعر والكهانة، وتهديده بالعذاب كلَّ من يتقوَّل على الله ما لم يَقُلْه حتّى ولو كان ذلك الإنسان شخصَ النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، لأنَّ عظمته انطلقت من إخلاصه لله وصدقه مع نفسه ومع قومه ومع ربّه، فإذا انحرف عن ذلك ـــ في فرض محال غير واقع ـــ لتغيَّرت قيمتُه ومنزلتُه إلى الجانب المضادّ الذي يُثبت الهوان والعقوبة والبعد عنه.
{وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ*لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ*ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ*فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقّة: 44 ـــ 47].
وقال تعالى في حديثه عن محاولة الكفّار للتأثير النفسي على النبيّ، في دفعه إلى الافتراء على الله والاستسلام إلى خططهم والركون إليهم: {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً*وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً*إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً} [الإسراء: 73 ـــ 75].
ونحن نعلم أنَّ القضية في هذه الآيات لا ترجع إلى استسلام النبيّ لذلك، بل ترجع إلى الأساليب المرنة التي استعملوها معه، بحيث لو كانت مع غيره لانتهت إلى النتيجة التي يريدونها.
وقد جاء في الحديث النبويّ المشهور الذي حاول أن يطرح هذا المبدأ الإسلامي، في إطار القاعدة العامّة ونتائجها الاجتماعية: "إنَّما أَهْلَكَ مَنْ كانَ قبلَكُم أنَّهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحدّ، والله لو سرقت فاطمة بنت محمّد لقطعتُ يدها".
أمّا علاقة هذا كلّه بأسلوبنا العملي في الدعوة إلى الله ـــ فيظهر ـــ لنا بوضوح من خلال عدّة نقاط:
1 ـــ إطلاق الأساليب في هذا الاتجاه، باستيحاء الطريقة القرآنية، في عرض المسؤوليّات التي تترتّب على واقع الانحراف في المجتمع، ومواجهة الفئات التي تملك رصيداً اجتماعيّاً كبيراً، بنفس المستوى الذي تواجه به الفئات الأخرى التي لا تتمتَّع بهذا الرصيد، فلا يصار إلى إخضاع الأسلوب للقوّة والضعف، فنحمل على الضعيف ما لا نحمله على القويّ، فنجامل هذا في خطاب المسؤوليّة، فنلين معه ملاحظةً لمركزه، ونشتدّ على ذلك ونعنّفه ونثير عليه الدنيا ونُقعدها، كما يفعل البعض في أسلوبه عندما يبدأ في عرض حالات الانحراف الديني ونتائجها، فيغلق على الفقراء أبوابَ الجنّة، ويفتح لهم أبواب النار على مصراعيها، فإذا جلس مع الأغنياء والوجهاء أعطاهم مفتاح الجنّة لأقلِّ عملٍ من أعمال الخير التي يقومون بها، ومنحهم ورقة الأمان من النار حتّى لو فعلوا الكبائر.. حرصاً على عواطفهم، أن لا تمسّ، ومشاعرهم ان لا تُخدش ومزاجهم أن لا يتكدَّر.
2 ـــ الاستفادة من أسلوب القرآن في مخاطبة النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأنبياء من قبله، بالعنف في فرض الانحراف عن الخطّ، للإيحاء إلى أفراد الأُمّة الآخرين بأنَّهم ليسوا في مستوى أرفع من العقوبة، ما دام الأنبياء لا يرتفعون عن هذا المستوى، لو لم يرتفعوا عن حالة الانحراف.. أمّا مجالات هذا الأسلوب في الإطار العام، فهو الانطلاق به لتأكيد هذه الحقيقة التي ذكرناها آنفاً وهي المساواة في تحمّل المسؤوليّة ونتائجها، بين أصحاب الدرجات الرفيعة حتّى مستوى القداسة وبين أصحاب الدرجات العادية.
أمّا في الإطار الخاص، فقد نستفيد منه في الحالات المعقّدة التي يصعب فيها مواجهة شخص بالوعظ والإرشاد والدعوة إلى الله، أو لا يكون ذلك أمراً عملياً، من ناحية الظروف الموضوعيّة المحيطة بالموقف، فيمكن لنا أن نلجأ إلى مثل هذا الأسلوب في مخاطبته. وذلك بأن نخاطب شخصاً آخر ذا مركز رفيع بالفكرة التي يُراد دعوة الشخص المطلوب إليها، ليفهمها من خلال هذه الطريقة الإيحائيّة الحكيمة من دون إثارة أيّة سلبيّات مفروضة، وهذه الطريقة شائعة في الأساليب العربية، وقد ورد عن بعض أئمَّة أهل البيت، أنَّ القرآن قد نزل على طريقة "إيّاك أعني واسمعي يا جارة".. وقد نحتاج إلى جهدٍ كبير لنعرف ضرورة التوفّر على دراسة طبيعة الشخص الذي يُراد دعوته بهذا الأسلوب، من حيث قابليّته الذهنيّة في سرعة الانتباه، ومن حيث تأثّره بالخطاب الذي يُوجَّه إلى الشخص الآخر، ومن حيث طبيعة القضايا التي تُثار في الأجواء المناسبة للموقف.
3 ـــ الممارسة العملية للفكرة، باعتماد الخطّ الإسلامي الذي يساوي بين الناس في المسؤوليّة ونتائجها ويجعل التفاضل تابعاً للأفضليّة في العلم والعمل، وتطبيقه على الخطّة العملية في علاقة الدعوة الإسلامية بالعاملين وغير العاملين من أتباعها، سواء في المهمّات الموكولة إليهم، أو في مبدأ العقاب والثواب المترتّب على الأعمال التي تصدر عنهم.. لأنَّ ذلك هو السبيل الأفضل، للوصول بالعمل إلى غايته أوّلاً.. ولتحقيق الانسجام بين النظرية والتطبيق ثانياً.. لاسيّما في الإطار التوجيهي والتبليغي للدعوة الإسلامية الذي يجب أن يشعر العاملون معه، بأنَّه يجسّد ـــ في ممارساتهم ـــ الخطّ العريض الذي يريدون من الناس السير عليه.. وأنَّ القمّة لا تنفصل عن القاعدة، في المسؤوليّات وفي النتائج.
4 ـــ التوفّر على دراسة التطبيقات العملية، من الوجهة التاريخيّة، سواء ما حدث في حياة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أو الصحابة، أو الأئمّة من أهل البيت، أو العلماء المسلمين، لأجل الاستفادة منها في أساليبنا المستقبليّة، باعتبارها تجارب رائدة، تزيد النظرية عمقاً وشمولاً، وللتدليل على واقعيّة الأساليب القرآنيّة في كلِّ مراحل الحياة.
أسئلة وأجوبة حول الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)
إنّنا عندما نريد أن نتحدّث عن رسول الله محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لا نحتاج إلى من يذِّكرنا به، ولا نحتاج إلى أيّ مناسبة تربطنا به، فنحن في صلاتنا نبدأ يومنا بالشهادة له بالرسالة، كما نبدأه بالشهادة لله بالوحدانية، نعيش في صلاتنا مع اسمه عندما نصلّي عليه في كلّ ركوع وسجود استحباباً.. لا نحتاج إلى من يذكّرنا به عندما نذكره في تشهُّدنا وتسليمنا، فكلّ مسلم يتذكّر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في كلّ صلاة وفي كلّ يوم وفي كلّ حجّ.. يذكره في كلّ ما يريد أن يمارسه من أفعال على أساس حكم الله في هذا الفعل أو ذاك.
إنَّنا نتذكّر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في كلّ سيرة حياتنا الخاصّة وحياتنا العامّة، فعندما نوحي لأنفسنا أو يوحي إلينا الآخرون.. أو ننبِّه أنفسنا أو ينبّهنا الآخرون أنّ هذا الأمر حلال، نتذكّر أنّ رسول الله هو الذي جاء بحليّته، أو أنّ هذا الأمر حرام نتذكّر أنّ رسول الله هو الذي جاء بحرمته.
ولهذا فإنّنا في كلّ حياتنا كمسلمين نشعر أنّ الرسول ما يزال معنا يدعونا، كلّما سمعنا آية، وكلّما سمعنا حديثاً عنه، وأنّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقودنا كلّما أردنا أن نسير على خطّه.
لهذا فنحن لن ننتظر مولده وإسراءه ومعراجه لنتذكّره، ولن ننتظر أيّة مناسبة من المناسبات التي تتّصل بحياته لنتذكّره، لأنّنا نتذكّره بالإسلام كلّه وبالحياة كلّها.
