مفاهيم حركيّة

من

وحي القرآن

 

قراءة موضوعيّة في الفكر الحركيّ في القرآن الكريم

على ضوء المنهج التفسيري

لآية الله العظمى السيّد محمّد حسين فضل الله

 

الشيخ علي حسن غلّوم

الجزء الثاني

 

 

 

 

 

جميع الحقوق محفوظة

الطبعة الأولى

1429 هــ ـــ 2008م

 

 

 

دار الملاك للطباعة والنشر والتوزيع ش.م.م

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

العدل

العدل شعار الإسلام ـــ العدالة وحاكميّتها على الواقع الإنساني ـــ الحكم بالعدل والتوازن الاجتماعي ـــ هدف الرسالات قيام الناس بالقسط ـــ أهمية العدل عند الله ـــ أهمية الأمر بالعدل ـــ العدل والسياسة الإسلامية.

 

 

 

 

 

 

 

 

1 ـــ العدل شعار الإسلام:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8]

                           *****

معاني المفردات:

{قَوَّامِينَ}: قائمين به حقّ القيام.

{بِالْقِسْطِ}: العدل.

{وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ}: لا يحملنَّكم ويكسبنَّكم، وقيل: معنى لا يجرمنَّكم لا يدخلنَّكم في الجرم، كما يُقال: أثمتُه أي أدخلته في الإثم.

{شَنَآنُ}: بغض وعداوة.

*****

في مطلق الأحوال، يظلّ العدل شعار الإسلام في الحياة، وينطلق القرآن ليؤكّد عليه في بناء شخصية الإنسان المسلم بمختلف الأساليب، من أجل إلغاء كلّ النوازع والأفكار والمشاعر المنحرفة من تكوينه الذاتي، لئلا تحول بينه وبين الانسجام مع حركة الخطّ المستقيم في الحياة.

وجاءت هذه الآية لتتحدّث عن ذلك من بعض جوانبه الحادّة التي قد تؤدّي بالإنسان إلى الانحراف، فأطلقت المبدأ الأساس في طبيعة الموقف الذي ينبغي للمؤمنين أن يقفوه، فدعتهم إلى أن يكونوا قوّامين لله، بحيث تكون حياتهم كلّها قياماً له، وانفتاحاً عليه، والتزاماً برضاه، في كلّ ما يفكّرون به ويتطلّعون إليه ويقومون به من أعمال، ويمارسونه من علاقات، ويهتمّون به من قضايا ومواقف. فليس هناك مكانٌ في شخصيّتهم، في كلّ ما يختزنونه من دوافع ويعيشونه من مشاعر وأحاسيس، لغير الله، وبذلك يصبح الإنسان خاضعاً في موقفه في كلّ العلاقات الإيجابيّة والسلبيّة لرضى الله، وفي ضوء ذلك، أرادت منهم أن يكونوا {شُهَدَاء بِالْقِسْطِ} ـــ وهو العدل ـــ لأنَّ ذلك هو مقياس الارتباط بالله والابتعاد عن غيره، لما يستلزمه الارتباط بالحقّ من رؤية صافية واضحة لا يحول الضباب بينها وبين واقع الأشياء، فالمؤمن ينظر بنور الله الذي أودعه في قلبه، ونور الله لا يخطئ ولا ينحرف عن خطّ الحقيقة. وبذلك تكون الشهادة بالقسط حركة الإيمان الواعي في حياة المؤمن، وبهذه الروح لا مكان للعداوة والصداقة في هذا المجال، فليس للمؤمن أن يفكّر بهما في ما ينطلقان فيه من مشاعر، وما يتحرّكان به من مواقف، بل كلّ فكره ـــ عند أيّة قضية ـــ الله والحقّ، فهما الهاجس في كلّ شيء.

ويؤكّد الله هذا الجانب من الموقف في قوله تعالى: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ} أي لا يحملنَّكم {شَنَآنُ قَوْمٍ} وبغضهم وعداواتهم، {عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ} فتشهدوا عليهم بغير الحقّ أو تحكموا عليهم بالباطل، {اعْدِلُواْ} مع أعدائكم وأصدقائكم {هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} فالعدل يلتقي مع خطّ التقوى الذي يراقب فيه الإنسان ربَّه ولا يراقب غيره مهما كانت صفته في حياته، {وَاتَّقُواْ اللّهَ} في الالتزام بهذا الخطّ في جميع مجالات حياتكم، فلا تدعوا العلاقات السلبيّة والإيجابيّة تؤثّر على طريقتكم في الحكم والشهادة، ولا تغفلوا عمّا توحيه فكرة الإيمان من الحقيقة الإلهيّة، {إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}.

وهذا ما يميّز المجتمع المسلم في أفراده، سواء على مستوى الحكم أو العلاقة والمعاملة، فالإيمان يمثِّل الضمانة الحقيقية التي يقدّمها لكلّ الذين يلتقون معه في العقيدة أو يختلفون معه فيها، فلا مجال ـــ مع الإسلام ـــ للظلم حتّى للأعداء، لأنَّ قضية العداوة تخضع لأوضاع ومواقف معيّنة تفرض نوعاً من السلوك السلبي الذي لا يمكن أن يبتعد عن الموازين والقوانين الشرعيّة، التي تعتبر أنَّ للعداوة مساحةً لا يمكن أن يتعدّاها الإنسان المؤمن، وهي مساحة الحقوق التي اكتسبها هذا العدو أو ذاك، من خلال المواثيق والمعاهدات، أو من خلال الأحكام الشرعيّة التي أنزلها الله ممّا يحترم فيه بعض جوانبه الإنسانيّة. وبناءً على ذلك، يجب على القائمين على شؤون التربية الإسلاميّة التأكيد على هذا الجانب في بناء شخصيّة الإنسان المسلم والابتعاد به عن الانفعالات الحادّة التي قد توحي بها العداوة كي لا ينحرف عن الخطّ المستقيم، وذلك من أجل بناء مجتمعٍ سليمٍ عادلٍ على أساس تركيز الفرد المسلم العادل، وتلك مهمةٌ صعبةٌ في واقع المجتمع المنحرف القائم على قواعد الانفعالات التي تُثيرها العلاقات السلبية والإيجابيّة، ولكنّها الصعوبات التي تنتظر الدّعاة إلى الله الأدلّاء على سبيله، ليكونوا في مستوى مسؤوليّة الإيمان والحياة.

                           *****

2 ـــ العدالة وحاكميّتها على الواقع الإنساني:

{إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً*وأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [الإسراء: 9 ـــ 10].

                           *****

 

معاني المفردات:

{أَجْراً}: ثواباً.

{أَعْتَدْنَا}: أعددنا.

في هاتين الآيتين حديث عن هذا القرآن الذي أنزله الله على رسوله ـــ خاتم الأنبياء ـــ ليكون خلاصة الرسالات السماوية في المبادئ العظيمة التي تتحرّك فيها القِيَم الروحية الإنسانية، في ما يمكن أن يكون زاداً للحياة كلّها في عقائدها ومفاهيمها وشريعتها ومناهجها الخاصة في الفكر والحركة والسلوك، ممّا يحمل في داخله الإيجابيات الكبيرة على مستوى سلامة المصير للسائرين عليه، كما يحتوي السلبيات المصيرية للمنحرفين عنه. وذلك هو شأن كتب الله المنزّلة على عباده، فهي الهدى لمن اهتدى بها، وهي الحُجّة على من ابتعد عنها في الخطّ الفاصل بين الجنّة والنار.

{إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} أي للملّة، أو للطريقة، أو للشريعة، أو للحياة التي هي أكثر اتّصالاً بخطّ الاستقامة والتوازن بين خصائص الإنسان وعناصر الحياة، فلا يطغى جانبٌ على آخر، فتتوازن الدنيا والآخرة والمادة والروح، في حركة مشاريع الإنسان وخطواته وعلاقاته، فلا يفكّر بالدنيا بعيداً عن الآخرة، ولا يعيش أجواء الروح، في انفصالٍ عن أجواء المادة، بل تتروَّح المادة في وعيه، وتتجسَّد الروح في خطواته، وتلتقي الدنيا بالآخرة في جميع الأفعال التي تتحرّك من مسؤوليّته في الحياة أمام الله. وهكذا يتحرّك الإنسان في الحياة الفردية بالطريقة التي لا تسيء إلى الحياة الاجتماعية، في الوقت الذي لا يلغي فيه المجتمع شخصية الفرد وحريّته في نطاق الذّات، وبذلك كان الإسلام ديناً واقعياً لا يبتعد بالإنسان عن الحياة عندما يريد أن يربطه بالله، بل يؤكّد له صلته بالله بمقدار تأكّد صلته بالناس وبالحياة، باعتبار أنّ ذلك هو موضع رضا الله.

                            *****

لا بدّ من فهم الإسلام بطريقة متوازنة:

وفي ضوء ذلك، لا بدّ للمسلم من أن يفهم الإسلام بطريقة متوازنة تواجه المسؤولية من جميع الجهات، لئلا تنحرف به النظرة الخاضعة للجانب الواحد عن النفاذ إلى القاعدة التي تحكم الخطّ الشامل للشريعة، كما يفعل بعض المؤمننين الذين يفهمون الإسلام من خلال نصوص الزهد دون مقارنتها بنصوص المسؤولية عن حركة الحياة من حوله، ونصوص الرخصة في الطيّبات، ما يجعل من الزهد أداة لخدمة الحركة لا وسيلة لتجميدها، أو الذين يدرسون أحاديث استحباب العزلة عن الناس، بعيداً عن الأحاديث التي تؤكّد وجوب هداية الناس ورعاية أمورهم وقضاء حوائجهم أو استحبابها، ما يجعل من العزلة حالةً استثنائية تتحرّك في نطاق الحاجة إلى التأمُّل والانفصال عن المجتمع في وقتٍ ما، لحماية روحيّته من الانحراف، وتصوّراته من الخطأ، وخطواته من الزلل.

                           *****

القرآن والدعوة إلى اعتبار العقل أساس المعرفة:

وقد نلاحظ هذا الخطّ الأقوم في القرآن، في ما دعا إليه من اعتبار العقل أساساً للمعرفة في العقيدة وحركة الحياة، من حيث هو رسولٌ داخليٌّ، ورأى فيه الحُجّة على الإنسان وللإنسان، في كلّ خطوات المسؤولية، وأكّد عليه كأساس للوعي الفكري والروحي لديه.

ثمّ نلاحظ الدعوة إلى العلم كمنطلق للإيمان والحركة والحياة، فالقرآن أكّد على أنّ مشكلة الانحراف في حياة الإنسان تكمن في الجهل، واعتبر أنَّ العلم هو القيمة التي تميِّز الناس عن بعضهم البعض، ورفض التسوية بين من يعلمون ومن لا يعلمون، وأراد للإنسان أن يقرأ كلّ ما ينمّي فيه طاقة المعرفة، أو يفتح آفاقه على الجوانب الخفيّة للكون، وأن يكتب كلّ ما يستفيده في ذلك ليحفظه للأجيال، في أوّل سورةٍ أنزلها الله على رسوله.

وهكذا أراد للحياة أن تقوى وتشتدّ وتتركَّز، في دائرة التطوّر الإنساني، والتقدُّم الحياتي على أساس العقل والمعرفة، ليكون ذلك بمثابة القاعدة التي تكفل استمرارها من موقع القوّة والثبات، وتكفل للإنسان النموّ المتحرّك في أكثر من اتجاه، ممّا يلتقي مع الخطّ الذي يخضع للتقويم والتصحيح في كلّ مرحلةٍ ينحرف فيها عن الاتجاه المستقيم، بينما يتأكّد الانحراف ويتعمَّق ويتحوّل إلى عقيدةٍ راسخةٍ، إذا انطلقت الحياة في أجواء الجهل والخرافة، فلا يستقيم لها طريق، ولا يتحقَّق لها هدف.

وقد نلتقي بالخطّ الذي هو أقوم، في النظرة الشاملة للإنسان في تأكيده للعنصر الإنساني، وابتعاد عن كلّ العوامل الطارئة التي لا تلتقي بالعناصر الذاتية في كيانه، فلم يجعل للنسب أو للعرق أو للّغة أو للأرض أيّة ميزة في حساب القيمة، بل رأى في تنوّع الخصائص أساساً للتنوُّع في النتائج العملية في حركة الإنسان، ودعاه إلى اعتبار القيمة ـــ كلّ القيمة ـــ في حركة خصائصه الإنسانية في اتجاه الالتزام بالخطّ المستقيم المرتكز على طاعة الله، التي هي الخير كلّ الخير في القول والفعل وحركة العلاقات والتطلُّعات الروحية للإنسان، وهذا ما يعبّر عنه بالتقوى، التي تعني الانضباط في خطّ العقيدة والشريعة، وبذلك لم تكن خصائص الوجود هي التي تحدّد للإنسان قيمته، بل هي حركة هذا الوجود في النتائج الكبيرة للحياة.

                           *****

ونلتقي بالخطّ الأقوم في حركة العلاقات الإنسانية على مستوى الحكم والقاعدة، في تأكيده على العدالة في جميع المجالات من دون تفريق بين الناس، في ما يختلفون فيه من علاقات العداوة والصداقة، والقرب والبعد، والغنى والفقر، والكفر والإيمان. وارتفع بالمبدأ إلى المستوى الذي اعتبره فيه هدفاً أسمى لإرسال الرسل وإنزال الكتب، ما يجعل من الشرائع كلّها في وحي الله، وسيلة من وسائل التربية الإنسانية على مبدأ العدل روحاً وشعوراً وفكراً وحركة حياة، بحيث يكون المقياس في ارتفاع درجة الإيمان لدى المؤمن، بالمقدار الذي ترتفع درجة العدل عنده، ولم يترك المسألة مجرّد حالةٍ أخلاقيةٍ فكريةٍ أو شعوريةٍ، بل عمل على التخطيط التشريعي لتحويلها إلى مفرداتٍ شرعيةٍ تحكم الواقع الإنساني على مستوى الفرد أو الجماعة، ما يؤكّد الخطّ على أساس الثبات من حيث المبدأ والحركة على مستوى الواقع.

                           *****

الخطّ الأقوم وجانبا العزّة والحريّة:

وقد نلاحظ حركة الخطّ الأقوم في التأكيد على جانبي العزّة والحرية في حياة الإنسان أمام الكون كلّه من جهةٍ، وأمام بقية أفراد الإنسان من جهةٍ أخرى، وذلك من خلال إذعانه بعبوديّته لله سبحانه، ليكون انسحاقه أمام الله أساساً للانطلاق في قوّته من موقع ارتباطه بقوّة الله دون غيره، ما يجعل منه منطلقاً للقوّة أمام الآخرين الذين هم عبادٌ أمثاله، مهما ملكوا من القوّة والسلطة. وربّما كانت قيمة هذا التوجّه، أنّه يوحي للإنسان بالعمق الذي تختزنه إنسانيّته على مستوى حريّة الإرادة وانطلاقة الفكر، حيث لا يعيش الشعور بالانسحاق الداخلي أمام أيّة إرادةٍ بشريةٍ أخرى، ولا يواجه الحدود الضيّقة للفكر الذي قد تفرضه سلطةٌ معيّنةٌ عليه، لأنّه يجد في إنسانيّته الغنى الذاتي الذي يتفاعل مع إنسانية الآخرين دون الخضوع لها، لأنّه لا يجد نقصاً في موقعها الحياتي، فهي مع الآخرين على حدٍّ سواء.

وهكذا تتحرّك هذه التربية القرآنية في وعي الذّات، ليبقى الإنسان في حقيقته عبداً لله، يعيش الإحساس بالضعف أمامه، ليستمدّ القوّة منه في كلّ لحظةٍ، من خلال انشداد الحاجة المطلقة إلى الغنى المطلق، ويعيش حرّاً أمام الآخرين، في شعورٍ دائمٍ بالامتلاء الروحي من خلال استقلاله الذاتي عنه، فكراً وطاقة وحركةً حياةً.

ثمّ تنطلق هذه التربية في اتجاه آخر يتّصل بقضية الحرية السياسية في واقع الإنسان، لتكون هذه القيمة الإنسانية أساساً لحركةٍ متجدّدةٍ شاملةٍ على مستوى الجهاد العنيف الدائم ضدّ كلّ قوى الاستكبار في الحياة، بحيث يتحسَّس الإنسان انحرافه عن خطّ الحريّة والعزّة والكرامة، كما يتحسَّس حالة الخطيئة في أعماله الخاصة. وهذا ما عبَّر عنه الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) في تفسيره لقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون : 8] حيث قال معلّقاً على ذلك: "إنَّ الله عزَّ وجلّ فوَّض إلى المؤمن أموره كلّها ولم يفوّض إليه أن يكون ذليلاً"(1). ما يوحي بأنّ مسألة العزّة ليست مسألةً شخصيةً، بل هي مسألةٌ روحيةٌ عامةٌ لا يملك الإنسان حريّة التصرُّف فيها.

وعلى ضوء ما تقدَّم، فإنّنا نستوحي أنّ الإسلام يمثّل، في عمق تكوينه الفكري والتشريعي، الدين الذي يحمل قضية الحريّة كقاعدة لحركة الإنسان في الحياة في مواجهة قوى الاستعباد والاستكبار، ويرى في مسألة الجهاد نتيجة طبيعيّة لذلك، بحيث يتمّ التفاعل بين ماهية القاعدة، وماهية قضية الحريّة في المستوى السياسي والعسكري، فيبطل الرأي القائل بأنّ الدين يمثّل العنصر التخديري للإنسان ويوحي له بالاستسلام للأمر الواقع، مهما كانت طبيعته منافية لمصلحة الحياة في حركة الإنسان الواقعية.

                           *****

واقعيّة التشريع:

وقد يتمثّل الجانب الأقوم في النظرة الواقعية إلى حدود التشريع في حياة الناس حيث لم يفرض عليهم أيّ حرجٍ في تكاليف، بل جاء بالشريعة السهلة السمحة القائمة على اليسر، ولم يكلّف الناس ما لا يطيقون، ورفع عنهم ما لا يعلمون وما أكرهوا عليه أو اضطروا إليه، ورفع أحكام الضرر عنهم من خلال القاعدة الشاملة "لا ضرر ولا ضرار"، وأحاط الإنسان بقيودٍ عمليةٍ جعلت التكليف يتحرّك بطريقةٍ واقعيةٍ، لا تجمّد حركة الإنسان، ولا تطلقها في ساحة الفوضى، ما جعل القِيَم السلبية تقف بهذه الحركة عند حدود المصلحة الإنسانية العامة، كما جعل للقِيَم الإيجابية مثل ذلك، فقد يصبح الكذب حلالاً إذا كان وسيلةً للخير الإنساني، وقد يحرم الصدق إذا ابتعد عن مصلحة الحياة، وهو ما لا مجال لتفصيله الآن، لأنّنا نريد التأكيد على الجانب الواقعي للشريعة الذي يبتعد بها عن الجانب المثالي، لأنَّ المثالية في هذا الإطار تغيب الواقع الإنساني الحقيقي وتجعل الشريعة غير صالحة للتطبيق.

                           *****

لمن البشارة الروحية ولمن العذاب الأليم؟

{وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ} فيؤدّون لله حقّه من خلال ما ألهمهم من الإيمان به وبتوحيده كحقيقةٍ تفرض نفسها على الفكر والوجدان والشعور، فيقومون بالعبادات التي فرضها عليهم لتعميق الجانب الروحي في ذواتهم، وللإيحاء الدائم بالحضور الإلهي في حركة الحياة من حولهم؛ يجسّدون هذا الإيمان واقعاً حيّاً في كلماتهم وعلاقاتهم ومعاملاتهم ومشاريعهم العملية، ليكون ذلك كلّه منسجماً مع الخطّ التشريعي الإلهي الذي جاءت به الرسالات وبشّر به الأنبياء كنظام كامل للإنسان وللحياة. وبذلك يكونون مخلصين لله من خلال انفتاحهم عليه والتزامهم بأوامره ونواهيه، ولأنفسهم بتوجيهها إلى ما يحقّق لها سعادة الدنيا والآخرة، وللناس وللحياة وذلك بالتزامهم الضوابط والحدود وبذلهم الطاقات وتفجيرهم ينابيع الخير وتحريكهم مواقع الحقّ والعدالة والإيمان.

وهكذا استحقّوا البشارة الروحية، المنطلقة من جهدهم ومعاناتهم ممّا يكافئ به الله عباده المحسنين {أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً} لأنّ الله لم يرد للإنسان أن يتجرَّد من غريزة حبّ الذّات القائمة على أساس الأخذ والعطاء، ولكنّه أراد له أن لا يتجمَّد في تفكيره بالثمن أو بالعوض عند حدود الدنيا في الجانب المادي منها، بل يمتدّ إلى أبعد من ذلك في الجانب الروحي من قِيَم الحياة، الذي يملأ قلبه بالرضا والطمأنينة والسرور، ويلتفت إلى آفاق الآخرة ليحصل على نعيمها السابح في رضوان الله، وهكذا أجمل الله لهم الأجر في البشارة، فلم يفصل لهم طبيعته، ولكنّه أطلق لهم التصوُّر في أن يعيشوا الشعور في دائرة حجمه، فالله سيمنحهم الأجر الكبير الذي يمتدّ إلى نعيمه ورضوانه ورحمته التي وسعت السموات والأرض.

أمّا الذين لا يؤمنون بالآخرة، لأنّهم لا يعيشون مسؤولية الإيمان، فينطلقون في أجواء اللامبالاة إزاء قضية العقيدة أو مسألة الالتزام، ولا يجدون مشكلةً في أيّ جانب فكريٍّ أو علميٍّ، ليناقشوه ويتحاوروا فيه، ليلتزموه أو يرفضوه، بل كلّ همّهم ينحصر في إشباع جوع الحسّ وإرواء ظمأ الشهوة وتلبية حاجات الهوة، وهذا ما جعلهم يبتعدون عن الإيمان بالله حتى فقدوه، وعن الالتزام بالوحي حتّى تمرَّدوا عليه، فأساؤوا إلى أنفسهم بما جلبوه لها من متاعب ومشاكل، وما أبعدوه عنها من منافع ومكاسب، وما أوقعوها فيه من مهالك ومزالق، وأساؤوا إلى الناس لأنّهم ظلموهم وأضلُّوهم في حياتهم وأثاروا في حياتهم أجواء الكفر والضلال والانحراف، وحرَّكوا فيها خطوات التمرّد والظلم والطغيان، فهم مشدودون إلى الأرض لا يتطلَّعون لحظة إلى السماء، ومرتبطون بالدنيا لا يفكّرون بالآخرة، وملتزمون بالمادة لا يعيشون قِيَم الروح. وهكذا ضلّوا وأضلُّوا بعد أن قامت عليهم الحُجّة من الله، من خلال ما أعطاهم من عقلٍ، وما رزقهم من حواس، وما وهبهم من وسائل الحركة، وما أحاطهم به من أجواء العناية، فلم يكفروا عن عجز، ولم يضلّوا عن جهل.

أمّا هؤلاء فلهم بشارةٌ من نوعٍ آخر {وأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} لأنَّ المقدّمات تفرض نتائجها، ولأنّ العمل يفرض الجزاء. وهذا هو جزاء الذين لا يعيشون مسؤولية العمل، فينحرفون به إلى غير ما يريده الله للإنسان وللحياة.

                           *****

                     

3 ـــ الحكم بالعدل والتوازن الاجتماعي:

{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً} [النساء: 58].

                           *****

معاني المفردات:

{تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ}: أي توصلوها.

{نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ}: تقديره. نعم شيئاً شيء يعظكم به.

                           *****

عناصر السلامة العامة للتوازن الاجتماعي:

                           *****

أوّلاً: أداء الأمانة

{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} وينطلق القرآن في محاولة جديدة مع المؤمنين، من أجل تنظيم حياتهم الاجتماعية في علاقاتهم ومسؤوليّاتهم؛ وقد أكّدت هذه الآية على عنصرين أساسيين من عناصر السلامة العامة للتوازن الاجتماعي، وهما أداء الأمانة، والحكم بين الناس بالعدل. فإذا انطلق الأفراد في خطّ الأمانة وعاشوا المسؤولية العملية، في ما يأتمن به بعضهم بعضاً من الأموال التي يودعونها ليحفظوها، أو من غير ذلك من الأمانات، التي قد تكون سرّاً من الأسرار، أو عملاً من الأعمال، أو عرضاً، أو نفساً، أو غير ذلك ممّا يحمّل الناس بعضهم بعضاً مسؤولية الحفاظ عليه، فإنّ المجتمع سيشعر بالأمن والطمأنينة على كلّ الأشياء التي يعتبرها أساسية، لأنّه يجد الثقة التي تسود الأفراد في علاقاتهم وتحميهم من الإقدام على الخيانة، وبذلك يمكن لكلّ إنسان في المجتمع تجاوز الاستغراق في حاجاته الخاصة إلى الشعور بالمسؤولية في ما يتعلّق بحاجات الآخرين، ليرعاها كما يرعى حاجاته وأموره؛ في مظهر من مظاهر التكامل الاجتماعي. وقد اعتبرت النصوص الدينية الأمانة قمّة الأخلاق الإسلامية، وأشارت إليها بعض الأحاديث على أساس أنّها الصفة التي يمكن أن يختبر من خلالها صدق إيمان الشخص، وجاءت بعض الآيات لتعبّر عن المسؤولية، التي تعني القيام بالتكليف عن إرادة واختيار، بكلمة الأمانة؛ وذلك قوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب: 72].

ثانياً: الحكم بالعدل

{وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ} وهذا هو العنصر الثاني، الحكم بالعدل؛ فإنَّ الله قد أنزل الرسالات كلّها ليقوم الناس بالقسط، لما في ذلك من التأكيد على خطّ التوازن في الحياة، الذي تستقيم به الأمور وتتطوّر، وترتكز على قاعدة ثابتة في واقع الأشياء، فلا تنحرف بها عاطفة، ولا تجمح بها رغبة، ولا تفسدها علاقة قريبة، ولا تغيّرها علاقة بعيدة، بل كلّ ما هناك، أنّ في الساحة حقّاً يراد بلوغه وإعطاؤه إلى صاحبه، من خلال المعطيات الواقعية للقضية والظروف الموضوعية المحيطة بها، فليست هناك عيون لامعة متنقّلة بين مزاج الإنسان ورغبته وبين مفردات الواقع، ليحاول التوفيق بين هذا وهذا، أو تغليب هذا على ذاك، بل هناك عين واحدة جامدة وعقل واحد هادئ، يحدّقان بالواقع من خلال معطياته، بعيداً عن كلّ شيء آخر يمنع القضية من أن تأخذ مجالها الطبيعي في الوصول إلى النتيجة الحاسمة. وهذا ما أكّده القرآن في أكثر من آية، كما في قوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأنعام : 152]، وفي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة : 8]، وفي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} [النساء : 135].

ومن الواضح أنّ العدل لا يختصّ بالمنازعات الحاصلة في مجالس القضاء، بل يتّسع ليشمل كلّ القضايا التي يختلف الناس فيها، في شؤون الحكم من حيث علاقة الحاكم بالمحكومين، وعلاقات الناس ببعضهم، وفي شؤون التقييم للأشخاص والأوضاع، وفي تقديرهم للمواقف من خلال ما تختزنه من مؤثّرات وما يحيط بها من ظروف. وبذلك يكون العدل هو السمة البارزة التي تطبع الواقع الإسلامي في حياة الفرد؛ العائلية أو العامة من جيرانٍ وأقارب وأصدقاء ومعارف، الخ. لا سيّما الذين يتحمّل مسؤوليّتهم ويتحمّلون مسؤوليّته، في نظرته للأمور، وفي كلماته وأعماله وفي حياة المجتمع، في تصرّفاته وعلاقاته بالمجتمعات الأخرى، ليكون العدل هو الأساس الذي يحكم التصرّفات والعلاقات، بعيداً عن موازين القوّة والضعف والقرب والبعد، لتتكامل الحياة وتتوازن في أوضاعها العامة والخاصة، وتحتضن قيمها الروحية والمادية في عدالةٍ وسلام.

{إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ} وتلك هي الموعظة، التي هي نِعم الموعظة، فإنَّ الله لا يعظ الناس بالمواعظ الفارغة التي لا تقدّم لهم شيئاً كبيراً في بناء حياتهم وشخصيّتهم، بل في كلّ مواعظه الخير والبركة والإصلاح، فلا بدّ للمؤمنين من الارتباط بها والسير على هداها، فإنّه يسمع كلّ ما يقولون ممّا يتّصل بالعدل والأمانة، ويبصر كلّ ما يعملونه في كلّ شؤون الحياة العامة والخاصة {إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً}.

                          *****

4 ـــ هدف الرسالات قيام الناس بالقسط:

{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد : 25].

                           *****

معاني المفردات:

{بِالْبَيِّنَاتِ}: البيّنات: الآيات البيّنات.

{وَالْمِيزَانَ}: فسّروا الميزان بذي الكفّتين الذي يوزن به الأثقال.

{بَأْسٌ}: البأس هو الشدّة في التأثير.

                           *****

ما هي مهمّة النبوّات في حركة الرسل؟ هل هي مهمّة روحية يستغرق فيها الإنسان في داخل الأجواء الروحية الغارقة في عالم الغيب الذي ينفتح على الله في حركةٍ عباديةٍ خالصةٍ تحتوي القلب والوجدان والشعور، لتكون النبوّات حركةً في دائرة العبادة في ما تتمثّل فيه من الصلاة والصوم ونحوهما.

أو هي مهمّةٌ حياتيةٌ شاملةٌ تمتدّ إلى كلّ جوانب حياة الإنسان ليرتبط الجانب الروحي بالجانب المادي، في إيجاد حالةٍ من التوازن في الكلمات والأفعال والمواقف والعلاقات، بحيث لا يطغى أحد على أحدٍ في الحقوق والواجبات، في ما تويح به كلمة "العدل" من المعنى التشريعي الذي يحدّد لكلّ ذي حقّ حقّه، ويربّي الناس على السير في هذا الاتجاه، ليكون "الإنسان العادل" هو الذي يطبق الشريعة العادلة، ويبني الحياة على أساس العدل؟

إنّ الآية التالية تؤكّد المعنى الثاني الذي يجعل من الرسالة حركةً في الواقع، بدلاً من أن تكون مجرّد حركة في الروح.

{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ} التي يقتنع فيها العقل بحقائق العقيدة وجديّة الشريعة، بالأدلّة الواضحة التي تسقط أمامها كلّ الشبهات لأنّ الله لا يريد للنّاس أن يؤمنوا الإيمان الأعمى الذي يسلم بالفكرة من دون قناعةٍ فكريةٍ مرتكزةٍ على الحُجّة والبرهان، لأنّ مثل هذا الإيمان لا يوحي للإنسان باحترام نفسه وعقله، ولا يوحي له باحترام العقيدة التي يؤمن بها، ما يجعل مسألة الإيمان، في الوعي القرآني، مسألة تتّصل بالعقل والشعور، ليتحرّك العقل في المعادلات الفكرية، ولينطلق الشعور في الإيحاءات الشعورية، في ما يمثّل حركة العقل والشعور في الإيمان بالحقيقة الفكرية الشعورية. وقد لا يكون من المفروض أن تكون مفردات الإيمان عقلية في ذاتها، بل يكفي أن تكون عقليةً في مرتكزاتها ومواقعها الفكرية.

{وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ} الذي يتضمّن مفردات الوحي الإلهي، في المفاهيم العامة للدين، وفي الشرائع التفصيلية لحركة الحياة في نظامها العملي، {وَالْمِيزَانَ} الذي يمثّل الخطّ الفكري والعملي الذي يزن القضايا والأوضاع والمواقف والكلمات، ليمنعها من الاختلال والانحراف عن الخطّ المستقيم، فيعرف كلّ إنسان من خلال ذلك دوره العملي في ما له وما عليه من الحقوق والواجبات تجاه ربّه ونفسه وحياة الناس من حوله، ويتصوّر على هذا الأساس أنّ الحياة ليست هي الساحة التي يتحرّك فيها الفرد في أنانيته الذاتية في ما قد يتخيّله من أنّه هو وحده صاحب الحقّ في كلّ مواقعها، بل هي الساحة التي يملك فيها كلّ إنسان موقعاً خاصاً في ما يريد أن يأخذ من أوضاعها العامة والخاصة، فيدرك أنّها تتّسع له وللآخرين من موقع الحقّ الثابت للجميع في علاقاتهم ببعضهم البعض وبالحياة من حولهم، ليتحوّل ذلك إلى واقعٍ عملي يحقّق للحياة نظامها المتوازن الذي يحفظ لها سلامة وجودها في دائرة التكامل العملي.

{لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} وهو العدل الذي ترتكز عليه سلامة الحياة الفردية والاجتماعية، في ما يؤكّده من خضوع الناس للخطّ الواحد المتوازن الذي تلتقي فيه حقوقهم جميعاً، على أساس التشريعات التفصيليّة التي تنظّم لهم ذلك كلّه على مستوى العلاقات والمعاملات والأعمال والأقوال.

وقد نستطيع أن نفهم من هذا الهدف الرسالي، وهو إقامة العدل في إنزال الرسالات، أنّ مسألة الحكم والتشريع هي المسألة الأساس في كلّ دينٍ، باعتبارها القاعدة التي يتحرّك فيها المنهج الذي يقوم عليه العدل في حياة الناس، فإنّه لا معنى لحركة العدل في الواقع، من دون شريعةٍ تنظّم له خطوطه، أو حكم يشرف على إدارته وتنفيذه، أو سياسةٍ تدير أوضاعه في ساحة الصراع، وفي حركة الحكم أمام التحدّيات، وفي سلامة الخطّ في أجواء الانحراف. وبذلك تكون هذه الآية دليلاً على اندماج السياسة في حركة الدين وانطلاق الدين في آفاق الحكم، رداً على الذين يعتبرون الدين حالةً روحيةً ذاتيةً في علاقة الإنسان بربّه، بعيداً عن كلّ أوضاع الحياة المادية في تعقيداتها التفصيلية، وفي مشاكلها المتنوّعة المعقّدة.

                           *****

بأس الحديد ومنافعه:

{وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} في ما يمثّله من القوّة التي تدير قضايا الحرب والسلم، في ما يصنعه الإنسان منه من السلاح الذي يحمي به نفسه من كلّ الأخطار التي تواجهه، ليربح الحرب من خلال قوّته فيه، ويثبت السلم في مواقعه المرتكزة على توازن القوّة أو شموليّتها، ويجعل للعدل في حركة الناس قوّةً تمنع الظالمين من فرض سيطرتهم على الواقع، وتؤكّد الجانب التنفيذي في مواجهة الذين يريدون التمرّد عليه والانحراف عنه.

{وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} في ما يشتمل عليه من الخصائص المتنوّعة التي تتدخّل في كلّ حاجات الحياة العامة والخاصة، ما يجعل منه العنصر الأساس في صنع الحضارة في خطّها العملي بكلّ مفرداتها ومعطياتها المختلفة {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ} عندما يستخدمون الحديد في مواقع القوّة التي يتحرّك فيها المؤمنون لنصرة الله في دينه، ونصرة الرسل في حركتهم الرسالية، ليتميَّزوا عن غيرهم من الكافرين الذين يستخدمون القوّة للتمرّد على الله ورسله. وذلك هو امتحان السلاح في مواقع القوّة للذين يملكونه، فيطغى به بعض على الله، ويلتزم بعضٌ آخر بمنهج الله في إدارة مسألة القوّة في الحياة، في الخطوط التي يرضاها الله، {إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} فلم تكن الدعوة لنصرته ناشئة من موقف ضعف يوحي بالذلّ، فهو القوي الذي لا قوّة لأحدٍ أمامه، وهو العزيز الذي لا عزّة لأحدٍ معه، بل كانت منطلقةً من دائرة الامتحان الذي يتميّز به المؤمن عن غيره، عندما يحرّك القوّة التي هي نعمةٌ من الله، في طاعته سبحانه.

                           *****

5 ـــ أهمية العدل عند الله:

{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ*وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ*وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [النجل: 90 ـــ 92].

                           *****

معاني المفردات:

{تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ}: نقض الأيمان: نكثها ومخالفة مقتضاها.

{تَوْكِيدِهَا}: عقدها.

{كَفِيلاً}: ضامناً الوفاء.

{أَنكَاثاً}: النكث: النقض، وكلّ شيء نقض بعد الفتل فهو إنكاث حبلاً كان أو غزلاً.

{دَخَلاً}: الدخل: كلّ ما دخل الشيء وليس منه.

                           *****

في هذه الآيات حديثٌ عن الخطوط العامة للأخلاق الإسلامية في الدوائر الواسعة لنشاطات الإنسان في أقواله وأفعاله وعلاقاته ومواقفه.

                           *****

الأمر بالعدل والإحسان:

{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} فللعدل مساحته الواسعة في العلاقات الإنسانية، الكلمات والمواقف، ففي كلّ موقعٍ من مواقع الحياة عدلٌ وظلم، ولم يؤكّد الإسلام على شيء كما أكّد على العدل، فقد اعتبره الهدف الكبير لجميع الرسالات الإلهية، وقد تحدث عنه في الكلمة العادلة التي لا تحابي أحداً حتى لو كان ذا قربى، وفي الموقف العادل، حتى إذا كان لمصلحة العدوّ ضدّ الصديق، والحكم العادل لكلّ إنسان، وفي أيّ موقف، بعيداً عن صفته الدينية وموقعه الاجتماعي، وانتمائه الجغرافي والقومي والعرقي، ذلك أنّ المرجع الوحيد في هذا الشأن هو الحقّ الذي يمتلكه صاحبه. فيجب أن يُعطى صاحب الحقّ، حتى لو كان كافراً، أمّا من عليه الحقّ، أو من ليس له حقّ، فيجب أن يخضع للحقّ، حتى لو كان مسلماً، وهذا هو شعار الدنيا، كما هو شعار الآخرة في قوله تعالى: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ} [غافر: 17].

ولعلّ أهمية تأكيد الإسلام على العدل كقيمةٍ إنسانيةٍ عامّة، أنّه يريد للإنسان أن يعيش العدل في نفسه كإحساس وشعور، وأن يرفض التعاطف مع الظالم وإعانته، لأنّه يسعى لإدخال العدالة في التركيبة الشخصية للإنسان المسلم التقي الذي يصنعه، لذا فهو يرفض الظلم كإحساس كما يرفضه كموقف.

وللإحسان أهمية كبرى من الناحية الإنسانية، فهو الأسلوب العملي في تقديم الخير للآخرين، من موقع الحقّ الذي يمتلكونه في ذاك الخير، أو من موقع العطاء الذاتي. فإنّ الله يريد أن تنطلق العلاقات بين الناس على أساس حبّ الخير وروح العطاء، فقد أكّد الإسلام في أكثر من آية على أنّ لصاحب الحقّ أن يأخذ حقّه، ولكنّه أحبَّ للإنسان من موقعه كصاحب حقّ أن يعفو ويسامح ويتنازل، على أساس الإحسان. وربّما كان هدف التقارن بين العدل والإحسان، من أجل تأكيد الحقّ لصاحبه وتركيز العدل على أساسٍ ثابتٍ في التشريع من جهة، ومن أجل تخفيف النتائج القاسية للعدل بإفساح المجال للإحسان لكي يخفّف من حدّته، بحيث يتحقّق التوازن في حياة المجتمع وفي بناء الشخصية الإسلامية على أساسٍ من العدالة والتسامح.

{وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى} وهو العطاء لمن تربطهم بالفرد صلة قربى، باعتبارهم الخليّة الأقرب إليه، كخطوة عملية تمهّد لتوسيع دائرة مسؤوليّته الأخلاقية والاجتماعية في الدوائر الاجتماعية الأبعد، إذا ما توافرت له الإمكانيات. ولعلّ هذا الأسلوب أكثر واقعية من الدعوة إلى احتواء المجتمع كلّه، في الشعور بالمسؤولية، لأنّ تنفيذ ذاك الاحتواء أمر متعذّر عملياً، وبالتالي، فإنّ تحديد مسؤولية الإنسان في دائرة قرابته، ليس نوعاً من أنواع تأكيد العصبية العائلية، بل تدبيراً قائماً على الملاءمة بين إمكانات الواقع والتشريع، بحيث يمكن الانطلاق منه في تعميق روح العطاء من خلال مشاريع تكافليّة أوسع على مستوى الوضع العام لعلاقاته الاجتماعية الأخرى الواسعة.

{وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ} والنهي عن الفحشاء والمنكر والبغي من الخطوط الأخلاقية العامة التي تقع في الجانب السلبي من بناء الشخصية الإسلامية، وهي عناوين تلتقي معاً في أكثر من مصداق خارجي، على الرغم من اختلاف الجانب الذي ترتبط به في واقع الإنسان الذهني والنفسي والعملي، فالفحشاء تمثّل الأفعال والأقوال القبيحة التي تتجاوز العرف، وتقتحم المستور من حياة الناس وعلاقاتهم، على المستوى الجنسي خاصة، وتمسّ شرفهم الشخصي أو العائلي. أمّا المنكر، فيطلق على ما يقابل المعروف، وبذلك فإنّ مضمونه هو الفعل أو القول الذي يستنكره الناس لقبحه، أو لمفسدته، أو لضرره، وما إلى ذلك. ولعلَّ من الطبيعي أن يستلزم هذا المضمون دخوله في دائرة ما ينكره الله شرعاً وما يريد للنّاس أن ينكروه في واقعهم، استناداً إلى المبرّرات الفعلية لذلك، سواء تعارفوا على إنكاره ضمن مقاييسهم تلك أو لا.

أمّا البغي، فالمراد به العدوان بالكلام أو الفعل على الناس ظلماً، سواء تمّ ذلك في دائرة العلاقات الخاصة أو العامة، وسواء طال حياتهم الاجتماعية أو السياسية أو الاقتصادية وغيرها من المجالات حيث تتوسَّع حقوق الناس لتتمثّل في حقّ الأُمّة في الحكم العادل، وحقّ الإمام العادل في طاعة الأُمّة له، وحقّ الناس على بعضهم البعض في الأمور المتّصلة بأوضاعهم القانونية أو الشرعية والأخلاقية، فيتحوّل كلّ انتقاص من هذه الحقوق، أو اعتداء عليها، إلى عنوانٍ للبغي وللظلم وللعدوان.

وهكذا يريد الله للناس أن يلزموا خطّ العدل ويجتنبوا خطّ الظلم، ويلتزموا بالإحسان للناس جميعاً ولا سيّما ذوي القربى، ويبتعدوا عن كلّ ما يسيء إلى نظافة العلاقة أو العمل أو الكلمة أو الواقع وعن كلّ ما ينكره الذوق والعرف المتحرّك في خطّ الشرع، ويمتنعوا عن البغي والعدوان في أيّة حالةٍ من الحالات، وفي أيّ موقع من المواقع على جميع المستويات، وتلك هي موعظة الله للنّاس {يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} ذلك أنّ الموعظة تمثّل تذكيراً بالقضايا المهمّة التي تنتظر حياة الناس بإيجابياتها في نطاق ما يرضي الله، وتواجههم بسلبياتها في نطاق ما يسخطه. ومهّمتها استحضار وعي الإنسان، وإحساسه بالمسؤولية تجاه الدنيا والآخرة بشكلٍ دائم.

                           *****

الوفاء بعهد الله:

{وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ}، فللعهد الذي يلزم الإنسان به نفسه أمام الله، حرمة تفرض احترامه معنى وممارسة. وقد أراد الله للإنسان أن يفي بما ألزم نفسه به، سواء تعلّق ذلك بالتزام عملي أو علائقي أو مالي تعهّد به تجاه إنسان آخر، أو تجاه ربّه أو تجاه نفسه، أو تجاه جهةٍ من الجهات، إذ يتحوّل الالتزام الشخصي إلى إلزام شرعيّ، فإنّ الله يريد للإنسان أن يحترم كلمته في عهده، فيعتبرها كما لو كانت قانوناً شرعياً ملزماً له في ذاته، بقطع النظر عن التزامه الشخصيّ به.

ولعلّ قيمة هذا الإلزام الشرعي، أنّه يجعل للعلاقات الإنسانية بما تحتاجه من معاهداتٍ وأحلافٍ ومواثيق، قاعدة ثابتة، يرتكز عليها الناس ويلتزمون بها من موقع القداسة، وتساهم في استمرارية الحياة على خطٍ مستقيمٍ، لأنّ اهتزاز الالتزام بالعهد، يفرض الاهتزاز في كلّ المشاريع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، ويفقد الناس الأرض الثابتة التي يقفون عليها في تطلُّعهم إلى المستقبل {وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} لأنّ لليمين معنىً مقدّساً يرتبط بالله، لما يوحيه من تقرير الكفالة الإلهية لما أقسم عليه من فعلٍ أو علاقةٍ، ما يجعل من نقضه إهانة لحرمة الله حيث جعله شاهداً وكفيلاً في قضية لا أساس لها في الواقع، وهذا ما تعنيه الكلمة القرآنية {وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً} فهو من يكفل التزامكم بالعمل، ويتحمّل مسؤوليته، فكيف يمكن أن تمارسوا ذلك وأنتم عازمون على الإخلال باليمين ونقضه، {إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} فهو المطّلع على سرائركم في ما تفيضون فيه أو تعزمون عليه، فراقبوه في كلّ شيء، لأنّ وراء كلّ عمل حساباً وثواباً وعقاباً.

{وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً} من يبرم العهد ويؤكّده على نفسه أمام الله للآخرين، ليثقوا في حصول ما عاهدهم عليه، ثمّ ينقضه، كحال المرأة الحمقاء التي كانت تجهد نفسها بغزل الصوف ثمّ تنقضه بعد ذلك من بعد قوّة وتنكثه، وهي كما نقل عن الكلبي، امرأة من قريش كانت تغزل مع جواريها إلى انتصاف النهار ثمّ تأمرهنَّ أن ينقضن غزلهنّ ولا يزال ذلك دأبها، وكانت تسمّى خرقاء مكّة، {تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ} أي تتّخذون أيمانكم أداة لخداع الناس وخيانتهم، حيث توحون لهم من خلال الأيمان المغلظة، أنّكم سوف تقومون بطريقةٍ لا تقبل الشّك بما حلفتم عليه، حتى إذا ما وثقوا بكم وحصلتم على ما تريدون، نقضتم كلّ ما أبرمتموه، ونكثتم بكلّ ما عاهدتم عليه {أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ} وغرضكم من ذلك الحصول على زيادة تتميّزون بها عن الآخرين، في مالٍ أو فرصةٍ أو جاهٍ، ونحو ذلك ممّا يتسابق الناس إليه ويتصارعون من أجل التفاضل فيه بأساليب الخداع والغشّ والخيانة، {إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللّهُ بِهِ} فهو وسيلة من وسائل الاختبار الإلهي، حيث يضعكم الله أمام التجربة الحاسمة التي تتيح لكم فرصة الاستقامة مع قدرتكم على الانحراف، الأمر الذي يمكن أن يكشف صدق أيمانكم أو كذبها، حتّى إذا ما اندفعتم وراء رغبة الحصول على مطمع أو شهوةٍ أو نحو ذلك، واستسلمتم لتسويلات الشيطان التي تدعوكم إلى استغلال الفرص السانحة للإيقاع بالناس وخداعهم للوصول إلى ما تريدون، سقطتم في الامتحان {وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} من خيرٍ أو شرّ، فتعرفون ـــ هناك ـــ كيف تتحوّل الفرصة إلى غصّة، وكيف يكون التمرّد على الله تدميراً لمصير الإنسان نفسه في الآخرة، وكيف تتحوّل الشهوات التي كانت في الدنيا تحرق الأعصاب لتدفعها إلى المعصية، إلى لهب يحرق الجسد في الآخرة. ويتّضح لكم كلّ ذلك، بعد أن حاولتم الهروب منه، بالتهرّب من مواجهة الحقيقة التي تدعوكم رسالات الله لمعرفتها.

                           *****

6 ـــ أهمية الأمر بالعدل:

{ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً عَبْداً مَّمْلُوكاً لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرّاً وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ*وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [النحل: 75 ـــ 76].

                           *****

{ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً عَبْداً مَّمْلُوكاً لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرّاً وَجَهْراً}.

إنَّ الله يضرب المثل من داخل حياة الناس، لينقلهم ـــ من خلاله ـــ إلى الفكرة التوحيدية التي تمثّل مضمونه الفكري. وهو أسلوب عمليّ غايته تحريك فكر الإنسان للدخول في مقارنةٍ واعية، بين ما يحيط به، وبين الفكرة التي يريد له الداعية أن يعتقد بها. وفي هذا المثل نشاهد في أحد جانبي الصورة عبداً مملوكاً لا يملك حريّته في نفسه، ولا في عمله، ولا يقدر على شيء ممّا يقدر عليه الآخرون. إنّها صورة الإنسان المغلول اليد، الفاقد للحريّة، الذي يعيش تحت سيطرة الآخرين، فلا يملك أن ينفع أحداً بأيّ شيء من مواقع إرادته. ونشاهد في الجانب الآخر صورة الإنسان الحرّ الذي يملك الإمكانات الذاتية التي مكّنه الله منها في نفسه وفي ماله، كما يملك حريّة الحركة فيها، ويعيش روحية العطاء في علاقته بالآخرين، فهو ينفق ممّا لديه سرّاً وجهراً، في كلّ موقعٍ من مواقع العطاء الذي يحتاج إليه الناس من حوله {هَلْ يَسْتَوُونَ} هل يمكن للعقل المنفتح أن يساوي بين هذين الشخصين، فيجعلهما في درجةٍ واحدةٍ، وهل يمكن أن يستوي العجز مع القدرة، والوجود الغني النافع مع الوجود الفقير الذي لا يمثّل أيّ شيء؟ وإذا كان العقل يرفض مثل هذه المساواة في الوجود الإنساني، فكيف يمكن للعقل أن يقبل المساواة بين المخلوق الذي لا يملك أيّ شيء من القدرة الذاتية، حتى في ما يتعلّق بنفسه، فيجعله شريكاً لله، وبين الخالق الذي يملك الوجود كلّه، ويمنحه كلّ ألوان الحياة التي تستمرّ مفرداتها الحيّة والجامدة، بنعمته وبقدرته. {الْحَمْدُ لِلّهِ} أي الثناء والمدح له، في ما يتّصف به من الصفات التي لا نهاية لها في مضمونها الإلهي، ولا حدّ، وليس لغيره مثل هذا الحمد، بل كلّ حمدٍ لغيره فهو مستمدّ منه، لأنّ كلّ شيء من شؤون المخلوقين هو مخلوق له {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} حقيقة الوجود، وما هي خصائص الخالق، وخصائص المخلوق، لأنّهم في غفلةٍ عن ذلك كلّه، لاستغراقهم داخل الأفكار الموروثة التي لا يتحرّكون خطوةً واحدةً بعيداً عنها في اتجاه فكرٍ جديد. وتلك هي مشكلة الذين لا يعلمون ولا يريدون أن يخرجوا من دائرة الجهل إلى دائرة العلم، تحت تأثير العصبية العمياء التي تقدّس الخطأ، وتحترم الخرافة، وتستسلم للجهل، لأنّها لا تريد أن تخرج من حالة الاسترخاء الفكري إلى حالة الجهد الذي يبحث فيه الإنسان عن الجديد في العقيدة وفي الشريعة وفي الحياة.

                           *****

مثل الرجل الأبكم والرجل العادل:

{وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ} أي أخرس {لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ} لا يملك أيّة قدرةٍ ذاتية في نفع نفسه، أو نفع الآخرين {وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ} ثقيلٌ عليه في ما يتحمّله من أموره وحاجاته التي لا يستطيع القيام بأيّ شيء منها لتخفيف العبء عنه، فهو يعتمد عليه في كلّ الأشياء، {أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ} لعدم امتلاكه العقل الذي يستطيع به إدراك الحسن من القبيح في القضايا المتعلّقة بالواقع من حوله وبالآخرين ليحدّد موقفه منها، كما لا يملك السمع الذي يستطيع أن يستوعب فيه التوجيهات، ولهذا فإنّه لا ينفع صاحبه في ما يوجّهه إليه من أعمال، بل ربّما يأتي بالشرّ وهو يظنّ أنّه الخير، ويتحرّك نحو القبيح وهو يحسب أنّه الحسن. وهذه هي الصورة المظلمة، صورة الإنسان الأخرس الذي لا ينطق، وقد لا يكون ممّن يسمع، العاجز الذي يمثّل وجوده عبئاً ثقيلاً على مولاه، ولا يجلب له أيّ خير في أيّ طريق يتوجّه إليه. وهناك صورة أخرى، تتميَّز بالإشراق {هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} وهو الإنسان العاقل الذي يعي جيّداً واقع الناس والحياة من حوله، فيميّز بين الاستقامة والانحراف، وبين العدل والظلم، ويتدخّل لتقويم انحراف الواقع، ولقيادة الناس إلى خطّ العدل، بالكلمة وبالموقف، ليجلب لهم الخير، في ما يمثّله العدل من معنى الخير، أو يدفع عنهم الشرّ في ما يمثّله الظلم من معنى الشرّ، وهذا هو الإنسان القادر على الخير والعامل في سبيله {وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} في فكره وفي عمله. وإذا كان البعد بين هذين الرجلين بهذا الوضوح، ما يجعل اختيار الإنسان الأوّل أمراً لا معقولاً، لا بدّ معه من اختيار الإنسان الثاني الذي يعطي الحياة معنىً كبيراً، ويحقّق لها المنافع على أكثر من صعيد. فكيف تكون الحال عندما يقف الإنسان بين صورة الإنسان العاجز، والذي لا يتحرّك من موقع الخير، ولا يملك القدرة النافعة، وبين صورة الخالق الذي يعطي الحياة وجودها وقوّتها واستقامتها في خطّ العدل.. أو عندما يقف بين صورة الداعية إلى الكفر والضلال الذي لا يقدّم للحياة أيّ خير، بل يأخذ منها ولا يعطيها، ويضرّها ولا ينفعها، وبين صورة الإنسان الذي يسير على الخطّ المستقيم، ويأمر بالسير على خطّ الاستقامة، ويحقّق للحياة النفع الكبير من جهده ومن فكره، هل يستويان؟ وربّما كان جوّ هذه الآية هو الجوّ نفسه الذي توحي به الآية الكريمة: {أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [يونس : 35].

وهذه هي المعادلة القرآنية التي تقضي بالوقوف مع الذين يأمرون بالعدل ويسيرون على الخطّ المستقيم الذي يصل بالناس إلى الأهداف الكبيرة في الحياة، وهو الأمر الذي يحدّد للإنسان المسلم الموقع السياسي الذي يتحرّك فيه، أو ينطلق منه، في انسجامه مع خطّ العدل، وارتباطه بالمصلحة العليا للإنسان على مستوى نهايات الأمور لا بداياتها. وذلك هو الشعار الذي يرفعه المسلم في خطوطه العريضة التي تشير إلى الخطوط التفصيليّة في كلّ مفردات الواقع وجزئيّاته.

{وَللهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}، فهو الذي خلقها، وهو الذي يعلم خفاياها في حاضر الأشياء ومسقبلها، لأنّه الذي يستوي عنده السرّ والعلانية، وعلى الخلق أن يعيشوا وعي هذه الحقيقة في دائرة التصوّر والعمل، ولا يستسلموا للشعور بالأمن حيال ما لا يعلمون عاقبته ولا يطّلعون على مصيره، بل لا بدّ لهم والحال هذا من الاستسلام لله في كلّ شيء، والالتزام بأوامره ونواهيه، والحذر من الساعة التي لا يملكون علمها، ولكنّ الله يملك علمها، فقد تأتي بما يشبه المفاجأة، بشكلٍ سريع غير منتظر {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} لأنَّ لها وقتاً لا يتقدّم ولا يتأخّر، ولا يملك معرفته إلاّ الله {إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فهو القادر على أن يأتي بالساعة، من حيث لا ينتظرها الناس، وهو القادر ـــ كما توحي الآية ـــ أن يؤاخذهم يوم القيامة، على كلّ ما ارتكبوه من معاصٍ وانحرافات، في حين لا يملك أحدٌ أن يغيّر ما يريد.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

العلاقة بغير المسلمين

الارتباط بخطّ أعداء الله ـــ علاقة المؤمنين ـــ بالأعداء ـــ علاقة المؤمنين بمن لا يعاديهم ـــ تحذير المسلمين من السذاجة ـــ القطيعة الكاملة مع المشركين ـــ شروط العهد مع المشركين ـــ إمكانات التعايش مع أهل الكتاب ـــ أسس العلاقة مع اليهود والنصارى.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

1 ـــ الارتباط بخطّ أعداء الله:

{لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المائدة: 8].

                           *****

معاني المفردات:

{وَأَيَّدَهُم}: التأييد: التقوية.

                        *****

كيف تكون صفة المؤمنين بالله ورسوله، في علاقاتهم الروحية، وفي مشاعرهم العاطفية، وفي مواقفهم الحركية، في ما يتّصل بالفئات الكافرة الضالّة المخالفة لله ورسوله في عقيدتها وفي خطواتها العملية؟ فهل يحاولون الفصل بين الموقف العقيدي والموقف الذاتي، لتكون عاطفة القرابة حيّةً في نفوسهم، بحيث لا تؤثّر عليها عاطفة العقيدة، فتنفتح قلوبهم للكافرين الذين يمتّون إليهم بصلة القرابة، أو يعملون على أن يكون الموقف واحداً، لتكون الذّات تجسيد العقيدة، ولتكون العقيدة عنوان الذّات، لأنّ المسألة في الانتماء العقيدي ليست شيئاً يتحرّك في زاويةٍ من زوايا الكيان، بل هي الروح التي تشمل الكيان كلّه؟

                           *****

 

ما تعالجه هذه الآية بأسلوبها الخاص:

{لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَه} لأنّ الإيمان بالله واليوم الآخر يمثّل خطّاً للفكر والعاطفة والحياة، كما تمثّل المحادة لله ورسوله خطّاً آخر في هذه المواقع، ما ينعكس على المواقف والعلاقات الخاصة التي تحمل الرفض للفكر المضادّ، وللموقف المعادي، وللإنسان المتمرِّد الحاقد، فلا يجتمع في وعي الإنسان المؤمن وموقفه الانفتاح على الله وعلى رسوله وعلى دينه والموادّة المخلصة المنفتحة على المعادين لهم بالموقف والعاطفة، لأنّ ذلك يمثّل اجتماع الشعورين المتنافرين، كما يفرض التقاء الموقفين المتضادَّين في ما تفرضه طبيعة كلٍّ منهما من شعورٍ وموقف.

وعلى ضوء ذلك، فإنّ كلّ واحدٍ منهما ينفي الآخر، ما يعني أنّ الإيمان موقفٌ ينفي الودّ الفكري والروحي والعملي لمن حادَّ الله ورسوله {وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} فلا قيمة لصلة القرابة، مهما كانت قريبة، أمام مسألة العقيدة، فقد تفرض عليه العقيدة في مواقف التحدّي أن يقتل الإنسان أباه أو ولده أو أخاه أو أفراد عشيرته إذا وقفوا في الموقف المعادي للإسلام وللمسلمين، كما حدث لبعض الصحابة في معركة بدر، وكما حدَّثنا القرآن الكريم عن موقف نوح من ولده وعن موقف إبراهيم من أبيه. وهذا هو الخطّ الذي يريد الإسلام للإنسان المسلم أن يقف عنده ويتحرّك فيه، ليكون منفصلاً عن كلّ المواقع المضادّة للإسلام، في عملية رفضٍ فكري وعملي، يؤكّد على الحاجز الفاصل بين الإسلام والكفر، لتكون المواقف تابعة له.

{أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ} من خلال عمق الفكرة والشعور، بحيث كان الإيمان هو العنوان البارز الثابت في واجهة العقل والروح، فلا فراغ فيها لغيره، ممّا يتّصل بالكفر فكراً وشعوراً، {وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ} في ما يوحي به إليهم من الإشراق والصفاء والنقاء، وفي ما يمنحهم إيّاه من الطمأنينة والثبات والاستقرار والعزيمة القوية الصامدة، {وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا} فذلك هو جزاء المؤمنين الصامدين في إيمانهم، المستقيمين في طريقهم، المتّقين في أعمالهم، {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} بما آمنوا به، وبما أطاعوه، {وَرَضُوا عَنْهُ} بما أفاض عليهم من نعمه في كلّ وجودهم وفي كلّ مفردات حياتهم العملية في حركة الوجود. وهذا هو الهدف الذي يريد الله للمؤمنين أن يتابعوا السير نحوه، وهو الرضا المتبادل بينهم وبينه، فينفتحون عليه في الرضا بقضائه، ويحصلون على رضاه عنهم، بإيمانهم وتقواهم، لتكون حياتهم له ومعه في جميع المجالات.

                           *****

أولئك حز//ب الله:

{أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ} الذين يؤكِّدون انتماءهم إلى الله من خلال التزامهم بمواقع رضاه، وابتعادهم عن مواقع سخطه، وانطلاقهم في الحياة كلّها على مستوى الكلمات والأفعال والعلاقات والأهداف، من منطلق الإيمان به والرفض لغيره. وهذا هو خطّ حز//ب الله الذي يقابله حزب الشيطان في ما يعنيه الانتماء إلى نهج الشيطان، والسير على خطواته، والارتباط بأهدافه. وعلى ضوء ذلك، فلا بدّ في الانتماء إلى حز//ب الله، كعنوانٍ من عناوين الحركة والانطلاق، من الالتزام الفكري والعملي بالإسلام، بتأكيد الخطّ الفاصل الذي يفصل الإنسان عن غير الإسلام، وذلك بالتدقيق في النهج والخطّ والحركة والنتائج، والولالية لله ورسوله وأوليائه، فذلك هو الأساس في صدق الانتماء. فلا يكفي، لتأكيد صدق الانتماء إلى حز//ب الله، الانتماء إلى الإسلام بالمعنى البسيط الرسمي الذي يدخل به الإنسان إلى الإسلام، ذلك أنّ الفارق فيما بينهما، تماماً كما هو الفارق بين الإسلام والإيمان، في ما يختلف به المسلم عن المؤمن في ما أشارت به الآية الكيمة في سورة الحجرات في قوله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14].

فإذا كان الإنسان مسلماً وارتبط بخطّ أعداء الله في المسألة الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ليقتصر دوره الإسلامي على المسألة العبادية بمعناها  الساذج، لتكون النتائج النهائية لأعداء الإسلام، فهو من حزب الشيطان لا من حز//ب الله، لأنّ التحزّب للشيطان لا يعني الكفر دائماً، بل قد يعني الانتساب إلى الإسلام في جانب، والالتزام بالمواقف الشيطانية في الخطّ العملي في جانبٍ آخر، كما استوحيناه في ما حدّثنا الله به عن المنافقين الذين هم حزب الشيطان الخاسرون. وعلى هذا الأساس، فإنَّ المؤمنين المتّقين هم حز//ب الله الذين يشملهم الله بعين رعايته وعنايته {أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} الذين أخذوا بأسباب الفلاح في الدنيا والآخرة، ففازوا به في الدرجات العُلى عند الله سبحانه، وذلك هو الفوز العظيم.

                           *****

2 ـــ علاقة المؤمنين بالأعداء:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ*إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاء وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ*لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الممتحنة: 1 ـــ 3].

                           *****

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} نداء يخاطب المؤمنين من خلال عنوان الإيمان، ليوجّههم إلى التفكير بما يفرضه عليهم ـــ في مضمونه الإيحائي ـــ من مواقف ومشاعر على مستوى الممارسة الخاصة في الجانب الذاتي من حياتهم، وعلى مستوى العلاقات في الجانب الاجتماعي العملي من سلوكهم، لأنّ الإيمان يمثّل المنهج الكامل في حركته في طبيعة الشخصية المؤمنة في الداخل والخارج، ما يفرض على المؤمن أن يستثيره في نفسه في كلّ مجالات حياته.

                           *****

لا تتّخذوا عدوّي وعدوّكم أولياء:

{لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ} لأنّ مسألة العداوة تختزن في داخلها الحقد في الشعور والرغبة في التدبير، والتخطيط للهلاك والعمل على إرباك الوضع كلّه من حولكم، فليس من الطبيعي أن توالي عدوّك وتمحضه المودّة، فالموالاة تعبّر عن الانفتاح عليه في الموقف، والابتعاد عن الحذر منه، والاستسلام العفويّ لمخطّطاته، والاسترخاء أمامه، كما أنّ المودّة له توحي بالعاطفة التي تأكل كلّ معاني الرفض الداخلي، وتسقط الحواجز النفسية ضدّه، وتؤدّي بالتالي إلى الاستخفاف بالعناصر المهمّة المتّصلة بمضمون الفواصل العقيدية والفكرية والعملية، ما يبتعد المؤمن معه عن الصلابة في حراسة الخطّ الذي يميّزه عن خطوط الآخرين، عندما يهدم السدود الفاصلة بينه وبينهم. وفي ضوء ذلك، لا تكون العداوة حالةً نفسيةً ذاتيةً رافضةً، بل تكون حالةً فكريةً تمتزج بالشعور الرافض الذي يتحوّل إلى رفضٍ للفكرة التي ترفض فكرةً أخرى، في عملية رفض العلاقة بالذّات التي تمثّل التجسيد الحيّ للفكرة، ما يجعل من الموقف العدائي عملية رفضٍ لحركية الفكرة من خلال الذّات.

{وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ} فليس هناك أيّة قاعدةٍ فكريةٍ وروحيةٍ وعمليةٍ تربطهم بكم، فمن أين جاء أساس المودّة التي لا بدّ من أن ترتكز على التوافق في الفكر والموقف {يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ} في ما يمثّله ذلك من موقفٍ عدواني عنيفٍ، يتميّز بالقهر الوحشي الذي لا ينسجم مع أيّة حالةٍ شعوريةٍ إيجابيةٍ، بل يجتذب المعنى السلبي من خلال ثأر الإنسان لكرامته ولعلاقته بأرضه، ولالتزامه بإيمانه. ولم يكن هذا الإخراج القهري المتعسّف ناتجاً من حالةٍ ذاتيةٍ تؤدّي إلى أن يختلف الناس مع بعضهم البعض، فيكون ردُّ الفعل قتالاً أو تهجيراً أو نحو ذلك، بل كان ناتجاً عن الخطّ الإيماني التوحيدي الذي يضادّ الخطّ الكافر الإشراكي {أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ} فذلك هو سرّ المشكلة المعقّدة فيما بينكم وبينهم، فكيف تغفلون عن ذلك وتستهينون به، في الوقت الذي لا يتناسب فيه موقفكم الموالي لهم مع خطّ الجهاد الذي ينطلق على أساس مواجهة كلّ القوى المعادية بالرفض القويّ الذي يعمل على كسر شوكة العدوّ، وتدمير مواقعه ومواقفه، فلا تسيروا في هذا الاتجاه المنحرف، {إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي} من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا، ويكون الدين كلّه لله {وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي} بالعمل على ما يرضاه الله في مواقع طاعته فإنّ الذي يتحرّك في مسيرة الجهاد ويطلب رضا الله، لا يوالي أعداءه، ولا يتحرّك في مواقع سخطه. {تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ} حتى لا يظهر موقفكم للمؤمنين، وتقعوا في الحرج من ذلك، ولهذا فإنّكم تتجنّبون الموقف العلني، وتلجأون للموقف السرّي، {وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ} فإذا كنتم تستخفّون من الناس فكيف تستخفّون من الله الذي يعلم السرّ والعلانية، {وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} لأنّ السبيل السويّ يفرض على الإنسان أن تكون حركته في خطّ إيمانه، وأن يكون موقفه في مصلحة قضيّته، وأن يكون سرّه وعلانيته في الحقّ سواء، وبذلك يكون الموقف الذي اتّخذتموه منحرفاً عن خطّ الاستقامة.

{إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاء} أي إن يظفروا بكم في أيِّ موقعٍ من مواقع الغلبة، فإنّهم يعاملونكم معاملة الأعداء بالأسر والقتل أو التشريد، من دون أن تؤيّر فيهم كلّ مظاهر المودّة التي تقدّمونها لهم، لأنّ عداوتهم تنطلق من عمق الشعور المعادي لما تمثّلونه من خطّ الإيمان بالله، {وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ} كمظهرٍ من مظاهر العداوة الحاقدة {وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} لأنّ كلّ الضغوط التي يوجّهونها للمؤمنين تتحرّك في خطّ الفتنة عن دين الله، لتكون الساحة كلّها ساحة الشرك في عقيدته ومفاهيمه وممارساته، {لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ} الذين قد تحسبون حسابهم في علاقاتكم الوديّة مع الكفّار لتحفظوهم، ولتأمنوا عليهم منهم، إذا كانوا يعيشون في ديارهم، فما هي قيمة أن يرضى عنكم هؤلاء في ما تقدّمون لهم من مواقف لحساب الكفّار، إذا كان الله يغضب عليكم. لذلك عندما تقفون غداً بين يديه، {يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ} ليكون الحكم الفاصل الذي يحسم الموقف في ما يختلف فيه الناس من كلّ القضايا المتّصلة بمسألة الحقّ والباطل، فهو وحده الحاكم، وليس لأحدٍ أي تأثير في مسألة المصير، فالله يقضي على بعض الناس بدخول النار، ويقضي لبعضهم بدخول الجنّة.

