المعالم الجديدة

للمرجعيّة الشيعيّة

 

دراسة وحوار مع

آية الله السيّد محمّد حسين فضل الله

 

 

سليم الحسيني

 

 

 

 

 

حقوق الطبع محفوظة للناشر

الطبعة الرابعة

1419 هــ ـــ 1998م

 

 

 

دار الملاك للطباعة والنشر والتوزيع ش.م.م

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

 

 

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدّمة الناشر

خلال خمس سنوات توفّي ثلاثة من أبرز مراجع الشيعة ولعلّها الفترة الوحيدة التي تحدث فيها مثل هذه الفراغات في التاريخ الشيعي. وهذا ما يزيد حجم المشاكل التي تواجه المرجعية الشيعيّة، التي تعرّضت لتحدّيات خطيرة منذ زمن طويل، ثمّ تصاعدت درجة هذه التحدّيات على عهد مرجعية الإمام الخميني وما بعده، حيث صارت المرجعية تقف في واجهة الأحداث.

وقد أُثيرت في الآونة الأخيرة نقاشات جادّة في الأوساط الشيعية لدراسة الواقع الحالي للمرجعية، والمستقبل الذي يرتبط به. ومن الطبيعي أن تبرز الكثير من الآراء ووجهات النظر حول هذا الموضوع الذي يمتلك أهمية استثنائية في العالَم الشيعي.

وهذا الكتاب مناقشة موضوعية لما يدور في الأوساط الشيعية، ومحاولة علمية لتقديم الحلول لمشاكل اليوم والغد في ضوء ما يراه آية الله السيّد محمّد حسين فضل الله الذي طرح معالجاته المتميّزة بالصراحة والواقعية، منطلقاً من استيعابه الشامل لأبعاد المشكلة تاريخياً وحاضراً ومستقبلاً بحكم موقعه المعروف في الوسط الشيعي والممتد في العالم الإسلامي وحتّى  ما وراءه.

الكتاب سجَّل نجاحاً ملحوظاً خلال الأيام القليلة التي أعقبت نشره. وهذا ما دفع دار الملاك إلى إعادة طبعة من أجل المساهمة في إعطاء الحلّ حول أخطر قضية يواجهها العالم الشيعي في مرحلته المعاصرة.

ومن الله تعالى نستمدّ العون

           الناشر

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدّمة

لولا الوجود المرجعي لانهار الوجود الشيعي بأضعف ضربة. فالمرجعية هي الموقع المتقدّم في الحياة الشيعية.. هي التي وقفت في مواجهة التحدّيات منذ زمن بعيد يبدأ من عصر الغيبة الكبرى وإلى الآن.

وعلى امتداد هذا التاريخ الطويل لم تتنازل المرجعية الشيعيّة سياسياً على حساب المبدأ الإسلامي، رغم العروض التي تصل إلى حدّ الخيال.. ورغم التهديدات التي تبلغ الموت. فالمرجع الشيعيّ لم يدخل يوماً في مساومة سياسية على حساب الشيعة والإسلام. وهذا ما جعل كلّ الحكّام ينظرون إلى المرجعية على أنّها الموقع المستعصي الذي لا يمكن فرض موقف عليه، ويستحيل أن يضعف أمام الإغراء أو يرضخ للتهديد، مقابل إعطاء كلمة.. مجرّد كلمة تعترف بشرعية الحكم أو تخدم الحاكم على حساب المصلحة الإسلامية.

فالمرجع ـــ كحالة شيعيّة ـــ كان أميناً على مبادئ الإسلام، ومضحيّاً من أجل الوجود الشيعي، لأنّه ينطلق في رفضه من خلال الموقف الشرعي الذي يؤمن به إيماناً كاملاً، فلا يمكن في هذه الحالة أن يبادل المبدأ بالحياة.

ومع أنّ التاريخ الشيعي كان في أغلب فتراته يشهد وجود مراجع أَمْيَل إلى اعتزال شؤون السياسة، أكثر بكثير من الذين يهتمّون بها، إلاّ أنّ النموذجين يشتركان في المبدأيّة الصارمة التي تمثّل أشرق الميزات في المرجعية الشيعيّة.

إلى جانب هذه الميزة، ثمّة واحدة أخرى يتميّز بها جماهير الشيعة عمّن سواهم من الطوائف الإسلامية وغير الإسلامية، فهم يرتبطون بالمرجع ارتباطاً وثيقاً، مظهره القداسة والتعظيم. فإذا ما توفّي المرجع، حزنوا عليه أشدّ الحزن، حتّى ولو كان مرجعهم الراحل معزولاً ضمن دائرته الخاصّة.. يكفي أن يكون مرجعهم ليمنحوه الحبّ والقداسة والولاء. وفي بعض الحالات يصل الحبّ درجة المبالغة، فإذا توفّي المرجع الكبير، يتمنّى جمهور مقلّديه لو أنّ نجله تتوفّر فيه شروط المرجعيّة، إذن لقلَّدوه ساعة التشييع بلا تردُّد.

هذا الترابط الوثيق بين الشيعة ومراجعهم والذي يعود في منشأه إلى أُسس عقائدية، ظلّ في الكثير من الأوقات مجرّد رابطة عاطفية. فلم يشهد التاريخ الشيعي عملية توظيف ممنهجة لعلاقة الجماهير بالمرجعية، بحيث يتحوّل الانشداد العاطفي إلى رصيد فاعل ومؤثّر في خدمة أهداف الإسلام الكبرى. بل ظلَّت هذه الميزة على حالتها العاطفية لقرون طويلة، باستثناء بعض الفترات التي يواجه فيه الإسلام تحدّياً جديّاً، عند ذاك تتحرّك المرجعية حفاظاً على (بيضة الإسلام). فيحدث التلاقي.. ويُصنع الموقف.. ويتكوّن الحدث. ثمّ يتحوّل إلى تجربة في سجل التاريخ.. ويعود المسار الأوّل على خطوه الرتيب.

في عصر الاستعمار.. في بداياته المباشرة.. عندما صار كلّ شيء يتطوّر ويتعقَّد، اصطدم الجهاز الاستعماري بالثبات المرجعي، وحاول أن يخترقه أكثر من مرّة في التأثير على موقفه، فكان يرتدّ عنه خاسراً بلا ومضة أمل.. إنّ المرجع ينطلق ويعود على أساس القاعدة الفقهية والموقف الشرعي، وما سوى ذلك لا يمكن أن يغيّر من رأيه.

من هنا وجد المستعمر ـــ بالنظرية والتجربة معاً ـــ أنّه أمام موقع منيع لا ثغرة فيه. لكنّه اكتشف ثغرة في البناء الشيعي يمرق منها السهم فيصيب مقتلاً.. إنّها آلية العلاقة بين المرجعية وجماهير الشيعة. فلقد اكتشف ـــ هنا بالتجربة فقط ـــ أنّ هذه العلاقة لا تقوم على أساس التخطيط والمنهجة، إنّما هي عاطفة كبيرة ولدت من العقيدة الشيعيّة، لكنّها كانت تخرج عن بعض حدودها في بعض الحالات.

وفي ضوء عدم التكافؤ بين تطوّر الأسلوب المعادي وبين تقليديّة الوضع الشيعي، بدأت تحدث الانتكاسات المتلاصقة التي دامت لعقود عديدة، حتّى حدثت نهضة من الوعي في بعض أجزاء المرجعية، فتصدّت للتحدي المضادّ بقدر ما امتلكته من إمكانات. ورغم أنّ هذه النهضة لم تكن تمثّل المرجعية بكاملها، بل إنّها كانت تمثّل حالات فردية لبعض مراجع الدين الشيعة أمثال الإمام الخميني والشهيد السيّد محمّد باقر الصدر. رغم ذلك، فإنّها استطاعت أن تحقِّق إنجازات ضخمة في حدود الظروف التي عاشت فيها.

إنّ المسألة الهامّة في هذا السياق، أنّ الهجمة المضادّة لم تعد مثل السابق. فلقد حدثت الكثير من التغيّرات والتحوّلات الاجتماعية والسياسية والثقافية، والتي كان يرافقها دائماً تغيّر وتحوّل في وسائل الهجمة على البلاد الإسلامية، الأمر الذي يفرض على القيادة الشيعيّة أن تلائم بين هذا التطوّر وبين أساليب المواجهة، من أجل أن تحفظ الوسط الإسلامي من المزيد من الانتكاسات، كخطوة أولى على طريق الهدف الإسلامي الكبير.

لقد تسبّب ابتعاد المرجعية عن قضايا العصر وعدم امتلاكها ـــ كخطّ تاريخيّ عام ـــ الرؤية الحركية في الإحاطة بالواقع السياسيّ والاجتماعيّ والثقافيّ الممتد في الوسط الإسلامي والعالمي، ورغبتها في الاستغراق بالشؤون الحوزويّة الخاصّة.. لقد تسبّب كلّ ذلك في انتكاسات متتالية أضرَّت بالحياة الشيعيّة والإسلامية عموماً. ولولا المحطّات الواعية التي كانت تظهر في بعض فترات المسار المرجعيّ، وتتمكّن من إعادة بناء بعض الأجزاء المحطّمة لكاد أن يقترب الواقع الشيعيّ من حالة اليأس.

إنّ المكاسب المتفرّقة التي حقَّقتها المرجعيات المختلفة، زمنياً وجغرافياً، لا يمكن اعتبارها إنجازات دائميّة مستمرّة، لأنّ الظروف التي يعيشها المسلمون، والمتغيّرات التي تحدث بسرعة فائقة في حياتهم، وفي المجتمع الدولي بشكلٍ عام، تجعل من كلّ إنجاز وموقف بمثابة الحالة المؤقّتة. ممّا يتطلّب من المرجعية رصداً دقيقاً للساحة الإسلامية والعالمية، ونظرة شمولية موضوعية تجوب الساحات بوعي وتواصل، وحضور مؤثّر في المجالات الإنسانية العامّة. من أجل أن تتجمَّع هذه المتّجهات الفعلية مع بعضها، مؤلّفة أرضية صناعة القرار والموقف الذي تحتاجه حركة الإسلام، وتتطلَّع إليه جماهير المسلمين، كخطّ استراتيجي في مواجهة التحدّيات المتجدّدة.

وفي هذا الكتاب نحاول أن ندرس واقع المرجعية الشيعيّة من الداخل، وذلك من خلال الآراء والتصوّرات التي يطرحها آية الله السيّد محمّد حسين فضل الله حول المرجعية الدينية في تجربتها الماضية والمعاصرة.. والتحدّيات التي تواجهها.. والمسؤوليات التي تتحمّلها حاضراً ومستقبلاً.

ولم يقف العلّامة السيّد فضل الله عند حدود الدراسة والتقييم وتشخيص المخاوف الجديّة التي تواجه المرجعية والشيعة والمسلمين، إنَّما قدَّم الخطوط العريضة لمشروع المرجعية الدينية في صورتها المطلوبة في الوقت الحاضر والزمن القادم. وهو ما يمكن أن نصطلح عليه (المرجعية الشاملة).

ما يخطّط له العلاّمة فضل الله يمثّل الاتجاه الواقعي المطلوب لحركة المرجعية الدينية، في عالم كلّ شيء فيه يتغيَّر.. وكلّ شيء فيه يتحدّى. ممّا يتطلَّب نظرة واعية سريعة، لاتّخاذ قرار واعٍ سريع.

والله من وراء القصد

                                                                        المؤلّف

                                                                  7 شوّال 1413 هــ  

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

بقلم آية الله السيّد محمّد حسين فضل الله

مقدّمة الطبعة الثالثة

الحمد لله وسلام على عباده الذي اصطفى ـــ وبعد

قد تكون حوارات هذا الكتاب في بعدها الفكريّ، محاولة حركية من أجل إثارة الاهتمامات الإسلامية في الدائرة الشيعيّة الفقهية، نحو قضية المرجعيّة، من حيث هي مركز استقطاب محوري للمؤمنين في العالم، من أجل تجديد المضمون والشكل في مؤهّلات المرجع في دوره القيادي، وفي تفاصيل حركة هذا الدور في صعيد الواقع، وفي تفصيل قيادته في الشأن العام، بحيث يتحوّل فيه من دور المفتي ـــ المرجع في الفتيا إلى دور المرجع ـــ القائد في الساحة الإسلامية العامّة في إطلالته على قضايا المسلمين في بعدها السياسي والثقافي والاجتماعي بالإضافة إلى بعدها الفقهي، وفي تفاعله مع الناس في آلامهم وآمالهم واتّصاله المباشر بهم وبقضاياهم واطّلاعه على أحوالهم الروحيّة والماديّة.

وقد تكون هذه المحاولة حركة اقتراحية نحو المواجهة الجادّة للأفكار الطارئة التي تحاول الخروج من المأزق الجديد الذي تعيش فيه المرجعية في أوضاعها الحاضرة وإرباكاتها المعقدّة، وذلك بالاستغناء عن المرجعية بالمجلس الفقهي الذي يدير أمر الفتيا بطريقة أكثر عمقاً وأوسع أُفقاً من إدارة المرجع لها، لأنّ رأي أكثر من مجتهد أقرب إلى الحقيقة من رأي مجتهد واحد حتّى لو كان في الدرجة العليا من الفقه والأصول، وبذلك تبقى للأُمّة مرجعيّتها القيادية في حركة الواقع السياسيّ والثقافيّ والاجتماعيّ، بحيث تستغني عن المرجعيّة التقليديّة في الشؤون الدينيّة الفقهية أو العملية.

فقد كنّا نحاول أن نسجِّل الملاحظة على هذا الطرح، بأنّه قد يؤدّي بنا إلى فقدان التواصل التاريخي للخطّ المتحرّك الذي كان يمثّل الخطّ التوحيدي الذي يوحّد المسلمين، في عنوانه وإيحاءاته ودلالاته وتقاليده، في سائر أنحاء العالم، في مرحلة لا يزال الرمز القيادي الفقهيّ يمثّل الجانب الحيويّ في عمق الإحساس الروحي بالانتماء والتواصل للإمامة في معناها الروحيّ في الوجدان العامّ للأُمّة.

مع ملاحظةٍ أخرى، وهي أنّ المرجعية قد استطاعت أن تصمد أمام كلّ الرياح العاصفة التي كانت تجتاح الواقع الإسلامي، وكلّ التطوّرات السلبية التي كانت تتحرّك في ساحاته وتضيّق على مواقعه وأشخاصه، بينما لم يستطع أيّ موقع آخر من الثبات في صفته الحركية الواقعية باعتبار أنّه خاضع لشروط معيّنة في مستوى أوضاع الواقع.

فقد كانت المرجعيّة صورة الإمامة في القيود المحيطة بها والحصار الذي قد يطبّق عليها، والجدل الذي يثور حولها، وكما هي في الفترات التي تملك فيها حريّة الحركة وحيويّة الموقع، وامتداد النشاط، وتمكّنت من الاستمرار في جميع تلك الظروف المتنوّعة، ممّا يعني أنّها تختزن في مسيرتها التاريخية العناصر الكثيرة القويّة التي تمدّها بالحياة والبقاء.. لذلك كنّا نحذر، ولا نزال من العبث بالجانب الرمزي للمرجعيّة بالإضافة إلى الجوانب الفقهية والروحية والعملية، لأنّ زواله عن الوجدان يحوّل الواقع الإسلامي ـــ خارج نطاق الدولة الشاملة ـــ إلى ما يشبه الفوضى ويقود إلى الضياع.

وربّما كان من مشاكل حركة الأفكار التي أثارها الكتاب، أنّها لا تزال في دائرتها الفكرية مجرّد تصوّراتٍ وتمنّياتٍ وأحلامٍ مستقبلية، لا تجد لها مكان رحباً في الذهنية المعاصرة من حيث طبيعة النماذج التي تنتجها الحوزات العلمية الدينية ممّن لا تتوفّر فيهم عناصر الإحساس بالمعاصرة وباستشراق المستقبل، وشموليّة النظرة للحياة، ورسالية الحركة الواقعية، بالإضافة إلى عنصر العلم والتقوى والاجتهاد، الأمر الذي يجعلنا نجد في رسالة هذه الحوارات لوناً من ألوان الإثارة الفكرية التي ترسم علامة استفهام هنا وعلامة استفهام هناك من أجل توعية الذهنية الإسلامية العامّة لدى طلاّب الحوزات وعلمائها ولدى الأُمّة في عملية الاختيار للفقيه المرجع، فلا تخضع للأسلوب التقليدي الذي يمنح بعض الأشخاص دوراً لا يصلحون له، وقداسة لا يبلغون مستواها.

وهذا هو الذي يجعلنا نشعر بأنّنا محكومون ـــ في نطاق المرحلة ـــ للقبول بمرجعيّات ليست في مستوى الطموح من حيث مواصفاتها القيادية الرائدة. فقد تجد نموذجاً يملك الوعي السياسيّ الشامل، والرّشد الإسلامي المنفتح، والحركية العمليّة الواعية، ولكنّه لا يملك المستوى اللازم في الشخصية الفقهيّة الأصولية للمرجع، وقد تجد نموذجاً آخر يمثّل الحُجّة في الفقه وأصوله، ولكنّه بعيد عن الواقع بكلّ ذهنيّته ومشاعره واهتماماته، فهو لا يشارك في شيء من شؤونه إلاّ بطريقة هامشية تفرضها الحاجة هنا، والصدفة هناك، من دون خطّةٍ أو برنامج.. وربّما يختزن في داخله الفكرة التقليدية التي ترى في الأمور الخارجة عن الدائرة الفقهية العلمية شيئاً لا يتناسب مع روحيّة المرجعيّة لا سيّما إذا كانت تتّصل بالحركيّة السياسيّة، لأنَّ السياسة لا تتناسب مع الروحانيّة، ولا تلتقي بالتوازن الأخلاقيّ للشخصية المرجعيّة.

وفي ضوء ذلك يبقى التخبُّط انطلاقاً من ضغط الواقع التقليديّ على المستوى الشعبيّ أو الحوزويّ، بحيث قد تتمّ عملية الاختيار لنموذج لا يملك أيّة حيويّةٍ للطاقة، أو أيّ انفتاح على الجديد في الاجتهاد حتّى في الفقه والأصول باعتبار أنّ السنّ المتقدّم قد يمنح الإنسان قداسةً ضبابية لا تجدها ـــ في الوعي العام ـــ لدى الإنسان الذي لم يبلغ هذا المستوى من العمر. وبذلك تفقد المرجعية حيويّتها حتّى في المسألة الفقهيّة، لأنّها لا تملك أن تضيف لمعلوماتها شيئاً، ولا تستطيع أن تتجدَّد في نظرتها إلى المتغيّرات التي قد تغيِّر نهج الاجتهاد من خلال تأثيرها على وعي المجتهد للنصّ مقارناً بالواقع.

وتتحوّل المرجعيّة ـــ من خلال ذلك ـــ إلى أن تكون في واقعها العمليّ ـــ لأقرب الناس إلى المرجع من أولاده وأصهاره، بحيث قد يتولّون عنه المسألة الفقهية في تفاصيلها بالإضافة إلى المسائل العمليّة الأخرى كالحقوق الشرعية ونحوها.

وقد أُثيرت في الآونة الأخيرة بعض الأفكار في مسألة المرجعية حول المركز الجغرافي للمرجع، فرأي بعض الناس أنّه لا بدّ أن يكون في قم ـــ إيران ـــ باعتبار وجود القيادة الإسلامية والجمهورية الإسلامية لأنّهما الموقعان الكبيران المميّزان اللّذان يمنحان موقع المرجع قوّةً وعمقاً وامتداداً، كما أنّه يعطي القيادة والدولة الإسلامية دعماً وتأييداً ويعمل على التكامل معها من خلال التنسيق الدائم والتشاور المتواصل، كما أنّه يملك ـــ في الوقت نفسه ـــ حريّته في إصدار الفتوى في كلّ القضايا العامة للأُمّة، من دون أن يخاف من أيّ ضغطٍ أو اضطهادٍ ممّا قد لا يجده في المواقع الأخرى.

ويرى البعض الناس أنّ الحوزة النجفيّة تمثّل العمق التاريخي الذي انطلقت منه حركة الحوزة، بحيث كانت تختصر كلّ تاريخ الفقه الإسلامي الإمامي منذ أكثر من ألف سنة، حتّى أصبح الحديث عن العلم النجفيّ في الفقه وأصوله حديثاً عن الدقّة والعمق والسعة والشمول وغير ذلك، ممّا يتّصل بالمستوى العلميّ الذي لا يتوفّر في غيره، حتّى إنّ البعض يتحدّث عن أسلوب العلم الفقهيّ الأصوليّ واختلافه في العمق والدقّة فيما بين حوزة النجف والحوزات الأخرى، انطلاقاً من الإرث التاريخي الذي يدخل في وعي طلاب الحوزة العلميّة النجفيّة.

ويرى هذا البعض أنّ من الضروري إبقاء النجف ـــ الحوزة على تاريخيّتها الضاربة في أعماق الوعي الإسلاميّ الشيعيّ ومواجهة كلّ الذين يضغطون عليها بالتحدّي الكبير بالتأكيد على موقع المرجعية الفقهيّة التقليديّة فيها، عندما تتوفّر فيها الشروط اللازمة للمرجع في الموازين الشرعية ممّا يؤدّي إلى أن تتمرّد على كلّ عوامل الضغط وتتحرّك من أجل استجماع قوّتها تدريجيّاً من خلال قوّة الاستمرار، لتستطيع الالتفاف من جديد على كلّ المخطّطات التخريبيّة التي تعمل لإفنائها وإزالتها من الوجود العلميّ.

وقد يفكّر بعض ثالث، بأنّ مسألة المكان لا قيمة لها في الموازين العلميّة الفقهية التي لا تزال ترى مسألة المرجعيّة مسألة الشخص المؤهّل للفتيا بالدرجة العليا، وليست مسألة المؤسّسة، وبذلك فإنّ الشخص هو الذي يحدّد موقع المرجعية في موقعه الجغرافي، تماماً كما ينتقل مركز المرجع من محلّةٍ إلى أخرى تبعاً للبيت الذي يسكنه هذا المرجع أو ذاك في هذه المحلّة أو تلك، فنحن نعلم أنّ الشخص ـــ المرجع هو المحور الذي تتحوّل مرجعيّته إلى إرث لأولاده من دون أن يكون للمرجع الجديد أيّ دور في امتداد الأوضاع والعلاقات والمشاريع العامّة لأنّه لا يُعطى أيّ شيء منها، ولا يستفيد من أيّة تجربة من تجارب الشخص القديم لأنَّ رسائله وتعليماته وعلاقاته تصبح ملكاً للورثة، حتّى إنّ مشاريعه التربويّة أو الصحيّة أو الثقافيّة أو الاجتماعية لا يملك المرجع الجديد منها شيئاً إلاّ بالإشراف الفوقيّ الذي يمثّل الجانب المعنويّ أكثر ممّا يشمل الجانب الواقعيّ العمليّ.

أمّا قضية الضغوط فقد تكون نسبيّةً، في هذا الموقع أو ذاك، كما هي قضيّة الحريّة، فإنّ النظام، أيّاً كان، لا بدّ أن يتدخّل بطريقته الخاصة في دائرة هذا المرجع أو ذاك ليضيّق عليه في بعض أوضاعه التي لا تتناسب مع سياسته تبعاً للمعطيات التي تمثّل الشرعيّة لديه.

أمّا الفتيا فإنّنا لا نعتقد أنّ أيّ مرجع ـــ في كلّ تاريخ المرجعية ـــ قد خضع لأيّ ضغطٍ من أيّة سلطة بحيث تتغيَّر الفتوى لمصلحة ضغط هذا أو ذاك.

وهذه هي إحدى الإيجابيات التي تُسجَّل للتاريخ المرجعيّ الذي كان يمثّل التحدّي لكلّ الضغوط المفروضة عليه هنا وهناك.

إنّنا في الوقت الذي نجد فيه الكثير من الإيجابيات في وجود المرجعية في داخل الأجواء الإسلامية الملائمة، في الحوزة العلمية الفقهية التي تملك حريّتها في مراجعها وعلمائها وطلابها، لكنّنا نتصوَّر أنّه لا بدّ لنا من أجل الوصول إلى ذلك من بلورة القاعدة الفقهية التي تفرض هذا الشرط أو ذاك بالعنوان الأوّلي أو العنوان الثانوي، لا سيّما إذا كانت المرجّحات الفقهية موجودة في شخص في بلد آخر بالمستوى الذي لا تتوفّر معه في شخص في البلد الإسلاميّ العريق.

وربّما كان هناك اقتراح آخر هو تحويل المرجعية إلى مؤسّسة ذات دوائر وأجهزة وعلاقات يقودها المرجع بحيث توضع الدراسات والتجارب والعلاقات في هذا المكان، ممّا يفرض على المرجع أن ينتقل من بيته إلى مركز المؤسّسة، كما هي الحال في أيِّ موقع قياديّ في المركز الطبيعي للقيادة. الأمر الذي يؤدّي إلى وحدة المركز الجغرافي ووحدة الموقع العمليّ للقيادة.

إنّنا نحبّ أن نثير هذه الأفكار للدراسة الواعية العميقة المتخصّصة، لأنّنا نجد الكثيرين ـــ لا سيّما في هذه الظروف ـــ يتحدّثون عنها بطريقة الحماس والانفعال ممّا لا يخدم القضية في توازناتها المستقبليّة.

إنّ طموحنا الكبير هو الوصول إلى وحدة القيادة الحركيّة والمرجعيّة الفقهيّة عندما تجتمع المواصفات الشرعية في شخص واحد، فتتحرّك الأُمّة للارتباط به من دون أن تسقط شرطاً في هذا الموقع أو ذاك فيما يتنافى مع القاعدة الشرعيّة، كما أنّ هدفنا النهائي هو أن تتحوّل المرجعيّة إلى مؤسّسة عامة شاملة لا مجال فيها للعلاقات الشخصية، أو لتكرار التجارب أو البداية ـــ دائماً ـــ من نقطة الصفر عندما يغيب مرجع ويأتي مرجع آخر مكانه، بل ينطلق المرجع الجديد من حيث انتهى المرجع القديم، فتكون له خلاصة دراساته وتجاربه وتفاصيل علاقاته ومشاريعه، فذلك هو الذي يحقّق لنا الكثير من النتائج الكبرى على مستوى الرسالة الإسلامية والمصلحة الإسلامية العليا.

ولا بدّ لنا من الإشارة إلى أنّ الأجهزة الإعلامية الاستكبارية بدأت بالتشويش والتدخّل في عناوين الحركة المرجعية من أجل أن تزيد الواقع إرباكاً وقلقاً وتشويشاً واهتزازاً، أو من أجل أن تفتح بعض الثغرات التي تستطيع النفاذ منها إلى داخل المرجعية لتفرض مرجعاً هنا، أو لتضغط على موقعٍ هناك.

وهي تعمل بكلّ جهدها للإضرار بالجمهورية الإسلامية الفتية وبقيادتها الرشيدة بتفسير بعض المداخلات العلميّة أو التنظيميّة أو الوقائية بطريقة لا تتناسب مع الصورة الحقيقيّة، لتشويه صورتها، وتعقيد علاقاتها بالمسلمين في كلّ مكان.

إنّنا نحاول التنبيه إلى هذه الخطّة الجديدة القديمة من أجل المزيد من الحذر في إدارة مسألة المرجعيّة بالكثير من الدقّة والوعي والمسؤوليّة، بعيداً عن كلّ ألوان الإثارة والانفعال والعصبيّة، لأنّ الإعلام الاستكباري يملك الإمكانات الهائلة التي تستطيع أن تثير الاهتزاز والخلل في كثير من مواقعنا.. وإنّنا نعتقد أنّ المرجعية الإسلامية تملك من المناعة التاريخيّة الكثير ممّا يُجنّبها الوقوع في مزالق السقوط والانحدار أو الانحراف.

إنّنا ندعو الجميع في المرحلة الحاضرة إلى المزيد من التعقُّل والحكمة والحذر والتقوى المسؤولة، حتّى لا يتحوّل الواقع إلى فوضى، كما ندعو إلى مؤتمر إسلامي عامّ لأهل الخبرة والفعاليّة في الموقع الإسلامي الشيعي العام ليمكن المصير إلى تحديد المواصفات الفقهية الجديدة للمرجع بالعناوين الأوليّة أو الثانويّة للإتّفاق على شخص معيّن أو أشخاص محدودين لتستمرّ المرجعية في عطائها الإسلامي على أفضل الوجوه.

وهذا الكتاب الذي أثار في حواراته وتحليلاته الكثير من الأفكار وحرَّك الكثير من الاهتمامات حتّى إنّه استنفد كلّ النسخ في طبعته الأولى والثانية، نرجو أن يهيِّىء الكثير من الدراسات والبحوث ويطلق الكثير من علامات الاستفهام من أجل أفكار جديدة وآفاق جديدة، كما نرجو من القرّاء الكرام أن يتحفونا بها للمزيد من التركيز والتصحيح والتقويم.

سائلين من الله أن يوفّق مؤلّفه الأستاذ سليم الحسني للمزيد من الإثارات الفكريّة والعطاءات الثقافيّة، وأن ينفع به في طبعته الثالثة بما يحقّق الأهداف ويفتح أبواب المستقبل للإسلام الشمولي كقاعدة للفكر والعاطفة والحياة.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين

 

بيروت 25 رجب 1414 هـ

   محمّد حسين فضل الله

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الفصل الأوّل

 

 

 

 

المرجعيّة والمجتمع

عناصر القوّة في مرجعيّة الشيعة

 

 

 

 

تتمتّع المرجعية الدينية بموقع اجتماعي وسياسي بالغ الأهمية. ولقد مارست أدواراً خطيرة في حركة الأُمّة وصناعة الأحداث والمواقف، حيث شهدت الحياة السياسية تحوّلات كبيرة على مستوى الأُمّة والدولة صنعتها المرجعية الدينية، عبر توجيهاتها وفتاواها التي أصدرتها في أوقات حسّاسة فكانت القول الفصل والحكم القاطع في مجريات الأحداث.

إنّ المكانة الإسلامية الكبيرة للمرجعية الدينية وموقعها الشرعيّ جعلها تتجاوز الأُطر الرسمية للحكومات، وتتخطّى الحواجز الإقليميّة للدول، على أساس أنّ المقلّدين في الغالب يتوزّعون على أقاليم مختلفة، ويندر أن يكون هناك مرجع شيعي لا يتجاوز مقلِّدوه حدود الجغرافية الإقليمية التي يعيش فيها.

وعلى هذا فإنّ اتّساع دائرة التقليد تساهم في إلغاء الفواصل الإقليمية من خلال ربط المسلمين بمراجع التقليد. وهذا ما يتّضح عملياً في المواقف الكبيرة التي يحدّد فيها المراجع الموقف الجماهيريّ المطلوب عبر الفتوى أو الحكم. كما حدث مثلاً في فتوى الجهاد التي صدرت عن مراجع الدين في العراق عام 1914. فقد شملت العراق، مثلما شملت المناطق الأخرى التي تدخل ضمن دائرة محاربة الانكليز وحرمة التعاون معهم.

إنّ قدرة المرجعية على تخطّي الحدود وفَّر لها إمكانية قيادة حركات مهمّة، وتوجيه أحداث خطيرة خارج وسطها الاجتماعي، كما حدث في ثورة التنباك في إيران عام 1891م والتي فجّرتها فتوى السيّد حسن الشيرازي في سامراء، وعلى أثرها اضطر ناصر الدين شاه إلى إلغاء اتّفاقه مع بريطانيا حول التبغ.

ومن هنا يمكن القول إنّ قوّة المرجعية إنّما هي متأتية من جانبها الشرعيّ الذي يفرض على المقلِّدين العمل وفقها.

إنَّ المكانة التي تحتلّها المرجعية في واقع الأُمّة، جعلها حقيقة كبيرة فرضت نفسها على الواقع السياسي بكلّ قوّة، وراحت الحكومات تتعامل معها بحسابات دقيقة، وقد تحاشت السلطة في البلاد الشيعيّة ـــ أو ذات الأغلبية الشيعيّة ـــ أن تصطدم معها قدر الإمكان خوفاً من تعرّضها لثورة جماهيرية، رغم أنّ السلطات كانت تعمل على إضعافها وتقليل مكانتها السياسية. فالحكومات تنظر إلى المرجعية على أنّها سلطة ذات نفوذ على الشيعة أكثر من نفوذها الرسميّ عليهم، بل إنّ سلطة الحكومة قد تتعطَّل إذا ما تعارضت مع موقف المعارضة. ولذلك شواهده التاريخيّة الكثيرة.

وتأسيساً على ذلك فإنّ المرجعية اكتسبت تأثيرها الاجتماعيّ من موقعها الدينيّ، وأخذت أهميّتها السياسية من قوّة الأُمّة بوصفها الرصيد الكبير للمرجعية. على أنّ هذه الصورة تظهر وكأنَّ قوّة المرجعية محصّلة اجتماع عنصرين أساسيين هما الدين والأُمّة، دون أن يكون لها دور ذاتي في صناعة قدرتها، فهل هي الحقيقة أم أنّ هناك تفسيراً آخر؟

لا شكّ أنّ الإجابة على هذا السؤال ذات أهمية خاصّة، لأنّها تتولّى مهمّة تحديد عناصر القوّة في المرجعية الدينية ومنشأ هذه القوّة، ومن ثمّ طبيعة التحرّك الذي تضطلع به، ومقوّماتها في صناعته. وفي مسائل دقيقة في هذا الخصوص. ومن هنا فلا بدّ من الاستناد إلى الأرشيف التاريخي للحوزة العلمية عبر مراحله المختلفة، في محاولة الإجابة على السؤال الآنف، وفي المواقع التي تستلزم الحاجة العلمية الرجوع إلى التاريخ والاستشهاد بوقائعه.

للوهلة الأولى يبدو وكأنّ عنصري (الأُمّة والدين) منفصلان عن بعضهما، وأنّ كلّ واحدٍ منهما يتحرّك بشكلٍ مستقلّ في إعطاء المرجعية قوّتها الميدانية، غير أنّ هذا الفصل الظاهري يغيب في أرضية الواقع، ويتداخل هذان العنصران للدرجة التي يعتمد فيها أحدهما على الآخر، فالأُمّة وبحكم تكليفها الشرعي ترجع إلى علماء الدين في مسائلها الحياتيّة في العبادات والمعاملات، وتأخذ الحكم في مستجدات الأمور منهم، وهي مساحة واسعة يصعب تحديدها، وفي المواقف الحرجة تنظر صوب المرجعية لترى ما يصدر عنها.

والمكانة الدينيّة قد تتحوّل إلى موقع محدود إذا فقدت المرجعية قدرتها الحركية وانعزلت عن الأُمّة. صحيح أنّها تظلّ تحتفظ بقدسيّتها، لكنّ دائرة المؤمنين بهذه القدسية تتّسع أو تضيق حسب اتّساع أو ضيق القاعدة الجماهيرية الملتزمة بالإسلام. فالموقع الدينيّ يكسب المرجعية قوّة ذاتية محدودة في حالة انغلاقها على نفسها وخضوعها لأجوائها الخاصّة، ويتحوّل هذا الموقع إلى قوّة كبيرة عندما تكون المرجعية نشطة في دائرة تحرّكها وسط الأُمّة. فهي المعنية في نشر الإسلام بين المجتمع، وهي التي تتولّى قيادة العملية التغييرية في الأُمّة. وحين تنجح في عملها هذا تكون قد صنعت قاعدة جماهيرية كبيرة ملتزمة بالإسلام ومنضوية تحت لوائها. والشاهد التاريخي البارز في هذا الخصوص تحوّل بعض العشائر العراقية إلى الارتباط الوثيق بالمرجعية خلافاً لما كانت عليه سابقاً وذلك خلال القرن التاسع عشر.

إنَّ هذا التحوّل المؤثّر رافقه في نفس النقطة امتلاك المرجعية الدينية لرصيد جماهيريّ ضخم، فضمنت بذلك عنصر الأُمّة، وقوَّت به مكانتها الدينيّة (وهو العنصر الثاني لقوّتها)، وكانت النتيجة أن صارت المرجعية قوّة اجتماعية وسياسية كبيرة في المجتمع العراقي، قلبت الموازين في الساحة العراقية، وغيَّرت مجرى الأحداث فيها، ورسم على أساس هذا التحوُل تاريخ العراق في السنوات التي أعقبت ذلك.

وهنا تبرز مسألة جديدة، هي كفاءة المرجعية في استخدام مكانتها الدينية في توجيه الأُمّة وتحريك الأحداث، لتحتفظ بقاعدة جماهيرية متفاعلة معها ولتبقى متمتّعة بمركز القوّة في الساحة.

إنّ شخصيّة المرجع تلعب دوراً كبيراً في مكانته الاجتماعية، فعلى سبيل المثال احتلّ الميرزا السيّد حسن الشيرازي موقعاً متميّزاً من بين علماء الحوزة، لأنّه تفرّد عن بقية العلماء في عدم خروجه لاستقبال ناصر الدين شاه عندما زار النجف الأشرف في عام 1870م، وقد طلب الشاه أن يجتمع به فرفض ذلك، ووافق بعد الإلحاح الشديد أن يكون اللّقاء في الحرم العلويّ الشريف أثناء الزيارة.

ولأنّ السيّد الشيرازي كان يساعد المحتاجين حين مرَّت النجف بضائقة شديدة في نفس السنة. فقد رفعت هذه الأعمال منزلته الاجتماعية وكثر عدد مقلّديه بشكلٍ ملحوظ(1).

لقد صنع السيّد الشيرازي قاعدة جماهيرية واسعة حين اهتم بالأُمّة وتعامل بحكمة مع الأمور. والأكثر من ذلك أنّه هاجر إلى سامراء في أيلول 1874، وهي خطوة مهمّة لما يعرف عن سامراء بأنّ سكانها من السُّنّة، رغم كونها من الأماكن المقدّسة للشيعة. وفي سامراء نشط السيّد الشيرازي في مشاريعه الإسلامية والاجتماعية. فأسَّس مدرسة دينية وشيَّد حسينيّة، وحمّاماً للرجال وآخر للنساء وسوقاً كبيرة ودوراً كثيرة وجسراً من القوارب على نهر دجلة. وقد استقطبت هذه المشاريع الشيعة، فهاجروا إلى سامراء التي تحوّلت من قرية صغيرة إلى مدينة عامرة. وبدأ التشيّع ينتشر في أوساط المدينة، حيث تأثَّر سكانها السُّنّة بالشعائر الحسينيّة وتعاطفوا معها(2).

كان من الطبيعيّ حين يجد الناس هذا الحضور القويّ للمرجعية في أوساطهم، أن يبادلوها تجاوباً وولاءً. فهم يتعاملون مع الموقف الميداني للمرجع أو عالم الدين ومع سلوكه الاجتماعي، أمّا المنزلة الفكرية ودرجة العلم فهي مقاييس تتعامل معها الحوزة العلمية حسب أجوائها الفكرية الخاصّة. وقد يكون العالم بارزاً في الحوزة، لكنّه مجهول عند الأُمّة.

إنَّ الأُمّة حين تعيش مرجعها رمزاً كبيراً، فإنّها لا تنتظر فتواه حتى تؤدّي واجبها، بل إنّها تسارع إلى هذا الموقف بمجرّد أن يبديَ رغبته، ويكون الإحساس برضا المرجع أو رفضه محرِّكاً للجماهير في هذا الاتجاه أو ذاك. وتلجأ إليه في المسائل المصيرية لتأخذ منه الرأي، فتحوّله إلى واقع على الساحة. وهو ما فعلته في ما عرف بثورة التنباك (التبغ)، فقد انهالت الرسائل والبرقيات من إيران إلى سامراء، تطلب من السيّد حسن الشيرازي أن ينقذهم من الاتفاقية وما يترتّب عليها. فبذل السيّد (قدّس سرّه) مساعيه لثني الشاه عن الاتفاقية، وحين وجده مصرّاً أصدر فتواه التاريخيّة: (بسم الله الرحمن الرحيم. اليوم استعمال التنباك والتتن بأيّ نحوٍ كان، بمثابة محاربة إمام الزمان)(1).

وقد أحدثت هذه الفتوى ضجّة كبيرة في إيران، وامتنع الناس بمختلف فئاتهم عن استعمال التبغ، حتّى اضطرّ الشاه إلى إلغاء الاتفاقية.

لقد صنع السيّد الشيرازي بمواقفه مرجعية قويّة، حين كسب بسلوكه ومشاريعه قطاعات واسعة من الأُمّة، وحين استخدم موقعه الدينيّ للتأثير على القرار السياسي للحكومة الإيرانية، وتوجيه الأحداث حسب إرادته وبما يخدم مصلحة الأُمّة. ووفَّر بذلك للمرجعية قاعدة جماهيرية ضخمة، وعزَّز مكانتها السياسية.

وهنا نستطيع القول أنّ كفاءة المرجع هي التي تجمع الأُمّة حوله، وتجعلها تسير في خطّه، وأنّ تعامله الحكيم مع الأحداث هو الذي يطرحه على الساحة كقائد سياسيّ يستخدم حكمه الشرعيّ في الموضع المناسب وبالشكل الدقيق. وبذلك يجعل من المرجعية وجوداً قوياً يفرض نفسه على الساحة بكلّ مفرداتها وموازينها، ويجعل الحاضر يسير في خطّها وعلى نهجها، فيعطي للمستقبل صورة واضحة؛ لأنَّ الأُمّة ستلجأ إلى المرجعية في الأحداث الجديدة بعد أن جرَّبتها وعرفت كفاءتها في المرّة السابقة.

إنّ ثورة التنباك وما تمخَّض عنها من نتائج إيجابية، وَجَّهت أنظار الأُمّة أكثر إلى المرجعية، وتعاملت معها على أنّها مصدر القوّة الوحيد الذي يستطيع أن يحقّق لها طموحاتها ومصالحها، وأنّها الحكم القاطع في القضايا المتداخلة.

ومن هذه الرؤية، اطمأنت الأُمّة في إيران عام 1905م إبّان شروعها في المطالبة بالدستور والتي عرفت بالمشروطة، بأنَّ تحقّق أهدافها سيكون على يد المرجعية. وقد كان لعلماء الدين الدور الأكبر في قادتها وتوجيهها، وتحقيق صورة نادرة من الالتفاف الجماهيري حول القيادة العلمائية، أعطت نتائج ضخمة على الصعيد السياسي، لكنّ آثارها الاجتماعية لم تكن بحجم عطائها السياسيّ، بل يمكن القول إنّ الحركة الدستورية انتصرت سياسياً، لكنّه النصر الذي رافقه حدوث شرخ اجتماعيّ خطير في الأُمّة، نتيجة انقسام موقف علماء الدين بين مؤيّد للمشروطة وبين مناهض لها.

بدأت حركة المشروطة عام 1905م، وتزعّمها اثنان من كبار علماء الدين في إيران هما السيّد محمّد الطباطبائي والسيّد عبد الله البهبهائي، وقد حاولت الحركة الاعتماد على المرجعية الدينية في النجف الأشرف لتتّخذ موقفاً حاسماً ضدّ السلطة القاجارية التي كانت تعارض أهداف الحركة في إنشاء مجلس شورى. والحركة الدستورية في ذلك إنّما تريد أن يتكرَّر موقف المرجعية الذي حدث عام 1891م. غير أنّ الذي حدث هو انقسام الحوزة العلمية بين مؤيّد ومعارض. فكان على رأس أنصار المشروطة الشيخ كاظم الخراساني والشيخ حسن الخليلي والشيخ عبد الله المازندراني والشيخ محمّد حسين النائيني وغيرهم. وقاد الاتجاه المعارض السيّد كاظم اليزدي ومعه الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء وغيره.

كان النزاع بين الطرفين شديداً مؤلماً، وانعكست آثاره على الساحة الإيرانية، حيث برز الشيخ فضل الله النوري معارضاً قويّاً لأنّه شخَّص وجود انحرافات تتسلَّل إلى واقع الحركة، يقول السيّد هبة الدين الشهرستاني وهو من دعاة المشروطة، أنّ النزاع بلغ أشدّه بين السيّد اليزدي والشيخ الخراساني عام 1907م، وأنّ الخصومة بلغت منتهى الوحشية(1).

توسّعت دائرة الانقسام وشملت آثارها أوساط الأُمّة، حتّى إنّ طلبة العلوم الدينية من أنصار المشروطة كانوا يتعرّضون لمضايقات كثيرة وصلت لدرجة أنّهم لم يذهبوا لمدّة سنة لزيارة كربلاء أو الكوفة أو مسجد السهلة خوفاً على أرواحهم(1).

وتطوّر هذا الخلاف عندما دخلت العشائر كرقم فيه لدعم موقف الأطراف المتنازعة وهي سابقة خطيرة في هذا المجال. لأنَّ وقوف الأُمّة إلى جانب مرجع ضدّ آخر، يعني انقسامها على نفسها، وتحوّل المرجعية من قيادة الأُمّة إلى طرف متنازع مع قسم منها. ويروى في هذا الخصوص أنّ السيّد كاظم اليزدي طلب حضور العشائر العراقية إلى النجف الأشرف، فجاؤوا مسلّحين والتفّوا حوله (بهوساتهم) المندّدة بالمشروطة. وكان السيّد اليزدي عند حضوره للصلاة يسير معه الآلاف، بينما لم يكن يصلّي وراء الآخوند الخراساني إلاّ عدد قليل لا يزيد على الثلاثين(2).

إنّ عامّة الناس حين يتعاملون بهذه الروحية، فإنّهم يستسيغون تكرارها في المناسبات اللاحقة، لأنّهم يأخذون سلوكهم من موقف العلماء. ولعلَّ هذه الحادثة تنسجم في صورتها مع ما حدث بعد وفاة الشيخ النائيني، حيث خرج جمع من أهالي النجف الأشرف بأسلحتهم الجارحة ليقرّروا مَن يصلّي الجماعة خلفاً للشيخ النائيني، في حادثة مشهورة لا زال يتناقلها كبار السنّ كما نسمع منهم.