مع معطيات ولادته (صلّى الله عليه وآله وسلّم)
ـــ اعتاد المسلمون في كلّ ذكرى سنوية لولادة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن يحتفلوا بها بشكلٍ خاص يعبّر عن فرحتهم بهذه المناسبة الكبرى، كيف ترون سماحتكم المعطيات الحركية لولادة الرسول؟
في كلّ مرّة تمرّ فيها الذكرى العطرة لولادة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يطيب للمؤمن أن يشعر أنّه يولَد من جديد، يولَد على أساس وحي الله، وعلى أساس رسالة الله ونهجه في الحياة، لأنّ الله يريد لكلّ إنسان منّا أن يعيش حياته ليولَد كلّ يوم ولادة جديدة، على أساس أنّ كلّ يوم من أيام حياتنا يمثّل عمراً جديداً، له قضاياه ومشاريعه وعلاقاته وأجواءه.
يريد الله سبحانه وتعالى في كلّ يوم أن نقف أمامه، لنشعر أنّنا ولدنا من جديد، وأنّ علينا أن نواجه كلّ ما حولنا بطريقة من التأمُّل والتدبُّر والتفكير.. فنراجع كلّ حسابات الأيام الأخرى، لنعتبر أنّ تلك الأيام قد ماتت وبقيت لنا حساباتها ومسؤوليّاتها.
عندما نعيش ولادة يوم جديد، نحاول من خلاله أن نضبط حساباته، وأن نركّز مشاريعه، وأن نستقبل الله بعقلٍ جديد في حيويّة ونشاط وشعور بالمسؤولية.
هكذا يريدنا الإسلام أن نكون، أن لا نشعر بثقل الزمن علينا، لأنّ، ذلك يجعلنا نسقط أمام الحياة، ونتقاعد عنها، ونهرب منها، ونتخلّى عن مسؤوليّتها.
في الإسلام لا يتقاعد الناس عن المسؤوليّة، ولكنّهم يتقاعسون عن بعض الأعمال التي تثقل أجسادهم، فلا يستطيعون أن يقوموا بها، ثمّ يختارون بعد ذلك عملاْ يتناسب مع إمكاناتهم ليواجهوا المسؤولية من خلال ذلك العمل، لأنّه ليس في الإسلام أُناس يجلسون بدون عمل، وبدون فكر، وبدون ممارسة للمسؤوليّة، لينتظروا الموت فقط!
إنّ الله سبحانه لا يرضى أن ينتظر الإنسان الموت وهو بعيد عن المسؤوليّة، بل يريد له أن ينتظر الموت وهو مسؤول، يعمل ويتبنّى الحياة بكلّ جهده..
على الإنسان أن يفكّر أنّه يموت، ولكن فليفكّر أنّه لا بدّ أن يبقى بعده شيء من الحياة يتّصل به، فهو قد عاش حياته والآخرون هيّأوا له هذه الحياة، وعليه أن يهيّئ من بعده شيئاً من حياته، يبقى لهم يعينهم على استمرار الحياة.
وفي ضوء هذه المعطيات، عندما نريد أن نستقبل ذكرى مولد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) نريد أن نولَد ولادة إسلامية جديدة، نشعر فيها بأن نتخلّص من كلّ التاريخ الذي أثقلنا بالجاهليات الآتية من الشرق والغرب، ونحاول أن نولَد من جديد على أنقاض ما نتخلّص فيه من كلّ التخلّف والجهل الذي عشنا.. فيما أخذناه من عصور التخلّف، ومن مواقع التخلّف في الحياة.
إنّ علينا أن نقف أمام العالم لنقول: بأنّنا بالإسلام نولَد، وبه نعيش ونتجدَّد، لأنّ الإسلام يريد للإنسان أن يتجدَّد في فكره ونشاطه وطاقاته، ليجدّد الحياة من حوله، وليعطيها نشاطاً جديداً، وقوّة جديدة.
الإسلام لا يرحّب بالكسالى، الذين يظلُّون في كلّ يوم ينتظرون اليوم الثاني ليعملوا، فإذا جاء اليوم الثاني فإنّهم ينتظرون اليوم الثالث، وهكذا..
الإسلام لا يحترم الذين يريدون الرّزق وهم جالسون، ويريدون النصر وهم نائمون، ويريدون الحياة وهم ميّتون في داخل أنفسهم أمام الحياة.
إنّما الإسلام للعاملين المجدّين والمتحرّكين، للمجاهدين في سبيل الله، في كلّ واقع ينتظر حريّتهم وجهدهم وحركتهم.
فبمقدار أن يكون الإنسان عاملاً في الحقل الذي يحمل مسؤوليّته، بمقدار ما يكون حبيباً لله وقريباً منه.
فعندما يعيش الإنسان في عمله، ويطلب الرزق له ولعياله فهو حبيب الله.. وعندما يعلّم الناس من علمه فهو حبيب الله، وعندما ينظّم حياة الناس الاقتصادية والأمنية والسياسية، وعندما يجاهد بكلّ ما عنده من طاقة، فهو حبيب الله.
إنّ الله سبحانه يريد من الإنسان أن يعبده من خلال توجيه عقله فيما يريده، وأن يعبده من خلال تحريك علمه فيما يرضاه.
إنَّ الذين يحتفلون برسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هم الصّامدون في مواقع الجهاد، والثابتون في مواقع الدعوة، وهم المتحرّكون في مواجهة التحدّي، الذين يتحرّكون باتجاه رسول الله، لكي يكونوا في كلّ مرحلة يمرّون بها أُمناء على دعوته وإسلامه.
{قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران: 31].
هذه طريقة الاحتفال بالمولد، ان يتبع الناس الرسول في كلّ ما أمرهم به عن الله سبحانه وتعالى، وفي كلّ ما نهاهم عنه بأمر الله.
على المرء أن يعرف إيمانه وإسلامه، وليحاول أن يجعل من ذكرى رسول الله أساساً ليفكّر أنّ هناك هجمة على الإسلام، تفوق الهجمة التي وجّهت إلى الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عندما بدأ الإسلام، وأنّ هناك نوعاً من التسويات التي يراد من المسلمين أن يدخلوا فيها حتّى يخلطوا بين الإسلام وبين الكفر.
إنَّ ما نريده في العقلية الجديدة هو أن يعيش رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في فكرنا وواقعنا وحياتنا، لتكون أفكارنا هي أفكار رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم).. وأن تكون مشاعرنا تحبّ من يحبّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وتعادي من يعادي.
وهكذا تكون خطواتنا العملية هي خطوات رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فعندما يلين رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مع الناس الذين يعيش معهم ويرقّ لهم ويعطف عليهم ويتسامح معهم، نحاول أن نلين في النماذج التي لانَ لها رسول الله، ونسامح الناس الذين يمثّلون الناس الذين سامحهم رسول الله، وعندما يعنّف رسول الله، نتحرّك في الطريق الذي تحرّك فيه، فنعنّف حيث نراه يعنّف.
وهذا ما أرادنا الله سبحانه وتعالى أن نعيشه مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، يقول سبحانه وتعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب: 21].
لقد كان رسول الله الأُسوة الحسنة لنا، لذا يجب علينا أن نجعل من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قدوة لنا، نتأسّى به ونتعلَّم منه، فذلك هو الذي يربطنا به، ويجعل علاقتنا به علاقة وثيقة من خلال رسالته وحياته، لكي تكون حياتنا حياة رسول الله، ويكون مماتنا مماته (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، لأنَّ الله يريد لنا أن نمضيَ مع رسول الله في طريقه.. نستهدي به ونتّجه معه إلى هدفه.
محاولات القضاء على الأصال الإسلامية
ـــ ما هي الرؤية التي تقدّمها سماحتكم للمحاولات المضادّة التي تستهدف أصالة العقل الإسلامي، وتحاول تسطيح رؤيته للخطّ والمنهج الأصيل الذي جاء به الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)؟
في مرحلتنا الحاضرة وفي كلّ مراحلنا التي سبقت ولحقت، يراد لنا أن نخلط بين الإسلام والكفر، ليقولوا لنا إذا أمسكتم بالإسلام كلّه من أصوله فأنتم متطرّفون.. إنّهم يقولون اتركوا الجذور، لا تأخذوا محمّداً في دعوته، ولكن خذوا محمّداً في اسمه فقط.
يقولون: خذوا الإسلام صلاة لا تفهمونها، وخذوا الإسلام صوماً لا يمتدّ إلى أن تكون لكم إرادة الرفض في المسألة السياسية، وخذوا الحجّ فريضة لا تستفيدوا منها في أيّ مجال من مجالاتكم العامّة.
طوفوا بالبيت بشرط أن لا تفهموا معنى الطّواف، واسعوا بين الصّفا والمروة بشرط أن تعتبروها مجرّد سباق بين الصّفا والمروة.. وهكذا ارجموا الشيطان بحجارتكم بلا معنى، بشرط أن لا ترجموا الشيطان في الواقع بسياستكم، وبكلّ وسائلكم في رجم الشيطان..
خذوا الإسلام شكلاً واتركوه مضموناً، خذوا الإسلام طقوساً واتركوه خطّاً وجهاداً، حتى تريحوا كلّ مواقع الكفر ومواقع الاستعمار ومواقع الاستكبار، لأنّ الاستكبار لا يزال منذ الجاهلية يفكّر كيف يقضي على الإسلام في نفوس المسلمين، قبل أن يقضيَ عليه في حياتهم.