                           *****

3 ـــ علاقة المؤمنين بمن لا يعاديهم:

{لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ*إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة: 8 ـــ 9].

لقد كانت القضية المطروحة في الحديث عن الموالاة للكافرين في الآيات الأولى من سورة الممتحنة مشروطةً بالعداوة في الشعور والممارسة، لأنّ الله لا يريد من المؤمن أن يكون ساذجاً في نظرته إلى علاقاته بالآخرين، بحيث تتحوّل طيبته الذاتية إلى نوعٍ من أنواع السذاجة العقلية والعملية التي تثير في أعدائه غريزة العدوان عليه من مواقع غفلته، ولأنّ الله يريد للمؤمن أن ينظر إلى الخلاف العقيدي نظرةً جديّةً عندما يتحوّل في مواقف الفئات المضادّة إلى وضعٍ عدواني، فيتعامل مع هذا الوضع بواقعيةٍ. أمّا في هاتين الآيتين، فينطلق التأكيد من القاعدة الإيمانية الإنسانية التي تفتح المجال واسعاً للعلاقات الإيجابية مع الذين نختلف معهم في الرأي إذا لم يتحرّكوا ضدّنا بطريقةٍ عدوانيةٍ، لتبقى الحالات العدوانية هي الملحوظة في المنع من الموالاة.

                           *****

لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين:

{لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ}، بل كانوا مسالمين في مسألة الخلاف في العقيدة، فهم لا يتّفقون مع المسلمين في الرأي، ولكنّهم لا يدخلون معهم في حرب، إمّا لدخولهم مع المسلمين في ميثاقٍ أو عهد أو أمان، وإمّا لوجود وضع سلميٍّ واقعيٍّ رافضٍ للدخول معهم في قتالٍ أو صدام، {وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ} لأنّهم يؤمنون بالتعايش مع الإسلام والمسلمين في محيطٍ واحدٍ، فلا تغريهم قوّتهم بأن يشرّدوهم ويهدّدوا أمنهم في ذلك، {أَن تَبَرُّوهُمْ} بأن تقدّموا إليهم الخير بكلّ مجالاته العملية على مستوى القضايا المادية والمعنوية، {وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} بأن تتعاملوا معهم في خطّ العدل في ما يثور في حركة الواقع من خلافاتٍ ونزاعاتٍ فيما بينهم وبين المسلمين، حتى يكون الخير العملي والعدل الإسلامي، وسيلتين من وسائل الدعوة إلى الإسلام، لما يجسّدان من صورةٍ مشرقةٍ للإسلام لدى غير المسلمين، فتتحوّل الحالة السلمية في حياتهم إلى حالةٍ روحيةٍ منفتحةٍ على الإسلام من خلال انفتاح المسلمين عليهم بالأخلاق الكريمة، ليقودهم ذلك إلى الإيمان بالإسلام، في نهاية المطاف، على أساس أنّهم لا يعيشون العُقدة العدوانية ضدّه. وهذا هو ما ينبغي للمسلمين أن يواجهوه في سلوكهم العملي في ساحة الشعوب الكافرة المسالمة التي لا تعيش العقدة المستحكمة في نظرتها إلى الإسلام والمسلمين، من أجل أن يكون المسلمون حركةً منفتحةً على الواقع بشكلٍ إيجابي فاعلٍ، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} الذين يعيشون العدل كحالةٍ روحيةً، مع كلّ الناس من مؤمنين وكافرين، لأنّ العدل هو الأساس الذي يرتكز عليه بناء الحياة على أساس التوازن في حركة الإنسان والحياة.

                           *****

 

إنّما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين:

{إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ} ووقفوا ضدّ حريّتكم في الدعوة، وضدّ حريّة الناس في الإيمان، وقاتلوكم على أساس موقفكم الديني في العقيدة والعمل {وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ} وعاونوا المشركين على إخراجكم من دياركم إمّا بطريق التحالف، أو نحوه، {أَن تَوَلَّوْهُمْ} في المودّة القلبية، والانفتاح العملي، لأنّهم يرفضون ذلك بعدوانيّتهم، وينفذون إلى مجتمعكم من موقع الثغرات العاطفية التي تفتحونها عليهم، ليدمّروا قواعد الأمان في حركتكم الإسلامية، {وَمَن يَتَوَلَّهُمْ} وينحرف عن هذا الخطّ المتوازن في حركة الوعي الإسلامي، ويبتعد عن أوامر الله ونواهيه {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} الذين ظلموا أنفسهم وظلموا الإسلام والمسلمين في ذلك كلّه.

                           *****

كيف نستوحي الآيتين:

وقد نستطيع استيحاء هاتين الآيتين في الانفتاح على غير المسلمين بطريقةٍ إيجابيةٍ على مستوى العلاقات الدولية، أو على صعيد العلاقات الحركية السياسية، أو في دائرة الأوضاع الاقتصادية، فإنّ الله لا ينهى عن البرّ بهم، والعدل معهم، وليست المسألة في إيحاءاتها الفكرية، مجرّد حالةٍ إنسانيةٍ خيريةٍ، بل هي إلى جانب ذلك حركة عملية في هذا الاتجاه، لأنّ أجواء الآيتين، مع ملاحظة الآيات السابقة، تؤكّد في مسألة المقاطعة ورفض الموالاة على الحالة العدوانية لا على الخلاف الديني، ما يفسح المجال لعلاقاتٍ إنسانيةٍ سياسيةٍ واقتصاديةٍ إيجابيةٍ، فإنّ كلمة "البرّ" قد تتّسع للكثير من النشاطات العامة، كما أنّ كلمة "العدل" قد تتحدّث عن التوازن في المواقف والعلاقات.

وإنّنا نؤكّد دائماً على ضرورة التركيز على الاستيحاءات القرآنية في مسألة المفاهيم، من خلال طبيعة الآفاق التي تطلّ عليها الآية، والأفكار العامة التي تثيرها، والإشارات الروحية التي تلتقي بها في حركة المفاهيم، وندعو إلى إثارة البحوث الإسلامية حول ذلك كلّه.

وقد أثار الفقهاء أحاديث متنوّعة في ما يتّصل بالآية الأولى، حيث تحدّثوا عن أنّ الصدقة تجوز من المسلم على الذمّي من أهل الكتاب، بل قال أبو حنيفة إنّه تجوز عليه زكاة الفطرة والكفّارات، واتّفقوا على جواز الوصية له بالمال، والوقف عليه، لأنّ الله تعالى لم ينهنا عن البرّ به، وهذه الأمور هي من بعض مفردات البر. وقد نستطيع أن نضيف إلى ذلك الكافر المسالم، حتى لو لم يكن من أهل الكتاب، لا سيّما إذا لاحظنا أنّ من الممكن أن تكون الآية شاملةً، إنْ لم تكن مختصةً بحسب مورد النزول، لأهل مكّة المشركين الذين لم يشاركوا الطغاة في القتال أو في المساعدة على إخراج المسلمين، ولا بدّ من التأمّل في ذلك.

وإذا كنّا قد تحدّثنا عن مسألة الانفتاح على غير المسلمين المسالمين في العلاقات الدولية أو الحركية السياسية، فإنّنا قد نستطيع الإشارة إلى دراسة العلاقات مع الدول الكبرى أو الصغرى التي تتحرّك ضدّ المسلمين بطريقةٍ عدوانيةٍ ضدّ مصالحهم السياسية أو الاقتصادية أو الأمنية، لأنّ القضية ليست قضية القتال في الدين والمساعدة على التشريد، كخصوصيتين ذاتيّتين، بل كنموذجين للعداة التي تمثّل المبدأ الذي يدور مداره الموقف الودّي أو الموقف المضادّ.

                           *****

المسألة الفقهية بين العناوين الأوليّة والثانوية:

وقد يفرض علينا البحث أن نشير إلى أنّ هذه المسألة في المقاطعة للفئات العدوانية، تتحرّك في نطاق العناوين الأولية في الحالة الطبيعية للعلاقات العامّة، ولكن قد تطرأ بعض الظروف الضاغطة التي قد يضطر فيها المسلمون إلى إيجاد علاقاتٍ معينة مع الدول المعادية، من أجل المصلحة الإسلامية العليا التي قد تنعكس عليها المقاطعة انعكاساً سلبياً أكثر ممّا تنعكس على تلك الدول، الأمر الذي قد يفرض على أُولي الأمر أن يواجهوا المسألة بالطريقة الإيجابية مع بعض التحفُّظات التي تقتضيها السلامة العامة للإسلام والمسلمين.

                           *****

4 ـــ تحذير المسلمين من السذاجة:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ*وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [آل عمران: 100 ـــ 101].

                           *****                         

معاني المفردات:

{تُطِيعُواْ}: الطاعة: موافقة الإرادة الجاذبة للفعل بالترغيب فيه، والإجابة: موافقة الإرادة الداعية إلى الفعل، ولذلك يجوز أن يكون الله مجيباً إلى عبده إذا فعل ما دعا العبد به، ولم يجز أن يكون مطيعاً له.

{يَعْتَصِم}: يتمسّك بقوّة بكلّ ما شرّعه الله سبحانه بعيداً عن الشكوك والأهواء، ويمتنع بالله عمّن سواه. والعصم: الإمساك، والاعتصام: الاستمساك، والعصمة: هي المنع والحفظ والتوقّي.

                           *****

في هاتين الآيتين بداية الحديث مع المؤمنين بأن يكونوا واعين للمخطّطات التي يرسمها أهل الكتاب من أدل إضلال المسلمين عن دينهم الحقّ، وذلك بإثارة الرواسب القديمة الكامنة في الأعماق، التي استطاع الإسلام تجميدها في خطّةٍ طويلة لإزالتها نهائياً من النفوس، وذلك بتأكيد الإيمان في قلوبهم ومشاعرهم وخطواتهم العملية في الحياة، بحيثُ يتحوّل إلى جزءٍ من الذّات، بدلاً من أن يكون فكرةً ساذجة كامنة في بعض جوانبها. فإذا أغفل المسلمون جانب الحذر، واستمسلموا لمشاعرهم الساذجة، وشعروا بالأمن في حركات الكافين من حولهم، أمكن لأولئك أن يجرّوهم إلى الوقوع في قبضة التاريخ الجاهلي من جديد، فتتحرّك الرواسب وتطفو على سطح الفكر والشعور، وتتحوّل إلى ممارساتٍ خبيثةٍ تذكّي نار العصبية، وتطفئ نور الإيمان في القلوب، وتقود الأفراد والجماعات إلى حربٍ تقوم على أساس العائلة الضيّقة، ويُصبح الإسلام مجرّد حالةٍ طارئة لا تمثّل أيّة قوّة ضاغطةٍ أو محرّكةٍ في الاتجاه السليم.

وربّما نجد الكثير من نماذج هذا اليهودي في الواقع الذي يعيشه المسلمون، في ما يريد الكافرون والضالّون أن يثيروه بين المسلمين من الخلافات القائمة على العصبية العائلية والقومية والإقليمية والمذهبية، فيعملون على استثارة كلّ عناصر الإثارة في الماضي والحاضر من أجل خلق حالةٍ نفسية متوتّرة، توحي بالحقد، وتنذر بالشرّ، وتقود إلى التصادم والتنازع في خطّةٍ خبيثةٍ تؤدّي إلى الكارثة من خلال ما تؤدّي إليه من التمزّق والتفرّق والوصول إلى مواقع الخطر على عزّتهم وكرامتهم وأصالتهم الفكرية والاجتماعية والسياسية.

وفي هذا الجوّ تتحرّك الآية لتفتح عيون المسلمين في كلّ زمانٍ ومكان على أن يحدِّدوا أعداءهم في العقيدة وفي السياسة وفي الحياة كلّها. ويتعرَّفوا طبيعة مخطّطاتهم في جانبي العمق والامتداد، وطبيعة الظروف الموضوعية المتحرّكة على الساحة ونوعية القوى المحيطة بهم، إلى جانب معرفتهم بالأسس التي تحميهم من كلّ هذه المخطّطات، وذلك بالتأكيد على نقاط القوّة لتنميتها وتحريكها في خطّ المواجهة الصعبة، ودراسة نقاط الضعف ومحاولة السيطرة عليها وتحويلها من موقع المعاناة إلى نقاط قوّة، سواء كانت تلك النقاط فكرية أو شعورية أو عملية. ولا بدَّ في سبيل الوصول إلى ذلك من الارتفاع في كلّ زمن إلى مستوى المرحلة التاريخية للأُمّة، التي تفرض علينا التحرّك في خطّ الوعي الذي يرصد القوى المختلفة لئلا يختلط علينا خطّ الأعداء بخطّ الأصدقاء، على أساس انفعالٍ طارئ أو مشاعر حادّة أو نظرة خاطئة في تقييم الواقع والناس.

وقد نستوحي من هاتين الآيتين أنّ على المسلمين أن يعيشوا حالة عالية من الوعي المتقدّم للأجواء المضادّة المحيطة بهم في مجتمعات الكفر والضلال، وأن يدرسوا الأساليب المعقّدة التي يتبعها دعاة الكفر والضلال في تفتيت القوّة الإسلامية بما يثيرونه من رواسب التاريخ وخلافاته، وفي تضليل المسيرة الإسلامية وإبعادها عن الخطّ المستقيم، ليستطيعوا، من خلال ذلك، الانفتاح على القواعد الثابتة التي تحفظ لهم وحدتهم، وتصون لهم دينهم الحقّ عندما يعرفون سبيل الاعتصام بالله الذي يهديهم إلى الصراط المستقيم. وبذلك نعرف أنَّ السذاجة الفكرية والبساطة العملية اللّتين تدفعان المسلم إلى الاستسلام لخطط العدوّ من خلال الغفلة عن طبيعته، ليستا من خُلق المسلم الذي يريده الإسلام واعياً للحقّ والفكر والطريق والمجتمع الذي من حوله في كلّ ما لديه من سلبيات وإيجابيات.

                           *****

لا تطيعوا الكافرين:

في ضوء هذا الجوّ نتابع هذه الآيات، فإنَّ الآية الأولى تدعو المؤمنين إلى الامتناع عن طاعة فريقٍ من الذين أوتوا الكتاب، وهو الفريق الحاقد الذي يتحرّك ويقف في خطّ المواجهة للإسلام من أجل إبعاد المسلمين عن دينهم وتحطيم قوّتهم، وذلك بمختلف الأساليب المتلوّنة التي تلجأ إلى الإسرار تارّةً، وإلى الإعلان أخرى، تبعاً للظروف الموضوعية الثابتة أو الطارئة، فلا بدَّ للمسلمين من الانتباه إليه ليستطيعوا حماية أنفسهم منه، فإنَّ السير مع حالة الغفلة والاسترسال التي تدفعهم إلى الاندماج بالجوّ الحميم الذي يتظاهر به هذا الفريق أو ذاك يؤدّي إلى الوقوع في قبضة نواياهم الشرّيرة، وينتهي ـــ بالتالي ـــ إلى الخروج من الدين والسير في خطّ الكفر، لأنَّ ذلك هو النتيجة الطبيعيّة لحركة تلك المخطّطات الشرّيرة، فإنَّ الهدف الكبير لهم هو إخراج الإسلام عن خطّ الحياة بشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشر، وتجميده في حركة التاريخ من خلال تجميده في نفوس أتباعه.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ} بالله ورسوله، فعاش الإيمان في وجدانهم فكراً وعقيدة ومفاهيم منفتحة على الله والإنسان والكون والحياة، وتحرَّك في قلوبهم عاطفة متّصلة بالمشاعر الروحية الخيّرة في حركتها في الجانب الإنساني من علاقة الإنسان المسلم بالآخرين، وانطلق في سلوكهم حركةً مستقيمةً في خطّ القِيَم الروحية الإنسانية على صعيد الواقع العملي في الدائرة الأخلاقية العامّة {إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ} وهو الفريق الحاقد المعقّد، الذي يُلاحق تطوّر الدعوة الإسلامية في اتجاه الشمولية للساحة بالعمل على تخريب كلّ الأوضاع، وتعقيد كلّ الأعمال، وإثارة كلّ المشاكل في وجه الإسلام وأهله، ما يجعل من استجابتكم له وإطاعتكم لتوجيهاته ونصائحه، استجابةً للضلال والانحراف الذي يجرّكم إلى الابتعاد عن الصراط المستقيم، لأنَّ كلّ هدفهم في كلّ مخطّطاتهم أن {يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} ليضعفوا الإسلام بخروج المؤمنين به من الانتماء إليه، ولينفّسوا عن عقدتهم الذاتية تجاهكم، وإن كانوا لا يواجهونكم بالدعوة إلى الكفر في البداية بشكلٍ مباشر، بل يطرحون أمامكم بعض القضايا الجانبية التي تدخل في عداد الأمور المرتبطة بالعلاقات الاجتماعية والعصبيات العائلية، ما يجعلكم تأمنون الخطر على إيمانكم في البداية، فإنَّ عليكم أن تعرفوا أنَّ ذلك يمثِّل الخطّة الدقيقة التي تتدرّج في خطوطها لتأخذكم على حين غرّة، لتصل بكم في نهاية الأمر إلى الوقوع في حبائلهم والسقوط في مخطّطاتهم في انحرافكم عن خطّ الإيمان إلى الكفر.

ثمّ تأتي الآية الثانية لتثير الإنكار في صيغة الاستفهام فتتساءل: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ} لتوجّه المؤمنين إلى عدم الانفصال عن القرآن في مفاهيمه ودلائله وبراهينه وخططه للحياة، وعدم الابتعاد عن الارتباط بقيادتهم الرسالية الواعية التي تفتح لهم أبواب الإيمان في ما تفتح لهم من أبواب العلم بالله وبرسالته وشرائعه، فإنَّ ذلك هو السبيل إلى الثبات على المبدأ، والشعور بقوّة المواقف وأصالتها.

                           *****

من وحي الآية:

وإذا أردنا أن نستوحي الفكرة العامّة من هذه الفقرة من الآية، فإنّنا نستطيع تلخيص ذلك في نقطتين، تمثّلان القاعدة الثابتة الأصيلة في وسيلة المحافظة على تماسك الأمّة في عقيدتها أمام مخطّطات الأعداء، وهما: الارتباط بالفكرة من خلال مصادرها النقيّة الأصيلة، والارتباط بالقيادة المخلصة الرسالية في تخطيطها العملي لحركة الفكرة للحياة، لأنَّ الفكرة وحدها لا تستطيع حماية مسيرتها من الانزلاق والانحراف بدون قيادة تحرّك الفكرة في الخطّ السليم، كما أنَّ القيادة لا تستطيع القيام بدورها الأصيل إذا لم تكن القاعدة سائرة في خطّ الفكرة ومؤمنة بقيمتها الفكرية والروحية في الطريق الطويل.

وقد نستوحي منها، أنّ على الإنسان المسلم أن يلجأ إلى آيات الله ليستنطقها في عملية تحليلٍ لكلّ ما يُعرض عليه من دعوات وأفكار يجد فيها الهدى كلّ الهدى، والوعي كلّ الوعي، وأن يرجع إلى حياة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وسنّته ليعيش معه الروح المنفتحة على الناس في محبّة ممزوجة بالحذر، وفي وعي نابض بالحياة، وفي حياة متحرّكة في أكثر من اتجاه على أساسٍ من وضوح الرؤية لفكر الإنسان وواقعه في خطّ العقيدة والعمل، فإنَّ ذلك هو السبيل للاعتصام بالله والسير على هداه.

                           *****

الاعتصام بحبل الله:

{وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ} بالتمسُّك بكتابه ورسوله ورسالته، والانفتاح عليه بالإخلاص والتقوى والاستقامة في خطّ الله، والوقوف بقوّة في مواجهة التحدّيات الكبرى التي تتحدّى قضايا المصير من أجل ردّ التحدّيات بمثلها وإطلاق التحدّي في وجه الكفر والاستكبار، وهو الموقف الذي يفرضه الانتماء إلى الإسلام في الفكر والعمل، {فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} لأنَّ الله هو الحقّ وما يدعون من دونه الباطل، ولذلك فإنَّ الاعتصام به هو اعتصام بالخطّ المستقيم الذي يحفظ للإنسان دنياه وآخرته، ويقوده إلى النجاة في نعيم الله ورضوانه.

وربَّما نحتاج إلى التوقّف عند كلمة الاعتصام بالله، وعلاقته بالاهتداء إلى الصراط المستقيم، فإنَّ الاعتصام بالله يشير إلى التمسّك بكلّ المفاهيم التي أوحاها إلى رسوله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) والسير مع كلّ الشرائع التي شرَّعها للناس على لسانه، والتحرّك نحو كلّ الأهداف الكبيرة في الحياة التي أراد للإنسان أن يسير عليها من خلال وسائله الطاهرة النظيفة، وبذلك تستقيم للإنسان الرؤية الواضحة والمنهج المحدّد، والهدف الكبير الذي يبدأ من الله وينتهي إليه، فلا يبقى لديه أيّ شكّ أو ريب أو انحراف، بل هو الطريق المستقيم الذي لا عِوَجَ فيه ولا التواء. وفي هذا الجوّ نفهم أنَّ الاعتصام بالله ليس كلمةً تقال، ولكنّه فكرٌ وخطٌّ وموقفٌ وهدفٌ يحكم حياة الإنسان في مجالاتها الفكرية والعملية؛ فإنَّ الإنسان الذي لا يعتصم بالله يبقى عُرضةً للانحراف مع الخطوط المتنوّعة للأهواء المختلفة التي يثيرها الشيطان وجنوده في قلب الإنسان.

5 ـــ القطيعة الكاملة مع المشركين:

{وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ*إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ*فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [التوبة:3 ـــ 5].

                           *****

معاني المفردات:

{وَأَذَانٌ}: الإعلام. وقيل إنّ أصله من النداء الذي يسمع بالأذن ومعناه أوقعه في أذنه.

{تَوَلَّيْتُمْ}: أعرضتم.

{وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ}: ولم يتعاونوا عليكم.

{مُدَّتِهِمْ}: المدّة والزمان والحين نظائر. وأصله من مددت الشيء مدّاً، فكأنّه زمان طويل الفسحة.

{انسَلَخَ}: الانسلاخ خروج الشيء ممّا لابسه. وهنا أيّ انتهاء الأشهر الحرم.

{وَاحْصُرُوهُمْ}: الحصر: المنع من الخروج من محيط. والحصر والحبس والأسر نظائر.

{مَرْصَدٍ}: المرصد: الطريق.

أراد الله لرسوله أن يعلن هذه ا لبراءة بصوتٍ عالٍ في الموسم الأكبر، ليسمعه الناس كلّهم، فيكون حُجّةً عليهم، في ما أراد الله دعوتهم إليه، أو ما كلّفهم بالقيام به، ليكون ذلك هو الحدّ الفاصل بين مرحلتين: مرحلة الصراع بين التوحيد والشرك، في حروب مختلفةٍ في نتائجها بين النصر لهذا والهزيمة لذاك، والتكافؤ في بعض الحالات، ومرحلة هيمنة التوحيد على الساحة كلّها، فلا يرتفع إلاّ صوته، ولا تتحرّك إلاّ مسيرته وسراياه، ولا تحكم الناس إلاّ شريعته، ليفهم الجميع أنَّ عهداً جديداً قد بدأ، وأنّ النتيجة الحاسمة بانتصار الإسلام قد فرضت نفسها على الجوّ كلّه، وأرسل رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) عليّ بن أبي طالب، ليبلغ عنه هذا النداء، ولأنَّ المهمّة تحتاج إلى رجل توحي شخصيّته بالحسم والقوّة، ليتناسب ذلك مع طبيعة القضية، وقرأها لهم وأعلن ـــ في ما أعلن ـــ أنّه لا يطوف البيت عريان، ولا يحجّ بعد العام مشرك، ولا يدخل الجنّة إلاّ مؤمن.

                           *****

يوم الحجّ الأكبر:

{وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ} جميعاً من المشركين والمسلمين، ليقوم المشركون بتحديد موقفهم النهائي من نداء الله إليهم، وليستعدّ المسلمون لتنفيذ حكم الله {يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ} وقد اختلف فيه، فقيل إنّه يوم عرفة، وقيل إنّه مجموع أيام الحجّ، وقيل إنّه اليوم الثاني من أيام النحر، وقيل إنّه يوم النحر، ولعلّه الأقرب بلحاظ الروايات الواردة عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) وغيرهم، ولأنّه اليوم الذي اجتمع فيه المسلمون والمشركون عامة بمنى. وربّما كانت سيرة النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) في إبلاغ الناس وصاياه، في أيّام الحجّ، أن يقوم فيهم خطيباً في هذا اليوم، كما نلاحظ ذلك في خطبته في حُجّة الوداع، ما يوحي بأنّه يوم التبليغ الأخير في أيام الحجّ؛ والله العالم.

                           *****

                                 

القطيعة الكاملة مع المشركين:

{أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ} فليس لهم عهد عنده، في ما يوصي به رسوله والمسلمون من الوفاء لهم بالعهد، لأنّه لا يريد للشرك أن يعيش مع الإيمان على صعيد واحدٍ، بل يريد له أن يزول من حياة الناس، ولذلك كانت هذه البراءة التشريعيّة تأكيداً للبراءة الحقيقيّة في مقت الله للشرك والمشركين، {وَرَسُولُهُ} بريءٌ منهم، فقد صبر عليهم طويلاً وحاورهم وقاتلهم، وسلك جميع السُّبل التي يمكن أن تردعهم عن ضلالهم وغيّهم، فلم يترك لهم حُجّةً لما يعتقدونه من شركٍ، ولم يدع لهم عذراً في ما يخوضون به من تمرّدٍ وضلال، فزادوا في ضلالهم وطغيانهم، وعملوا على تدبير المكائد للإسلام والمسلمين، بحيث أصبح وجودهم في داخل المجتمع الإسلامي خطراً على العقيدة، في ما يحاولونه من فتنة المسلمين عن دينهم بالأساليب الملتوية الخادعة، وخطراً على الوجود، في ما كانوا يثيرونه من مشاكل، أو في ما كانوا يتحالفون فيه مع الآخرين من أعداء الإسلام ضدّ الإسلام والمسلمين، ما جعل من التحرّك في اتجاه تصفية المجتمع على أساس التوحيد حالةً ضروريّة للحفاظ على المستقبل الكبير الذي يستهدف بناء الشخصية الإسلامية في الداخل وبناء الدولة الإسلامية في الخارج.

                           *****

الدعوة إلى التوبة:

{فَإِن تُبْتُمْ} ودخلتم في ما دخل فيه المسلمون من توحيد الله من خلال الحُجّة القاطعة والبيِّنة الواضحة التي قدّمها لكم الرسول، ورفضتم الشرك، الذي لم تعتقدوه على أساس قناعةٍ وجدانيّة، ولم تمارسوه على أساس حُجّةٍ عقليّةٍ، بل كانت القضية أنّه عقيدة الآباء وعادات المجتمع، ما يجعل من عملية الضغط على التراجع عنه، قضيّةً لا تتّصل بالحرية في العقيدة، بل بمسألة تحرير الإنسان من الخرافة الضاغطة على وجدانه، من خلال الأجواء المنحرفة المحيطة به ممّا لا يرجع إلى وعيٍ للفكرة، أو وضوح في الرؤية، {فَهُوَ خَيْرٌ} لأنّه يفتح لكم الآفاق الواسعة التي تنفتحون فيها على وحدانية الله المطلقة التي تشمل كلّ شيء، في ما يقودكم إليه الوجدان الصافي من أنّ كلّ شيء في الوجود مخلوق له، وأنّه ليس هناك أحدٌ أقرب إليه من أحدٍ من ناحيةٍ ذاتيةٍ، فليس هناك إلاّ العمل. وإذا كانت هناك من شفاعةٍ، فإنّها لا تنطلق من رغبة الشفيع الخاصة، بل هي بأمره ورضاه، فلا معنى لأن تتوجّه إلى المخلوق بطلب الشفاعة.

وفي ضوء ذلك، كان التوحيد يمثل الصفاء الروحي الذي يعيش معه الإنسان في حركة الإيمان المطلق بعيداً عن كلّ التعقيدات الخانقة التي تجر معها المزيد من العادات والتقاليد والأجواء الضاغطة على الفكر والروح والشعور، وبذلك كان خيراً لهم من ناحية السلام الروحي الداخليّ، كما هو خيرٌ لهم في الانسجام الفكري العملي، مع المسيرة الإسلامية التي يتحرّك فيها المجتمع المسلم على أساس المسؤولية والمساواة بين أفراده في ما ينطلقون به من علاقاتٍ، وما يعيشونه من تكافلٍ وتضامنٍ ومشاعر، وهو خيرٌ لهم في الآخرة، لأنّه يمثّل النجاة من عذاب الله، والحصول على رضاه، لأنّ الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء.

الله لا يعجزه شيء:

{وَإِن تَوَلَّيْتُمْ} وأعرضتم عن هذه الدعوة المفتوحة الهادية، وأصررتم على التمرّد، في شعورٍ طاغٍ بالقوّة والاستعلاء، بأنّكم قادرون على المواجهة، وسائرون إلى النصر، {فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ} الذي لا يفوته أحد من خلقه، مهما حاول الفرار، في الدنيا والآخرة، لأنّه لا يفر من مكان إلى مكان آخر إلاّ وجد الله عنده في ذلك المكان، لأنّه مالك السموات والأرض، فماذا يملكون من قوّةٍ ليواجهوا الله بها، وهو خالق القوّة، وهو المالك لكلّ ما يملكونه؟! وعليكم أن تدركوا هذه الحقيقة بوعيٍ، لئلا يخدعكم الخادعون المضلّلون عن أنفسكم، وعن حركة الواقع في حياتكم. أمّا إذا كنتم تعتبرون إمهال الله لكم دليل عجز، فاعلموا أنّ الله يمهل عباده، ليقيم عليهم الحُجّة، وليفسح لهم المجال للتراجع، حتى إذا قامت عليهم الحُجّة، ولم يتراجعوا ــــ من خلالها ـــ عمّا يخوضون فيه من ضلال، أخذهم الله أخذ عزيز مقتدر.

                           *****

تبشير الكافرين بالعذاب:

ثمّ تلتفت الآية إلى النبيّ محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) لتوحي إليه بأن ينذرهم بعذاب الله: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} في ما تحمله كلمة البشارة من معنى السخرية بهم، لأنّهم كانوا ينتظرون النتائج السارّة من خلال أعمالهم وإشراكهم.

                           *****

استثناء المعاهدين من البراءة:

{إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ} جاء في مجمع البيان عن الفراء: استثنى الله تعالى من براءته وبراءة رسوله من المشركين قوماً من بني كنانه وبني ضمرة كان قد بقي من أجلهم تسعة أشهر أمر بإتمامها لهم لأنّهم لم يظاهروا على المؤمنين ولم ينقضوا عهد رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم). وقال ابن عباس، عنى به كلّ من كان بينه وبين رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) عهدٌ قبل براءة. ويعلّق صاحب المجمع: وينبغي أن يكون ابن عباس أراد بذلك من كان بينه وبينه عقد هدنة ولم يتعرّض له بعداوةٍ ولا ظاهر عليه عدوّاً، لأنّ النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) صالح أهل هجر وأهل البحرين وأيلة ودومة الجندل وله عهودٌ بالصلح والجزية ولم ينبذ إليهم بنقض عهدٍ ولا حاربهم بعد، وكانوا أهل ذمّة إلى أن مضى لسبيله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ووفى لهم بذلك من بعده(1).

الظاهر من أجواء الآيات، أنّ الذين أُعلنت البراءة منهم، هم الذين عاهدهم رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) معاهدةً عامّة من دون تحديد موعدٍ معيّن، على أساس التعايش الذي أراد من خلاله إنهاء حالة الحرب بينه وبينهم، ليتفرّغ لترتيب المجتمع المسلم من الداخل، وليحاول هدايتهم من موقع السلم، في ما ينفتحون عليه من أجواء الإسلام الروحية التي تثير فيهم مشاعر الهدى والخير والإيمان، ولكنّهم لم يستريحوا لهذا العهد، بل حاولوا الخيانة والتآمر مع الآخرين ضدّ الإسلام والمسلمين. أمّا الذين كانت لهم مدّة محدودة، ممّن انسجموا مع الالتزامات التي ينصّ عليها العهد، واستمرّوا على ذلك، فهم في أمان رسول الله، الذي أراده الله من نبيّه البقاء معهم ما دام الآخرون ملتزمين به. ولعلّنا نستفيد ذلك من الفقرات التالية: {ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً} ممّا أعطوكم من المواثيق والعهود، فلم ينقضوا شيئاً منها، ولم يُخلّوا بشرطٍ أو التزامٍ، {وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً} أي لم يتآمروا مع أحد من أعداء الإسلام فيعاونوهم عليكم، {فَأَتِمُّواْ} إليهم {عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} التي حدَّدتموها لهم، أمّا الذين لم تحدّدوا لهم مدّة، أو الذين خانوا العهد، فأعلنوا البراءة منهم، لأنّ الله الذي بيده أمر عباده لا يريد للمعاهدة العامة أن تستمرّ بين المسلمين والمشركين، لأنّ التعايش بينهم لا يحقّق صلاحاً للإنسان وللحقيقة وللحياة، ما يجعل من المسألة مسألة خير للناس، في ما يريد لهم من نتائج إيجابيةٍ على مستوى الدنيا والآخرة، {إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} الذين يراقبون الله فيلتزمون بأوامره ونواهيه، في ما يريد لهم أن يعملوه أو لا يعملوه.