إنّ أخطر ما حملته أحداث المشروطة والمُستبدّة(3)، هي الفتاوى المتضادّة بين الطرفين. وكاد أن يحصل انشقاق خطير بين أوساط الأُمّة الواحدة قد يصل إلى القتال، لو أنّ تلك الفتاوى صدرت في وقتٍ واحد وبشكلٍ أوسع، لأنّها كانت تعتبر كلّ فريق بمثابة الخارج عن الإسلام. لكن الذي حدث أنّ الفتوى التي اشتهرت هي تلك الصادرة عن أنصار المشروطة، أمّا الفتوى الصادرة عن أنصار المستبدّة، فقد تناقلها البعض عن الشيخ فضل الله النوري بعد إعدامه وفي إطار محدود.

إنّ الفتاوى المتضادّة كانت تعني تناحراً غير معروف النتائج فيما لو وقفت إحداهما قبال الأخرى في الوسط الجماهيري، بغضّ النظر عن موقع أي الطرفين من الحقّ. لكن هذا لا يلغي آثار الانقسام العميقة للدرجة التي جعلت الناس في إيران تستسيغ إعدام الشيخ النوري بعد خلع الشاه محمّد علي، وانتصار المشروطة في إيران. وهو الحادث الذي صعق الطرفين، وأثّر كثيراً في نفس الملاّ كاظم الخراساني، كما اعتبر قادة المشروطة أنّ أنصارها تطرَّفوا في سيرهم، وذهب بعضهم إلى  اعتبارها انحرفت عن نهجها وخرجت عن الحدود المعقولة.

لعلّ الانتصار الساحق لحركة المشروطة هو الذي ساهم في حسم الخلاف أو على الأقل تهدئته. حيث بدا واضحاً أنّ النتيجة لا تقبل مزيداً من النزاع وأن لا جدوى من تصعيد حدّة الخلاف. وقد تمّ الانتصار بعد أن أعلن الملاّ الخراساني الجهاد ضدّ الروس الذين دخلوا إيران بجيوشهم لدعم محمّد علي شاه. وطلب الآخوند الخراساني من عشائر المنتفق وبني لام وآلبو محمّد وربيعة وتميم وغزة وشمّر وبني حسن وجماعات أخرى، أن يتحرّكوا مرّة واحدة(1). كما تهيَّأ المجاهدون في النجف الأشرف وكربلاء والكاظمية وبغداد وغيرها للذهاب إلى إيران ضمن حركة الجهاد.

وقبل أن يتوجَّهوا إلى إيران، وصل خبر سقوط الشاه على أيدي أنصار المشروطة وخروج الروس من إيران في (24 جمادى الثانية 1327هــ. المصادف 13 حزيران 1909م). وفي صخب تلك الأحداث أصدر قائد الشرطة وهو أرمني أمره بإعدام الشيخ النوري، فنفّذ به الحكم يوم 13 رجب 1327 هــ(2).

إنّ نجاح فتوى الجهاد أظهرت الملّا كاظم الخراساني على أنّه القائد الأوّل للتحرّك السياسي الإسلامي، ورفعت نتائج فتواه موقع مرجعيّته إلى مراتب عالية، وكادت أن ترتفع إلى مراتب أعلى عندما قرَّر السفر إلى إيران للجهاد أيضاً ومحاربة الروس الذين دخلوا إيران من جديد. لكنّه توفّي ليلة سفره في ظروف غامضة، ليس هنا مجال مناقشتها، وذلك في 20 ذي الحُجّة 1329 هــ، (12 كانون الأول 1911م).

إنّ الأحداث التي صنعتها المرجعية الدينية في الساحة الإيرانية في تاريخها الحديث، انطلقت من موقف السيّد حسن الشيرازي في قضية التنباك التي أفرزت انتصاراً سياسياً واتّساعاً جماهيرياً مؤيّداً للمرجعية. وكان امتداد هذا التأثير في حركة المشروطة التي أعطت نتائج سياسية أكثر خطورة من الأولى، لكنّها أكثر خطورة على الوسط الإسلامي أيضاً.

المهمّ أنّ طريقة العلماء في التعامل مع الأحداث وكفاءتهم السياسية، وحسّهم الاجتماعي، هي التي تحدّد حجم النتائج وطبيعتها.

صحيح أنّ تلك الأحداث وقعت في إيران لكنّ انعكاساتها في العراق كانت قويّة، لاسيّما وأنّها كانت توجه من الحوزة العلمية في النجف الأشرف بالدرجة الأساسية. كما أنّ القوّة التي ظهرت بها المرجعية في مواقفها تجاه الساحة الإيرانية لا تختصّ بإيران وحدها، بل إنّ الأوساط العراقية تشاركها نفس النظرة، وهذا يعني أنّ موقع المرجعيّة تعزَّز في العراق مثلما تعزَّز في إيران.

لكن من المناسب تثبيت حقيقة تاريخيّة هامّة في هذا السياق، تلك هي أنّ الأحداث التي وقعت في العراق، لم تشهد انقساماً في موقف المرجعية كالذي شهدته أحداث المشروطة في إيران. وبالتالي لم تواجه الأُمّة خطر الانقسام من جرّاء وقائع ساحتها، بل ظلَّت متماسكة إزاء الأحداث المختلفة والتطوّرات السريعة التي مرّت على الحياة السياسية العراقية، والتي كان للمرجعية الدينية الدور الأكبر والأساس في صناعتها وتوجيهها، وتحقيق نتائج على قدر كبير من الخطورة.

بدأ هذا التسلسل وقائعه مع الأيام الأولى للحرب العالمية الأولى، ففي 9 تشرين الثاني 1914م وردت برقية من البصرة إلى علماء الدين في المناطق المقدّسة، تخبرهم بأنّ قوات الانكليز على مقربة من البصرة، وعلى الفور استجاب مراجع الدين لهذا الحدث الكبير وأفتوا بوجوب الجهاد دفاعاً عن بيضة الإسلام ضدّ العدوّ الكافر. وقد استجابت العشائر العراقية لهذه الفتاوى وانطلقت كتائب المجاهدين تحت قيادة العلماء.

في النجف الأشرف أفتى السيّد محمّد سعيد الحبّوبي بالجهاد، وكان له دور طليعيّ في هذا الخصوص(1). كما أفتى السيّد كاظم اليزدي أيضاً بوجوب الجهاد، وأرسل نجله السيّد محمّد لينوب عنه في استنهاض العشائر، وخطب في الصحن العلوي الشريف في 16 كانون الأول يحثّ الناس على الدفاع عن البلاد الإسلامية، وأوجب على الغنيّ العاجز بدناً، أن يجهّز من ماله الفقير القويّ(2).

إنّ موقف السيّد اليزدي له أهميّته الخاصة، فلقد كانت علاقته بالحكومة العثمانية متوتّرة، على اعتبار أنّها كانت بيد جمعية الاتحاد والترقّي، وقد سبق لأعضائها أن هدَّدوه بالنفي باعتباره من أعداء الحكومة الدستورية. ورغم كلّ ذلك تناسى الماضي وتعامل مع الحاضر وفق متطلّباته واحتياجاته. وحقَّق بذلك وحدة الصف العلمائيّ التي كانت مفقودة خلال أحداث المشروطة وفي أعقابها. ولا شكّ أنّ السيّد اليزدي لو امتنع عن الاستجابة لحركة الجهاد، سواء بالمعارضة أو بالحياد، لتلكأت الحركة ولم تُعْطِ نتائجها الضخمة التي أعطتها.

مثَّلت حركة الجهاد أكبر صورة لوحدة الموقف في الأوساط الحوزويّة في النجف وكربلاء والكاظمية وسامراء، وكان طبيعياً أن تلقى هذه الحركة تجاوباً فاعلاً من قِبَل الأُمّة بمختلف قطاعاتها وفئاتها. وهي الصورة التي ظلَّت شاخصة في التاريخ الإسلامي ومتميّزة من بين الأحداث الأخرى.

لقد جاءت حركة الجهاد بمبادرة سريعة من المرجعية، حيث تعاملت مع الظرف السياسي بمواكبة دقيقة لمفرداته، وبحضور ميداني قويّ على الساحة. فكان طبيعياً أن تسير الأُمّة على نهج مراجعها وتقدّم كلّ طاقاتها وإمكاناتها لتحقيق قرار المرجعية. وبذلك يكون مراجع الدين قد خلقوا قاعدة جماهيرية ضخمة تستجيب لأوامرهم، كما أنّ الجماهير ظلَّت تنتظر رأي علمائها في المواقف الصعبة، لتطبيق قراراتهم على أرض الواقع.

غير أنّ حادثة تاريخيّة وقعت بعد فترة قصيرة من حركة الجهاد، كانت مؤشّراً على إمكانية حدوث انفصال بين بعض فئات الأُمّة وبين مراجع الدين. ففي ليلة 22 مارس 1915م، اندلعت ثورة محلية في النجف الأشرف ضدّ السلطة التركية وأسفرت بعد ثلاثة أيام من القتال عن إخراج القوات التركية من المدينة، وقيام إدارة محليّة برئاسة زعماء المحلات الأربع في المدينة، وهي العمارة، الحويش، البراق والمشراق، وقد عاد الأتراك بعد مفاوضات مع زعماء النجف المحلّيين وبوساطة من علماء الدين، فأبقوا لهم وجوداً رمزياً إدارياً لحفظ هيبة الحكومة.

والواقع أنّ موقف المرجعية إزاء هذه الثورة لم يكن قاطعاً، فهي في خطّها العام تتعارض مع توجّه المراجع في دعم الدولة العثمانية ومقاومة الاحتلال البريطاني، وعليه فالمفروض أن يصدر رأي واضح في هذا الخصوص. لكن الذي حدث أنّ علماء الدين احتجّوا على ضرب الجيش العثماني خلال المعارك لإحدى المآذن في الحرم العلوي الشريف. فقد أصدروا منشوراً إلى العالَم الإسلامي وقَّع عليه مئتا عالِم دين ووافق عليه السيّد كاظم اليزدي الذي بعث برقية احتجاج إلى اسطنبول حول هذا الحادث(1).

وإذا جاز لنا اعتبار هذا الموقف بمثابة التأييد للثورة، فإنّ موقف العلماء في الوساطة وإعادة السلطة التركية بشكلها الرمزي إلى النجف الأشرف يمكن اعتباره بالمقابل تأييداً للأتراك. يضاف إلى ذلك أنّ علماء الدين استجابوا لطلب الحكومة التركية في أعقاب هذا الحادث في تجديد الدعوة للجهاد، وبالفعل قاموا بها بنفس الاندفاع الأوّل.

وفي ضوء ذلك يمكن القول أنّ علماء الدين ومراجعه لم يكن لهم موقف قاطع فيما حدث، وأنّ مواقفهم تحرَّكت في المنطقة الوسط بين التأييد والمعارضة.

إنّ غياب القرار العلمائي الحاسم في هذه المسألة، ولَّد شعوراً عند زعماء النجف الأشرف بضرورة السلطة المستقلّة التي يكون لهم فيها الرأي والقرار والموقف بعيداً عن توجّهات المرجعية. وهو ما برز خلال الدعوة الثانية للجهاد، حيث عارضها هؤلاء الزعماء لكنّهم اضطروا لمسايرتها في النهاية.

إنّ علماء الدين حين يقومون بدور وساطة بين بعض فئات الأُمّة وبين طرفٍ آخر، يفقدون صفتهم القيادية، وتتعامل هذه الفئة معهم على أنّهم خارج دائرة الحدث، وبالتالي تكون آراؤهم عرضة للقبول أو الرفض أو التعديل، وفي ذلك مؤشّر على إمكانية انفصال هذه الفئة عن الموقف العلمائي، وهو ما حدث في إطار محدود إبّان ثورة النجف عام 1918.

اندلعت هذه الثورة في آذار 1918م، إثر هجوم الحاج نجم البقَّال على مقرّ الحاكم الإنكليزي، وأنجزت جمعية النهضة الإسلامية التي ينتمي إليها إلى المواجهة المسلّحة قبل استكمال مستلزماتها. وقد كانت قيادة الجمعية تتألف من اثنين من كبار علماء الدين في الحوزة العلمية، هما السيّد محمّد علي بحر العلوم والشيخ محمّد جواد الجزائري، وكانت تسير وفق الخطّ العام للمرجعية في مقاومة الاحتلال الانكليزي.

لكنّ جمعية النهضة وهي المحرّك الرئيس لأحداث النجف لم تحظَ بدعم مرجعي ملموس. فمراجع الدين وكبار العلماء الذين ساهموا في حركة الجهاد، أمثال الشيخ محمّد تقي الشيرازي والشيخ مهدي الخالصي والسيّد كاظم اليزدي وشيخ الشريعة الأصفهاني وغيرهم لم تكن لهم علاقة واضحة مع الجمعية، وعلى فرض أنّ نشاط الجمعية السرّي قد جعلها تتحرّك في أوساط محدودة، وبالتالي حجب تفاعل العلماء معها والتنسيق في مشاريعها، فإنّ اندلاع ثورة النجف كان يستدعي مؤازرتها، خصوصاً وأنّها تهدف إلى تحريك عشائر الفرات الأوسط ضدّ الإنكليز في ثورة جماهيرية كبيرة. وقد مرَّت النجف الأشرف بظروف قاسية كانت أحوج ما تكون إلى دعم العشائر وهو ما لا يتمّ إلاّ بتدخّل العلماء ودعمهم. كانت الثورة بحاجة إلى موقف مؤيّد يؤكّد الجهاد ضدّ الإنكليز.

لكنّ موقف العلماء تمثّل في محاولة تهدئة الأوضاع، والخروج بحلّ سلمي، لاسيّما بعد أن وجدوا أنفسهم بعيدين عن مجريات الأحداث، وأنّهم لا يمتلكون القرار المؤثّر على الثوّار الذين يتزعّمهم زعماء النجف المحليّون. وقد تأكّدت هذه المسألة في اليوم الحادي والعشرين من آذار وهو اليوم الثالث للثورة، حيث عقد السيّد كاظم اليزدي اجتماعاً كبيراً في مدرسته دعا إليه العلماء والأعيان والرؤساء والوجوه، ليبحث حقيقة الأمر والتفاوض مع رجال الثورة، وقد انفضَّ الاجتماع دون نتيجة، فقد كان الثوّار يرون أنّ المفاوضات ليست في صالحهم وأنّها تضعف موقفهم.

وتأسيساً على ذلك، أصبحت الثورة موقفاً خاصاً برجالها، أمّا علماء الدين وعلى رأسهم السيّد اليزدي فهم في طرف خارج القضية، وإنّ تدخّلهم يأتي ضمن مساعي الوساطة.

ونجم عن اختلاف القناعات والمواقف، تباعد في طريقة التحرّك، فكان من الصعب على علماء الدين أن يزجّوا بأنفسهم في خطوة ليس لهم فيها رأي، وربّما اقتنعوا بأنّ الوضع العسكري والسياسي لا يسمح لهم باتّخاذ موقف عمليّ مؤيّد للثورة، حتّى ولو أصدروا فتوى الجهاد. وظلُّوا على موقفهم هذا حتّى نهاية الثورة ودخول قوات الإنكليز إلى النجف الأشرف.

إنّ هذا الابتعاد من قبل العلماء عن بعض الأحداث السياسية فيما يتعلّق بالمواكبة والموقف لم يستمرّ طويلاً، إذ سرعان ما تصدَّرت المرجعية لحركة الساحة في أوّل خطوة سياسية أراد الإنكليز القيام بها، في أعقاب انتهاء الحرب العالمية الأولى. كان المشروع الإنكليزي يقضي بإجراء استفتاء عام للشعب العراقي، بغية إحكام سيطرتهم على العراق ورسم مستقبله وفق إرادتهم. فلقد كان الإنكليز يريدون أن تأتيَ نتائج الاستفتاء تطالب بإدارة بريطانية مباشرة على العراق. غير أنّ مراجع الدين وكبار العلماء أحبطوا هذا المشروع، حين أصدر الميرزا محمّد تقي الشيرازي فتواه الشهيرة في 20 ربيع الأول 1337 هــ، (23 كانون الثاني 1919م)، والتي نصَّت على ما يلي: (ليس لأحد من المسلمين أن ينتخب ويختار غير المسلم للإمارة والسلطنة على المسلمين). فكانت هذه الفتوى موقفاً قاطعاً لعموم الأُمّة، لا يقبل التردُّد أو التداخل، وقد برز إثرها الميرزا الشيرازي كقائد للأُمّة، يتصدّى لحركتها ويوجِّهها ضدّ مشاريع الإنكليز.

وانعكس الموقف المبادر للميرزا الشيرازي على بقيّة أوساط الحوزة العلمية، حيث أيّده علماء كربلاء وأصدروا فتاوى مماثلة، كما أصدر علماء الكاظميّة فتاوى تحرّم على المسلمين التصويت لغير تشكيل حكومة إسلامية في العراق(1). وبذلك استطاع الميرزا الشيرازي أن يتصدَّر الأحداث وأن يوجد لنفسه قاعدة جماهيرية واسعة، تسير في خطّ المرجعية.

وممّا سهّل مهمّة الميرزا الشيرازي، وجعلها تعطي نتائج سريعة وقويّة في كافّة أنحاء العراق، بعد الانفصال النسبي الذي حلَّ بين المرجعية وبعض فئات الأُمّة، اعتماده على العمل التنظيمي الذي مثَّل في تلك الفترة وبعدها ذراعاً فاعلة للمرجعية. فلقد كانت له علاقات جيّدة مع عدد من الأحزاب والجمعيات، كما أنّه أشرف على بعضها.

وكانت تلك الأحزاب بشكلٍ عام تتميَّز بأنّها تأسّست على يد علماء الدين، مثل الحزب النّجفي السرّي الذي ضمَّ الشيخ عبد الكريم الجزائري والشيخ محمّد جواد الجزائري والشيخ جواد الجواهري والشيخ حسين الحلّي والشيخ عبد الحسين الحلّي والشيخ عبد الحسين مطر وغيرهم. والجمعية الإسلامية في كربلاء والتي ضمَّت الشيخ محمّد رضا نجل الميرزا الشيرازي والسيّد هبة الدين الشهرستاني والسيّد حسين القزويني وآخرين. والجمعية الإسلامية في الكاظمية التي أسَّسها السيّد أبو القاسم الكاشاني(1). كما أسَّس شيخ الشريعة الأصفهاني في أواخر عام 1918م جمعية إسلامية سياسية في النجف الأشرف، باسم الهيئة العلمية(2) ولعلَّها المرّة الأولى والوحيدة في تاريخ العراق التي تشهد مثل هذا التحرُّك السياسي لرجال الحوزة العلمية على مستوى العمل الحزبيّ، فكان طبيعياً أن يستقطب علماء الدين قطاعات الأُمّة، وأن يصنعوا الأحداث الكبيرة في السّاحة. حيث تحوّلت المرجعية إلى قيادة ميدانية حقيقيّة تدرك بدقّة مفردات الحياة السياسية وتتعامل معها بمواكبة يوميّة للأحداث.

إنّ القاعدة الجماهيرية الواسعة والموقع السياسي والديني الذي تتمتَّع به المرجعية، سهّل في الفترة القصيرة اللاحقة، عملية الثورة المسلّحة ضدّ الإنكليز، حيث كانت الثورة الكبرى في 30 حزيران 1920م تمثّل أعلى صورة التلاحم المرجعي ـــ الشعبي في أكبر تحرّك إسلامي خلال النصف الأوّل من القرن العشرين.

ورغم أنّ ثورة العشرين لم تحقّق أهدافها السياسية، لكنّها أظهرت المرجعية على أنّها قوّة سياسية كبيرة، فكانت الأُمّة تنتظر مواقفها لتسير على نهجها، وهو ما تحوّل إلى هاجس مخيف للإنكليز، وللسلطات العراقية فيما بعد.

لقد عاد هذا الدور القيادي بثقله على الساحة، بعد أن عقدت الحكومة العراقية معاهدة عام 1922م مع بريطانيا، وكانت تسعى لإجراء انتخابات المجلس التأسيسي ليصادق على المعاهدة، فقد تصدَّت المرجعية لهذا الحدث الكبير، وصدرت الفتاوى القاطعة بتحريم الاشتراك في الانتخابات، وكانت استجابة الأُمّة واسعة، حيث عانت الحكومة العراقية من أزمة سياسية حادّة واضطرّت إلى تغيير أكثر من وزارة أمام تصاعد المعارضة الإسلامية، حتى جاء عبد المحسن السعدون إلى رئاسة الوزارة، ونفذ خطوته الشرسة في تسفير الشيخ مهدي الخالصي والسيّد أبي الحسن الأصفهاني والشيخ محمّد حسين النائيني مع عدد كبير من العلماء إلى إيران في حزيران 1923م. وكان هذا الإجراء ضربة قاسية للتحرّك الإسلامي، وللدور العلمائي في قيادة الأحداث.

إنّ تلك الخطوة كانت انعطافة خطيرة في تاريخ الحوزة العلمية والتاريخ العراقي بشكلٍ عام، إذ لم تظهر بعدها الأوساط العلمية والمرجعية بصورتها السابقة التي رسمتها عبر سلسلة حافلة من المواقف الكفوءة على المستويين السياسي والجماهيري، حتّى بعد عودة السيّد أبي الحسن الأصفهاني والشيخ محمّد حسين النائيني إلى العراق. ولم تظهر لعلماء الدين إلاّ مواقف متباعدة تجاه بعض الأحداث السياسية، مثل موقف الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء في أحداث العراق خلال الفترة 1933 ـــ 1935م، وتأييد بعض مراجع الدين لحركة رشيد عالي الكيلاني عام 1941. وقد أصبح واضحاً أنّ فاصلة قد حدثت بين الأُمّة وبين المرجعية، حيث وقعت الأُمّة تحت تأثير التيّارات الفكرية والسياسية اللاّإسلامية وأبرزها التيّار الشيوعي، واهتمّت الحوزة العلمية بشؤونها الخاصّة.

ونتيجة لذلك، تعامل الأُمّة على أنّها تفتقد إلى القيادة الدينية، وتعاملت المرجعية على أنّها تفتقر إلى القاعدة الجماهيريّة.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الفصل الثاني

 

 

 

 

إشكاليّات الواقع الشيعي

 

 

 

 

في نظرة استشرافية يرسلها العلامة فضل الله نحو المستقبل، يعود مُحمَّلاً بعدم الرضا. فهو لا يرى أنّ موقع المرجعية سيكون على النحو الذي صنعه الإمام الخميني، والذي جعله يرتفع إلى أعلى مستوى في مواجهة الواقع السياسي العالمي. لا يرى السيد العلامة ذلك، لأنّه كما يقول: (لا نملك هناك أسماء كبيرة في العالم المتحرّك للمرجعية).

إنّ هذا القول يثير مباشرة شعوراً بالغموض والخوف حول واقع ومستقبل المرجعية الشيعية، فتندفع أسئلة ملحّة ساخنة:

ـــ هل أنّ المرجعية الشيعية تواجه أزمة؟

ـــ هل ستواجه المرجعية زمن تحدٍّ بعد ما كانت هي التي تصنع زمن التحدّي؟

ـــ هل انتهى عصر العطاء المرجعي؟

ـــ ما هي مسؤولية الحوزات العلمية إزاء واقعها الذاتي وإزاء الواقع الإسلامي؟

ثمّ: من هو البديل المستقبلي؟

هذه التساؤلات تستوجب الوقوف والتأمّل من أجل استكشاف الحلول. فالمسألة لا ترتبط بشخص أو بموقع، إنّما بواقع إسلامي كبير يريد أن يحقّق مكاسبه وينقل خطواته إلى حيث الهدف. ويراد له ـــ من الجهة المضادّة ـــ أن ينكمش في حدوده، ويتراجع عن المساحات التي شغلها. وبين الإرادتين فارق زمني يقاس بالعقود الطويلة.

إنّها تساؤلات تبحث بالضبط عن مسارات المستقبل القادم للمرجعية، والذي بدأت محدّداته تتكوّن حاضراً، وبما يشبه الضواغط على الواقع الإسلامي في دائرته الشيعيّة.

وعلى هذا فإنّنا سنحاول التنقّل على الأسئلة الآنفة، للتوصّل إلى أجوبة لها في ضوء مناقشة ودراسة ما يطرحه العلاّمة فضل الله من أفكار وتصوّرات حول المرجعية.

أزمة تتكوَّن

ترك رحيل الإمام الخميني في حزيران 1989، أكثر من فراغ في المواقع التي شغلها طوال حياته. وإذا كانت القيادة الإيرانية قد استطاعت أن تملأ فراغه القياديّ بتعيين السيّد علي خامنئي قائداً للدولة وخليفة للإمام الراحل كوليٍّ فقيه، بعد أقلّ من 24 ساعة على الوفاة، فإنّ هناك فراغاً آخر ظلّ شاغراً، ولم يكن بإمكان القيادة الإيرانية أن تتّخذ قراراً بشأنه، لأنّه من القضايا التي لا تخضع لقرار سياسي، إنّما يرتبط بالجانب العقائدي للشيعة، ذلك هو موقع المرجعية الدينيّة التي تصدّى لها الإمام الخميني في حياته.

صحيح أنّ الفراغ المرجعيّ الذي ولّدته وفاة الإمام، لا يشكّل أزمة خطيرة أمام الدولة، إلاّ أنّه يمثّل حاجة ملحّة على الدوام. وقد ازدادت هذه الحاجة بعد أن أعطى الإمام الخميني المرجعية أدواراً أكثر سعة ممّا كانت عليه سابقاً، حيث جعل مساحتها تتعدّى دائرة الشؤون الدينية لتشمل كلّ شؤون الحياة العامة من سياسية واجتماعية واقتصادية وغيرها.

لم تكن مهمّة الإمام سهلة، فلقد صرف من أجل تثبيت هذه المسألة عمره السياسي كلّه، ولم تخلُ محاولاته في هذا الخصوص من احتجاجات مختلفة الشدّة من قبل الكثير من علماء الدين التقليديّين الذين لا يؤمنون فقهيّاً برأي الإمام الخميني بولاية الفقيه.. أو أولئك الذين يؤثرون عدم التدخّل في الشؤون السياسية.

ولولا نجاح الإمام الخميني في ثورته، لما قدّر لرأيه الفقهي أن يتحوّل إلى تيّار قويّ في الأوساط العلمية الشيعيّة. كما أنّ انتصاره أثّر كثيراً على حجم قاعدة التقليد التي كان يتمتّع بها مراجع الدين الآخرون.

وثمّة ملاحظة مهمّة في هذا السياق، تلك هي أنّ مقلّدي المراجع الآخرين من الحركيّين كانوا ينظرون إلى الإمام الخميني على أنّه قائد المسلمين ووليّ أمرهم. لذلك فإنّهم كانوا يتبعون أمره في الشؤون السياسية والاجتماعية وغيرها، باستثناء الأحكام الشرعية في العبادات والمعاملات حيث يرجعون فيها إلى مراجعهم. ممّا يعني أنّ مرجعية الإمام الخميني لم تتحرّك في دائرة مقلّديه فقط، إنّما تجاوزتها إلى غيرهم، نتيجة التصدّي القيادي والولاية الفقهية التي تبنَّاها.

لقد خلقت المرجعية الخمينيّة إحساساً عميقاً في نفوس الشيعة ولاسيّما الحركيّين منهم، بضرورة انطلاق المرجعية الدينية، انطلاقة جديدة تتجاوز الأُطر التي وضعت نفسها فيها أو التي فرضت عليها.. وأن تسير على طريقة الإمام الخميني، حتّى وإن اختلفت معه في بعض الأُسس الفقهية.

إلاّ أنّ المسلَّم به، أنّ هذه الرغبة ليس من السهولة أن تتحقَّق. فالمرجع الذي قضى القسم الأعظم من عمره الطويل عادة، وهو يؤمن بنمط معيّن من العمل والتعامل مع الحياة ـــ استناداً إلى رؤيته الفقهية ـــ من الصعب جداً أن يتحوّل إلى أسلوب آخر غريب عليه من وجوه عديدة.

إنّ هذه الرغبة كانت تموت على أبواب مراجع الدين الشيعة، وكان أفضل مكسب تحقّقه، أنّها لا تصطدم بمعارضتهم.. وقد تحظى بتأييد من قبيل الإشارة أو السكوت الدّال على الرضا.

إلاّ أنّ النجاح الذي حقّقه اتجاه الإمام الخميني، أنّه فرض نفسه على جوّ الحوزات العلمية، بحيث أنّ الكثير من العلماء الذين لم يكونوا يهتمون بالسياسة اهتماماً ملحوظاً، أصبحوا يتابعون شؤونها بصورة أفضل بكثير من السابق، بعد أن شعروا أنّ عزلتهم الاجتماعية والسياسية ستنتهي بهم إلى زوايا هامشية.

كما أنّ هذا الاتجاه دفع العديد من طلبة الحوزات والعلماء السائرين في برنامجهم الحياتي نحو الوصول إلى رتبة الاجتهاد، إلى اقتفاء أثر الإمام الخميني، ويؤمن هؤلاء بالأُسس الفقهية للإمام. وقد أشارت هذه الظاهرة الجديدة إلى أنّ المرجعية الشيعيّة ستتحوّل ذات يوم من الأيام إلى مرجعية على شاكلة المرجعية التي صنعها الإمام الخميني.

غير أنّ هذا اليوم يبدو بعيداً، على اعتبار أنّ الوصول إلى درجة المرجع لا تحتاج إلى مقدرة عقلية فائقة وكفاءة علمية رفيعة فحسب، بل إنّها تحتاج إلى اعتبارات مهمّة تتطلّب بمجموعها عمراً زمنياً يستند إلى التاريخ والعطاء وغيرهما.

يلخّص السيّد العلامة هذه المسألة بقوله:

(إنّ الإمام أعطى أفقاً للمرجعية قد يتعب الكثيرون قبل أن يصلوا إليه إذا كانت لديهم القدرة على الوصول إليه، لأنّ مرجعية الإمام التي أخذت هذا الحجم العالمي كانت منطلقة من عناصر الشخصية الذاتية ولاسيّما شجاعة الموقف ورحابة الأُفق، ومن الظروف الموضوعية التي هيّأت له الكثير من الشروط الواقعية التي ساهمت في الوصول إلى هذه النتائج، ممّا قد لا يحصل لمراجع آخرين قد يملكون شجاعة الإمام، وقد يملكون رحابة الأُفق، ولكنّهم لا يملكون الظروف الموضوعية التي قد تدفع بالواقع إلى الآفاق الكبيرة التي أوصله إليها الإمام)(1).

وإضافة إلى ذلك فإنّ وجود المراجع الحاليّين يمثّل واقعاً ملموساً ثابتاً.. وليس ثمّة ما يشير إلى أنّهم سيتخلّون عن تقليديّتهم إلى الحركية، بل إنّ عدداً لا بأس به من تلاميذهم المتقدّمين، يؤمنون بمنحاهم في التعامل مع الحياة.

خلال حياة الإمام الخميني، كان الشيخ حسين علي منتظري يعتبر جسر الإنقاذ بين الضفّتين الزمنيّتين، باعتباره المرجع الجاهز بعد الإمام الخميني، والذي يتّفق معه في أُسسه الفقهية، ولكنّ المشكلة الكبيرة كانت في طريقة تعامله مع الأشخاص والمواقف. وهو ما تطوّر في أواخر حياة الإمام، حتّى انتهى بتنحيته على يد الإمام نفسه.

إنّ انهيار جسر التواصل، أثار مرّة واحدة قضية القيادة التي ستخلف الإمام. فلم يكن من بين مراجع الدين البارزين من يتّفق مع الإمام الخميني في أُسسه الفقهية القائلة بتصدّي الفقيه لقيادة الدولة. ورغم أنّهم لا يعارضون الإمام في الرأي، إلاّ أنّ هناك فارقاً كبيراً بين القناعة الفقهية وبين الموقف السياسي. إنّه الفرق الذي يفصل بين تولّي مهام الإمام وبين عدم تولّيها.

وإذا كانت جماهير الشيعة ـــ ولا سيّما الأوساط الحركية ـــ قد نظرت بخوف إلى المستقبل فيما يتعلّق بقيادة الجمهورية الإسلامية في مرحلة ما بعد الإمام، وراحت أوساطهم العلمية تناقش إمكانية الخروج من الأزمة القادمة.. فإنّ الإمام الخميني قدَّم حلاًّ منطقياً حين أوصى بإجراء تعديلات دستورية، وأوضح إمكانية الفصل بين قيادة الدولة وبين المرجعية، فلا يشترط في الوليّ الفقيه أن يكون مرجعاً دينياً.

وبذلك لم تعد هناك مشكلة في قيادة الدولة الإسلامية، والتي كانت تصل لدرجة التهديد المستقبليّ لو لم يحسمها الإمام قبيل وفاته.

لكنّ المشكلة التي ولدت لحظة وفاته هي المرجعية التي تخلف الإمام الخميني، بحيث تستطيع أن تستقطب مقلِّديه وتحظى بالقداسة والتأثير في نفوسهم وفي نفوس غيرهم.

وثمّة مشكلة أخرى، قد تكون عناصرها في طور التكوين؛ إنّها العلاقة بين القيادة والمرجعية. فربّما اختلف الموقعان في القضية الواحدة، ممّا يسبّب أزمة في دائرة الدولة والأُمّة. ويفسّر آية الله السيّد فضل الله هذه المسألة بقوله:

(إنّ مسألة المرجعية التي تتحرّك في واقعها الحالي في دائرة الفتاوى، قد تختلف في خطوطها الفتوائية عن نظرة القيادة إلى ما فيه مصلحة الأُمّة. وبذلك يحصل التجاذب بين فتوى المرجعية وبين حركة القيادة، كما أنّ طبيعة موقعي القيادتين اللذين يطلّ أحدهما على الآخر قد يوجد الكثير من الضغط والضغط المضاد... الحركة والحركة المضادة، ممّا يتسبّب في إرباك الواقع الإسلامي)(1).

لا يرفض السيّد العلامة فكرة الفصل بين الموقعين، لكنّه يجد فيها حلاًّ استثنائياً تفرضه ظروف الواقع، وأنّ هذه الإثنينيّة المفروضة تختزن في داخلها مشكلة تسير مع الزمن، وقد تتفجّر حين يختلف الموقعان في الموقف الواحد. والاختلاف لن يكون حدثاً عابراً يمكن السيطرة عليه بالتوفيقيّة، إنّه سيكون بين فتوى شرعية وبين موقف سياسي، ولنا أن نتصوّر حجم المشكلة وآثارها الممتدّة في الصعيدين السياسيّ والاجتماعيّ.

ويحقّ لنا أن ننطلق من كلام السيّد فضل الله في النظر إلى مشكلة أخرى هي من مستتبعات الفصل بين القيادة والمرجعية. حيث نلاحظ أنّها تكرّس حالة تقليدية في الواقع الشيعي، متمثّلة في الإبقاء على تقليدية المرجعيّة، وعدم انفتاحها على الواقع السياسي، وهذا ما يمثّل عودة إلى الوراء، إلى ما قبل مرجعيّة الإمام الخميني.

وحين نصل إلى هذه النقطة، فإنّنا نجد أنفسنا تتطلّع إلى شكل المستقبل الذي ستكون عليه الحركة الإسلامية الشيعيّة في مناطق تحرّكها المختلفة في العالَم الإسلامي، بعد أن فقت المرجع الذي أعطاها قوّة دفع ضخمة، ووفَّر لها عناصر الثقة المطلوبة.

صحيح أنّ الحركات الإسلامية قد انطلقت بقوّة وفاعلية، وأحدثت تغييرات وتحوّلات ومواقف كبيرة في ساحات عملها في وقت كانت فيها المرجعية ضعيفة الحضور في الميدان السياسيّ والاجتماعيّ، أو على الأقلّ لم تكن بمستوى النموذج الخميني، ومع ذلك فقد وصلت بالتحرّك إلى درجات مقنعة من النجاح.

وصحيح أنّ الحركات الإسلامية تنطلق من قاعدة إسلامية شرعية واضحة هي وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو ما لا يحتاج إلى إذن شرعي. بمعنى أنّ كون المرجعية تقليدية أو حركية، لا يؤثّر من حيث الأساس على عمل الحركات الإسلامية، وأنّ التفاوت يحدث في حجم التبنّي والدعم الذي يقدّمه كلّ واحد من نمطيّ المرجعية للتحرّك.

وصحيح كذلك أنّ غياب الإمام الخميني لا يمثّل انتكاسة للعمل الإسلامي، لأنّ ما صنعه الإمام في حياته سيظلّ ثابتاً بعد رحيله وممتداً في أجيال قادمة.

كلّ ذلك صحيح، ولا إشكال عليه ولا اعتراض. ولكنّ المهمّ هنا أن نميِّز بين المراوحة والانطلاق.. بين أن نقنع بالإنجاز ونقف عنده وبين أن نحقِّق الإنجاز وندفع به.

لقد غيَّرت قيادة الإمام الخميني الكثير من الثوابت، وصار التحرّك الإسلامي حالة متحدّية بعدما كان مدافعاً. وقد تبدّلت نتيجة ذلك أساليب التعامل معه وطرق مواجهته. ممّا يستلزم أن يكون التحرّك الإسلامي بحجم تحدّيات الواقع الجديد، وأن يفكِّر ويخطّط وينفّذ في ضوء الحسابات الجديدة. وهذا ما يبرز ضرورة وجود مرجعية على نمط المرجعية الخمينيّة.. مرجعيّة تدفع بالتحرّك الإسلاميّ إلى الأمام، وتقدّم له الدعم في مواجهة التحدّي المضادّ.

إنّ الفصل بين القيادة والمرجعية كان حلاًّ مفروضاً، لغياب المرجع القائد في السّاحة الإيرانية. وربّما استطاعت القيادة الإيرانية أن تسيطر على مصادر الارتباك الناجمة عن هذه الإثنينيّة، ضمن دائرتها الإقليميّة.

لكنّ المسألة لا تنحصر بالوضع الإيراني وحده. إنّما هي تتّصل بالمحيط الشيعي كلّه، بكلّ امتداداته وحركاته ومؤسّساته المتحرّكة في الخطّ الإسلاميّ الواعي، والتي تجد نفسها مشدودة من الناحية الفقهية إلى شخص المرجع الدينيّ، وملتزمة بما يصدر عنه من فتاوى وأحكام.

إنّها أزمة حقيقيّة، تتضخَّم مع الأيّام، وتستدعي البحث عن حلّ موضوعي يستند إلى حسابات الواقع.

الإنطلاقات المتفاوتة

من الظواهر البارزة في الوسط الشيعي، أنّ المرجعية الدينية رغم موقعها الشرعي المقدّس، إلاّ أنّها كانت في معظم الفترات موضع عتب القاعدة الشيعيّة، ولا سيّما الوسط الحركيّ. وقد برزت هذه الظاهرة بشكلٍ ملحوظ منذ الخمسينات من هذا القرن، نظراً للتطوّرات السريعة والخطيرة التي شهدها العالَم الإسلاميّ.

لقد كان جيل الحركيّين يتطلَّع إلى آفاق كبيرة في حركة تغييريّة شاملة تعيد المجتمع إلى جذوره الإسلامية فكراً وسلوكاً. وقد خاضت إثر ذلك مواجهة واعية مع التيّارات الفكريّة والسياسيّة المنحرفة عن الإسلام.

وقد كانت هذه الحركات تنظر صوب المرجعية بحثاً عن الموقف المطلوب الذي يناسب طبيعة الظروف المحيطة بالجوّ الإسلاميّ. لكنّها كانت ـــ في الأغلب ـــ تصطدم بحاجز من التقليدية يكاد يكون معترضاً على أسلوب التحرّك، بل إنّه في بعض الحالات يكون معترضاً ورافضاً، ممّا يشكّل عقبة  كبيرة بوجه حركة الدعوة إلى الإسلام. وقد تتضخَّم هذه العقبة لتصبح مشكلة أساسيّة في واقع التحرّك الإسلامي، إذ إنّ الحركة لا يمكن أن تتجاوز المرجعية، لأنّ من جملة أهدافها أن تنقل المرجعيّة من الجمود إلى الحركة، وأن تخرجها من عزلتها في حدود الحوزة إلى الانفتاح على سعة الأُمّة وقضاياها لتأخذ دورها الطبيعي في السّاحة الإسلامية.

وقد كانت الحركات الإسلامية الشيعيّة ـــ وما تزال ـــ تجد في الزمن الواحد مرجعاً يدعم توجّهاتها، وآخر يقف معارضاً، ضمن التعقيدات الكثيرة التي تحكم علاقات المراجع فيما بينهم، أو التي تسيطر على رؤيتهم للحياة.

ونتيجة ذلك كانت الحركة تعيش واقعاً مهدَّداً على الدوام، وحالة غير مستقرّة باستمرار. لأنّ المرجع الحركيّ الذي يتبنّى منهاجها ويقدّم لها الدعم، قد يخلفه ثانٍ لا يؤمن بالحركية، ولا يرى جدوى من العمل السياسي، وله طريقته الخاصة في فهم المجتمع.

هذه الظاهرة المضطربة يفسّرها العلاّمة فضل الله، بأنّ المرجع هو نتاج عاملين أساسيّين:

الأوّل: الحوزة العلمية التي نشأ فيها، ووصل من خلالها إلى رتبة الاجتهاد ومن ثمّ المرجعية.

والثاني: الظروف الموضوعية التي تحكم ذهنيّته من خلال التأثيرات التي تحيط به، أو من خلال الظروف التي تحكم خطوطه الفكرية.

وبالإستناد إلى هذين العاملين وتفاعلهما مع بعضهما، تتحدَّد هوية المرجع وشخصيّته الاجتماعية، ولذلك ـــ يقول العلاّمة فضل الله ـــ:

(كانت حركة المرجعيات بين مدٍّ وجزر، فهناك مرجعيات استطاعت أن تنفتح على الواقع الإسلاميّ بحجم الظروف التي كانت تعيشها، وبذلك كانت مرجعيّتها تعطي بعض اللّمعات وبعض الإضاءات في كثير من مراحل الواقع الإسلاميّ.

بينما نجد أنّ هناك مرجعيات انكمشت انكماشاً شديداً حتّى كان يخيَّل للناس أنّها غائبة تماماً عن كلّ شيء في الواقع، فيما عدا العلاقات الفقهية المباشرة بينها وبين الناس في المسائل الفقهية التقليديّة، حتّى إنّها لا تشارك حتى في القضايا الثقافية العامّة التي تطرح فيها الأفكار في مستوى الفعل أو ردّ الفعل في ساحة التحدّيات للإسلام وأهله.

وهذه هي المشكلة التي عاشها الواقع الإسلاميّ الشيعيّ في الارتباكات التي كانت تحدث بين الطلائع الإسلامية التي تحاول أن تنفتح على الواقع بطريقة حركيّة أو بطريقة ثقافيّة منفتحة، أو من خلال توسيع الساحات التي يتحرّك فيها الإسلام في هذا الموقع أو ذاك الموقع. فقد كانت تواجه إهمالاً من بعض المرجعيات أو سكوتاً أو إبعاداً أو موقفاً مضادّاً في هذا المجال أو ذاك المجال)(1).

حول كلام السيّد فضل الله، هناك الكثير من المصاديق في الماضي والحاضر. فمثلاً كان الشيخ محمّد كاظم الخراساني، يمثّل مرجعية منفتحة على قضايا العالَم الإسلامي. لكنّه بعد وفاته، لم تخلّفه مرجعية بمستوى انفتاحه، إنّما كانت مرجعية تقليديّة، استمرّت ما يقرب من عقد من الزمن، حتّى خلفتها مرجعية الميرزا محمّد تقي الشيرازي ذات الاتّجاهات المنفتحة على حركة الأُمّة، وشؤون المسلمين السياسية والاجتماعية. وعلى هذا الخطّ المتذبذب سارت المرجعيّات السابقة واللاحقة.

كما إنّ هناك شخصيات في الحوزات العلمية، يشهد لها العلماء بالاجتهاد والتقدّم في مجال الدراسات الفقهية والأصولية، إلاّ أنّها لا تكاد تُعرَف إلاّ في دائرة خاصّة محدودة، ولا يعيش هؤلاء أزمة داخلية أو معاناة شخصية، إنّهم قانعون بهذا القدر من حياتهم، لأنّهم يجدون فيه تحقيقاً لدورهم في الحياة، وحين تحين ساعة الموت ربّما لا يحزن الواحد منهم على ما مضى من عمره.

إنّ السيّد فضل الله يرى في هذه الظاهرة مشكلة كبيرة تواجه الحركة الإسلامية، وتؤثّر سلباً على الواقع الإسلامي. لأنّ تقليديّة المرجعيّة وانغلاقها في حدودها الخاصّة، يجعلها تعيش التخلُّف أمام حركة التطوّر في الواقع الإسلامي. وفي ذلك اهتزاز مخيف في أساسيات التركيبة الشيعيّة، حيث تقضي الحالة الصحيحة أن يكون الموقع القيادي للأُمّة والمتمثّل بمرجعيّتها، هو الرائد والموجّه للأُمّة، لا أن يحدث العكس فتكون الأُمّة أسبق منه في حركة التطوّر.

وتبدو هذه المشكلة بمظهر مرعب حين ننظر إلى ما يحيط بالواقع الإسلامي من تحدّيات ممنهجة تستهدفه فكراً وأسلوباً. وقد قطعت هذه التحدّيات مسافات بعيدة وعميقة في أوساط الأُمّة بمختلف قطاعاتها، وإلى جانب ذلك، فإنّ هناك الكثير من التساؤلات المتعلّقة بالقضايا الأساسية والمصيرية للمجتمع المسلم، تستلزم إجابات قاطعة ومحدّدة وعاجلة من أجل قطع الطريق على البديل اللّاإسلامي.

رغم كلّ ذلك، فإنّ صورة الرعب الفكريّ والثقافيّ لا تكاد تكون واضحة عند المرجعية، وهي إن توضَّحت، فلا تحرّك فيها رغبة جادّة لتقديم مشاريع حلّ. وفي ذلك يقول السيّد فضل الله:

(إنّ العالَم الإسلامي يسبق المرجعية بالتطوُّر).