لم يدعونا رسول الله إلى نفسه أو زعامته.. ولم يدعونا إلى عشيرته أو أيّ شيء يخصّه، إنّما دعانا إلى الله، كما دعا نفسه إلى الله، آمن بالرسالة ودعانا إلى الإيمان بها، وصدّق الرسالة ودعانا إلى التصديق بها، وعبد الله ودعانا إلى عبادته.
كان أوّل المؤمنين، وأوّل العابدين، وأوّل السائرين على الخطّ، فهو المسلم الأوّل في إيمانه، والأوّل في جهاده وصبره، وإخلاصه لله سبحانه وتعالى، داعياً إلى الله بإذنه، يقول للنّاس: أيُّها الناس إنّ الله خلقكم من نفس واحدة وإنّ الله هو الذي يميتكم ويبعثكم، ما بكم من نعمة فمن الله، لا تملكون شيئاً إلاَّ ما يملككم الله إيّاه.
يقول سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24].
فالله لا يدعوكم إلى أن تموتوا في الحياة، بل يدعوكم إلى أن تحيوا حياتكم كأفضل ما تكون الحياة، وأن تتحمَّلوا مسؤولية الحياة كأفضل ما تكون المسؤولية. إنّ الله يدعونا إليه والرسول يدعونا إلى الله ليحرِّر إرادتنا من الخضوع لأيّ عبد مثلنا، ليجعل لنا حريّة الفكر، وحريّة الروح، وحريّة الحركة، وحريّة الشعور، لنبقى عبيد الله وحده.
لقد بدأ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الخطوة الأولى وشقَّ لنا الطريق، فكيف نقف الآن، وكيف نتحرّك، وكيف نواجه التحدّيات في الساحة الإسلامية، هناك مشكلة نعيشها الآن كما كنّا نعيش مشكلة سابقة في الفترة الماضية.
في الماضي كان هناك إسلام بلا سياسة، كان هناك إسلام يتحدّث فيه القادة المسلمون عن الفكر، وعن الروحانية، وعن الأخلاق، وعن كلّ هذه الجوانب التي تمثّل الإسلام فكراً وشريعة ومنهجاً، ولكن لم تكن هناك سياسة بمعنى الحركة التي تواجه الواقع من أجل تغيير الواقع على أساس الضغط عليه، ولهذا كان الإسلام يمثّل جوّاً فكرياً يختلف عمقه وسطحيّته باختلاف المفكّرين.
أمّا في الوقت الحاضر فنحن نعيش حركية الإسلام، الحركة التي تتحدّى والتي تواجه، وتفجّر الساحات، والتي تقتحم الموانع، والتي تتعرَّض للأخطار، والتي تواجه الكثير من المشاكل.
إنّنا نريد أن نركّز الإسلام من القمة إلى القاعدة، أن نجعل كلّ حياتنا في خدمة دين محمّد وشريعته ونهجه.. والالتزام بكلّ خطّه.
علينا أن لا نأخذ من محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) صلاته وصيامه وحجّه، ونترك أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر وجهاده في سبيل الله، علينا أن لا نأخذ من محمّد تسامحه ولينه في كلامه، ونترك صلابته في دينه وشدّته في مواجهة التحدّيات.. علينا أن لا نأخذ بعض صفاته ونترك بعض صفاته الأخرى.
موقعنا من الرسول ومن الإسلام
ـــ خلال الفترات السابقة ظهرت محاولات فكرية أرادت أن توجد علاقة ارتباط مع الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بصفته العربية كما في الاتجاه القومي، وكذلك هناك محاولات تريد التنظير لعلاقة ثقافية مع الرسول بدون التركيز على القيمة العقيديّة، ما هو الموقف الإسلامي من هذه المحاولات؟
لقد جاء رسول الله محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالصدق الذي هو الإسلام كلّه، وأردنا أن نصدّق به كما صدَّق هو به، لهذا فنحن نعيش معه كلّما عشنا مع الإسلام، وهذا ما يجعل ارتباطنا برسول الله ارتباطاً بالإسلام، لأنَّ رسول الله ليس له صفة تربطنا به إلاّ صفة أنّه رسول الله، ولذلك فإنّ علينا أن نؤكّد هذه الصفة التي أكّدها الله سبحانه وتعالى: {مَّا كَانَ محمّد أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب : 40].
هو رسول الله في وعينا، لهذا لم يحبّ أحد رسول الله، إذا لم يحبّ الإسلام، ولم يخلص أحد لرسول الله إذا لم يخلص لخطّ الإسلام، ولم يطع أحد رسول الله إذا لم يتحرّك في حركة الإسلام.
ليس ارتباطنا به ارتباطاً شخصياً، ولكنّه الارتباط الرسالي، لأنَّ أن نؤمن برسول الله، وأن نحبّه ونخلص له، هو أن نقف حيث وقف، وأن نتحرّك حيث تحرّك، وأن ندعوَ حيث دعا.
لقد جاء الرسول من أجل أن يركّز في حياة كلٍّ منّا إخلاصاً لله، أراد أن يربطنا بالله قبل أن يربطنا بشخصه، وعندما ربطنا بشخصه فإنّه فعل ذلك من خلال ارتباطه بالله سبحانه وتعالى، لم يرد لنا أن نعظِّمه مع الله، بل أراد لنا أن نعظّمه من خلال أنّه عبد الله، لذا أردنا أن نقول أشهدُ أنَّ محمّداً عبده ورسوله، لكي نشعر بأنّ رسول الله يرتفع كلّما ارتفع في عبوديّته لله وفي طاعته، حتّى نأخذ ذلك درساً، وهو أن لا نجعل أحداً مع الله مهما كانت عظمته، من أولياء الله، ومن العلماء ومن المجاهدين، ومن الأبطال، لأنّ كلّ عظيم في خطّ الإسلام فإنّ عظمته تبدأ حيث تبدأ عبوديّته لله.
إنَّ عظمة رسول الله محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنّه كان عبداً مخلصاً لله، وعظمة الإمام عليّ (عليه السلام) أنّه كان عبداً مخلصاً لله، وعظمة كلّ الأئمّة (عليهم السلام) أنّهم كانوا عباد الله المخلصين.
لا قيمة لمسلمين يرتبطون بمحمّد ولا يرتبطون برسالة محمّد، إنّ رسول الله يرفض أن ترتبط الناس به من خلال اسمه فقط، فنحن مسلمون ننطلق من خلال رسول الله، لا من خلال ذاته.
قد يتحدّث البعض إلى الناس عن محمّد كعبقري، وعن محمّد كمصلح، وعن محمّد أنّه عاش آلام العروبة واختزن كلّ مشاعرها، وثار من أجل أن يؤكّدها.
أجل.. محمّد عبقري، مصلح، ثائر عظيم، ولكن ليست تلك الصفات صفاته الذاتية عندنا، لأنَّ صفة محمّد عندنا هي رسول الله يوحى إليه من ربّه، فمن أنكر الوحي أنكر الإسلام.. ومن أنكر رسالة رسول الله الآتية من الله فقد أنكر الإسلام.
مع شهادته (صلّى الله عليه وآله وسلّم) علينا
ـــ تحدَّث القرآن الكريم عن الرسول الشّاهد والمبشّر والنذير.. كيف نستوحي هذه المفاهيم القرآنية في حياتنا الخاصّة والعامّة؟
إنَّ من قِيَم الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنّه الشاهد علينا، شاهد بحضوره عندما كان حاضراً، وشاهد برسالته، وشاهد بكلّ الناس الذين جعلهم أوصياء له ونوّاباً له وخلفاء له. {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً*وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً} [الأحزاب: 45 ـــ 46].
يقدّم الشهادة أمام الله عن كلّ العالم الذي تحمّل مسؤوليّته، وعن كلّ الأُمّة التي وجّه إليها رسالته شاهداً عليها، يقدّم لله الشهادة عمّا صنعه في حياته، وعمّا صنعته الأُمّة بعد حياته، هل انسجمت الأُمّة مع رسالته؟ هل سارت مع شريعته؟ هل حملت مفاهيمه؟ هل حملت أهدافه وتطلُّعاته؟. أم أنّها سارت مسار ما كان قبلها من الأُمم، أخذت القشور، وتركت الّلباب، وأخذت الشّكل وتركت المضمون، وتحرَّكت في السطح وتركت العمق!
فلننظر كيف نواجه شهادة رسول الله، فهو الشاهد علينا! {لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ...} [الحج: 78].
نحن حملة الرسالة الذين ننتمي إلى الله ومن خلال رسالاته، ومن خلال شريعته، نحن أيضاً علينا أن نعيش الشهادة على الناس من خلال رسالاته وشريعته، فهل نحن في مستوى الشهادة؟ وهل نحن في مستوى المسؤولية؟ هذا ما يريده الله أن نعيشه.