                           *****

الأشهر الحرم:

{فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ} وهي المدّة التي حرّم القتال فيها وجعل الله للمشركين أن يسيحوا في الأرض آمنين، لأنّ ذلك هو الظاهر من جوّ الآيات. أمّا ما ذكره بعضهم من أنّ المراد بها الأشهر الحرم المعروفة، وهي ذو القعدة وذو الحُجّة ومحرّم ورجب، فلا دليل عليه إلاّ من خلال كلمة "الحرم" التي تنصرف إلى هذه الأشهر، في ما قيل، ولكنّ القرائن المحيطة بالموضوع تصرف اللّفظ إلى ما قلناه؛ والله العالم. {فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} بعد أن قامت عليهم الحُجّة وانتهى وقت الإنذار، من دون أن يرجعوا إلى الحقّ والصواب {وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} وهو كناية ـــ في ما يظهر ـــ عن إغلاق الطرق عليهم ومحاصرتهم من جميع الجهات. وبذلك لا تكون القضية قضية التخيير بين القتل والحبس كما قيل، بل قضية القتل فيمن وجد منهم من دون عناء، وقضية الملاحقة فيمن هرب أو اختفى، ليقام عليه حدّ الله بعد أخذه وحصره، {فَإِن تَابُواْ} عن الشرك والتزموا بأحكام الإسلام، {وَأَقَامُواْ} التي تمثّل الإخلاص في عبادة الله والبعد عن كلّ شرك، {وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ} التي توحي بالصدق في الالتزام، لأنّ بذل المال يعبّر عن معنى التضحية والعطاء والإخلاص لله، {فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ} ولا تعرضوا لهم بسوء. وربّما نستوحي من هذه الفقرة، أنّ على المسلمين إذا أخذوا المشركين، أن لا يبادروهم بالقتل، بل ينبغي لهم أن يدخلوا معهم في حوارٍ جديد حول التزامهم بالإسلام وتراجعهم عن خطّ الشرك، وذلك كآخر محاولةٍ في هذا الاتجاه، فإذا أذعنوا وتراجعوا عمّا هم فيه، فلا سبيل لهم عليهم، ما دام الله قد قبلهم وأدخلهم في أمانه وشملهم برضوانه {إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.

                           *****

 

 

6 ـــ شروط العهد مع المشركين:

{كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ*كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ*اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ*لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ*فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [التوبة: 7 ـــ 11].

                           *****

معاني المفردات:

{اسْتَقَامُواْ}: داموا باقين معكم على الطريقة المستقيمة.

{يَظْهَرُوا}: الظهور: العلوّ بالغلبة.

{يَرْقُبُواْ}: يحافظوا.

{إِلاًّ}: الإلّ: العهد.

{ذِمَّةً}: الذمّة كناية عن الميثاق الذي يجعل الإنسان في رعايته وحفظه ومسؤوليّته وهو مأخوذ من الذمّ.

                           *****

في هذه الآيات حديثٌ عن الحيثيّات التي تبرّر إلغاء المعاهدة القائمة بين المسلمين والمشركين، فليس الموقف حالةً اعتباطيةً تنطلق من موقع الشعور بالقوّة المتعاظمة لدى المسلمين في المنطقة، تماماً كما يفعل الفريق الأقوى ضدّ الفريق الأضعف، إذا وجد في نفسه القوّة الكافية للسيطرة عليه، بل الموقف يتمثّل في دراسة السلوك العمليّ لهؤلاء المشركين الذين اتّخذوا من المعاهدة غطاءً للحقد الكامن في داخل نفوسهم ضدّ المسلمين، وللعداوة المتأصّلة التي تحاول أن تعبّر عن نفسها بأيّة طريقةٍ ممكنة، في ما تقوم به من الكيد للإسلام والمسلمين، ما جعل من مسألة العهد واستمراره مصدر خطر على مسيرة الإسلام. وقد أوحى الله لرسوله أن يواجه الخوف من خيانة القوم، بما يواجه به حركة الخيانة في صعيد الواقع، لأنّ ذلك هو السبيل العملي لتوفير الحماية للمسلمين، فقد جاء في قوله تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ} [الأنفال: 58]، لأنّ انتظار الموقف ـــ في مثل هذه الأمور ـــ حتى يصل إلى مرحلة الخيانة الفعليّة، يجعل المسلمين يفقدون زمام المبادرة، لتكون في يد الآخرين الذين يعدّون العدّة لأخذ المسلمين على حين غرّة، بعد إعداد الخطط الكثيرة للانقضاض عليهم. ولهذا كان الموقف، هو أخذ المبادرة عند ظهور بوادر الخيانة بظهور علاماتها الواضحة، وهذا هو ما تعالجه هذه الآيات، بتصوير الحالة الداخليّة لهؤلاء في شعورهم العدائي للمسلمين، وفي سلوكهم النفاقي في علاقاتهم بهم، وفي خطواتهم العملية للصدّ عن سبيل الله، الأمر الذي يحقّق لهم في المعاهدة فرصة للتقدّم في اتّجاه أهدافهم العدوانية، ويجعل من التعايش بينهم وبين المسلمين شيئاً لا معنى له في حركة الواقع.

                           *****

{كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ} وللعهد شروطه العملية، ودلالاته النفسية، وخلفياته الفكرية، ما يفرض الإخلاص في الالتزام، والصدق في الكلمة، والطهر في المشاعر، ليوفّر للموقف سلامته وثباته، لتستمرّ الحياة المشتركة على هذه الأُسس التي تمنع من الخيانة، وتدفع إلى الوفاء، وتوحي بالأمن والطمأنينة، وهذا ما لم يتوافر للعهد بين المسلمين وبين فريقٍ من المشركين، في ما يوحي به الواقع النفسي والعملي لهؤلاء، ولهذا جاءت هذه الفقرة من الآية بأسلوب التعجّب والاستنكار، لتثير الانطباع بأنّ القضية غير واقعيةٍ من حيث المبدأ والتفاصيل: {إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} الذين لم تظهر منهم أيّة بادرةٍ سلبيّة ضدّ الوفاء بالعهد {فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ} في الوفاء بالتزاماتكم، لأنّ على المسلم أن يفي بعهده، فلا يكون هو البادئ بالنقض، لأنّ ذلك يتنافى مع الروحيّة الإيمانية التي يتّصف بها في أخلاقه وأفعاله، {إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} الذين يخافون الله ويراقبونه في أقوالهم وأفعالهم، في الوقوف عند حدود الله التي يريدهم أن يقفوا عندها ولا يتعدّوها، وفي مقدّمة ذلك الوفاء بالعهد للموفين بعهدهم، لأنّ النقض في مثل هذه الحالات، يوحي بفقدان الثقة بالمسلمين في علاقتهم بالآخرين في نطاق المعاهدات والمواثيق المعقودة بينهم وبين خصومهم من الناس. وهذا هو الذي يجعل من الفتوى حركةً روحيّةً في الداخل، تفرض على الإنسان الالتزام بكلمته وموقفه، بعيداً عن صفة الطرف الآخر الذي يكون الالتزام لمصلحته من حيث كونه مسلماً أو غير مسلم، لأنّ القضية هي قضية أخلاقيّته في نفسه، لا في انعكاسها على الآخرين أو في استحقاقهم لها من ناحيةٍ ذاتيةٍ. وهذا هو الذي يحقّق للآخرين الحماية في المجتمع الإسلامي، لأنّ الإسلام يريد لهم أن يتحرّكوا من خطّةٍ ثابتةٍ، لا من تصرّفات متحرّكة خاضعة لردود الفعل الطارئة في المشاعر والأفكار، وذلك بأن يكون الأساس هو ردّ الاعتداء ومواجهته، بطريقة دفاعيّةٍ أو وقائيّة.

                           *****

مشاعر المشركين تجاه المؤمنين:

{كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ} في الحالات التي يجدون في أنفسهم القوّة على المسلمين، فيهاجمونهم ويتغلّبون عليهم، {لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً} في ما ينظرون فيه إلى المسلمين من خطورةٍ على أوضاعهم وامتيازاتهم، فيعملون على أساس انتهاز الفرص التي تتيح لهم اللّعب على الظروف الطارئة، والمتغيّرات الجديدة، في ما تمثّله سياسة اللّف والدوران وحركة النفاق في الحياة {يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ} في ما يثيرونه أمامكم من الأساليب الخادعة، وما يوجّهونه إليكم من الكلام المزوّق المزخرف الخادع الذي يظهرون لكم فيه الإخلاص والمحبّة {وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ} التي تحمل الحقد والعداوة {وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} في ما يمثّله نقض العهد من فسقٍ عمليٍّ، يعيشه كلّ واحدٍ منهم في أخلاقه الذاتية، فيدفعه ذلك إلى مواجهة العلاقات الإنسانية مع الآخرين، بطريقة معقّدة سلبيّةٍ، ترى كلّ الحق لنفسها، في ما تريده من امتيازات، وتواجه الآخرين بالواجبات في ما تفرضه عليهم من مسؤوليات، وتأخذ حريّتها في فرض المواقع عليهم، بكلّ ما يتمثّل في ذلك من إذلالٍ واضطهاد.

{اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَناً قَلِيلاً} فلم يحترموا عهدهم، بل حاولوا أن يستغلّوا  ذلك في الحصول على مكاسب ذاتية، وباعوا آيات الله بثمنٍ قليل، فلم يقبلوا عليها بالإيمان بها والعمل على هديها، ليربحوا بذلك خير الدنيا والآخرة، بل استبدلوا بها الأطماع والشهوات الآنيّة التي لا بقاء لها ولا امتداد، على كلّ صعيد، وساروا على نهج ساداتهم من المترفين والمستكبرين الذين لا يريدون لأنفسهم ولأتباعهم إلاّ الضلال، ليحقّقوا بذلك لأنفسهم شهواتها، وليحصلوا على المتاع القليل في الدنيا، فضلُّوا وأضلُّوا وتمرَّدوا على الأنبياء والمصلحين {فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ} وأقاموا الحواجز المادية والمعنوية في كلّ موقعٍ من مواقعهم، ليمنعوا الناس عن الانطلاق بعيداً في السير مع الرسالات الإلهية التي يلتقون فيها بالله في وحيه ورحمته ورضوانه، {إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} وأيّ إساءةٍ أعظم من العمل على تشويه شخصية الإنسان من الداخل، بتزوير فكره، وتحريف منهجه، وبلبلة عواطفه، وإرباك مسيرته، ثمّ الانطلاق مع مسيرة الكفر والضلال بكلّ قوّةٍ غاشمة، لمنع الحياة من أن تتكامل في أجواء الإيمان والخير والصلاح من أجل أن تصل إلى الله من أقرب طريق.

                           *****

 

 

نقض العهود والذمم:

{لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً} لأنّهم لا يجدون في العهود التي أعطوها، ملزماً لهم في حساب المسؤولية، بل يجدون فيها فرصةً سانحةً لخداعهم والاحتيال عليهم من خلال الإيحاء لهم بعلاقات الأمن، فهم يعيشون روحيّة العدوان، وينتهزون الفرصة للخيانة، ليمارسوها بطريقةٍ مباشرةٍ أو غير مباشرةٍ، ممّا لا يجعل من نقض العهد معهم في مثل هذا الجوّ حالة عدوانٍ عليهم، بل الأمر بالعكس من ذلك، في ما يمثّلونه من عدوانٍ على الحياة وعلى الناس، {وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ} الذين لا مكان لهم في ساحة المجتمع الذي يحترم عهوده ومواثيقه، وإرادة الخير في الإنسان. وتلك هي القضية، في مواقع الشرك الحاقد المتمرّد المعتدي.

                           *****

شروط الدخول في الإيمان:

أمّا إذا تغيّرت الحال وابتعدوا عن ذلك، وشعروا بالإيمان، فكراً يتحرّك في ممارساتهم، وهدفاً ينطلق في أهدافهم، فإنّ الموقف يتغيّر، وسيكونون تماماً كالمؤمنين المخلصين المتلزمين، {فَإِن تَابُواْ} عن الشرك والضلال {وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ} التي تمثّل صدق التوبة وعمق الإيمان وصفاء الروحيّة الخاشعة أمام الله وحركة العبودية له، المنطلقة مع جوّ الحريّة أمام الآخرين، {وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ} التي توحي بروحية الإنسان المؤمن الذي يتحسّس آلام الحرمان في حياة الناس، فيعبد الله بالعطاء الذي يقدّمه إليهم، في ما يمثّله العطاء من تزكيةٍ للنفس، ومن إخلاصٍ لله، بالإخلاص لعباده المستضعفين، وتلك هي علامة الإيمان الذي لا يتحرّك في الشعور فقط ليكون مجرّد خاطرةٍ في الفكر أو نبضةٍ في القلب، بل يتّسع ويمتدّ ليكون خطّاً في الحياة، وممارسةً في العمل. وفي هذا دلالة على أنّ الممارسة شرط في دخول المجتمع المؤمن الذي يتقبّل الإنسان من خلاله عمله المتحرّك من وحي إيمانه، فإذا تحقّق ذلك لهم، {فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} لأنّهم يعتقدون ما تعتقدونه، ويعملون ما تعملونه، ويتحرّكون في الأهداف التي تتحرّكون إليها.

وتلك هي خصائص الأخوّة الدينيّة، التي هي أعمق أنواع الأخوّة، لأنّ فيها يتآخى الفكر والشعور، وتتّصل خطوات الفكر بخطوات العمل، ما يجعل من المسألة قضيّةً تشمل الكيان الإنساني كلّه. وذلك هو الخطّ الذي يريد الله للإنسانية أن تسير عليه، وهو المنهج الذي يريد لها أن تنهجه في كلّ مجالاتها الروحية والعملية في ما يفصِّله من آياته التي توضّح لهم السبيل، حتى لا يبقى هناك مجالٌ لخطأٍ في اجتهاد، أو اشتباه في رؤية {وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} في ما توحي به الروح العلمية من وعيٍ وتفكير وتدبّر، يتحسّس فيه الإنسان مسؤولية المعرفة من خلال تحسُّسه لمسؤوليات الحياة.

7 ـــ إمكانات التعايش مع أهل الكتاب:

{قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29].

                           *****

معاني المفردات:

{الْجِزْيَةَ}: ما يؤخذ من أهل الذمّة، وتسميتها بذلك للاجتزاء بها في حقن دمهم.

{صَاغِرُونَ}: الصّاغر هو الراضي بالمنزلة الدنيّة.

                           *****

لا يريد الإسلام للمشركين أن يعيشوا في المجتمع الذي يحكمه المسلمون، لأنّ هناك تبايناً في مفهوم العقيدة ومفهوم العبادة، فلا مجال للتسامح معهم، إلاّ على أساس التنازل عن الدعوة الحاسمة إلى التوحيد، ممّا يلغي في الإسلام جدّيته ومصداقيّته، ويحوّل المسألة إلى الأجواء الرسمية التي لا تحرّك الساحة نحو التغيير الجذريّ للواقع، لا سيّما إذا لاحظنا ـــ في هذا المجال ـــ أنّ الشرك لا يمثّل منهجاً فكرياً للحياة، من قاعدة الفكر المسؤول والعلم الصادق، بل هو عبارة عن تقاليد وأوهام وتخيّلات، ترهق مسيرة الإنسان، وتُثقل روحه، وتُبعثر جهوده، فلا يكون الضغط عليه لإبعاده عن ساحة الحياة انتقاصاً من قضية الحرية من قريب أو من بعيدٍ، بل يمثّل التأكيد عليها من موقع تحرير الفكر الإنساني من الخضوع لعبودية الأوهام والتقاليد والخرافات، وربطه بالحقيقة التوحيديّة المشرقة المنطلقة بالنور والإشراق في رحاب الله.

                           *****

أمّا أهل الكتاب، فهم الفئة التي تنتمي إلى الكتب السماوية، ولا تواجه قضية الإيمان لتتمرّد على المبدأ بشكلٍ مباشر، لأنّ الكتب التي تؤمن بها، تؤكّد الإيمان بالله كحقيقةٍ، وإن كانت تنحرف ببعض التفاصيل؛ في تصوّرها لشخصية الإله وصفته، وفي تمثُّلها لطبيعة النبوّات وحركتها، وفي إنكارها لبعض الأنبياء وإيمانها لبعضهم الآخر، إلى غير ذلك من الأمور التفصيليّة. ولكن ذلك كلّه لا يمنع من التعايش بينهم وبين المسلمين، لأنّ هناك أكثر من قاعدةٍ للقاء، ولأنّ هناك كثيراً من المواقع التي يمكن أن يتحرّكوا من خلالها للحوار، من خلال ما تشتمل عليه الكتب من مفاهيم وتشريعات متّحدةٍ أو متقاربةٍ وما يتمثّل في شخصيات الأنبياء من روحانيةٍ وجهادٍ وإيمان، الأمر الذي يجعل الإنسان يشعر بالأجواء المشتركة في القِيَم الروحية والفكرية والتشريعيّة في حركة المجتمع العمليّة. وبذلك تلتقي الساحة المشتركة بالكثير من الإيجابيّات التي لا تهزمها السلبيات الأخرى.

ولهذا أقرَّ الإسلام التعايش الإسلامي ـــ المسيحي، في مجتمع واحد، ولكنّه أراد لحكمه أن يكون في المواقع المتقدّمة التي تحكم الساحة كلّها، من أجل المحافظة على قوّة القاعدة وسلامة خطّ السير، واستمرار حركة العقيدة في أجواء الدعوة والعمل، من دون حواجز ثابتةٍ، أو مواقف معقّدةٍ. لقد سمح للمجتمع أن يتنوَّع في تصوّراته التفصيلية للدين، مع عدم الموافقة على بعض هذه التصوّرات، ولكنّه لم يسمح له أن يكون خارج سلطته وحكمه، لأنّ المجتمع الذي تتعدَّد فيه السلطات، سوف يكون محكوماً للتمزّق والضعف والفساد، وهذا ما لم يمكن للإسلام أن يسمح به، لأنّه يؤدّي إلى الخراب والدمار، فلا بدّ من وحدة السلطة، ولا بدّ من التقاء جميع أفراد الشعب على أساس الخضوع لتلك السلطة، فكيف يكون الخضوع؟

                           *****

تشريع الجزية:

إنّ موضوع الخضوع بالنسبة للمسلمين، يكون بالالتزام بمفاهيم الإسلام في عقيدته وشريعته وأسلوبه في العمل والحياة، في باب النظريّة والتطبيق، لأنّ ذلك هو معنى الانتماء إلى الإسلام على مستوى الحكم والعقيدة والحياة، تماماً كأيّة أُمّةٍ تلتزم بعقيدةٍ معيّنةٍ ونظام معيّن إذا عاشت في داخل الإطار الذي تحكمه تلك العقيدة وذلك النظام، وأمّا بالنسبة لغير المسلمين، الذين لا يريد الإسلام أن يفرض عليهم أحكامه في كثيرٍ من القضايا العبادية والقتالية والحياتية المتعلّقة ببعض الأوضاع والعادات، فلا بدّ له من فرض سلطته بطريقةٍ أخرى، وهي فرض ضريبةٍ تابعةٍ في تقدير كميّتها ونوعيتها لتقدير وليّ الأمر الذي يدرس المسألة من موقع مصلحة الإسلام العليا، ودراسته للواقع الذي يعيشه هؤلاء من ناحية واقعهم المالي ونحوه. وليس لهذه الضريبة التي تسمّى بالجزية، أيّ مدلول نعسفيٍّ في ما يتعلّق بإنسانية هؤلاء، بل هي على العكس من ذلك، ذات مدلولٍ واقعيّ يتحرّك من موقع النظرة إلى الأعباء التي يتحمّلها الحكم الإسلامي، في ما يحمله من مسؤولية حماية هؤلاء ورعايتهم وتوفير الضمانات الحقيقيّة لوجودهم، مع عدم تحميلهم أيّة مسؤولية في الدخول في الحروب التي يخوضها المسلمون ضدّ الآخرين ممّن يدينون بدينهم، أو ممّن يختلفون عنهم في ذلك، وعدم مطالبتهم بالضرائب الأخرى المفروضة على المسلمين. ولوليّ الأمر أن يعفو عنها في بعض الظروف، وله أن يخفّف منها في بعض آخر، ما يعطي المسألة مرونةً تشريعيةً تفسح المجال لكثير من التوسعة والتغيير.

ولسنا هنا من أجل الدخول في عمليةٍ توفيقيّةٍ تبريريّةٍ أو دفاعيّةٍ في الرّد على الذين أثاروا النكير على الإسلام في تشريعه الجزية على أهل الكتاب، سواء أكانوا من أهل الكتاب أم من غيرهم، في ما أرادوا به تشويه صور التشريع الإسلامي للحياة، بل نحن ـــ هنا ـــ لاستلهام الواقعية التشريعيّة التي تواجه المسألة من قاعدتها الحقيقيّة، وهي قاعدة التعامل مع الأشياء والأشخاص من خلال دراسة الواقع الذي يريده الإسلام لنفسه ولاستمراره في ما يريده من سلطة الحكم والتشريع والحياة، بالإضافة إلى دراسة حقوق الآخرين بالطريقة التي تتناسب مع أهداف الإسلام الحياتية.

وقد نستطيع التأكيد على الوجه الإيجابي المشرق للتشريع الإسلامي في هذا المجال، حيث راعى في الإنسان غير المسلم مشاعره الدينيّة، إذ قد يضطر إلى محاربة شخص أو جماعة من أهل دينه في ما لو فرض عليه القتال مع المسلمين في معاركهم الموجّهة إلى أمثال هؤلاء، كما جعل لهم الحريّة في ممارسة كلّ شعائرهم التي يألفونها ويقدّسونها ممّا لا يتنافى مع النظام العام، وهو ما قد لا نجده في أيّ نظام آخر غير الإسلام.

                           *****

القرآن يصف أهل الكتاب بعدم الإيمان:

وهنا يبرز سؤال: كيف يصف القرآن أهل الكتاب بهذه الأوصاف التي لا تتناسب مع طبيعة الانتماء الذي يفترضه ما يتضمّنه الكتاب من الإيمان بالله وشرائعه ودينه وباليوم الآخر، وذلك في قوله تعالى في هذه الآية: {قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ}، واختلف هنا حول المراد بالرسول في قوله {مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ} فهل المراد به رسلهم الخاصون كعيسى (عليه السلام) بالنسبة للنصارى، وموسى (عليه السلام) بالنسبة لليهود. الخ، أم المراد به محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، باعتباره آخر الأنبياء؟؟ ذهب بعض المفسّرين أن المقصود به النبيّ محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، ولكنّه ـــ في ما يبدو ـــ لا ينسجم مع جوّ الآية التي تريد التأكيد على عدم التزامهم بالكتاب في ما يشرّعه كتدليلٍ على عدم جدّيتهم في الانتماء مع المحافظة على صفتهم تلك في طبيعة الموقف {وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ} الذي أنزله الله على رسله في إسلام الفكر والقلب والحياة لله، ما يجعل الإنسان في حركةٍ دائمةٍ في خطّ الرسالات الواحد، مهما اختلفت تفاصيلها من خلال اختلاف الزمن الذي يحتوي هذه الرسالة أو تلك، {مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ} من اليهود والنصارى والمجوس، في ما جاءت به بعض الروايات التي تذكر أنّ لهم كتاباً ونبيّاً قتلوه {حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} من خلال ما يمثّله ذلك من الخضوع للسلطة الإسلامية، في مواجهة حالة التمرُّد والكبرياء التي كانوا يعيشونها قبل ذلك.

                           *****

كيف نفسّر ذلك؟

ربّما يبدو أنّ الآية تمثّل حالةً جزئيةً من حالات أهل الكتاب، على أساس أنّ هناك فريقين من أهل الكتاب، فمنهم المؤمنون الذين يلتزمون بالكتاب بكلّ فكره وشريعته وأسلوبه، ومنهم الذين لا يعيشون الكتاب إلاّ أمانيَّ، ولا يجدون فيه إلاّ واجهةً للموقع، بعيداً عن عملية الإيمان الحيّ الذي يتحرّك في خطّ الفكر والروح والعمل، وقد جاءت هذه الآية ـــ على أساس هذا الرأي ـــ لتأمر بقتال الفريق الثاني الذي يمثّل الخطر الكبير على الإسلام والمسلمين، هذا الفريق الذي يتستَّر بالدين كقناعٍ مزيّف يخفي الحقيقة الواقعية في داخله، وهي الكفر في العقيدة والعمل. وربّما نستوحي ذلك من الآيات المتعدّدة التي تتحدّث عن هذين الفريقين من أهل الكتاب، كما في قوله تعالى: {مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران : 110] وقد نستفيد ذلك من ظهور كلمة "من" التي تفيد التبعيض، لا البيان والتوضيح.

ولكن هناك رأياً آخر يفسّر بطريقةٍ أخرى، فيؤكّد على أنّ هذا الحكم شامل لأهل الكتاب بأجمعهم، مستدلاً بالسيرة التي جرى عليها المسلمون منذ عهد الدعوة الأول، في مواجهة أهل الكتاب بطلب الجزية منهم، كشرطٍ لمواطنيّتهم واحترام وجودهم في داخل المجتمع الإسلامي، من دون تفريق بين الفئات التي تؤمن بالكتاب كعقيدةٍ، وبين الفئات التي تنتمي إليه كقناع وكواجهة، هذا بالإضافة إلى الروايات التي تدلّ على مثل هذا الشمول.

أمّا تفسير فقرات الآية، كجوابٍ على السؤال، فيرتكز على أنّهم "لا يرون ما هو الحقّ من أمر التوحيد والمعاد وإن أثبتوا أصل القول بالألوهية، لا لأنّ منهم من ينكر القول بألوهيّة الله سبحانه أو ينكر المعاد، فإنّهم قائلون بذلك على ما يحكيه عنهم القرآن، وإن كانت التوراة الحاضرة اليوم لا خبر فيها عن المعاد أصلاً. ويستفيد ذلك من أنّه تعالى لم يفرّق في كلامه بين الإيمان به والإيمان باليوم الآخر، فالكفر بأحد الأمرين كفر بالله، والكفر بالله كفر بالأمرين جميعاً، وحكم فيمن فرق بين الله ورسله فآمن ببعض دون بعضٍ أنّه كافر كما قال: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً*أُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً} [النساء: 150 ـــ 151] ويتابع صاحب هذا الاتجاه وهو العلامة الطباطبائي في تفسير الميزان فيقول: "فعدّ أهل الكتاب ممّن لم يؤمن بنبوّة محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) كفّاراً حقّاً وإن كان عندهم إيمان بالله واليوم الآخر، لا بلسان أنّهم كفروا بآية من آيات الله وهي آية النبوّة، بل بلسان أنّهم كفروا بالإيمان بالله، فلم يؤمنوا بالله واليوم الآخر، كما أنّ المشركين أرباب الأصنام كافرون بالله إذ لم يوحّدوه وإن أثبتوا إلهاً فوق الآلهة. على أنّهم يقرّرون أمر المبدأ والمعاد تقريراً لا يوافق الحقّ بوجهٍ، كقولهم بأنّ المسيح ابن الله وعزيزاً ابن الله يضاهئون في ذلك قول الذين كفروا من أرباب الأصنام والأوثان، أنّ من الآلهة من هو إله أب إله، ومن هو إله ابن إله وقول اليهود في المعاد بالكرامة، وقول النصارى بالتفدية"(1).

                           *****

الكفر العملي والكفر النظري:

ولكنّ هذا الرأي لا ينسجم مع ظهور الآية في نفي الإيمان بالله واليوم الآخر، لأنّ الظاهر منها نفي هذا الإيمان من خلال المبدأ لا من خلال التفاصيل، ولا بدّ لنا من أن نفرّق في التعبير القرآني بين كلمة الكافر بشكلٍ مطلق، وبين الكافر بالله واليوم الآخر، فإنَّ من الممكن إطلاق الكلمة الأولى على الذين ينحرفون في تفاصيل الإيمان بالله أو بالنبوّة، من خلال ما يعبّر عنه ذلك من رفض للحقيقة الواضحة. أمّا الكلمة الأولى، فلا تنطبق إلاّ على الجحود بالأساس، إذا أردنا للتعبير أن يجري على سبيل الحقيقة، وليس في الآية التي ذكرناها دليل على الدعوى، لأنّها تتحدّث عن هؤلاء الذين يضمرون في داخلهم الكفر، ويحاولون اللّعب على مسألة الإيمان بالأسلوب المتلوّن الذي يوحي بارتباطه برسول دون رسول، في الوقت الذي لا يعيشون الإيمان بالأساس، وإن تظاهروا به.

ولهذا فإنّنا لا نجد في هذا الاستظهار انسجاماً مع ظهور الآية بحسب المفهوم العرفيّ منها.

ونستقرب منها أن تكون في مجال إعطاء صورةٍ عن الواقع الذي يعيشه هؤلاء الناس الذين لا يرتبطون بقضيّة الإيمان بشكل جدّي، بل يعتبرونه واجهةً لحياتهم، بعيداً عن قضية الالتزام بالمضمون، ليبقى لهم الشكل فقط. ولهذا فإنّهم لا يقفون أمام الحرمات التي حرَّمها الله عليهم، بل يتجاوزونها ويتلاعبون بها في عملية لفٍّ ودوران، ولا يدينون بدين الحقّ الذي يمثّل حقائق الرسالة الإلهية من خلال ما تشتمل عليه من مبادئ وتفاصيل، ولهذا لم يكن وجودهم في داخل المجتمع الإسلامي أمراً طبيعياً من دون ضوابط عمليّة تحدّد لهم حدودهم وتعرّفهم أصول العلاقات التي تربطهم بهذا المجتمع، ما لهم من حقوق وما عليهم من واجبات، فكانت الجزية هي المظهر للإخضاع لسلطة الحكم من خلال الشروط العادلة الواقعية التي تحفظهم في عقيدتهم وإنسانيّتهم، بالطرق التي لا تتنافى مع النظام العام.

وربّما كان الأسلوب القرآني في حديثه المتنوّع عن أهل الكتاب، شاهداً على ذلك، فقد جاء حافلاً بالآيات التي تعطي لنا صورة المجتمع الذي لا يعيش جدّية الإيمان، بل يمارسه بطريقةٍ شكليةٍ انتهازيّة، ويوحي لنا، بأنّ مظاهر التمرّد على الحقائق وعلى الأنبياء، تمثّل الدليل الواضح على أنّهم يفقدون في داخلهم واقعية الإيمان، لأنّ الذي يعيش الإيمان حقيقةً في الداخل، لا يهرب من الدعوة إلى التفكير والحوار، ولا يواجه النبوّات والأنبياء بالتمرّد والعدوان، بل يحاول الوقوف من ذلك موقف الإنسان الذي يريد أن يفحص المسألة من موقع الباحث عن الحقيقة.

إنّنا نفهم من الآية أنّها تريد أن تفرّق بين واقع الممارسة وشكلية الانتماء، لتبيّن الهوّة العميقة التي تفصل بينهما، ولهذا جاء التعبير بقوله: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ} للإيحاء بأنّهم لم يأخذوه بشكلٍ علميّ.

هذا من الجانب التفسيري للآية، أمّا ما نلاحظه من شمول الحكم بأخذ الجزية من الجميع، فقد يرجع إلى دليل آخر في ما نستفيده من غير الآية. وقد يرجع إلى اعتبار الظاهرة البارزة في مجتمعهم، كأساسٍ لتغليب الحكم على الجميع، باعتبار أنّ التفريق بين فريقٍ وفريقٍ في مجتمع مختلطٍ لا يعتبر أمراً عمليّاً. وربّما استوحينا الموضوع من دراسة طبيعة هذا الإجراء الذي لا يراد من خلاله السيطرة الذاتية التي تتحرّك من موقع العقدة، بل يراد منه السيطرة من خلال التنظيم، لأنّ المجتمع الذي تحكمه عقيدةٌ معيّنةٌ، بحيث يكون الحكم فيه ملتزماً بخطٍّ معيّنٍ، لا بدّ من أن يملك حكم أفراده الذين يؤمنون بتلك العقيدة، من خلال التزامهم العقيديّ الذي يحرّكهم نحو الطاعة والخضوع للنظام، أمّا الأفراد الذين لا يؤمنون بها، ولا يجدون أيّة حالةٍ دينيةٍ أو فكريّةٍ تفرض عليهم الالتزام، فلا بدّ من أن يحكمهم من خلال إخضاعهم للسلطة على أساس حالةٍ تعاقديّةٍ لا يكون فيها الحكم مجرّد طرف اخياريّ في التعاقد في مواجهة الطرف الآخر، بل يكون الطرف الأقوى الذي يفرض السلطة على الطرف الآخر من دون الإساءة إلى حقوقه الطبيعيّة في الحياة الكريمة الخاضعة للحكم المسؤول.

وبهذا نفهم كيف ينبغي للمسألة التنفيذية والتشريعية في هذا المجال، أن تكون شاملةً لأهل الكتاب بأجمعهم، ليطبّق عليهم حكم القانون في القضايا المتّصلة بالصالح العام، وليمارسوا حريّتهم العبادية والعملية في ما لا يتنافى مع الصالح العام، مع ملاحظة الاستمرار في الانفتاح على الجانب الفكري للمسألة من خلال الحوار، فلا يضطهدم فكرياً ليفرض عليهم الانتماء، بل يعمل دائماً على مخاطبة هذا الفكر المتميِّز عنه من موقعٍ فكريٍّ، وليس هناك إلاّ تطبيق القانون من أجل سلامة الجميع، وبهذا يمكن استفادة بعض موارد الحكم من خلال مدلول الآية، كما يمكن استفادة البعض الآخر من الأجواء الواقعية المحيطة بهذا المدلول.

وربّما كان من الملاحظ أنّ الجزية لم تذكر في القرآن إلاّ في هذه السورة، في هذه الآية تحديداً، ما قد يوحي بأنّ القرآن كان يركِّز الموضوع من ناحية المبدأ، من خلال معالجة الحالة القائمة في المجتمع الأوّل للدعوة، لتكون نقطة الانطلاق للتشريع الذي تتكفّله السُنّة النبويّة، في ما يلهم الله به نبيّه من تفاصيل الشريعة، وهذا باب يمكن لنا أن نفتحه في دراستنا القرآنية، لنقف ـــ من خلاله ـــ حيث يقف النص القرآني في مدلوله، فلا نحمّله أكثر ممّا يتحمّل، اعتماداً على أنّ التشريع يتّسع لأكثر ممّا يتّسع له النص، ما يؤدّي إلى التأويل، أو توسيع المعنى بعيداً عن ظاهر اللّفظ، بل نترك الأمر في تكامل التشريع إلى السُنّة التي جاءت لتعطينا توضيح ما أجمله القرآن، وتوسيع ما شرّعه من حيث المبدأ. إنّها ملاحظةٌ للتفكير وللمناقشة في ما نرحو أن نصل به إلى النتائج الصحيحة في الفهم القرآني الصحيح؛ والله العالم.