هذه العبارة المباشرة، رغم كونها تبدو قاسية بالنسبة لموقع متقدّم في المؤسّسة الشيعيّة، إلاّ أنّها تمثّل الحقيقة دون ريب. إذ لم يحدّثنا التاريخ المرجعي في فتراته الطويلة، إلاّ عن حالات نادرة كان فيها المرجع مبادراً في فعل سياسيّ أو اجتماعيّ مؤثّر. فلقد كانت الحالة المألوفة أن يستجيب المرجع لنداء الواعين من أبناء الأُمّة، فيصدر عنه موقف مؤيّد. وحين يرفض النداء فليس في ذلك خرق للعادة والتقليد.

إنّ الحوزة العلمية في النجف الأشرف والتي تمثّل مركز المرجعية الشيعيّة في العالَم الإسلامي، وثقلها الأكبر، كانت حتى الخمسينات من هذا القرن، يرفض جوّها العام مجرّد التفكير في الشؤون السياسية، ويرى فيه خروجاً على المألوف، باعتبار أنّ طالب الحوزة والعالم والمرجع، إنّما مهمّته تنحصر في دراسة الفقه والأصول والمنطق واللّغة العربية وغيرها من مناهج الحوزة العلمية.

كان ذلك في الوقت الذي انتشرت فيه الشيوعية انتشاراً كاسحاً في المجتمع، وراجت الأفكار المنحرفة بشكلٍ خطير، للدرجة التي أصبح فيها الإسلام غريباً في أهله.

والأكثر من ذلك أنّ الجوّ العام في الحوزة كان يعارض مشاريع الإصلاح، ويبادل المصلحين من العلماء والمجتهدين، نظرة النفور، لأنّهم يخرجون على العرف السائد.

إنّ استعراض التاريخ المرجعي وصولاً إلى هذه الفترة، يؤكّد لنا ما قاله السيّد فضل الله:

(إنّ العالَم الإسلامي يسبق المرجعية بالتطوّر. لا أريد أن أتكلَّم عن التطوّر في المسألة الفقهية، ولكنّه في وعي القضايا وفي الحاجات الجديدة وفي الأوضاع الجديدة التي تحتاج إلى حلّ، وفي المبادرات الجديدة التي تحتاج إلى حركة. إنّني أتصوّر أنّ الواقع الإسلامي الذي يواجه التحدّيات التي لم تواجهه في كلّ تاريخه حتّى في صدر الدعوة الإسلامية الأولى، يسبق المرجعيات ويسبق الحوزات بأجمعها في حركة التطوّر التي تحتاج إلى أفكار جديدة وحلول جديدة ومبادرات جديدة. ولا أقصد بالجدّة هنا أن نتجاوز الأصول الإسلامية فيما هي الأحكام والمفاهيم الإسلامية.

ولكنّني أعتقد أنّ هذه الأمور لا بدّ أن تكون موضع الفكر وموضع البحث وموضع التحرُّك، لأنّنا نلاحظ أنّ كثيراً من هذه القضايا لا تدور في ذهن الواقع المرجعي ولا تتحرَّك في اتّجاهه)(1).

إنّ هذه المشكلة التي يتحدّث عنها العلاّمة السيّد فضل الله تمثّل منطقة خلل كبير في الواقع الشيعي والإسلامي بشكلٍ عام. لأنَّ التحدّي الذي يترصّد بالحركة الإسلامية وبالجمهور الإسلامي، لم يعد يتحرّك باتّجاه واحد وبمظهر مشخص حتّى يمكن تحديده ومن ثمّ مواجهته. إنّما صارت أساليب التحدّي متحرّكة في اتّجاهات عديدة ومتداخلة مع غيرها من مفردات الحياة. وهذه مسألة طبيعيّة أفرزها التطوّر العام لكلّ شؤون الحياة، ممّا جعل قضايا الثقافة والفكر والسياسة والاقتصاد والاجتماع وغيرها، تعيش حالة من التداخل والتشابك المعقَّد. فلم يعد الفكر حالة تجريديّة متقوّمة في نطاقها الخاص، إنّما فرضت الطبيعة المعقّدة للتطوّر أن تكون الفكرة مفردة ضمن حالة عامّة.

وفي ضوء هذا التداخل لم يعد القرار الشخصي مسألة تعيش في نطاق الفرد وحده، إلاّ إذا أراد أن يتخلَّف عن تيّار التطوّر المتسارع الخطوات.. وأن يعيش أجواءه الخاصّة، وفي هذه الحالة يكون أشبه بالنموذج التاريخي، حتّى وإن امتلك عناصر الحياة في الحاضر.

وفي ضوء هذه الحقيقة، فإنّ توجّهات المرجع وقناعاته ليست خيارات حرّة مطروحة أمامه بلا ترتيب.. وعليه أن يختار ما يريد وفق نظرته الخاصة، وتقييمه الفردي. إنّما هناك عوامل موضوعية لا يمكن تجاوزها إذا أراد أن يحقّق للإسلام ولجمهوره طموحاته الكبيرة.

إنّ المرجع ـــ في صورته المطلوبة ـــ ليس بمقدوره أن يختار طريقة التعامل وفق رؤيته الخاصّة، وفهمه الشخصي للأمور، إذا ما أراد أن يكون مرجعاً للأُمّة، يملأ عن جدارة موقع المرجعية. لأنَّ هذا الموقع لم يعد حالة تقليدية، إنّما أصبح موقعاً متقدّماً متفاعلاً مع شؤون الحياة العامّة، ممّا يفرض على المرجع مواكبة واعية لحركة التطوّر العام في الواقع الإنساني.

وإذا تجاوزنا الشأن الخاص في قرار المرجع الديني وخياراته في العمل والتعامل مع شؤون الحياة، فإنّنا سنلتقي مع الجانب الآخر للمشكلة والذي يتمثّل في علاقة القاعدة الشيعيّة بمرجعيّتها الدينية.

فمن الطبيعي أنّ القاعدة الجماهيرية تريد من مرجعها أن يكون بحجم الواقع الذي تعيشه.. وأن يمتلك عناصر القوّة والوعي في فهم مفرداته، وفي رصد جزئيّاته، وفي استيعاب حقائقه الحاضرة.. وأن يتمتَّع بحسّ سياسيّ واجتماعيّ وثقافيّ يمكّنه من إرسال النظرة إلى البعيد، من أجل أن تطمئن القاعدة إلى أنّها لا تواجه التحدّيات لوحدها، بل إنّ هناك قيادة واعية تستطيع أن ترسم الخطّ بوضوح، وأن تعطيَ الموقف المطلوب في قضايا الفكر والسياسة والاجتماع وغيرها، انطلاقاً من استيعابها الشامل للواقع الذي تعيشه.

إنّ الجمهور الذي اكتسب ثقافة واعية، بحكم معايشته وقراءته للتجارب المريرة التي خاضها العالم الإسلامي.. وبحكم التطوّر المفروض الذي أحاط بكلّ تفصيلات حياته، لا يمكنه أن يقنع بالصورة التقليدية للمرجعية، لا سيّما وأنّ النظرة الحركية أصبحت حالة شيعيّة عامّة.

ربّما لم تواجه المؤسّسة الشيعيّة هذه المشكلة بحجمها الحقيقيّ في وقتنا الحاضر. لكنّ ذلك لا يلغي الإمكانية الحقيقيّة لتجمع مكوّناتها مع تقادم الزمن. فمن المؤكّد، أنّه في ضوء المتغيّرات التي يعيشها الواقع الإسلامي والتطوّر الذي يحقّقه الفرد المسلم في حياته الخاصّة والعامّة، في مقابل بقاء المرجعية على تقليديّتها، من المؤكّد أنّ هذا الاختلال سيفاجئ المؤسّسة الشيعيّة ذات يوم بأزمة كبيرة، تتمثّل بانفصام مؤسف بين القاعدة الجماهيرية وبين المرجعية الدينيّة.

ولا نعني من خلال هذه المسألة، أنّ تمرُّداً شيعياً سيحدث ضدّ المرجعية. فمثل هذه الصورة المظلمة مستبعدة في الحياة الشيعيّة لاعتبارات مذهبية وتاريخيّة واجتماعية كثيرة. ولكنّنا نعني أنّ الانفصام سيكون أمراً عملياً وواقعاً محتوماً، بفعل الفاصلة العريضة بين الجمهور والمرجعية.. إنّها الفاصلة التي تزداد اتّساعاً بين جمهور يتطوّر ويعيش التطوّر في حياته.. وبين مرجعيّة ظلَّت تعيش التقليدية في أجوائها الخاصّة.

 

 

 

 

 

 

 

 

الفصل الثالث

 

 

 

 

المرجعيّة الشاملة

 

 

 

 

من خلال دراسة الأفكار التي يطرحها آية الله السيّد محمّد حسين فضل الله حول المرجعية الدينيّة، يمكن لنا أن نحدِّد إطارها في مصطلح (المرجعية الشاملة). بمعنى أنّها تتّسع بسعة دور الإسلام الشامل في الحياة.

فالعلّامة فضل الله يمتلك مشروعاً خاصّاً للمرجعية الدينية، ينطلق من شخصية المرجع وينتهي بالعالم كواقع سياسي وثقافي واجتماعي. وذلك بالاستناد إلى ثلاثة مرتكزات أساسية:

ـــ المرجع.

ـــ المؤسّسة المرجعية.

ـــ الأُمّة الإسلامية.

ويضع السيّد فضل الله لهذه المرتكزات علاقات ترابطيّة وثيقة، بحيث تندمج كلّها لتشكّل في محصلتها النهائية الواقع الإسلامي المطلوب القادر على تلبية مستلزمات حركة الإسلام في مواجهة التحدّيات الحضارية المضادّة.

وعلى هذا فهو يدعو إلى إزالة الحواجز التي تحجب عناصر التركيبة الإسلامية بعضها عن البعض الآخر، وتحوّلها إلى أجزاء متباعدة بتباعد العناوين التي تحملها. فالمرجع لا يمثّل قمّة الهرم وحسب. والأُمّة في هذا السياق لا تظلّ قاعدة التلقّي والاستجابة. أمّا المؤسّسة المرجعية فيحب أن تخرج نهائياً من الصفة الحوزوية التقليدية التي درجت عليها منذ قرون طويلة، فهي ليست تجمُّعاً للفقهاء والعلماء والحواشي، إنّما لها دورها الذي يتحدّد من خلال حاجة الواقع الإسلامي المتزايدة والمتضخّمة في ضوء تعقيدات الحياة ومتغيّرات العالم السياسية والاجتماعية والثقافية.

وسنحاول هنا أن نقف مع كلّ واحد من مرتكزات المشروع المرجعي، وفق الصورة التي يرسم ملامحها آية الله السيّد محمّد حسين فضل الله.

المرجع الديني

حول المواصفات الذاتية لشخصية المرجع، لا يرى السيّد العلامة أنّ الأعلمية منحصرة في الفقه والأصول، ولا بدّ من إضافة عناصر أخرى ليكون فيها الفقيه مرجعاً لا مفتياً. حيث يقول:

(إنّني من الأشخاص الذين لا يقولون بالأعلمية شرطاً في المرجعية، ولكنّني عندما أتحدّث حتى في الجوّ العام الذي يرى الأعلمية أساسيّة في هذا الموضوع، أجد أنّه لا بدّ أن نضيف إلى الأعلمية في الفقه والأصول، صفات أخرى ليكون فيها الإنسان مرجعاً لا مفتياً، لأنّ المسألة المطروحة الآن في الواقع، أنّ الأعلمية تعني التقدّم في الفتيا، ولكنّها لا تعني التقدّم في الجانب الآخر.

فإذا أُريد للأعلم في الفتيا الذي يقلّده الناس أن يكون مرجعاً للشيعة، لما للمرجعية من سعة، فلا بدّ أن تتوفّر فيه خصائص أخرى يمكن أن يطلّ من خلالها على الجانب الآخر الذي يمكن أن يكون مرجعاً، وإلاّ فكيف يكون مرجعاً فيما لا يملك خبرة فيه؟).

وإذا كان هذا الرأي الفقهيّ الذي يطرحه السيّد فضل الله، يلتقي مع بعض فقهاء الشيعة، ولكن بنسبة عدديّة قليلة مقارنة بالفقهاء الذين يحصرون الأعلمية في الفقه والأصول. فإنّه يذهب إلى أبعد من ذلك في إثارة مسألة حسّاسة يتّفق عليها فقهاء الشيعة لكنّهم لا يتحدّثون بها بالشكل الذي يجد لها مصداقاً على الواقع عبر التاريخ الطويل للمرجعية بدءاً من الغيبة وإلى الآن.. إنّها مسألة المرجعية الممتدة مع العمر حتّى النهاية.

فمن الظواهر المألوفة في الوسط الشيعيّ أنّ المرجع يصبح مرجعاً مدى الحياة، حتّى وإن أقعدته الظروف الصحيّة وعزلته عن الحياة والمجتمع. إلاّ أنّ الاعتبارات الاجتماعية تقف بقوّة ضدّ مجرّد طرح هذه الفكرة على الواقع. رغم أنّ الفقهاء يجمعون على أنّ المرجع يفقد شروط المرجعيّة إذا ما فقد قواه الذهنيّة التي أهّلته سابقاً لأن يتمتَّع بالأعلميّة.

ويعتبر السيّد فضل الله أنّ السبب في عدم إثارة هذه المشكلة لا يكمن في كونها نظرية فقهية جديدة، فهي من المسائل التي تحدَّث بها كبار الفقهاء منذ زمن بعيد، إلاّ أنّ السبب يكمن في موضع آخر، يتعلَّق في إمكانية تقديمها إلى الواقع. فهي كنظرية، لها رصيد زمني طويل، لكنّها كطرح تمثّل حالة جديدة، ممّا يجعلها تصطدم بالرّكام التاريخيّ الضخم الذي تحوّل إلى اعتبار اجتماعيّ راسخ يصعب إزالته إلاّ من خلال هزّة لها القدرة على صناعة جمهور يؤمن بهذا الطرح الواقعي الجديد لنظرية فقهية قديمة.

إنَّ السيّد فضل الله يحاول تحريك الثوابت الفقهية باتجاه حركيّ واعٍ يخدم حركة الإسلام، ولا يتجمَّد في حدود الاعتبارات الاجتماعية التي صنعتها الظروف التقليدية فتحوّلت إلى بناء تاريخي ممتدّ مع الزمن. فهو ينطلق من حقيقة ثابتة يؤمن بها، هي ضرورة أن (نتكلَّم عن وضع إسلاميّ عام فيما يمكن أن يحقِّق للإسلام القوّة والثبات والتركيز والتحرّك والمواجهة للمشاكل التي تتحدَّاه).

غير أنّ هذا لا يعني أنّ السيّد فضل الله يدعو إلى صدمة اجتماعية متحدّية، إنّما يرى ضرورة أن يتحرّك الخطّ الجديد متمثّلاً في أشخاصه بطريقة متوازنة بحيث يعطي المعاني الروحية التي يعيشها الخطّ القديم، وبذلك يتمكّن المجتمع من تقبّل الانطلاقة الجديدة، عندما يلاحظ أنّ الخطّ الجديد من الفقهاء لا يشكّل انفصالاً عن المسيرة التاريخيّة للمرجعيّة، لا سيّما في الجانب العلمي، بحيث يشعر جمهور الناس أنّ المرجع الجديد يتميَّز بعمق علميّ لا يقلّ عن المرجع القديم.

إنّ إنجاز هذه النقلة بالنحو الذي يحدّده العلاّمة فضل الله، قد يبدو في سياقه الظاهري عملية متاحة وممكنة أمام الفقهاء الجدد. لكنّ القدرة على الإنجاز الميداني هي ممّا يحتاج إلى مؤهّلات ذاتية تتوافر عليها شخصية الفقيه. إذ إنّ القناعة النظرية ليست بالضرورة أن تفرز فعلاً ناجحاً ما لم تمتلك الشخصية عوامل الفعل المؤثّر في الوسط العلمي والاجتماعي.

فقد يكون الفقيه منتمياً إلى جيل الفقهاء الجدد، لكنّ ذهنيّته العامّة في مرتكزاتها وتصوّراتها وفهمها للأمور لا تستطيع أن تنسلخ عن النمط القديم. وهذه من الحالات الشائعة في الوسط العلمي الشيعيّ. حيث قدّر أن يصل الكثير من علماء الشيعة ـــ في فترات سابقة ومعاصرة ـــ إلى رتبة الاجتهاد، وأن يمتلكوا مؤهّلات علمية عالية شهد بها كبار فقهاء الشيعة، إلاَّ أنّهم كانوا جزءاً من الخطّ التقليديّ للمرجعية، ولعلَّ بعضهم كان أكثر تقليدية من سابقيه.

إنّها قضية ترتبط أوّلاً وأخيراً بشخصية المرجع، فهو الذي يحدّد موقعه في الانتماء إلى هذا الخطّ أو ذاك من مراجع التقليد، استناداً إلى مؤهّلاته الذاتية، وطريقة فهمه للحياة في مستوياتها العامّة المتطوّرة، وتجربته في العطاء بما يخدم المسلمين في واقعهم المعاصر.

إنّ الاهتمام الكبير الذي يوليه العلّامة السيّد فضل الله لمسألة المؤهّلات الشخصية للمرجع، إنّما ينهض على أساس تصوّره البعيد لدور المرجع في حياة الإسلام، ممّا يجعل السيّد يركّز آراءه حول منهجية الإعداد الواعي للمرجع في المجتمع الإسلاميّ.

فالمرجع كما يراه العلّامة فضل الله (أصبح في الواجهة السياسية في العالم، بعدما أصبحت مسألة الطوائف أو مسألة الأديان تمثّل وجهاً من وجوه الحركة العالمية والتي تتأثّر بطبيعة القيادة هنا، والقيادة هناك.. أصبحت الناس ترجع إلى المرجع في القضايا السياسية والقضايا الاجتماعية وما إلى ذلك من الأمور التي تقتحم على العالَم الإسلامي كلّ مواقعه وكلّ قضاياه).

ويقدّم السيّد فضل الله الصورة المطلوبة للمرجع الديني بقوله: (إنّني أتصوّر المرجع شخصاً منفتحاً على العالَم كلّه من خلال انفتاح الإسلام على العالم، وشخصاً واعياً للأحداث بحيث يتابعها يومياً حتّى في صغريات الأمور).

(... إنّ المرجع لا بدّ أن يكون رائداً في أيّة قضية من قضايا المستضعفين في العالم أو أيّة قضية من قضايا المسلمين في العالم حتّى التي لا تتّصل بالواقع الشيعي أو الواقع الإسلامي. لأنّ المرجع الذي يحمل رسالة الإسلام لا بدّ أن يطلّ على الواقع العالميّ في كلّ اهتزازاته وفي كلّ تيّاراته وفي كلّ مواقعه، لأنّ ذلك من مسؤوليّته فيما هي مسؤوليّة الإسلام في العالَم، ولأنّ ذلك يتّصل بالمسلمين بشكلٍ عام أو بالشيعة بشكلٍ خاص).

ويطرح السيّد فضل الله العوامل الموضوعية الملحّة التي تحتّم وجود هذه المؤهّلات في شخصيّة المرجع من خلال الحاجة الاجتماعية والسياسية للموقف الشرعي في حياة الناس، حيث يقول:

(إنّ الفقيه لا يستطيع في المرحلة الحاضرة أن يعيش خارج نطاق قضايا عصره، باعتبار أنّ قضايا العصر حتّى في الأمور الفقهيّة تمثّل موضوعات الأحكام التي يحتاج المجتهد إلى أن يستنبطها، وإلى أن يحدّدها كمنهج إسلاميّ في الحياة. ولذلك فإنّ الفقهاء لا بدّ أن يواجهوا الأسئلة الكثيرة من قِبَل مقلِّديهم حول القضايا السياسية وحول الموقف من قضايا الانتخاب، أو من قضايا العلاقة مع الحكم الجائر، أو من خلال مسائل الجهاد، ممّا لا يمكن أن يجيبوا عنه بجواب سريع على الطريقة التي كانوا يجيبون عنها في الماضي. باعتبار أنّ حياة الناس قد ارتبطت ارتباطاً عضوياً يومياً بكلّ الواقع المعاصر. وأصبحت مسألة الكيان الإسلامي والكيان الشيعي بشكلٍ خاص في نموّه وتطوّره وحيويّته وقوّته وعزّته يرتبط بطبيعة العلاقات مع هذا النظام أو ذاك النظام، ومع هذا المحور الدوليّ أو ذاك المحور الدولي، ممّا لا يمكن أن يكون الجواب فيه سلبياً بالمطلق كما كانت المسألة في العصور الماضية. لذلك فإنّ الفقيه حتّى في دائرته الفقهية لا يستطيع أن يبتعد عن قضايا العصر. وإذا كان معزولاً عن مسألة الاجتهاد لتكون أكثر القضايا التي يعيشها الناس لا يملك عليها جواباً، لأنّه لا يملك معرفة فيها، ولذلك ينعدم دوره كمرجع حتى في المسائل الفقهيّة...).

إنّ التخلّي عن شرط الأعلمية في الفقه والأصول، لا يعني إمكانية أن يحصل التزايد العددي لمراجع الدين الشيعة في الظروف الحالية، كما قد يُفهم للوهلة الأولى من طرح العلّامة السيّد فضل الله. إذ إنّ المواصفات الإضافية لشخصية المرجع فيما يتعلّق بالاهتمام بقضايا المسلمين والعالم في مجالاتها السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية، وفق متابعة حركيّة واعية، وفهم موضوعي معاصر يقّدم النظرة الإسلامية الأصيلة في شؤون الحياة الحاضرة.. إنّ هذه المؤهّلات يندر أن نجد لها المصاديق الشخصيّة في الوسط الشيعيّ المعاصر.

وعلى هذا فإنّ المرجع الدينيّ الذي يراد له أن يحقّق التحوّل المطلوب في الوسط الشيعيّ، وأن ينهض بالمسؤوليات الضخمة في عالم المسلمين، إنّما تتحرّك مصاديقه في نطاق محدود عدديّاً من حيث الخيارات. وهو ما يمكن تشخيصه جماهيرياً من خلال رصد الساحة الإسلامية بشكلٍ عام والشيعيّة بشكلٍ خاص، وما يتّصل بهما من الوضع الدوليّ في دائرته الواسعة.

المؤسّسة المرجعيّة

يمتلك السيّد العلّامة فضل الله في مشروعه المرجعيّ، منهجية متكاملة حول بناء المؤسّسة المرجعيّة. فهو يختلف مع صيغتها التقليدية التي سار عليها التاريخ الشيعيّ على امتداد فتراته وحقبه المتلاحقة. حيث إنّ طبيعة الظروف السياسية والاجتماعية التي تحيط بعالم المسلمين، وضخامة التحدّيات التي تواجه المجتمعات الإسلامية تفرض إحداث نقلة أساسية في الواقع المرجعيّ كجهاز يحيط بشخص المرجع، وتشكيل مفرداته في صيغة جديدة لها صفة العمل المؤسّسي المنظّم. فهي ليست ملكاً لشخص المرجع.. كما أنّها لا تمثّل الإطار الذاتي لحركة المرجع، إنَّما هي تتحمّل مسؤولية التحريك الفاعل لكلّ العناصر الإسلامية في السّاحة باتّجاه خدمة أهداف الإسلام الكبيرة.

ويحدّد السيّد فضل الله منهجية العمل للمؤسّسة المرجعية على أساس دائرتين رئيستين:

الأولى: إبعاد المرجعية عن الصفة الشخصية، فلا تكون معبّرة عن الوجود الشخصيّ لمرجع معيّن، بحيث تموت بموته، وتأخذ خصوصيّاته الفردية. إنّ في ذلك ضياع لجهود كبيرة وعطاءات متميّزة قام بها المراجع في فترات مختلفة.

لقد تميَّزت المرجعية الشيعيّة خلال تاريخها الطويل بغلبة الصفة الفردية على المرجعيّة. بحيث إنّ تعبير المرجعية الشيعيّة يعكس الحالة النظرية للمرجعيّة. أمّا الواقع التطبيقي فإنّ هذه المرجعيّة مجزّأة إلى أجزاء عديدة، بعدد مراجع الدين. بحيث يقال مرجعيّة الشيخ كاشف الغطاء ومرجعيّة السيّد اليزدي ومرجعية السيّد الخوئي ومرجعية الإمام الخميني، وغيرها الكثير من الأسماء التي تمثّل نماذج مختلفة للسلوك والممارسة المرجعيّة.

إنّ ما يريده العلّامة فضل الله، إنهاء هذه الحالة الفردية للمرجعيّة، وجعلها مؤسّسة متكاملة موحّدة لا تعيش الفواصل في شخصيّات المراجع، ولا يتحدّد امتدادها الزمنيّ بحياة المرجع، إنّما تمثّل حالة ثابتة لها مقوّمات الاستمرار على خطّ استراتيجي واضح، حتّى مع تغيّر المراجع وتعاقب أدوارهم الحياتيّة.

يقول السيّد فضل الله: (... أن تكون المرجعية مؤسّسة بحيث إِنّ المرجع عندما يأتي، يأتي إلى مؤسّسة تختزن تجارب المراجع السابقين، بحيث تكون كلّ الوثائق التي تمثّل علاقات المرجع بالعالم وتجاربها وخصوصيّات القضايا التي عالجتها حتى في مسألة الاستفتاءات والأسئلة والأجوبة، متوفّرة للمرجع الجديد الذي يجد كلّ هذه التجارب جاهزة في مؤسّسة المرجعيّة ليبدأ من حيث انتهى المرجع السابق، لا ليبدأ بعيداً عن كلّ التجارب السابقة).

الثانية: أن تتخلّى المرجعية عن حالتها التقليديّة في الميل إلى الوسط الحوزوي بعيداً عن الاهتمامات العامّة في حياة المسلمين وفي الواقع الدوليّ بشكلٍ عام.

وعلى هذا فإنّ الاهتمام المرجعيّ يجب أن يتّسع بسعة القضايا التي تتّصل بالإسلام والمسلمين. ممّا يعني أن ترصد المرجعية مجمل الأحداث والتحرّكات من خلال كونها مؤسّسة قياديّة في الوسط الشيعيّ والإسلاميّ.

يقول آية الله السيّد فضل الله في هذا الخصوص:

(لا بدّ للمرجعيّة أن تطلّ على قضايا العالَم، ولو من ناحية اتّخاذ المواقف السياسية أو المواقف الثقافية أو الاجتماعية التي تطلّ على كلّ مواقع المرجعية، أو ما تمتدّ إلى أبعد من هذه المواقع وتأثّر به سلباً أو إيجاباً.

إنّ هذا هو الذي يمكن أن يحقّق للمرجعية حيويّتها وحركيّتها التي تكون بها عنصراً فاعلاً في حياة كلّ الناس الذين ينتمون إليها، ويتبعونها، ويتّخذون المواقف منها.

ومن الطبيعيّ أنّ الجوانب التنظيميّة في هذه المؤسّسة لا بدّ أن تخضع لتخطيط معيّن بحيث تتكامل كلّ المواقع داخل الموقع الكبير).

إنّ هذه الهيكليّة التي يخطّط لها العلّامة فضل الله، لا يمكن أن تتحقَّق إلاّ من خلال شخص المرجع، فهو الذي يمكنه أن يضع الأُسس المنهجية لبناء المؤسّسة المرجعية. وهذا ما يحتاج إلى جانب المؤهّلات الشخصية، إلى خبرة عملية توافر عليها الفقيه في حياته من خلال انفتاحه على قضايا العالَم، وحضوره الفاعل في الساحات الثقافية والسياسية والاجتماعية العامّة، ومدى الإنجازات التي حقّقها عبر تفاعله مع الأوساط الإسلامية وغير الإسلامية في مستوياتها ومجالاتها المتنوّعة.

إنّ هذه الخبرة قضية أساسية في إنجاح المشروع الكبير للمؤسّسة الشيعيّة. لأنّنا أمام محاولة بناء ضخمة وسط تحدّيات وتعقيدات سياسية محليّة وإقليميّة وعالمية تستهدف أيّ مشروع حيويّ وإنمائيّ في الحياة الشيعيّة والإسلامية بشكلٍ عام. هذا إلى جانب الخلفية التاريخيّة الهائلة التي تحتاج إلى قدرة على التعامل معها بصورة لا تحدث هزّة عنيفة في الجسم الشيعيّ.

إنّ هذه المسائل تفرض نفسها بقوّة على محاولة البناء المؤسّسيّ للمرجعيّة. وربّما تتحوّل إلى عامل إعاقة كبير يحبط المشروع من الأساس، فيما لو افتقر المرجع إلى الرؤية الشمولية لتعقيدات الواقع العام المحيط بالأوساط الشيعيّة والإسلامية.

إنّ تحويل المرجعية الشيعيّة إلى مؤسّسة إسلامية عالمية ليس عملاً اختبارياً يمكن فيه للشخص أن يجرّب مشاريعه. إنّها قضية خطيرة ذات حساسيّة مفرطة نتيجة الأوضاع الخطيرة والحسّاسة التي تحيط بحركة الإسلام في ظرفه الحاضر. ممّا يستوجب أهلية عالية يتمتّع بها الفقيه في المجالات العلمية والسياسية والثقافية والاجتماعية، حتّى يحقّق البناء دون ردود فعل مضادّة، ودون حدوث تصدُّع في الوسط الشيعيّ بدوائره الحوزويّة والحركيّة والجماهيرية.

فمشروع بناء المؤسّسة المرجعية كما يراه العلّامة السيّد فضل الله، هو محاولة جادّة لإعطاء الإسلام دوره الحقيقي في الحياة، وذلك من خلال مواجهة الحملة المضادّة بوسائل معاصرة ومن ثمّ فتح الآفاق أمام حركة الإسلام التاريخيّة في الحياة. حيث يقول السيّد فضل الله:

(نحن نلاحظ أنّ هناك حملة ضدّ الشيعة تصل إلى حدّ التكفير، وهذه الحملة مربوطة بأخطبوط الاستعمار الدولي وبالحرّاس السياسيّين في الدول الإسلامية لحركة هذا الأخطبوط في الواقع الإسلاميّ.

إنّ من أوّل واجبات المرجعية مواجهة هذه الحملة بالوسائل العصرية الحديثة التي لا تجعل المسألة مسألة انفعال، ولكنّها مسألة تخطيط طويل الأمد ينفتح على القضايا الفكرية المذهبية بما يتلاءم مع الأجواء الثقافية المعاصرة).

الأُمّة الإسلامية

من خلال منهجيّة العلّامة السيّد فضل الله في مشروعه للمرجعية الدينيّة، يمكن أن نكتشف أنّه يُدخل الأُمّة الإسلامية كجزء حيويّ في هذا المشروع، وذلك حسب مرتكزين أساسيّين:

1 ـــ التماسك الجماهيري:

يعتبر السيّد فضل الله أنّ تعدُّدية المرجعية، يساهم في توفير خيارات حركيّة للأُمة، على أساس أنّ هذا التعدُّد يتيح للجماهير الحركية مثلاً أن تجد الاهتمام المطلوب من قبل مرجع حركيّ. ممّا يمكّنها من ممارسة النشاط الإسلامي بقوّة متأتّية من الدعم المرجعيّ.

غير أنّ هذه الإيجابية تعيش في الأجواء التي اعتاد الشيعة عليها. بمعنى أنّها إيجابية مفروضة عن خلفية تقليديّة تحكم الوسط الشيعيّ في طريقة اختيار المراجع وفق قاعدة الأعلمية في الفقه والأصول. وهي القاعدة التي تفرض مرجعيات مختلفة في توجّهاتها وطرق فهمها لشؤون الحياة ولأدوار المرجعية. وفي هذه الحالة يتاح للحركيّين أن يعتمدوا على توجّهات مرجع حركيّ يعيش إلى جانب مراجع دين تقليديّين.

إنّ هذه الخيارات المتوفّرة للأُمّة في إمكانية التقليد، تعكس في الجهة المقابلة، وجود توزّع جماهيري على اتّجاهات متعدّدة، ممّا قد يضعف الموقف الجماهيري العام والموقف المرجعي العام في الحالات الحسّاسة والحرجة التي تواجه الواقع الإسلامي.

ولقد شهد التاريخ الشيعيّ بعض التجارب الخطيرة التي أسفرت عن حدوث أزمات كبيرة داخل الوسط الشيعيّ كانت تصل إلى حدّ الانقسام. وذلك عندما يداهم الساحة حدث طارئ، ينجم عنه اختلاف كبير في المواقف المرجعية.

حول هذه المسألة يقول السيّد فضل الله:

(... هناك سلبية كبيرة جداً، وهي مسألة انقسام الأُمّة واهتزاز مواقفها، بحيث لا يستطيع أيّ تيّار أن يكتسب الصفة الحاسمة في النهاية. وذلك عندما تتعادل التيّارات في التزام الناس بها. ممّا يجعل هناك شللاً في الوصول إلى القرارات الحاسمة في ميلاد أيّ نوع من أنواع التفاهم حول القواسم المشتركة التي قد تشترك فيها هذه التيّارات.

إنّنا نعتقد أنّ اختلاف المرجعيات أوجد مشكلة كبيرة جداً في الجسم الإسلامي الشيعي، مع المحافظة على الإيجابيات الأخرى، ولكنّ السلبيات أكثر. ولذلك فلا بدّ من دراسة جديدة فقهية للشروط التي لا بدّ من توفّرها في المرجع وطريقة تعيينه حتّى لا تخضع المسألة للمزاجات وطريقة التحكّم في مفاتيح المرجعية كما هي المفاتيح الانتخابيّة).

إنّ ما نفهمه من هذا الطرح أنّ آية الله السيّد فضل الله يميل بقوّة إلى وحدة المرجعية. وهو في هذا التفضيل ينطلق من مواصفات المرجع التي يجب أن تتوفّر فيه ليكون مرجع الأُمّة الذي يحقّق لكافة اتّجاهاتها ما تحتاج إليه من موقف وطموح. وفي هذه الحالة يستطيع أن يحقّق التماسك الاجتماعي من خلال وحدة الموقف، ووحدة الرؤية التي تستند على استيعاب شامل للحالة الإسلامية في واقعها المعاصر وأُفقها المستقبلي.

كما أنّ وحدة المرجعية من خلال تحقيق التماسك الاجتماعي تتمكّن من خلق رصيد جماهيري هائل يتمثّل بالجسم الشيعيّ ككلّ بمختلف انتماءاته القومية والإقليمية. وبذلك تكون المرجعية قد استندت إلى قاعدة جماهيرية واسعة، وتصبح الأُمّة منشدة إلى وجود قياديّ واحد. وعند ذاك يمكن أن تتحوّل المؤسّسة المرجعية إلى إطار واسع متماسك له القدرة على مواجهة التحدّيات، وصناعة المواقف في الحياة الإسلامية وما يتّصل بها من شؤون دولية.

إنّ التحدّي المضادّ الذي يهدّد الوجود الشيعيّ، لا ينظر إليه على أنّه وجود متعدّد، إنّما يتعامل معه على أنّه واقع واحد. وهذا ما يستدعي العمل على تحقيق التماسك الفعلي في الحياة الشيعيّة، حتى يمكن الوقوف أمام تيّار التحدّيات الهائلة.

 

 

2 ـــ التواصل المرجعي ـــ الجماهيري:

من الظواهر المعروفة في الحياة الشيعيّة، وجود فاصلة بين المرجع والأُمّة. وقد كانت هذه الفاصلة تتّسع وتضيق حسب توّجهات المراجع. فأحياناً تصل إلى حدّ العزلة الكاملة بين المرجع والأُمّة، فلا تكاد الجماهير تعرف عن المرجع إلاّ الاسم، ولا يعرف عنها المرجع إلاّ بمقدار ما يتّصل بدائرة اهتمامه.

وفي أحيان نادرة كانت تتقلّص هذه الفاصلة وتنعدم عبر طريقة تعامل المرجع مع الأُمّة، فيعيش همومها وتطلُّعاتها، ويمنحها العطاء الذي يخدم واقعها. والنموذج البارز في هذا المجال، الإمام الخميني (قدّس سرّه)، الذي عاش شؤون الأُمّة عن قرب، وحمل همومها واهتماماتها طوال فترة مرجعيّته.

إنّ التوصّل بين المرجعية والأُمّة، أصبح مسألة متزايدة الأهمية، في ضوء الجوّ العام الذي يخضع له العالَم الإسلامي، والذي يتطلّب استيعاب المرجع لظروف عصره، ليتمكّن من جعل حضوره فاعلاً ومؤثّراً في حياة الأُمّة.

وعندما ندرس رأي السيّد فضل الله حول هذا الموضوع فإنّنا نلاحظ أنّه يدعو إلى نمط من التواصل يبلغ درجة الالتقاء الكامل. بحيث يشكّل عامل تحريك لكلّ قدرات الأُمّة، من خلال خبرته وانفتاحه على شؤونها، ومن خلال معايشته التفصيليّة لمفردات واقعها الثقافيّ والاجتماعيّ والسياسيّ والاقتصاديّ.

يقول آية الله السيّد محمّد حسين فضل الله:

(... إنّ المطلوب أن يكون للمرجع الرشد الفقهي والرشد الاجتماعي والرشد السياسي والرشد الحركيّ مع الاستقامة الأخلاقية والقوّة الروحية، بحيث يستطيع من خلالها أن يطلّ على قضايا الأُمّة وأن ينفتح على كلّ الخبرات وعلى كلّ الطاقات، من موقع الإنسان الذي يستطيع أن يستفيد من هذه الخبرات باعتبار أنّه يمثّل حركيّة تلك الطاقات، وأن يكون الإنسان الذي يحمل اهتمامات الأُمّة في اهتماماته، ويتحرّك مع الأُمّة ليعطيَهَا غنىً في التجربة، كما يأخذ منها قدم التجربة، ليكون معلّماً وتلميذاً في آنٍ واحد).

إنّ السيّد العلّامة فضل الله، في آرائه هذه، يزيل كلّ الحواجز بين المرجع والأُمّة. لأنّ هذه الحواجز هي من صناعة الظروف الطارئة التي مرّت على الحياة الإسلامية، وهي من التراكمات التاريخية التي أضرّت بالواقع الإسلامي. ولأنَّ إزالة هذه الحواجز يمثّل توفير مستلزمات الانطلاقة الحيّة لحركة المرجع في حياة الناس.

إنّ التواصل الذي يدعو إليه السيّد فضل الله، لا ينحصر في الدائرة الشيعيّة، إنّما يتّسع ليشمل الدائرة الإسلامية العامّة. ثمّ يتّسع طبيعياً ليشمل العالَم كلّه، نتيجة الترابط الموضوعي بين أجزاء الدوائر العالمية، والتي يتأثّر بها العالَم الإسلامي بدرجات متفاوتة حسب طبيعة المواقف والأحداث.

كما أنّ السيّد فضل الله يحدّد أُسس التواصل بالموقف العمليّ، وليس بالحالة النظرية المجرّدة. فالتواصل لا يكون إحاطة ثقافية بظروف المسلمين، بل لا بدّ من معايشة حقيقيّة تفرز مواقف متجدّدة حسب تجدّد الظروف والأوضاع. وهذا ما يلخصه السيّد العلّامة بالقول:

(إنّني أتصوّر أنّ طبيعة تحدّيات العصر وشمولية قضاياه والأوضاع والمتغيّرات التي تتحرّك بين يومٍ وآخر، والحيرة التي يعيشها الناس فيما هو تكليفهم الشرعي في كلّ القضايا التي تتّصل بحياتهم السياسية والاجتماعية، تحتاج إلى أن تخرج المرجعية من عزلتها، وأن يكون المرجع إنساناً منفتحاً على الإسلام كلّه وعلى العالَم كلّه وعلى كلّ المتغيّرات التي تتحرّك في ساحته بانفتاح الموقف لا انفتاح الثقافة فحسب).

وعندما يتحقّق هذا التواصل بين المرجع والأُمّة، فإنّ المرجعية تستطيع أن تمارس مسؤوليّاتها الإسلامية الكبيرة، وفق الحاجات التي تعيشها الأُمّة الإسلامية.

كانت هذه وقفة لدراسة الخطوط العامّة للمشروع الذي يطرحه آية الله السيّد محمّد حسين فضل الله حول المرجعية الدينيّة في ظروفها الحاضرة والمستقبليّة. وقد استند السيّد فضل الله إلى التجربة الطويلة التي عاشتها المرجعية الشيعيّة عبر حقب تاريخيّة متتالية. وإلى استيعاب الظروف العامّة المحيطة بالمرجعية والشيعة والمسلمين. إلى جانب نظرته المستقبليّة إلى محتملات الصراع بين الإسلام والتيّارات المضادّة، وتقديره للمخاطر التي تترصّد بالإسلام والمسلمين.

إنّ الصورة التي يريد أن يكوّنها العلّامة فضل الله حول المرجعية، والأدوار التي يخطّط لأن تنهض بها، تتحرّك في اتّجاه التحدّي وليس الصمود.

نأمل أن نكون قد وفّقنا للوقوف على الآراء التي طرحها السيّد فضل الله، في محاولتنا لدراسة المرجعيّة الشيعيّة في مشروعها المعاصر.

  

 

  

 

 

 

 

 

 

 

 

الفصل الرابع

 

 

 

 

حوار مع

آية الله السيّد محمّد حسين فضل الله

 

 

 

الحديث الأوّل

16 شباط 1992م

تجربة القرن الماضي

ـــ كيف يقيّم العلّامة فضل الله المرجعية الشيعيّة خلال القرن الأخير؟

عندما ندرس المرجعية الشيعيّة في القرن الثالث عشر الهجري، فإنّنا لا نجد هناك أيّة انطلاقات غير عادية فيما يتّصل بحركة المرجعية في العالَم الإسلامي على الصعيد السياسي، بالمستوى الذي يمكن أن يفتح نافذة على حركة المسؤولية المرجعية في رعايتها للعالم الإسلاميّ، فقد تكون الضغوط القاسية التي أطبقت على الوضع الشيعيّ في مواقع المرجعية سبباً في انكماش هذا الجانب في حركة المرجعية، لكنّنا نلاحظ في هذا القرن وجود ثراء فقهي واسع يتمثّل بالعلماء الكبار الذين يمكن أن نعتبرهم القاعدة الفقهية للمستقبل الفقهيّ الذي أطلّ على حركة القرن الرابع عشر أمثال صاحب الجواهر وأمثال صاحب كشف الغطاء وصاحب الحدائق والشيخ الأنصاري، وأمثال هؤلاء من العلماء الذين كانوا يمثّلون القمّة الفقهية مع وجود بعض النقاط الحركية البسيطة التي يمكن أن تطلّ على بعض الانفتاح السياسي الذي نلاحظه في الإجازة التي أجاز بها الشيخ صاحب كشف الغطاء لأحد ملوك إيران الذي أراد أن يكون عمله بإجازة مشروعة، حتّى يأخذ عمله الشرعيّة من خلال إجازة الحاكم الشرعي ممّا قد يجعل المسألة تتحرّك في أجواء ولاية الفقيه.

وربّما كانت هناك بعض المواقف الداخلية التي كان يستعملها بعض المراجع في التدخّل الحادّ في بعض الأمور التي كانت تحدث في المناطق الداخلية، كما في بعض الحروب الداخلية التي حدثت في العراق أو في النّجف بين فئتين من الناس.

إنّنا عندما نطلّ على القرن الرابع عشر الهجري فإنّنا نرى هناك بدايات رائعة وذلك في نشاطات المرجع المعروف السيّد محمّد حسن الشيرازي بفتواه التاريخيّة بحرمة استعمال التنباك كردّ على الاحتكارات الأجنبية والشركات الأجنبية التي حاولت أن تكون المدخل للاستيلاء على إيران آنذاك، ثمّ مسألة حركة المشروطة والمستبدّة التي اتّخذ فيها العلماء موقفاً حادّاً مختلفاً بالمستوى الذي دعت الشيخ محمّد كاظم الخراساني إلى أن يخرج على رأس الجيوش من أجل محاربة بعض قوى الكفر التي كانت تريد أن تسيطر على إيران ممّا خلق هناك حركة سياسية فكرية وعملية بحيث انقسم الواقع الإسلامي الشيعيّ إلى معسكرين أو حزبين أو تيّارين حيال المشروطة والمُستَبدّة، وكان من بركات هذا الصراع الكتاب الذي ألَّفه الشيخ النائيني (رحمه الله) حول هذه المسألة.

وهكذا لاحظنا أنّ حركة الثورة العراقية انطلقت بقيادة العلماء في النجف الأشرف في ثورة العشرين، وهكذا امتدّت هذه المسألة التي شدَّها للتيّار الذي كان يطلّ على الجوّ السياسي. وكان الجوّ الثوري بين فترة وأخرى يتحرّك بين مدٍّ وجزر تبعاً للظروف القاسية التي كانت تحيط بالواقع المرجعيّ من جهة، والتي كان يخضع لها المجتمع الحوزويّ من جهةٍ أخرى، من خلال طبيعة التيّارات الفكرية التي كانت تتحرّك باتّجاه العزلة عن الواقع السياسيّ أو في اتّجاه الانفتاح على الواقع السياسيّ.

وامتدّت هذه المسألة إلى المدى الذي فتح على المرجعية المتمثّلة بالشيخ السيّد أبي الحسن الأصفهاني والشيخ النائيني في موقفهما من الانتخابات النيابية والذي أدّى إلى تهجيرهما من العراق ثمّ عودتهما مع الالتزام بعدم التدخّل بالأمور السياسية لاسيّما وأنّهما أجنبيان حسب القانون العراقي.

وهكذا انطلقت مرجعية السيّد محسن الحكيم التي كانت تمثّل نوعاً من أنواع الانفتاح على الواقع السياسي تبعاً للظروف المحيطة بالمرجعية آنذاك، سواء الأوضاع العراقية التي كان للسيّد الحكيم تدخّل فاعل في أحداثها أو في مواقفه من القضايا الإسلامية العامّة التي كان يكتب فيها رسائله وفتاواه ولاسيّما المقاومة الفلسطينيّة، وهكذا لاحظنا أنّ المرجعية قد ارتفعت إلى أعلى مستوى في مواجهة الواقع السياسيّ العالميّ الذي كان يطلّ على واقع البلدان الإسلامية في آخر هذا القرن في انطلاقة الإمام الخميني (قدّس سرّه) الثورية التي انتهت بانتصار الثورة الإسلامية وولادة الحكومة الإسلامية.