{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً...} [الأحزاب: 45].
يبشّر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الناس برضا الله إذا أطاعوه، وبجنّته إذا ساروا على منهاجه، ويبشّرهم بحياة طيّبة رضيّة، إذا عملوا بما يريده من أحكام ومن واجبات، لكلّ حكم من الأحكام يبلّغه رسول الله إلينا.. وكلّ طاعة من طاعات الله، يدعونا الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إليها، فهي بشارة لنا في حياة نعيشها كأسعد ما يعيش الإنسان من حياة، وبآخرة ينطلق فيها الإنسان كأفضل ما ينطلق الإنسان في آخرته.
هكذا بشّرنا رسول الله، ويريدنا رسول الله، ويريدنا الله دائماً أن نستحضر البشارة في وعينا وأفكارنا.
على الإنسان في كلّ عمل أن يفكّر بأنّ رسول الله بشّره بالجنّة، فإذا كان الإنسان طيّباً صالِحاً، يكون بركة على نفسه وعلى الآخرين.
على الإنسان أن لا ينسى بشارة الله لنا بالجنّة، ولا ينسى بشارة الله لنا بالحياة الطيّبة، ولا ينسى بشارة الله له برضاه.. أن لا ينسى ذلك لأنّه إذا ذكر ذلك، ذكر كيف يوفّق بين أعماله وبين البشارة.
أمّا إذا نسي الآخرة ونسي الجنّة، ونسي رضا الله، ونسي مصيره فإنّه سيتحرّك عشوائياً، يسقط في حفرة هنا ويخرج منها ليسقط في حفرة أخرى كالأعمى، يصدمه جدار هنا وجدار هناك، ولا يهتدي السبيل.
{الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل : 32].
هكذا فليفكّر الإنسان.. أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) جاء مبشّراً لنا بالجنّة وبرضا الله، وبالحياة السعيدة الطيّبة الرضيّة.
وعندما يذكر الإنسان البشارة، فليذكر العمل الذي يجعله بمستوى البشارة يقول سبحانه وتعالى:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ*يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج: 1 ـــ 2].
لقد أنذرهم الله من خلال رسوله ومن خلال القرآن، وأنذرنا إذا كفرنا وإذا عصينا، وأنذرنا إذا انحرفنا، وأنذرنا إذا عبدنا الطاغوت أو اتّبعناه، وأنذرنا إذا عبدنا الشيطان، أو اتّبعنا الشيطان وأولياء الشيطان، فإنَّ الله أنذرنا عذاباً شديداً.
{يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الإنفطار : 19].
لقد أنذرنا رسول الله بكلّ ما أمر الله أن ينذرنا به، لم ينذرنا بالآخرة فقط، بل أنذرنا بنتائج عملنا في الدنيا:
{وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} [النحل: 112].
{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41].
أنذرنا عذاب الدنيا من خلال ما نفعله من أعمالنا، كما أنذرنا عذاب الآخرة. وفي يوم القيامة يأتي النداء من الله شعار يوم القيامة:
{الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ} [غافر: 17].
{وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (118).
إنَّ الله أعطاهم عقلاً وعيناً وإرادة. دلَّهم على طريق الخير وشجّعهم عليه، ودلّهم على طريق الشّر وأبعدهم عنه، ولكنّهم ساروا مع شهواتهم فأنكروا الحقّ وهم يرونه، وساروا مع الباطل وهم يعرفونه.. فظلموا أنفسهم لأنَّهم سيروا أنفسهم في الطريق الذي يهلكهم في الدنيا ويهلكهم في الآخرة.
ومن هنا فليذكر الإنسان إنذارات الله إليه إذا دعي إلى معصيته أو الكفر والإشراك به.. وليذكر الإنسان إنذارات الله إذا دعاه إنسان إلى أن يقتل الناس أو يسرقهم أو يعتدي على أعراضهم أو يؤذي الناس فيما لا حقّ له فيه، ليذكر إنذارات الله وليذكر قوّة الله التي لا يمكن أن يثبت أمامها.
من الولادة إلى النبوّة
ـــ نلاحظ أنّ القرآن لم يحدّثنا عن ولادة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، كيف ولد وأين ولد وفي أيّ الأجواء الروحية أو الغيبيّة، في حين تحدّث عن ولادة السيّد المسيح في أكثر من آية، ما هو تفسيركم لهذه المسألة؟
عندما تحدّث القرآن عن ولادة السيّد المسيح (عليه السلام) إنّما تحدّث عنها لأنّها تمثّل مظهراً من مظاهر قدرة الله، لا على أساس خصوصيّة في ذكر الولادة. إنّ القرآن لم يحدّثنا عن ولادة إبراهيم ولا عن ولادة موسى، ولا عن ولادة محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، حدّثنا فقط عن خلق آدم، وحدّثنا فقط عن ولادة عيسى، لأنّ الله أراد أن يعطينا من خلال ولادة عيسى الفكرة في قدرة الله سبحانه وتعالى.
{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [آل عمران : 59].
يريد الله أن يعطينا الفكرة عن قدرته، وهو أنّه قادر على أن يبعث الحياة في النطفة فيكون الولد من خلال الزوجين، وهو قادر على أن يخلق إنساناً بدون أب وأُمّ، وقادر أن يخلق إنساناً من دون أب.
عندما وُلِدَ الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وُلِدَ وهو طفل يتيم، مات أبوه قبل أن يولَد، وكان فقيراً يعيش الضعف من خلال ظروفه المالية، تكفّله عمّه أبو طالب بوصيّة جدّه عبد المطّلب، فأصبح الناس ينادونه يتيم أبي طالب. كان الله سبحانه وتعالى يربّيه بلطفه وبرحمته فيلقي في قلبه كلّ إشراقات الإيمان، فيحرِّك الإيمان في قلبه من خلال تأمُّلاته ومن خلال أفكاره ومن خلال ابتهالاته لربّه. فقد التقى بربّه قبل أن يبعث نبيّاً رسولاً، وقد اعتزل الناس في غار حراء قبل أن يبعث نبيّاً ورسولاً.
وقد ربَّى نفسه وألزمها بأن يكون الصادق في القضايا الصغيرة والكبيرة، حتّى لم يستطع أحد أن يحصيَ عليه كذبة حتّى في حالة مزاح، كما ألزم نفسه أن يكون الأمين الذي يشعر من خلال روح الأمانة في حياته، أن يكون الإنسان الذي يعيش في المجتمع فيحمّل نفسه مسؤولية أن يكون أميناً على المجتمع من حوله، أميناً على ماله، لا يأخذ مال أحد حتّى لو كان مشركاً أو كافراً، أميناً على أرواح الناس وأميناً على أعراضهم.. وهكذا انتقل اسمه من كلمة يتيم أبي طالب إلى كلمة الصادق الأمين.
كان يعيش ويعيش الصّدق معه.. عندما يلتقي أيّ شخص ويحدّثه فيرى ذلك الشخص أنّ الصدق يتحدّث له، وكان يسير والأمانة تسير معه، كان قدوة للنّاس في صدقه وأمانته قبل أن يدعوَ الناس من خلال رسالته إلى الصدق وإلى الأمانة. لأنَّ الله أراد أن يعدّه للرسالة التي ترتكز على الحقّ. وهل يمكن أن يكون الحقّ لا صدق معه؟ وهل يمكن أن يكون الحقّ لا أمانة معه؟ إنّ الكاذبين يتحرّكون مع الباطل وإنَّ الخونة يطعنون الحقّ في قلبه. كان (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الصادق الأمين.
كان يتعلَّم من خلال الفكرة ويتعلَّم من خلال تأمّلاته، وكان الله يفيض عليه علماً من علمه، ولطفاً من لطفه، ورحمة من رحمته، حتّى استطاع أن يتأدَّب بأدب الله قبل أن يبعث رسولاً لله.. قال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): "أدَّبني ربّي فأَحْسَنَ تأديبي".
بعث الله سبحانه وتعالى محمّداً رسولاً.. كان في غار حراء وجاءه الملك: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ*خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ*اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ*الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ*عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1 ـــ 5].
سيعلِّمك الله وستكون أنت محمّد بن عبد الله المعلِّم الأكبر للحياة كلّها من بعدك {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [الجمعة: 2].
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً*وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً} [الأحزاب: 45 ـــ 46].
انطلق رسول الله وانطلقت الدعوة معه وانطلقت الرسالة معه..
انطلق رسول الله وتجمّع المؤمنون معه، تجمّعت القوّة من خلاله في حركيّة الرسالة، جاء النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من أجل أن يصنع الفكر المتعقّل الواعي، والمجتمع الذي ينشئ الحضارة ويواجه الحضارات بكلّ قوّة.