                            *****

القتال لبسط القانون لا للإخضاع:

ومن خلال ذلك، نستطيع أن نستوحي الفكرة الإسلامية، التي تضع مسألة الدعوة إلى القتال في نطاقها الطبيعي المعقول، فلا تكون عمليّة سيطرةٍ غاشمةٍ للقوّة ضدّ حريّة الإنسان وإرادته، بل تكون عملية إخضاع قانونيّ للسلطة الحاكمة في عمليةٍ تنظيميّةٍ دقيقةٍ. وهذا ما يمكننا أن نفهمه بقليل من التفصيل.

إنّ علينا أن ندرس الأسلوب العملي الذي يحاول الإسلام من خلاله إخضاع الناس لحكمه، فهو يعمل ـــ في البداية ـــ على أن يخطّط الطريق للوصول بهم إلى قناعاته الفكرية والعمليّة على أساس الدعوة إلى التأمُّل والتفكير والمناقشة والحوار الجدّي الذي يثير أمام الفكر مختلف القضايا المطروحة لدراستها بطريقة موضوعيّة هادئةٍ، ليكون الرفض أو التأييد من مواقع الفكر الذي لا يتعقّد من أيّة علامة استفهام ترتسم أمام الطروحات العقيديّة أو النتائج الأخيرة، بل يظلّ مع أجواء المعرفة التي يعتبرها حقّاً لطالبها حتى يصل إلى القناعة، بشرط أن تكون القضية قضية المعرفة، لا قضيّة العناد، لأنّ مسألة العناد لا تتّصل بقضية الحريّة، بل ترتبط بقضية العقدة المتأصّلة في النفس، المتحرّكة في خلفيّات العدوان.

                           *****

 

القتال إجراء وقائي:

فإذا لم يصل البحث إلى نتيجةٍ، ولم يمكن الوصول إلى قناعات مشتركة حول القاعدة العقيدية التي يرتكز عليها الحكم، سواءٌ كان ذلك عن عدم اقتناع أو عناد، كان من حقّ الحكم الشرعي أن يحمي وجوده واستمراره وتوازنه، وذلك بإخضاع هؤلاء للالتزام بمشروعية السلطة في الجانب العمليّ منها، إمّا بالدخول في النطاق الرسميّ للعقيدة، وذلك بإظهار الإسلام باعتباره الشكل القانونيّ للاعتراف بشرعيّة الالتزام بالقانون كلّه، أو بدفع الضريبة المحدّدة بقانونٍ معيّن ـــ وهي تسمّى الجزية ـــ في مقابل تحمّل الدولة مسؤولية رعايتهم وحمايتهم من كلّ عدوانٍ أو إساءةٍ أو انتهاكٍ لحرمتهم، وذلك بإدخالهم في ذمّة المسلمين وعهدهم، مع إعفائهم من كلّ الالتزامات التي لا تتناسب مع التزامهم الديني، كإدخالهم في الجيش الذي يحارب بعض إخوانهم في دينهم، أو لا يتناسب مع مصلحة النظام بشكلٍ عام. فإذا لم يوافقوا على ذلك ورفضوا كلّ أساس للالتزام بالشروط المطلوبة لصفة المواطن، كان ذلك دليلاً على أنّهم قد أعلنوا التمرّد على الإسلام والمسلمين، وعند ذلك يجوز قتالهم، لمنع التمرّد والتعدّي على نظام الأُمّة، حتى يدفعوا الجزية تحت ضغط القوّة، بعد أن امتنعوا عن دفعها المعبّر عن حالة السلم مع الدولة، بالرضا والقبول.

وفي ضوء ذلك، نفهم أنّه لا مجال للقتال في الحالات التي ينطلق منها التراضي بينهم وبين المسلمين بدفع الضريبة والاحتكام إلى عقد الذمّة، الذي يحفظ لهم صفة المواطنية بأفضل طريق.

                           *****

 

 

الجانب الإنساني في الجزية:

وربّما أُثيرت أمام هذه الضريبة بعض الشبهات التي تتحدّث عن الانتقاص من صفة الإنسانية والمواطنية لهذا الإنسان الذي لا يدين بدين الدولة، عندما يُفرض عليه أن يدفع الجزية صاغراً، ما لا يتناسب مع الأجواء التي تلتقي بالعدالة والحرية والمساواة في الإسلام؟

ولكنّنا لا نرى في هذا الجانب من التشريع أي انتقاص من إنسانية هذا الإنسان، كما ذهبنا في كلامنا عن تشريع الجزية في الصفحات السابقة ونضيف هنا، إمعاناً في البيان، أنّه ربما كان هذا التشريع بعض تأكيد على هذه الإنسانية، إذ قد نلاحظ ـــ في هذا المجال ـــ أنّ الإسلام لم يفرض عليه كثيراً من الضرائب المفروضة على المسلمين، ولم يحمّله الكثير من مسؤوليّاتهم التي لا تتناسب مع صفته الدينية كالقتال ونحوه، وجعل له في مقابل هذه الضريبة "الجزية"، حقّ الحماية والرعاية والمواطنية العامّة التي يكون له فيها ما للمسلمين من حرمات إنسانية، وعليه ما عليهم من مسؤولياتٍ بشكلٍ محدودٍ، تماماً كأيّة ضريبة داخليةٍ تفرض على المواطنين. وإذا كان قد أبعده عن بعض مواقع المسؤولية في الدولة، فليس ذلك من خلال التأكيد على اضطهاد دوره، بل لأنّ الدولة ترتكز على قاعدةٍ معيّنةٍ من الالتزام العقيديّ، يفرض على القائم بشؤونها في المواقع المتقدّمة أو الحيويّة أن يكون ملتزماً بفكر العقيدة ورسالتها وخطواتها العمليّة ومخلصاً لأهدافها، فليس من الطبيعيّ أن يوضع فيها الرافض لرسالتها، البعيد عن التزامها. وهذا أمرٌ لا يقتصر على الإسلام بل يشمل كلّ دولةٍ ملتزمةٍ.

وربّما كانت وجهة نظر هؤلاء منطلقة من واقع الدولة التي لا تنطلق من قاعدة الالتزام كأساسٍ للانتماء والحكم، بل من واقع الوجود البشري فيها، بعيداً عن أيّة فكرةٍ أو عقيدةٍ، ما يجعل من حقّ كلّ فرد في الدولة أن يتسلَّم الحكم في أيّ موقع من مواقعه، بل ربّما كان من حقّه أن يفرض ـــ بطريقة وبأخرى ـــ رأيه على الآخرين عند تسلّمه الحكم بوسائله الخاصّة. ونحن لا نؤمن بالدولة من هذا المنطلق، ولذلك فإنّ دراسة المعنى الإنساني وغير الإنساني في هذا التشريع أو ذاك، لا يخضع لمقياس واقع الدولة الآن، بل لمقياس الصفة الفكرية التي تطبع الدولة بطابعها الفكري والسياسي.

8 ـــ أُسس العلاقة مع اليهود والنصارى:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ*فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ*وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ أَهَـؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ} [المائدة: 51 ـــ 53].

                           *****

معاني المفردات:

{لاَ تَتَّخِذُواْ}: الاتخاذ هو الاعتماد على الشيء لإعداده لأمره، وهو افتعال من الأخذ والأخذ يكون على وجوه؛ تقول: أخذ الكتاب إذا تناوله، وأخذ القربان إذا تقبّله، وأخذه الله من مأمنه إذا أهلكه. وأصله: جواز الشيء من جهةٍ إلى جهةٍ من الجهات.

{أَوْلِيَاء}: جمع وليّ، وهو النصير لأنّه يلي بالنصر صاحبه.

{دَآئِرَةٌ}: الخطّ المحيط بالشيء، والمراد بها الدولة التي تتحوّل إلى من كانت له عمّن في يده، وهي تطلق في المكروه باعتبار أنّه يحيط بالإنسان إحاطة الدائرة بمن فيها، فلا سبيل لهم إلى الانفكاك منه بوجه، كما في مفردات الراغب(1).

{فَعَسَى}: قال في مجمع البيان: وعسى موضوعة للشك، وهي من الله تعالى تفيد الوجوب، لأنَّ الكريم إذا أطمع في خير يفعله، فهو بمنزلة الوعد به في تعلّق النفس به ورجائها له، ولذلك حقّ لا يضيع ومنزلة لا تخيب(2).

والظاهر أنَّ إطلاقها وارد بالنسبة إلى طبيعة الشيء من حيث كونه مستقبلياً لا يتيقّن بحصوله، ما يجهله في دائرة الشكّ، بقطع النظر عن القائل، فلا يكون الوجوب المذكور في كلام المجمع مدلولاً عليه باللّفظ، بل هو أمر مستنبط من دراسة كرم الله وجوده في ما يعد به من الخير.

{بِالْفَتْحِ}: القضاء والفصل، والمراد به هنا النصر.

{حَبِطَتْ}: قال الراغب في المفردات: حَبْطُ العمل على أضرب: أحدها: أن تكون الأعمال دنيويّة فلا تغني في القيامة غناءً، والثاني: أن تكون أعمالاً أخرويّة لكن لم يقصد بها صاحبها وجه الله تعالى، والثالث: أن تكون أعمالاً صالحة، ولكن بإزائها سيّئات توفى عليها، وذلك هو المشار إليه بخفّة الميزان. وأصل الحبط من الحَبَطِ، وهو: أن تكثر الدابّة أكلاً حتى ينتفخ بطنها(1).

 

يفرض الإسلام على المسلم أن يؤمن بالرسل أجمعهم وبالرسالات كلّها، ولكنّه يريد له أن يكون واقعياً في علاقته بالذين ينتمون إليها، وذلك من موقع السلوك العدواني الذي التزموه في علاقتهم بالمسلمين، لأنّهم يعتقدون بطلان عقيدة المسلمين في ما يعتقدونه من رسول وفي ما يتبعونه من شريعة، ولأنّ طبيعة التحرّك الإسلامي في مجال الدعوة التي قد تعارض بعض مفاهيمهم الخاطئة للرسالات التي ينتمون إليها، أو في مجال السلطة التي كان الإسلام يعمل من أجلها على أساس عقيدته وشريعته، قد تخلق بعض العقد الداخليّة، وقد تثير بعض المشاكل العمليّة والفكريّة، ما يفرض فرزاً في المواقع وتعقيداً في المواقف، والتقاءً على المعارضة للإسلام، وقد أثبتت الممارسات التاريخيّة في حال ظهور الإسلام وبعده بعض ذلك. ولهذا أراد الإسلام للمؤمنين أن يعيشوا في داخل حياتهم وخارجها الخطوط الفاصلة العازلة، بين المواقع المتنوّعة والمواقف المختلفة، من أجل الحفاظ على الجانب الفكري للعقيدة، فلا يتأثّر بالانحراف الذي قد يأتي من المجاملات التي تساهم في تمييع الموقف، من أجل التأكيد على سلامة المسيرة، فلا تهتزّ أمام الأوضاع العاطفيّة والعلاقات الذاتيّة البعيدة عن التركيز.

                           *****

المحبّة والتعاون أساس قوّة العلاقات الإنسانية:

وربَّما كان الإسلام يتحرّك في هذا التأكيد من قاعدةٍ إنسانيّةٍ ثابتة، وهي أنَّ الأساس في قوّة العلاقات بما تفرضه من محبّةٍ ومودّةٍ ونصرةٍ وتعاون، هو القاعدة الفكريّة والروحيّة التي ينتمي إليها الناس، فهي التي تمنح الثبات للعلاقة، وتثبت المواقف في العمل، سواءٌ في ذلك الحالات التي تمثِّل التوافق في كلّ التفاصيل، أو الحالات التي تتوافق فيها القواعد العامّة على أكثر من تفصيل، فإذا كانت العلاقات تقوم على أساس التوافق، أمكن لها أن تساهم في إيجاد صيغةٍ للوحدة أو للتنسيق، أمّا إذا كانت تقوم على أساس التحالف، وكان التحالف يتحرّك في اتجاه النوازع الذاتيّة التي تحكم الذّات، فلا بدّ من أن يكون الموقف قائماً على أساس الحذر الذي يدعو إلى الترقّب والتأمُّل في رصد الأوضاع والعلاقات على أساس من الواقعيّة، لأنَّ الاستسلام للثقة في الأجواء التي لا تدعو إلى الثقة بل تدعو إلى العكس، يعتبر لوناً من السذاجة العمليّة. وقد كان التاريخ الذي عاشه المسلمون مع اليهود مليئاً بالمشاكل والتآمر والكيد والفتن وبالمستوى الذي كاد أن يربك المسيرة الإسلاميّة في العهود التي رافقت حركة الرسالة، كما كان السلوك الذي أحاط بالمسلمين من قِبَل النصارى يوحي بشيء من هذا القبيل في ما يختزنه المستقبل.

المناعة الداخلية ضرورة إزاء العلاقة مع اليهود:  

وفي ضوء ذلك كلّه، أراد الإسلام من المسلمين أن يتحفَّظوا في إيجاد علاقة الولاية بينهم وبين هؤلاء، لتبقى الحواجز النفسيّة الفكريّة سبيلاً من سبل المناعة الداخليّة البعيدة عن حالة الميوعة والذوبان، ولتبقى التحفُّظات العملية أداة من أدوات الحماية الواقعيّة للحياة الإسلامية من خلفيات الخطط الخفيّة المضادّة المرسومة من قِبَل الآخرين. وهذا ما نستوحيه من جوّ هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} فقد نلاحظ ـــ في الفقرة الأخيرة ـــ نوعاً من أنواع الإيحاء الخفي بوجود محوريةٍ داخليةٍ بين هؤلاء، سواء أريد من كلمة البعض اليهود فيما بينهم، أو النصارى فيما بينهم، كما يفهمه بعض المفسّرين الذين يرجحون ذلك على أساس العداوة التاريخيّة بين اليهود والنصارى، ما يبعّد تقرير الولاية فيما بينهم، أو أريد منهم اليهود والنصارى فيما بينهم، لأنَّهم إذا افترقوا في خلافاتهم الذاتيّة، فإنَّهم يتّفقون عندما يكون المسلمون الهدف المشترك الذي يتوحّدون حوله. إنَّ هذا التأكيد على هذه الولاية المحورية، يؤكّد عدم استجابتهم للولاية في ما يتعلّق بعلاقتهم بالمسلمين، وانطلاقهم في خطّ السلبيّة تجاههم بكلّ ما لذلك من نتائج وآثار. وفي هذا الجوّ، نعرف أنَّ القضية التي يؤكّدها الإسلام، لا تعيش في خطّ الروح العدوانيةّ التي يعمل على تعبئة المؤمنين بها ضدّ غيرهم من أصحاب الديانات لتعميق الشعور بالحقد والبغضاء في أوساط المجتمع المؤمن في مواجهة المجتمعات الأخرى، بل القضية هي إيجاد الفواصل الفكريّة والروحيّة التي تساعد على المنع من وقوع المسلمين في قبضة الميوعة الفكريّة والسذاجة العمليّة، اللّتين قد تحصلان من انجذابهم إلى ظواهر الأشياء وابتعادهم عن خلفياتها وجذورها، ليكون التعايش ـــ عندما يفرضه الواقع ـــ منطلقاً من حالة وعيٍ واقعيّةٍ، في ما يتعاون عليه المجتمع من الشؤون العامّة والقضايا المشتركة، لا من حالة استغفالٍ لأحد الفرقاء للآخر في ما يريده من أوضاع وعلاقات.

ولهذا رأينا الإسلام يؤكّد في أكثر من آيةٍ قرآنيةٍ على بعض الجوانب الإيجابيّة لدى النصارى في سلوكهم العملي، من خلال الخطوط الأخلاقية الموجودة لديهم في تعاليمهم، في مقابل اليهود الذين اعتبرهم {أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ} [المائدة : 82]، لانطلاقهم من كلّ المواقع السلبية ضدّهم. ونراه يؤكّد أنَّ الخطّ الفاصل الذي يحكم إيجابية العلاقات وسلبياتها هو السلام الذي يشعر به الآخرون تجاه المسلمين وعدم العدوان في ما يمثِّله من تصرّفات وأعمال، الأمر الذي يدعو المسلمين إلى البرّ والعدل في التعامل معهم، فليست القضية أنّ هناك حقداً يُراد تأجيجه في الصدور، بل القضية أنَّ هناك وعياً يراد تعمقيه في العقول، وأنّ هناك واقعيّةً يُراد تأكيدها في المواقف، ولعلّ هذا هو السرّ في هذا التشديد على الذين يتولّونهم من المسلمين، {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} لأنَّ ذلك يوحي باللامبالاة لدى هؤلاء في ما يفكّر به الآخرون من أفكار، وفي ما يتّخذونه من مواقف، ويؤدّي بالنتيجة إلى ابتعاد اللامبالين عن مجتمع المسلمين، واقترابهم من مجتمع الكفر، كما نجده في بعض الفئات التي قد تنجذب إلى خطّ الأعداء على أساس ما تأمّل لديهم من أطماعٍ وشهوات، لتكون في النهاية سلاحاً بيد الكافرين ضدّ المسلمين، فيظلمون أنفسهم بالانحراف عن خطّ الحقّ، ويظلمون إخوانهم بالسير في خطّ الأعداء {إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} الذين اختاروا لأنفسهم السير في طريق الانحراف العقيدي والعملي بالتولي لغير المسلمين، فتركهم لاختيارهم السيّئ الذي تمرَّدوا فيه على خطّ الهداية الطبيعيّة والإيحائيّة الإلهيّة، وأوكلهم إلى أنفسهم، ولم يتدخّل لإرجاعهم إلى خطّ الهدى بطريقةٍ غير اعتياديّة، لأنّ الله لا يفرض الهداية على الذين يرفضونها بإرادتهم.

                           *****

 

 

 

المراد من كلمة الولاية:

ولكن، ما المراد من كلمة "الولاية"؟ هل المراد بها المحبّة والمودّة؟ أو المراد بها النصرة والمعاونة؟ قد يختلف المفسّرون في ذلك، لأنّ الكلمة تتّسع لهذا المعنى ولذاك، كما تتّسع لغيرهما، ولكنّ الظاهر من الجوّ الذي تعيش فيه الآية أنّ المراد بها العلاقة الوثيقة التي تمثِّل لوناً من ألوان الالتزام بالجماعة على أساس العوامل الذاتية التي توحي بذلك، ما يجعل المحبّة والنصرة والمعاونة بعضاً من آثارها، لا معنىً من معانيها، وهذا ما نفهمه من كلمة الموالاة التي تستعمل في علاقة الأُمّة بقيادتها، أو ببعضها، فإنَّها تعني العلاقة الشديدة المنطلقة من خطّ الالتزام بالشخص أو الجماعة، فلا يبقى هناك مجال للاختلاف المذكور، والله العالم.

                        *****

المنافقون وتولّي غير المسلمين:

هذه هي القاعدة الإسلاميّة التي تفرض الجانب السلبي في الولاية بين المؤمنين وبين غيرهم من أهل الكتاب. ولكنَّ بعض المسلمين ينحرفون عن هذه القاعدة، لأنَّ في قلوبهم مرضاً ناشئاً من ضعف الإيمان وفقدان الثقة بالله، فتراهم يلهثون خلف هؤلاء ويسارعون فيهم، فيندمجون في داخل مجتمعاتهم حتى يحسبهم الناظر أنَّهم منهم، في أسلوب العلاقة والتعامل والموقف، لأنّهم يخافون أن ينهزم المسلمون أمام اليهود والنصارى وتدور الدائرة عليهم، ما يعرّضهم للخطر ويؤدّي بهم إلى الهلاك. ولذلك كانت الخطّة أن يتنازلوا ويخضعوا ويقدّموا لهم فروض الطاعة والعبوديّة، ليحصلوا على الأمن والطمأنينة، وتلك هي حُجّة المنافقين في كلّ زمانٍ ومكان، فهم لا يتحرّكون من مواقع العقيدة، ولا ينطلقون من مواقع التضحية، بل يواجهون القضيّة بمنطق المنفعة والطمع والشهوة، في الوقت الذي يفرض عليهم الإيمان بالله أن يظلُّوا على خطّ الأمل الأخضر برعاية الله للمؤمنين {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ} للمسلمين على الكافرين {أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ} في ما يدفع به عنهم من ضرٍّ أو يجلب لهم من نفع، وحينئذٍ تنكشف أوضاع هؤلاء المنافقين أمام الحقيقة الواضحة، {فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ}. ويقثف المؤمنون ليسجّلوا هذا الموقف ضدّ المنافقين الذين قد تفاجئهم الهزيمة التي يقع فيها الكافرون، فيظهر عليهم الألم والهلع، فينكشف أمرهم للمؤمنين {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ أَهَـؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ} فماذا يُمثِّل هؤلاء الآن أمام الهزيمة التي كشفت زيفهم ونفاقهم، وماذا تُمثِّلون أنتم في مواقفكم المهتزّة بفعل النتيجة المريرة من خيبة الأمل؟ إنَّ النهاية الأليمة هي التي تنتظر الجميع {حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ} وتحوَّلت كلّ جهودهم إلى جهود ضائعة، فلا مجال لديهم إلاَّ للحيرة والقلق والضياع.

                           *****

عبر لا بدَّ منها للمسلمين:

ويبقى للمسلمين الدرس العملي المتحرّك في الواقع الذي يبعث فيهم روح الوعي والحذر للفئات الأخرى التي تختلف معهم في الدين والقضايا الحيويّة المتّصلة بالعلاقات العامة، فلا يستسلمون للسذاجة العاطفيّة التي قد تجعلهم يسقطون تحت تأثير الخوف من المستقبل، الذي قد يدفع الآخرين إلى الواجهة من السلطة ويرجع المسلمين إلى الخلف، فيحاولون الارتباط بهم لحماية أنفسهم، فيفقدون الكثير من صلابة الموقف واستقامة الخطّ، في الوقت الذي لا يحصلون فيه على شيء ممّا قصدوه،ـ بل قد يحصلون على العكس من ذلك إذا انتصر المسلمون وانهزم الكافرون. إنَّ الارتباط السياسي والاقتصادي والديني بالأجانب أمر مرفوض من الإسلام نفسه، لأنّه قد يعرض المسلمين للوقوع في التهلكة السياسيّة والاقتصاديّة والأمنيّة، ويؤدّي بهم إلى فقدان استقلالهم وقدرتهم على تقرير مصيرهم، وهذا ما نلاحظه في هذه الأيام من تحوّل المسلمين إلى وجودٍ منسيٍّ في الواقع السياسي العالمي الذي يقوده المستكبرون في الأرض، فلا يسمحون لهم بحريّة الحركة في سياستهم واقتصادهم وأمنهم في قليلٍ أو كثير.

                           *****

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

العمل    

قيمة الذكر والأنثى بالعمل الصالح ـــ العمل صورة الشخصية الداخلية ـــ بقاء الأعمال الصالحة ـــ محدّدات قيمة أعمال الناس ـــ الواقعية في العمل الإسلامي ـــ الإيمان وعلاقته بالسلوك الخيري الاستعراضي ـــ البعد التغييري والعبادي للعطاء ـــ البرّ والتقوى أساس التعاون في الإسلام.

 

 

 

 

 

 

 

1 ـــ قيمة الذكر والأنثى بالعمل الصالح:

{مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [النحل: 97].

                           *****

{مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً}. ليس في الإسلام فرق بين الرجل والمرأة لجهة تقييم الأعمال وتقدير النتائج على مستوى الثواب والعقاب، وليس لأيّ منها خصوصيّةٌ في حساب المسؤولية إلاّ عمله وما يمثّله من خلفيّات روحيّة فكرية، وما يتضمّنه من جهدٍ وعناء. وبذلك كانت إنسانية المرأة في امتدادها الروحي والعملي، أمام الله، مساوية لإنسانية الرجل، فهما سواء في عبوديّتهما لله، وفي مسؤوليّتهما أمامه. ولكلّ منهما بعد ذلك خصوصية دور تمليه خصائصه التكوينية وما فيها من إمكانيات العطاء للحياة.

وللعمل الصالح قيمته الخاصة عند الله، عندما يرتكز على قاعدة العقيدة التي تجعل منه شيئاً ثابتاً في النفس، وحركةً فاعلةً في العقل والروح والشعور، لتصبح طبيعته ممتدةً بامتداد الروح الذي أوحى به، والفكر الذي انطلق منه، والآفاق التي عاش فيها، لأنّ هناك فرقاً بين العمل الذي ينطلق من عادةٍ ذاتيةٍ أو من تقليدٍ اجتماعيٍّ، أو من مزاجٍ شخصيّ، أو من حالةٍ فكريةٍ طارئةٍ لا عمق روحي لها في شخصية الإنسان الفكرية، وبين العمل الذي ينطلق من قاعدةٍ فكريةٍ واسعةٍ شاملةٍ، تتكامل فيها الأعمال، وتتوزَّع فيها الأدوار وتغذّي بعضها بالمعاني التي يحملها البعض الآخر.

ولهذا أكّدت الآية على ارتباط قيمة العمل الصالح بالإيمان بالله، لأنّ هذا الارتباط بالله يخرج العمل عن بعده الذاتي الخاص بشخصٍ معيّن، ويجعل منه تجلياً عملياً لحقيقة ذاك الارتباط، على أساس حاجة الحياة إليه، لا على أساس حاجة العامل إلى نتائجه المادية. حتّى أنّ الإنسان قد يقوم بالعمل الصالح يفضّل ما يحبّه الله على ما تحبّه نفسه. وهذا ما يمنح العمل امتداداً في حياة الإنسان، بحيث لا يخضع لاختلاف حالته المزاجية له، أو لاختلاف الظروف المحيطة بحياته.

إضافة إلى أنّ الله يريد للحياة أن تتحرّك من خلال عبوديّتها له وتوحيدها إيّاه، في حركة الطاعة، ما يفرض وجود علاقةٍ عميقةٍ بين الإيمان بالله وماهية  العمل، يستحقّ الإنسان على أساسها الأجر من الله، لأنّه إذا كان قد عمل لغير الله أو حالةٍ مزاجية، فليس له أيّ حقّ في الأجر، إذ لا علاقة لله بالعمل، ليستحقّ مقابله شيئاً عنده.

وفي ضوء ذلك، جاءت الآية لتؤكّد على شخصية العامل المؤمن بالله، بالإضافة إلى طبيعة العمل، بحيث تتّصل الصفة الذاتية للعقيدة في فكره، بالصفة الموضوعية للعمل الصالح، فليس للكافر على الله شيء، وإن كان عمله جيّداً في نفسه. وربّما كان للعمل الصالح في نفسه بعض الآثار والنتائج المادية التي قد تكون بمثابة الأجر التكويني الذي يجعله الله للعمل، ليستمرّ في وجوده الفاعل من موقع الخصائص الذاتية له، إذا لم تكن له دوافع إيمانية وروحية تتّصل بالله.

                           *****

الحياة الطيّبة:

أمّا مسألة الحياة الطيّبة، ما هي؟

هل هي في الدنيا، أو في الآخرة؟ وإذا كانت في الدنيا، فكيف نفسّر المشاكل والصعوبات المادية والمعنوية التي تجعل من الحياة سجناً للمؤمن في مقابل الرفاهية والنعيم والغنى والقوّة التي يعيشها الكافر لتكون الدنيا جنّة له؟ على ما ورد: "إنَّ الدنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر".

ذكر بعضهم أنّ المقصود بالحياة ليست هي الحياة المادية التي يعيشها الإنسان المؤمن الحسّ والغريزة، بل هي الحياة الروحية المعنوية، ففي الحياة أشياء كثيرة غير المال تطيب بها الحياة في حدود الكفاية، فيها الاتصال بالله والثقة به والاطمئنان إلى رعايه وستره ورضاه، وفيها الصحّة والهدوء والرضى والبركة وسكن البيوت ومودات القلوب، وفيها الفرح بالعمل الصالح وآثاره في الحياة.. وليس المال إلاّ عنصراً واحداً يكفي منه القليل، حين يتّصل القلب بما هو أعظم وأزكى وأبقى عند الله.

ويؤكّد صاحب الميزان هذا المعنى، بطريقةٍ أخرى فيقول: "الجملة بلفظها دالّة على أنّ الله سبحانه يكرم المؤمن الذي يعمل صالحاً بحياةٍ جديدةٍ غير ما يشاركه سائر الناس من الحياة العامة، وليس المراد به تغيير صفة الحياة فيه وتبديل الخبيثة من الطيّبة مع بقاء أصل الحياة على ما كانت عليه، ولو كان كذلك لقيل: فلنطيبن حياته. فالآية نظر قوله: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} [الأنعام: 122] وتفيد ما يفيده من تكوين حياةٍ ابتدائية جديدة". ويرى أنّ الله يعطيه من العلم والقدرة ما ليس لغيره، وهما "يمهّدان له أن يرى الأشياء على ما هي عليه، فيقسِّمها قسمين: حقّ باقٍ، وباطل فانٍ، فيعرض بقلبه عن الباطل الفاني الذي هو الحياة الدنيا بزخارفها الغارّة الفتّانة ويعزّ بعزّة الله، فلا يستذلّه الشيطان بوساوسه ولا النفس بأهوائها وهوساتها ولا الدنيا بزهرتها لما يشاهد من بطلان أمتعتها وفناء نعمتها.

ويتعلّق قلبه بربّه الحقّ الذي هو يحقّ كلّ حقّ بكلماته، فلا يريد إلاّ وجهه ولا يحبّ إلاّ قربه، ولا يخاف إلاّ سخطه وبعده، يرى لنفسه حياةً طاهرةً دائمةً مخلّدة لا يدبِّر أمرها إلاّ ربّه الغفور الودود، ولا يواجهها في طول مسيرها إلاّ الحسَن الجميل، فقد أحسن كلّ شيءٍ خلقه، ولا قبيح إلاّ ما قبحه الله من معصيته. فهذا الإنسان يجد في نفسه من البهاء والكمال والقوّة والعزّة واللّذة والسرور ما لا يقدّر بقدر، وكيف لا، وهو مستغرق في حياة دائمةٍ لا زوال لها ونعمةٍ باقية لا نفاذ لها ولا ألم فيها ولا كدورة تكدّرها، وخير وسعادة لا شقاء معها".

وهذا تفسير جميل، وتحليل جيّد للمعاني الروحية التي يختزنها الإيمان في نفس المؤمن العامل بالصالحات ويثيرها في مشاعره وأجوائه، ولكنّ المسألة هي التقاء هذا التحليل مع سياق الآية التي وردت لبيان الجزاء الذي يمنحه الله للإنسان الذي يعمل الصالحات وهو مؤمن، ما يوحي بأنّ هذه الحياة التي يمنحها الله له مفصولةٌ عن الواقع الذي يعيشه الآن، وليست حالةً وجدانيةً أو عملية في دائرته. وقد نلاحظ أنّ ما ذكره هذان المفسّران الجليلان وغيرهما، هو من آثار الإيمان، بينما تعتبر الآية أنّ الحياة الطيّبة جزاء العمل الذي ينطلق من الإنسان المؤمن، والله العالم، ولعلّ الأقرب، هو أن يكون المراد منها الدار الآخرة، أو الجنّة، أو ما أشبه ذلك.

{وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} وقد تقدّم الحديث عمّا يماثل تفسير هذه الفقرة في الآية السابقة. وقد يخطر بالبال أنّ المراد بالأحسن ليس ما يقابل الحسن، بل ما يقابل السيّئ، وذلك في ما نلاحه دائماً في مجال الحديث عن الثواب والعقاب، في الحديث عن الحسنة في مقابل السيّئة، ما يوحي بأنّ المراد من الأحسن هو الحسنة، كما قد نلاحظ ذلك في قوله تعالى: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ} [الإسراء : 53] فإنّ المراد به ـــ كما يظهر ـــ الكلمة الحسنة الطيّبة مقابل الكلمة السيّئة الخبيثة التي يوحي ويعبث من خلالها الشيطان، لا في مقابل الكلمة الحسنة، والله العالِم.

                           *****

2 ـــ العمل صورة الشخصية الداخليّة:

{وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَؤُوساً*قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً} [الإسراء: 83 ـــ 84].

                           *****

معاني المفردات:

{وَنَأَى بِجَانِبِهِ}: بَعُدَ بأحد شقّيه: اليمين أو اليسار. وهو كناية عن استكباره وتعاظمه.

{شَاكِلَتِهِ}: طريقته ومذهبه. ويراد بها نيّته.

                           *****

يتناول القرآن طبيعة الإنسان الخاضعة للعوامل المباشرة في حياته، التي يستسلم من خلالها للانفعالات السريعة المتّصلة بالجانب الظاهر من الواقع دون النفاذ إلى العمق، فيؤدّي به ذلك إلى فقدان التوازن في النظرة والموقف.

{وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ} فأعطيناه الصحّة والأمن والمال، وسهّلنا له أمور الحياة، فأصبح في المستوى الكبير من الراحة والنعيم والعلوّ في الموقع. {أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ} وتولّى عن الله، وابتعد عنه، وانقطع عن الاتصال به، كمن يعرض بوجهه عن صاحبه ويتّخذ لنفسه موقعاً بعيداً عنه، في تعبيرٍ عن انقطاع الصلة الحميمة به، أو عن العلو والاستكبار. فينسى الله، ويغفل عن عمق الصلة الكونية التي تربط كلّ شيء من حوله به ـــ تعالى ـــ في ما يتقلّب فيه من النِعَم، أو ما يتحرّك فيه من الأوضاع، فليس هناك نعمةٌ إلاّ من الله خالق كلّ شيء. ولكنّ المشكلة في الإنسان، أنّه لا يتعمّق في خصائص الواقع في نظرة تأملٍ وتفكيرٍ ليخلص إلى أنّه لا يملك لنفسه ضرّاً ولا نفعاً، كما لا يملك أيّ شيء في الحياة إلاّ بالله، ما يفرض عليه أن يفكّر بالله في كلّ موقع من مواقع النعمة، وفي كلّ مظهر من مظاهر النجاح، حتى طاقاته الفكرية والجسديّة، التي يحرّكها في سبيل الحصول على موارد الحياة، فهي مظهرٌ لقدرة الله في تنظيم وجوده الجسدي والعقلي، الذي تتحرّك أجهزته بقدرة الله، ولذا فإنَّ عليه أن لا يستسلم للغفلة وللشعور بالذاتية ولشعور القوّة والاستقلال عن الله عندما يواجه مواقع القدرة والنعمة في حياته، لأنّ الله الذي خلقها قادرٌ أن يجمّدها في أيّة لحظة.

{وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَؤُوساً} وهذه هي النتيجة للارتباط الكلّي بالعناصر المادية المحيطة به، والانشداد إليها كمصدرٍ وحيد للقوّة، فإذا انفصلت عنه، وانطلقت الظروف المعاكسة التي تثير في حياته الخوف والجوع والفقر، فإنّه يسقط أمامها ويستسلم لليأس، وربّما تؤدّي به الصدمة إلى الهلاك، لأنّه يجد أبواب الأمل موصدةً أمامه، ونوافذ الحياة مغلقةً في وجهه. وقد تتحرّك الصدمة في اتجاهٍ آخر، فتهزّ مشاعره، وتزيل الضباب عن عينيه، وتفتح قلبه على الله في قدرته المطلقة على حماية الإنسان من حيث لا يشعر، ورزقه من حيث لا يحتسب، فيرجع إليه في ابتهال الخاضع، وإنابة المنيب، وروحية العبد الضعيف الذي يستمدّ القوّة من الله عند ساعة الشدّة.

إنّه الإنسان الضعيف في حال قوّته وضعبه، فهو الضعيف حال القوّة، لأنّ نظرته امستغرقة في مظاهر القوّة المادية تضعف وضوح الرؤية عنده وإرادة الجديّة في حركة الحياة من حوله. فهو ضعيفٌ أمام الواقع القويّ المحيط به، إذ يشعر أنّه أكبر منه، ويتصاغر حجمه عنده، وهو الضعيف الذي ينسحق عندما يعيش اليأس والسقوط والانهيار أمام كلّ عناصر الضعف، ولا يحاول أن يستجمع عناصر القوّة من حوله، من خلال التطلّع إلى مصدر القوّة للحياة كلّها، وهو الله سبحانه.

وإذا كانت الآية تعرّضت للجانب السلبي في حياته، أمام الحالتين، وحاولت أن تُبرز الصورة المشوّهة لحركته، فإنّها لا تريد أن تعقّده أمام ذلك، بل تريد إثارة إرادة التحدّي في شخصيته، من أجل أن يتحرّك نحو مواجهة المستقبل من مواقع الإيمان الذي تتوازن فيه الشخصية في حالتي القوّة والضعف، فلا تطغيها القوّة، ولا يسقطها الضعف، بل تظلّ مشدودةً إلى الله، لتشعر أنّ القوّة منه، وأنّ الضعف يمكن أن يتحوّل إلى قوّة من خلاله، والمقصود بالشرّ، هو الحوادث التي تصيب الإنسان بنقص في جسده، أو في ماله، أو في عرضه، كالمرض والفقر والخوف والخسارة والهزيمة والموت، ولعلّ التعبير عنها بالشرّ، باعتبار انعكاسها السلبيّ على صاحبها. ولكنّنا إذا نظرنا إلى علاقتها بالواقع الكوني، فإنّنا نجد فيها انسجاماً مع الحكمة التي أقام الله الكون عليها، ما يجعلها خيراً بالنسبة إلى الواقع العام للإنسان، وإن كانت شرّاً ذاتياً بالنسبة إلى هذا الشخص بالذّات.

                           *****

{قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} إنّ العمل هو صورة الشخصية الداخلية للإنسان، لأنّه يعبّر عن العناصر الذاتية التي تتمثّل في الأفكار والمشاعر والأساليب والعلاقات. وذلك على أساس أنّ الإنسان إنّما يتحرّك من موقع العوامل الفكرية والنفسية والعاطفية التي توجّه حياته، وبذلك اختلفت أعمال الناس تبعاً لاختلاف مكوّناتهم الشخصية، فإذا كان الشخص ذا شخصية عقلانية هادئةٍ، فإنّه يواجه المشاكل بطريقةٍ موضوعيةٍ بعيدةٍ عن السرعة والارتجال، أمّا إذا كان ذا شخصيةٍ انفعاليةٍ ثائرةٍ، فإنّه يعالج القضايا بطريقةٍ انفعاليةٍ سلبيةٍ سريعة التأثّر بما حولها. وهكذا نجد الشخصية العالمة، والجاهلة، أو الشجاعة والجبانة، أو الكريمة والبخيلة.

وقفة مع حرية الإرادة:

ولكن قد يتساءل البعض، إذا كان العمل تابعاً للشخصية في مكوّناتها الذاتية، وفي عناصرها الخاضعة للمؤثّرات الداخلية من حيث المزاج، أو للمؤثّرات الخارجية من حيث الظروف والأوضاع، فأين كون موقع الاختيار وحرية الإرادة في تصرّفات الإنسان، ما دام خاضعاً لمزاجه الانفعالي أو العقلاني، أو لشخصيّته العالمة أو الجاهلة، وما إلى ذلك؟!

والجواب عن ذلك: أنّ المؤثّرات الداخلية أو الخارجية التي تمثّل عناصر الشخصية، قد تثير في حياة الإنسان الأجواء السلبية أو الإيجابية المتّصلة بها، ولكنّها لا تفرض نفسها عليه بحيث تلغي إرادته وتشلّ حركته، لأنّ هناك مساحةً واسعةً بين مفهوم الشخصية في الداخل من خلال المزاج، أو في الخارج من خلال الظروف، وبين مفهوم العنصر العقلي، الذي يدقّق ويحاسب ويحكم ويصحّح ويؤكّد الموقف، فقد جعل الله للعقل قوّةً مهيمنةً على المؤثّرات السلبية في حياة الإنسان، وأردفه بالوحي الذي يفصّل له الأمور وينظّم له الخطوط، وبذلك يبقى هناك مجالٌ للتغيير، وساحةٌ للإرادة الحرّة التي تضغط على المزاج بعقلٍ مفتوحٍ.

وبهذا يبطل السؤال الذي يقول: ما جدوى الرسالات التي توجَّه إلى الناس، إذا كان كلّ إنسان يعمل على شاكلته التي خلق عليها، أو التي اكتسبها من خلال ظروفه الموضوعيّة؟!

إنّ المسألة لا تتعلّق بحالةٍ ضاغطةٍ لا تترك مجالاً للاختيار أو للتغيير، بل بمناخٍ يثير في النفس عوامل الانحراف، ويحرّكها في اتجاه المعصية، في الوقت الذي يمكن للمناخ الآخر القادم من العقل أو من الوحي، أن يحوّل الخطوات في اتّجاهٍ آخر، ويضعف العوامل السلبية، ويقوِّي ـــ بدلاً منها ـــ العوامل الإيجابية في خطّ الاستقامة والطاعة.

وهذا ما قرّره الله في الآية الكريمة: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد : 11] التي أكّدت على قدرة الإنسان على تغيير نفسه، بتغيير الصورة الفكرية والشعورية الداخلية، كوسيلةٍ من وسائل التغيير العملي على صعيد الواقع.

وهذا ما يؤكّده الواقع في ما نراه من الأشخاص الذين يولدون في بيئةٍ شرّيرةٍ تضغط على طريقتهم في التفكير وأسلوبهم في الحياة ونوازعهم وتطلُّعاتهم في حركة الواقع من حولهم. ولكنّهم يتمرّدون على هذا الواقع في أنفسهم، على أساس موقف تأمّلٍ يوحي بالصفاء، أو موقف فكرٍ يقود نحو التحوُّل والتغيير، أو كلمة وحيٍ سمعوها، ففتحت لهم آفاقاً جديدةً من الحياة، أو تجربةٍ عاشوها فحرّكت في ذاتهم إرادة التغيير.

إنّ في نفس كلّ إنسانٍ شخصيةً متفحةً طاهرةً، ترقد في أعماق الأعماق، حيث تعيش ينابيع الفطرة ومواقع الصفاء في الروح، وربّما تطغى عليها شخصيةٌ أخرى تتحرّك في أجواء الغريزة وفي نوازع الحسّ، فتنطلق بالأعمال السلبية، كما تنطلق الشخصية الفطرية بالأعمال الإيجابية، وقد تتغيّر كلّ منهما في اتجاهٍ آخر، يغطّي هذا الجانب ليبرز مكانه جانبٌ آخر، ما يجعل للعقل وللوحي وللتجربة الواعية دوراً كبيراً في عملية التغيير. وهكذا يعمل كلّ إنسان على صورته الداخلية ووفق شاكلته الشخصية، ولكنّ الله مطّلعٌ على خفايا الأمور، في ما يتحرّك به الإنسان من نوازع وأفكار وشهوات ممّا يخفى أمره على الناس، أو ممّا تلتبس فيه النظرة إلى الواقع {فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً} لأنّ الله لا ينظر إلى مواقع الصورة في الخارج، بل إلى مواقعها في الداخل، ما يحدّد طبيعة التفاضل في الهدى، أو طبيعة الضلال والهدى.

                           *****

3 ـــ بقاء الأعمال الصالحة:

{وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً*الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} [الكهف: 45 ـــ 46].

                           *****

معاني المفردات:

{هَشِيماً}: نباتاً يابساً متكسّراً.

{تَذْرُوهُ}: تنثره وتفرّقه.

                           *****

تقديم الأمثال في طريقة عرض الفكرة أسلوب قرآني، من أجل توضيح الصورة، وتحويلها في وعي الإنسان إلى حالةٍ حسيّة وجدانية، وذلك من خلال تحريك الحسّ في أجواء المعنى، لتتحرّك تفاصيل الفكرة مع حركة تفاصيل الصورة في الواقع.

{وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} التي يريد للإنسان أن يعيشها في عمق وعيه، من موقع التأمّل المركّز في طبيعتها الزائلة الفانية، فهي تنطلق على الخطّ الذي يتصاعد بالقوّة والنضارة والجمال، ثمّ يهبط نحو الضعف والذبول والزوال، حتى لا يبقى منها شيءٌ، وتفنى الصورة في الجسد، ويفنى الجسد في التراب. وبذلك لا يبقى من الإنسان إلاّ الاسم الذي يتردَّد على الشفاه، والذكرى التي تخطر على البال. وهذا ما يريد القرآن للإنسان أن يتمثّله في وجدانه، عندما تقفو الصورة الحلوة المغرية في دائرة عينيه، لتسلب لبّه، ولتثير حسّه، ولتوحي له بكلّ إحساسٍ لذيذٍ، ولتدفع به نوازع الحسّ اللاهي إلى الغفلة العميقة التي تبعده عن الله، وتنسيه نفسه، وتحرفه عن قضية المصير.

وهكذا يريد الله للمثل أن يجسّد لهم الفكرة الواقعية الكامنة خلف ظواهر الدنيا، من خلال الصورة الظاهرة المتحرّكة في الواقع الحسّي.

{كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ} في ما تحتويه من البذور المتنوّعة المتناثرة في داخلها وخارجها، فتتحرّك فيها الحياة، ويهتزّ فيها النموّ، وتتنوّع فيها الألوان، وتمتدّ فيها الأغصان، وتمتلئ بالأوراق وتتدلّى منها الثمار الشهيّة. وتدخل الأرض في موسم عرس جديد للورود والرياحين والأشجار، والزرع الأخضر الممتد في ساحاتها بمختلف أنواع العشب والنبات. ولكنّ الحياة مهما امتدّت، واخضرَّت، وتحرّكت، واهتزّت، وأنتجت، وأعطت النموّ والحيوية والجمال للأرض، فإنَّ لها أمداً معيّناً وأجلاً محدوداً، تجفّ فيه الحيويّة، وينتهي موسم الورود، وتتهاوى على الأرض، وتتفتَّت فتتحوّل إلى ما يشبه الفتات الترابي. {فَأَصْبَحَ هَشِيماً} مكسَّراً متقطّعاً، {تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} وتعبث به، فتوزّعه هنا وهناك، وتذهب به تارّةً، وتجيء به أخرى. {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً} فهو الذي يخلق الحياة، ويمنحها قوّة الامتداد، وتنوّع الشكل، ومواقع الحركة. ثمّ يدخلها بطريقة متنوّعة في عالم الفناء، من أجل التحضير لموسم حياة جديد. وكما هو النبات تختلف فيه الحياة في النمو من فصل إلى فصل، كذلك الإنسان في حركة الحياة من بعد الموت الذي يعقب الحياة. وتلك هي قصّة الدنيا في الإنسان، من خلال ما يطلّ عليه منها من مظاهر الحركة والنموّ والبهجة والنضارة والزهو والشباب، وما يثيره في داخله من مشاعر الفرح والأمل والقوّة، وما يغذّيه في داخله من الغرائز والشهوات والميول. إنّها تتوهَّج وتزهو وتجعله يعيش ما يشبه الأحلام الوردية، ثمّ يبدأ بالضعف والتراجع والانحسار، وتتحوّل المشاعر الحلوة إلى مشاعر مُرّة يواجه فيها الإنسان الحزن واليأس والهزيمة، وتنتهي إلى أن تتفتَّت في يديه، وتتكسَّر في حياته قطعةً قطعةً، ثمّ يتهاوى معها إلى حيث يتحوّل إلى هشيم تتقاذفه رياح الفناء، ويعود إلى التراب، لتذروه الرياح العاصفة من جديد في الفراغ.

                           *****

زينة الحياة الدنيا:

{الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} من خلال ما يدخل على الإنسان منها من بهجة وأُنس، وما يستمتعه من شهوة وعاطفة وحركة وجمال. وما يحقّق منها من منفعة وقوّة وامتداد في شؤون الحياة. فالمال يمثِّل ــ في حياته ـــ العنصر القويّ الذي يفتح له أكثر الساحات، ويجمع حول الكثير من الأعوان، ويحقّق له أحلى المشتهيّات، ويرفعه إلى الدرجة العليا في الموقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي، ويمنحه حريّة الحركة في ما يريده لنفسه من طيّبات الحياة الدنيا ومن أحلام المستقبل المتجدّدة أبداً.

أمّا البنون، فهم الذين يمثّلون له القوّة العددية، التي تجعله موجوداً في كلّ واحدٍ منهم، فيعطيه ذلك قوّة جديدةً، والشعور بامتداد حياته فيهم، فيحسّ بأنّه يحيا في كلّ واحد منهم حياةً جديدةً بعد الموت.. إنّهم يهبونه الامتداد العاطفي الروحي الذي يشعر فيه بالسلوى والأُنس واللّهو به في طفولتهم، بحيث يسترجع ـــ من خلالهم ـــ طفولته، بما يأخذ من أسباب اللّهو واللّعب معهم بحبّ وعاطفة. ويحسّ بالفخر والزهو والرفعة عندما يحيطون به في شبابهم وكهولتهم، حيث يرى أنّهم يمثّلون مجداً يضاف إلى مجده، وزهواً يقوّي عنصر الزهو الذاتي في شخصيّته، عندما يتحوّلون إلى شخصياتٍ فاعلة قويّة في مجتمعاتهم، لأنّهم ينتسبون إليه ويعود كلّ عنصرٍ طيّب منهم إليه. وهكذا يعيش الإنسان مع ماله وولده الزينة المادية والعاطفية والروحية والمعنوية، ولكن ماذا بعد ذلك؟

سيذهب المال عنه قبل أن يفارق الدنيا أو بعد ذلك، وسيفارقه البنون أو يفارقهم، أو يتركونه أو يتركهم، ويبقى وحده، ويدفن في القبر وحده، ويحشر يوم القيامة وحده، تماماً كأيّة زينة للجسد، ممّا يتزيّن به الناس لبعضهم البعض، حيث تزول عن الإنسان أمام أيّ حدثٍ طارئٍ في الحياة.

                           *****

الباقيات الصالحات:

{وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ} من أعماله الخيّرة الصالحة التي قام بها في حياته ممّا يُصلح أمور البلاد والعباد، ومن كلماته الصادقة النافعة التي تكلّم بها، ليعلّم جاهلاً، أو ليهدي ضالاًّ، أو لينصر مظلوماً، أو ليقوِّي ضعيفاً، أو ليحلّ مشكلةً، أو ليؤيِّد حقّاً، أو ليهدم باطلاً، أو ليركِّز عدلاً، أو ليدفع ظلماً. وغير ذلك ممّا يمتدّ أثره في حياة الناس، في حياته وبعد مماته؛ {خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً} لأنّ الله جعل ثواب الإنسان لما يبذله من جهد في سبيل الحقّ والعدل والخير والحياة، ممّا ينسجم مع أوامره، ونواهيه ويتحرّك في خطّ رضاه. أمّا المال، فلا قيمة له عند الله في ذاته وفي جمعه إلاّ إذا تحرّك في مواقع الخير، وكان إنفاقه في سبيل الله. وأمّا البنون، فإنّ قيمتهم عند الله هي في الجهد الذي يبذله الإنسان من أجل أن يكونوا مؤمنين صالحين، يصلحون أنفسهم بالطاعة، ويصلحون الناس بالعلم والهداية وحركة الخير. وبذلك يكون المال والبنون ـــ في حركة الجهد العملي للإنسان من أجل خدمة الحياة في خطّ الله ـــ جزءاً من الباقيات الصالحات، فتكون كبقيّة أعماله وأقواله خير ثواباً {وَخَيْرٌ أَمَلاً} في ما يأمله الإنسان من رحمة الله ومن عفوه ورضوانه التي يحصل منها على سلامة المصير في الدنيا والآخرة، بينما لا يأمل من زينة الدنيا المجرّدة شيئاً لمستقبله الآخروي، ولا يجد أمامه هناك أيّ ثواب.

وهذا ما ينبغي للإنسان أن يعيشه في تحريك تفكيره نحو التعمُّق في الدنيا، ليميِّز بين مفرداتها الفانية، وبين مفرداتها الباقية، ليكون كلّ جهده لما يبقى، ولا تكون حياته لما يفنى ويزول ويتلاشى مع الظلام.

                           *****

4 ـــ محدّدات قيمة العمل عند الله:

{مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ} [إبراهيم : 18].

إنّ قيمة العمل الذي يستحقّ ثواب الله، لا تتحدّد في طبيعته الذاتية لجهة الكمّ والنوع، بل تتحدّد على ضوء خلفياته داخل وعي الإنسان، وانطلاقه من الإخلاص لله حبّاً له والتزاماً بأوامره. فإذا كان وراء العمل غاية ذاتية أو تجارية، فإنّه يفقد قيمته عند الله. وقد ورد في حديث الإمام عليّ (عليه السلام): "من يعمل لغير الله يعكسه الله لمن عمل له"(1). فالإسلام يريد أن يؤكّد في وجدان الإنسان وفي حياته، على العمل المنطلق من قاعدةٍ ثابتةٍ في النفس، تضمن استمرار دوافعه ونهجه القديم، وتحمي الحياة من الأطماع والأهواء التي تتحكّم بالإنسان.

وقد يندرج في إطار العمل لله، ما ينطلق من الذّات دون خلفية تجارية تتطلّب ربحاً مادياً أو معنوياً وامتيازات دنيوية، فإنّ الظاهر في مثل هذه الحال أنّه متأتٍّ عن إيمان راسب في داخل النفس وعمق الضمير، تحت ضغط مشاكل الحياة أو أمور أخرى تعيق الإحساس بامتداده الروحي في الأعماق.

{مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ} لجهة نتائج أعمالهم التي قاموا بها، على أساس خطّ الكفر حيث لا ينطلق الإنسان من قاعدةٍ أخلاقيةٍ أو روحيةٍ ترتبط بالله، {أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} فلم تُبق منه شيئاً، {لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْءٍ}، لأنّ الريح التي عصفت به حوّلته إلى ذرّاتٍ ضائعةٍ في الفراغ {ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ}. وأيّ ضلال أعظم وأبعد ممّا يقوم به الإنسان ويجهد نفسه فيه، من أعمال شاقةٍ ومتعبةٍ دون أن يحصد منها أيّة نتيجةٍ إيجابية في مصيره النهائي، حيث يحتاج الإنسان إلى كلّ جهدٍ قام به مهما كان صغيراً. إنّه الضياع الذي يمثّل الخسارة على كلّ صعيد.

                           *****

5 ـــ الإيمان كمقياس لتقدير قيمة أعمال الناس:

{لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً*وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَـئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً*وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً}  [النساء: 123 ـــ 125].

                           *****

 

معاني المفردات:

{بِأَمَانِيِّكُمْ}: الأماني جمع أمنية، وهي تقدير الأمن في النفس على جهة الاستمتاع به.

{نَقِيراً}: النكتة في ظهر النواة كأنّ ذلك نقر فيه.

{خَلِيلاً}: محبّاً لا خلل في مودّته لكمال خلّته.

                           *****

في هذه الآيات تخطيطٌ للتصوّر الإسلامي في معنى الانتماء إلى الدين، فليس معناه أن ينتسب الإنسان إليه ليمثل ذلك امتيازاً ذاتياً يكتفي به في عملية الالتزام، ليباح له ـــ بعد ذلك ـــ كلّ شيء، بل إنّ معناه، هو الالتزام العملي، باعتباره خطّاً يسير عليه في الجانب الفكري والعملي من حياته، ممّا يوحي لكلّ أتباع الأديان أن لا يستسلموا للأماني الذاتية بأنّ انتسابهم إليه يحقّق لهم النتائج الجيّدة على مستوى النعيم والفوز بالجنّة في الآخرة، بعيداً عن العمل في هذا الاتجاه، فالله يريد للحياة أن تتحرّك في الخطوط التي خطّطها في رسالاته، ويريد للإنسان أن يكون خليفته في الأرض من خلال ما يقوم به من بناء الحياة في نفسه وفي نفوس الآخرين وفي كلّ ما يتعلّق بمسؤوليته الفردية والاجتماعية؛ فإذا لم يتحقّق ذلك، كان هذا دليلاً على فقدانه للصدق في الإيمان، وبالتالي على خسرانه لكلّ نتائجه الإيجابية على مستوى الصبر. ويتفرّع عن ذلك، أنّ الإنسان المؤمن لا يخضع في تقييمه للعلاقات الإيمانية لمجرّد الانتماء إلى الدين، بل يحاول أن يرتكز على العمل كأساس للتقييم، لأنّ المبدأ الذي تتحدّث عنه الآية ليس مجرّد مبدأ يتّصل بتعامل الله مع الإنسان، بل يتّصل بالصفة الحقيقية للانتماء؛ وفي ضوء ذلك يمكن أن تكون الآية واردة في الإشارة إلى قصة المسلم الذي سرق وأراد قومه تبرئته وإلصاق التهمة باليهودي، على أساس أنّ انتماءه للإسلام يبرّر ذلك؛ فجاءت الآيات هنا لتقول لهم: إنّ قيمة الانتماء إلى الإسلام تتحدّد بمقدار الإخلاص العملي له، وذلك بالالتزام بالأمانة، وعدم الدفاع عن الخائنين، وعدم اتّهام الناس بدون حقّ، أيّاً كان دينهم وعقيدتهم.

وقد نستوحي من ذلك رفض الأساليب التي تستعملها الطوائف الدينية في المجتمعات ذات التعدّد الطائفي، أو التيّارات السياسية في المجتمعات التي تتعدّد فيها الأحزاب، وذلك بحماية المجرمين والخونة الذين ينتسبون إليها بمواجهة المظلومين والأبرياء، على أساس أنّ الانتماء يجعل لهؤلاء قيمةً دينيّةً وسياسيةً وذاتية تمنع من الاقتصاص منهم ودفع عدوانهم عن الآخرين. وقد ترك هذا التصرّف آثاراً سلبية على طبيعة سلامة هذه المجتمعات، عندما انطلق المجرمون والخونة يعيثون في داخلها فساداً تحت حماية النفوذ الطائفي والسياسي، في الوقت الذي تحوّل فيه هؤلاء إلى عناصر تمارس السيطرة على مسيرة الناس الذين يعيشون معهم من دون أن يملكوا أمر مواجهتهم، لأنّ ذلك يكلّف الناس مواجهة الطائفة أو الحزب، ممّا لا قوّة عندهم لتحمّله؛ وهذا هو المبدأ الجاهلي الذي كان يقول "أنصر أخاك ظالِماً أو مظلوماً".

{لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ} في ما توحون به إلى أنفسكم بأنّ انتسابكم إلى الإسلام يمنحكم الأمن عند الله من دون عمل {وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ} الذين يعتقدون أنّهم أبناء الله وأحبّاؤه، فلهم الحرية في أن يفعلوا ما يشاؤون من دون خوف من عذاب الله، لأنّ الله لا يعذّب أحبّاءه. {مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} مسلماً كان أو كتابياً أو ملحداً، لأنّ عمل السوء يوحي بالروح المتمرّدة على الله، الرافضة للانسجام مع طبيعة المسؤولية؛ وهذا ما يتنافى مع إخلاص الإنسان لله، ومع مصلحة الحياة في ما يريده الله لها من انسجام مع خطّ الرسالات الإلهية. {وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً}، لأنّ الولاية لله على الحياة كلّها، فكلّ الخلائق خاضعةٌ لولايته باختيارها أو بحاجتها إليه في طبيعة تكوينها، ولأنّ القوّة لله في كلّ وسائلها ومظاهرها وآفاقها، فلا قوّة لغيره بعيداً عن قوّته {هُنَالِكَ الولايَةُ للهِ الْحَقِّ} [الكهف: 44]، {أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} [البقرة : 165]، فمن يكون الولي والنصير من دون الله؟ إنّ الذي يفكّر بذلك يُغرق حياته في بحرٍ من الأوهام.

{وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى}، فإنّ العمل الصالح يحقّق نتائجه من أيّ شخص صدر، سواء كان ذكراً أو أنثى، لأنّ الفوارق بين الرجل والمرأة قد تجعل لكلّ واحدٍ منهما دوراً مميّزاً على الآخر في طريقة تنظيم العلاقة الزوجية، أو في بعض القضايا المتّصلة بالجانب الوظيفي من حياة المجتمع؛ أمّا في الجانب الإنساني الذي يتمثّل بالعمل الصادر من الإنسان من حيث هو طاقةٌ معينةٌ، فإنّ القيمة هي للعمل، بقطع النظر عن شخصية العامل من حيث الصفات التي لا علاقة لها بكمية العمل ونوعيته. وبهذا كان تفضيل الرجل على المرأة في نطاق العلاقات العامة والخاصة على أساس مستوى معيّن لا يدخل في حسابات الآخرة عند الله؛ فقد يكون الرجل أفضل من المرأة وأرفع درجة عند الله، لكن لا من حيث ذكوريّته بل من خلال عمله؛ وقد تكون المرأة أفضل من الرجل للسبب نفسه. {وَهُوَ مُؤْمِنٌ}، لأنّ غير المؤمن لا يستحقّ على الله شيئاً جزاء عمله.

                           *****

مصير من يعمل عملاً نافعاً وما هو بمؤمن:

وقد يخطر بالبال سؤال وهو: إنّ كثيراً من الناس يقومون بأعمال عظيمة في خدمة البشرية، من خلال ما اكتشفوا من اكتشافات وما حقّقوا من مشاريع، وما هدّموا من قوى الظلم والطغيان، ولكنّهم غير مؤمنين؛ فهل تذهب أعمالهم هباءً؟ وهل يكون عمل المؤمن البسيط جداً في حجمه أو في نتيجته مستحقّاً للثواب، بينما هذه الأعمال الكبيرة التي ترفع مستوى الناس جميعاً، في ما يتعلّق بخدماتهم أو تطوّرهم، لا تستحقّ شيئاً؟ وهل يخضع مثل هذا لمقياس التوازن والعدل في المقارنة بين الأشياء؟

وقد يجاب عن ذلك بأنّ هناك نقطةً مهمةً يجب أن تركّز عليها، وهي أنّ للعمل نظرتين أو حيثيّتين في مجال عملية التقييم؛ فهناك النظرة إلى العمل من حيث طبيعته، في حجمه وفي نوعيته وفي تأثيره في حياة الناس، بعيداً عن شخصية صاحبه؛ وذلك من خلال كونه حقيقةً موضوعيةً مجرّدةً. وهناك النظرة إليه من حيث انتسابه إلى الإنسان وعلاقته بتقييم الشخصية، في دوافعه وروحيّته والجوّ المهيمن عليه. فإذا نظرنا إليه من الحيثيّة الأولى، كانت القضية قضية الموازنة بين العملين في الكمّ والكيف والنتائج؛ وبذلك يكون العمل المتمثّل في بناء مدرسة أعظم من العمل في بناء بيتٍ شخصي لإنسان فقير، والتصدّق بألف ليرة أكبر من التصدّق بمائة.

أمّا إذا نظرنا إليه من الحيثية الثانية، فإنّ التقييم قد ينعكس إذا كانت الدوافع في بناء المدرسة مربوطة بهدفٍ شخصيٍ أو مزاجيٍ، بينما كانت الدوافع لبناء البيت روحية إنسانية، فإنّ العمل الصغير ـــ حينئذٍ ـــ يعبّر عن شخصية كبيرة، تنطلق ـــ في حركتها ـــ من الأهداف الكبيرة السامية؛ أمّا العمل الكبير، فإنّه ينطلق من شخصية صغيرة ترتبط بالأشياء الصغيرة الحقيرة في الحياة، لأنّ العمل الذي يرتبط بالإنسان، يأخذ شيئاً من داخله، ويكتسب صفةً إنسانيةً في مضمونه؛ وبذلك تتحدّد قيمته بمقدار ما يحمل من معنى الإنسانية في طبيعته، في مضمونها الروحي والأخلاقي. وفي ضوء ذلك، يمكننا أن نقرّر نظرة الإسلام إلى العمل كقيمة إنسانية روحية، لأنّ اهتمام الإسلام في تشريعه يتركّز على الاهتمام ببناء الإنسان في روحيّته وتفكيره وإنسانيّته من حيث ارتباطها بالله؛ ولذلك اختلف الثواب على العمل حسب اختلاف المعنى الذي يكشف عنه؛ فهناك فرقٌ بين العمل الصادر عن رياءٍ والعمل الصادر عن غير الواعي من موقع مستواه، وهناك فرقٌ بين العمل الصادر من أجل القرب إلى الله، وذاك الصادر للقرب من إنسانٍ. وهكذا تتّصل القيمة بالمضمون، ولا تتّصل بالشكل.

وعلى هذا الأساس، فقد يكون العمل الصادر عن هؤلاء الناس غير المؤمنين كبيراً من حيث الحجم والنوعية والنتائج كحقيقة موضوعية، ولكنّه لا يحسب في هذا المستوى في نظرة الإسلام، إذا كانت الدوافع مزاجية أو مصلحيّةً أو بعيدةً عن الله في الجوانب الأخرى، فلا يستحقّ عليه ثواباً، لأنّه لا يحمل أيّ معنى روحيٍّ أو إنسانيٍّ كبيرٍ، عندما يبتعد عن قاعدة الإيمان التي تحرّك العمل في اتجاه المعاني الروحية الكبيرة التي ترتبط بالله. وقد ذكر بعض الباحثين من الفقهاء، أنّ الله قد يثيب الإنسان على العمل الخيّر في ذاته، إذا قام به الإنسان بدافع حبّه للخير، وإن لم يقصد القربة إلى الله فيه؛ ولكنّنا نعلّق على ذلك، بأنّ الإيمان هو الذثي يجعل الخير حالة ذاتية للإنسان، من خلال ما يختزنه الإنسان ـــ ولو بطريقة لا شعورية ـــ من مشاعر الإيمان وإيحاءاته، ممّا يجعل نيّة القربة إلى الله مخزونة في وعي الإنسان المؤمن بطريقة ارتكازيةٍ لا شعوريةٍ؛ ولكن لا بدّ من الإيمان، فمن دونه لا مجال للثواب كحق للعبد على ربّه، لكن قد يتفضّل الله على بعض عباده العاملين للخير حتى لو كانوا غير مؤمنين في الدنيا كما ورد في بعض الأحاديث. {فَأُوْلَـئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ} بسبب عملهم {وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً}؛ والنقير مأخوذ من النقرة الموجودة في النواة، ويراد بها أصغر وحدةٍ في الكم، كناية عن العمل الصغير جداً في حجمه، فإنّ الله لا يغفل عنه، بل يثيبه عليه مهما كان صغيراً.

وقد نستطيع أن نستوحي من التسوية بين الذكر والأنثى في نتائج العمل الصالح، أنّ هذه دعوة غير مباشرة للمرأة بأن تنطلق في كلّ عمل صالح في كلّ مجالات الحياة من دون تحديد، إلاّ ما حدَّده الإسلام من الحدّ الفاصل بين العمل المشروع والعمل غير المشروع؛ فلو كانت هناك حدود خاصة يفرضها الله عليها في مجال الخدمات العامة السائرة في نطاق العمل الصالح لاستثناه؛ وبذلك يمكن للمرأة أن تنطلق في كلّ الأعمال الخيّرة الصالحة في نطاق الأجواء الشرعية التي أرادها الله لها كما أرادها للرجل، لتتحقّق من خلال ذلك المصلحة الإنسانية.

                           *****

 

 

أحسن الدين السليم المطلق لله تعالى:

{وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} هذا هو الدين الحقّ الذي يريد الله للإنسان أن يتحسّسه في مشاعره وأفكاره، فيستسلم لله استسلاماً مطلقاً في جميع قضاياه وتصرّفاته؛ وهذا هو ما تمثّله كلمة الإسلام لله، أو إسلام الوجه لله، لأنّ ذلك هو ما تفرضه قضية العبودية أمام الألوهية، في عمق الإحساس الداخلي وسعة الأفق الممتدّ في تفكير الإنسان على طريق المسؤولية، في ما توحيه كلمة الإحسان من معنى شامل يتّسع للحياة وللذّات وللإنسان، لأنّ الإسلام في مضمونه العملي يفرض التحرّك في اتجاه الأعمال التي يحبّها الله في عباده وبلاده.

وذلك هو ما تعنيه كلمة {مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً}. فإنّ إبراهيم كان يمثّل الخطّ العام لكلّ الرسل، كما أنّ رسالته كانت العنوان الكبير الذي تتحرّك في داخله الرسالات الأخرى، فهي قد تختلف في بعض التفاصيل والتشريعات، ولكنّها تلتقي جميعاً في الخطّ العام والعنوان الكبير، ولذلك كان اتّباع ملّة إبراهيم حنيفاً ـــ أي خالصاً ـــ، وجهاً من وجوه الالتزام بالإسلام لله؛ فقد انطلق النبيّ إبراهيم أمام الله في وقفة إسلام رائعة {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ*وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [البقرة: 131 ـــ 132] وتحرّكت الرسالات في تاريخ البشرية لتحمل عنوان الإسلام، حتى رسالة الإسلام في نبوّة النبيّ محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)؛ وهكذا كان الدين الأحسن هو الذي يحمل الإنسان فيه هذه العناوين الثلاثة التي تشمل الحياة كلّها: إسلام الوجه لله، والإحسان بمعناه الممتد في الحياة، واتّباع ملّة إبراهيم حنيفاً.

{وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} تلك الصداقة التي منحها الله لهذا النبيّ العظيم، تكريماً لتضحيته وإخلاصه وفنائه في ذات الله؛ وقد جاء عن الإمام أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: سمعت أبي يحدّث عن أبيه (عليه السلام) أنّه قال: إنّما اتّخذ الله إبراهيم خليلاً لأنّه لم يردّ أحداً ولم يسأل أحداً قط غير الله عزّ وجلّ(1). وتلك هي العلاقة التي يمنحها الله للمخلصين من عباده، وربّما كان الحديث عن هذا الجانب من شخصية إبراهيم لللإيحاء بأنّ الإسلام العميق المتمثّل في روحه وحياته هو الذي رفعه إلى هذه الدرجة؛ وهو الذي ينبغي للمؤمنين أن يعيشوه ويحصلوا عليه ليصلوا إلى بعض مراقي هذا السمو الذي يقرّبهم إلى الله في الدرجات العلى.

وذلك ما ينبغي للتربية الإسلامية أن تتّجه إليه في بناء شخصية الإنسان المسلم، ليعيش الإسلام من خلال هذا المعنى العميق الممتد في الفكر والروح والشعور والحياة، لا من خلال الألفاظ الجامدة التي تؤطّرها الاصطلاحات بإطارٍ لا يوحي بأيّة حيوية تلامس الأعماق. إنّها العبودية المطلقة أمام الله بإزاء الحرية المطلقة أمام عباده؛ لتكون العلاقة بالكون والحياة والإنسان تعبيراً عن العلاقة بالله، وليكون الإحسان إلى الحياة في كلّ مجالاتها الفكرية والعملية تجسيداً للإحسان كقيمةٍ روحيةٍ يعبد بها الإنسان ربّه في المحراب الكبير في الكون كلّه، بعيداً عن كلّ شخص وعن كلّ عرض زائل.

                           *****

6 ـــ الواقعية في العمل الإسلامي:

{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ*لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ*وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ*وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ*وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ*لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 1 ـــ 6].

                           *****

{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} بالله أو بوحدانيّته، من خلال المنهج الذي تسيرون عليه، والالتزام الذي تلتزمونه في حياتكم على خطّ العبادة في العقل والروح والشعور والحركة والموقف، قل لهم، إذا دعوك إلى عبادة آلهتهم التي هي أحجارٌ لا تضرّ ولا تنفع، ولا تنطق ولا تسمع، ولا تحسّ ولا تتحرّك، ممّا لا معنى له في وعي الإنسان الذي يحترم عقله، ويلتزم إنسانيّته، قل لهم، إذا حاولوا أن يخدعوك بالتلويح لك بأنّهم سيعبدون الله في مقابل عبادتك للصنم، قل لهم كلمة الرفض الحاسم الذي لا يوافق على التسويات في خطّ العقيدة، لأنّهم لو آمنوا بالله لوحَّدوه في العبادة، ولكنّهم يريدون أن يحصلوا من طروحاتهم عليك، على شرعية أصنامهم، ليسقطوا دعوتك من خلال اعترافك بآلهتهم ولو بمقدار لحظة. فكيف تستطيع بعدها أن تهاجمها، وترفضها، وترجمها بالحجارة وتكسّرها، وتدعو الناس إلى أن يبتعدوا عنها، إذا قدّمت لها فروض العبادة، وحركات الخضوع في وقتٍ معيّنٍ مهما كان هذا الوقت؟ وبذلك تلغي رسالتك القائمة على التوحيد الذي لا يعترف بالشرك، بل جاء رفضاً للشرك كلّه. قل لهم: {يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} الذين تكفرون بالله أو بتوحيده، وتريدونني أن أصدِّق أنّكم جادُّون في طرحكم أنّكم تريدون عبادته {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} لنّ الله قد أرسلني لأرفض الذي تعبدونه، ولأدعو الناس إلى أن يرفضوه، فكيف تدعونني إلى أن أعبده؟!

{وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} لأنّ الذين عاشوا الوثنية في عقولهم ومشاعرهم وحياتهم، كيف يقتنعون بعبادة الله الواحد، في الوقت الذي كانوا فيه يتحرّكون ضدّ الرسول الذي جاء بالتوحيد في العقيدة وفي العبادة.

{وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ} وهذا تأكيدٌ للرفض الأول بصيغة الجملة الاسمية الدالّة على ثبات الصفة واستمرارها.

{وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} لأنّكم ـــ في موقفكم ضدّي ـــ تمثّلون الرفض كلّه، فكيف تريدونني أن أقبل منكم ذلك؟

                           *****

 

ديني هو الإسلام لله ودينكم دين الشرك به:

إنّ المسألة الحاسمة، هي أنّ هناك عبادتين تختلفان في طبيعتهما وفي منطلقاتهما، وفي حركتهما في الواقع الإنساني، وأنّ هناك دينين يختلفان في قاعدتهما وفي شريعتهما وفي طريقة العبادة فيهما، وفي مضمون الألوهية عندهما، وفي نظامهما الأخلاقي، وقد أخذتم بدين الشرك وارتضيتموه عن قناعةٍ أو عن تقليدٍ، أو عن طمع واستكبار، أمّا أنا، فقد أخذت بدين التوحيد الذي هو دين الإسلام من موقع القناعة اليقينيّة والإيمان الحاسم. ولتكن الكلمة الأخيرة هي الكلمة الفاصلة التي تمنع اللّقاء إلاّ على أساس وحدة الدين والانتماء.

{لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} فإذا كنتم لا تريدون الالتزام بديني، فابتعدوا عني، لأنّي لن أترك ديني الذي أخلصت به لله في كلّ ما يريده ويرضاه. وعلى المعنى الثاني، وهو إرادة الجزاء من كلمة الدين، فيكون المراد، لكم جزاؤكم على عبادتكم، وهو النار، ولي جزائي على عبادتي وهو الجنّة.

                           *****

السورة في خطّ المنهج:

إنّ هذه السورة تمثّل المنهج للمسلمين في مواجهة العروض التي تقدَّم غليهم في ساحة الصراع من أجل إنهاء القطيعة، وإيجاد قاعدة للصلح، ممّا قد يتعارف الناس على الوصول إليه، بالتسويات العملية التي تعمل على أساس المناصفة، بأن يتنازل هذا الفريق عن بعض مواقعه والتزاماته لمصلحة الفريق الآخر الذي يتنازل له عمّا لديه بالنسبة نفسها، ليلتقيا في نصف الطريق لمطالبهما. ولعلّ هذا ما قدّمه هؤلاء المشركون للنبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) في ما جاء به حديث أسباب النزول، الذي أكّد على أن يعبد النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) الأوثان سنةً، ليعبد المشركون الله سنة، ليتساويا في الاعتراف المتبادل في وقت خاص.

وقد يكون المطروح في عروض الصلح، هو المطالبة بتجربة الموقف الذي يقف فيه أحدهما من قِبَل الآخر ليعيش آفاقه، وليدخل في تجربته، فلعلّه يقتنع به ليتّخذ الموقف على أساس الفكرة الواحدة.

إنّ السورة تطرح الرفض لهذه الفروض من ناحية المبدأ، لأنّ المسألة تتعلّق بالخطّ الأساسي للدين، وهي مسألة عبادة الله التي تمثّل خطّ التوحيد ومنهجه في العقيدة والحياة، في مقابل مسألة عبادة الأوثان التي تمثّل خطّ الشرك ومنهجه فيهما، ما يعني التنازل عن أساس الالتزام العقيدي، فإنّ الإسلام قد جاء لمحاربة الوثنية بالعقيدة التوحيدية، فكيف يمكن الاعتراف بها من ناحية المبدأ في ما يعنيه ذلك من الابتعاد عن الجديّة في الدعوة إلى وحدانية الله؟!.

ولعلّنا نستطيع التحرّك بعيداً في هذا الموضوع، في القضايا العامة، من سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية، لنميّز في طروحات الوفاق في هذه الأمور بين القضايا الكبرى المرتبطة بالخطّ المستقيم وبالمصير النهائي، وبين القضايا الصغرى المرتبطة بالخطوط التفصيليّة المتحرّكة في دائرة الأوضاع المتحرّكة والمراحل المتغيّرة، فلا نقدّم التنازل عن القضايا الأولى، إلاّ في ما يتعلّق بالأسلوب ممّا يدخل في دائرة المرونة العملية، بينما ندرس بعض التنازلات في القضايا الأخرى، في ما لا يمسّ الجوهر. وتلك هي دائرة الواقعية التي يمكن أن يتحرّك فيها الإسلاميون، أمام الطروحات التي تقدّم إليهم لإنهاء النزاع، أو لإيجاد موقف مشترك مع الآخرين في بعض المراحل السياسية في ما يطلب فيه تجميد الصراع في وقت معيّن مع بعض الجهاد، أو إيجاد حالة من الوفاق السياسي أمام بعض الشعارات أو ما إلى ذلك، ممّا قد يفيد الحركة الإسلامية في مواقعها السياسية أو الجهادية ولا يضرّ مرتكزاتها ومسلّماتها الأساسية.

ولعلّ من الضروري للإسلاميين أن يدقِّقوا في الساحة التي يمكن لهم أن يقدّموا فيها التنازلات للآخرين في القضايا الصغيرة التفصيلية، فقد لا يكون الظرف ملائماً لذلك، لأنّ الانعكاس الذي يتركه على القاعدة الشعبية قد يكون سلبياً، ممّا يمكن أن يؤدّي إلى إضعاف المعنويات السياسية من دون ثمن كبير يحصلون عليه في مقابل ذلك. وقد تكون بعض المواقع في دائرة المكان غير ملائمة لذلك، بينما تكون المواقع في دائرة أخرى وفي أمكنة أخرى ملائمة جداً.

إنّ ما نريد التأكيد عليه هو أن تكون الحسابات دقيقةً، بحيث لا تخضع للحالات العاطفية أو الانفعالية، حتى لا يكون الخطأ كبيراً أو مميتاً في نتائجه السلبية.

وعلى ضوء ذلك، فإنّ على العاملين في حقل التربية الإسلامية، أو الدعوة الإسلامية، أن يضعوا هذه السورة في البرامج التربوية التي يدرسها الجيل المسلم، ليحفظوها وليفهموها وليلتزموا مضمونها الحيّ في أفكارهم وأخلاقهم، لتكون التنشئة التربوية مرتكزةً على قاعدة الإصرار على الالتزام بالخطّ المستقيم وعدم الانحراف عنه لقاء أيّ عرضٍ للتنازل من أيّة جهةٍ كانت، ولتكون الدعوة الإسلامية متحرّكةً في خطِّ الثوابت العقيدية والمصيرية بكلّ استقامة وثباتٍ.

7 ـــ الإيمان وعلاقته بالسلوك الخيري الاستعراضي:

{أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ*الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ*يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ*خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً إِنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التوبة: 19 ـــ 22].

                           *****

معاني المفردات:

{سِقَايَةَ الْحَاجِّ}: سقيهم الماء. وكانت السقاية لبني هاشم.

{يُبَشِّرُهُمْ}: البشارة، دلالة على ما يظهر به السرور في بشرة الوجه.

{وَرِضْوَانٍ}: الرضوان: الرّضا الكثير.

                           *****

ينطلق القرآن ليركّز في داخل الشخصية الإنسانية الإسلامية القِيَم الروحية الواقعية الجديدة، التي تؤكّد على جانب المضمون بعيداً عن الشكل، وتوحي للناس بأنّ القيمة الحقيقية المميّزة هي للذين يتحرّكون في الحياة في خطّ الإيمان بالله واليوم الآخر، باعتبار أنّ ذلك هو الأساس في بناء الحياة على قاعدة المسؤولية التي تتحرّك في خطّين: خطّ الإحساس بالألوهية الخالقة القادرة المهيمنة على الوجود كلّه، في ما يوحيه ذلك من الالتزام بالمنهج الشامل الذي وضعه للحياة، وخطّ الشعور بالنتائج الإيجابية أو السلبية للعمل المستقيم أو المنحرف في مواقف الحساب في اليوم الآخر بين يديّ الله. ثمّ هي للمجاهدين في سبيل الله الذين يقدّمون كلّ ما يملكون من مالٍ وجاهٍ وحياةٍ، من أجل استقامة الحياة على درب الله في كلّ القضايا التي تتحرّك في آفاقها، وذلك هو الذي يحقّق للحياة أهدافها الكبيرة التي يريدها الله لها، ويدفعها إلى الأمام، والذي يرفع مستواها إلى آفاقه. وهذه هي القيمة الكبيرة للإنسان في ما تؤكّده من إنسانية الإنسان ورساليّته، ولا مجال للمقارنة بينها وبين أيّ عملٍ من الأعمال الأخرى التي قد تكون وجهاً من وجوه الخير، ولكنّها لا تمثّل الامتداد والعمق في حياة الإنسان، وفي مصيره.

ولعلَّ هذا الخطّ في تأكيد القيمة الروحيّة الإنسانيّة، وعدم اعتبار الأعمال الاستعراضية أساساً للقيمة، يُبعد الكثيرين ممّن يريدون تأكيد إيمانهم وروحيّتهم من خلال القيام بأعمال عمرانيّة للمساجد أو للمؤسّسات الخيرية أو توزيع الصدقات، ويحاولون من خلال ذلك أن يتّخذوا لأنفسهم موقعاً متقدّماً في الساحة الاجتماعيّة، وربّما يعملون، أو يعمل أتباعهم، على تفضيلهم على العاملين في خطّ التغيير الفكري والاجتماعي والسياسي، من الجذور الضاربة في عمق الواقع الإنساني، على أساس هدى الله المنطلق من رسالاته. وقد نستوحي من هذا الخطّ القرآني، النهج العملي الذي يمنع الكثيرين من هؤلاء الاستعراضيّين أن يخدعوا المجتمع عن واقعهم المزيّف بالمشاريع الخيرية البارزة، وذلك عندما يفهم المجتمع القرآني أنّ مثل هذه الأمور لا تمثّل قيمةً في نفسها إلاّ بمقدار ما تكشف عنه من روحٍ طيّبةً ونيَّةٍ صالحة.

                           *****

الأفضلية عند الله للإيمان والجهاد:

{أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ} بما كان يفعله البعض من سقي الحجّاج الماء في الموسم {وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} بما كان يقوم به البعض الآخر من عمارته {كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ} فكانت حياته من أجل الحياة كلّها والحقّ كلّه، في حركة الإيمان وانطلاقة الجهاد. {لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ} لأنَّ الله ينظر إلى الناس من خلال دوافعهم ومنطلقاتهم وآفاقهم الروحيّة في ما تمثّله من الإخلاص له والإذعان لعبوديّته. فلا يمكن أن يساوي بين الإنسان الذي يعيش الأُفق الضيّق في الأعمال الجزئية المحدودة، وبين الإنسان الذي يعيش الأُفق الواسع في أجواء الحياة كلّها. فكيف تساوون بين هذين النموذجين من الناس، أو تحاولون تفضيل الفريق الأول على الفريق الثاني؟! إنّه الظلم للحقيقة وللمجاهدين في سبيله. وهذا هو الضلال بعينه، الذي يبتعد فيه الإنسان عن أجواء الهدى، فإذا انطلقتم في هذا الجوّ، فسيترككم الله لأنفسكم، لأنّكم اخترتم ذلك من دون حُجّة {وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} الذين ابتعدوا عن الهدى باختيارهم وانحرفوا عن طريق الله من غير أساس، وأهملوا طاعته، وتركوا هداه إلى غيره، بعد أن عرَّفهم النهج السوي والصراط المستقيم.

                           *****

الهجرة في سبيل الله:

{الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ} وتحمَّلوا ما تحمّلوه من هجرة الوطن، إلى حيث يملك الإنسان حرية الحركة في الدعوة والجهاد ويبتعد عن مواطن الضغط الذي قد يعرّضه للفتنة في دينه، وذلك دليل الإخلاص العظيم لله، لأنّه يمثّل التمرّد على كلّ العواطف الذاتية والخصائص الحميمة، من أجل الله وحده، {وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ} في ما بذلوه من أموالهم للدعوة والجهاد، ومن خلال ما واجهوه من أخطاء مادية ومعنوية في هذا الاتجاه، حيث فقدوا أيّ معنىً للجانب الشخصي في حياتهم، وتحوّلوا إلى عنصر متحرّك في نطاق الجوانب العامّة المتّصلة بالله وبالحياة، أولئك {أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ} من كلّ النماذج الأخرى التي قد تعمل الخير في المجالات المحدودة {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} برحمته ورضوانه وجنّته {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ} والرحمة تمثّل لطف الله ورعايته وعنايته في الحياة الدنيا والآخرة، ويوحي الرضوان بمعانٍ روحيّة تنساب في مشاعرهم روحاً وأمناً وطمأنينة، بينما تشير الجنات إلى ما ينتظركم من السعادة الروحية والمادية التي تثير فيهم كلّ مشاعر الغبطة والسرور {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} فلا موت ولا فناء، بل هي الحياة الممتدة إلى ما شاء الله لها من الامتداد {إِنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} في ما يمنحه لعباده الصالحين المجاهدين من جزاءٍ على ما عملوه وما جاهدوا فيه ممّا يتناسب مع روعة الإخلاص وعظمة الموقف.

                           *****

8 ـــ البعد التغييري والعبادي للعطاء:

{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ*أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ*وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ*وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 103 ـــ 106].

                           *****

معاني المفردات:

{مُرْجَوْنَ}: مؤخّرون.

                            *****

يريد الله أن يثير مسألة الاستقامة على الخطّ المستقيم الذي يتحرّك فيه المؤمنون ليعيشوا روح العطاء والتضحية في سبيل الله بالأموال والأنفس، ليؤكّد على الصدقات الواجبة، كالزكاة، في ما تعبّر عنه من مضمونٍ روحيٍّ يتّصل بالواقع التربويّ الداخليّ للإنسان إلى جانب الواقع الاجتماعي. وذلك هو أسلوب الإسلام في عملية التغيير، فهو يعمل على أن لا يتحوَّل التشريع إلى مجرّد تقليدٍ عاديٍّ، تقتصر مهمّته على الجانب المادي في سدّ حاجة المحرومين من الناس، بل يريده حركةً تتّصل بالعمق الروحيّ للإنسان، ليتغيَّر الوجه الخارجي للمجتمع من موقع تغيير الداخل، ولهذا اعتبر الفقهاء الضرائب المالية كالزكاة، عبادةً لا بدّ للإنسان من أن يقصد بها التقرّب إلى الله، كما هي الصلاة، ما يوحي بأنّ الإسلام يؤكّد على عباديّة العطاء، كعملٍ يتحرّك في الحياة الاجتماعية باسم الله.

الزكاة تطهير للنفس:

{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} في ما تمثّله الصدقة من التغلّب على كلّ العوامل السلبيّة من الأنانية والإثرة والبخل والقسوة التي تمثّل لوناً من ألوان القذارة الروحية التي يعيش فيها الإنسان المشاعر العفنة {وَتُزَكِّيهِم بِهَا} في ما توحي به من التخلّص من حالة الجدب الروحي الذي يمنع الإنسان من النموّ في اتجاه السموّ والانطلاق، ليحلّ محلّه الخصب الذي تخضرّ فيه المشاعر وتتنامى، لتُبدع الإنسان الجديد في الخطّ الجديد {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} أي ادع لهم بالرزق والطمأنينة والأمن من خلال ما تعطيه الصلاة من معنى الدعاء {إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ} لأنَّها تمنحهم الشعور بالثقة في مواجهة كلّ عوامل الضعف التي تهزُّ الإنسان وتشدّه إلى الأرض ليخلد إليها، لما يعيشونه من الإحساس بالقرب من الله الذي يتفضّل عليهم بلطفه ورحمته وعفوه وغفرانه، من خلال دعاء النبيّ لهم، بما يمثّله النبيّ من روحيّةٍ ساميةٍ متّصلة بالله قريبةٍ إليه. وأيّ سكينةٍ أعظم من السكينة التي يعيشها الإنسان في رحاب الله من خلال رسوله، حيث كلّ الحياة لله في الأُفق الأعلى في أجواء القدس والملكوت، {وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} يسمع الدعاء فيستجيب له، ويعلم عمق الإخلاص في الإنسان، فيرحمه ويعفو عنه ويشمله بلطفه ورضوانه.

{أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} فهو الذي خلقهم وعرف مكامن الضعف في نفوسهم وعرف كيف يتساقطون أمام التجربة الصعبة من خلال نوازعهم الذاتية، فأراد لهم أن يتراجعوا عن الانحراف ويأخذوا بأسباب القوّة من جديد، لتستقيم لهم الشخصية الإنسانية التقيّة المؤمنة، ففتح لهم باب التوبة، بأوسع مجالاته، ودعاهم إليها، ووعدهم بقبولها والاستجابة لها، ووجّههم إلى الانفتاح على هذا الجانب من العقيدة، في آفاق المعرفة، ليعلموا سعة رحمته، وعظيم عفوه، لئلا يسقطوا في عقدة المعصية أمام وهدة اليأس. {وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ} التي يقدّمونها في سبيله، من أجل الحصول على رضاه. وقد ورد في بعض الكلمات المأثورة: "إنّ الصدقة لا تقع في يد العبد حتى تقع في يد الرّب"(1)، لأنّ معنى الإنفاق في سبيل الله، يوحي بانطلاق العطاء له، فهو الغاية في ذلك كلّه، وهو الذي يجري المعطي عوض عمله {وَأَنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} الذي لا يردّ تائباً عن ساحته، ولا يمنع مذنباً عن رحمته.

                           *****

 

الدعوة إلى العمل:

ثمّ يطرح الشعار الذي أراد الله للإنسان أن يحمله كعنوانٍ للمسيرة كلّها، بعيداً عن كلّ أجواء الاستعراض والمباهاة والكلمات المنفتحة غير المسؤولة: {وَقُلِ اعْمَلُواْ} فقد جعل الله العمل أمانةً في عنق الإنسان، لأنّه هو الذي يؤكّد صدق الإيمان وجدّيته، وهو الذي يحقّق للحياة نموّها ومصداقيتها وتقدّمها، وهو الذي يجعلها تتحرّك في اتجاه التغيير، {فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ} بسبب ما يطّلع عليه من خفايا عباده وظواهرهم {وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} من خلال ما يتابعون به المسيرة من رعايةٍ وعنايةٍ وتقييم.

                           *****

معنى أن يرى الله:

وربّما حاول البعض أن يتعمّق في معنى الرؤية كما نقل عن محيي الدين ابن العربي في الجزء الرابع من "الفتوحات المكيّة"، وتلخيصه ـــ كما جاء في تفسير الكاشف ـــ: "إنّ معنى الرؤية يختلف باختلاف الرائي، فمعنى الرؤية من الله للشيء أن يحيط به علماً من جميع جهاته، ومعناها من الرسول أن يعلم الشيء المرئيّ من وجهة الوحي الذي نزل عليه، ومعناها من المؤمن العارف أن يعلمه بقدر ما علم وفهم من الوحي المنزل على الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)". ويتابع صاحب التفسير توضيحه للفكرة فيقول: "وعلى هذا، فمن عمل لله، فإنّ الله يعلم حقيقة، ويرضى عنه، والرسول يعلم أيضاً أنَّ هذا العمل مرضيٌّ عند الله، والمؤمن العارف يعلم أنّه مرضيٌّ عند الرسول، والنتيجة الحتمية لذلك أنّ من يعمل صالحاً فهو مرضيٌّ عند الله والرسول والمؤمنين.."(1).

ولكنّنا لا نحسب أنّ المسألة تحتاج إلى مثل هذا التحليل، أو أنّها تتّجه هذا الاتجاه في تفسير الآية، فإنّ الظاهر منها الدعوة إلى العمل تحت رقابة الله والرسول والمؤمنين، في ما يمثّله ذلك من تعميق الإحساس بالمسؤولية في حركة العمل في نفس الإنسان من خلال وعيه للرقابة الشاملة من جميع الجوانب، وربّما يؤيّد هذا المعنى الفقرة التالية: {وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} الذي أحاط بكلّ شيء علمه، في ما يخفيه الإنسان أو يظهره {فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} لأنّ النبيّ والمؤمنين إذا رأوا الأعمال، فإنّهم لا يملكون الحكم عليها وعلى أهلها، فالله هو الحاكم في عملية التقييم، لأنّه المطّلع على خفايا الأمور وبواطنها.

المرجون لأمر الله:

{وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللّهِ} فلم يحسم أمرهم، وتركهم لإرادته في يوم القيامة، فأخَّر إعلان الحكم عليهم إلى وقتٍ ما {إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} لأنّهم مارسوا ما قد يستحقّون العقاب عليه، في الوقت الذي يملكون فيه بعض الصفات أو الأفعال التي قد تؤهّلهم للمغفرة لهم والتوبة عليهم. وقد قيل إنّها نزلت في قوم تخلَّفوا عن النبيّ في غزوة تبوك فلم يخرجوا معه، ثمّ ندموا على ذلك، ولكن سبب النزول ـــ لو صحّت روايته ـــ لا يمثّل حدود الآية في خصوصيّته، بل يمثّل المنطلق الذي انطلقت الآية منه لتتّسع في كلّ موردٍ مماثل {وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} عندما يعذّب أو يعفو، فهو يعلم المصلحة هنا أو هناك ويتصرّف بالحكمة في هذا أو ذاك.

                           *****

9 ـــ البرّ والتقوى أساس التعاون في الإسلام:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلآئِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة: 2].

معاني المفردات:

{لاَ تُحِلُّواْ}: أي لا تتصرّفوا بها بكلّ حريّة بعيداً عن قواعد الحلّ والتحريم، بل التزموا فيها ما ألزمكم الله به.

{شَعَآئِرَ}: جمع شعيرة، وهي أعلام الحجّ وأعماله.

{الْهَدْيَ}: ما يُهدى من الأنعام إلى الكعبة ليُذبح هناك.

{الْقَلآئِدَ}: جمع قلادة، وهو ما يقلّد به الهدي. والتقليد في البدن أن يعلّق في عنقها شيء ليعلم أنّها هَدي، والقلد السوار لأنّها كالقلادة لليد.

{آمِّينَ}: قاصدين.

{حَلَلْتُمْ}: حلَّ المحرم من إحرامه يحِلُّ حِلاًّ إذا خرج من حِرمه. فأحَلَّ هنا، بمعنى خرج.

{وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ}: الجَرْم: القطع والكسب. ومعنى لا يجرمنَّكم أي لا يكسبنَّكم، وقيل: معناه لا يحملنَّكم ـــ عن الكسائي ـــ، أو لا يبعثنَّكم.

{شَنَآنُ}: الشنئان: البغض.

                           *****

إنّ ما ورد في أسباب النزول يعني ضمناً، أنَّ الآية واردة في مقام حضّ المسلمين على حفظ واحترام الشعائر والمواقف والأشخاص التي ترتبط ببعض العبادات أو الأوضاع العامة المتعلّقة بالتخطيط للسلام في الحياة أو الأماكن المقدّسة، ولذا بدأ بشعائر الله التي اختلف الرأي في تطبيقها على عدّة مواطن ومعالم ومناسك، باعتبار صدق هذا العنوان عليها، كما جاء في الآية الكريمة: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ} [البقرة: 158]، ولكن لا مانع من القول بأنّها شاملة لكلّ حرمات الله ومعالم أمره ونهيه، باعتبارها علامات على طاعة الله، وربّما يومئ إلى ذلك في الآية المتقدّمة في جعل الصفا والمروة من شعائر الله، ما يعني أنَّ هناك غيرها من الأشياء التي يطلق عليها الشعائر. ومن الواضح أنَّ إطلاق كلمة الشعائر على الأمكنة والأشياء ليس بلحاظ ذاتها، بل باعتبار المعاني التي ترمز إليها والأعمال التي تؤدّى فيها، وبذلك يكون النهي عن استحلالها، نهياً عن تجاوز الحدود والفرائض التي أوجبها الله فيها ممّا يدخل في طاعته والانقياد له. وأمّا النهي عن استحلال الشهر الحرام، الذي جعله الله عنواناً للشهور الأربعة: رجب وذي القعدة وذي الحجّة ومحرّم، فلكي يكون للنّاس في حياتهم زمن سلام يستريحون فيه إلى أمنه وطمأنينته، ويعملون فيه على الدعوة إلى تقوية أواصر السلام والمحبّة فيما بينهم من خلال ما يعيشون فيه من أجواء الخير والسعادة. ولذلك أراد منهم ترك القتال فيه، مهما كانت الدوافع والأوضاع، إلاّ في الحالات الصعبة التي لا مجال فيها إلاّ للمواجهة القتالية التي تمثّل خطّ الدفاع عن القضايا. أمّا الهدي، فقد أراد الله للنّاس احترامه وعدم التعرّض له بسلب، أو باعتراض طريقه ومنع وصوله إلى محلّه، وكذلك الأمر بالنسبة للقلائد.

وفي ختام ذلك، نهى عن الاعتداء على الذين يؤمّون البيت الحرام ويقصدونه ابتغاء رزق الله عن طريق التجارة، أو الحصول على رضى الله وفق أساليبهم العباديّة الخاصة لله وإن كانت غير خالصة له.

{وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ} لأنّ التحريم كان بسبب حالة الإحرام، فجاز للإنسان بعد زوالها العودة إلى حالة الحِل التي يمارس فيها حريّته في كلّ ما أحلّه الله له في الأصل، من صيد أو غيره. {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ} أي لا يحملنكم { شَنَآنُ قَوْمٍ} أي بغض قوم {أَن صَدُّوكُمْ} منعوكم {عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} فلم يمكّنوكم من الدخول إليه أو البقاء فيه، {أَن تَعْتَدُواْ} بأن تبادلوهم المثل في وقت سلطتكم عليهم، لأنَّ الله لا يريد لكم أن تكونوا معتدين مثلهم على حريّة الناس في الدخول إليه في حال كان منهم ذلك، إذ إنَّ المعاملة بالمثل تمثّل اعتداءً على المعتدي، وذلك لو كان الموضوع وارداً في النطاق الشخصي، أمّا إذا كان الموضوع قضية تتعلّق بالخطّ التشريعي الذي لا يملك فيه الإنسان أمر الردّ من خلالها، فيكون ردّه اعتداً صارخاً على حدود الله من خلال الاعتداء على حرمة بيته وعباده. وهذه من الأمور التي يمكن للمؤمنين أن يلتزموها كخطٍّ ممتدٍّ للحياة، في أجواء الاعتداء الذي يتعرّضون له، فقد يكون من الواجب عليهم التفريق بين الموارد الشخصية التي يملكون فيها حقّ الردّ على المعتدي، وبين الموارد العامة التي وضع الله فيها للنّاس حدوداً، فإنّه لا يجوز ردّ الاعتداء بمثله، كأن يضرب إنساناً قريباً لإنسان، فيردّ بضرب قريب الضارب، لأنّ الله يقول: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام : 164] إذ لا ذنب له، فهو بريءٌ ولا مبرّر لضربه لمجرّد صلته بالمعتدي، وهكذا يجب الوقوف عند حدود الله في حلاله وحرامه، بعيداً عن الانفعالات العاطفية التي تدفع إلى انتهاك الحرمات التي لا يجيز الله للنّاس أن ينتهكوها، حتّى إذا انتهك الآخرون حرمةً مماثلة، فلا يمثّل ذلك حالةً شخصيةً، بل هي ملك لله، وهذا ما يجعل للأسلوب الإسلامي في الممارسة شخصيّته المستقلّة التي لا تتأثّر بردود الفعل ولا بأساليب الآخرين.

                           *****

التعاون أساس تحقيق البرّ والتقوى في حياة الناس:

{وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى} وهذا هو الشعار الإسلامي للحياة والناس، المرتكز على البرّ الذي يمثّل الخير في العقيدة والعمل، وذلك في ما توحيه الآية الكريمة: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة : 177] فإنّها اعتبرت القاعدة الفكرية العقيدية مظهراً من مظاهر البرّ، لأنَّ الانحراف عن الخطّ الصحيح، والابتعاد عن القاعدة الصلبة للفكر، يؤدّيان إلى اهتزاز الحياة وتحوّلها عن أهدافها السليمة، وينتهي بها ـــ بالتالي ـــ إلى الوقوع في قبضة الباطل والشرّ، لأنّ بداية الشرّ فكرةٌ شرّيرة، كما أنَّ منطلق الباطل خاطرة فاسدة، وبهذا كان الإيمان بالله واليوم الآخر والكتاب والنبيّين منطلق خيرٍ للحياة بما يمثّله من تخطيطٍ للمشاريع الخيّرة المنفتحة على الله في دوافعها وخطواتها وآفاقها الواسعة، ومن تشريع يستهدف بناء الشخصية الإسلامية الإنسانية على الصورة التي يحبّها الله للإنسان، ويوحي بالتالي بالاطمئنان الروحي والنفسي والثقة بالحاضر والمستقبل في حركة الحياة.

ولم يقف البرّ عند حدود الفكر، بل انطلق في خطّ العمل في ما تحدّثت عنه الآية من إيتاء المال على حبّه لكلّ من يحتاج إليه من الفئات المحرومة، ومن إقامة الصلاة التي توصي بطهارة الروح والقلب والجسد، وإيتاء الزّكاة التي تمثّل روحية العطاء في شخصية الإنسان، والوفاء بالعهد بما يمثّله من الالتزام بالكلمة والموقف، والصبر في جميع الحالات الذي يرتكز على صلابة الإرادة وقوّة العزيمة وثبات الموقف، والصدق الذي ينطلق من قاعدة الإخلاص للحقيقة، والتقوى التي تنفتح آفاقها على المراقبة الدقيقة لله، وبذلك ينفتح البرّ على آفاق حياة الإنسان الداخلية والخارجية.

أمّا التقوى، فإنّها الروح التي تمدّ الإنسان بالقلق الروحي الذي يدفعه إلى متابعة العمل بدقّة، لئلّا يخطئ هنا، وينحرف هناك، وينقلب على وجهه في نهاية المطاف.