إنّنا عندما نطلّ على حركة المرجعية في القرن الرابع عشر الهجري فإنّنا نراها حركة أقرب إلى الانفتاح منها إلى الانغلاق وإلى الفاعلية منها إلى الجمود وإن كانت تختلف بين مرجعٍ وآخر أو بين مرحلة وأخرى.

أزمة البدائل المرجعية

ـــ بعد وفاة الإمام الخميني هل تتصوَّرون أنّ المرجعية تواجه أزمات في نطاق عملها العام؟

الواقع عندما نريد أن نواجه المسألة في مرحلة ما بعد الإمام وأنّ هناك مشكلة واجهتها المرجعية. وهي مستقبل المرجعية، فإنّ هناك موقعين لا بدّ أن أتحدّث عنهما، الموقع الذي تمثّله مرجعية المراجع الحاليّين الكبار الذين يمثّلون التيّار التقليدي في المرجعيّة مع بعض الإضاءات في موقف هذا المرجع أو ذاك في بعض مراحل الحياة في المرجعية. ولذلك فنحن لا نتحدّث عن هذه الدائرة، باعتبار أنّ هذه الدائرة ليست هي دائرة ما بعد الإمام ولكنّها الدائرة التي رافقت مرجعية الإمام واختلفت عنها في الطابع العملي للجانب المرجعيّ.

إنّ المرجعيّة التي تمثّل مرحلة ما بعد الإمام في إطلالتها على المستقبل هي مرجعية غامضة اعتباراً أنّنا لا نملك هناك أسماء كبيرة في العالَم المتحرّك للمرجعيّة، كما كان يحدث عند وفاة أيّ مرجع حيث تجد هناك أسماء كثيرة مهيّأة حتّى في حياة المرجع من ناحية عملية للانطلاق نحو المرجعية بحيث إنّ لها حضوراً عامّاً في الواقع الإسلامي الشيعي العام.

فيما نلاحظه أنّ هناك عدّة أسماء متداولة في الساحة، ولكن هذه الأسماء لا تملك الكثير من الموقف المتحرّك في الخطّ الواقعي للمرجعية بل هي مشاريع المستقبل. بحيث إنّ هناك أسماء تملك بعض الصفات التي تؤهّلها لذلك. ولكنّ المسألة هي مسألة ما هو التيّار الذي يمكن أن يدفع هذه الأسماء إلى الواجهة. لأنّ هذه الأمور لا تخضع لخطوط مستقيمة عادة بل تخضع لخطوط متنوّعة في طبيعة التحوّل وفي طبيعة الظروف أو طبيعة الأوضاع.

إنّنا نعتقد أنّ الإمام أعطى أُفقاً للمرجعيّة قد يتعب الكثيرون قبل أن يصلوا إليه إذا كانت لديهم القدرة على الوصول إليه، لأنّ مرجعيّة الإمام التي أخذت هذا الحجم العالمي كانت منطلقة من عناصر الشخصية الذاتية ولاسيّما شجاعة الموقف ورحابة الأُفق ومن الظروف الموضوعية التي هيّأت له الكثير من الشروط الواقعية التي ساهمت في الوصول إلى هذه النتائج ممّا قد لا يحصل لمراجع آخرين قد يملكون شجاعة الإمام وقد يملكون رحابة الأُفق ولكنّهم لا يملكون الظروف الموضوعية التي قد تدفع بالواقع إلى الآفاق الكبيرة التي أوصله إليها الإمام.

إنّنا فيما نلاحظ أنّ الأسماء المطروحة في ساحة الحوزات العلمية لا تملك الكثير من الوعي المرجعي الذي يطلّ على المسألة السياسية من موقع متقدّم باعتبار أنّ طريقة حركتهم التاريخيّة من حياتهم الماضية لا تمثّل إضاءات كبيرة، إذا كانت هناك بعض الأسماء التي ربّما تمتلك بعض التأريخ الطويل فإنّ التعقيدات الأخيرة التي حصلت في بعض مواقع الحوزة أبعدت هذه الأسماء عن أن تكوّن انطلاقة في حركة التيّار لتبقى مجرّد أسماء قد تأخذ حيِّزاً ولكن من الصعب أن تأخذ مستوى الواقع المطلوب.

ـــ بناءً على هذا نفهم أنّ هناك أزمة في طور التكوين تنتظر المرجعية في بعديها الحركيّ والسياسيّ؟

هذا شيء حقيقي، لماذا؟؛ لأنّ هناك ارتباكاً في مسألة العناصر التي تؤهّل الفقيه لأن يكون مرجعاً، فإنّ النظرة السابقة كانت تنحصر بمسألة العدالة والفقاهة في مستوى القِمّة بمعنى الأعلم، وهذان العنصران قد يكونان في مستوى الأهمية عند الكثيرين من المجتمع الإسلامي الشيعيّ، ولكنّ مرجعيّة الإمام الخميني جعلت من هذين العنصرين جانبيين عند فريق كبير من الشيعة الذين أصبحوا ينظرون إلى الجانب الحركيّ والجانب السياسيّ الذي يطلّ على قضايا المسلمين وقضايا العالَم من موقع الفقه والعدالة، ممّا يجعل هناك نوعاً من أنواع الاهتزاز في المقاييس التي تتحرّك بها المرجعيّة في ولادتها وحركيّتها في ذهنية المسلمين في هذا العصر، ممّا قد يوجد ارتباكاً في هذه المسألة، فهناك الكثيرون من الناس الذين قد يكونون على استعداد للتجاوز على مسألة الوعي السياسي والخبرة السياسية والأُفق الواسع عندما تتوفّر مسألة الأعلمية والعدالة، وهناك أُناس قد يكونون على استعداد لتجاوز مسألة الأعلمية والعدالة للاكتفاء بأيّ مجتهد كان وربّما يتسامحون حتى في مسائل الاجتهاد عندما تتوفّر مسألة الخبرة السياسية والوعي السياسيّ العام.

إنّنا نخشى أن يكون هذا الاهتزاز في الوعي سبباً لارتباك النتائج التي يمكن أن تحصل من خلال الحركة الجديدة للأشخاص الذين يراد لهم أن يكونوا في هذا المنصب.

التعدُّديّة المرجعيّة

ـــ إنّ الكثرة العدديّة للمراجع كانت لها آثار سلبية على الواقع الاجتماعي كما حدث في المشروطة والمُستَبدّة. كيف تنظرون إلى هذه المسألة؟

من الطبيعيّ أنّ للكثرة إيجابيات يذكرها الكثيرون في مسألة التعدّديّة التي قد يتحدّث عنها الناس في الجانب السياسي، (التعدُّديّة السياسية): أنّها لا تجعل الأُمّة مشدودة لرأيٍ واحد أو لخطّ واحد أو لمزاجٍ واحد. ممّا يجعل من التعدُّديّة غنىً في التجربة وغنىً في حركة القضية باتّخاذ المواقف، ولكنّ هناك سلبية كبيرة جداً وهي مسألة انقسام الأُمّة واهتزاز مواقفها، بحيث لا يستطيع أيّ تيّار أن يكتسب الصفة الحاسمة في النهاية، وذلك عندما تتعادل التيّارات في التزام الناس بها. ممّا يجعل هناك شللاً في الوصول إلى القرارات الحاسمة في ميلاد أيّ نوع من أنواع التفاهم حول القواسم المشتركة التي قد تشترك فيها هذه التيّارات.

إنّنا نعتقد أنّ اختلاف المرجعيات أوجد مشكلة كبيرة جداً في الجسم الإسلامي الشيعي مع المحافظة على الإيجابيات الأخرى ولكن السلبيات أكثر. ولذلك فلا بدّ من دراسة جديدة فقهية للشروط التي لا بدّ من توفّرها في المرجع وطريقة تعيينه حتّى لا تخضع المسألة للمزاجات وطريقة التحكُّم في مفاتيح المرجعية كما هي المفاتيح الانتخابية.

وإنّنا نعرف أنّ حركة المرجعية في بعض ظروفها أو بعض مراحلها تعتمد على شخصيات تسيطر على هذا الموقع أو ذاك الموقع من خلال طبيعة الظروف المحليّة والإقليميّة، ممّا يجعل من كلمة هذا الشخص في هذا القطر مثلاً سبباً في رجوع القطر لهذا المرجع بعيداً عن مسألة المواصفات الحقيقيّة التي تميِّز بين مرجعٍ وآخر، وما إلى ذلك من ضغوط التي لم تصل (بحمد الله) إلى الضغوط السياسية ولكنّها قد تعيش أجواء سلبية من خلال طبيعة الوضع الشعبي.

لذلك أعتقد أنّ من الضروري دراسة هذه المسألة بشكلٍ جديد لأنّ المرجعية كانت في السابق مجرّد مرجعية فكر تنحصر في جوانب شرعية في أخذ الفتوى من المجتهد أو في مسألة حركة الحقوق الشرعية، أو إدارة الحوزات وما إلى ذلك.

أمّت الآن فقد أصبح المرجع في الواجهة السياسية في العالَم بعدما أصبحت مسألة الطوائف أو مسألة الأديان تمثّل وجهاً من وجوه الحركة العالمية التي تتأثّر بطبيعة القيادة هنا، والقيادة هناك.

أصبحت الناس ترجع إلى المرجع في القضايا السياسية والقضايا الاجتماعية وما إلى ذلك من الأمور التي تقتحم على العالَم الإسلامي كلّ مواقعه وكلّ قضاياه، ممّا يعني أنّه لا بدّ أن نضيف شروطاً جديدة للعناصر التي تتألّف منها شخصيّة المرجع، وهذا ممّا يمكن الوصول لأفراد قلائل، لا بدّ من الدخول مرّة ثانية في عملية التمييز بينهم ممّا قد يؤدّي إلى وحدة في هذا المجال، ولكنّ مشكلة هذا الطرح هو أنّ الحوزات العلمية التي تمارس مسألة الاجتهاد قد لا تكون هذه المسائل ذات أهمية كبرى لها في الخطّ الإجتهادي. ولذلك فإنّنا لا نتصوّر لهذه المسألة حلاًّ في المستقبل القريب، قد تكون هناك بعض الإضاءات في ذهنية بعض المجتهدين ولكنّ مسألة قبول الجوّ العام بهذه الإضاءات قد يحتاج إلى هزَّات كبيرة، ويحتاج إلى خدمات كبيرة.

الدور المطلوب من المرجع

ـــ ما هي نظرتكم لدور المرجعية على مستوى الفكر والأُمّة والسياسة؟

الواقع أنّني في الذهنية الشيعيّة المنطلقة من الخطّ الذي يبتدئ من النبوّة مروراً بالإمامة ليطلّ على المرجعية. إنّ فهمنا لهذا هو أنّ المرجع يمثّل القائد للأُمّة الذي لا بدّ له من أن يختزن في شخصيّته الكفاءات الثقافية والروحية والعملية التي يمكن له أن يكون أميناً على سلامة حياة الأُمّة في كلّ هذه الجوانب.

أنا لا أدّعي أن يكون اعلم الناس في كلّ شيء وأكثر الناس خبرة في كلّ شيء، ولكنّني أقول إنّ المطلوب أن يكون للمرجع الرشد الفقهي والرشد الاجتماعي والرشد السياسيّ والرشد الحركيّ مع الاستقامة الأخلاقية والقوّة الروحية، بحيث يستطيع من خلالها أن يطلّ على قضايا الأُمّة وأن ينفتح على كلّ الخبرات وعلى كلّ الطاقات من موقع الإنسان الذي يستطيع أن يستفيد من هذه الخبرات باعتبار أنّه يمثّل حركيّة تلك الطاقات، وأن يكون الإنسان الذي يحمل اهتمامات الأُمّة في اهتماماته ويتحرّك مع الأُمّة ليعطيَها غنىً في التجربة كما يأخذ منها قدم التجربة ليكون معلّماً وتلميذاً في آنٍ واحد.

إنّني أتصوّر أنّ المرجعية لا بدّ أن يكون لها حضور كامل في كلّ قضايا الأُمّة وفي كلّ قضايا العالَم التي تتّصل بمصير الأُمّة الإسلامية، فلا بدّ أن يكون المرجع رائداً في أيّة قضية من قضايا المستضعفين في العالَم أو أيّة قضية من قضايا المسلمين في العالَم حتّى التي لا تتّصل بالواقع الشيعيّ مثلاً أو الواقع الإسلاميّ. لأنّ المرجع الذي يحمل رسالة الإسلام لا بدّ أن يطلّ على الواقع العالميّ في كلّ اهتزازاته وفي كلّ تيّاراته وفي كلّ مواقعه؛ لأنّ ذلك من مسؤوليّته فيما هي مسؤولية الإسلام في العالم، ولأنّ ذلك يتّصل بالمسلمين بشكلٍ عام أو بالشيعة بشكلٍ خاص.

إنّنا نتصوّر أنّ مسألة الحضور السياسيّ والحضور الثقافيّ والحضور الروحيّ يمثّل عنصراً حيويّاً من عناصر المرجعية التي تكون في مستوى العصر وفي مستوى الإسلام وفي مستوى التحدّيات الكبيرة التي يواجهها الإسلام في هذا العصر.

نماذج رائدة للمرجعيّة

ـــ قدَّم الإمام الخميني (رضي الله عنه) نموذج حكم الفقيه وطرح الشهيد الصدر (رضي الله عنه) مشروع المرجعية الصالحة، ما هو تعليقكم على المشروعين وما هو مشروعكم في هذا الخصوص؟

إنّ الإمام الخميني (رضي الله عنه) انطلق في مسألة المرجعيّة من وعيه لمسألة الإسلام. فلم يفكّر الإمام الخميني بأنّ من الممكن في أيّة مرحلة من المراحل مهما كانت طبيعتها أن تختلف عن مرحلة أخرى في شمولية الإسلام وفي حركيّته وفي مسؤوليّته عن حكم الحياة، ومن خلال ذلك فإنّه لم يفرّق بين حالة حضور الأئمّة وحالة غيبتهم باعتبار أنّ الإسلام لم يأتِ لمرحلة خاصة على مستوى الدولة ويمكن له أن يبقى ويعيش في المراحل الأخرى على مستوى الأفراد.

هؤلاء يجعلون الإسلام خاضعاً للقيادة بحيث تكون ظروف الإسلام هي ظروف القيادة في إمكاناتها بدلاً من أن تكون القيادة خاضعة للإسلام بحيث تكون ظروف الإسلام هي التي تحدّد للقيادة ظروفها وحركيّتها، نحن نعرف بأنّ الإسلام هو دين الله وأنّ عظمة الرسول هو أنّه بلّغ رسالة الله وأراد أن يكون الدين كلّه لله، لذلك كان الرسول هو خادم الدين ولم يكن الدين خادماً للرسول.

فالله لم يرسل الإسلام ليكون وظيفة يعطي للرسول وظيفة.. الله لم يرسل الإسلام ليكون خصوصيّة للرسول وإنّما أرسل الرسول وشرع القيادة لمن بعده من أجل أن يكونوا قوماً للإسلام ومن أجل أن يكونوا دعاة للإسلام وقادة للإسلام.

لذا الإسلام أوّلاً والقيادات ثانية، عندما أطلَّ الإمام الخميني على هذا الأُفق الواسع فإنّه اعتبر أنّ مسألة الحكومة الإسلامية التي تعني حركية الإسلام في نظام الحياة وفي نظام الناس بشكلٍ شامل اعتبرها قضيّة الحياة، وإذا كانت المسألة بحسب الفقه الإسلاميّ الشيعيّ، انطلقت من خلال القيادة الواحدة للنبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ثمّ بالنسبة للأئمّة (عليهم السلام) فإنّها لا بدّ أن تتحرّك في هذا الخطّ على المستوى الشمولي الذي كان يحدث. لذلك فليس هناك فرق بين مهمّة الفقيه العادل المؤهّل للقيادة من خلال العناصر الأساسية وبين مهمّة الإمام وإن لم يصل هو إلى مرتبة الرسول أو إلى مرتبة الإمام، ممّا يجعل مسألة المرجعية تتّسع حسب اتّساع مسألة الإسلام، ومسؤوليّاتها تكبر حسب مسؤوليات الإسلام، فليست هناك حدود لمسؤوليّات المرجعية ما دام الإسلام لا يعيش مثل هذه الحدود، ومن هنا يمكن أن نلاحظ أنّ موقع المرجعية في نظر الإمام الخميني (رضوان الله عليه)، هي موقع الإسلام في كلّ المجالات فلا بدّ أن تتحرّك حيث يتحرّك الإسلام، وهذا هو الذي يجعل المرجع المؤهّل للقيادة وللولاية منفتحاً على كلّ الحياة وعلى كلّ الواقع وعلى كلّ المسؤولية.

أمّا الإمام الشهيد الصدر، فإنّه في أُفقه الإسلامّي الواسع ليس بعيداً عن هذا الخطّ، وقد لاحظنا كيف استقبل الثورة الإسلامية ونجاح الإمام الخميني في قيادته بالكلمات الرائعة التي أطلقها في ضرورة الذوبان في مرجعية الإمام الخميني، لأنّه يلتقي بهذا الأُفق الواسع الذي انطلق منه الإمام الخميني (رضوان الله عليه) وحاول أن يتحرّك في هذا الخطّ في رسالته "الإسلام يقود الحياة" ولكنّه عندما تحدَّث عن المرجعيّة كان يتحدّث عن المرجعيّة فيما سمَّاه المرجعيّة الرشيدة في مسألة الجانب التنظيمي الإداري للمرجعيّة. ولم يكن يبحث من خلال طبيعة مسؤوليّاتها الإدارية، بعتبيرٍ آخر إنّه كان يريد أن يحدّد الوسائل العملية لأن تتحرّك المرجعية كمؤسّسة ولا تبقى كشخص، ولذلك لا نستطيع أن نقول إنّ الشهيد الصدر قد ابتعد عن خطّ الإمام الخميني (رضوان الله عليه) في هذا الأُفق الواسع، ولكنّه لم يعش هذه التجربة ولم يرافقه حركة الثورة الإسلامية بهذه الشمولية، وأعتقد أنّ الله لو مدَّ في عمره لما اختلف مع الإمام الخميني (رضوان الله عليه) في أيّ جانب من الجوانب وفي هذا الأُفق الواسع.

أمّا رأينا في هذه المسألة فنحن نعتقد أنّ المسألة تتحرّك في هذا الخطّ، ويمكن لنا أن نفكّر في الجانب الواقعيّ للمسألة عندما لا نستطيع أن نتحكَّم في الظروف السياسية الواسعة التي يمكن أن تدفع بالمرجعيّة إلى أن تكون قوّة فاعلة تهزّ العالَم.

إنّنا نتصوّر أنّه لا بدّ لنا بالإضافة إلى ما ذكره السيّد الشهيد في التخطيط الإداري للمرجعيّة الرشيدة من حيث الحقوق العامّة، لأنّنا لسنا الآن في بحث التفاصيل التي يفكّر الإنسان بأنّ من الممكن أن تتوسَّع أو تضيق، إنّنا نتصوّر أنّ المرجعيّة الإسلاميّة الشيعيّة قد تحتاج في ظروفها المحدودة أو في طبيعة أوضاعها الخاصّة، قد تحتاج إلى أن تتحرّك في دائرتين.

الدائرة الأولى: هي ألاّ تكون المرجعية شخصاً بحيث يرث أولاده تراثه وتجربته أو أن تكون أجهزته خاضعة لخصوصيّاته، بل أن تكون المرجعية مؤسّسة بحيث إنّ المرجع عندما يأتي، يأتي إلى مؤسّسة تختزن تجارب المراجع السابقين بحيث تكون كلّ الوثائق التي تمثّل علاقات المرجعية بالعالم وتجاوبها وخصوصيّات القضايا التي عالجتها حتّى في مسألة الاستفتاءات والأسئلة والأجوبة متوفّرة للمرجع الجديد الذي يجد كلّ هذه التجارب جاهزة في مؤسّسة المرجعية ليبدأ من حيث انتهى المرجع السابق، لا ليبدأ بعيداً عن كلّ التجارب السابقة.

وفي هذا المجال نحن لا نمانع أن يكون له معاونون يختارهم بحركته ولكن على أن لا يكونوا هم كلّ المؤسّسة، بل أن يكون المعاونون الذين ينسجم معهم في دائرة المؤسّسة، في إطار المؤسّسة.

هذا من جهة ومن الجهة الثانية، لا بدّ للمرجعية أن تطلّ على قضايا العالَم، ولو من ناحية اتّخاذ المواقف السياسية أو المواقف الثقافية أو الاجتماعية التي تطلّ على كلّ مواقع المرجعية أو ما تمتد إلى أبعد من هذه المواقع وتأثّر به سلباً أو إيجاباً.

وهناك نقطة ثالثة في هذا المجال وهي مسألة أن يتحرّك المرجع في أنحاء العالَم، ألاّ يبقى في موقعه بعيداً عنها، فلا بدّ للمرجع تبعاً لظروفه الخاصّة والمرحلة التي يعيش فيها أن يطلّ على مواقع مرجعيّته ليخاطب الناس ولينفتح على الناس وليتحدّث في شؤون الناس من جهةٍ أخرى، إنّ هذا هو الذي يمكن أن يحقّق للمرجعية حيويّتها وحركيّتها التي تكون بها عنصراً فاعلاً في حياة كلّ الناس الذين ينتمون إليها ويتبعونها ويتّخذون مواقف منها، ومن الطبيعيّ أنّ الجوانب التنظيميّة في هذه المؤسّسة لا بدّ أن تستخضع لتخطيط معيّن بحيث تتكامل كلّ المواقع في داخل الموقع الكبير، إنّني أتصوّر أنّ طبيعة تحدّيات العصر وشمولية قضاياه والأوضاع والمتغيّرات التي تتحرّك بين يومٍ وآخر، والحيرة التي يعيشها الناس فيما هو تكليفهم الشرعي في كلّ القضايا التي تتّصل بحياتهم السياسية والاجتماعية تحتاج إلى أن تخرج المرجعيّة من عزلتها وأن يكون المرجع إنساناً منفتحاً على الإسلام كلّه وعلى العالَم كلّه وعلى كلّ المتغيّرات التي تتحرّك في ساحته بانفتاح الموقف لا انفتاح الثقافة فحسب.

تنظيم الحوزة

ـــ تحدَّث الكثير عن تنظيم الحوزة العلمية بمنهجية جديدة وآمَنَ الكثير بذلك دون أن يصرِّحوا برأيهم، ماذا تقولون في هذا الموضوع؟

إنّنا نعتقد أنّ الحوزة العلمية لا تمثّل الموقع العلميّ الذي يوازي حاجات العصر وتحدّياته؛ لأنّ المناهج المطروحة في الحوزة بحسب منهجها بحسب خصبها الدراسيّ لا تزيد عن الفقه والأصول.

فقد نفاجأ بأنّ الحوزة العلمية في النجف أو في قم أو في غيرهما، لا تملك منهجاً دراسياً إلزامياً للقرآن أو للحديث أو لعلم الكلام أو للفلسفة أو للمفاهيم الإسلامية العامّة أو ما يتّصل بأساليب الدعوة وما إلى ذلك من القضايا التي تتّصل بثقافة الإنسان الفقيه الداعية المبلّغ الذي يمكن أن يكون حُجّة للإسلام في ثقافته الإسلامية الواسعة.

ولذلك فإنّنا نتصوّر هذا من جهة، ومن جهةٍ أخرى فإنَّ الحوزات لا تخضع لحدّ الآن لمناهج تقويميّة للطالب سواء في مسألة الامتحان أو ما أشبه ذلك من أساليب لتقويم النتائج الأخيرة للطالب عندما يريد أن يتخرَّج، فالطالب يمكن أن يتخرَّج بعد سنتين ويذهب إلى بلاده ليعتبر عالماً وقد يسيء إلى الإسلام كلّه في هذا المجال، وقد يدخل إنسان غير مؤهّل للمسألة فيكون مشكلة للإسلام وما إلى ذلك.

لذلك فإنّنا نتصوّر بأنّ الحوزة تمثّل في جوانبها الدراسية كما تمثّل في طبيعتها التنظيميّة، تمثّل مرحلة ما قبل مائتين أو ثلاثمائة أو أربعمائة سنة ولا تمثّل مرحلة العصر الذي تقدّمت فيه المناهج والأسالب التربوية خطوات واسعة اختصرت للطالب كثيراً من عمره، حيث قرَّبت المسافات بين الحاجة وبين النتائج وبين الحاجات وبين ما يلبّي هذه الحاجات، ولذلك فإنّنا نرى مثلاً أنّ المنهج الأوروبي كان معقَّداً أمام تطوّرات المناهج الأوروبية حتّى المنهج الأميركيّ في الدراسة بحيث يمكن للإنسان أن يحصل على شهادة الدكتوراه في أقرب وقت بينما كانت المسألة تحتاج إلى سنين متعدّدة.

فنحن لا نقول إنّ علينا أن نتّبع المناهج الحديثة ونترك مناهجنا. ولكن نقول إنّ علينا أن نحاول أن نقوم بدراسة نأخذ فيها من التطوّرات الحديثة على مستوى المنهج وعلى مستوى الموادّ الفكرية التي تتّصل بالثقافة الإسلامية وعلى طبيعة المواد في الثقافة الإسلامية وعلى طبيعة التنظيم في وصول الطالب إلى الحوزة وفي حياته في داخل الحوزة وتخرّجه من الحوزة، إنّنا نحتاج إلى جهدٍ كبير في هذا المجال، وأتصوَّر أنّ هناك حركة تنطلق الآن في الحوزة العلمية في قمّ في بعض هذه الأمور التي ذكرناها وأنّ هناك نوعاً من إمكانات النجاح، ونرجو أن يقدّر لهذه التجارب المزيد من النجاح.

 الحديث الثاني

18 شباط 1992م

نحو مشروع شامل للمرجعيّة

ـــ كيف تنظرون إلى دور المرجعيّة الشيعيّة في صيغة مشروع يمكن طرحه على الواقع؟

إنّنا عندما ندرس المرجعية الإسلامية الشيعيّة بمعناها الواسع الذي قد يكون في دائرة اللاوعي الشيعي ممثّلاً للإمام بحيث يملأ فراغه من موقع المصطلح الفقهي للمرجع، إنّه نائب الإمام، بحيث إنّ وجوده يسدّ فراغ الإمام في امتداد شخصيّته الروحية والفكرية والسياسية والاجتماعية، بحيث لا يعيش الناس فراغ القيادة في أيّ جانب من الجوانب، سواء إن كان ذلك في دائرة القضايا التي تتحرّك في داخل الوضع الإسلاميّ الشيعيّ أو في داخل الوضع الإسلامي العام أو في القضايا العالمية المرتبطة بالواقع الإسلامي، أو الواقع الإسلاميّ الشيعيّ بشكلٍ خاص.

عندما نجد أنّ الكلمة تستبطن كلّ هذه الآفاق، وكلّ هذه الشخوص فإنّ من الطبيعي للمرجع أن لا يكون مرجعاً في الفتيا فقط، أو مرجعاً في القضايا التي تعيش على هامش الفتيا كالحقوق الشرعية وأمور القاصرين وما إلى ذلك ممّا اعتاد الفقهاء أن يتحدّثوا عنه كموقع للمجتهد أو كموقع للمرجع، أو مسألة القضاء التي يعتبرها الفقهاء من صلاحيات المرجع أم صلاحيات المجتهد.

إنّ المرجعية تحتاج إلى ذهنية واسعة سعة المسؤولية التي تتحرّك فيها بعنوان كونها نيابة عن الإمام، ولا بدّ أن تنطلق من خلال مؤسّسات تتحرّك في نطاق المؤسّسة الكبرى. فالمرجعية تضمّ الخبراء من سائر القضايا التي تتحرّك فيها وتضمّ الدراسات التي تحتاج إليها. ولا بدّ أن تكون الممثليّات للمرجعية ممثليّات متحرّكة بحيث تستطيع أن تجد الحضور المتحرّك للمرجعية في هذا البلد أو ذاك البلد بحيث تشبه الشعارات أو المواقع أو الممثليّات المشابهة للمنظّمات الإقليميّة والدولية وما إلى ذلك.

إنّني عندما أُريد أن أجد نماذجَ للصورة التي أتمثّلها في فكري حول دور المرجعية فإنّي أجد نموذج البابوية التي تنطلق في صفتها الدينية الشاملة نحو المواقع السياسية والثقافية والاجتماعية، وتتحرّك من خلال ممثّليها بفعالية في كلّ القضايا المطروحة في البلدان الذي يعيش فيها الكاثوليك، أو يعيش فيها المسيحيّون، سواء كان في شؤونهم الداخلية أو في علاقاتهم بالمذاهب الأخرى في دائرة المسيحيّة أو في الأديان الأخرى في دائرة الإسلام أو اليهودية وما إلى ذلك، ممّا يجعل المسيحيّة تتحرّك من خلال هذه المؤسّسات وهذه الممثليّات في كلّ الواقع العالميّ المرتبط بالمسيحيّة على مستوى العلاقات، الأمر الذي يجعل من المسيحية قوّة معنوية تطلّ على كلّ مواقع العالم.

وقد نلاحظ أنّ البابوية تتحرّك ميدانياً لتطلّ على كلّ مواقعها الشعبية في العالم حتّى إنّها تطلّ على مواقع غير مسيحيّة تجتذب عواطفها أو لتجتذب مواقفها بشكلٍ أو بآخر ممّا يهيّئ الجوّ للمبشِّرين أو يستفيدون من ذلك، كما في مواقع أفريقيا أو أميركا اللاتينية أو ما إلى ذلك من مواقع.

إنّ هذا الحضور الميداني الواسع المتحرّك الذي لا يفقد الصفة الروحية في إطلالته على المواقع التي يزورها البابا لا تعدم الوسائل لامتداد المسيحية ولحلّ الكثير من المشاكل السياسية في هذا المجال أو ذاك المجال، وربّما تساهم البابوية في كثير من القضايا السياسية المعقّدة كما لاحظنا ذلك في حركة البابوية فيما يتعلّق ببولونيا التي هي الوطن الأمّ للبابا الحالي، فقد نلاحظ أنّ البابوية كان لها دور كبير في تفجير الأحداث هناك لمصلحة الوقوف ضدّ الماركسية وتقوية عناصر التغيير المسيحيّة التي وقفت بوجه الماركسيّة.

هذا إلى جانب الغنى الثقافيّ الذي يمكن أن يتحرّك من خلال هذا الموقع الواسع للدفاع عن المسيحيّة وفي بلورة مفاهيمها وفي نشر عقائدها وقضاياها بالمستوى الذي تدخل فيه هذه القضايا في الكيان الفكري للعالم من خلال الحضور الدائم في هذا المجال أو ذاك المجال.

ونحن نلاحظ أنّ هناك نوعاً من أنواع التخطيط الدوليّ الذي يتحرّك من خلال بعض المواقع الإسلامية من خلال بعض الدول التي تتبنّى بعض المذاهب الإسلامية المضادّة للتشيُّع.

نحن نلاحظ أنّ هناك حملة ضدّ الشيعة تصل حدّ التكفير، وهذه الحملة مربوطة بأخطبوط الاستعمار الدولي وبالحرّاس السياسيّين في الدول الإسلامية لحركة هذا الأخطبوط في الواقع الإسلامي.

إنّ من أوّل واجبات المرجعية مواجهة هذه الحملة بالوسائل العصرية الحديثة التي لا تجعل المسألة مسألة انفعال ولكنّها مسألة تخطيط طويل الأمد ينفتح على القضايا الفكرية المذهبية بما يتلاءم مع الأجواء الثقافية المعاصرة.

ومن الطبيعيّ أنّنا عندما نتحدّث عن الواقع السياسي في العالَم فإنّنا لا بدّ أن ندرس في كلّ مرحلة ظروف المرجعية وقدرتها على تحريك الشارع الإسلاميّ في مسائل التحرُّر الداخليّ والخارجيّ ومدى الإمكانيّات التي تملكها في هذا السبيل أو ذاك السبيل من خلال بعض النماذج التي عاشتها المرجعيات السابقة في إطلالتها على الواقع السياسي بنسبة معيّنة أو بنسبة كبيرة ممّا يجعل المسألة السياسية مسؤوليّتها بشكلٍ وبآخر.

إنّني أتصوّر المرجع شخصاً منفتحاً على العالم كلّه من خلال انفتاح الإسلام على العالَم وشخصاً واعياً للأحداث بحيث يتابعها يومياً حتّى في صغريات الأمور، ومن خلال الدراسات والتقارير التي تقدَّم له أو من خلال الممارسة المباشرة لذلك كما كنّا نلاحظه في الإمام الخميني (رضوان الله عليه) الذي كان يلاحق الأخبار التي يذيعها الإذاعات كما كان يراقب حتّى التلفزيون ويقدّم الملاحظات حتّى للفنيّين من المسؤولين أو من الأدباء، وما إلى ذلك.

إنّ مسألة المرجعيّة التي تريد أن تكون القيادة العامّة للأُمّة، لا بدّ أن تكون منفتحة على كلّ قضايا الأُمّة ولا تكون منعزلة عن الواقع في الدوائر التي أرادت الأوضاع التاريخيّة أن تحدثها فيها.

ـــ نفهم من كلامكم أنّكم ترسمون للمرجعية صورة التحدّي وليس الصمود؟

من الطبيعي أنّك لكي تصمد لا بدّ من أن تتحدَّى ولا بدّ أن تردّ التحدّي، باعتبار أنّ الهجوم قد يكون في بعض الحالات وسيلة الدفاع، ولذلك فقد يكون الدفاع في بعض الحالات حركة تتيح لك تثبيت أقدامك.

إنّنا لا نستطيع أن نفصل واقعنا المعاصر بين الصمود وبين التحدّي، لأنّ الواقع المعاصر يعمل على أن يهزّ الأرض تحت أقدامك، ولن تستطيع أن تثبت أقدامك على الأرض إلاّ إذا استطعت أن تشغل الآخرين بأن تهزّ الأرض تحت أقدامهم، لأنّ الوقوف في أرضك مع حركة الآخرين يجعل المسألة خاسرة على مستوى ما يخطّط له الآخرون من إسقاط الأرض التي تقف عليها.

إنّ الحركية هي الخطّ الذي لا بدّ أن يتحرّك فيه الإنسان لأنّه لا معنى لأن تصمد في المطلق، الصمود يمثّل المرحلة التي تستطيع فيها أن تملك القدرة على التخطيط والاستعداد لتبادر في المستقبل نحو التحرّك نحو أهدافك، ومن الطبيعي أنّ ذلك يعني أن يكون الصمود مقدّمة للحركة لا أن يكون هو الهدف.

الولاية والمرجعيّة

دار حديث طويل حول القيادة والمرجعية هل ترون أنّهما لا بدّ أن يندمجا في شخص المرجع أم أنّ ذلك من القضايا التي تقرّرها ظروف الواقع؟

من الطبيعي أنّ المشكلة تواجه التعدُّديّة بين القيادة والمرجعية هي أنّ مسألة المرجعية التي تتحرّك في واقعها الحالي في دائرة الفتاوى، قد تختلف في خطوطها الفتوائية عن نظرة القيادة إلى ما فيه مصلحة الأُمّة، وبذلك يحصل التجاذب بين فتوى المرجعية وبين حركة القيادة فبما أنّ طبيعة موقِعَي القياديّين اللّذين يطلّ أحدهما على الآخر قد يوجد الكثير من الضغط والضغط المضادّ، الحركة والحركة المضادّة ممّا يتوجّب إرباك الواقع الإسلامي، لذلك فإنّ الأصل أن تتوحَّد المرجعية والقيادة في شخص واحد.

ولكن إذا كنّا في موقع لا تملك المرجعية فيه الفتيا والإمكانات التي تستطيع من خلالها أن تتولّى قيادة الأُمّة لأنّها لا تملك الرؤيا الواضحة للواقع، ولا تملك القوّة التي تستطيع من خلالها أن تتحرّك في خطّ الواقع فإنّ من الطبيعي أن يكون موقع القيادة مختلفاً عن موقع المرجعية، ولا بدّ من وجود حالة تنسيقيّة بين القيادة وبين المرجعية حتّى لا تختلف الأمور وحتّى لا تتعقَّد المواقع.

ـــ ربّما لم تواجه الحوزة منذ قرن من الزمن جدلاً ساخناً مثلما أوجدته أطروحة ولاية الفقيه وكان للجوّ السياسي تأثير بارز مؤثّر، ما هي بنظركم سلبيات ما حدث؟

لا نرى فيما حدث أيّة سلبية من ناحية حركة الصراع في هذا المجال، بل إنّ حركة الصراع كانت إيجابية بشكلٍ بارز، وذلك لأنّها استطاعت أن تكسر الجمود الذي سيطر على هذه النظرية الفقهية التي استطاعت في مسارها التاريخيّ الخاضع للحصار الذي كان يعيشه المجتهدون في كلّ مواقعهم التاريخيّة من حيث سيطرت على الذهنية الاجتهادية التي جعلت المجتهد لا يفكّر بدولة إسلامية ولا يفكّر بالإمكانات الواقعية لمجتمع يمكن أن يتولّى الفقيه أمره، ولذلك لم تتوفّر للمجتهدين الآفاق الواسعة التي تضع الموضوع الواقعيّ في الواجهة بحيث يفرض على المجتهدين أن يفكِّروا في أحكامه فيما لو حدث أو في أحكامه لكي يحدث.

الأمر الذي جعل مسألة الولاية عندهم محصورة في الدائرة الصغيرة التي تواجههم وجهاً لوجه، كقضايا القاصرين وأموال الغائب والأوقاف وما إلى ذلك من الأمور.

إنّ الحركة الفقهية المتداخلة مع الحركة السياسية استطاعت أن تقدّم النظرية والواقع دفعة واحدة، بحيث لم تنطلق النظرية في دائرتها الفكرية التجريديّة بل قدَّمت نفسها من خلال واقع يتيح للمجتهد أن يحكم وأن يحرِّك الأمور في دائرة ولايته على خطّ المنهج الإسلامي، ممّا جعل الواقع يفرض نفسه حتّى على الذين ينكرون ولاية الفقيه، ليتحدَّثوا ما هي أحكام الناس الذين يعيشون في دائرة منطقة الولاية، وكيف يتعاملون معها، هل يشبه التعامل مع الفقيه الذي يحفظ الموقع الإسلاميّ المعنيّ التعامل مع الحاكم الجائر الذي يحكم هذا البلد، أو ذاك البلد، أو أنّ الأمر يختلف في ذلك، إنّها فتحت مجالاً للبحث حتّى بالنسبة للذين لا يرون ولاية الفقيه.

أمّا مسألة السلبيات الصغيرة التي تحرّكت في هذا، فهي السلبيات الطبيعيّة التي تحكم كلّ حركة جديدة سواء أكانت على مستوى القضايا الفقهية، أو الفكرية، أو السياسية، أو غير ذلك من الأمور التي تتّصل بحياة الناس أو بالصدمة التي تحقّقها للكلّ المألوف الذي كان الناس يألفونه، من الوسائل العاطفية والانفعالية التي يحاول هذا الفريق أن يوجّهها للفريق الآخر، الأمر الذي أبعد الكثير من حالات الجدل الكلاميّ، أو ما إلى ذلك عن دائرة الخطوط الفكرية الفقهية التي تواجه المسألة بعقلانية وموضوعية.

لعلّ هذه هي الوسائل السلبية التي فرضت نفسها  على واقع حركة الصراع في الحوزة أو في خارج الحوزة، وهي ليست بدعة من الوسائل، بل إنّنا نراها في كلّ قضية جديدة تخالف المألوف عندما يتبنّاها بعض ويرفضها البعض الآخر، فإنّ الأدوات التي تتحرّك عادة في البداية هي الأدوات الانفعالية العاطفية لا الأدوات العلمية الموضوعية.

ـــ في ضوء هذه التجربة أيضاً هل يمكن أن نقول إنّ فقهاء الشيعة يتحرّكون فقهياً وراء الحدث السياسي كما حدث في مسألة ولاية الفقيه؟

من الطبيعيّ لكلّ الفقهاء أن يتحرَّكوا وراء الحدث السياسي في مجالهم الدراسي، باعتبار أنّ الحدث يصبح موضوعاً ويصنع موضوعاً يثير التفسير في خصوصيّاته وفي طبيعة أحكامه، تماماً كما هي الحاجات التي تتجدّد في حياة الأُمّة فتفرض نفسها على كلّ الذين يتحرّكون في سدّ هذه الحاجات أو في معالجة هذه الحاجات.

إنّ الفقيه يلاحق الحدث بعد أن يحدث، ولكنّنا نلاحظ أنّ فقهاءنا قد طرحوا مسائل كثيرة لم تحدث حتّى الآن باعتبار الإيحاءات التي تنطلق فيها حركة الاختراعات أو حركة الاكتشافات، ممّا يفرض إمكانات موضوعات جديدة، فنحن نجد أنّ كثيراً من الفقهاء تحدَّثوا عن أحكام الإنسان في القمر أو عن أحكام الإنسان في المرّيخ أو عن أحكام الإنسان خارج نطاق الجاذبية وما إلى ذلك، ممّا يوحي أنّ فقهاءنا لا يعدمون الخيال العلميّ الذي يطرق موضوعات لم تحدث على أساس إمكانات حدوثها.

أمّا قضيّة أن يصنعوا الحدث فإنّ هذه مسألة لا تتّصل بالجانب الفقهيّ، لكنّها تتّصل بالجانب القياديّ السياسيّ، والسؤال يتحدّث عن الفقهاء.

حاجة المرجع إلى الثقافة العامّة

ـــ هل تتمنُّون على فقهاء الشيعة أن ينصرفوا إلى البحث الفكريّ والسياسيّ؟

من الطبيعيّ أنّني أتصوّر أنّ الفقيه لا يستطيع في المرحلة الحاضرة أن يعيش خارج نطاق قضايا عصره، باعتبار أنّ قضايا العصر حتّى في الأمور الفقهيّة تمثّل موضوعات الأحكام التي يحتاج المجتهد إلى أن يستنبطها وإلى أن يحدّدها كمنهج إسلاميّ في الحياة.

ولذلك فإنّ الفقهاء لا بدّ أن يواجهوا الأسئلة الكثيرة من قِبَل مقلِّديهم حول القضايا السياسية وحول الموقف من قضايا الانتخاب أو من قضايا العلاقة مع الحكم الجائر أو من خلال مسائل الجهاد، ممّا يمكن أن يجيبوا عنه بجواب سريع على الطريقة التي كانوا يجيبون عنها في الماضي، باعتبار أنّ حياة الناس قد ارتبطت ارتباطاً عضوياً يومياً بكلّ الواقع المعاصر، وأصبحت مسألة الكيان الإسلاميّ والكيان الشيعيّ بشكلٍ خاص في نموّه وتطوّره وحيويّته وقوّته وعزّته يرتبط بطبيعة العلاقات مع هذا النظام أو ذاك النظام ومع هذا المحور الدوليّ أو ذاك المحور الدوليّ، ممّا لا يمكن أن يكون الجواب فيه سلبياً بالمطلق كما كانت المسألة في العصور الماضية.

لذلك فإنّ الفقيه حتّى في دائرته الفقهية لا يستطيع أن يبتعد عن قضايا العصر، وإذا كان معزولاً عن مسألة الاجتهاد لتكون أكثر القضايا التي يعيشها الناس لا يملك عليها جواباً لأنّه لا يملك معرفة فيها، ولذلك ينعدم دوره كمرجع حتّى في المسائل الفقهية، هذا من جهة ومن جهةٍ أخرى فإنّ طبيعة التزام الفقهاء بالإسلام الذي يطلّ على كلّ قضايا الحياة كما هو الفقه الإسلاميّ الذي يجتهد فيه المجتهدون في كلّ نواحي الحياة باعتبار القاعدة الموجودة عندهم (ما من واقعة إلاّ ولله فيها حكم) ممّا يفرض عليهم الاهتمام بالجانب الواقعي للفقه كاهتمامهم بالجانب النظري للفقه. لأنّ الفقه يتحرّك من أجل أن يعيش في الواقع، لا من أجل أن يبقى مجرّد نظريّات رائدة صدرت كما صدرت القوانين الروحانيّة وما إلى ذلك من القوانين.

إنّ الفقيه الإسلامي يعيش الحركية في طبيعة فقهه بينما ينطلق الفقهاء الآخرون ليعيشوا الجانب الثقافي والنظري في مسألتهم الفقهيّة، أنا لا أمانع من ضرورة التخصُّص في الفقه بالمعنى الثقافي، ولكنّني أجد أنّ هذا التخصُّص لا ينفصل عن الوعي السياسيّ والوعي الاجتماعيّ الذي يحتاجه الفقيه من أجل أن يبلور فتاواه أكثر، ومن أجل أن يبلور فهمه لخلفيات الأسئلة التي يتحرّك فيها السائلون، لأنّ السائل قد ينطلق من خلفية معيّنة، لا تستطيع الجواب فيها عن سؤاله إلاّ إذا فهمت الخلفية، لأنَّ فهم الخلفية قد يفرض فهم حركة السؤال.

 

 

نظرتان للتجديد

تحدَّث الكثير عن التجديد في الحوزة العلمية لكنّ ذلك لم يصل إلى مستوى الظاهرة، ما هي ملاحظاتكم حول هذه المسألة وكيف ترون التجديد؟

هناك نظرتان للتجديد: النظرة الأولى هي أن تتحوّل الحوزة العلمية إلى الجامعة بحيث تتجدَّد على أساس المنهج الجامعي والتنظيم الجامعي، حتّى في المباحث الفقهية والأصولية والفلسفية التي يراد لها أن تتحرّك في هذا الاتجاه وبهذا الأسلوب.