التجربة الاجتماعية للرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)
ـــ احتلّ الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) موقعاً متميِّزاً في المجتمع المكّي ممّا يفرض أن يكون تأثيره الرسالي سهلاً في ضوء ذلك، لكنّ التجربة النبويّة كانت على العكس فقد واجه الرسول تصلُّباً مغلقاً من قِبَل قومه، كيف نستطيع في ضوء الموقف القرشي أن نستوحيَ التجربة الإسلامية بما يخدم الحركة الرساليّة المعاصرة؟
عندما جاء رسول الله إلى النّاس كان الناس يؤمنون بالخرافات، كانوا لا يفكّرون ولا يتفكّرون في عقولهم بما ورثوه من آبائهم، دون أن يناقشوا ما كان آباؤهم يتحدّثون به، كانوا يسمعون الأشياء، كانت عقولهم في آذانهم يحكمون بما يسمعون ولم يكونوا يحكمون بما يفكّرون، ولهذا قال سبحانه: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46].
كانت مشكلتهم أنّ قلوبهم في عمى، أنّ لهم قلوباً لا يعقلون بها ولهم آذان لا يسمعون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، كان رسول الله ينفتح على الكافرين فيتألَّم لأنّهم يغلقون قلوبهم عن الله ويبتعدون عن شريعته، ويتمرّدون على أحكامه.. وكانوا يضطهدونه جسدياً، فكانوا يلقون عليه الأوساخ وكانوا يرمونه بالحجارة حتّى تدمى رجلاه، ويتبعون كلّ الوسائل في سبيل أن يقهروا شخصيّته.
حاصروه وقاطعوا معه كلّ بني هاشم، وتعاقدوا أن لا يزوّجوهم ولا يتزوّجوا منهم، وأن لا يؤاكلوهم أو يشاربوهم، وما إلى ذلك حتّى ضاق الأمر بهم كثيراً.. كانوا في الوقت نفسه يتحدّثون عنه بلغةٍ تريد أن تسيء إلى مقامه، فإذا تحدّث الناس عن القرآن كرسالة موحى بها من الله، كانوا يقولون هذا شعر، وإذا قدّم لهم بعض آيات الله قالوا هذا سحر وكهانة، وإذا اعوزتهم الكلمات قالوا عنه أنّه كاذب، والكلّ يعرف أنّه الصادق.
قالوا عنه إنّه مجنون.. وكان أبو لهب يسير وراءه والنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يعرض نفسه على القبائل في دعوته، وكان عمّه أبو لهب يقول: لا تصدِّقوا ابن أخي فإنّه مجنون.
كان النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يسمع ذلك كلّه.. يسمع الشتائم والتّهم بأُذنيه وكان يلاقي ما يلاقي.. فهل ضاق صدره؟ هل تعقَّد من الناس؟ هل وقف ليدعوَ على الناس؟
كان النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول: "الّلهمَّ اغفر لقومي فإنّهم لا يعلمون". لا تعذّبهم لأنّ هؤلاء القوم قد عاشوا فترة طويلة من الزّمن في ظلام الجهل والتخلُّف، لهذا فقد تحجَّرت قلوبهم، وتجمّدت عقولهم وابتعدوا عن الصراط المستقيم..
يا ربّ.. إنّي أصبر عليهم، سأدعوهم في الصباح والمساء وفي كلّ وقت حتّى أستنفد كلّ التجارب لينفتح قلب هنا وينفتح قلب هناك.. وينطلق إنسان هنا وإنسان هناك إلى النصر بعد ذلك.
كان (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يصبر على ذلك كلّه ويدعو الله أن لا يعاجلهم العقوبة.. فأيّ قلب أكبر من هذا القلب!!
قالوا إنّه ساحر.. وقالوا كاهن، المهم أنّهم يريدون أن لا يعتقد الناس أنّه نبيّ، قالوا عنه شاعر ومجنون، اتّهموه في عقله واتّهموه بالكذب وقالوا عن القرآن إنّه {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الفرقان: 5].
لقد أخبرنا الله عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنّه عندما كان يسمع قومه يهاجمونه بكلمة مجنون كان يقول: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [سبأ: 46].
كان يريد أن يقول لهم: أنتم تقولون عنّي إنّي مجنون، لكنّي لا أردّ عليكم كلمة في مقابل كلمة، لكن أقول لكم أنّكم مضلّلون، أنّكم مجتمعون على العصبية، يقودكم شخص يطلق لكم شعاراً فتهتفون دون أن تعرفوا ما معنى الشّعار، يثير أمامكم تهمة فتتبعون هذه التّهمة دون أن تعرفوا خلفياتها، لأنَّ العقل الجماهيري الذي يسمّى العقل الجمعي يفقد فيه الإنسان عقله وتركيزه الشخصي، ويصير جزءاً من الجوّ العام.
لهذا قال النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لهم: ما دمتم في هذا الجوّ الانفعالي فلن يفيد الكلام معكم لا تستطيعون أن تفهموا منّي شيئاً، لكن تفرَّقوا اثنين اثنين، قوموا لله.. فرِّغوا قلوبكم لله: لا تفكِّروا بفلان زعيماً وفلان حكيماً، وفلان وجيهاً، فكِّروا بالله فأنتم عبيده الذين يطلبون الحقيقة.
اجلسوا اثنين اثنين وتكلَّموا مع بعض، أو واحداً واحداً يريد أن يفكِّر، وعندما تجلسون بهذه الطريقة وتتأمَّلوا المسألة.. هل أنا مجنون أم لا؟ عند ذلك سوف لا تفكّرون بالانفعال، ستقرؤون كلماتي وستشاهدون أفعالي وستجدون في النتيجة أنّني عندما أُحَدِّثكم عن جهنم فلست أُحدِّثكم في لحظة جنون، وعندما أُحدِّثكم عن الجنّة فلستُ أُحدِّثكم في لحظة جنون، وإنَّما بالعقل كلّه والوعي كلّه.
هذه الحروب النفسية التي تعرَّض لها النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) تحدَّث عنها الله سبحانه وخاطب بها رسوله.. يقول له: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33].
إذا كنتَ داعية لله ووقف الناس ضدّك لأنّك تدعو إلى الله وتقف الموقف الصّلب في هذا المجال، فلا تحزن.. لا تنزعج حتّى لو سبُّوك، لستَ أنتَ الوحيد: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ} [الأنعام: 34].
هذا هو خطّ التحمُّل والصبر حتّى يأتيَ نصرُ الله..
كان الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يشعر أنّ الأُمّة لا تستطيع أن تنفتح على الرسالات إلاَّ بعد وقتٍ طويل، لأنَّ ظلمات ماضيها وحاضرها سوف تمنعها من رؤية النور القادم من بعيد، ولهذا كان يطلب من الله أن لا يعاقبهم مهما أساؤوا إليه، لأنّه كان يعرف أنّهم سيأتون لله إن عاجلاً أو آجلاً..
لقد عاشوا في ظلمات التخلُّف وظلمات الآباء والأجداد وظلمات الحقد، عاشوا ظلمات بعضها فوق بعض، ولا يمكن لكلّ هذه الظلمات المتراكمة أن تزول بمجرّد إشراقة نور.
عندما ينطلق الفجر لا يولَد بإشراقته الكبيرة.. الشمس ترسل إشراقة صغيرة من بعيد، وترسل إشراقة ثانية وثالثة ويلتمع الفجر، ثمّ تقترب الشمس وتفرض نفسها على الظّلام تدريجيّاً. حتّى لا يبقى هناك شيء من الظلام في الأُفق.
انطلق رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في الدعوة وتقدَّم وثار القوم في وجهه بعد أن سمعوا ما يسفه أحلامهم ويسفه أصنامهم ويتحرّك، وبدأوا يغرونه ولم يجدوا هناك مجالاً للإغراء في حياته، بدأوا يخوّفونه ولكنّهم لم يجدوا فيه أيّ مجال للخوف في حياته.
سبُّوه وشتموه ولم ينطلق لسانه بشتيمة واحدة، لأنّ الله أمره وأمر المؤمنين من حوله، أن لا تسبّوا فإنَّ السّب يعطي ردّ فعل مماثلاً لأنّه يثير غريزة الآخرين فيثورون ضدّك فلا تسبّ، ولكن ادع إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة.
لقد أغلقوا قلوبهم عنه، وفتح قلبه الكبير لهم، أغلظوا الكلمات له، وأَلان كلماته لهم، عاشوا في قلوبهم الحقد، وعاش في قلبه الرحمة لهم.
كانوا يقابلونه بالخلق السيّئ، وكان يقابلهم بالخلق العظيم:
{وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم : 4].
كانوا يتمنّون له الموت وكان يدعو الله لهم بالحياة "الّلهمَّ اغفر لِقَومي فإنَّهم لا يعلمون".