النظرة الثانية: هي أن تبقى الحوزة العلمية تقاليدها المنفتحة في حركة الدراسة وفي عمقها ولكن تجدّد أساليبها وموضوعاتها كما يجدّد تنظيمها في طبيعة أوضاع الطلّاب وطبيعة انتمائهم للحوزة ودراستهم واختبار طاقاتهم ومدّة التخرّج وشهادة التخرّج.

إنّنا نتبنّى النظرية الثانية لأنّ الحوزة بتاريخها الطويل الذي أثبتت فيه في المواد التي يدرسها طلاب الحوزة أنّها تستطيع أن تخرّج علماء في المستوى من الدقّة ومن الوعي العلميّ ومن الامتداد الفقهي أو الأصولي أو الفلسفي بالمستوى الذي لم يتحقّق للطالب الجامعي أو للعالم السياسي، إلاّ أنّ الذي يفرض علينا الإبقاء على هذا العمق وعلى هذا الأسلوب المنفتح على مناقشة الأفكار في كلّ مراحل الدرس بحيث يبدع الطالب في عملية الاجتهاد ولو بدرجة معيّنة منذ أوائل دراسته، فقد كان أساتذتنا يعلِّموننا أنّ علينا أن نجتهد في كلّ درس نقرؤه حتّى ونحن في بدايات دراستنا للنحو في (قطر الندى) أو في ألفيّة ابن عقيل وألفيّة ابن الناظم.

هذه الروح الاجتهادية التي تنفتح على العمق هي سرّ قوّة الطالب الحوزوي المحصّل، أمّا غير المحصّلين فلا حساب لهم سواء على مستوى الجامعة أو على مستوى الحوزة.

وهناك نظرية تقول إنّ طريقة الحوزة في الدراسة الحرّة هي أكثر الطرق حداثة في المسألة التربوية، لذلك فنحن لا نوافق على أن تتحوّل الحوزة إلى جامعة، ولكنّنا نتصوّر أنّ من الممكن أن نستفيد من جانب النظام في الجامعة على اعتبار أنّ الحوزة لا تملك نظاماً، ونستفيد من الجامعة التنوّع في الدراسات وإدخال عنصر الحداثة في الدراسات على المستوى الفقهي أو على المستوى الأصولي أو على المستوى الفلسفي أو القرآني أو ما إلى ذلك، حتّى تستطيع الحوزة أن تواكب تطوّر الفقه في حركة الواقع، لا سيّما إذا عرفنا أنّ المسألة الفقهية ليست مجرّد مسألة يراد بحثها بطريقة تجريديّة بعيدة عن حركة الواقع، بل هي من المسائل التي تعالج الواقع وتركّز له أحكامه الشرعية على أساس الشريعة الإسلامية.

ولذلك فعندما تتطوّر عناوين المسائل الفقهية وتبدّل تبعاً لتبدّل الواقع الاقتصادي والواقع الاجتماعي الذي يطرح قضايا جديدة بغير الطريقة التي كانت تطرح فيها قبل ألف سنة، ويقدّم حاجات جديدة تختلف عن الحاجات التي كانت تقدّم في ذلك التاريخ، بالطريقة التي كان يبحثها الفقهاء الأقدمون وما زال يبحثها الفقهاء المتأخّرون بعد أن تجاوزها الزمن ممّا يجعل البحث بحثاً تجريدياً تاريخيّاً، لا بحثاً فقهياً واقعياً.

وبذلك فإنّنا قد نستطيع أن نستفيد من عناوين الفقه الوضعي ومن مفرداته المتنوّعة في حياة الناس باعتبار أنّ الواقع الاقتصادي والواقع التجاري والعلاقات بين الناس، أصبحت تخضع لهذه العناوين الجديدة بحيث يعاني الكثيرون من الفقهاء عندما يريدون أن يتلمَّسوا حكماً شرعياً لهذه المسائل لأنّهم لم يطلعوا عليها فيما قرأوه من كتب، فيسلكون إلى ذلك طرقاً بعيدة حتّى يجمعوا بين النصّ الفقهي الذي تعلّموه أو درسوه أو بحثوه وبين العنوان الجديد الذي يتحرّك في واقع العالم.

ربّما تحتاج الحوزة إلى طريقة جديدة في تغيير عناوين الفقه لأنّ العناوين الفقهية كانت منطلقة من خلال العلاقات الاجتماعية السابقة التي كانت تحكم الموضوعات الفقهية والآن فقد أصبحت هناك عناوين جديدة.

وهكذا نستطيع أن ننطلق بالتنظيم لنحذف الكثير من الزوائد التي انطلقت بها  حالة الاسترخاء العلميّ في علم الأصول أو في علم الفقه بالمستوى الذي لا يمثّل أيّة فائدة وأيّة ثمرة علمية ولكنّها تنطلق في أبحاث تجريديّة فلسفية ليست لها أيّ نتائج علمية.

هذا من جهة ومن جهةٍ أخرى فإنّ من الضروري أن ننوّع للطالب الحوزويّ ثقافته، لأنّ الحوزة العلمية سواء أكانت على مستوى النجف أو على مستوى قمّ ليست حوزة إسلامية بالمعنى الشامل للمسألة الإسلامية، للثقافة الإسلامية، بل هي حوزة فقهيّة.

فالمنهج الأساس إنّما هو فقه، وعندما تدرس العلوم الأدبية، العلوم العربية أو المنطق أو الأصول فإنّها تدرس المقدّمات للفقه، ولكن لم يدخل في منهج الحوزات العلمية في النجف وفي قم حتّى الآن الدراسات القرآنية بحيث تكون عنصراً أصيلاً في الدراسة أو حتى دراسات علم الحديث وعلم الرجال الذي ترتكز عليه الدراسات الفقهية، لا يدرّس بشكلٍ أساسي في المنهج وإنّما قد يدرّس على هامش المنهج أو خلال الثقافة الخاصّة.

وهكذا نجد أنّ غياب دراسة القرآن في المنهج الحوزوي في النجف على كلّ المستويات (يعني) سواء أكان ذلك بمستوى علوم القرآن أو كان ذلك بمستوى تفسير القرآن ممّا يجعل الطالب غريباً عن الجوّ القرآني إذا لم يتوفّر على الدراسة القرآنية من خلال جهده الخاص. وهكذا الدراسة الفلسفية لا تدخل في المنهج بشكلٍ أساسي ولكن قد يختارها الطلاب في بعض الحالات عندما يتوفّر هناك أستاذ يعدّ نفسه لتلك الدراسة.

وإذا انطلقنا إلى أبعد من ذلك، فإنّنا نرى ضرورة دراسة علم النفس وعلم الاجتماع وحتّى الأدب للطالب الحوزوي حتّى يستطيع أن يملك ذوقاً فقهياً من خلال سلامة الذوق العربي عنده.

هذا إلى جانب المفاهيم الإسلامية العامة التي تفرض على واقع العالم المسلم الذي لا بدّ له أن يتوفّر على دراسة المفاهيم الجديدة التي طرحت في الواقع، وقدَّمت فيها التيّارات الأخرى مفاهيم معيّنة وحلولاً معيّنة وأفكاراً معيّنة وانطلقت الحركة الإسلامية التي تحرّكت من خلال الواقع، فبعض شخصيات الحوزة من خلال جهدهم الخاص لتطرح مفاهيم الاقتصاد والاجتماع وفي السياسة وفي حركة الحياة وفي حقوق الإنسان ممّا يفرض أن تدخل في هذا المنهج.

إنّنا ندعو إلى إبقاء الدراسة الحوزوية على خطّها العميق الحرّ مع تغيير في الأسلوب ليتلاءم مع أساليب العصر ومع تغيير في المنهج ليتحرّك الطالب في منهجية منظّمة، ومع تنويع في الموضوعات التي تتّصل من قريب أو بعيد بالمهمّة الكبيرة التي تنطلق فيها الحوزات وإعداد العالم المسلم الذي يستطيع أن يمثّل عنصر القيادة الثقافية والقيادة السياسية والاجتماعية والفقهيّة في الواقع.

إنّنا نختار هذه النظرية في فهمنا للتجديد.

عوامل الإرتباك في حركة المرجعيّات

ـــ من خلال حديثكم تبيَّن أنّ هناك انعكاسات سلبية على الحوزة العلمية، إنعكاسات متأتّية من المنهج القديم وهذا ما يتعارض كما يبدو مع دور المرجع في النشاط الفكري والسياسي، كيف تقيِّمون الواقع الإسلامي المعاصر في ضوء الالتزام بالمنهج القديم؟

المرجع هو نتاج الحوزة من جهة ونتاج الظروف الموضوعية المحيطة بالمؤثّرات الداخلية التي تحكم ذهنيّته من خلال بعض التأثيرات التي تحيط به من الخارج، أو من خلال الظروف الموضوعية التي قد تحكم كثيراً من خطوطه الفكرية التي يتحرّك من خلالها في الواقع أو من خلال عبقريّته الخاصّة التي تجعله يتجاوز بيئته من جهةٍ أخرى.

ولذلك كانت حركة المرجعيات بين مدٍ وجزر. فهناك مرجعيات استطاعت أن تنفتح على الواقع الإسلاميّ بحجم الظروف التي كانت تعيشها وبذلك كانت مرجعيّتها تعطي بعض اللّمعات وبعض الإضاءات في كثير من مراحل الواقع الإسلاميّ.

بينما نجد أنّ هناك مرجعيات انكمشت انكماشاً شديداً حتّى كان يخيّل للنّاس أنّها غائبة تماماً عن كلّ شيء في الواقع، فيما عدا العلاقات الفقهية المباشرة بينها وبين الناس في المسائل الفقهية التقليدية حتّى إنّها لا تشارك حتّى في القضايا الثقافية العامّة التي تطرح فيها الأفكار في مستوى الفعل أو ردّ الفعل في ساحة التحدّيات للإسلام ولأهله.

وهذه هي المشكلة التي عاشها الواقع الإسلاميّ الشيعيّ في الارتباكات التي كانت تحدث بين الطلائع الإسلامية التي تحاول أن تنفتح على الواقع بطريقة حركية أو بطريقة ثقافية منفتحة، أو من خلال توسيع الساحات التي يتحرّك فيها الإسلام في هذا الموقع أو ذاك الموقع، فقد كانت تواجه إهمالاً من بعض المرجعيات أو سكوتاً أو إبعاداً أو موقفاً مضادّاً في هذا المجال أو ذاك المجال.

ولذلك فإنّنا نتصوّر أنّ الواقع الإسلاميّ الشيعيّ الذي استطاع أن يجد في مرجعية الإمام الخميني الصدمة الكبيرة لكلّ الواقع المتخلّف الذي عاشه والإرتباك الذي تخبَّط فيه، لا يزال هذا الواقع خاضعاً لكثير من المؤثّرات السلبية هنا وهناك بفعل فقدان الخطّ البياني المتحرّك بطريقة تصاعدية أو بطريقة منظّمة، لأنّك عندما تلتقي بمرجعية رائدة، فإنّها قد تخلفها مرجعية عادية جداً قد تجمد تلك الروح التي كانت قد انطلقت أو تحرّكت، وهذا ممّا نلاحظه في التطوّر الأخير الذي عاشته نظرية ولاية الفقيه، عندما وصلت بين المراجع عند تحقّق الفصل بين المرجعية التي أكتفي بأن تكون مجرّد مرجعية فقهية كفائية، وبين ولاية الفقيه التي هي مركز الولاية الذي أُريدَ له أن يكون منطلقاً في الخطّ الذي يحتوي قضايا العالَم الإسلامي، ويتحرّك باتّجاه إيجاد الحلول لها أو التحرّك الحيوي فيها.

إنّ هذا ناتج من أنّ المرجعية لا تزال تتحرّك بالشكل التقليدي، الذي يترك انعكاساته السلبية التقليدية على الواقع الإسلامي، وقد كنّا دعونا في بعض المحاضرات في بعض المؤتمرات الإسلامية الفكرية إلى إعادة النظر حتّى في مسألة الأعلمية وعدم الاكتفاء بالأعلمية مع العدالة، الأعلمية في الفقه والأصول، فلا بدّ أن يكون المرجع الذي هو نائب الإمام في النظرية الشيعيّة صورة عن الإمام الذي كان يملك أكثر من موقع للانفتاح على الجانب القياديّ للعالم الإسلاميّ، أو أن تتحرَّك النظرية الشيعيّة في إيجاد مرجعية للفتيا... ومرجعيّة لحركة الواقع.

قد تكون هذه الفكرة مقبولة لدى الكثيرين، لكنّها لا تخلو من سلبيات كثيرة عندما يصطدم جانب الفتوى بالحركة الواقعية للإسلام.

الأعلميّة ليست شرطاً للمرجعيّة

ـــ من خلال حديثكم هل نفهم أنّكم تميلون إلى أن تكون الأعلمية ليست الأعلمية في الفقه والأصول؟

ـــ إنّني من الأشخاص الذين لا يقولون بالأعلمية شرطاً في المرجعية، ولكنّني عندما أتحدّث حتّى في الجوّ العام الذي يرى الأعلمية أساسية في هذا الموضوع أجد أنّه لا بدّ أن نضيف إلى الأعلمية في الفقه والأصول، صفات أخرى ليكون فيها الإنسان مرجعاً لا مفتياً، لأنّ المسألة المطروحة الآن في الواقع أنّ الأعلمية تعني التقدّم في الفتيا ولكنّها لا تعني التقدّم في الجانب الآخر.

فإذا أُريد للأعلم في الفتيا الذي يقلِّده الناس أن يكون مرجعاً للشيعة لما للمرجعية من سعة فلا بدّ أن تتوفّر فيه خصائص أخرى يمكن أن يطلّ من خلالها على الجانب الآخر الذي يمكن أن يكون مرجعاً فيه، وإلاّ فكيف يكون مرجعاً فيما لا يملك خبرة فيه؟

ـــ إنّ هذه الشروط التي تضعونها للمرجعية يمكن تفسيرها بأنّ الكثير من المراجع لا تتوفّر فيهم الشروط؟

ولذلك فنحن نعيش مشكلة أنّ العالم الإسلاميّ يسبق المرجعية بالتطوّر. لا أُريد أن أتكلَّم عن التطوّر في المسألة الفقهية ولكنّه في وعي القضايا وفي الحاجات الجديدة وفي الأوضاع الجديدة التي تحتاج إلى حلّ وفي المبادرات الجديدة التي تحتاج إلى حركة، إنّني أتصوّر أنّ الواقع الإسلامي الذي يواجه التحدّيات التي لم تواجهه في كلّ تاريخه حتّى في صدر الدعوة الإسلامية الأولى، يسبق المرجعيات ويسبق الحوزات بأجمعها في حركة التطوّر التي تحتاج إلى أفكار جديدة، وحلول جديدة ومبادرات جديدة ولا أقصد بالجدّة هنا أن نتجاوز الأصول الإسلامية في ما هي الأحكام الإسلامية وفيما هي المفاهيم الإسلامية.

ولكنّني أعتقد أنّ هذه الأمور لا بدّ أن تكون موضع الفكر وموضع البحث وموضع التحرّك لأنّنا نلاحظ الكثير من هذه القضايا لا تدور في ذهن الواقع المرجعيّ ولا تتحرّك في اتّجاهه.

مشكلة العمر عند المراجع

ـــ من المسلَّمات في الوسط الشيعي وفي ضوء ما سبق من حديث أنّ المرجع يصبح بعد مرحلة المرجعية مرجعاً مدى الحياة حتّى وإن بلغ من العمر عتيّاً وأقعدته ظروف الصحّة والسّنّ، ما هي مخاطر هذه الحالة على الوجود الشيعي بشكلٍ عام وعلى المرجعية بشكلٍ خاص؟

من الطبيعيّ أنّ الأساس في هذه النظرية، هي القاعدة الشرعية لمسألة التقليد التي ترتكز على أساس العدالة والأعلميّة، فيلاحظ مثلاً أنّ المرجع لا يزال الأعلم مع بقاء عدالته، الأعلم في الفقه، بل ربّما يتحدّث عن أنّ الخبرة التي استطاع أن يأخذها في ممارساته الطويلة في مدى 50 أو 60 سنة قد أكسبته مرونة أكثر وعلماً أكثر وتقدُّماً في العلم أكثر، لأنّ مسألة الاستنباط الفقهيّ ترتبط بالممارسة أكثر ممّا ترتبط بالنظرية.

وعلى هذا الأساس فإنّ التقليد الذي جرى عليه الشيعة هو أن يبقى المرجع  مرجعاً ما دامت الحياة حتّى لو بلغت المائة سنة.

ولكنّنا نلاحظ بالنسبة لهذه النقطة أنّ المرجع قد يصل إلى وضع صحّي يفقد فيه التركيز الذهنيّ ويفقد فيه القوّة على مواجهة القضايا الاجتهادية في الحدّة الذهنية والوعي الفكري الذي كان يستطيعه سابقاً، لاسيّما إذا أحاطت به الأمراض وإذا حاصرته المتاعب بالمستوى الذي لا يملك فيه القدرة على التركيز في المسألة العلمية بحيث يكون الجانب العلميّ بالنسبة إليه في حركته الفكرية جانباً تاريخياً لا جانباً واقعياً حاضراً.

من الطبيعيّ أنّ هذه النقطة لا بدّ أن تلاحظ في هذا الجانب ولا بدّ أن تلاحق شخصية المرجع الذهنية في ضبطه وفي تركيزه وفي إمكانات تراجعه عن الوعي الذهنيّ المعافى المرتاح، لأنّ المرجع عندما يبلغ هذه السّن المتقدّمة يفقد الكثير من الانفتاح العلمي وحتّى من الحضور الذهنيّ إلاّ بجهد فوق العادة، ومع الأسف أنّ هذا الجانب لم يلاحظ حتّى الآن، لأنّني أتصوّر الجوانب التي تعطي المرجع قداسة أو تتّصل ببعض الظروف الموضوعية المحيطة بالأشخاص الذين يتحرّكون على هامش خطّ المرجعية.. قد تزعجهم الجرأة في مواجهة هذه المسألة بالطريقة الواقعية العملية.

لقد ركّزت على المسألة العلمية باعتبار أنّ قاعدة المرجعية تنطلق منها، ولكنّنا نضيف إلى ذلك بحسب نظرتنا في ضرورة توفّر المرجع على شروط أخرى عندما يراد لمرجعيّته أن تكون مرجعية عامّة، فإنّ من الطبيعي أنّ المرجع عندما يبلغ هذه السّن فإنّه يبتعد عن حركة الواقع الإسلامي. ولذلك إذا بقيت له سلامته الفقهية من الناحية الذهنية، فإنّ من الصعب جداً أن يحتفظ بقدرته على مواكبة حركة الواقع بالمستوى الذي يعطي فيه المبادرات الفكرية والعملية في هذا الاتجاه.

ربّما يكون الحلّ في هذه المسألة أن تتحوّل المرجعية إلى مؤسّسة بحيث يعتمد المرجع فيها على  الدراسات التي تقدّم له وعلى الخبرات التي تحيط به ممّا يجعله يواكب حركة التطوّر من خلال تطوّر المؤسّسة أو تطوّر الشخصيات التي تحيط بالمؤسّسة. ومن الطبيعيّ أنّ هذا يحتاج إلى تجديد العناصر البشرية الكفوءة التي تحيط بالمرجعية كشخص أو كمؤسّسة لتقدّم له الخبرات من خلال التطوّر الذي يحصل في العالم.

ـــ في حالة بلوغ المرجع مرحلة عدم القدرة على التركيز الذهنيّ والعلميّ، أليس في ذلك ما يخلّ بشرط الأعلميّة؟

هذا ما كنت أُؤكّده لأنّ بعض المراجع الذين يعتبرهم الناس مراجع عندما تنظر إليهم لا تجد أنّهم قادرون على أن يفكّروا في أيّة مسألة فقهية بطريقة علميّة أو لا يتمكّنون من أن يراجعوا هذه المسألة في مصادرها، لأنّ وضعهم الذهنيّ والصحّي لا يسمح لهم بذلك.

إنّهم يفقدون شروط المرجعية، ولكنّ المشكلة أنّ بعض الظروف الموضوعية التي تنشأ من التعقيدات الواقعية في المجتمع الحوزوي أو في الواقع المرجعي قد تمنع الناس من الاعتراف بذلك، فقد تخلق مشاكل لمن يحاولون الإشارة إلى ذلك.

ـــ بغضّ النظر عن الظروف الاجتماعية ومظاهر القداسة، هل أنّ هذه الحالة هي تجاوز على الجوانب الفقهيّة؟

طبيعي أنّ المرجع إذا فَقَدَ الأعلميّة وفَقَدَ التركيز الذهني فإنّه يسقط عن المرجعية حتى في التقليد تلقائياً، وهذا ما يشير إليه العلماء... إنّ المرجع إذا فرضنا فَقَدَ عدالته انتهت مرجعيّته من الناحية الشرعية.

وهكذا لو أنّ المرجع أصيب بالنسيان مثلاً بحيث ينسى فيها القواعد العلمية وما إلى ذلك بحيث لا يستنبط الأحكام ففي هذه الحالة لا يكون تقليده جائزاً.

 

ـــ إنّ هذا رأياً متطوّراً بالنسبة للواقع الشيعيّ...

أعتقد أنّ هذا ما تقتضيه القواعد الفقهية في هذا المجال ولكنّ الكثيرين يخافون من هذا الطرح، على اعتبار أنّه يصطدم بالواقع الاجتماعي. ونحن نتكلّم عن وضع إسلاميّ عام فيما يمكن أن يحقّق للإسلام القوّة والثبات والتركيز والتحرّك والمواجهة للمشاكل التي تتحدّاه.

ـــ لو أُثيرت هذه المسألة علمياً، كيف تتوقّعون أن تكون ردّة الفعل الاجتماعية والعلمية؟

من الطبيعيّ أنّ مثل هذه القضايا تحتاج إلى صدمات اجتماعية لأنّ كثيراً من الأفكار قد لا تكون جديدة في طبيعتها الفكرية ولكنّها جديدة في تقديمها إلى الواقع من خلال طرحها في ظروف معيّنة، قد تواجه مصاعب كثيرة ولكن قوّة الصدمة تصنع جمهوراً لهذا الطرح، ثمّ ينطلق الواقع في هذا الاتّجاه.

الصراع بين القديم والجديد في مسألة المرجعيّة

ـــ رغم تطوّر الواقع الاجتماعي والسياسي والفكري للمجتمع الشيعي إلاّ أنّه ظلَّ يميل إلى المراجع التقليديّين؟

من الطبيعيّ أنّ هناك نوعاً من أنواع التراكم التاريخي الذي يجعل الناس يشعرون بقداسة التاريخ وبقداسة الأشكال التاريخيّة بحيث يصعب عليهم أن يتحوّلوا عنه بشكلٍ سريع، لأنّ الإنسان العادي يحرص على أن يبقى التزامه الدينيّ الذي يعتبره حالة أساسية في حياته محاطاً بالكثير من الاحتياطات التي تمنع من وجود أيّ خلل فيه.

ومن الطبيعيّ أنّ الإنسان في الواقع العام عندما يواجه الحالات الجديدة سواء أكانت حالات ثقافية جديدة أو حالات سياسية جديدة في شخصية المرشّحين للمرجعية قد يرتاح إليها ولكنّه في الوقت نفسه قد لا يطمئن إليها، وهذا ما نلاحظه أنّ كثيراً من الناس المنفتحين فكرياً وسياسياً هم مستغرقون في الجانب التقليدي في المسألة العبادية أو في بعض القضايا المنفتحة على الجانب التقليدي في المسألة الفقهية والاحتياطيّة.

لهذا فإنّي أتصوّر أنّ هذه المسألة طبيعيّة جداً في ساحة الصراع بين القديم والجديد لأنّ للقديم قداسته في نظر الناس، ولكن تحرّك الخطّ الجديد بطريقة متوازنة بحيث يعطي هذا الخطّ من خلال الشخصيات التي تمثّله المعاني الروحية التي يعيشها الخطّ القديم، بحيث لا يجد الناس في الانطلاقة الجديدة ابتعاداً عن الحالة الروحانية التي يتميَّز بها الفقهاء المراجع، أو حالة الاحتياط في مواجهة القضايا الحادّة مثلاً، مع إلقاء كثير من النقاط التي لا تجعل من الخطّ الجديد شيئاً مفصولاً عن المسيرة التاريخيّة للمرجعية، لا سيّما في الجانب العلمي بحيث يكون المرجع الجديد يتميَّز بعمق علميّ لا يقلّ عن المرجع القديم مثلاً.. وهكذا إنّني أتصوّر أنّ هذه الانطلاقة يمكن أن تعطيَ إيماناً للنّاس بذلك، وهذا ما لاحظناه في مرجعيّة السيّد الحكيم (قدّس سرّه) التي انفتحت على الواقع بطريقة لم ينفتح عليها المراجع السابقون، فنحن نلاحظ أنّ السيّد الحكيم قد انطلق في مرجعيّته بشكلٍ واسع، وهكذا رأينا حركة مرجعيّة الشهيد السيّد الصدر الذي لم يصل إلى المرجعية بمعناه الواسع ولكنّ الكثير من التقليديّين يرجعون إليه في التقليد مع وجود مراجع أخرى أقدم منه سنّاً، وهكذا عندما لاحظنا مرجعيّة الإمام الخميني، فإنّ الكثيرين من الناس الذين يعتبرون من المقدّسين حسب الاصطلاح المعروف أو من المحتاطين رجعوا إليه في التقليد وانطلقوا معه في حركته السياسية، لماذا ذلك؟ باعتبار أنّ هذه الأسماء الثلاثة لم تبتعد عن الجانب الروحي في حركتها وفي سيرتها ومسيرتها وإطلالتها على واقع الناس، وانطلاقتها في خطّ الإسلام، كما أنّها تملك قوّة علمية فقهية أصولية لا يستطيع معها الناس رميها بالسطحيّة وبالابتعاد عن الخطّ الأساسي في هذا المجال.

إنّني أعتقد أنّ النماذج الجديدة للمرجعية عندما تملك المقوّمات الأساسية التي كان يملكها المرجع القديم وتنفتح على مقوّمات جديدة فإنّها لا بدّ أن تلتقي بشمولية شعبية كبيرة، لاسيّما إذا عرفنا أنّ الجيل الجديد أصبح يعيش الحيرة بين واقعه وبين ارتباطه المرجعيّ.

 المطلوب.. وحدة المرجعيّة

ـــ ما هو تأثير تعدُّد المرجعيات على الحركة الإسلامية وعلى الموقف السياسي لهذه الحركات؟

من الطبيعيّ، أنّ الواقع المرجعيّ قد يجعل من التعدُّد حالة سلبية لأنّك عندما تلتقي بمرجع لا ينفتح على الواقع الإسلاميّ، وعلى الحركات الإسلاميّة، بمعنى الرعاية والإشراف والنقد والتوجيه وما إلى ذلك، فإنّ انحصار المرجعية به يعمل على شلل الحركة الإسلاميّة وشلل الواقع الإسلاميّ وعلى تجميده.

بينما نجد أنّ التعدُّد يعطي فرصة للمرجع المنفتح لأن يواكب تطوّر الواقع الإسلاميّ وتحرّك الحركات الإسلامية في الطريقة التي يمكن أن يعطيَ الواقع الإسلاميّ قوّة دفع ويعطي الحركة الإسلامية قوّة في التحرّك وسداداً في الرأي من خلال رعايته المنفتحة على نقد الحركات وعلى توجيهها وعلى الوقوف أمام الحالات الانفعالية التي قد تنطلق فيها وما إلى ذلك.

ربّما نلاحظ هذه المسألة ولكنّنا نعتقد أنّه عندما تكون لنا مرجعية منفتحة على كلّ قضايا الإسلام في العالم بالطريقة التي تستطيع أن تطلّ بها على هذه القضايا من موقع مسؤول منفتح، فإنّ وحدة المرجعية قد تعطينا إيجابيات على مستوى توازن الموقف وعلى مستوى قوّة الموقف الإسلامي أكثر ممّا تعطينا أيّام المرجعيات المتعدّدة، لأنّ تعدُّد المرجعيات قد يخلق لنا مشاكل وتمزّقات في داخل الواقع الإسلامي سواء أكان ذلك على مستوى تعدّد النظريات الفقهية التي قد يلتزم الزوج برأي مرجع وتلتزم الزوجة برأي مرجعٍ آخر ويحصل التنافر حتّى في داخل البيت الواحد أو في طبيعة الاتجاهات العامّة في هذا الموقع أو ذاك الموقع.

إنّ المشكلة قد نواجهها في تعدُّد المرجعيات هي المشكلة التي نواجهها في تعدّد المذاهب الفقهية، لأنّ المرجعيات هي مذاهب فقهيّة متعدّدة من خلال طبيعة تنوّع الفتاوى وتنوّع النظريات في هذا المجال.

ولذلك، الأصل وحدة المرجعية، وعلى أساس لو كان فيهما آلهة غير الله لَفَسَدَتا باعتبار أنّ هذه تمثّل الخطّ النظاميّ الكونيّ الذي يتحرّك في خطّ النظام الاجتماعيّ والسياسيّ وما إلى ذلك.

الأصل هو وحدة المرجعية، لكن ربّما قد تحدث حالات طارئة تمثّل فيها التعدُّديّة حالة إيجابية من خلال ما تحدّثنا عنه في البداية من تخلُّف بعض المرجعيات عن الانفتاح على حركة الواقع.

 عناصر القوّة والضعف في المرجعيّة الشيعيّة

ـــ ما هي بتصوّركم نقاط الضعف والقوّة في تركيبة المرجعيّة الشيعيّة؟

إنّ نقطة القوّة للمرجعية الشيعيّة على مدى التاريخ الشيعي هو ثباتها في القضايا الأساسية في مواجهة أيّة عناصر ضاغطة من أيّة جهة ثانية. فلم يعرف لمرجعية أنّها انحنت لطاغية وأنّها قد تراجعت عن فتوى معيّنة لمجرّد رغبة الطاغية في التراجع، أو أنّها أعطت فتوى لمصلحة طاغية أو لمصلحة نظام ظالم بعيداً عن الأُسس الفقهية التي يعتمدها هذا المرجع. إنّنا عندما ندرس تاريخ المرجعيات نجد أنّ مستوى التقوى الفقهيّة، والتقوى السياسية، والتقوى الاجتماعية كانت في أعلى مواقعها وهذه إيجابية كبيرة في حكم المرجعية على مدى تاريخ المرجعية الذي عشناه، والذي نعيشه حتّى الآن.

هذه نقطة ذات قوّة كبيرة جداً، كما أنّ هناك نقطة قوّة أخرى تتحرّك في مجال العمق العلميّ الذي تميَّزت بتاريخ المراجع، فهل تجد مرة واحدة في تاريخ المرجعية أنّ المرجع كان دون المستوى العلميّ المطلوب في المرجعية؟ وهذه نقطة مهمّة جداً، فقد رأينا أنّه عندما يموت مرجع قد تنطلق هناك أسماء كثيرة ولكنّ المرجع الأقوى، المرجع الذي يملك القوّة الحقيقية في الجانب العلميّ والتقوي هو الذي يتقدّم المسيرة في نهاية المطاف.

أمّا نقاط الضعف فهو أنّ المرجعية لا تزال شخصاً ليست مؤسّسة في الوقت الذي تطوّرت فيه أوضاع المرجعية في العالَم الإسلاميّ الشيعيّ إلى أن أصبحت القضايا السياسية تقتحم مسؤولية المرجع كما أنّ التحدّيات الكبيرة التي يعيشها الواقع الإسلامي تواجه المرجع في مسؤوليّته وما إلى ذلك.

في الوقت الذي لا يستطيع المرجع بطاقته الخاصّة أو من خلال من يحيط به أن يواجه ذلك كلّه، كما أنّ هناك عزلة عن الواقع الإسلاميّ، الواقع العالميّ الذي يؤثّر سلباً أو إيجاباً على الواقع الإسلاميّ ممّا يجعل المرجعية في عزلة عن تطوّر الأحداث في العالم، وعن مواكبة المتغيّرات في العالم، بينما نجد أنّ المرجعيات الأخرى، ولاسيّما في الدائرة المسيحيّة تظلّ في حضورٍ دائم حتى في القضايا غير المسيحيّة ممّا يجعلها تمثّل الحضور في كلّ الوعي السياسيّ والثقافيّ والديني في العالم.

إنّ هذه المسألة من نقاط الضعف الكبيرة جداً التي جعلت الواقع الإسلامي يعيش في واد والمرجعية تعيش في وادٍ آخر، ولولا الخطّ الفقهي الذي يجعل الناس بحاجة إلى رأي الفقيه ولولا الخطّ المالي المرتبط بالخطّ الفقهي من خلال الحقوق الشرعية لما كانت هناك أيّة علاقة بين المرجعية وبين الناس.

 

 

 

 

الحديث الثالث

3 شباط 1993م ـــ 11 شعبان 1413هـ

الكوابح التقليديّة

ـــ بعد وفاة السيّد الخوئي، طرحت بعض الأسماء للمرجعيّة، وهي لمراجع يحملون مواصفات شبيهة للسيّد الخوئي (قدّس سرّه). في ضوء هذه الحالة كيف تنظرون إلى المستقبل الشيعي؟

ربّما كانت الظروف الموضوعية الحاضرة التي تمرّ بها المرجعية الشيعيّة، لا تحمل انطلاقة لتجديد حركة المرجعية في الشكل والمضمون والامتداد، بالطريقة التي تفكّر بها أو يفكّر بها المخلصون الذين يريدون للمرجعية الإسلامية الشيعيّة أن تختزن في داخلها شمولية القيادة وحركيّتها وفاعليّتها وامتدادها في كلّ موقع للإسلام فيه قضيّة وفكر وحركة وهدف.

كذلك فإنّ الأسماء المتداولة لا تزال أسماء تقليديّة تنطلق طموحاتها للمرجعية من خلال خبرتها في الفقه والأصول. وقد تختلف بعض الأسماء عن بعض، في بعض نوافذ الوعي. ولكنّ المسألة هي أنّ طبيعة الأرضية التي تتحرّك فيها هذه الخطوات المرجعية ـــ إذا صحّ التعبير ـــ في العالم الشيعيّ لا يزال الكثير من أفرادها يحمل صفات معيّنة للمرجع بحيث قد تغلق على المرجع المرتقب لو كانت له انفتاحات واسعة الحركة في هذا الاتجاه. أو أنّها تخفّف الكثير من فاعلية مشاريعه وخطواته.

ولذلك فإنّ من الصعب من خلال هذه الأسماء أن ينفتح الواقع على مرجعية رائدة منفتحة على الواقع الإسلامي كلّه. هذا من جهة.. ومن جهةٍ ثانية، فإنّ طريقة اختيار المرجع التي لا تخضع لنظام الدراسة الدقيقة المعمّقة التي يقوم بها فريق من الخبراء من العلماء والمفكّرين والعاملين في الحقل الواقعي بمختلف أبعاده، بل تتمّ من خلال حالات سطحية تارّة وعاطفية أخرى، ومدروسة في نطاق فردي ضيّق ثالثة، وأجواء قد يكون لها بعد تاريخي من جهة أخرى.. أو بعد زمني في امتداد عمر هذا المرجع في مدى الزمن من جهةٍ أخرى.

إنّ هذه العناصر التي تنطلق بها مسألة المرجعية في حركتها، قد لا توفّر دائماً المرجع المنفتح الصالح الواسع الأبعاد.  

ثمّ إنّ الاتجاه الفكريّ الشيعيّ في مضامينه الفقهية لا يزال يركّز على مسألة الفقه والأصول في الصفة المميّزة للمرجع الذي يكون في الدرجة العليا من هذا العلم.

أمّا مسألة الانتخاب والشورى الخاضعين للدراسة الواسعة، فإنّها ليست واردة في الحساب. لأنّك قد تصطدم بشخص أكثر علماً ولكنّه لا يمتلك أبعاداً واسعة. وقد تملك شخصاً يمتلك أبعاداً واسعة، ولكنّه لا يساوي الشخص الآخر في نفس الدرجة من العلم.. أو لا يعتقد الآخرون فيه مثلما يعتقدون في الشخص الآخر، حتّى لو كانت له كفاءة واقعية في هذا المجال. لكن يبدو أنّ الساحة الشيعيّة سواء على مستوى الحوزات العلمية أو على مستوى الواقع الشعبي، لا تملك واقعية عملية في هذا المجال.

نحن لا ننكر أنّ هناك تململاً كبيراً موجوداً في الحوزات العلمية من جهة، عندما يتطلّع أفرادها الواعون إلى بعض العناصر السلبية الموجودة في هذا المرجع أو ذاك، وإلى انكفاء المرجعيات غالباً عن حاجات العصر، وعن الاستجابة لكلّ علامات الاستفهام التي يثيرها العصر في تحدّياته.

كما أنّ طموحات الحالة الشعبية قد لا تلتقي مع ما تحتاجه الأوضاع الشعبية من زهو للمرجع الممثّل للقيادة، عندما تلتفت إلى المراجع الآخرين الموجودين في أماكن أخرى وفي أديان أخرى في انفتاحهم على العالم وفي حركيّتهم في هذا العالم.

إنّ هناك تململاً؛ ولكن هذا التململ لا يزال جانبياً، ولا يزال محاطاً بأسوار شبه حديديّة تمنع الكثيرين من الخروج عن هذا الطوق. لذلك فإنّني لا أنتظر وجود مرجعيات رائدة بالطريقة التي نفكّر بها ويفكّر بها المخلصون. ولكنّ افتراض مسألة المرجعية وانطلاق القضية في جدلٍ ربّما أصبح عالياً في الصوت الذي يتحدّث به حول مسألة استبدال المرجعية بصيغة أخرى، وحول مسألة اعتبار الولاية في صيغتها التنفيذيّة بديلاً عن المرجعية وما إلى ذلك. يعني أنّ هناك إرهاصات يمكن أن تنفتح ولو بعد حين على وضع جديد يهزّ كلّ هذا الواقع الفكريّ والشعوريّ والعمليّ الذي يطبّق على مسألة المرجعيّة.

عصر مرجعي جديد

ـــ نفهم من خلال حديثكم أنّكم في استشرافكم للمستقبل ترون أنّ هناك عنصراً مرجعياً جديداً في طور البناء؟

إنّني أستشرف هذا في المستقبل؛  لأنّني أجد أنّ هناك مساحة واسعة بين المرجعية المعاصرة وبين حاجات الناس في التطلُّعات التي ينطلقون بها في أوضاعهم العامّة.

لقد كانت المرجعيات السابقة منطلقة من حاجات العصور الماضية التي تحرّكت فيها. حيث كان المسلمون الشيعة مجرّد مجموعات منغلقة على نفسها تخشى من أيّة تحدّيات تواجهها بالخطر. وكانت حاجات هذه المجموعات محدودة تنفتح على التكليف الشرعيّ في المسائل الشرعيّة، وعلى التكليف الشرعيّ في المسائل المالية. ولم تكن هناك اهتمامات فوق العادة.

وقد تحدث هناك بعض الهزّات السياسية فيسأل الناس عن حكمها في حجم الخطوط العامّة. تماماً كما هي الحالات التي حدثت فيها بعض الأوضاع التي تشبه الثورات، كما حدث في العراق في ثورة العشرين، وكما حدث في فتوى الميرزا الشيرازي الكبير. ولكنّها كانت تتحرّك في دائرة الخطوط العامّة التي لا تبتعد كثيراً لتلاحق الواقع السياسيّ الكبير، لتصنع له خطّاً أو خطّة أو ما إلى ذلك. ولهذا كنّا نجد أنّ هذه الانفتاحات أو الانطلاقات كانت تمثّل حركة ليس لها ما قبلها وليس لها ما بعدها. فنحن نلاحظ فتوى (التنباك) لم تلاحق النتائج التي حصلت بعد ذلك، إيجابية كانت أو سلبية، لتركّز الواقع السياسيّ من خلال روحيّة هذه الفتوى على أساس ثابت قويّ يمنع الانحرافات التي حدثت بعد ذلك بما يشبه المسألة التي أثارت هذه الفتوى. وهكذا نجد أنّ مسألة المشروطة والمستبدّة التي أخذت بُعداً سياسياً في بعض ما أُثير في داخلها من علامات استفهام حول مسألة الحكومة الإسلامية وما إلى ذلك، ولاسيّما في الرسالة التي صدرت عن الميرزا حسين النائيني (رحمه الله). لكنّنا نجد أنّها لم تتحوّل إلى حركة شعبية جماهيرية تلاحق أحداث الواقع، وتمتدّ إلى ما هو أبعد من إيران ولو في المجال النظري.

وهكذا نجد في ثورة العشرين أنّها ثورة وقفت في مواجهة المحتلّ الكافر، وهو الاحتلال البريطاني؛ ولكنّها تركت الساحة للمبادرات الأخرى التي جعلت المسألة تتّجه إلى أن يرضى العراقيون بحكومة لا أثر للإسلام فيها، بل كانت تنطلق من عاطفة هاشمية تستمدّ بعض مفرداتها من حبّ تاريخ أهل البيت (عليهم السلام)، حتّى لو كان هؤلاء الناس الذين يزحف الناس إليهم لا علاقة لهم من الناحية الفكرية والعملية بأهل البيت (عليهم السلام).

إنّ المشكلة التي عاشتها المرجعيات السابقة والتي تعيش الامتداد في كثير من مظاهرها في هذه الأيام، هي أنّها تنطلق من الحاجات الصغيرة، وإذا انطلقت في بعض العناوين الكبيرة فإنّها تشبه أن تكون قفزة في الفراغ. ولذلك لم نجد هناك امتداداً لها، لا بفعل الظروف الصعبة ولكن لأنّ حركة الامتداد بالطريقة التي تتابع فيها المشاريع لم تكن واردة في الحساب.. لم يكن هناك جهاز بالمستوى الذي يلاحق فيه حركة الواقع الذي أفرزته الفتوى، أو أفرزته الحركة هناك، أو تحرّكت الجهات هنا وهناك وما إلى ذلك، لهذا فإنّ القضية التي تواجهنا في هذه المرحلة هي أنّ الحاجات التي فرضت هذا اللّون من المرجعيات السابقة كانت حاجات محدودة. وبذلك نستطيع أن نقول أنّ المرجعيات كانت في مستوى الحاجة.

 

 

حاجات المرجعية المتزايدة

أمّا الآن فقد أصبحت المسألة الإسلامية الشيعية بحجم العالم، وصار الاستكبار العالميّ يخطّط لمواجهة هذا الامتداد الإسلاميّ الشيعيّ الحركيّ الثوريّ الذي يقف بقوّة ضدّ مخطّطات الاستكبار، على مستوى القاعدة الشعبية، وعلى مستوى بعض القيادات العلمائية، وعلى مستوى الحركات الإسلامية الموجودة في داخلها.

إنّ المسألة أصبحت تتعدّى الدوائر الصغيرة التي كانت المرجعيات تلبّي حاجاتها. كما أنّ حركة الوجود الشيعيّ الثقافيّ والاقتصاديّ والأمنيّ، وتطلُّعات الأجيال الجديدة في تفاعلاتها مع الأجيال الأخرى من غير الشيعة، سواء أكانت إسلامية أو غير إسلامية، وحاجات الواقع الشيعيّ الفكريّ إلى تخطيط يركّز خطواته من أجل مواجهة الحملات الظالمة التي تريد أن تبعد التشيّع عن الإسلام، وأن تفصل المسلمين الواقعيّين عن الواقع الشيعيّ، باعتبار أنّه واقع غير إسلاميّ أو ما إلى ذلك، إنّ المسألة الآن تمثّل مجرّد خطوات فردية يتحرّك فيها هذا الباحث وهذا العالم، ولكنّها لا تنطلق من خطّة شاملة.

إنّ السّاحة أصبحت أكبر بكثير من الساحات السابقة، ولذلك فإنّ المرجعيات عندما تنطلق في صيغتها التقليدية فإنّها تقبع في زاوية معيّنة من السّاحة، وتكتفي بهذا الجوّ العاطفي الذي تمنحه إيّاها السّاحة. لا لشيء إلاّ لأنّ هناك عاطفة تحتاج إلى شيء ترتبط به، فعندما لا يكون الشيء بمستوى التطلُّع، فإنّ العاطفة التاريخيّة تبقى فيما هو موجود في الواقع.

العلماء والأُمّة... مسؤوليّة مشتركة

ـــ مَنْ يتحمَّل مسؤولية بناء العصر المرجعيّ الجديد.. العلماء أم الأُمّة؟

في تصوّري أنّ الفريقين يتحمّلان هذه المسؤولية. أمّا العلماء فإنّهم يتحمّلون المسؤولية من خلال توجيه الأُمّة نحو هذا اللّون من المرجعيات الرائدة المنفتحة على حاجات العصر، بحيث يقومون بعملية تعبوية واسعة لتوجيه الأُمّة إلى أنّ هذه المرجعيات التي أدمنتها الأُمّة، وأصبحت الأُمّة تتحرّك تلقائياً نحو الصور التقليدية فيها لما قد تحمله في داخلها من قداسة لهذه الصورة.

إنّ العلماء بحاجة إلى أن يوجّهوا الأُمّة إلى الخطوط الجديدة للمرجعية التي تحمل إلى جانب الخطوط القديمة، خطوطاً جديدة. باعتبار أنّها تضيف إلى الثقافة الأصولية الفقهية، ثقافة اجتماعية حركية تنفتح على أهل الخبرة في كلّ مواقعهم لتتكامل معهم ولتستفيد منهم وتنطلق للواقع الذي يعيشه الناس لتعالج مشاكلهم.

أمّا بالنسبة إلى الأُمّة، فإنّ عليها عندما تعيش الفراغ في حاجاتها ومشاكلها وتحدّياتها، وعلامات الاستفهام التي تدور في واقعها، فلا تجد للمرجعية دوراً في كلّ هذا. إنّ عليها أن ترفع الصوت عالياً من أجل أن تضغط على العلماء من جهة ليتحرّكوا في هذا الاتجاه. وتضغط على المرجعيات لتتحرّك في توجُّهات جديدة تفسح المجال لهذا النموّ التطوّريّ الذي يطوّر حركة المرجعية وخطوط المرجعية في المستقبل.

إنّنا نتصوّر أنّ هذه المسألة تحتاج إلى جوّ مشترك يتكامل من خلال حركة العلماء وحركة الأُمّة مع العلماء ليتمكّن من إيجاد العوامل المؤثّرة لعملية التطوير في المجتمع. وليمكّن من خلال ذلك ولادة مشاريع مرجعيّة، ولو في دوائرَ صغيرة، بما يمكن أن يمثّل حالة جنينيّة للمرجعية المنفتحة في المستقبل.

المرجع.. أعلم أم أفضل؟

ـــ هل تتوقّعون أنّ الظروف السياسية والاجتماعية والثقافية في تحوُّلاتها السريعة قد تشكّل ضغطاً على فقهاء الشيعة فيتخلُّون عن شرط الأعلمية في الفقه والأصول؟

ليس من الضروريّ دائماً في الوصول إلى هذه النتائج التخلّي عن شرط الأعلمية. وإن كان التخلّي عن هذا الشرط قد يسهّل المسألة. لأنّ الآخرين قد يقولون لك بأنّ مسألة شرط الأعلمية ليست مجرّد شرطٍ يمكن أن تضعه اليوم لترفعه غداً؛ لأنّه ينطلق من عمق الاجتهاد الإسلاميّ الذي يخضع لقواعد معيّنة في طريقة استنطاق الكتاب والسُّنّة. لذلك قد يكون التركيز على هذه النقطة كعنصر أساسيّ أمراً غير منتج بشكلٍ كبير. ولكنّنا في الوقت نفسه يمكن أن نجعل من كلّ هذه الهزّات المتتابعة والمتغيّرات الواقعية على جميع المستويات، أساساً ليكون هذا الأعلم أو ذاك الأعلم متحرّكاً في سبيل استكمال عناصر الشخصية في الاتّجاه الآخر، عندما يكون الأعلم المتعدّد الأبعاد الذي تدور الاحتمالات فيه بين عدّة أفراد، واجداً للشروط الأخرى. باعتبار أنّه عندما يواجه الحاجات العامّة التي تفرض عليه ذلك فإنّه سوف يقبل على دراسة القضايا الأخرى التي تستكمل حركية المرجعية في الواقع بالطريقة التي درس فيها الفقه والأصول.

وبذلك يكون لدينا نماذج من كلّ هؤلاء بالدرجة التي تكون خياراتنا واسعة في هذا المجال.

بينما نجد أنّ فقدان الاهتمام باستكمال عناصر الشخصية في المجالات الأخرى المتجدّدة، يجعل الخيارات صعبة بحيث لا نستطيع أن نجدها في الدوائر التي تحتمل فيها الأعلمية، بل نجدها في دوائر غير الأعلم. وعند ذلك يثور جدل حول هل يجوز تقليد غير الأعلم أو لا يجوز. وتنطلق هذه الدوّامة لتسقط المشروع كلّه أمام مسألة أنّ هذا يكون.. وأنّ هذا لا يكون. وعندما تكون المسألة مسألة يجوز أو لا يجوز.. لا مسألة ما يحصل أو ما لا يحصل.. أو الأفضل أو غير الأفضل، فإنّ الاختيارات تكون محدودة جداً.

 

 

الإحساس العام بضرورة تطوّر المرجعيّات

ـــ هل تتوقّعون أنّ الظروف السياسية والاجتماعية والثقافية في تحوّلاتها السريعة ستجعل القاعدة الشيعيّة تبحث عن فقهاء لا ينتمون إلى المدرسة التقليديّة؟

إنّني أجد أنّ هناك إرهاصات في الواقع الذي نعيشه الآن، كبيرة جداً لدى المثقّفين من الأُمّة، ولدى الكثيرين من الناس الواعين والحركيّين. وذلك فيما كنتُ أُلاحظه من ضغط بعض هؤلاء الناس على بعض النماذج التي يجدون فيها نوعاً من هذا الانفتاح، أو حركة في هذا الاتّجاه.

إنّ وجود مثل هذه البدايات بشكل معقول في الحجم يمكن أن يقود إلى أنّ هذا الاتّجاه سوف يتوسَّع حتّى يتحوّل إلى تيّار. إنّني أُلاحظ مثلاً أنّ هناك حركة في داخل الحوزات العلمية، ولاسيّما الحوزة العلمية في قم نحو الأخذ بالوسائل الحديثة كالكمبيوتر في المسائل الفقهية والقرآنية، حتّى لدى المرجعيات التقليدية. إنّ مثل هذه النوافذ التي أصبحت المرجعيات التقليدية تطلّ منها على بعض المواقع في الأجهزة الجديدة للعلم لتوثيق العلوم يدلّ على أنّهم يشعرون بأنّهم إذا لم يلاحقوا الزمن فإنّ الزمن سوف يتجاوزهم.

إنّ وجود مفردة هنا ومفردة هناك، تماماً كوجود ساقية هنا وأخرى هناك، فإنّ السواقي عندما تكثر سوف تتّجه لتصنع النهر الكبير.

مسؤوليّة صنع التحوّل في واقع المرجعية

ـــ إذن نحن أمام مرحلة تحوّل.. في نظركم وحسب فهمكم لطبيعة التركيبة الشيعيّة، هل تساعد مفردات العقلية الشيعية من العاطفة والاندفاع والموضوعية، على دفع التحوّل بالاتجاه الإيجابي في موضوع المرجعيّة؟

إذا انطلق الأشخاص أو انطلقت الجهات التي تفكّر في اتّجاه التجديد، في عملية توعية وتعبئة فكرية، بشجاعة في الموقف من دون خوف من انتقاد هنا وانتقاد هناك.. وهجمة هنا وهجمة هناك. فإنّني اتصوّر أنّها يمكن أن تحتوي الواقع الذي يمدّها بالكثير من الصدمات الآتية من الخارج.

إنّ الصدمة وحدها لا تكفي لتصنع التطوّر، بل إنّها تعمل على أساس أن تفتح المجال لحركة التطوّر. ولكن إذا لم يكن هناك مَن يواكبون الصدمة، ويواكبون حركة التطوّر، فإنّ الصدمة لا تترك أيّ أثر إلاّ بعض الانفعالات وبعض الأجواء السلبية هنا وهناك.

لذلك فإنّ المسؤولية هي مسؤولية الرياديّين الذين يحملون هذا الهمّ، ويحملون هذا الفكر، سواء أكانوا في الحوزات أو كانوا في واقع الأُمّة.

ـــ هل تتوقّعون أنّ المسألة ربّما تصل في حالاتها السلبية إلى ردود فعل متشنِّجة من قِبَل هذا الطرف أو ذاك؟

من الطبيعيّ أنّ المسألة عندما تصل إلى المستوى الذي تتحوّل فيه إلى حالة صراع قويّ، فإنّها لا بدّ أن تثير الكثير من الجدل. وقد يتطوّر هذا الجدل إلى معركة هنا ومعركة هناك، ممّا تثير الكثير من الانفعالات والسلبيات. ولكن هذه هي طبيعة كلّ حركة جديدة، فإنّها لا بدّ أن تقف لتواجه تحدّيات الماضي في عناصره الانفعالية وما إلى ذلك. وهذا ما لاحظناه في حركة الثورة الإسلامية التي قادها الإمام الخميني (قدّس سرّه) تحت عنوان ولاية الفقيه، فإنّها أثارت الكثير من الجدل في داخل الوجود الشيعيّ. وما تزال تثير الكثير من الجدل. ولكن قوّة الموقف وصلابة الاتجاه استطاعت أن تتجاوز كلّ هذه الأمور التي لم تسقط تماماً، ولم تلقِ السلاح، ولكنّها أصبحت لا تمثّل تحدِّياً كبيراً أمام الحجم الكبير الذي وصل إليه الواقع.

 

ـــ بناءً على هذا الحديث هل نفهم أنّ آلية العلاقة بين المرجعيّة والحركات الإسلامية بحاجة إلى إعادة نظر؟

في تصوّري أنّ بعض الحركات الإسلامية قد تكون مستغرقة في ذاتيّاتها بالمستوى الذي تحاول دائماً استحضار التبريرات التي تجعلها بعيدة عن الخضوع للقيادة الإسلامية العليا. وربّما لا تكون الحركة الإسلامية بهذا الاستغراق الذاتيّ، بل تكون واعية لموقعها ولرساليّتها، ولطبيعة دور القيادة في المسار الإسلامي العام.

إنّ مشكلة الذين يستغرقون في ذاتيّاتهم هي أنّهم يبتعدون عن الرسالة لتتحوّل الحركة عندهم إلى صنم، وليتحوّلوا إلى أوثان عند أنفسهم وعند قاعدتهم. ممّا يجعل الإحساس بقيادتهم إحساساً مرضياً معقّداً. وفي مثل هذه الحالة لا تكون الحركة، حركة إسلامية، بل حركة ذاتية فئويّة تتّخذ الإسلام واجهة لها.

أمّا الفريق الثاني الذي قد يفكّر بوجود مشاكلَ بينه وبين القيادة من خلال طبيعة التطبيقات أو طبيعة الأساليب وما إلى ذلك، فإنّه يمكن أن يدخل مع القيادة في حوار متعدّد الأبعاد لاكتشاف مواقع الخطأ والصواب. فإذا انكشف له الخطأ فإنّ عليه أن يرتقيَ إلى مواقع الصواب. وإذا لم ينكشف له ذلك، فإنّ عليه أن يدرس المسألة فيما هي المصلحة الإسلامية العليا في الانسجام مع القيادة، حتى في الموارد التي تكون فيها بعض الأخطاء التي تعتبرها الحركة أخطاء قياديّة، إذا لم تكن بالمستوى الذي يهدّد فيه قضايا المصير. ولا أعتقد أنّ الاختلاف سوف يصل إلى هذا المستوى عندما تكون القيادة الإسلامية المركزية منفتحة على الواقع الإسلاميّ، وواعية للمفردات إمّا بشكلٍ مباشر أو عن طريق المستشارين الواعين.. لا أعتقد أنّها تصل إلى هذا المستوى. ولكنّها تبقى في نطاق المفردات الجزئية.

 

عناصر القوّة في المرجعيّة الشاملة

ـــ كنتم قد ذكرتم أنّ العالم الإسلامي يسبق المرجعية في التطوّر، فهل تعالج المرجعية الشاملة حالة الخلل هذه؟.. وما هي الإضافات التي يمكن أن تحقّقها على صعيد التطوّر العام في العالم الإسلامي؟

كنتُ أتحدّث عن طبيعة القضايا التي تعيش في الواقع الإسلاميّ العام على مستوى الأُمّة كلّها من خلال القفزات النوعيّة التي تحصل لدى الأُمّة في مواجهة التحدّيات، وفي متابعة المتغيّرات الموجودة في العالم. حيث نجد أنّ القيادات الصغيرة والحركات الإسلامية تتوازن مع الحدث الكبير هنا وهناك. بينما تكون المرجعية التقليدية غائبة غياباً كليّاً عن المسرح، ومستغرقة في خصوصيّاتها المحدودة فيما هو الإطار الذي تتحرّك فيه المرجعيات في المسائل الفقهية أو في المسائل المالية الشرعية.

أمّا المرجعية الشاملة فإنّها في موقعها القياديّ المنفتح على قضايا الأُمّة لا يمكن من ناحية عملية أن تسبقها الأُمّة في مبادراتها، لأنّها تنطلق من موقع التخطيط للمستقبل ومن موقع استشراف الأوضاع الجديدة التي يمكن أن يطلّ المستقبل عليها. وبذلك فإنّها في هذا الدور القيادي المفروض في فكرة المرجعية الشاملة، تقف في الموقع الأمامي للأُمّة. ولو حصل هناك أيّ خلل في هذا المجال، فإنّ طبيعة وعيها لمسؤوليّاتها تفرض عليها أن تصغي إلى نداء الأُمّة وإلى أفكارها وإلى حركيّتها، لتبتعد عن الساحات الخلفية إلى الساحات العامّة الواسعة.

ـــ من خلال الربط بين أبعاد المرجعية الشاملة باتّجاهاتها المتعدّدة، هل يمكن أن نقول إنّكم بصدد عملية إعادة تشكيل التركيبة الشيعيّة؟

إنّني أطرح هذه الأفكار لتنطلق في المجال الفكريّ والفقهيّ والحركيّ حتّى يمكن أن تثير الكثير من الأفكار ومن المبادرات، وأن تصنع الكثير من الأجواء ريثما ينطلق ذلك كلّه ليعدّ العدّة لعملية التغيير، لأنّي أتصوّر أنّ مثل هذه المشاريع المنفتحة تحتاج إلى ظروف موضوعية يعمل المخلصون الواعون بالتكامل مع فريق كبير من الأُمّة، لتحويلها إلى واقع ولتجسيدها في السّاحة، ولذلك فنحن في هذه المرحلة التي لا تزال الطروحات التقليدية تفرض نفسها على الساحة، لتجعلنا ونحن المعنيين بهذه الأطروحة الكبرى، نضطر إلى أن نشير إلى مرجعيات لا ترضي هذه الطموحات الكبيرة، ريثما تنطلق الأطروحة في خطوطها الواقعية، لأنّ الساحة لا تتحمّل فراغاً.

إنّني أتصوّر مع كثير من الإخوان الذين يؤمنون بهذه الأطروحة وبهذا الانفتاح، استطعنا أن نصل إلى إيجاد رأي عام بقدر معقول من الناحية العدديّة ومن الناحية النوعية لمصلحة هذا الاتجاه.

محتملات الأزمة بين المرجعيّات

ـــ لعلّ الممارسة السياسية والموقف السياسي سيكون من أبرز معالم المرجعيّة الشيعيّة في صورتها المقترحة، ومع بقاء المرجعيات التقليديّة، هل تتوقّعون أن تحدث أزمة في الوسط الشيعيّ في واحدة من المسائل السياسية.. كما حدث سابقاً في تجربة المشروطة والمُستَبِدّة؟

من الطبيعيّ أن تحدث مثل هذه المشاكل عندما تتعدَّد الاجتهادات، وتتعدَّد المواقع في أيّ ساحة من الساحات، ولو من الناحية التطبيقيّة، أو من خلال الإثارات التي تحاول الأجهزة المخابراتية أو الجماعات المنحرفة لإرباك الواقع في الداخل، من خلال رأي يصدر هنا، أو من خلال حركة تنطلق هناك.

لكن مثل هذه التعقيدات لا تستطيع أن تنسف أيّ مشروع كان، فإذا لم تستطع أن تنسف المشروع التقليديّ الذي كان يحظى بثقة كبيرة في الأُمّة حتى في مواجهة نموذج تقليديّ آخر، فإنّ من الطبيعيّ أنّها لا تستطيع أن تسقط المرجعية التي تملك الموقع المتقدّم الكبير في الأُمّة، لأنّ عمق التأثير المرجعيّ في حياة الأُمّة يجعلها مستعصية على أيّة حالة من حالات السقوط. ولعلّنا نلاحظ أنّ المرحلة الماضية التي تزامنت فيها مرجعية الإمام الخميني (قدّس سرّه)، مع مرجعيات أخرى كبرى كمرجعية الإمام الخوئي (قدّس سرّه)، وربّما مرجعية السيّد الكلبايكاني، مع وجود بعض التعقيدات التي كانت تفرضها مسألة اختلاف المرجعيات، وتدخل هذه في السياسة وانكفاء هذه عن السياسة، وما إلى ذلك من بعض الجماعات التي تستظلّ بظلّ هذه المرجعية في مواجهة مشاريع المرجعية الأخرى وما إلى ذلك.. إنّنا لاحظنا أنّ كلّ هذه التعقيدات الموجودة في الساحة لم تستطع أن تنسف مشاريع المرجعية التي كانت تنطلق من الإمام الخميني، مع ملاحظة أنّ الاستكبار العالمي كان يهدّد هذه المرجعية في العمق.

كما أنّ مرجعية الإمام الخميني المنفتحة لم تستطع أن تسقط المرجعية الكبرى التي كانت تتمثّل بالإمام الخوئي، أو ببعض مواقع المرجعية التي تتمتَّع بجوٍّ واسع والتي يمثّلها السيّد الكلبايكاني.

ولذلك فإنّني أتصوّر أنّ عمق الالتزام الشيعيّ بالمرجعيات لا يسمح بإسقاط أيّة مرجعية نتيجة التعقيدات التي تحدث، وإنّما تتعايش المرجعيات في الخطّ الطويل، ليتقدّم الأقوى منها والأكثر انفتاحاً في الساحة.. أو الأكثر قوّة في انفتاح الساحة عليه.

محتملات التصدُّع في جمهور المقلّدين

ـــ نفهم من خلال الخطوط العريضة التي وضعتموها للمرجعية الشاملة أنّها تعمل على إحداث التماسك الاجتماعي، إلاّ أنّه مع وجود المرجعيات الأخرى على نمطها التقليديّ، قد يحدث شرخٌ في هذا التماسك، لا سيّما وأنّ جمهور المقلّدين سيعيش حالتين بينهما فارق كبير؟

لا أتصوّر أنّ ذلك يمثّل إجلالاً بالتماسك الاجتماعيّ من خلال النظرية والتطبيق معاً.

أمّا من خلال النظرية، فلأنّ المرجعية الشاملة الرائدة، تختزن في داخلها المواصفات العلمية والروحية التي يمتلكها المراجع الآخرون. ممّا لا يسمح بأيّة اهتزازات فيما هي العناصر الأساسية للمرجع في نطاق المرجعية الرائدة الشاملة. ولذلك فإنّ مسألة التماسك الاجتماعي لا تعيش أيّة حالة من الخلل، إلاّ فيما يعيشه الخلل الذي يفرضه التعدّد المرجعيّ الذي اعتاد عليه المسلمون الشيعة في كلّ تاريخهم.

أمّا من الناحية التطبيقيّة، فإنّنا ذكرنا من قبل أنّ نموذج مرجعية السيّد محمّد باقر الصدر (قدّس سرّه)، ولو في الدائرة المحدودة التي عاشها في عمره المبارك القصير، ومرجعية الإمام الخميني (قدّس سرّه)، فإنّ هذه المرجعية وتلك تعايشتا مع مرجعيات أخرى تقليديّة، ولكنّ الوضع الشيعيّ بقي متماسكاً، وقد لاحظنا في تلك المرجعيّتين مع اختلافهما في الحجم وفي الامتداد وفي العمق وفي السعة.. لاحظنا أنّ الذين يتبعون المراجع الآخرين التقليديّين نتيجة مواصفات قد لا يجدونها بالمستوى الموجود في مرجعية السيّد الصدر ومرجعية السيّد الخميني، نجدهم في الواقع العمليّ ينطلقون مع قيادة السيّد الصدر ـــ في مرحلته ـــ وقيادة الإمام الخميني. فنحن نجد أنّ الكثيرين من مقلّدي الإمام الخوئي (رحمه الله) كانوا يلتزمون قيادة الإمام الخميني. وأنا أعرف أنّ الكثيرين من المجاهدين في المقاومة الإسلامية في لبنان يقلّدون الإمام الخوئي (85%)، باعتبار أنّهم لم يجدوا أنّ هناك مشكلة في أن يلتزموا بالخطّ القيادي من خلال العناوين الشرعية الكبروية التي لا يختلف الإمام الخوئي فيها مع الإمام الخميني، ولذلك فإنّنا نشعر أنّ الكثيرين من مقلّدي هذا المرجع أو ذاك المرجع كانوا يتكاملون مع مرجعية الإمام الخميني (قدّس سرّه).

لهذا فإنّي لا أتصوّر أنّ هذه المسألة، تتحرّك في خطّين منفصلين، بل إنّ هناك الكثير من الخطوط التفصيليّة المتداخلة التي تجعل الناس يلتزمون بالمرجعين أو بالمراجع الثلاثة، من أكثر من موقع مع الاختلاف في بعض القضايا التي لا تتّصل بالمسائل العامّة بشكلٍ وبآخر.

إنّني لا أريد أن أُهَوِّن من مسألة الخلافات التي تحدث بين مرجع وآخر. ولكنّني أتصوّر أنّ الحسّ الشعبيّ السياسيّ يحاول أن يبحث مع الواعين عن نقاط اللّقاء التي لا توقف الحركة، ولا تبتعد عن الخطوط الشرعية في هذا المرجع أو ذاك المرجع.

 

 

الحديث الرابع

9 شباط 1993م ـــ 17 شعبان 1413هـ

مناقشة المقترحات المطروحة حول المرجعية

ـــ لأهمية مسألة المرجعية بعد وفاة السيّد الخوئي قدّس سرّه، طُرِحَت في بعض الأوساط الشيعيّة مقترحات عديدة تحاول أن تعالج مشكلة المرجعية حسب ما تراه من آراء وقناعات. نريد أن نتعرَّف عليها في ضوء تقييمكم لما هو مطروح ومتداول من مقترحات ووجهات نظر:

المجلس الفقهي

ـــ نبدأ أوّلاً بإمكانية تشكيل مجلس يضمّ عدداً من فقهاء الشيعة للقيام بمقام المرجعية الدينيّة.

ربّما كان بعض العلماء في الحوزة العلمية يطرح المجلس الفقهي كبديل عن المرجعية في المسألة الفتوائية. ولذلك فإنّ هؤلاء يقولون إنّ تقليد الأعلم الذي يلتزمه الكثيرون ينشأ من فكرة أنّ كفاءته العلمية المتقدّمة تجعله أقرب إلى وعي الحكم الشرعيّ الواقعيّ من غيره، لأنَّ أعلميّته تجعله ينفتح على العناصر الحيّة في الاستنباط بطريقة أعمق وأشمل ممّا يدركه غير الأعلم.

إنّنا إذا انطلقنا من هذه المسألة ـــ كما يقول هؤلاء ـــ فإنّنا قد نلاحظ أنّ اجتماع مجتهدين متنوّعين يملكون الكفاءة الفقهية المتقدّمة على رأيٍ واحد، قد يفسح المجال لأن يكون إدراك الحكم الشرعيّ الواقعيّ بطريقة أكثر سلامة من رأي مجتهد واحد حتّى لو كان الأعلم؛ لأنّ الآراء المجتمعة عادة تمثّل دراسة متكاملة أكثر من الدراسة الفردية. ومن هنا فإنّ مسألة الأعلمية لا تكون ذات موضوع أمام التعدُّديّة الاجتهادية في المجلس الفقهي. وبذلك ـــ يقولون ـــ نتخلَّص من المشاكل التي تطرحها مسألة انتقال التقليد من شخص إلى شخص عندما يموت شخص أعلم ليخلفه شخص آخر أعلم، فإنّ حياة الناس قد ترتبك عندما يختلف المجتهد الثاني مع المجتهد الأوّل في مفردات الأحكام الشرعيّة. فقد يفتي بما يكون لدى المجتهد الأوّل حلالاً بالحرمة أو بالعكس، أو يضيف بعض القيود إلى مسألةٍ، أو ينزع بعض القيود عن مسألةٍ، ممّا يجعل حياة الناس تعيش حالة إرباك من خلال اختلاف تقليد اللاحق بعد السابق.

أمّا عندما يكون هناك مجلس فقهي فإنّه يطلق هذه المسألة لتمتدّ في حياة الناس.

إنّنا نناقش هذه المسألة من ناحية علمية ومن ناحية عملية.

أمّا من الناحية العلمية، فلأنّ الذين تبنُّوا مسألة تقليد الأعلم انطلقوا من بعض المعطيات الحديثيّة ومن بعض المنطلقات العقلائية. فقد حاول بعضهم أن يستفيد من بعض الأحاديث أنّ الأعلم هو المتعيّن. وقد حاول الكثيرون منهم أن يعتبروا أنّ بناء العقلاء الذي أمضاه الشارع ينطلق من أنّ الأعلم هو المتعيّن عندما يختلف مع غير الأعلم.

ولذلك فإنّ هؤلاء قد لا يجدون المجلس الفقهي بديلاً عن شرط الأعلمية من الناحية الشرعية، إلاّ إذا استطاع القائلون بالمجلس الفقهي أن يقولوا بأنّ بناء العقلاء في التعدُّديّة يتميَّز عن رأي المجتهد الواحد حتّى لو كان أعلماً.

لذلك فإنّ المسألة قد تبقى موضعاً للجدل بما لا يحقّق لهذه الفكرة الشمولية في قناعات العلماء وبالتالي في قناعات الناس.

هذا من جهة، وربّما يثير الناس في هذا المجال مسألة فقهية أخرى، وهي أنّ المجلس الفقهيّ يمثّل أطروحة فقهيّة تستتبع حكماً شرعياً، وفي هذا المجال عندما يقف الإنسان العاميّ الذي لا يستطيع أن يميّز بين هذه الأطروحة وبين الأطروحة الأخرى، أمام تكليفه الشرعيّ، فإنّه لا يستطيع أن يلتزم بهذه الأطروحة؛ لأنّه لا حُجّة له ذاتية، ولم يفتِ بها الأعلم حتى يكون تقليد الأعلم مبرئاً للذمّة في هذا المجال.

أمّا من الناحية العملية، فقد نتساءل:

مِمَّ يتألَّف هذا المجلس؟

ومَن الذي يعيّنه؟

وما هي طبيعة الدرجة التي لا بدّ أن يملكها هذا المجتهد أو ذاك المجتهد للفتوى؟

وماذا إذا اختلف المجتهدون؟.. هل نتبع رأي الأكثرية؟.. وما هو الدليل على حُجيّة رأي الأكثرية أمام الأقليّة؟. قد لا تكون لدينا أُسس فقهيّة تغلب رأي الأكثرية من العلماء على رأي الأقليّة، بحيث يكون رأي الأكثرية حُجّة في ذاته. فنحن ندرس في علم الأصول ما يشبه الإجماع من العلماء على أنّ الشهرة في الفتوى لا تكون دليلاً شرعياً، بمعنى أنّ مجرّد كون هذه الفتوى مشهورة بين العلماء في مقابل فتوى غير مشهورة لا يعتبر أساساً للحُجيّة وأساساً للتعيين.

لذلك فإنّ هذه المسألة ليست مسألة عملية، بمعنى أنّها سوف تأخذ مجالاً كبيراً من الجدل الذي قد يجمّدها، وقد يجعل الناس يختلفون عليها.. فهناك من يأخذ بها، وهناك من لا يأخذ بها.

هذا من جهة، ومن جهةٍ أخرى يعود السؤال الذي طرحناه في البداية:

مَن الذي يعيّن هؤلاء المجتهدين؟

إذا كانوا يقولون: الوليّ، فالسؤال: هل من صلاحية الوليّ أن يعيّن مجلساً فقهياً لإفتاء الناس؟. إنّ الكثيرين لا يرون من شؤون الولاية ذلك، لأنّ شؤون الولاية تتّصل بإدارة شؤون الأُمّة في قضاياها العملية، لا في خطّها الفتوائي.

وإذا كان الذي يعيّن هؤلاء المجتهدين في المجلس الاجتهادي هو التصويت الشعبيّ على طريقة مجلس الخبراء، فإنّ السؤال الذي يفرض نفسه:

ما هي قيمة التصويت الشعبيّ في اختيار المجتهدين بشكلٍ يتعيَّن فيه على الناس إطاعتهم في المسألة الفتوائية؟ لأنّه لا دليل على شرعية أصوات الناس في هذا المجال على الطريقة التي ينتخب بها الناس مجلس الخبراء. لأنّ الناس ليسوا أهل الخبرة في طبيعة هؤلاء الخبراء فيما هم خبراء في المسألة الفقهية.

وهناك نقطة لا بدّ من إثارتها، وهي أنّ حصول إجماعٍ أو ما يشبه الإجماع في العالِم الشيعيّ على المجلس الفقهيّ ليس واقعياً، لأنّ العالِم الشيعيّ أدمن المرجعية بشكلٍ أصبحت المرجعية في وعيه الشرعي امتداداً للإمامة، ممّا يجعل المجلس الفقهيّ مسألة يتصوّرها كقضية إدارية لا تملك معنى القيادة؛ لأنّ قضيّة المرجعية في وعي الناس ليست مجرّد قضية فتوائية، وأنّ المرجع عندهم له صورة القائدة حتى لو لم يكن ممارساً لقيادته، أو لم يكن متميِّزاً بالعناصر القيادية الحركية المنفتحة على الواقع. وهذا ما لا يحقّقه المجلس الفقهي في وعي الناس.

أمّا مسألة إنقاذ الناس من الارتباك في الفتوى، فإنّ المجلس الفقهي لا يملك ديمومة في امتداد الزمن، لتكون فتوى المجلس الفقهي في هذه المرحلة ملزمة لكلّ الناس على مدى الزمن. فربّما يأتي مجلس فقهي آخر يخلف هذا المجلس الفقهي، تماماً كما يأتي مرجع آخر يخلف هذا المرجع، وقد تكون آراء المجلس الفقهي الجديد مختلفة عن آراء المجلس الفقهي القديم، ما دامت المسألة تخضع لاجتهاد المجتهدين في هذا المجلس أو ذاك.

لذلك فإنّني أعتبر أنّ أطروحة المجلس الفقهي ليست أطروحة بعيدة عن الجدل. كما أنّها ليست أطروحة واقعية في الذهنية الشيعيّة العامّة في هذه المرحلة على الأقلّ.

وهناك نقطة أخرى في هذا المجال، وهي أنّنا عندما نطرح المجلس الفقهي كبديل عن الدور الفتوائي للمرجع، وبذلك نستغني عن المرجعية في هذا المجال، فإنّنا نطرح إلى جانبه مسألة الولاية، باعتبارها العنوان التنفيذيّ لحركية المرجعية القياديّة.

إنّ مسألة الولاية تابعة للظروف السياسية التي ترتبط ببقاء الدولة في الجمهورية الإسلامية التي تمثّل الولاية قاعدتها الفكرية والروحية والسياسية. ونحن لا نستطيع أن نضمن امتداد بلد معيّن، كما أنّنا لا نستطيع أن نضمن استمرار الاجتهاد الإسلاميّ الشيعيّ في الالتزام بولاية الفقيه، لأنّ كثيراً من المجتهدين من المعاصرين ومن المتقدّمين وممّن يمكن أن ينشأوا وقد لا يرون ولاية الفقيه. وعند ذلك يختلف الناس حول ولاية الفقيه كما يختلفون الآن، فلا يبقى هناك أساس للوحدة في العالم الشيعيّ. بينما نجد أنّ الناس لا يختلفون على خطّ المرجعية. وإن اختلفوا على شخصية المرجع. ولا تحتاج المرجعية إلى دولة تتركّز فيها لأنّها يمكن أن تكون كما كانت ولا تزال في غياب الدولة.

لذلك فإنّ القفز من المرجعيّة إلى الولاية والمجلس الفقهيّ قد يكون قفزة في الفراغ، فيما يحدث من سلبيات.

إنّ طموحنا هو أن تلتقيَ الولاية والمرجعية في شخص واحد، كما هي طبيعة الرأي الفقهيّ الذي يقول إنّ المرجع وليّ يملك التصدّي للولاية، لأنّ ذلك من شؤون المجتهد، والمرجع مجتهد بطريقة متقدّمة. ولكن ربّما لا يحصل ذلك، بحيث قد لا تتوفّر شروط المرجعية في شخص الوليّ وقد لا تتوفّر شروط الولاية العملية في شخص المرجع، ممّا يجعل مسألة الفصل بين المرجعية والولاية كما التزم به الإمام الخميني (قدِّس سرّه) في آخر حياته، قد يكون هذا هو الأمر الطبيعيّ الذي لا يخلق لنا مشاكل جديدة.

ـــ ماذا لو اختار المجلس الفقهيّ رئيساً له من بين أعضائه؟

إنّ الحديث عن طبيعة أساس الشرعية للمجلس الاجتهادي، يطرح أيضاً الحديث عن مدى شرعية هذا الرئيس.

لو كان رئيساً هل هو الأعلم؟.. أو ليس الأعلم؟

وهل يكون رأيه ملزماً للمجلس؟.. أو يكون رأيه أحد الآراء في المجلس؟

وماذا إذا اختلف مع المجلس؟.. فهل يتنازل المجلس لرأيه؟.. وما هو الأساس في هذا التنازل؟

إنّ علامات الاستفهام التي تواجه مسألة المجلس قد تواجه مسألة الرئيس بطريقة أقسى.

وحدة المرجعية والولاية

ـــ ربّما تطرح وجهة نظر أخرى تتمثّل بضرورة العودة إلى وحدة المرجعية والولاية؟

لقد أشرنا في الجواب عن السؤال السابق، أنّ طموحنا هو التكامل بين المرجعية والولاية. ولكنّ مسألة الوحدة ليست مسألة شعار سياسي يجتذب الانفعال، ليتحرّك الناس على أساسه في هذا الموقع. ولكنّه عنوان ينطلق من عناصر حقيقيّة فيما هي الشروط الفقهية للولاية وللمرجعية. فإذا رأينا أنّ المرجع لا بدّ أن يكون أعلم، كما هو المشهور بين الفقهاء، بما فيهم الإمام الخميني (رضوان الله عليه)، ولو على أساس الأحوط وجوباً، ولم يكن هذا الإنسان الأعلم قادراً على إدارة شؤون الأُمّة؛ لأنّه لا يملك وعي الواقع الشامل لحركة الأُمّة في قضاياها المتنوّعة الواسعة. فإنّه قد يكون مشروع وليّ فيما هي مسألة موقع المجتهد في الولاية، ولكنّه لا يملك مشروعية فعلية الولاية، لأنّه لا يملك الخبرة في إدارة مسألتها.

وقد نجد هناك شخصاً مجتهداً يملك الخبرة في شؤون الأُمّة ولكنّه لا يملك الأعلميّة؛ لأنّ الولاية لا يشترط فيها الأعلمية، بل يكفي الاجتهاد مع العدالة والخبرة. فإنّنا في هذه الحالة لا نستطيع أن نوحّد بين الوليّ وبين المرجع، أو بين الولاية وبين المرجعية؛ لأنّ الوليّ لا يملك عنصر المرجعية وهو الأعلمية، ولأنّ المرجع لا يملك عناصر الولاية وهي الخبرة والقدرة على الإدارة. فلا بدّ من الفصل بينهما.

أمّا إذا قلنا بنظرية عدم وجوب تقليد الأعلم ـــ كما نراه في اجتهادنا الفقهي ـــ فإنّ من الممكن توحيد مسألة الولاية والمرجعية، إذا توفّرت العناصر الفقهية الكافية في المرجعية في شخص من يملك القدرة على حركية الولاية؛ لأنّ الاجتهاد وحده لا يكفي، بل لا بدّ من أن يكون هناك اجتهاد متمرّس منفتح على قضايا الفقه كلّها، ليستطيع هذا الوليّ المرجع أن يجيب على كلّ مسألة.. وليملك القدرة على إدارة المسألة الفتوائية كما يملك القدرة على إدارة المسألة الولائية.

إنّنا في هذه الحال، يمكن أن نوحّد بين المرجعية وبين الولاية.

أمّا إذا كانت الولاية مقداراً من الاجتهاد، لكنّها لا تملك سعته، فإنّ الاجتهاد وحده ـــ كما قلنا ـــ لا يكفي في هذه الوحدة.

إنّ القضية لا بدّ أن ترتكز على أساس القاعدة العلمية التي يمكن أن توحّد من جهة.. ويمكن أن لا تملك طريقة للتوحيد من جهة أخرى.

في نظرية تقليد غير الأعلم يمكن ذلك بالشروط التي ذكرناها، وبذلك يمكن انتخاب المرجع الذي يملك الخبرة فتتّحد الولاية والمرجعيّة.

الخُمس والزّكاة.. للوليّ أم للمرجع؟

ـــ وهناك وجهة نظر أخرى هي تقسيم المهام بين الولاية وبين المرجعيّة؟

إنّ مثل هذه المسألة متّصلة بالتنسيق الإداري لقضايا الأُمّة بين المرجعية وبين الولاية، الذي يفرض التعدُّديّة فيهما، ولكنّ التعامل في القضايا هو طموحنا الكبير. ولكنّنا نلاحظ أنّ الواقع لا يختزن الكثير من مصاديق هذا التكامل.

ـــ هناك مقترح بأن تكون الحقوق الشرعية من الخمس والزكاة للولي دون المرجع؟

ربّما تختلف المباني الفقهية في هذا المجال، وعلى هذا الأساس تختلف النتائج.

فهناك رأي يرى أنّه لا بدّ من إعطاء الحقوق الشرعية للأعلم، بحيث لا يجوز لغير الأعلم أن يتصرّف بالحقوق الشرعية. وفي مثل هذا الرأي الذي كان يرتأيه السيّد الخوئي (رحمه الله) كما أتذكَّر، لا يمكن للمؤمنين أن يقدّموا حقوقهم الشرعية إلى الولي، لأنّه سوف يكون على خلاف فتوى مقلَّده. وتكون النتيجة أن لا تبرأ الذمّة بالدفع للوليّ الفقيه.

أمّا إذا قلنا بأنّه لا يشترط في جواز دفع الحقوق إلى المجتهد، يكون الأعلم أو يكون المقلَّد، ولكن يشترط أن تكون مصارفه لدى المجتهد الذي يأخذه بحسب النظرية الفقهية مطابقة للمصارف التي يراها المجتهد المقلَّد، بحيث تكون الخطوط الشرعية في صرف هذه الأموال لدى المجتهد الوليّ الذي يأخذ هذه الحقوق مطابقة للخطوط الشرعية لدى المجتهد المرجع. فيمكن للوليّ الفقيه أن يأخذ هذه الحقوق إذا كانت الخطوط الفقهية لديه مطابقة للخطوط الفقهية لدى المرجع.

أمّا إذا قلنا بأنّ النظرية التي تقول بضرورة دفع الحقوق إلى المرجع، تنطلق من كونه أعرف بمصارفها، بحيث تكون الولاية في هذا إلى المكلّف، ولكنّ الفقيه أعرف بمصارفها، فقد نجد أنّ الوليّ الفقيه المنفتح على حاجات الأُمّة هو الأعرف بمصارفها.

وهناك نظرية تقول: إنّ الحقوق الشرعية من شؤون الحكومة وليست من شؤون الفقيه بما هو فقيه، ففي هذه الحالة لا بدّ أن تدفع للوليّ باعتباره هو الذي يدير قضيّة الحكومة بين الناس.

إنّ مثل هذه القضية لا بدّ أن تخضع في دراسة اجتهادية للمباني التي تختلف فيها نظرية الحقوق الشرعية في الجهة التي تديرها وتصرفها. ولذلك فإنّ هذه المسألة لا يمكن أن تطرح بشكل سطحيّ تقليديّ، كما تطرح القضايا الشعاراتية السياسية.

تجزئة التقليد

ـــ ما هو رأيكم في مسألة تجزئة التقليد في العبادات والمعاملات على عدد من الفقهاء؟

إنّ تجزئة التقليد يمكن أن تنطلق عندما يكون الجميع في مستوى واحد. كما لو كان الجميع في مستوى الأعلمية. أو قلنا بجواز تقليد غير الأعلم بشرط واحد، وهو أن يكون الرأي الفقهيّ في حالة اختلاف المجتهدين سواء كانوا في مرتبة الأعلم ـــ في المرتبة العليا ـــ أو كانوا في المرتبة الدُّنيا، إذا اختلف المجتهدون فهل الحكم الشرعيّ هو التخيير أم الاحتياط؟

هناك رأي يقول: إذا اختلف المجتهدون المتساوون في العلم، أو المجتهدون الذين يجوز تقليدهم حتّى لو لم يكونوا متساوين في العلم بناءً على نظرية جواز تقليد غير الأعلم.. فإنّ الحكم هو الاحتياط في حالة الاختلاف، بأن يأخذ بأحوط القولين. فلا يستطيع أن يقلّد هذا في المسألة التي يختلف فيها مع ذاك، ولا بدّ أن يأخذ بالاحتياط. بحيث إنّ أحدهما إذا أفتى بالحليّة والآخر بالحرمة، فلا بدّ بالأخذ بالحرمة، لا على أساس الالتزام لأنّه حرام، بل لأنّه أحوط القولين.

ففي مثل هذه الحالة لا يمكن تجزئة التقليد، إلاّ إذا كانوا متّفقين، أو لا يُعلم اختلافهم. أمّا إذا كانوا مختلفين فلا بدّ من الاحتياط.

أمّا إذا قلنا بأنّ الرأي في صورة الاختلاف هو التخيير، فيمكن أن نجزّئ التقليد، بأن يختار الإنسان في العبادات أو في بعض العبادات رأي هذا أو رأي ذاك.. يمكن أن نجزّئ بالفتوى، في الأخذ بهذه الفتوى ولو الجزئية، والأخذ بالفتوى الأخرى أيضاً الجزئية.

البحث أم التأجيل؟

ـــ وثمّة وجهة نظر أخرى، هي ترك الأمور على ما هي عليه لتحدّد الظروف ماذا يمكن أن يحصل بشأن المرجعيّة؟

إنّني لا أوافق على مسألة ترك الأمور للظروف. لأنّ الظروف قد تسقط الفكرة، وقد تصنع الفوضى، وقد تمنع التطوّر. ولذلك فإنّني أعتقد أنّ علينا أن نصنع ظروفاً جديدة من خلال طرح المشاريع المتنوّعة، وإدارة الحوار حول هذا الموضوع مع أهل الخبرة، والتفكير عندما نصل إلى نتيجة حاسمة في الوفاق على إيجاد سياسة إعلامية تستقطب الرأي العام الإسلاميّ الشيعيّ حول هذه المسألة، ليمكن لهذا المشروع الذي توافق عليه العلماء أن يجد سبيله إلى الواقع.

مؤتمر لفقهاء الشيعة

ـــ في ضوء هذه الآراء وغيرها، هل ترون أنّ من الممكن عقد مؤتمر لفقهاء الشيعة، للوصول إلى صيغة قاطعة بشأن المرجعية؟

لقد كنت ولا أزال أطلق هذا الاقتراح في أكثر من موقع، أن يجتمع علماء المسلمين الشيعة فيما هي المسائل الشيعيّة، وعلماء المسلمين فيما هي المسائل الإسلامية العامّة، في مؤتمرات لا مجال فيها لاستعراض العضلات الخطابية الحماسية، بل للتداول بعمق في الأمور لأنّ هذا هو أفضل السبل للوصول إلى قناعات مشتركة لا مجال فيها للمزايدات، ولا مجال فيها للانفعالات.

إنّني أعتقد أنّ هذا الاقتراح هو الاقتراح العملي الذي يمكن أن يخفّف الكثير من السلبيات، إذا لم يشارك في إلغائها تماماً.

ـــ في تقييم وجهات النظر المقترحة حول المرجعيّة، ما هي الأُسس التي ترونها ضرورية في تحديد الخطأ والصواب كخطٍّ عام؟

إنّني أتصوّر أنّ مسألة الخطأ والصواب لا يمكن أن تحدّد بالمطلق، بل لا بدّ من إدارة المسائل حولها لتحصيل القناعات الكبرى حول هذا الموضوع بالمستوى الذي يمكن تحريك هذا المقترح الذي توافق عليه الأكثرية في حركة الواقع بحيث يستطيع أن يفرض نفسه على الواقع. وليست المسألة في هذه القضية، قضية شرعية هذا أو ذاك، لنقول إنّ الأكثرية لا تملك شرعية في الأساس. ولكنّ القضية قضيّة مشروع يراد تحريكه في ضمن الضوابط الشرعية التي يصل إليها الاتّفاق أو ما يشبه الاتفاق.

بين الولاية والمرجعية الشاملة

ـــ فيما يتعلَّق بأطروحة المرجعية الشاملة، هل تَرَوْنَ أنّ من الضروري القول بولاية الفقيه كرأي ثابت لكلّ من يتصدّى لهذه المرجعية مستقبلاً؟

إنّ ولاية الفقيه من المسائل الاجتهادية التي يختلف عليها العلماء، فلذلك لا يمكن أن نفرض هذا الرأي كخطٍّ ثابت في حركية المرجعية؛ لأنّ الذين يتصدّون للمرجعية قد يختلفون في اجتهاداتهم حولها. فكيف يمكن أن نفرض على المجتهد هذا الرأي؟

أمّا إذا قلنا بعدم وجوب تقليد الأعلم، فإنّ بإمكاننا أن نختار المرجع من بين الذين يَرَوْنَ الولاية.

ـــ نتيجة انفتاح المرجعية الشاملة على قضايا العالم ومنها السياسية، ربّما يحصل تعارض في الموقف بين رأي المرجع وبين رأي الوليّ الفقيه. كيف تَرَوْنَ ذلك؟

إنّني أتصوّر أنّ المرجعية الشاملة عندما ينفتح المرجع عليها فإنّه قد يكون هو الأولى بالولاية. لأنّ المرجع الذي يملك كلّ هذه الخبرة وكلّ هذا الانفتاح لا بدّ أن يكون هو الوليّ. وإذا فُرض أنّ هناك نوعاً من أنواع التعدُّديّة بين مثل هذا المرجع وبين هذا الوليّ في حركة الواقع فلا بدّ من التنسيق.

ولا بدّ من ملاحظة نقطة فقهية أخرى، وهي أنّ هناك جدلاً فقهياً حول حكم الحاكم في الموضوعات، هل أنّ حكم الحاكم في الموضوعات حُجّة يجب الأخذ به، بحيث ينفذ إلى الحاكم الشرعيّ الآخر؟.. أو أنّه لا ينفذ حتّى على مقلّديه؟.، لأنّ المقلّدين يجب أن يتبعوه في الأحكام فقط. أمّا حكم الحاكم فلا ينفذ إلاّ في دائرة القضاء، لا في دائرة الواقع السياسيّ، في المسائل الموضوعية.

إذا قلنا إنّ حكم الحاكم نافذ في الموضوعات فإنّه لا بدّ أن ينفذ حتّى على المجتهد الآخر (المرجع)، وحتّى على مقلّدي المرجع الآخر.

أمّا إذا قلنا إنّ حكم الحاكم لا ينفذ في الموضوعات حتى على مقلّدي الحاكم الشرعي، فإنّه لا بدّ من التنسيق فيما بينهما حتّى لا يتحقَّق الاصطدام الذي يسيء إلى الفكرة الأساسية.