وهكذا انطلق رسول الله يمتصّ الشتيمة ويمتصّ التهمة ويمتصّ الكلمات اللامسؤولة، ويمتصّ النظرات الحاقدة، ويمتص المشاعر المعادية، ويمتصّ كلّ ذلك ثمّ يطلق الكلمة، كأن لم يسمع شيئاً، وكأنّه لم يرَ شيئاً، يطلق الكلمة وهو يبتسم، لأنّه يعرف أنّ الابتسامة تدخل إلى قلوب الناس لتهيّئ الأرضية للكلمة.. لم يكن رسول الله يعيش أي عبوس قلبي حتّى يعبس في وجه الآخرين.
من خلال الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) نتعلّم أنّ القيادة ليست امتيازاً يشعر فيه الإنسان بالعلوّ على الناس الذين يقودهم ليعلِّمهم ويدبّر أمورهم.
يقول الراوي عنه: كان فينا كأحدنا لا يميّز نفسه في شيء حتّى كان يأتي الأعرابي وهو يقصد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ويقول: أيّكم محمّد. لأنّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لم يكن يميِّز نفسه عن قومه وعن المؤمنين بأيّ شيء.
كان يشعر أنّ رسالته لا تخوّله أن يرتفع عليهم، كان يقدّرهم ويحترمهم على أساس أنّهم آمنوا بالرسالة وعلى أنّهم إخوة الرسالة، ولهذا كان يخفض جناحه لهم ويعيش معهم كأحدهم.. وكان إذا صافح شخصاً لا يجذب يده منه، وإذا سارَ في الطريق لا يترك أحداً يبدأه بالسلام، بل هو الذي يبدأ الناس بالسلام قبل أن يسلموا.
كان يسير في إحدى المرّات في شارع من شوارع مكّة أو المدينة ورأته امرأة عرفت فيه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فارتعدت، قال لها: لا عليكِ، لماذا ترتعدين ما أنا إلاَّ ابن امرأة كانت تأكل القديد في مكّة!
القِيَم الحضارية للهجرة
ـــ مثّلت هجرة الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى المدينة المنوّرة بداية مرحلة أساسية في حركة الإسلام التاريخيّة، كيف ترسمون سماحتكم القِيَم الحضارية للهجرة النبويّة؟
مضى على هجرة رسول الله من مكّة إلى المدينة أكثر من أربع عشر قرناً، واجهت الهجرة عنوان السنّة الإسلامية التي يؤرّخ المسلمين كلّ وقائعهم وكلّ حركة تاريخهم بها، لأنّ قضية الهجرة تعني الخطّ الفاصل بين حركة الإسلام في ساحة الدعوة، وبين حركة الإسلام في ساحة الدولة، فقد أراد الله لرسوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن يعيش فترة من الزّمن بعد البعثة في مكّة ليدعوَ الناس إلى الله بشكلٍ يربّي فيه الأفراد على مفاهيم هذه الدعوة الجديدة، التي تمثّل دين الله، ليكونوا مشروع قيادات مستقبليّة، وليستفيد من موقع مكّة باعتبارها العاصمة الثقافية التي يلتقي فيها مثقَّفو العرب من أجل أن يعرض كلّ واحد منهم ما لديه من نتاج أدبيّ على مستوى الشعر أو النثر في سوق عكاظ.
كما كانت مكّة العاصمة الدينية التي يحجّ إليها الناس منذ إبراهيم (عليه السلام) الذي يرتبط به الكثيرون من الناس في مكّة برباط بقيت لديهم بقاياه، وكانت مكّة إلى جانب ذلك عاصمة تجارية باعتبارها المركز الاقتصادي لقريش. وبذلك كانت مكّة المكان الطبيعي لانفتاح الدعوة على الناس، باعتبار أنّها لا تكلّف الداعية الكثير من الجهد في قطع المسافات من أجل الانفتاح على العبادات العامّة في المنطقة سواء كانت قيادات ثقافية أو كانت قيادات اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية، إذا كان لهذا المصطلح عرف في ذلك الزمان.
وهكذا كان الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يربّي المسلمين أفراداً على مفاهيم الإسلام، وكان يذهب إلى الوافدين إلى مكّة من شيوخ العرب ليتحدّ إليهم عن الإسلام، ويدعوهم للدخول فيه ويطلب منهم مناصرته.
تحرّك النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بشكلٍ مكثّف بحيث شعرت قريش بخطواته وخطورتها على مصالحها.. وهكذا كانوا ينطلقون على أساس الشعور بالخطر، وانطلقت الحرب النفسية التي تحاول أن تتحدّث عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بطريقة تفقده معنى القداسة في نفوس الناس.
تجرأوا وقالوا عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنّه كاذب وهم يعرفون أنّها كلمة تطير في الهواء لأنّه كان معروفاً بأنّه الصادق الأمين، ولكن الذين يعملون على إثارة الحرب النفسية في تشويه صورة الأنبياء وفي تشويه صورة العاملين في سبيل الله، أولئك يعيشون حالة الإرباك بحيث يتلفَّظون بالألفاظ التي لا يمكن أن تتحرّك في حياة الناس، لأنّ الناس سيرفضونها عندما يواجهون الواقع بهذه الطريقة، وقالوا عنه إنّه مجنون.
سقطت كلّ تلك الكلمات واندفع الناس إليه.. ثمّ مارسوا الضغوط عليه بكلّ الوسائل وسقطت كلّ الضغوط. ثمّ حاولوا أن يحاصروا دعوته ليقولوا للقبائل أنّ من يتّبع محمّداً ويناصره فإنَّ قريشاً تتّخذ منه موقفاً صلبا يسيّئ إلى مصالحه الاقتصادية أو غير الاقتصادية، حتّى يتجنّب الناس محمّداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من خلال حرصهم على مصالحهم لدى قريش، كما يفعل الكثير من الناس في هذا العصر وفي غير هذا العصر.
ولكنَّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) استطاع أن ينفذ إلى قلوب الناس وإلى عقولهم وأن يخترق هذا الحصار.. واستطاع أن يؤسّس أوّل قاعدة للمجتمع الإسلامي في يثرب التي كان يأتي إليه الكثيرون منها ليبايعوه على السّمع والطاعة، وعلى أن ينصروه بما ينصرون به أنفسهم وعيالهم وأموالهم.
بدأ المجتمع الجديد في يثرب ينمو، وبدأ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يرسل الدّعاة الذين يعلّمون الناس القرآن وأحكام الإسلام.
لقد استطاع النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن يفتح ساحة جديدة تملك قوّة اقتصادية، كما تملك قوّة عسكرية وثقافية، لهذا شعرت قريش بالخطر.
ماذا تفعل قريش فهي مقتنعة بأنّه لا يمكن أن يبقى محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في مكّة يتّصل بمن يشار ويتحرّك كيف يشاء.. اجتمعت قريش في دار الندوة، ويحدّثنا الله عن ذلك: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30].
قال بعض الذين أعطوا الرأي: تعالوا نختر من كلّ عشيرة شاباً... عشرة أشخاص ليقفوا في موقع نومه بأسيافهم ثمّ يندفعوا بكلّ أسيافهم ليقضوا عليه، فلا يعرف مَن قتله فيضيع دمه بين القبائل، ولا تستطيع بنو هاشم أن يواجهوا كلّ قبائل قريش، فيرضون بالفدية وتنتهي المشكلة.
ولكنّهم وهم يمكرون عرَّف الله نبيّه بذلك، وأراد له أن ينسحب وأن يغطّي انسحابه، لقد انتهى عهد الدعوة في مكّة لأنّ الدعوة سوف لن تستطيع أن تتحرّك بحريّة.
وهكذا رسم النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الخطّة وجاء إلى عليّ (عليه السلام) وهو ابن عمّه، الذي ربّاه وعلَّمه وأعدَّه ليكون الإنسان الذي يحمل الإسلام من بعده بكلّ قوّة ووعي وانفتاح وامتداد، طلب منه أن يبيت في فراشه.
وهكذا انطلقت الهجرة وانفتح الإسلام على مجتمع المدينة، حيث انطلق هذا المجتمع ليؤسّس أوّل قاعدة إسلامية تلتزم بالإسلام على مستوى الشريعة، وتنفتح من خلال الإسلام على مستوى الدعوة، وتتحرّك من خلال التحدّيات على مستوى الجهاد.
كانت الهجرة تعني في أحد معانيها أنّ المسلمين كانوا ضعفاء فصاروا أقوياء. في الهجرة كان المسلمون أذلّاء فصاروا أعزّاء، وكانوا يعيشون الاستعباد من خلال واقع المستكبرين فأصبحوا الأحرار في قراهم وفي حركتهم.
من هنا فإنّ علينا في كلّ تاريخ نؤرّخ به قضية أو أيّ حدث يمرّ بنا، يجب أن ننتبه للسنة الهجرية لتعطينا هذه السنّة إيحاءً دائماً قبل 14 قرناً كيف كانت المسألة؟ هل نتذكّر الذين سبقونا في الصّدر الأول من الإسلام؟ وكيف استطاعوا أن يحوّلوا ضعفهم إلى قوّة؟ استطاعوا أن يحوّلوا عبوديّتهم إلى حريّة.