طموحات مستقبليّة

ـــ هل تعتقدون أنّ الوضع الشيعيّ يمرّ بمرحلة حرجة قد تفرز حالات سلبية على الوجود الشيعيّ؟

من الطبيعيّ أنّ الوجود الشيعيّ كأيّ وجود آخر يعيش المشاكل في داخله كما يعيش التحدّيات من خارجه، لا بدّ أن يتعرّض لصدمات كثيرة ولاهتزازات صعبة. ومن هنا فلا بدّ من مراقبة تطوّر حركة هذا الوجود في اتّجاه أوضاعه الداخلية والخارجية، حتّى تدرس القضايا التي لا بدّ من أن تشكّل عنصر الحماية لهذا الوجود.

ـــ هل تتوقَّعون أنّ نهضة ثقافية إسلامية يمكن أن تتحقَّق في الجوّ الإسلامي تحت ظلّ المرجعيّة الشاملة؟

من الطبيعي أنّ المرجعية الشاملة عندما تخطّط للكيان الإسلامي الشامل، فلا بدّ أن تصنع لهذه النهضة قواعدها الفكرية والاجتماعية والسياسية والثقافية، كما لا بدّ من أن تحرّك عناصر الواقع لخدمتها واحتوائها. إنّ طبيعة الشمولية تفرض التحرّك نحو هذا الهدف.

ـــ وهل تتوقَّعون أنّ المرجعية الشاملة يمكن أن تحقِّق نموّاً ملحوظاً في الحوزة العلمية؟

من الطبيعيّ أنّ هذا يتوقّف على انفعال الحوزة العلمية مع هذه المرجعية، وتجاوبها معها، والظروف الموضوعية التي تمكّن من تغيير نقاط الضعف في الحوزات إلى نقاط قوّة.

ـــ لو قُدِّر للمرجعية الشاملة أن تتجسَّد عملياً، كيف سيكون مستقبل الوجود الشيعيّ والإسلامي بشكلٍ عام في مجالاته السياسية والثقافية والاجتماعية؟

إنّ طبيعة هذه المرجعية أن تنفتح على طاقات أهل الخبرة في كلّ موقع من مواقع الأُمّة. ولذلك فإنّها لا بدّ أن تحرّك كلّ هذه الطاقات في اتّجاه وعي مشاكل الأُمّة، وفي اتّجاه دراسة الحلول لهذه المشاكل. وهكذا لا بدّ لها من أن توجّه الساحة السياسية نحو مواجهة التحدّيات الكبرى، ومراقبة المتغيّرات، والتحرّك نحو هذا وذاك، أو احتواء هذا وذاك.

ـــ عندما تتحوّل المرجعية إلى مؤسّسة، أين يقف احتمال تحوّلها إلى مؤسّسة مرتبطة على نمط الأزهر. باعتبار أنّ المؤسّسة تحفّز الحكومات للسيطرة أو للضغط عليها؟

إنّنا عندما نتحدّث عن المرجعية، فإنّنا نتحدّث عن المرجعية الحرّة المنفتحة التي لا ترتبط بأيّ جهاز دوليّ، حتى لو كانت هذه الدولة منسجمة مع طروحات المرجعية، بحيث تملك المرجعية موقعها من خلال ارتباطها بالأُمّة بشكلٍ مباشر. وبهذا فإنّها لا يمكن أن تتحوَّل إلى مؤسّسة من مؤسّسات النظام، كما هو الأزهر، بحيث تخضع لتعليمات النظام وللمراسيم الصادرة من النظام سلباً أو إيجاباً.

 

 

 

 

 

 

ملحق رقم (1)

أُطروحة المرجعيّة الصالحة

عند السيّد الشهيد الصدر (قدِّس سرّه)

 

قدّم الشهيد الصدر محمّد باقر الصدر (قدّس سرّه) في السبعينات الميلادية مشروعاً رائداً لتطوير المرجعيّة الدينية، أطلق عليه اسم (المرجعية الصالحة). والمشروع يعبّر عن روح الوعي والمبادرة التي تميَّز بها السيّد الصدر طوال سنوات عمره القصير.

انطلق السيّد الشهيد في مشروعه من عاملين أساسيّين:

الأوّل: استيعابه للخطّ العام لحركة المرجعية الشيعيّة على امتداد فتراتها التاريخيّة الطويلة، وتشخيصه الدقيق لأزمتها في حركتها وسط الأُمّة والمتمثّلة في تقليدية منهجها، وابتعادها عن التأثير في السّاحة، رغم وجود انحرافات كبيرة عن الإسلام، وسيطرة الاتجاهات اللاإسلامية على المجتمع الإسلامي.

الثاني: رؤيته الحركية في فهم ومعالجة شؤون الواقع الإسلاميّ، من خلال إيمانه (قدِّس سرّه) بضرورة إحداث التغيير الشامل في المجتمع على أساس الإسلام في الفكر والسلوك، وفق منهج مرحلي يمثّل الخطّ العام في التحرُّك والمعالجة.

تتّضح قيمة هذين العاملين من خلال دراسة فقرات مشروعه في المرجعية الصالحة، والتي يمكن أن نلاحظ أنّ إبداعاتها تتمثّل في الأهداف والوسائل التي وضعها السيّد الصدر لمشروع المرجعية.

 

أهداف المرجعيّة الصالحة

حدَّد السيّد الشهيد (رضوان الله عليه) خمسة أهداف للمرجعية الصالحة هي:

1 ـــ نشر أحكام الإسلام على أوسع مدى ممكن بين المسلمين، والعمل لتربية كلّ فرد منهم تربية دينيّة تضمن التزامه بتلك الأحكام في سلوكه الشخصيّ.

2 ـــ إيجاد تيّار فكري واسع في الأُمّة يشتمل على المفاهيم الإسلامية الواعية من قبيل المفهوم الأساسي الذي يؤكّد بأنّ الإسلام نظام كامل شامل لشتّى جوانب الحياة، واتّخاذ ما يمكن من أساليب لتركيز تلك المفاهيم.

3 ـــ إشباع الحاجات الفكرية الإسلامية للعمل الإسلاميّ، وذلك عن طريق إيجاد البحوث الإسلامية الكافية في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والمقارنات الفكرية بين الإسلام وبقيّة المذاهب الاجتماعية، وتوسيع نطاق الفقه الإسلاميّ على نحو يجعله قادراً على مدّ كلّ جوانب الحياة بالتشريع، وتصعيد الحوزة ككلّ إلى مستوى هذه المهام الكبيرة.

4 ـــ القيمومة على العمل الإسلاميّ والإشراف على ما يعطيه العاملون في سبيل الإسلام في مختلف أنحاء العالَم الإسلامي من مفاهيم وتأييد ما هو حقّ منها وإسناده، وتصحيح ما هو خطأ.

5 ـــ إعطاء مراكز العالمية من المرجع إلى أدنى مراتب العلماء الصفة القيادية للأُمّة بتبنّي مصالحها والاهتمام بقضايا الناس ورعايتها واحتضان العاملين في سبيل الإسلام.

لقد كثَّف السيّد الصدر قناعاته الحركية في صياغة هذه الأهداف، فهي تلتقي من حيث الأساس مع ما سبق له أن حقَّقه في مشروعه السياسي المتمثّل بتأسيس حزب إسلاميّ، والذي وضع له خطّاً استراتيجيّاً عامّاً يقوم على قاعدة التغيير الشامل في المجتمع على أساس الفكر والسلوك الإسلاميّ. وهذا ما يتبيَّن واضحاً في صياغة الهدفين الأوّل والثاني.

ويمكن أن نلخص الأهداف الخمسة التي حدَّدها السيّد الصدر للمرجعية الصالحة في محورين أساسيّين:

الأوّل: تغيير الواقع على أساس الإسلام فكراً وسلوكاً.

الثاني: ممارسة المرجعية لدورها القيادية في الحياة الإسلامية، وتجسيد حضورها الفاعل في شؤونها الاجتماعية والثقافية. وبذلك يمكن إنهاء العزلة الطويلة للمرجعية عن شؤون المجتمع.

إنّ الأهداف التي وضعها السيّد الشهيد، تعكس طبيعة الظروف التي عاشها (رضوان الله عليه). فلقد اهتمّ السيّد الصدر بالدائرة الإسلامية من العالم وما تعانيه من أجواء ضاغطة تهدّد أصالة الأُمّة الإسلامية. لذلك انطلق من هذا الفهم في تحديد أهداف المرجعية الصالحة. ولم يسمع السيّد الصدر دائرة الأهداف ليجعلها تشمل الساحة العالمية والواقع الدولي، لأنّ تجربة الدولة الإسلامية لم تكن قد حصلت بعد. بل إنّ طبيعة الظروف لم تكن تشير إلى قرب هذا التحوّل السياسي الكبير، كما أنّ الظروف القاسية التي أحاطت بوضعه الشخصيّ، والأجواء الحاكمة في الحوزة العلمية لم تكن لتتقبَّل أكثر من الذي طرحه (رضوان الله عليه).

إنّ دراسة كلّ هدف من الأهداف، تقودنا بطريقة تلقائية إلى اكتشاف عامل الترابط بينه وبين الواقع الاجتماعي والسياسي الذي عاشه السيّد الصدر.

فالهدف الأوّل الذي يقضي بنشر أحكام الإسلام على أوسع مدى ممكن من المسلمين والعمل على تربية كلّ فرد تربية إسلامية، إنّ هذا الهدف يعكس تشخيص السيّد الصدر للجوّ الاجتماعي العام، ليس في العراق وحده، وإنّما في البلاد الإسلامية كلّها؛ حيث تنتشر مظاهر الانحراف في الساحات الإسلامية بصورة واضحة علنية، ولا يشكِّل المؤمنون الملتزمون بالسلوك الإسلاميّ والمفاهيم الإسلامية إلاَّ أقليّة متفاوتة النسبة من إقليم لآخر، وفي أحسن الحالات التي يكثر فيها الالتزام بالإسلام، فإنّه لا يعدو أن يكون في المحصّلة الغالبة ممارسة تقليدية لا تنطلق من فهم حركيّ واعٍ للمنهج الإسلاميّ.

أمّا الهدف الثاني، فإنّه يحاول معالجة ظاهرة سلبية أخرى في العالم الإسلامي، وهي النظرة الناقصة المفروضة قسراً على الإسلام، والتي تحاول إظهاره بأنّه دين عبادة وحسب، لا دخل له في إدارة الحياة. وهو الاتجاه الذي حاولت وتحاول الكثير من الحكومات فرضه على أذهان المسلمين، من خلال الفصل بين الدين والسياسة؛ في ممارساتها السياسية والقانونية، وفي مناهجها التعليميّة والثقافية. حتّى أصبحت مسألة العمل الإسلامي تعامل على أنّها ممارسة خارجة على القانون، وربّما يتعرَّض الحركيّون الإسلاميون إلى عقوبة السجن والإعدام. فيما لا يتعرَّض أصحاب الأحزاب الكافرة والعلمانية إلى مثل ذلك.

وقد كان من نتائج هذه السياسة أن آمن قطاع كبير من أبناء الأُمّة بهذه النظرة الناقصة والمنحرفة عن الإسلام، بحيث إنّ إعادة المفهوم الإسلامي الأصيل حول شمولية الإسلام كان يتطلَّب جهوداً فكرية شاقّة.

ولعلَّ هذه النظرة حكمت التوجّهات الفعلية للكثير من الملتزمين بالإسلام. فكانوا يؤمنون بالإسلام فكراً وسلوكاً، لكنّهم لا يمكن أن يتفاعلوا مع حقيقة إقصاء الإسلام عن الحياة، فهم لا يَرَوْنَ في ذلك انحرافاً خطيراً، فيركّزون أنظارهم وجهودهم على الجانب العباديّ في ممارساتهم الحياتيّة.

وفي الهدف الثالث يحاول السيّد الشهيد تعميق واستكمال منهاجه الفكريّ الرائد الذي تصدّى فيه للتيّارات الفكرية الوضعية، في كتبه الخالدة (اقتصادنا)، (فلسفتنا) و(المدرسة الإسلامية). حيث ناقش فيها السيّد الصدر المذاهب الاقتصادية والفلسفية للماركسية والاشتراكية والرأسمالية، واستطاع أن يثبت بمنهج علميّ خطأ هذه المذاهب، ثمَّ قدَّم أطروحاته حول النظام الاقتصادي الإسلاميّ.

لقد أراد السيّد الصدر من خلال تحديده لهذا الهدف أن تتصدَّى المرجعية الشيعيّة للاتجاهات الفكرية الوضعية، كخطٍّ عام من خطوط تحرّكها واهتماماتها. وبذلك تتحوّل مسؤولية مواجهة التحدّي الفكري من المحاولات الفردية إلى المؤسّسة المرجعية التي تبادر من جانبها في طرح الأفكار الإسلامية وتوسيع نطاق دراساتها الفقهية بما يمكّنها من معالجة شؤون الحياة كافّة. وهو ما يستدعي إحداث التطوّر في المستوى الثقافيّ والفكريّ للأوساط الحوزويّة.

وفي الهدف الرابع يسجّل السيّد الشهيد اهتمامه بالعمل الحركيّ الإسلاميّ، وضرورة تبنّي المرجعية الدينيّة للحركات الإسلامية في العالم الإسلاميّ. وهي حاجة ملحّة تفرضها ظروف الواقع. فالحركة الإسلامية لا يمكنها أن تستغنيَ عن دعم المرجعية، كما أنّ المرجعية بدورها تحتاج إلى الجهاز الحركيّ الممتد في أوساط الأُمّة والذي يعمل على نشر الفكر الإسلاميّ وتغيير المجتمع إسلامياً.

ولعلّ السيّد الصدر انطلق في صياغة هذا الهدف من تجربته الشخصية التي عاشها في العراق، وأشرف خلالها على تأسيس وعمل الحركة الإسلامية، فقد لمَسَ السيّد الشهيد دور الحركة الإسلامية في خدمة قضايا الإسلام، واكتشف بالتجربة حاجتها إلى الدعم المرجعيّ، وهو ما جعله يواصل تبنّيه لها رغم خروجه من الهيكل التنظيمي.

إنّ تأكيد (قدِّس سرّه) على هذا الجانب يعكس رؤيته الحركية في فهم الدور الإسلاميّ في الحياة، وإيمانه بضرورة امتلاك المرجعية الدينية الحسّ الحركيّ من أجل أن تتمكّن من استيعاب الساحات الإسلامية وترشيد اتجاهاتها العاملة.

وفي الهدف الخامس يواصل السيّد الصدر معالجاته الحركية للمرجعية ولدورها المطلوب في الأُمّة. فهو يحاول إنهاء العزلة الكبيرة التي تجمَّعت على مدى الزمن، ففصلت المرجعية عن الأُمّة. إنّه (قدّس سرّه) يريد إعادة الدور التاريخيّ المطلوب للمرجعية ولعلماء الدين في المجتمع، وذلك عبر إعطاء المرجع والعالِم الدينيّ الصفة القيادية في الأُمّة، حيث تعود إليه في شؤونها وقضاياها العامّة، بعد أن تلمس منه التفاعل والمواكبة لما تعيشه وتحتاجه وتعانيه.

لقد صاغ السيّد الشهيد هذا الهدف بوضوح قاطع لأنّه عاش فترة ابتعاد المرجعية عن قضايا السّاحة، وراقب آثار هذه العزلة على الواقع الاجتماعي والثقافي والسياسي. حيث سيطرت الاتجاهات المنحرفة على الساحة، واستطاعت أن تقصيَ الإسلام عن مواقعه الحقيقيّة، لذلك فإنّ السيّد الصدر أراد أن ينهيَ حالة العزلة الطارئة، من أجل أن ينهيَ فترة الغربة والضياع التي تعاني منها الأُمّة.

هذه بصورة عامّة الدوافع التي جعلت السيّد الصدر يحدِّد أهداف المرجعية الصالحة، وهي دوافع نابعة من فهم حركيّ دقيق للظروف الاجتماعية والسياسية، ومن نظرة شمولية واعية تهدف إلى معالجة نقاط الخلل في المؤسّسة المرجعيّة.

 

 

 

 

 

 

 

 

الأطروحة بقلم السيّد الشهيد الصدر (قدِّس سرّه)

إنّ أهمّ ما يميِّز المرجعية الصالحة تبنيها للأهداف الحقيقيّة التي يجب أن تسير المرجعية في سبيل تحقيقها لخدمة الإسلام، وامتلاكها صورة واضحة محدَّدة لهذه الأهداف، فهي: مرجعية هادفة بوضوح ووعي وتتصرَّف دائماً على أساس تلك الأهداف بدلاً من أن تمارس تصرّفات عشوائية وبروحٍ تجزيئيّة وبدافع من ضغط الحاجات الجزئية المتجدّدة.

وعلى هذا الأساس كان المرجع الصالح قادراً على عطاء جديد في خدمة الإسلام وإيجاد تغيير أفضل لصالح الإسلام في كلّ الأوضاع التي يمتدّ إليها تأثيره ونفوذه.

أهداف المرجعية الصالحة

ويمكن تلخيص أهداف المرجعية الصالحة رغم ترابطها وتوحّد روحها العامّة في خمس نقاط:

1 ـــ نشر أحكام الإسلام على أوسع مدى ممكن بين المسلمين، والعمل لتربية كلّ فرد منهم تربية دينية تضمن التزامه بتلك الأحكام في سلوكه الشخصيّ.

2 ـــ إيجاد تيّار فكريّ واسع في الأُمّة يشتمل على المفاهيم الإسلامية الواعية من قبيل المفهوم السياسي الذي يؤكّد أنّ الإسلام نظام كامل شامل لشتّى جوانب الحياة واتّخاذ ما يمكن من أساليب لتركيز تلك المفاهيم.

3 ـــ إشباع الحاجات الفكرية الإسلامية للعمل الإسلاميّ وذلك عن طريق إيجاد البحوث الإسلامية الكافية في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والمقارنات الفكرية بين الإسلام وبقيّة المذاهب الاجتماعية، وتوسيع نطاق الفقه الإسلاميّ على نحو يجعله قادراً على مدّ كلّ جوانب الحياة بالتشريع وتصعيد الحوزة ككلّ إلى مستوى هذه المهام الكبيرة.

4 ـــ القيمومة على العمل الإسلامي والإشراف على ما يعطيه العاملون في سبيل الإسلام في مختلف أنحاء العالَم الإسلامي من مفاهيم وتأييد ما هو حقّ منها وإسناده وتصحيح ما هو خطأ.

5 ـــ إعطاء مراكز العالمية من المراجع إلى أدنى مراتب العلماء الصفة القيادة للأُمّة بتبنّي مصالحها والاهتمام بقضايا الناس ورعايتها واحتضان العاملين في سبيل الإسلام.

ووضوح هذه الأهداف للمرجعية وتبنّيها وإن كان هو الذي يحدّد صلاح المرجعية ويحدث تغييراً كبيراً على سياستها ونظراتها إلى الأمور وطبيعة تعاملها مع الأُمّة ولكن لا يكفي مجرّد وضع هذه الأهداف ووضوح إدراكها لضمان الحصول على أكبر قدر ممكن من مكاسب المرجعية الصالحة، لأنّ الحصول على ذلك يتوقّف ـــ إضافة إلى صلاح المرجع ووعيه واستهدافه ـــ على عمل مسبق على قيام المرجعية الصالحة من ناحية وعلى إدخال تطويرات على أسلوب المرجعية ووضعها العملي من ناحية أخرى.

أمّا فكرة العمل المسبق على قيام المرجعية الصالحة فهي تعني أنّ بداية نشوء مرجعية صالحة تحمل الأهداف الآنفة الذكر تتطلَّب وجود قاعدة قد آمنت بشكلٍ وآخر بهذه الأهداف في داخل الحوزة وفي الأُمّة وإعدادها فكريّاً وروحيّاً للمساهمة في خدمة الإسلام وبناء المرجعية الصالحة، وإذا لم توجد قاعدة من هذا القبيل تشارك المرجع الصالح أفكاره وتصوّراته وتنظر إلى الأمور من خلال معطيات تربية ذلك الإنسان الصالح لها يصبح وجود المرجع الصالح وحده غير كافٍ لإيجاد المرجعية الصالحة حقّاً وتحقيق أهدافها في النطاق الواسع.

وبهذا كان لزاماً على من يفكّر في قيادة تطوير المرجعية إلى مرجعية صالحة أن يمارس هذا العمل المسبق بدرجةٍ ما، وعدم ممارسته هو الذي جعل جملة من العلماء الصالحين ـــ بالرغم من صلاحهم ـــ يشعرون عند تسلّم المرجعية بالعجز الكامل عن التغيير لأنّهم لم يمارسوا هذا العمل المسبق، ولم يحدِّدوا مسبقاً الأهداف الرشيدة للمرجعية والقاعدة التي تؤمن بتلك الأهداف.

تطوير أسلوب المرجعيّة

وأمّا فكرة أسلوب المرجعية وواقعها العمليّ فهي تستهدف:

أوّلاً: إيجاد جهاز عمليّ تخطيطيّ وتنفيذيّ للمرجعية يقوم على أساس الكفاءة والتخصُّص وتقسيم العمل واستيعاب كلّ مجالات العمل المرجعيّ الرشيد في ضوء الأهداف المحدّدة. ويقوم هذا الجهاز بالعمل بدلاً عن الحاشية التي تعبر عن جهاز عفويّ مرتجل يتكوّن من أشخاص جمعتهم الصدفة والظروف الطبيعيّة لتغطية الحاجات الآنية بذهنية تجزيئيّة وبدون أهداف محدّدة واضحة.

ويشتمل هذا الجهاز ـــ أي جهاز المرجعية الصالحة المطلوب توفيره ـــ على لجانٍ متعدّدة تتكامل وتنمو بالتدريج إلى أن تستوعب كلّ إمكانات العمل المرجعيّ، ويمكن أن نذكر اللّجان التالية كصورةٍ مثلى وهدف أعلى ينبغي أن يصل إليه الجهاز العملي للمرجعية الصالحة في تطوّره وتكامله:

1 ـــ لجنة أو لجان لتسيير الوضع الدراسي في الحوزة العلمية، وهي تمارس تنظيم دراسة ما قبل الخارج(1) والإشراف على دراسة الخارج وتحدّد المواد الدراسية وتضع الكتب الدراسية، وتجعل بالتدريج الدراسة الحوزويّة بالمستوى الذي يتيح للحوزة المساهمة في تحقيق أهداف المرجعية الصالحة، وتستحصل معلومات عن الإنتسابات الجغرافية للطلبة وتسعى في تكميل الفراغات وتنمية العدد.

2 ـــ لجنة الإنتاج العلميّ ووظائفها إيجاد دوائر علمية لممارسة البحوث ومتابعة سيرها والإشراف على الإنتاج الحوزوي الصالح وتشجيعه ومتابعة الفكر العالمي بما يتّصل بالإسلام والتوافر على إصدار شيء كمجلّة وغيرها، والتفكير في جلب العناصر الكفوؤة إلى الحوزة أو التعاون معها إذا كانت في الخارج.

3 ـــ لجنة أو لجان مسؤولة عن شؤون علماء المناطق المرتبطة، وضبط أسمائهم وأماكنهم ووكالاتهم وتتبّع سيرتهم وسلوكهم واتّصالاتهم والإطّلاع على النقائص والحاجات والفراغات وكتابة تقرير إجمالي في وقت رتيب أو عند طلب المرجع.

4 ـــ لجنة الاتصالات وهي تسعى لإيجاد صلات مع المرجعية في المناطق التي لم تتّصل مع المركز ويدخل في مسؤوليّتها إحصاء المناطق ودراسة إمكانات الاتصال بها وإيجاد سفرات تفقديّة، أمّا على مستوى تمثيل المرجع أو على مستوى آخر، وترشيح المناطق التي أصبحت مستعدّة لتقبّل العالم وتوالي متابعة السير بعد ذلك.

ويدخل في صلاحيّتها الاتصال في الحدود الصحيحة مع المفكّرين والعلماء في مختلف أنحاء العالم الإسلامي وتزويدهم بالكتب والاستفادة من المناسبات كفرصة الحجّ.

5 ـــ لجنة رعاية العمل الإسلامي والتعرُّف على مصاديقه في العالم الإسلامي وتكوين فكرة عن كلّ مصداق وبذل النُّصح والمعونة عند الحاجة.

6 ـــ اللّجنة المالية التي تعنى بتسجيل المال وضبط موارده وإيجاد وكلاء ماليّين والسعي في تنمية الموارد الطبيعيّة لبيت المال، وتسديد المصارف اللازمة للجهاز مع التسجيل والضبط، ولا شكّ في أنّ بلوغ الجهاز إلى هذا المستوى في الإتّساع والتخصّص يتوقّف على تطوّر طويل الأمد، ومن الطبيعيّ أن يبدأ الجهاز محدوداً وبدون تخصُّصات جديّة تبعاً لضيق نطاق المرجعية وعدم وجود التدريب الكافي.

والممارسة والتطبيق هو الذي يبلور القابليّات من خلال العمل ويساعد على التوسُّع والتخصُّص.

ثانياً: إيجاد امتداد أُفقي حقيقي للمرجعية يجعل منها محوراً قويّاً تنصبّ فيه كلّ قوى ممثّلي المرجعية والمنتسبين إليها في العالم، لأنّ المرجعية حينما تتبنّى أهدافاً كبيرة وتمارس عملاً تغييرياً وواعياً في الأُمّة لا بدّ أن تستقطب أكبر قدر ممكن من النفوذ لتستعين به في ذلك وتفرض بالتدريج وبشكلٍ آخر السير في طريق تلك الأهداف على كلّ ممثّليها في العالم.

وبالرغم من انتساب كلّ علماء الشيعة تقريباً إلى المرجع في الواقع المعاش يلاحظ بوضوح أنّه في أكثر الأحيان انتسابٌ نظري وشكلي لا يخلق المحور المطلوب كما هو واضح.

وعلاج ذلك يتمّ عن طريق تطوير شكل الممارسة للعمل المرجعيّ، فالمرجع تاريخيّاً يمارس عمله المرجعيّ كلّه ممارسة فردية، وهذا لا تشعر كلّ القوى المنتسبة إليه بالمشاركة الحقيقيّة معه في المسؤولية والتضامن الجادّ معه في الموقف. وأمّا إذا مارس المرجع عمله من خلال مجلس يضمّ علماء الشيعة والقوى الممثّلة له دينياً وربط المرجع نفسه بهذا المجلس فسوف يكون العمل المرجعيّ موضوعياً وإن كانت المرجعية نفسها بوصفها نيابة عن الإمام قائمة بشخص المرجع وأنّ هذه النيابة القائمة بشخصه لم تحدّد له أسلوب الممارسة وإنّما يتحدَّد هذا الأسلوب في ضوء الأهداف والمصالح العامّة.

وبهذا الأسلوب الموضوعيّ من الممارسة يصون المرجع عمله المرجعيّ من التأثُّر بانفعالات شخصه ويعطي به بعداً وامتداداً واقعياً كبيراً، إذ يشعر كلّ ممثّلي المرجع بالتضامن والمشاركة في تحمّل مسؤوليات العمل المرجعيّ وتنفيذ سياسة المرجعية الصالحة التي تقرّر من خلال ذلك المجلس، وسوف يضمّ هذا المجلس تلك اللّجان التي يتكوّن منها الجهاز العملي للمرجعية وبهذا تلتقي النقطة السابقة مع هذه النقطة.

ولئن كان في أسلوب الممارسة الفردية للعمل المرجعي بعض المزايا كسرعة التحرّك وضمان درجة أكبر من الضبط والحفظ، وعدم تسرّب عناصر غير واعية إلى مستوى التخطيط للعمل المرجعيّ، فإنّ مزايا الأسلوب الآخر ـــ المرجعية الموضوعية ذات الأجهزة ـــ أكبر وأهمّ.

ونحن نطلق على المرجعية ذات الأسلوب الفردي في الممارسة اسم "المرجعيّة الذاتية" وعلى المرجعية ذات الأسلوب المشترك والموضوعي في الممارسة اسم "المرجعية الموضوعيّة"، وهذا يظهر أنّ الفرق بين المرجعية الذاتية والمرجعية الموضوعية ليس في تعيين شخص المرجع الشرعيّ الواقعيّ، فإنّ شخص المرجع دائماً هو نائب الإمام، ونائب الإمام هو المجتهد المطلق العادل الأعلم الخبير بمتطلّبات النيابة وهذا يعني أنّ المرجعية من حيث مركز النيابة للإمام ذاتية دائماً وإنّما الفرق بين المرجعين في أسلوب الممارسة.

ثالثاً: امتداداً زمنياً للمرجعية الصالحة لا تتّسع له حياة الفرد الواحد؛ فلا بدّ من ضمان نسبيّ لتسلّل المرجعية في الإنسان الصالح المؤمن بأهداف المرجعية الصالحة لئلا ينتكس العمل بانتقال المرجعية إلى مَنْ لا يؤمن بأهدافها الواعية.

ولا بدّ أيضاً من أن يهيّأ المجال للمرجع الجديد ليبدأ ممارسة مسؤوليّاته من حيث انتهى المرجع السابق بدلاً من أن يبدأ من الصفر، ويتحمّل مشاق هذه البداية وما تتطلّبه من جهود جانبيّة، وبهذا يتاح للمرجعية الاحتفاظ بهذا الجهود للأهداف وممارسة ألوان من التخطيط الطويل المدى ويتمّ ذلك عن طريق شكل المرجعية الموضوعيّة؛ إذ في إطار المرجعية الموضوعية لا يوجد المرجع فقط بل يوجد المرجع كذات ويوجد الموضوع وهو المجلس بما يضمّ من جهاز يمارس العمل المرجعيّ الرشيد، وشخص المرجع هو العنصر الذي يموت وأمّا الموضوع فهو ثابت ويكون ضماناً نسبياً إلى درجة معقولة بترشيح المرجع الصالح في حالة خلو المركز، وللمجلس وللجهاز ـــ بحكم ممارسته للعمل المرجعيّ ونفوذه وصلاته وثقة الأُمّة به ـــ القدرة دائماً على إسناد مرشّحه وكسب ثقة الأُمّة إلى جانبه.

وهكذا تلتقي النقطتان السابقتان مع هذه النقطة في طريق الحلّ.

 

مراحل المرجعيّة الصالحة

وللمرجعيّة الصالحة ثلاث مراحل:

1 ـــ مرحلة ما قبل التصدّي للمرجعية المتمثّلة بطبع رسالة عملية، وتدخل في هذه المرحلة أيضاً فترة ما قبل المرجعية إطلاقاً.

2 ـــ مرحلة التصدّي بطبع الرسالة العملية.

3 ـــ مرحلة المرجعيّة العليا المسيطرة على الموقف الديني.

وأهداف المرجعية الصالحة ثابتة في المراحل الثلاث، وفي المرحلة الأولى يتمُّ إنجاز العمل المسبق الذي أشرنا سابقاً إلى ضرورته لقيام المرجعية الصالحة، وطبيعة هذه المرحلة تفرض أن تمارس المرجعية ممارسة أقرب إلى الفردية بحكم كونها غير رسمية ومحدودة في قدرتها، وكون الأفراد في بداية الطريق والممارسة للعمل المرجعي، فالمرجعية في هذه المرحلة ذاتية وإن كانت تضع في نفس الوقت بذور التطوير إلى شكل المرجعية الموضوعية عن طريق تكوين أجهزة استشارية محدودة، ونوع من التخصُّص في بعض الأعمال المرجعية.

وأمّا في المرحلة الثانية فيبدأ عملياً تطوير الشكل الذاتي إلى الشكل الموضوعي لكن لا عن طريق الإعلان عن أطروحة المرجعية الموضوعية بكاملها، ووضعها موضع التنفيذ في حدود المستجيبين؛ لأنَّ هذا وإن كان يولِّد زخماً تأييديّاً في صفوف بعض الراشدين في التفكير، ولكنّه من ناحية يفصل المرجعية الصالحة عن عدد كبير من القوى والأشخاص غير المستعدّين للتجاوب في هذه المرحلة.

ومن ناحية أخرى يضطرها إلى الاستعانة بما هو الميسور في تقديم صيغة المرجعية الموضوعية، وهذا الميسور لا يكفي كمّاً ولا كيفاً لملء حاجة المرجعية الموضوعية، بل الطريق الطبيعيّ في البدء بتحقيق المرجعية الموضوعية ممارسة المرجعية الصالحة لأهدافها ورسالتها عن طريق لجانٍ وتشكيلات متعدّدة بقدر ما تفرضه بالتدريج حاجات العمل الموضوعية وقدرات المرجعية البشرية والاجتماعية، ويربط بالتدريج بين تلك اللّجان والتشكيلات ويوسع منها حتّى تتمخَّض في نهاية الشوط عن تنظيم كامل شامل للجهاز المرجعي. ويتأثّر سير العمل في تطوير أسلوب المرجعية وجعلها موضوعية بعدّة عوامل في حياة الأُمّة فكرية وسياسية، وبنوعية القوى المعاصرة في الحوزة للمرجعية الموضوعية ومدى وجودها في الأُمّة، ومدى علاقتها طرداً أو عكساً مع أفكار المرجعية الصالحة، ولا بدّ من أخذ هذه العوامل بعين الاعتبار والتحفُّظ من خلال مواصلة عملية التطوير المرجعيّ عن تعويض المرجعية ذاتها لانتكاسة تقضي عليها. إلاّ إذا لوحظ وجود مكسب كبير في المحاولة ولو باعتبارها تمهيداً لمحاولة أخرى ناجحة يفوق الخسارة التي تترتَّب على تفتيت المرجعية الصالحة التي تمارس تلك المحاولة(1).

 

 

 

 

 

 

 

 

ملحق رقم (2)

رسالة الإمام الخميني (رضي الله عنه)

إلى العلماء

22 شباط 1989م ـــ 15 رجب 1409هــ.ق

 

بسم الله الرحمن الرحيم

إلى الحضرات علماء جميع أرجاء البلاد ومراجع الإسلام العظام ومدرّسي وطلبة الحوزات العلمية الكرام والأعزّاء، وأئمّة الجمعة والجماعات المحترمين، دامت بركاتهم:

صلوات الله وسلامه وصلوات رسول الله وسلامه على أرواح الشهداء الطيّبة خاصّة شهداء الحوازات والعلماء الأعزّاء، تحيّة لحملة أمانة الوحي والرسالة، الحرس الذين حملوا على عاتق الالتزام القاني والدامي أُسس عظمة وفخر الثورة الإسلامية. السلام على صانعي الملاحم من العلماء الخالدين الذين كتبوا بدم الشهادة ومداد الدم رسالتهم العلمية والعملية، وصنعوا من على منبر الهداية والوعظ والخطابة ومن شمع حياتهم جوهر أنوار اللّيل.

هنيئاً لشهداء الحوزة والعلماء الذين قطعوا أثناء الحرب سلسلة الدرس والمباحثة والمدارسة وسحبوا وثاق الأماني الدنيويّة من تحت أقدام حقيقة العلم وذهبوا بِحملٍ خفيف إلى ضيافة أهل العرش، وأنشدوا في مجمع أهل الملكوت أُنشودة الحضور.

السلام على الذين تقدَّموا إلى الأمام حتّى انكشاف حقيقة التفقُّه وأصبحوا منذرين صادقين لقومهم وأُمّتهم وشهدت قطرات دمائهم وأشلاؤهم المقطَّعة إرباً إرباً على حديث صداقتهم. ولا يمكن التوقُّع غير هذا من علماء الإسلام والشيعة الصادقين وبأن يكونوا في الدعوة إلى الحقّ وطريق الجهاد الدامي أوّل من يقدّمون الضحايا وأن تكون الشهادة خاتمة كتابهم.

إنّ مَن أدرك حلقة ذكر أهل الحوزة والعلماء العرفانية وسمع مناجاتهم في دعاء السّحر لم يشاهد في أُمنياتهم الخفيّة والعلنية غير الشهادة ولم يطلبوا من عطاءات الله في ضيافة الخلوص والتقرّب غير عطاء الشهادة.

وبطبيعة الحال فإنّ جميع المشتاقين والطالبين لم ينالوا كلّهم الشهادة، فهناك من بقي، مثلي أنا، عمراً في الظلمات والحجب ولا يجد في دار العمل والحياة منيّة غير الورقة والكتاب. وهناك من اقتلع صدر الأهواء الأسود في أوّل ليلة من بدء الحياة وشدَّه بالشهادة والعشق والعقد والوصال. وكيف أستطيع أنا الذي لم أخرج بعد من ظلمة العدم إلى حيث الوجود أن أصف قافلة سادة الوجود؟ إنّني وأمثالي نسمع من هذه القافلة رنين الجرس فقط.. فلنترك ولنمضِ.

لا شكّ أنّ الحوزات العلمية والعلماء الملتزمين كانوا على طول تاريخ الإسلام والتشيُّع أهمّ قاعدة ثابتة للإسلام ضدّ حملات وانحرافات المنحرفين. وقد سعى علماء الإسلام العظام وطيلة أعمارهم إلى نشر قضايا الحلال والحرام الإلهيين من دون تدخّل وتصرّف.

فلو لم يكن الفقهاء الأعزّاء، لم يكن معلوماً اليوم أي العلوم كانوا يغذّون الناس بها باعتبارها علوم القرآن والإسلام وأهل البيت (عليهم السلام). ولم يكن أمراً سهلاً في ظروف كانت فيها الإمكانات قليلة جداً، ووظَّف فيها السلاطين والظلمة جميع طاقاتهم في إزالة آثار الرسالة.. لم يكن سهلاً جمع وحفظ علوم القرآن وآثار وأحاديث الرسول الأعظم وسُّنّة وسيرة المعصومين (عليهم السلام) وتبويبها وتنقيحها. ولكنَّنا اليوم نرى ـــ ولله الحمد ـــ نتيجة تلك الأتعاب في الآثار والكتب المباركة كالكتب الأربعة وكتب بقيّة المتقدّمين والمتأخّرين في الفقه والفلسفة والرياضيات والنجوم وأُصول الكلام والحديث والرجال والتفسير والأدب والعرفان واللّغة وجميع فروع العلم المختلفة. فلو لم نطلق على هذه الأتعاب والمرارات اسم الجهاد في سبيل الله، فماذا يجب أن نطلق عليها؟

إنّ الحديث في مجال الخدمات العلمية للحوزات كثير لا يسع هذا المجال القصير لذكر ذلك. ولله الحمد فإنّ الحوزات العلمية غنيّة ومبتكرة من حيث المصادر وأساليب البحث والاجتهاد. ولا نعتقد أنّ هناك طريقاً أنسب من أسلوب العلماء السالفين لدراسة العلوم الإسلامية دراسة عميقة وشاملة. ويشهد تاريخ ألف عام من التحقيق ومتابعة علماء الإسلام الصادقين على ادعائنا في سبيل جعل شجرة الإسلام المقدّسة مثمرة.

ومنذ مئات السنين حيث كان علماء الإسلام ملجأ المحرومين، ارتوى المستضعفون دائماً من نبع زلال علم الفقهاء العظام. وبغضّ النظر عن جهادهم العلمي والثقافي الذي هو أفضل من عدّة جوانب من دماء الشهداء، فإنّهم تحمَّلوا أيضاً المرارات في كلّ العصور في الدفاع عن المقدّسات الدينية والوطنية، وإلى جانب تحمّلهم النفي والسجن والأذى وطعنات اللّسان فقد قدّموا شهداء إلى الله الحقّ.

ولا يقتصر شهداء العلماء على شهداء الكفاح والحرب في إيران، فبالقطع واليقين فإنّ عدد شهداء الحوزات والعلماء المجهولين الذين استشهدوا في سبيل نشر العلوم والأحكام الإلهية على يد العملاء واللّئام الأجانب هو أكبر.

وفي كلّ حركة وثورة إلهيّة وشعبية كان علماء الإسلام أوّل من ارتسمت على جبينهم صورة الدم والشهادة. وهل هناك ثورة شعبية إسلامية لم تكن فيها الحوزات والعلماء روّاد الشهادة ولم يصعدوا أعواد المشانق ولم تقف أجسادهم الطاهرة على أرضية الأحداث الدامية للشهادة؟ ومن أيّة طبقة كان الشهداء الأوائل في الخامس عشر من خرداد وفي الأحداث التي وقعت قبل وبعد الانتصار؟ ونشكر الله على أنّ دم شهداء الحوزة والعلماء الطاهر قد لَوَّنَ أُفق التفقُّه بلون الورد الأحمر ابتداء من جدران الفيضيّة والزنزانات الإنفرادية المرعبة لنظام الشاه ومن الزقاق والشارع إلى المسجد ومحراب إمامة الجمعة والجماعة ومن مكاتب العمل والخدمة وحتّى الخطوط الأمامية للجبهات وحقول الألغام، وفي الختام كان عدد شهداء ومعوّقي ومفقودي الحوزات في الحرب المفروضة أعلى قياساً إلى بقيّة الفئات.

لقد استشهد أكثر من 2500 (ألفين وخمسمائة) شخص من طلبة العلوم الدينية في جميع أرجاء إيران في الحرب المفروضة. ويشير هذا العدد إلى أيّ حدّ استعدّ العلماء من أجل الدفاع عن الإسلام والبلد الإسلاميّ الإيرانيّ. واليوم وكما في السابق فقد اتّجهت عيون الاستعمار في جميع أنحاء العالم من مصر وباكستان وأفغانستان ولبنان والعراق والحجاز وإيران والأراضي المحتلّة إلى أبطال الطبقة العلمائية المعادية للشرق والغرب والمعتمدة على أصول الإسلام المحمّدي الأصيل (صلّى الله عليه وآله وسلَّم). ومن الآن فصاعداً سيشهد العالم  الإسلامي في كلّ فترة انفجار غضب مصّاصي العالم ضدّ كلّ عالِم طاهر عاشق.

إنّ علماء الإسلام الأصيل لم يرضخوا أبداً لأصحاب الثروات وعباد المال والرؤساء، واحتفظوا بهذا الشرف العظيم لأنفسهم دائماً، ومن الظلم الفاحش أن يقول أحد إنّ العلماء الأصيلين أتباع الإسلام المحمّدي الأصيل (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) كانوا يداً واحدة مع أصحاب الثروات. وأدعو أن لا يغفر الله لمن يبثّون مثل هذه الدعاية، أو يحملون مثل هذه الفكرة. فالعلماء الملتزمون هم عطشى لدماء أصحاب الثروات ولم يفكّروا في المصالحة معهم ولا يفكّرون.. إنّهم درسوا بالزهد والتقوى وترويض النفس، وبعد نيل الدرجات العلمية والمعنوية عاشوا بنفس الأسلوب الزاهد وبالفقر والفاقة وعدم التعلُّق بملذّات الدنيا ولم يخضعوا أبداً للمنّ والذلّة.

إنّ التحقيق والدراسة في حياة العلماء السلف تتحدّث عن فقرهم وروحيّتهم اليافعة لنيل المعارف وكيف أنّهم درسوا في ضوء نور الشمع وأشعة القمر وعاشوا بقناعة وعظمة، ولم تتمّ الدعوة إلى العلماء وترويج الفقه بقوّة الحرب ولا بثروة عباد المال والأثرياء بل كانت طهارتهم وصدقهم والتزامهم هو الذي جعل الناس يختارونهم. وإنّ خشية بعض العلماء من مظاهر التمدّن في السابق كانت ناجمة بالأصل عن خشيتهم من نفوذ الأجانب. فكان الإحساس بخطر انتشار الثقافة الأجنبية ولاسيّما ثقافة الغرب الخليعة سبباً لأن يتعامل هؤلاء بحذر مع المخترعات والظواهر الأخرى. فبعد أن لمس العلماء الصادقون الكذب والمكر من ناهبي العالم لم يعودوا يثقون بأيّ شيء، وكانوا يعتبرون وجود أجهزة كالراديو والتلفزيون مقدّمة لمجيء الاستعمار. لذلك فقد كانوا يحكمون أحياناً بحرمة استخدامهما. ألم يكن الراديو والتلفزيون في بلدان مثل إيران وسائل روّجت ثقافة الغرب؟ وألم يستخدم النظام السابق الراديو والتلفزيون لإسقاط اعتبار المعتقدات الدينيّة والاستخفاف بالآداب والتقاليد الوطنيّة؟

وعلى كلّ حال فإنّ خصوصيات عظيمة كالقناعة والشجاعة والصبر والزهد وطلب العلم وعدم الارتباط بالقوى، والأهمّ من كلّ هذا الإحساس بالمسؤولية أمام الشعوب.. هذه الخصوصيّات هي التي أحيت العلماء وجعلتهم صامدين ومحبوبين. وأيّة عزّة أسمى من أن ينشر العلماء بإمكانات قليلة فكر الإسلام الأصيل بين عالم الأفكار، ويجعل المحقّقون الآن شجرة الفقه المقدّسة تزدهر في بستان الحياة والمعنويات؟

ثمّ، أليس من الجهل أن يرى البعض بأنّ الاستعمار لم يلاحق العلماء مع ما كانت لهم من العظمة والمجد والنفوذ؟ إنّ مسألة كتاب الآيات الشيطانية هي عمل محسوب من أجل ضرب أساس الدين والتديُّن وفي مقدّمته الإسلام والعلماء. وباليقين لو استطاع مصّاصو العالم لَأَحرقوا جذور واسم العلماء، إلاّ أنّ الله تعالى كان دائماً حامي هذا المشعل المقدّس وسيكون من الآن وما بعد شرط أن ندرك حيلة ومكر مصّاصي العالم. وبطبيعة الحال لا يعني هذا بأن ننهض للدفاع عن جميع العلماء إذ إنّ علماء البلاط والمزيّفين والمتحجّرين ليسوا قليلين ولن يكونوا قليلين.

إنّ في الحوزات العلمية أشخاصاً يعملون ضدّ الثورة والإسلام المحمّدي الأصيل (صلّى الله عليه وآله وسلّم). ويوجّه اليوم عدد من المزيّفين السهام إلى الدين والثورة والنظام حدّاً وكأنَّ لا وظيفة لهم غير هذا. وليس قليلاً إذاً خطر المتحجّرين والمزيّفين الحمقى في الحوزات العلمية. وعلى الطلبة الأعزّاء أن لا يتقاعسوا لحظة واحدة في معرفة أمر هؤلاء الثعابين التي يبدو ظاهرها ليّناً جداً. فإنّهم مروّجو الإسلام الأميركي وإنَّهم أعداء رسول الله. أليس من الواجب إذاً على الطلبة الأعزّاء أن يحفظوا تكاتفهم مقابل هذه الثعابين.

وعندما يئس الاستكبار من إزالة العلماء وتدمير الحوزات بشكلٍ كامل اختار أسلوبين لتنفيذ ضربته: الأوّل أسلوب الإرهاب والقوّة. والثاني أسلوب الخدعة والنفوذ. ولمّا لم تكن حربة الإرهاب والتهديد فاعلة جداً سعى الاستكبار إلى تغذية وتقوية أسلوب النفوذ. وكان أوّل وأهمّ التحرّكات في هذا المجال هو تلقين شعار فصل الدين عن السياسة، حيث كانت هذه الحربة ومع الأسف فاعلة إلى حدٍّ ما في الحوزة وصفوف العلماء حتّى أصبح التدخّل في السياسة دون شأن الفقيه، ودخول معركة السياسيّين تهمة للارتباط بالأجنبي.

وباليقين فقد أصاب العلماء المجاهدين جرح أكبر بسبب النفوذ. ولا تعتقدوا أنّ تهمة الارتباط والافتراء باللّادينية توجّهت إلى العلماء من الأجانب فقط. إذ كانت طعنات العلماء المطّلعين المرتبطين وغير المطّلعين أشدّ أضعافاً كثيرة من ضربات الأجانب، فلو أردت في بداية التحرّكات الإسلامية أن تقول إنّ الشّاه خائن لكنت تسمع الجواب فوراً بأنّ الشّاه شيعيّ. وقد كان عدد من المزيّفين يعتبرون كلّ شيء حراماً فلم يكن هناك من يستطيع أن يعلن عن وجوده في مقابلهم. وقد كانت الطعنة التي تلقّاها أبوكم العجوز من هؤلاء المتحجّرين لم يتلقّ مثلها من ضغط وقساوة الآخرين.

وعندما قام شعار فصل الدين عن السياسة وأصبح الفقه في منطق الجهلة غارقاً في الأحكام الفردية والعبادية ولم يكن يسمح للفقيه أن يخرج عن هذا الإطار ويتدخّل في السياسة وشؤون الحكم، عند ذاك أصبحت حماقة العالم في معاشرة الناس فضيلة وعلى رغم بعضهم يصبح العلماء موضع احترام وتكريم للنّاس حين تأخذ الحماقة كافّة وجوده. بينما كان العالم السياسيّ والعالم العامل النشط يعتبر إنساناً مدسوساً. ومن القضايا التي كانت منتشرة في الحوزات اعتبار كلّ من يسير منحرفاً أكثر تديُّناً، فيما أصبح تعلُّم اللّغات الأجنبية كفراً وتعلّم الفلسفة والعرفان ذنباً وشركاً. وعندما شرب ابني الصغير المرحوم مصطفى الماء من شربة في المدرسة الفيضيّة أخذوا تلك الشربة وطهَّروها بالماء لأنّني كنتُ أُدرِّس الفلسفة.

ولا يخفى أنّه لو استمرّت هذه السياسة لأصبح وضع العلماء والحوزات كوضع كنائس القرون الوسطى ولكنّ الله تفضَّل على المسلمين والعلماء وحفظ الكيان الحقيقي والمجد الواقعي للحوزات. وقد تربّى في نفس هذه الحوزات أيضاً العلماء المعتقدون بالدّين وفصلوا أنفسهم عن الآخرين، وقد نجمت من هذه المشاعل الثورة الإسلامية الكبرى. وبطبيعة الحال فإنّ الحوزات هي مزيج من نظرتين فيجب الانتباه والحذر حتى لا تسريَ فكرة فصل الدين عن السياسة من أصحاب الفكر الجامد إلى الطلبة الشباب. ومن الأمور التي يجب إلفات نظر الطلبة الشباب إليها هي كيف أنّ عدّة شمّروا عن سواعدهم ووظَّفوا أرواحهم وحيثيّتهم من أجل إنقاذ الإسلام والحوزة والعلماء في فترة نفوذ المزيّفين الجَهَلَة والسُذَّج الأميّين. فالأوضاع السابقة لم تكن كما هي اليوم. ولم يكن كلّ واحد معتقداً بالكفاح مائة بالمائة، إذ كان المعتقد بالكفاح يطرد خارج الساحة تحت ضغط وتهديد المزيّفين. وكان من المشاكل الكبرى والقاتلة ترويج أفكار مثل "الشاه ظلّ الله" أو "لا يمكن مواجهة المدفع والدبّابة بالجلد واللّحم" أو "لسنا مكلّفين بالجهاد والكفاح" أو "مَن سيتحمّل دماء المقتولين"، والأقسى من ذلك كلّه هذا الشعار المضلّل "إنّ الحكومة قبل ظهور إمام الزمان (عليه السلام) باطلة" والآلاف من "إن قلت" الأخرى. إذ لم يكن بالإمكان الحيلولة دون ذلك بالكفاح السلبي.

إنّ السبيل الوحيد كان سبيل الجهاد والإيثار والدم التي هيّأ الله أسبابها وفتح العلماء الملتزمون الصدور لمواجهة كلّ سهم مسموم يطلق نحو الإسلام، وجاءوا إلى مسلخ العشق.

إنّ أوّل وأهمّ فصل دامٍ كان في الخامس عشر من خرداد العاشورائي في قمّ. ففي الخامس عشر من خرداد 1322 هــ.ش ـــ المصادف 5 حزيران 1963م(1) ـــ لم تكن المواجهة فقط مع رصاص وبنادق الشاه إذ لو كانت هذه هي المواجهة فقط لكانت سهلة، وإنّما بالإضافة إلى ذلك كانت هناك رصاص الحيلة التي أطلقها المزيّفون والمتحجّرون من الداخل، وقد مزّقت رصاصات الطعن بالألسن والنّفاق والازدواجية التي كانت أشدّ أثراً ألف مرّة من البارود والرصاص.. مزّقت وأحرقت القلوب، إذ إنّ في ذلك الوقت لم يكن هناك يوم خالٍ من الأحداث، ولجأت الأيادي الخفيّة والعلنية لأميركا والشاه إلى بثّ الشائعات وإلصاق التُّهم حتّى اتّهموا أفراداً بترك الصلاة والشيوعيّة والعمالة للإنجليز لأنّهم أخذوا على عاتقهم توجيه وترشيد الكفاح.

وفي الحقيقة كانت الطبقة العلمائية الأصيلة تبكي دماً في الوحدة والأسر، وتبكي كيف أنّ أميركا وخادمها بهلوي يريدون قلع جذور الدين والإسلام، وإنّ عدداً من العلماء المزيّفين الجَهَلَة أو المخدوعين وعدداً من المرتبطين الذين انكشفت وجوههم بعد الانتصار يتعاونون في طريق الخيانة الكبرى هذه، وهكذا تلقّى الإسلام من هؤلاء المزيّفين من الضربات ما لم يتلقّها من أيّة جماعة أخرى، والمثال الشاخص على ذلك مظلومية وغربة أمير المؤمنين (عليه السلام) حيث إنّ ذلك في التاريخ واضح. فلنترك ولنمضِ، ولا نجعل المذاقات أكثر مرارة من هذا، ولكن يبقى على الطلبة الشباب أن يعلموا إنّ أفكار هذه الجماعة ما زالت قائمة وتغيّر أسلوب الزيف وأسلوب بيع الدين بأساليب أخرى. فالذين هُزِموا بالأمس أصبحوا اليوم لاعبي السياسة، والذين لم يكونوا يسمحون لأنفسهم بالتدخّل بالسياسة أصبحوا اليوم حماة الذين خطَّطوا لقلب النظام عبر انقلاب عسكري، وتعتبر محنة قم وتبريز التي قامت بتنسيق اليساريّين ودعاة الملكية ودعاة انفصال كردستان نموذجاً واحداً يمكننا الإشارة إليها حيث إِنّهم لم يتخلُّوا رغم إخفاقهم في ذلك وظهروا في مؤامرة نوزه(1) ففضحهم الله مرّة أخرى.

وهناك جماعة أخرى من العلماء المزيّفين الذين كانوا يعتبرون الدين مفصولاً عن السياسة قبل الثورة وينكسون رؤوسهم في عتبة متديّنين فجأة ويلصقون تهمة الوهابية وأسوأ من الوهابية بالعلماء الأعزّاء والشرفاء الذين تحمّلوا دائماً الأذى من أجل الإسلام والتشريد والسجن والنفي. فبالأمس قال المزيّفون الفاقدين للشعور إنّ الدين مفصول عن السياسة وإنّ الكفاح ضدّ الشاه حرام، واليوم يقولون "لقد أصبح مسؤولو النظام شيوعيّين". حتّى الأمس اعتبروا بيع المشروبات والدعارة والفسق وحكومة الظلمة نافعاً وممهّداً للطريق أمام ظهور إمام الزمان (أرواحنا فداه)، واليوم حيث تقع مخالفة الشرع في زاويةٍ ما ـــ ورغم أنّ المسؤولين لا يريدون ذلك ـــ ينادون وا إسلاماه. أمس كانت الحجّتيّة قد حرَّموا الكفاح، وفي خضم الجهاد بذلوا جهودهم لتجيير إضراب التنوير في النصف من شعبان لصالح الشاه، فأصبحوا اليوم أشدّ ثورية من الثوّار، ولا يتسلَّلوا ـــ دعاة الولاية ـــ الذين أهدروا أمس بسكوتهم وتحجّرهم شرف الإسلام والمسلمين وقصموا بالعمل ظهر الرسول وأهل بيت العصمة والطهارة ولم تكن عنوان الولاية لهم إلاّ التكسُّب والعيش، اعتبروا اليوم أنفسهم مؤسّسي ووارثي الولاية وأخذوا يتحسَّرون على ولاية حكومة الشاه.

وفي الواقع مَن هو الذي يصدر اتهامات الميل نحو أميركا وروسيا، واتّهام تحليل المحرّمات وتحريم المحلّلات، واتّهام قتل النساء الحوامل واتّهام حليّة القمار والموسيقى؟ ممّن تصدر هذه الاتّهامات؟ من الناس اللّادينيّين أم من المزيّفين المتحجّرين وعديمي الشعور؟ يا ترى مَن الذي ينادي بتحريم القتال مع أعداء الله ويستهزئ بثقافة الشهادة والشهداء ويظهر الطعن حول مشروعية النظام؟ هل إنّ هذا هو فعل الخواص أم العوام؟ ومن أيّة جماعة من الخواص؟ من المعمّمين الظاهرين أم من غيرهم؟ لنترك فالحديث طويل.

إنّ هذه الأمور كلّها هي نتيجة نفوذ الأجانب في مركز وثقافة الحوزات. وإنّ المواجهة الحقيقيّة مع هذه المخاطر صعبة جداً. فمن جهة ليس عملاً سهلاً بيان الحقائق والواقعيات وتطبيق الحقّ والعدالة قدر الإمكان، ومن جهةٍ أخرى يجب الحذر حتّى لا يقطف الأعداء الثمار. وربّما لا يوجد في بلدنا فيما يتعلَّق بتطبيق العدالة فرق بين العالم وغيره، إلاّ أنّه عندما يتعاملون شرعياً وقانونياً وبشكلٍ جادّ مع عالم حسن السابقة كان أو سيّئ السابقة تعلو الصرخات فجأة أن "لماذا قعدتم فالجمهورية الإسلامية تريد إهدار حيثيّة العلماء". أو إذا يتمّ العفو أحياناً عن شخص استحقّ العفو يدعون أنّ "النظام أعطى امتيازاً غير مبرّر للعلماء.

إنّ على الشعب الإيراني العزيز أن يكون يقظاً حتّى لا يستغلّ الأعداء تعامل النظام الحازم مع المتخلّفين الذين يسمّون بالعلماء وحتى لا يشوِّهوا سمعة العلماء الملتزمين في الأذهان. وعليهم أن يعتبروا عدم منح امتياز لأحد دليلاً على عدالة النظام. والله يعلم أنّي لم أجد لنفسي شخصياً ذرّة من الحصانة والامتياز والحقّ. وإذا ما صدر منّي تخلّف فإنّي مستعدّ للمحاسبة. إنّ البحث حالياً يدور حول ماذا يجب عمله للحيلولة دون تكرار الأحداث المرّة وحصول الاطمئنان من قطع نفوذ الأجانب من الحوزات؟ ورغم أنّ هذا العمل صعب، إلاّ أنّه لا خيار منه فيجب القيام بعملٍ ما.

إنّ أُولى الوظائف الشرعية والإلهية هي المحافظة على اتّحاد ووحدة الطلبة والعلماء الثوريّين، وإلاّ فإنّ اللّيل الحالك ينتظرنا.

ولا يوجد اليوم أيّ مبرّر شرعيّ وعقليّ على أن يكون اختلاف الأذواق والاستنتاجات وحتّى ضعف الإدارة سبباً لزوال الألفة ووحدة الطلبة والعلماء الملتزمين. إذ يمكن أن يكون لكلّ أحد في مجال تفكيره وذهنه انتقاد لعمل وإدارة وأذواق الآخرين والمسؤولين، ولكن يجب أن لا يحرف الأسلوب في العمل أفكار المجتمع والأجيال القادمة عن طريق معرفة الأعداء الحقيقيّين والقوى العظمى الذين تنبع منهم جميع المشاكل والاضطرابات إلى المسائل الفرعية وأن تلقى لا سمح الله مسؤوليّة جميع الضعف والمشاكل على عاتق الإدارة ومركز المسؤولية، إذ إنّ هذا لا يعتبر عملاً منصفاً ويسقط اعتبار مسؤولي النظام ويهيّئ الأرضية لدخول اللّاأُباليّين واللّامعذّبين إلى مسرح الثورة.

إنّني أعتقد اليوم أنّه ليس معلوماً أن يكون أقوى الأشخاص في مواجهة جميع المؤامرات والخصوصات وإثارة الحروب التي تجري ضدّ الثورة الإسلامية في العالم أكثر موفقية من الأشخاص الموجودين في المسؤولية بالفعل. ومن خلال تحليل منصف لأحداث الثورة، خاصّة لأحداث السنوات العشر منذ الانتصار يجب أن أقول إنّ ثورة إيران الإسلامية كانت موفّقة في معظم أهدافها وأبعادها ولسنا مهزومين بعناية الله العظيم في أيّ مجال، حتّى في الحرب حيث يكون النصر من نصيب أُمّتنا، ولم يحقّق الأعداء شيئاً في فرض وتحميل كلّ هذه الأضرار علينا. وبطبيعة الحال لو كنّا نملك جميع المستلزمات لاتّجهنا إلى أهداف عليا ووصلنا إليها، إلاّ أنّ هذا لا يعني هزيمتنا أمام العدوّ في هدف الحرب الأساسي والذي هو ردّ العدوان وإثبات صلابة الإسلام. وقد كانت كلّ يوم بركة من الحرب استفدنا منها في جميع المجالات، ولقد صدّرنا ثورتنا إلى العالم في الحرب، وأثبتنا مظلوميّتنا وجور المعتدين في الحرب، وفي الحرب رفعنا القناع عن الوجوه الزائفة لمصّاصي العالم، وإنّنا في الحرب عرفنا أصدقاءنا وأعداءنا، وإنّنا في الحرب وصلنا إلى هذه النتيجة وهي أن نقف على أقدامنا ونعتمد على أنفسنا، إنّنا في الحرب حطَّمنا عظمة قوّتيّ الشرق والغرب العظميين، وإنّنا في الحرب رسّخنا جذور ثورتنا الإسلامية المثمرة، وإنّنا في الحرب زرعنا الشعور بالأخوّة وحبّ الوطن في وجدان أفراد الشعب. إنّنا في الحرب أثبتنا لشعوب العالم ولشعوب المنطقة بالذّات إمكانية الكفاح ضدّ جميع القوى العظمى ولسنوات طويلة.

إنّ حربنا ساعدت على انتصار أفغانستان وإنّ حربنا ستكون سبباً لانتصار فلسطين، إنّ حربنا كانت سبباً لأن يشعر حكّام جميع الأنظمة الفاسدة بالذلّ مقابل الإسلام، إنّ حربنا سبَّبت يقظة باكستان والهند، وفي حربنا فقط تطوّرت صناعاتنا العسكرية كثيراً، والأهمّ من كلّ ذلك هو استمرار الروح الثورية الإسلامية في ظلّ الحرب.

لقد كانت هذه كلّها من بركة دماء الشهداء الأعزّاء الطاهرة في حرب الثمان سنوات، ونشأت كلّها من جهود الأُمّهات والأباء وشعب إيران العزيز في عشر سنوات من الكفاح ضدّ أميركا والغرب والاتّحاد السوفياتي والشرق. إنّ حربنا كانت حرب الحقّ والباطل التي لا نهاية لها. إنّ حربنا كانت حرب الفقر والثراء. إنّ حربنا كانت حرب الإيمان والرذيلة، وإنّ هذه الحرب قائمة منذ آدم وحتى نهاية الحياة. فكم هم قصيرو نظر أولئك الذين يظنّون ـــ بما أنّنا لم نصل في جبهة القتال إلى هدفنا النهائي ـــ.. أنّ الشهادة والبطولة والتضحية والإيثار والصلابة لا فائدة فيها، في حين أنّ نداء الإسلام في افريقيا هو من نتائج حربنا، إنّ رغبة معرفة الإسلام لدى شعوب أميركا وأوروبا وآسيا وافريقيا أي في كلّ العالم هو من حربنا الثمان سنوات.

إنّني هنا أعتذر بشكلٍ رسمي من الأُمّهات والأخوات والأُخوان ونساء وأبناء الشهداء والمعوّقين بسبب التحليلات المغلوطة الجارية هذه الأيام، وأدعو الله أن يقبلنا إلى جانب شهداء الحرب المفروضة، وإنّنا لسنا نادمين لحظة واحدة من موقفنا في الحرب.

نعم، وهل نسينا بأنّنا حاربنا من أجل أداء التكليف وأنّ النتيجة هي فرع ذلك؟ وعندما أحسَّ شعبنا في نفسه القدرة على أداء تكليف الحرب عمل بوظيفته، وطوبى للّذين لم يتردَّدوا حتّى اللحظة الأخيرة. وفي الوقت الذي رأى فيه مصلحة بقاء الإسلام في قبول القرار خضع ليعمل بوظيفته مرّة أخرى، فهل يجب أن يقلق الإنسان عندما يعمل بوظيفته؟ إنّنا يجب أن لا نقع في الخطأ في إبداء الرأي من أجل إرضاء عدد من اللّيبراليّين الذين باعوا أنفسهم ولنجعل حز//ب الله العزيز يشعر بأنّ الجمهورية الإسلامية أخذت تعدل عن مواقفها الأصولية. وهل يؤدّي التحليل القائل بأنّ الجمهورية الإسلامية لم تحقّق شيئاً وفشلت إلاّ إلى ضعف النظام وسلب ثقة الشعب بالنظام؟

إنَّ التأخّر في تحقيق جميع الأهداف لا يكون دليلاً على أنّنا عدلنا عن مواقفنا وأصولنا. إذ إنّنا جميعاً مكلّفون بأداء التكليف والوظيفة، ولسنا مسؤولين عن النتيجة، فلو كان جميع الأنبياء والمعصومين (عليهم السلام) في زمانهم ومكانهم مسؤولين عن النتيجة فلم يكن واجباً عليهم أبداً أن يعملوا ويتحدّثوا أكثر من نطاق طاقاتهم، ولم يكن عليهم أن يتحدّثوا عن الأهداف العامّة البعيدة المدى التي لم تتحقّق في حياتهم أبداً. في حين تمكّن شعبنا بلطف الله أن يحقّق النجاح في معظم المجالات التي رفع بشأنها الشعار.

لقد رأينا تحقيق شعار إسقاط الشاه عملياً وإنّنا جعلنا زينة عملنا بشعار الحرية والاستقلال، وإنّنا رأينا شعار الموت لأميركا في عمل الشباب الثائرين والأبطال المسلمين في احتلال وكر الفساد والجاسوسيّة الأميركيّ، لقد جرَّبنا جميع شعاراتنا بالعمل. وبطبيعة الحال نعترف أنّ عراقيلَ كثيرةً صادفتنا في مسير العمل واضطررنا أن نغيّر أسلوبنا وتكتيكنا، فلماذا نستخفّ بأنفسنا وشعبنا ومسؤولي بلادنا، ونحصر جميع العقل والتدبير في فكر الآخرين.

إنّني أُحذِّر الطلبة الأعزّاء أنّ عليهم بالإضافة إلى مراقبة ما يلقّنه العلماء المزيّفون أن يعتبروا من التجربة المرّة المتمثّلة في تسلّط الثوار المزيّفين والذين يتظاهرون بالتعقُّل والذين لم يتّفقوا أبداً مع أصول وأهداف العلماء وأن لا ينسوا أفكارهم السابقة وخيانتهم وأن لا يكون الإشفاق اللّامبرّر عليهم والسذاجة سبباً لعودتهم إلى المسؤوليات الحسّاسة والمصيرية للنظام. إنّني اليوم بعد 10 سنوات من انتصار الثورة الإسلامية وكما في السابق أعترف بأنّ جميع الإجراءات التي اتّخذت في بداية الثورة في إعطاء المناصب والأمور المهمّة للبلاد لجماعة لم يكونوا يعتقدون اعتقاداً خالصاً وحقيقياً بالإسلام المحمّدي الأصيل (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ـــ هذه الإجراءات ـــ كانت خطأ لا يمكن أن تزول آثارها المُرّة عن الأذهان بسهولة. ورغم أنّي شخصيّاً ما كنتُ أرغب في ذلك الوقت أن يتسلّم هؤلاء الأمور، ولكنّني قبلت بعد أن أيّدهم الأصدقاء الذين رأوا صلاحاً في ذلك. وإنّني الآن كذلك أعتقد جازماً أنّ هؤلاء لا يرضون بأقلّ من تحريف الثورة في كافّة مبادئها وسوقها باتّجاه أميركا مصّاصة العالم، في حين لم يخرجوا في بقية الأمور عن إطار الكلام والمهارة في الادّعاء. واليوم لا أشعر بالأسف أبداً لعدم وجودهم إلى جانبنا، لأنّهم لم يكونوا إلى جانبنا من البداية. إنّ الثورة ليست مدينة لأحد، وما زلنا نعاني من ضربة اعتمادنا الكثير على الفئات واللّيبراليّين. إلاّ أنّ أحضان الثورة والدولة مفتوحة دائماً لقبول جميع الذين يريدون إسداء الخدمة وقصدوا العودة، ولكن ليس بثمن أن يطالبوا ويناقشوا على جميع المبادئ، مِثلَ لماذا قلتم الموت لأميركا، ولماذا حاربتهم، ولماذا طبّقتم حكم الله على المنافقين والعناصر المضادّة للثورة، ولماذا رفعتم شعار اللّاشرقية واللّاغربية، ولماذا استوليتم على وكر الجاسوسية، ومئات أخرى من لماذا. والنقطة المهمّة في هذا المجال هي أن لا نقع تحت تأثير طلبات الاسترحام التي لا مبرّر لها بخصوص أعداء الله وأعداء النظام فنقوم بإعلام يضع علامة استفهام أمام أحكام الله والحدود الإلهية، إنّني لستُ فقط لا أعتبر بعض هذه الأمور لصالح البلاد حيث أعتقد أنّ الأعداء استفادوا منها. إنّني أعلن صراحة لأولئك الذين يصل نفوذهم إلى الإذاعة والتلفزيون والصحف ويعكسون آراء الآخرين.. أعلن ما دمت موجوداً فلن أسمح أن تقع الحكومة بيد اللّيبراليّين، ما دمت موجوداً فلن أسمح للمنافقين أن يقضوا على الإسلام هذا الشعب الذي لا ملاذ له، ما دمت موجوداً فلن أعدل عن مبادئ اللّاشرقية واللّاغربية، ما دمت موجوداً أقطع أيادي أميركا والاتحاد السوفياتي عن جميع المجالات، وإنّني على ثقة تامّة بأنّ أبناء الشعب كافّة باقون على مبادئهم كما كانوا في السابق وسيحمون نظامهم وثورتهم الإسلامية. وكما كانوا قد أثبتوا حضورهم في الساحة في عشرات ومئات المناسبات فقد أثبتوا هذا العام أيضاً من خلال مسيرة 22 بهمن حقيقة استعدادهم التام لجميع العالم وأدهشوا في الحقيقة أعداء الثورة بأنّهم إلى أيّ حدّ مستعدون للتضحية.

إنّني هنا أرى نفسي أصغر وأشعر بالخجل من أن أصف هؤلاء وأشكرهم باللّسان، فإنّ الله سيجازي بمكافأة عظيمة على هذا الإخلاص والعبودية. إلاّ أنّني أوصي وأنصح أُولئك الذين يتّهمون عن جهالة الشعب الشريف والعزيز بأنّه انصرف عن المبادئ والثورة والعلماء أن يمحّصوا ويدقّقوا في أحاديثهم وأقوالهم وكتاباتهم وأن لا يحسبوا على الثورة والشعب استنتاجاتهم وتصوّراتهم المغلوطة.

والقضية الأخرى هي لمصلحة من يجري إيجاد الخصومة والفرقة بين العلماء الثوريّين؟ وقد استعدّ الأعداء منذ أَمَد بعيد لزرع الاختلاف بين العلماء. إنّ الغفلة عن هؤلاء تقضي على كلّ شيء. وإذا لم يكن طلبة ومدرّسو الحوزة العلمية متضامنين مع بعضهم البعض فلا يمكن التكهُّن ومعرفة من الذي ستكون الموفقيّة من نصيبه. وإذا أصبحت السيطرة الفكرية من نصيب العلماء المزيّفين والمتحجّرين على فرض مجال فماذا سيكون جواب العالم الثوري أمام الله والشعب؟

ليس هناك اختلاف إن شاء الله بين جماعة المدرسين والطلبة الثوريّين. وإذا كان موجوداً فعلى ماذا؟ على المبادئ أم على الأذواق؟ وهل أدار المدرّسون المحترمون الذين كانوا عماد الثورة القويّ في الحوزات العلمية ظهورهم ـــ نعوذ بالله ـــ للإسلام والثورة والشعب؟ ألَم يكن هؤلاء هم الذين أفتوا في فترة الكفاح بعدم شرعية الملكية؟ ألَم يكن هؤلاء كشفوا للشعب عندما أراد أحد العلماء المتظاهر بالمرجعية أن يبتعد عن الإسلام والثورة؟ ألَم يدافع المدرّسون الأعزّاء عن الجبهة والمجاهدين؟ وإذا يهزم هؤلاء ـــ لا سمح الله ـــ فأيّة طاقة ستحتلّ مكانهم؟ وهل أنّ عملاء الاستكبار الذين غذّوا أحد العلماء المزيّفين حتى درجة المرجعية لا ينصبون شخصاً آخر حاكماً على الحوزات؟ وهل يستطيع هؤلاء أن يكونوا في المستقبل حماة الثورة الإسلامية حيث إنّهم لم يتجرَّعوا هَمَّ الكفاح في أحداث خمسة عشر عاماً من الكفاح قبل الثورة وأحداث عشر سنوات قاصمة بعد الثورة ولم يتحمّلوا همّ الحرب وإدارة البلاد ولم يتأثّروا بشهادة الأعزّاء بل انشغلوا براحة بال بالدرس والمباحثة؟ ثمّ إنّ هزيمة كلّ جناح من العلماء والطلبة الثوريّين ورابطة العلماء وجماعة العلماء المجاهدين وجماعة المدرّسين تعني انتصار أيّ جناح وتيّار؟ إنّ الجناح الذي ينتصر ليس باليقين هم العلماء. وإذا ما اتّجهت هذه الفئة اضطراراً إلى الطبقة العلمائية فإلى أيّة فئة من الطَلَبة العلمائية تتّجه؟

خلاصة القول إنّ الاختلاف قاصم بأيّ شكلٍ كان، وعندما تصل القوى المؤمنة بالثورة حتّى وإن كان تحت اسم الفقه التقليديّ والفقه المتجدّد إلى حدود المواجهة سيكون الطريق مفتوحاً أمام استفادة الأعداء. إنّ قيام التكتُّلات سيؤدّي إلى قيام الخلافات، وسيلجأ كلّ جناح من أجل حذف وإلغاء الطرف الآخر إلى الألفاظ والشعارات، ويجري اتّهام طرف بالدفاع عن الرأسمالية واتّهام الطرف الآخر بالالتقاطيّة. وإنّني قد قدّمت دائماً نصائح حلوة ومرّة من أجل المحافظة على الاعتدال لدى الأجنحة لأنّني أعتبر الجميع أبنائي وأعزّائي. وبطبيعة الحال لم أكن قلقاً أبداً حول المباحثات الصعبة في فروع وأصول الفقه إلاّ إنّني قلق من مواجهة ومعاداة الأجنحة المؤمنة بثورتي وبأن لا يؤدّي ذلك إلى تقوية الجناح المرفّه الذي لم يشعر بالأذى ويوجّه الانتقاد.

إنّ النتيجة التي نأخذها هي أنّه إذا ابتعد العلماء أتباع الإسلام الأصيل والثورة جانباً فإنّ القوى العظمى وعملاءها يجيّرون القضية لمصلحتهم. وعلى جماعة المدرسين أن تعتبر منها الطلبة الثوريّين الأعزّاء الذين تحمّلوا المتاعب وتعرّضوا للضرب وذهبوا إلى الجبهة وأن تعقد اجتماعاً معهم وترحّب بطروحاتهم ونظريّاتهم، وعلى الطلبة الثوريّين بدورهم أن يعتبروا المدرّسين الأعزّاء أنصار الثورة شخصيات محترمة وينظروا إليهم نظرة احترام وأن يكونوا جميعاً يداً واحدة مقابل الأوهام الضعيفة، والانتهازيّين والمنتقدين، ويجعلوا أنفسهم أكثر استعداداً للإيثار والشهادة في سبيل هداية الناس، سواء كان المجتمع والناس يطلبون الحقيقة مثل عصرنا حيث إنّ الشعب يعتبر وفيّاً وسيبقى وفيّاً للعلماء أكثر ممّا نفكّر فيه نحن، أو لا يطلبون الحقيقة كعصر المعصومين (عليهم السلام). وأمّا على الشعب الإيراني الشريف فإنّ عليه أن يعلم بأنّ هناك دعايات تجري ضدّ العلماء وتستهدف القضاء على العلماء والثورة، إذ إنّ أيادي الشيطان تريد النفوذ إلى صفوف الشعب من خلال المضيقات والصعوبات لتقول: "إنّ العلماء هم سبب المشكلات والاضطرابات". ولكنّهم أيّ عالم يقصدون؟ هل هو العالم اللّامسؤول واللّامعذَّب؟ يقيناً لا، وإنّما العالم الذي كان يتقدّم الجميع في كلّ الأحداث ويجعل نفسه معرّضاً للخطر.

إنّ أحداً لا يدّعي بأنّ الشعب والحفاة لا يعانون من المشاكل وإنّ جميع الإمكانات هي في خدمة الشعب. ومن البديهي أنّ آثار عشر سنوات من الحصار والحرب والثورة ظاهرة في كلّ ناحية وتظهر النواقص والاحتياجات، ولكنّني أشهد باليقين أنّه لو كان أشخاص غير العلماء قادوا حركة الثورة وتقدّموا إلى الأمام، لم يكن ليبقى لنا اليوم غير العار والذلّ مقابل أميركا ومصاصّي العالم وغير الانحراف عن جميع المعتقدات الإسلامية والثورية.

ولا بدّ من التذكير أنّ الإشارة إلى جانب من أحداث الثورة والعلماء لا يعني أن يقوم الطلبة والعلماء الأعزّاء غداً بحركة شديدة وثورية، وإنّما الهدف معرفة بعض النقاط حتى يسيروا في طريقهم بالبصيرة وأن يعرفوا بشكلٍ أحسن المخاطر والمعابر والكمائن.

أمّا فيما يتعلّق بأسلوب تدريس وتحقيق الحوزات فإنّني أعتقد بالفقه التقليدي والاجتهاد الأصلي ولا أُجيز التخلّف عن ذلك. والاجتهاد بنفس الأسلوب صحيح، إلاّ أنّ هذا لا يعني أنّ فقه الإسلام غير متجدّد. فالزمان والمكان يعتبران عنصرين أساسيّين في الاجتهاد، فالمسألة التي كان لها حكم في السابق قد تأخذ حكماً جديداً في إطار علاقة الحاكم بالسياسة والمجتمع والاقتصاد. وبعبارة أخرى فإنّ معرفة دقيقة للعلاقات الاقتصادي والاجتماعية والسياسية يكون الموضوع الأوّل ـــ الذي لا يختلف ظاهرياً عن الموضوع السابق ـــ موضوعاً جديداً يحتاج إلى حكم جديد.

وعلى المجتهد أن يلمّ يقضايا عصره، ولا يمكن للشعب وللشباب وحتّى للعوام أن يقبل من مرجعه ومجتهده أن يقول إنّني لا أبدي رأياً في القضايا السياسية. ومن خصوصيّات المجتهد الجامع معرفة أساليب التعامل مع الحيل والتحريف الموجود في الثقافة الحاكم على العالم، وامتلاك البصيرة والنظرة الاقتصادية والعلم بكيفية التعامل مع اقتصاد العالم ومعرفة السياسات وحتّى السياسيّين وأساليبهم التي تملى، وإدراك مركز ونقاط القوّة والضعف في القطبين الرأسماليّ والشيوعيّ والذي هو في الحقيقة إدراك لحقيقة الاستراتيجيّة الحاكمة على العالم. ويجب أن يكون لدى المجتهد الشطارة والذكاء والفراسة التي ترشد مجتمعاً إسلامياً كبيراً بل وحتّى غير إسلامي بالإضافة إلى الإخلاص والتقوى والزهد، فإنّه يليق بشأن المجتهد أن يكون في الواقع مدبّراً ومدبّراً. والحكومة في نظر المجتهد الحقيقي هي الفلسفة العملية لجميع الفقه في جميع أبعاد حياة الإنسان، والحكومة تمثّل الجانب العملي للفقه في تعامله مع جميع المشكلات الاجتماعية والسياسية والعسكرية والثقافية، والفقه هو النظرية الحقيقيّة والكاملة لإدارة الإنسان والمجتمع من المهد إلى اللّحد. والهدف الأساسي هو أنّنا كيف نريد أن نحكم الأصول الثابتة للفقه في عمل الإنسان والمجتمع ونستطيع الحصول على جواب للمشاكل. وهذا ما يخشاه الاستكبار أي أن يكون للفقه والاجتهاد بُعد عينيّ وعمليّ ويمنح المسلمين قوّة المواجهة.

ثمّ بأيّ سبب يتألّم إلى هذه الدرجة الأجانب مصّاصو العالم ويقوم زعماء الكفر والسوق المشتركة وأمثالهم بمحاولات مرتبكة ويائسة وذلك إثر إعلان الحكم الشرعي والإسلامي الذي يتّفق عليه جميع العلماء بحقّ أحد العملاء؟ إنّ السبب ليس إلاّ خشية زعماء الاستكبار من قوّة المواجهة العملية للمسلمين في معرفة ومقاومة مؤامراتهم المشؤومة، بحيث أخذوا يعرفون الإسلام والمسلمين اليوم كمبدأ ناشئ ومتحرّك وذي حماسٍ كبير. وبدأوا يضطربون لأنّ مجال أعمالهم الشرّيرة أصبح محدوداً ولا يستطيع أُجَراؤهُم الجرأة على المقدّسات الإسلامية براحة بال كما كانوا في السابق.

لقد قلت من قبل إنّ سبب جميع المؤامرات التي يخطّطها مصّاصو العالَم ضدّنا من الحرب المفروضة والحصار الاقتصادي وغير ذلك هو أن لا نقول بأنّ الإسلام قادر على إدارة المجتمع وتلبية حاجاته، وأن نطلب منهم الإذن في حلّ قضايانا وخطواتنا. إنّنا يجب أن لا نغفل، ونسير في اتّجاه تنقطع به إن شاء الله العروق التي تربط بلدنا بمثل هذا العالم المتوحّش. وربّما تصوّر الاستكبار الغربيّ أنّه من خلال طرح عنوان السوق المشتركة والحصار الاقتصادي يتمّ إيقافنا ويجعلنا نتخلّى عن تطبيق حكم الله العظيم. إنّه أمر مثير للاستغراب أن لا يعتبر المتمدّنون والمفكّرون الظاهريّين مُهِمّاً عندهم أن يجرح كاتب عميل بقلمه المسموم مشاعر أكثر من مليار مسلم ويستشهد عدد بسبب ذلك حيث تعتبر هذه الفاجعة، الديمقراطية والمدنيّة نفسها. إلاّ أنّه عندما يجري الحديث حول تنفيذ الحكم والعدالة يعلو نحيب الرأفة وحديث الإنسانية. إنّنا من خلال هذه النقاط نجد حقد عالم الغرب مع عالم الإسلام والفقه. إنّ هؤلاء لا يهمّهم الدفاع عن شخص، بل يهمّهم الدفاع عن كلّ تيّار معادٍ للإسلام ومعادٍ للقِيَم والمبادئ، وهذا ما أثارته الدوائر الصهيونية والبريطانية والأميركية ووضعوا أنفسهم بحماقة واستعجال في مقابل جميع العالم الإسلامي. وبطبيعة الحال يجب أن نرى كيفية تعامل الدول والحكومات الإسلامية مع هذه الفاجعة الكبرى، إذ لم تعد هذه القضية قضية عرب وغير عرب وفارس وإيران، وإنّما هي إهانة لمقدّسات المسلمين بدأت منذ صدر الإسلام ولحد الآن وستبقى من اليوم وعلى طول التاريخ وهي نتيجة لنفوذ الأجانب في ثقافة المبدأ الإسلامي، وإذا ما غفلنا عنها فإنّ هذه القضية تعتبر البداية وإن في أكمام الاستعمار الكثير من هذه الثعابين الخطرة الذين أخذوا القلم وأجرّوا أنفسهم. وليست ضرورة في مثل هذه الظروف أن نسعى إلى إيجاد العلاقات وتوسيع نطاقها؛ لأنّ الأعداء قد يتصوّرون بأنّنا نحتاج إليهم بدرجة حتى يمكن أن نسكت مقابل الإهانة بمعتقداتنا ومقدّساتنا الدينية.

إنّنا نريد أن نقول لأولئك الذين ما زالوا يعتقدون ويحلِّلون بأنّه يجب علينا أن نعيد النظر في سياساتنا ودبلوماسيّتنا وأصولنا وبأنّنا أخطأنا ويجب أن لا نعيد الأخطاء السابقة، ويعتقدون أيضاً بأنّ الشعارات المتطرّفة أو الحرب كانت سبباً لأن ينظر إلينا الغرب والشرق باستياء، وأدّت إلى عزلة البلاد وإذا ما عملنا بشكلٍ واقعي فإنّهم يتعاملون بالمقابل معاملة إنسانية وبالاحترام المتبادل لشعبنا وللإسلام والمسلمين.. نقول لهؤلاء إنّ هذا نموذج واحد أراد الله أن يحدث بعد نشر كتاب الكفر (الآيات الشيطانية) وأن يظهر عالم التفرعن والاستكبار والبربرية وجهه الحقيقي في عدائه القديم مع الإسلام حتّى نخرج نحن من هذه السذاجة وأن لا نعلّل كلّ هذه القضايا بالاشتباه وسوء الإدارة وعدم امتلاك التجربة، وأن ندرك بكامل وجودنا أنّ القضية ليست خطأنا، بل هي تعمّد مصّاصي العالَم في القضاء على الإسلام والمسلمين. وإلاّ فإنّ مسألة شخص سلمان رشدي ليست مهمّة عندهم بتلك الدرجة حتّى يقف خلفه جميع الصهاينة والمستكبرين، إنّ على العلماء والشعب العزيز وحزب الله وعوائل الشهداء المحترمين أن ينتبهوا جيّداً حتّى لا يضع دمّ أعزّائهم بهذه التحليلات والأفكار المغلوطة، وإنّني أخشى أن يجلس محلّلو اليوم على منصّة القضاء بعد عشر سنوات ويقولوا لنرى هل أنّ الفتوى الإسلامية وحكم إعدام سلمان رشدي كان مطابقاً للأصول والقوانين الدبلوماسية أم لا؟ ثمّ يستنتجوا بما أنّ إعلان حكم الله كانت له آثار وتبعات واتّخذت السوق المشتركة والدول الغربية مواقف ضدّنا، إذاً يجب أن لا نظهر عدم النّضج، ونغضّ النظر عن الذين يهينون الإسلام ومقام الرسول المقدّس.

وخلاصة القول هي إنّنا يجب أن نعمل حتّى تحقيق فقه الإسلام العملي من دون ان نلتفت إلى الغرب الماكر والشرق المعتدي والدبلوماسية الفارغة التي تحكم العالم، إذ لا يضرّ مصّاصي العالَم شيء طالما بقي الفقه في بطون الكتب ومحفوظاً في صدور العلماء، وما دام العلماء لا يسجّلون حضوراً فاعلاً في جميع القضايا والمشكلات فلا يستطيعون أن يدركوا أنّ مصطلح الاجتهاد لا يكفي لإدارة المجتمع. ويجب على الحوزات والعلماء أن يمسكوا دائماً بنبضات أفكار المجتمع ويكونوا بمستوى احتياجاته المقبلة ويسبقوا الأحداث دائماً ويستعدّوا لردّ الفعل المناسب. إذ إنّ الأساليب القائمة في إدارة أمور الناس تتغيَّر في المستقبل وتحتاج المجتمعات البشرية إلى مسائل الإسلام الجديدة لحلّ مشاكلها. إذن يجب أن يفكّر علماء الإسلام العظام من الآن في هذا الأمر.

والقضية الأخرى التي يجب الالتفات إليها هي أن يعتبر العلماء والطَلَبَة الأعمال القضائية والتنفيذيّة أمراً مقدّساً بالنسبة لهم وقيمة إلهيّة، وأن يروا لأنفسهم شخصية وامتيازاً بما أنّهم يدرسون في الحوزة. بل إنّ عليهم أن يتركوا الإخلاد إلى الراحة في الحوزات في سبيل تطبيق حكم الله ويعملوا بشؤون الحكومة الإسلامية. فإذا ما وجد طالب علم منصب إمامة الجمعة وتوجيه الناس أو القضاء في أمور المسلمين شاغراً في حين يمتلك في نفسه القدرة على ذلك ولكنّه لا يقبل المسؤولية بحُجّة الدرس والمباحثة أو أنّه يرغب نفسه في الاجتهاد والدرس.. إنّ مثل هذا الطالب يحاسَب أمام الله العظيم ولا يمكن تبرير عذره أبداً. فإذا لم نخدم النظام اليوم ونستخفّ بترحيب الشعب الذي لا نظير له بالعلماء فإنّنا سوف لا نجد فرصة وظروفاً أفضل من هذه.

أرجو أن لا تكونوا قد تألَّمتم من النصائح والتذكيرات المشفقة لهذا الأب العجوز وهذا الخادم الحقير وأن تدعوا وتطلبوا المغفرة لي بأنفاسكم القدسية وبقلوبكم المنوّرة. وإنّني بدوري لا أنسى العلماء الأصيلين والحوزات العلمية من دعاء الخير.

إلهي: زد من قدرة العلماء في خدمة دينك.

إلهي: اجعل الحوزات العلمية خنادق حماية الفقه والإسلام الأصيل ثابتاً إلى الأبد.

إلهي: ترحّم بالشفاء على معوّقيهم، وتفضّل على عوائل شهدائهم بالصبر والأجر، وأعد مفقوديهم وأسراهم إلى وطنهم عاجلاً.

إلهي: زد في قلوبنا وعيوننا واجعل خالداً قيمة خدمة دينك وخدمة الشعب.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

                                                              3 إسفند ـــ 1367

                                                         روح الله الموسوي الخميني

  

 

 

 

 

 

 

 

  

 

 

 

 

 

                            



(1)  د. علي الوردي، لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث، ج 3، ص 87.

(2)  المصدر السابق، ص 90.

(1)  إبراهيم تيموري، تحريم تنباكو، ص 103.

(1)  علي الخاقاني، شعراء الغري، ج 10، ص 69.

(1)  عبد الحسين مجيد كفائي، زندكاني آخوند خراساني، ص 174.

(2)  المصدر السابق، ص 213.

(3)  المصدر السابق، ص 183.

(1)  عبد الحليم الرهيمي، تاريخ الحركة الإسلامية في العراق (1900 ـ 1924)، ص 165.

(2)  علي دواني، نهضت روحانيون إيران، ج 1، ص 160.

(1)  عبد الحليم الرهيمي، تاريخ الحركة الإسلامية في العراق، ص 165.

(2)  د. علي الوردي، المصدر السابق، ج 4، ص 128.

(1)  عبد الله النفيسي، دور الشيعة في تطوّر العراق السياسي الحديث، ص 91.

(1)  عبد الحليم الرهيمي، مصدر سابق، ص 204.

(1)  مجلّة الجهاد للبحوث والدراسات، العدد 21.

(2)  عبد الحليم الرهيمي، مصدر سابق، ص 199.

(1) حديث مع سماحة آية الله السيّد محمد حسين فضل الله في شباط 1992م.

(1)  حديث مع سماحة آية الله السيّد فضل الله في شباط 1992م.

(1)  حديث مع سماحة آية الله السيّد فضل الله في شباط 1992م.

(1)  حديث مع سماحة آية الله السيّد فضل الله في شباط 1992م.

(1)

(1)  السيّد كاظم الحائري، مقدّمة مباحث الأصول.

(1)  المترجم.

(1)  القاعدة الجوية في همدان والتي كان من المقرّر أن تنطلق منها حركة انقلاب عسكرية ضدّ الجمهورية الإسلامية ـ المترجم.