لهذا نريد أن يؤكّد المسلمون التاريخ الهجري في كلّ ما يكتبونه وفي كلّ ما يتحدّثون به، أن يؤكّدوه لا من موقع عصبية تريد أن تتعصَّب لتاريخ ضدّ تاريخ، ولكنّنا نريد أن نجعل من التاريخ إيحاءً يومياً يتحرّك في وعينا وفي أعماقنا، لتتأصّل فيه شخصيّتنا الإسلامية على مستوى التاريخ، كما تتأصّل شخصيّتنا الإسلامية على مستوى العقيدة وعلى مستوى المفاهيم.
دلالات الهجرة على واقعنا المعاصر
ـــ سماحة السيّد.. في ضوء حديثكم عن الهجرة نودّ أن ترسموا لنا الدلالات الحركيّة لظاهرة الهجرة بالرجوع إلى التجربة النبويّة.
إنّ القضية في مسألة الهجرة هي أنّها كانت انطلاق المستضعفين لمواجهة المستكبرين دون أن تكون هناك حالة ضعف، الهجرة لم تكن حالة خوف أو حالة ضعف، ولكنّها كانت نتيجة خطّة وصلت نهايتها وجاءت التحدّيات لتمنحها ظروفها الطبيعيّة.
وهكذا انطلق المسلمون من أجل أن يحاربوا قريشاً في مواقع التحدّي.. فكانت بدر وكانت أُحُد وخيبر والأحزاب وحنين وغيرها من المعارك، التي خاضها المسلمون من أجل تأكيد كلمة الله على أساس أنّ التحدّي لا بدّ أن يواجَه بتحدٍّ مماثل، وأنّ المستكبرين عندما يقفون من أجل أن يضغطوا على المستضعفين، فإنّ على المستضعفين أن يحاولوا استنفار كلّ قوّتهم وكلّ طاقاتهم، ومحاولة تربية قوّتهم وتدريبها على المواقع والآفاق والأوضاع الجديدة حتّى تتوازن القوى في ساحة التحدّي. وهكذا استطاع المسلمون أن ينتصروا:
{وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ} [آل عمران: 123].
إنّ الله تعالى يحدّثهم أنّ الضعف لا يعني الهزيمة، قد يكون الإنسان ضعيفاً، ولكنّه عندما يستنفر مواقع القوّة في داخل شخصيّته، ويعمل على أن لا يعطي الحريّة لضعفه، فإنّه يستطيع أن ينتصر. لقد كانت المسألة مسألة أن يقول الله للمستضعفين إنّ عليكم أن تأخذوا المبدأ، وهو أنّ الضعف لا يعني الهزيمة، وأنّ الضعف قد يلتقي بالنصر وأنّ القوّة قد تلتقي مع الهزيمة.
لذلك فلنجرّب أن نتحرّك دائماً في خطّ المواجهة، ولنجرّب دائماً أن نكتشف مواقع القوّة. وها نحن رأينا أنّ المسلمين في مكّة اضطروا إلى الهجرة ليتخلَّصوا من ذلك الضعف.. فإذا هم القادة الأقوياء الذين يتسلّمون الحكم ويندفعون إلى بلاد أخرى وإلى مواقع أخرى، من خلال هذا المفهوم للهجرة.. مفهوم حركة المستضعفين الذين يقاتلون من أجل أن لا يفتنوا عن دينهم، هذا المعنى الذي تعطيه حركة الهجرة، أُريدَ له أن يظلّ مع التاريخ.
الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأخلاق الرساليّة
ـــ تكثر الآيات في الحديث عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): عن دعوته وأسلوبه وإخلاصه وثباته في كلّ مواقع الدعوة، وعن جهاده في سبيل الله وحركته القويّة الصّلبة في مواقع هذه الجهاد، وعن أخلاقه، وكيف كان يسع الناس كلّهم بأخلاقه، يسع أعداءه كما يسع أصدقاءه، وكانت أخلاقه هي إحدى الدعائم التي ركّزت قواعد دعوته.. على أساس هذه الحقائق الكبيرة في شخصية الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، كيف يجب أن نحرّك ذلك في حياتنا العملية؟
يقول الله سبحانه وتعالى وهو يوجّه خطابه إلى الرسول محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم): {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].
يقول سبحانه وتعالى موجّهاً خطابه للمسلمين: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 128].
يحدّثنا القرآن الكريم كثيراً عن خصوصيّاته في حياته الخاصّة وفي حياته العامّة ليعرّفنا أنّه كان الرسول الذي ينفتح على الناس كلّها من موقعٍ واحد، فلم تكن له خصوصيّات تبتعد عن الشأن العام في كلّ حياته.
نحن بحاجة إلى أن نستنطق القرآن الكريم فيما يقدّمه إلينا من صورة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عندما بعثه بالرسالة وكيف كانت دعوته، وكيف كان ردّ فعله على الذين وقفوا في وجه الدين وتمرَّدوا عليه وآذوه واضطهدوه وحاربوه وشرَّدوه.. كيف كان المجتمع الذي عاش فيه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من أجل أن يصنعه، وكيف صنعه، وكيف كان أصحابه معه وما هي أخلاقه.
وهذه أمور لا بدّ أن نتعرَّف إليها عندما نريد أن نثير ذكرى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في وعينا الإسلامي ووعينا الإنساني، لأنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) جاء للنّاس كلّهم: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].
وجاء للإنس والجنّ، كما حدّثنا الله عن ذلك، ولا بدّ للمسلمين دائماً أن تكون صورة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من خلال حديث الله عنه في القرآن الكريم، وأيّ حديث أصدق من حديث الله! وأيّ جهة تعرف من رسول الله ما يعرفه الله عنه، فهو الذي خلقه وأدّبه، وقال له: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}.
قدَّمه لنا بأخلاقه ولم يبيِّن لنا أيّ خلق من أخلاقه بشكلٍ خاص، لأنّه أراد أن يعطينا أنّ جوانب العظمة التي تتمثّل في رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) تحيط بكلّ أخلاقه، كلّ خلقه عظيم، خلقه في نفسه وخلقه مع عياله وخلقه مع الناس الذين يعيش معهم ويعيشون معه، وخلقه مع الناس الذين يدعوهم إلى الله، وخلقه مع الناس الذين يسالمهم أو مع الناس الذين يحاربهم.. إنّه عظيم في كلّ خلقه، وإذا كان رسول الله عظيماً في كلّ خلقه فإنَّ علينا أن نتلمّس جوانب العظمة في هذا الخلق، لأنّ الله أرادنا أن نقتديَ به، وأن نقترب من شخصيّته ومن جوّه.
انطلق رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ليكون التجسيد الحيّ لكلّ الأخلاق الإسلامية، حتى قالت إحدى زوجاته وقد قيل لها صفي لنا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قالت: هل تريدون أن أطنب أو أختصر، أو أوجز؟ قالوا لها: أوجزي. قالت: كان خلقه القرآن.
عندما نقرأ القرآن في كلّ شرائعه وفي كلّ أحكامه وفي كلّ مفاهيمه، فإنّنا سنجد صورة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في القرآن كلّه، لأنّه كان يجسّد القرآن كلّه، فلم يكن ليبلّغ آية في القرآن، إلاّ ويكون أوّل من يعمل بها، وأوّل من يجسّدها في سلوكه، فكان الناس يستمعون إليه عندما يحدّثهم في القرآن عن الصدق فيرون فيه الصادق الذي لا أحد أصدق منه، وعندما يحدّثهم عن الأمانة فيرونه الأمين على أموال الناس وعلى دمائهم وعلى أعراضهم وأسرارهم، وعلى كلّ المستويات التي يتحمّلها تجاههم.
وإذا حدّثهم عن التسامح فلا تجد أحداً مثله يعيش التسامح كأفضل ما يعيش هو التسامح، وعندما كان يحدّثهم أنّ على الإنسان أن يكون خيراً لزوجته وأولاده وأهله كان الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول لهم: خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي.
إنّ الذين يعدون أنفسهم للمسؤوليات العامّة في الحياة لا بدّ أن يربّوا أنفسهم تربية تحمّل هذه المسؤوليات العامّة، لأنّ الكثير من الناس يملكون العلم الكبير ولكنّهم يغلقون عقول الناس عن علمهم، لأنّهم لا يملكون الأخلاق التي تفتح الطريق إلى قلوب الناس لهذا العلم ولا يملكون الروحية لذلك، ولهذا كانت الأخلاق أساساً في رسالة الإسلام، وهكذا قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): "إنَّما بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مكَارِمَ الأَخْلاق".
إنّ الأخلاق الإسلامية تتحرّك في كلّ حكم شرعي، فالله يريد لنا أن نحفظ عقولنا ولذا حرَّم علينا كلّ شيء يذهب العقول، والله يريد لنا من أخلاقنا أن نحميَ الحياة من حولنا، ولذا حرَّم علينا أن نكون خطراً على حياتنا وحياة الآخرين، والله أراد لنا أن نتحرّك إلى الناس من أجل أن ندخل إلى قلوبهم وعقولهم، لهذا أراد لنا أن نتحرّك بالأساليب التي يمكن أن تفتح قلوب الناس على الحقّ.
كان قلب الرسول الكبير يتّسع للنّاس كلّهم، لأنّه كان يريد أن يدخل الناس إلى دين الله من خلال فتحه قلوب الناس على الله سبحانه. فلا يمكن لأيّ إنسان مهما كان علمه وثقافته أن يدخل إنساناً إلى دعوته إلاَّ إذا كان قلبه مفتوحاً على قلب هذا الإنسان، لا يكفي أن تكون الكلمات كلمات حقّ قويّة، بل لا بدّ أن يفتح قلبه على الناس. لهذا فمن لا يحبّ الناس لا يستطيع أن يفتح قلوب الناس على الحقّ.
يخاطب الله رسوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم):
{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159].
(1) وذلك حين بلغ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الأربعين من عمره الشريف.
(2) فكان أوّل من استجاب لدعوته زوجته خديجة وعليٌّ (عليه السلام).. ثمّ أسلم معه في مرحلة السريّة حوالي أربعين شخصاً كان يعلّمهم القرآن سرّاً في الشعاب بعيداً عن أعين الناس، ولمّا ازداد عددهم اتّخذوا "دار الأرقم" مكاناً لاجتماعاتهم لتعلّم أحكام الله على يديّ الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
وهو الذي كفله بعد وفاة جدّه عبد المطّلب.(3)
(4)عندما دعا الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عشيرته الأقربين إلى الإسلام، ندَّد به عمّه أبو لهب، ولكنَّ أبا طالب خاطبه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بقوله: "فامضِ لِما أُمرتَ به فوالله لا أزال أحوطُك وأمنعك" (الكامل لابن الأثير، ج 2، ص 24).
(5) ينسب المؤرّخون إلى أبي طالب ما قاله شعراً مخاطباً رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بقوله:
واللهِ لن يصلُوا إليكَ بِجَمعهم حتّى أوسّدَ في التراب دفينا
فاصْدَع بأمركَ ما عليكَ غضاضة وابشِرْ بذاك وقِرّ منكَ عيونا
ودعوتني وعلمتُ أنَّكَ ناصِحي ولقد دعوتَ وكنتَ ثمَّ أمينا
ولقد علمتُ بأنَّ دينَ محمّد من خيرِ أديان البشريّة دينا
(تاريخ ابن كثير، ج 2، ص 42).
(6) فشنفوا: فأبغضوه.
(7) طبقات ابن أسعد، ج 1، ص 199.
(8) الأحداث: الشباب في مقتبل العمر.
(9) كبلال الحبشي وياسر وزوجته سميّة وابنه عمّار وخبّاب بن الأرت.
(10) هذا قول أُم سلَمَة زوجة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في وصفها للنجاشي ملك الحبشة.
(11) طبقات ابن سعد، ج 1، ص 203 ـ 204.
(*) عكاظ ومجنة وذي المجاز، مناطق قريبة من مكّة.
(1) كان (صلَّى الله عليه وآله وسلّم) يقف على منازل القبائل من العرب بمعنى ويقول: "يا بني فلان، إنّي رسول الله إليكم، يأمُركم أن تعبدوا الله ولا تُشركوا به شيئاً، وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه من هذه الأنداد وأن تؤمنوا بي وتمنعوني حتّى أبيّن عن الله ما بعثني به"، ابن هشام، ج 2، ص 64.
(2) وكان ممّا يقوله: "ما جئتكم بما جئتكم به أطلبُ أموالكم ولا الشرف فيكم، ولا المُلك عليكم، ولكنَّ الله بعثني إليكم رسولاً، وأنزل عليّ كتاباً، وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيراً ـ فبلّغتكم رسالات ربّي ونصحت لكم، فإن تقبلوا منّي ما جئتُكم به فهو حظّكم في الدنيا والآخرة، وإن تردّوه عليّ أصبر لأمر الله حتّى يحكم الله بيني وبينكم"، سيرة ابن هشام، ج 1، ص 316.
(3) في محاولة لتشويه صورة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلّم) اجتمع نفر من قريش عند الوليد بن المغيرة وكان ذا سنّ فيهم، فقال لهم: يا معشر قريش، إنّه قد حضر هذا الموسم، وإنّ وفود العرب ستقدم عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فأجمعوا فيه رأياً واحداً، ولا تختلفوا فيكذِّب بعضكم بعضاً، ويردّ قولكم بعضه بعضاً، قالوا: فأنت يا أبا عبد شمس، فقل وأقم لنا رأياً نقل به، قال: بل أنتم فقولوا أسمع، قالوا: نقول: كاهن، قال: لا والله ما هو بكاهن.. قالوا: فنقول مجنون، قال: ما هو بمجنون.. قالوا فنقول: شاعر، قال: ما هو بشاعر.. قالوا: فنقول: ساحر، قال: ما هو بساحر.. قالوا: فما نقول يا أبا عبد شمس؟.. قال: وما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلاَّ عُرف أنّه باطل، وإنَّ أقربَ القول فيه لأن تقولوا ساحر، جاء بقولٍ هو سحرٌ يفرِّقُ به بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجته، وبين المرء وعشيرته"، ابن هشام، ج 1، ص 288 ـ 289.
(5) وذلك في سنة 11 من البعثة المباركة حيث التقى بجماعة من الخزرج قدموا من المدينة، وقال بعضهم لبعض "والله إنّه للنبيّ الذي توعّدكم به يهود، فلا تسبقنّكم إليه"، وفي العام التالي، قدم إليه جماعة من المدينة أيضاً، وقد بايعوا الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فيما سُمِّي ببيعة العقبة الأولى حيث يقول عبادة بن الصامت الذي حضر البيعة إنّهم بايعوا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) على: "أن لا نشرك بالله شيئاً، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه من بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف"، السيرة النبويّة لابن هشام، ج 2، ص 433.
(4) طبقات ابن سعد، ج 1، ص 211 ـ 212.
(6) سيرة ابن هشام، ج 1، ص 286.
(5) يقول تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا} [يوسف : 110].
(7) أفتُهدف: أي تصير هدفاً يُرمى.
(7) هذا مثل يُضْرَب لِمَا فات.
(8) أي ما ادّعى النبوّة كاذباً أحدٌ من بني إسماعيل.
(9) السيرة النبويّة لابن هشام، ج 2، ص 424 ـ 425.
(23) منعه: نصره.
(24) لا يُعتبهم: أي لا يُرضيهم.
(25) شرى: كثُر واشتدَّ.
(26) تضاعفوا: تعاونوا.
(27) بَدَاء: الاسم من (بدا)، أي ظهر له رأي.
(28) السيرة النبويّة لابن هشام، ج 1، ص 264 ــ 266.
(29) السِّطة: الشرف، وفي سائر الأصول "البسطة".
(30) الرِّئى: (بفتح الراء وكسرها): ما يتراءى للإنسان من الجنّ.
(31) التابع: من يتبع الناس من الجنّ.
(23) سيرة ابن هشام، ج 1، ص 293 ـ 294.
(89) طبقات ابن سعد، (بتصرّف)، ج 1، ص 218 ـ 223.
(43) سيرة ابن هشام، ج 1، ص 292.
(*) وذلك هو السرّ في السهولة العفوية التي يدخل فيها الإسلام إلى عقول الناس وقلوبهم، لأنَّ مفاهيمه وأساليبه في منهج التفكير العقيدي، لا تبتعد عن طبيعة الأشياء القريبة إلى حياة الناس.
(34) جاء في سيرة ابن هشام: "عن أُمِّ سَلَمَة بنت أبي أُميّة بن المغيرة زوجة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، قالت: لما نزلنا أرضَ الحبشة، جاورنا بها خير جار النجاشي، أمِنَّا على ديننا، وعبدنا الله تعالى لا نؤذي ولا نسمع شيئاً نكرهه" السيرة النبويّة، ج 1، ص 334.
(35) طبقات ابن سعد، ج 1، ص 238.
(33) سيرة ابن هشام، ج 1، ص 497.
(37) طبقات ابن سعد، ج 1، ص 266.
(38) طبقات ابن سعد، ج 1، ص 266.
(39) الطبقات الكبرى لابن سعد، ج 1، ص 299.
(40) المصدر السابق، ص 306.
(41) المصدر السابق، ج 1، ص 342 ـ 343.
(42) الطبقات الكبرى لابن سعد، ج 1، ص 323.
(*) الركوسي: من الركوسية، وهم قومٌ لهم دينٌ بين دين النصارى والصابئين.
(**) المرباع: الذي يأخذ الرُبع من الغنائم، لأنَّه سيّد قومه.
(43) سيرة ابن هشام، ج 4، ص 1002 ـ 1003.