وبذلك يتحوّل القلق إلى عنصر إيجابي يعطي للعمل إشراقة الروح والفكر، بدلاً من أن يسلّمه إلى أجواء الضياع والشلل في الاتجاه السلبي. إنّها الالتفاتة الإيمانية التي تقود الإنسان إلى الشعور بحضور الله في سرّه وعلانيّته، في يقظته ونومه، حتى ليشعر ـــ معه ـــ بالإحساس الحقيقي بوجوده معه، كما لو كان يراه عياناً، فيدفعه ذلك إلى الالتزام بكلّ صغيرةٍ وكبيرةٍ يعلم بأنَّ الله يحبّها ويرضاها، وإلى الابتعاد عن كلّ صغيرةٍ وكبيرةٍ يعلم بأنَّ الله يكرهها ويبغضها. فلا يفقده الله حيث يريد أن يجده، ولا يجده حيث يريد أن يفقده، ويتسامى هذا الإحساس في روحه حتى لينفذ إلى دوافعه ونواياه، فيحاول أن ينظّفها ويطهّرها ويدفع بها إلى حيث الطهر في النيّة والتسامي في الفكرة.

وقد طرح الإسلام التعاون كأساس لتحقيق البرّ والتقوى في حياة الناس، لأنَّ كثيراً من حالاتهما لا يمكن، من حيث المبدأ، تأديته يجهدٍ فردي، بل لا بدَّ من تضافر الجهود المختلفة لإنجازه، لا سيّما في المجالات التي يُراد منها بلوغ نتائج كبيرة، كما هو الحال مثلاً في المجالات الفكرية من التفاصيل والتعقيدات والانطلاقات، ممّا يمكن لبعض الأفكار أن يكتشف جانباً هنا، ولبعضها الآخر أن يكتشف جانباً هناك، ليتمّ البناء الفكري على قاعدةٍ صلبةٍ ثابتة، وقد نحتاج أن نسجّل في هذا المجال أنَّ الإنسانية لم تبلغ رقيّها الفكري إلاّ بفضل الجهود المتنوّعة التي تعاونت فيها البشرية في مختلف حقول المعرفة والعلوم، متفاعلةً فيما بينها أو متبادلة، متوافقة أو مختلفة. وفي ضوء ذلك، لا بدّ من أن تكون الروحية المهيمنة على ذلك هي روح الوصول إلى الحقيقة، لا روح الصراعات على المصالح الخاصة ومراكز النفوذ والقوّة والهيمنة باسم الحقيقة.

أمّا في المجال الاجتماعي، فثمّة مشاريع كثيرةٌ لحلّ مشكلة البؤس والفقر للفئات المحرومة، تحتاج إلى تعاون عام، وإلى جهود متنوّعة لا تحتملها طاقة فرد، مهما كان دوره. ولذلك، فإنّها لن تتكامل بدون التعاون والتعاضد والتكامل. وإذا ما انطلقنا إلى دائرة المبادئ والأخلاق، فإنّنا سنلتقي بحالات الضعف التي قد تسيطر على الإنسان فتفقده التزامه بالحقّ، وانسجامه مع الصفات الطيّبة، فإذا تعاون معه إخوانه على المسيرة المشتركة، أمكن له أن يأخذ قوّةً من قوّتهم، وروحاً من روحهم، ليستقيم له المبدأ، وليتقوَّم لديه الخُلُق.

وهذا ما أوحى به الله في قوله تعالى: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر : 3]، {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} [البلد : 17]. وهكذا نجد التقوى كإحساسٍ في داخل النفس، وكموقفٍ في ساحة العمل، تحتاج إلى مزيدٍ من التعاون في خطّ التنمية الروحية التي تعمّق الإحساس بالله في الأعماق، ليلتقي هناك الخوف من الله بحبّه، فيتحوّل إلى انضباطٍ على مستوى الفكر والموقف، ولأنَّ الإنسان قد ينهار أمام الإغراء أو الخوف، أو يضعف ويغيب في مجالات الضياع، فهو يحتاج لمن يأخذ بيده فيشدّ عليها، أو يمدّ له يده لينتشله من براثن السقوط، أو يذكره فلا ينسى، أو يرشده فلا يتيه أو يضيع، أو يقبل من أمامه العثرات فلا يسقط أو يهوي. وبذلك يلتقي الجميع على خطّ الله متآلفين متراحمين متكافلين بالصبر والحقّ.

وخلاصة الفكرة، أنّ الإسلام يدعو إلى إقامة الحياة على التعاون، الذي تتجمّع فيه الطاقات، وتتنامى فيه المواقف، وتتضافر فيه الجهود، لتتكامل للقضايا الكبيرة عناصرها، ولتتحقّق للبرّ والتقوى مصداقيّتهما في حياة الناس، وليبتعد الإنسان عن روح الفردية التي تغذّي في داخله الشعور بالزهو الذاتي، فتضخّم له شخصيّته على حساب القِيَم والمبادئ العامة، وبذلك يتحوّل إلى شخصٍ جديدٍ يرى الحياة ساحة للجميع على أساس مسؤوليّتهم المشتركة الكبيرة بين يديّ الله.

                           *****

القرآن وشروط التصرّف:

{وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} إذ يتمثّل الإثم بالعمل الذي يسير في غير خطّ الله، انطلاقاً من كلّ القِيَم الشرّيرة الفاسدة، والنوازع النفسية الهابطة، والجزع والبخل والكِبر والتجبّر والتمرّد الروحي والفكري والعملي على الله سبحانه وتعالى. كما يتمثّل العدوان بالاعتداء على أموال الناس وأعراضهم ونفوسهم، وبالتنكّر لكلّ القِيَم الروحية التي تحمي الإنسان من أخيه، لذا ينهرنا تعالى عن التعاون {عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} لأنَّهما يهدمان الحياة ويضعانها في أجواء الضياع والقلق والضلال، ويحوّلانها إلى غابة لا تحكمها القوانين والشرائع، بل تتحكَّم فيها القوّة الغاشمة العمياء، ليكون الحقّ للأقوى بعيداً عن ميزان العدل الذي يجعل القوّة للحقّ، والضعف للباطل. وعلى هذا الأساس، ألغى الإسلام كلّ العصبيات العائلية والعشائرية والإقليمية والقومية والعنصرية التي أكّدتها قِيَم الجاهلية، لأنّها لا تمثّل التعاون على أساس الحقّ والعدل والتقوة، وتعتبر الإطار الذي تتحرّك فيه العصبية أساساً لشرعية كلّ عمل تعاوني في مصلحتها، أيّاً كان موقعه من قضية الحقّ والباطل، كما عبّر عنه القول الجاهلي المأثور: "انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً". وفي ضوء هذا الرفض الإسلامي، جاءت الكلمة المأثورة عن الإمام عليّ بن الحسين (عليه السلام) في ما رواه الزهري عنه: "العصبية التي يأثم عليها صاحبها أن يرى الرجل شرار قومه خيراً من خيار قومٍ آخرين، وليس من العصبية أن يحبّ الرجل قومه، ولكن من العصبية أن يعين قومه على الظلم"(1). فالله سبحانه وتعالى، يريد للنّاس ألاَّ يتعاونوا على الإثم والعدوان، بحيث يصرفون كلّ طاقاتهم في هذا الاتجاه، واستلزاماً لهذا الغرض، يُريد منهم أن يبتعدوا عن الجوّ المحموم الذي تخلقه مجتمعات الإثم والعدوان في نفوس الأفراد، وذلك لإضعاف الدوافع التي تقود إلى الإثم، ولكي تتلاشى النوازع التي تعمل على إثارة روح العدوان على الآخرين في النفس، ولتتحوّل، بالتالي، الحياة إلى ساحة خير وإيمان وسلام.

{وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} وجاءت الدعوة إلى التقوى مقرونةً بالتذكير بالصفة الإلهيّة التي تؤكّد على أنّه شديد العقاب في موضع النكال والنقمة، لتخفّف من اندفاعات النفس الذاتية في خطّ الانحراف، فيواجه الإنسان الموقف بكثير من الشعور العميق بالنتائج المرعبة التي تنتظر السائرين على طريق الضلال بعيداً عن الله، ويتعرّف كيف يتفاداها بالطاعة والسير على خطّ العبودية المستقيم في أفكاره ومواقفه له تعالى، وذلك هو سرّ الأسلوب القرآني الذي لا يريد للتشريع التحليلي والتحريمي أن يتعلّق بالفراغ بعيداً عن حركة المسؤولية، بل يعمل على إثارة المسؤولية الثقيلة في وعي الجميع من خلال التلويح بالعقاب الشديد.

                           *****

 

 

القتال في سبيل الله    

أسباب عدم تشريع القتال في بدء الدعوة ـــ تشريع القتال في الخطوات الأولى ـــ الجهاد: إطلاق الدعوة، الأهداف، إشكالات ـــ بين القتال ونفي الإكراه في الدين ـــ الحثّ على القتال ـــ الفتنة أكبر من القتل ـــ التعبئة للقتال ـــ تفريغ نفوس الناس من الإحساس بالرهبة من العدو ـــ تفضيل المجاهدين على القاعدين ـــ جزاء المجاهدين ـــ القتال مرتبط بظروف المصلحة ـــ القتال في الشهر الحرام ـــ الإمساك بزمام المبادرة في الصراع ـــ ضرورة الحذر والاستعداد الدائم للأعداء ـــ علاقة تشريع الأشهر الحرم بالقتال ـــ التهرّب من القتال ـــ أساليب التهرّب من القتال ـــ الجهاد بين الواقع والأمنيات ـــ الأعذار المشروعة للتخلّف عن القتال ـــ في أجواء معركة أُحُد ـــ وقفة نقد وتقويم لأحداث معركة أُحُد ـــ الفئة المؤمنة تأخذ دروساً من أحداث معركة أُحد.

 

1 ـــ أسباب عدم تشريع القتال في بدء الدعوة:

{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [البقرة : 216].

                           *****                          

معاني المفردات:

{كُرْهٌ}: الكره بالضم: المشقّة التي تنال الإنسان من ذاته.

                           *****

لم يكن القتال مفروضاً على المسلمين، أو مأذوناً فيه لهم في صدر الدعوة الإسلامية في مكّة، فكانت وصايا النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) للمؤمنين الذين يضطهدون ويعذّبون، تتلخَّص بالصبر، والهجرة، والتحمّل، والتضحية. بل قد تصل إلى الإذن لهم بأن يقولوا ما يُراد منهم أن يقولوه من كلمات الكفر تحت ضغط التعذيب والإكراه، كما حدث لعمّار الذي نزلت فيه هذه الآية: {مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَـكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل : 106] بعد أن قال كلمة الكفر أمام حالة العذاب الصعبة.

ويمكن التوقّف عند احتمالات أربعة حالت دون تشريع القتال في هذه المرحلة:

الأول: ربّما كان ذلك خاضعاً للمرحلة الأولى التي أراد الله لدينه أن ينطلق منها في حياة الناس، فقد يبدو من الضروري أن يعيش المؤمنون الأوّلون المعاناة الداخلية والخارجية في ما يتعرّضون له من ضغوط نفسية وحياتية من قبل المشركين. وقد يساهم ذلك في خلق جوّ من التساؤل والاهتمام والتطلّع والتعاطف لدى الناس الآخرين من خلال المؤثّرات المتنوّعة التي تحكم حالة السلم في الدعوة.

الثاني: قد يكون الدخول في صراع عنيف مع قريش أمراً غير عملي من خلال حسابات توازن القوى؛ باعتبار أنّ الدعوة الجديدة انطلقت من المركز الخاضع لسيطرة قريش، ما يجعل من العسير أو المستحيل الدخول في صراع القوّة معها.

الثالث: حاجة الدعوة إلى الأجواء التي تسمح بالكلمة الهادئة التي لا تضيع في صخب القتال والسلاح لتترك تأثيرها الإيجابي في داخل النفوس، ولو من خلال المواقف السلبية ضدّها. فإنَّ أيّة دعوة تحتاج إلى فترة من الهدوء الذي يحملها إلى الأسماع والأفكار، بعيداً عن أيّة عناصر أخرى ضاغطة، لأنّ عظمة الدعوة الإسلامية أنّها جاءت لتخاطب العقول فتفرض عليها قناعاتها بالحُجّة والحوار بدلاً من القوّة والضغط. وذلك ما يفرض أن تعمل على تهيئة الوسائل العملية التي تكفل ذلك كلّه.

ولعلّ هذه النقطة هي التي فرضت هذا الأسلوب السلمي الصابر المهاجر في أجواء مكّة، باعتبارها المكان الأمثل الذي يمكن فيه للدعوة أن تصل إلى كلّ قلب وإلى كلّ أُذن، لأنّها عاصمة الجزيرة العربية الثقافية والدينية، ما يجعلها مركزاً للتجمّع في المواسم الثقافية والدينية كموسم عكاظ والحجّ، أو في المواسم التجارية عقيب رحلة الشتاء والصيف، الأمر الذي لا بدّ فيه للدعوة من أن تحافظ على وجودها في مكّة أطول مدّة ممكنة لاستغلال ذلك في تحقيق الهدف الكبير، بحيث نستطيع الوصول إلى بعض الأجواء العربية التي لا يمكن أن تصل إليها لولا ذلك.

الرابع: لعلّ هدف النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) في منع المؤمنين في مكّة من الدخول في صراع مسلّح مع قريش، هو إعطاء المؤمنين الذين يدخلون في الدّين ـــ وهم ضعفاء ـــ الفرصة للحصول على القوّة بطريقة تدريجية خالية من الفروض الصعبة الضاغطة على إرادتهم وحيلتهم، لئلا يشعروا بالحرج في البداية بالتكليف في القتال، وبذلك يستطيعون أن يتعمَّقوا أكثر في إيمانهم، ويسيروا في مدارج النمو في العقيدة والعمل بأسلوب واقعي متحرّك يوحي لهم بالامتداد والحركة في جوّ من الفكر الهادئ والخطوات الهادئة الواقعية.

وهكذا استطاع الإسلام أن يركّز قواعده بخلق جيل من الدّعاة الذين عاشوا المعاناة بأعمق معانيها وأرحب مجالاتها وأشدّ ظروفها، فانطلقوا مع النبيّ محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) إلى المدينة، ليركّزوا قواعد المجتمع الإسلامي الجديد. وبدأت المرحلة الجديدة للإسلام في عملية التقدّم إلى الأمام من خلال صنع القوّة الذاتية التي تواجه التحدّي بمثله، وتخترق الحواجز الموضوعة أمامها في الطريق من أجل أن تمنعها من التقدّم. وكان القتال شريعة هذه المرحلة.

وبدأت الصعوبات النفسية تقف أمام هذه الشريعة في نفوس بعض المسلمين الذين استراحوا ـــ أو هكذا توحي الآية ـــ للدعوة المسالمة التي تتلقّى الضربات دون أن تردّ عليها، فإنَّ الجهد الذي كانوا يلاقونه من خلال الاضطهاد لم يكن ليعرّضهم للخطر الكبير الذي يتعرّضون له من خلال القتال، بل كلّ ما هناك أنّه يثير فيهم حالات نفسية صعبة ضاغطة كانوا يتحمّلونها بصبر وإيمان، مع الاحتفاظ بخطّ السلامة الوديع في الحياة. وقد يبدو أنّهم تأفّفوا من هذه الفريضة الصعبة، أو اعترضوا، أو حاولوا التخلّص منها، كما توحيه كلمة {وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ}، لأنّه كان يعني السير إلى الموت باختيار، كما يعني الاستمرار فيه مدى استمرار التحدّيات الكافرة المشركة.

وكانت طريقة الإسلام أن يدفع المسلمين إلى الممارسة العملية من خلال القناعة الفكرية والاستجابة الروحية، بالإضافة إلى الاستسلام الإيماني الذي تفرضه العقيدة الإسلامية المرتكزة على التسليم لله في كلّ الأمور، فكانت هذه الآية من أجل تقرير الحقيقة الواقعية في ما يحبّه الإنسان ممّا لا يكون فيه كبير مصلحة له، أو في ما يكرهه الإنسان ممّا لا يكون فيه أيّة مضرّة له، الأمر الذي يوحي للإنسان بأنَّ الحالات النفسية الانفعالية لا يمكن أن تكون مقياساً للحركة السلبية أو الإيجابية في الحياة، لأنَّ الانفعال منطلق من السطح لا من العمق، باعتباره يمثّل حالة ردّ فعل لصدمة طارئة، أو نزوة سريعة، أو عاطفة ساذجة فلا بدّ من التعمّق في دراسة القضايا والمواقف والأشياء، من أجل النفاذ إلى واقعها، لمعرفة طبيعة المصالح والمفاسد الواقعية الكامنة فيه، لينتهي إلى النتيجة الحاسمة التي تبعده عن الاستسلام لانفعالاته السريعة.

وقد يستطيع الإنسان اكتشاف ذلك من دراسة تاريخ حياته الشخصي في ما واجهه من حوادث الانفعال، وما اكتشفه من خطأ الاعتماد عليها في ظهور السلبيات في ما إذا كان الانفعال يتّجه إلى الإيجابية، أو ظهور الإيجابيات في ما إذا كان يتّجه إلى السلبية. فليست الكراهة مؤشّراً لضدّ الحقّ في ما يكرهه، وليست المحبّة مؤشّراً للحقّ في ما يحبّه. إنّه شيء يكتشفه الإنسان من خلال تجاربه الشخصية. فإذا تحرّك في خطّ الإيمان فإنّه يكتشف، من خلال النافذة التي تطلّ به على الحقيقة الإيمانية، أنَّ الله يعلم حقائق الأشياء، ويعلم ما يضرّ الإنسان وما ينفعه منها، ويعرف كيف يشرّع للإنسان ما ينسجم مع مصلحته على أساس الحكمة والرحمة. أمّا الإنسان، فهو لا يعلم إلاّ القليل القليل منها، ولذلك نراه يتمرّد، ويشكّ، وينفعل. ومن خلال ذلك، انطلق القرآن في معالجة الموقف من ناحية فكرية ترتكز على التجربة، ومن ناحية إيمانية ترتكز على العقيدة. فطريقة القرآن، في حلوله لمشاكل الإنسان الداخلية، تتمثّل في قيادته إلى القناعة من خلال الواقع والإيمان.

ويبقى أنّ الآية توحي بأنَّ هناك سؤالاً مكبوتاً يتحرّك في الداخل بعد تشريع القتال، أو سؤالاً مطروحاً بطريقة مليئة بالمرونة والاستيحاء، فكانت الآية جواباً عن ذلك كلّه.

كتب عليكم القتال وهو كرهٌ لكم:

{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} أي: فرض الله عليكم القتال في فريضة الجهاد في سبيل الله، بعد أن منعكم منه مدّةً من الزمن في مرحلةٍ قاسية كانت مصلحة الدعوة فيها الأخذ بأسباب الصبر، والدفع بالكلمة الطيّبة، والبُعد عن ردّ التحدّي بمثله، حتى يمتدّ الإسلام في ساحته، ويستعدّ لتركيز قواعده في موقع قوّة جديد، بحيث لا يملك الآخرون إسقاطه بقوّتهم، لأنّه يملك آنذاك قوّة الردّ في ساحة المجابهة، {وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ} من خلال الطبيعة الإنسانية التي لا تنسجم مع كلّ الأعمال الشاقّة أو الخطرة التي قد تؤدّي إلى الألم أو الجرح أو الموت. فإنَّ الإنسان مفطور على حبّ الراحة والحياة، فيكره ـــ بطبيعته ـــ كلّ ما يسلبه ذلك.

وفي ضوء ذلك، فإنَّ هذه الكراهة الذاتية لا تتنافى مع رغبة المؤمنين بالجهاد طلباً لمرضاة الله، وطمعاً في الحصول على ثوابه، لأنّ الإنسان يرغب في الأعمال الشاقّة، أو الأسفار الخطرة، أو نحو ذلك، من أجل تحصيل المزيد من المال أو الجاه أو السلطة، أو القرب من الله تغليباً للمصلحة الراجحة أو الملزمة على المفسدة المرجوحة أو غير الملزمة. {وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً} من خلال بعض المشاكل التي يثيرها في حياتكم كالمخاطرة بالروح في الجهاد، والمشقّة في السفر في التجارة، والسهر في اللّيل لطلب العلم، {وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} لما يترتّب عليه من النتائج الكبيرة المتّصلة بالدرجات الرفيعة التي تبلغونها في الأخذ بما تكرهونه. فإنَّ الجهاد يضع المؤمنين بين خيارين كلاهما خير: إمّا النصر، الذي يؤدّي إلى الكثير من امتداد الإسلام في حركة الإنسان في الحياة وسيطرته على الواقع ممّا يجعل المسلمين في الموقع الكبير في الناس، وإمّا الشهادة التي ترفع درجة المؤمنين عند الله، فيحصلون ــــ من خلال ذلك ـــ على رضوانه وعلى جنّته.

{وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} لأنّ النتائج السلبية التي تحصل لكم، من خلال ذلك، قد تكون أشدّ خطورةً وإيلاماً ممّا تأملونه، أو تحبّونه منه، من النتائج الإيجابية. فإنَّ القعود عن الجهاد ـــ انطلاقاً من حبّ الحياة ـــ يؤدّي إلى سيطرة الكفر على الإسلام، وخضوع المسلمين للكافرين، ممّا يوجب الذلّ والهوان والسقوط المعنوي والسياسي والأمني والاقتصادي، والحرمان ـــ من جانبٍ آخر ـــ من ثواب الله ونعيمه في جنّته.

{وَاللّهُ يَعْلَمُ} ما يصلحكم ويفسدكم، ممّا قد تكون بداياته سيّئة ونهاياته حسنة، أو بالعكس، لأنّه يعلم عمق الأمور وجوهرها. {وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} إلاَّ السطح البارز منها فتقبلون على البداية الحلوة في غفلةٍ عن النهاية المرّة، وتتحرّكون نحو الأمور من خلال ظواهرها، ولا تبحثون عن بواطنها، فتقعون في الشرّ وأنتم تريدون الخير، أو تخسرون الخير حيث يخيَّل إليكم أنّه الشرّ. ولذلك فعليكم أن تنطلقوا إلى ما يأمركم به، لأنَّ فيه الخير كلّه في الدنيا والآخرة، وأن تبتعدوا عمّا ينهاكم عنه لأنَّ فيه خسران الدنيا والآخرة.

قال الطبرسي في مجمع البيان: "أجمع المفسِّرون ـــ إلاَّ عطاء ـــ أنَّ هذه الآية دالّة على وجوب الجهاد وفرضه، غير أنّه فرضٌ على الكفاية، حتى أن لو قعد جميع الناس عنه أثموا به، وإن قام به من في قيامه كفاية وعناء سقط عن الباقين. وقال عطاء: إنَّ ذلك كان واجباً على الصحابة، ولم يجب على غيرهم، وقوله شاذّ عن الإجماع"(1).

                           *****

الإيحاءات والدروس:

أوّلاً: لا بدّ للعاملين في سبيل الله من استيحاء هذه الآية في غير هذا الجانب من قضايا التشريع أو العمل في سبيل الله، ممّا قد يثير احتجاج البعض واستنكار البعض الآخر، أو يدفعهم إلى التمرّد وعدم الانضباط، وذلك بأن تنطلق التربية الإيمانية على أساس الإحساس بضرورة التحرّك من واقع التجربة وحركة العقيدة، ليستوحيهما الإنسان في كلّ أموره العملية قبل أن يندفع في اتّخاذ المواقف السلبية والإيجابية. وبذلك تتأكّد الشخصية الإسلامية في مواقعها الصلبة الواعية، فلا تهتزّ أمام حالات الانفعال، ولا تسقط تحت تأثير ردود الفعل الطارئة السريعة، ولا تندفع في طريق لا تعرف نهاياته وأبعاده؛ بل تقف أمام الأشياء وقفة تأمّل وتفكير ـــ من دون فرق بين حالات التحدّي أو حالات الاسترخاء ـــ لتدرس كلّ شيء من مواقعه الذاتية بكلّ تجرّد وموضوعية، فلا يمكن للأعداء أن يقودوها إلى معركة لم تحدّد مسارها ومنطلقاتها وأوقاتها، ولا يمكن للأصدقاء أن يدفعوها في طريق لا تعرف كيف تتعامل معه في خطواته البطيئة والسريعة، بل تقف وسطاً بين الخطوط لتختار الخطّ الذي يناسبها من خلال دراسة موضوعية واعية مبنية على العلم والإيمان.

ثانياً: إنّ الإسلام يواجه الواقع في تشريعاته، فهو يعترف بالواقع الصعب والتجربة المرّة، ولكنّه يوحي للإنسان بالأسرار العميقة، والأرباح الكبيرة، والنهايات السعيدة التي تكمن في القضية التي يعالجها التشريع، بحيث تحقّق للإنسان رغباته المادية أو المعنوية التي يتجاوز ـــ من خلال الانفتاح عليها ـــ كلّ الصعوبات والمرارات، فيرحّب بها بدلاً من أن يتعقَّد منها.

ثالثاً: أن تتحرّك حسابات الخير والشرّ لدى الإنسان على أساس النظرة الواسعة العميقة لما عند الله، ممّا يدركه العقل بالتأمُّل أو يكشفه الوحي، لتكون الموازين لدى الإنسان المؤمن منطلقة من موازين السماء، فلا تستغرق في خصوصيات موازين الأرض.

رابعاً: الاطمئنان إلى حكمة التشريع الإلهي من خلال الحقيقة الإيمانية، وهي أنَّ الله هو الذي يعلم خفايا الأمور وبواطنها ونهاياتها، فلا بدّ من الثقة بالتشريع بأنّه يختزن الخير كلّه للإنسان بعيداً عن المشاعر والانفعالات الذاتية التي يثيرها في النفس سلباً أو إيجاباً؛ فلا يرفض الحكم الشرعي لعدم انسجامه مع رغباته، لأنَّ عنصر الرغبة لا يتّصل بالعمق من المصالح والمفاسد، بل يتّصل بالجانب السطحي من حياة الإنسان.

                           *****

 

2 ـــ تشريع القتال في الخطوات الأولى:

{وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ*وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ*فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ*وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ} [البقرة: 190 ـــ 193].

                           *****

معاني المفردات:

{وَقَاتِلُواْ}: القتال والمقاتلة محاولة الرّجل قتل من يحاول قتله.

{وَلاَ تَعْتَدُواْ}: الاعتداء: مجاوزة الحدّ. يقال عدا طوره: إذا جاوز حدّه.

{ثَقِفْتُمُوهُمْ}: أي: وجدتموهم وأدركتموهم على نحو الأخذ والغلبة.

{وَالْفِتْنَةُ}: أصلها الاختبار، ثمّ ينصرف إلى معان منها: الابتلاء، نحو قوله تعالى: {وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً} [طه : 40] أي: ابتليناك ابتلاءً على أثر ابتلاء. ومنها: العذاب، كقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت : 10] ومنها: الصدّ عن الدِّين، نحو قوله: {أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ} [المائدة : 49] والمراد بها في الآية: الشرك بالله ورسوله.

                           *****

في هذه الآيات، يضع القرآن الخطوات الأولى لتشريع القتال في الإسلام، ويثير أمامنا الفكرة التي يستند عليها هذا التشريع في بداياته. فقد كانت قريش هي البادئة بالقتال والعدوان على المسلمين، فليس من الطبيعي أن يقفوا مكتوفي الأيدي أمامها، ينادون بالسلام والمحبة والعفو والمغفرة، لأنَّ مثل هذه المفاهيم الروحية الأخلاقية لا يفهمها المعتدون الذين يحرّكون سيوفهم في هوى أطماعهم وشهواتهم وظلمات أنفسهم، فلا بدَّ من الحديث معهم باللّغة التي يفهمونها جيّداً، من موقع الجوّ الذي يعيشونه في اعتبار القوّة أساساً للحقّ وللسيطرة. وكان الإسلام واقعياً في نظرته إلى طبيعة الموقف، فأذن للمسلمين في القتال في سبيل الله لمن يقاتلهم.

{وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} فلم يأذن لهم أن ينطلقوا من موقع الثأر الشخصي الذي يستجيب للنوازع الذاتية، التي قد تضعف وقد تقوى تبعاً للحالة النفسية التي تحكم الواقع الداخلي للإنسان، بل أذن لهم أن يعتبروا الخطّ القتالي سائراً في سبيل الله، لأنَّ هؤلاء يعملون على أساس إبعاد الناس عن الله وعن سبيله، ومجابهة المؤمنين به، العاملين بطاعته، وأرادهم أن لا يعتدوا، بل أن يواجهوا الموقف بروحية الدفاع عن الحقّ وعن أصحابه، ليكون الإسلام هو القوّة البديلة، لأنَّ قوّته لا تمثّل خطراً على الحياة، بل هي على العكس من ذلك تدفع الخطر عن القِيَم الأصيلة للإنسان ابتداءً من الحفاظ على وجوده الخيِّر إلى كلّ خطوة من خطواته العملية الخيِّرة في بناء الحياة.

{وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ} إنَّ الكافرين هم الذين بدأوا العدوان والقتال، فليتحمّلوا نتائج أعمالهم وعدوانهم، وليتحرّك المسلمون في اتّجاه تهديم القوّة الطاغية، وصنع القوّة البديلة من مواقع الحقّ؛ وليلاحقوهم حيث وجدوهم، لأنَّ ذلك هو السبيل لإذلالهم وإضعافهم والسيطرة عليهم. {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} أي: وجدتموهم وأدركتموهم وتمكّنتم من السيطرة عليهم.

فكلّ الساحات التي يوجدون فيها هي ساحات حرب شرعية ضدّهم، فلا مأمن لهم في أيّ مكان، ولا ملاذ لهم في أي ملجأ ليعيشوا الخوف الدائم الذي لا يترك لهم مجالاً للشعور بالأمن في أي موقع من مواقع وجودهم. إنّه قانون المعاملة بالمثل. {وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} فقد اضطهدوا المسلمين وأبعدوهم عن مكّة حتّى تفرّقوا في بلاد الله في هجرات متعدّدة. فللمسلمين الحقّ في أن يعاملوهم بمثل ما عاملوهم به، ولم تكن قضيّتهم قضية قتال للمسلمين وإخراجهم من ديارهم، بل كانت القضية هي ممارسة أقسى قتال للمسلمين وإخراجهم من أجل فتنتهم عن دينهم تحت تأثير الضغوط الصعبة من التهديد والتعذيب والإغراء والإبعاد والتشريد.

                           *****

{وَالْفِتْنَةُ} عن الدِّين ـــ في نظر الإسلام ـــ {أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ}، لأنّ القتل يعني الموت الجسدي، بينما تمثّل الفتنة عن الدّين الموت الروحي الذي يفقد الإنسان معه نفسه، ويتحوّل إلى عنصر ضار للحياة بدلاً من أن يكون عنصراً نافعاً لها، ما يجعل من الجريمة جريمةً تتّصل بالجانب الشخصي للإنسان، وبالجانب العام لحياة المجتمع كلّه.

وعلى ذلك الأساس أعطاها الإسلام طابع التحدّي للحياة، لأنّها تحمل التحدّي لكلّ ما تحمله الحياة التي يريدها الله للإنسان من الخير الشامل، والمحبّة المرتكزة على العدل، والتصوّر الإيجابي لكلّ ما يواجه الإنسان من مشكلات على أساس الفكر الواقعي الإنساني المسؤول الذي لا يهرب من المشكلة بل يواجهها بشجاعة، ولا يخضع للتاريخ بل يناقشه بمسؤولية، ولا يتعبَّد للمحدود، بشراً كان أو حجراً، بل يتمثّل فيه سرّ إبداع الخالق المطلق بعيداً عن كلّ نظرة ذاتية خاشعة للمخلوق. وهكذا يتحرّر الإنسان في أجواء الدِّين السمح الذي يبني للإنسان شخصيّته على أساس الحريّة أمام كلّ شيء حوله، ليجعله عبداً لله وحده، ويركّز للحياة قواعدها على أساس العدل الذي يتجاوز الطبقيّة للمساواة، والتمييز بين الناس للتنوّع، ولتوزيع الفرص على أساس الأدوار التي تحتاجها الحياة.. وفي هذا الجوّ، أراد الإسلام للإنسان أن يقاتل الذين يحاربون فيه هذا التوجّه الحرّ للحياة وهذه الحريّة الخاشعة في محراب عبوديّتها لله. ولا يعتبر الإسلام مثل هذا القتال عدواناً على الآخرين، بل دفاعاً عن الإنسان والحياة ضدّ الذين يريدون قتل إنسانية الحياة في الإنسان.

وإذا كانت الفتنة ـــ وهي الصدّ عن الدِّين ـــ تتمثّل بالضغط النفسي، والتعذيب الجسدي، والتجويع الغذائي، والحصار الاقتصادي، ونحو ذلك ممّا مارسته قريش وحلفاؤها ضدّ المسلمين الذين دخلوا في الإسلام آنذاك من النساء والرجال، وكانت ثمّة ذلك ما قامت به ضدّ آل ياسر وبلال الحبشي وبني هاشم في حصار الشعب، وإلجاء المسلمين إلى الهجرة فراراً من شدّة التعذيب، فإنّها قد تتمثّل في الأوضاع الفاسدة الضاغطة على الجوّ الأخلاقي العام، المانعة من السعي نحو إيجاد المجتمع المسلم في أخلاقيّته وروحانيّته ومناهجه الإسلامية بمختلف وسائل الاضطهاد الروحي، ما يدفع بالناس إلى الانحراف عن الحقّ، وقد يتمثّل بمصادرة الحريات الفكرية والسياسية والإعلامية من قِبَل القوى المستكبرة لمصلحة تيّارات مضادّة كافرة، تتحرّك في حريّاتها الضاغطة على الدِّين وأهله، بحيث تمنع الجيل الجديد من الثبات على الإسلام، وتنحرف بالجيل الحاضر عن الخطّ المستقيم؛ سواء كان ذلك على مستوى الحكومات أو الشخصيات أو الأحزاب المستبدّة.

                           *****

القتال في المسجد الحرام:

{وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ} وجاءت هذه الآية لتدلّل على أنّ للمسجد الحرام حرمته الكبيرة عند الله، لأنَّ الله جعله قاعدة السلام للإنسان في الأرض، فلا يحلّ فيه القتال مهما أمكن الامتناع عن ذلك، ولا يجوز لأحد أن يبدأ أحداً بقتال فيه؛ ولكنّ الدفاع عن النفس حقّ مقدّس، فللإنسان حقّ الوقوف بقوّة ضدّ الذين يقاتلونه في هذا المكان الآمن، لأنَّ انتهاك الحرمة لم يكن من قِبَل المدافعين، بل من جانب المهاجمين، ولذلك فإنَّ على المسلمين أن لا يشعروا بالحرج أمام حالة اضطرارهم للدفاع عن أنفسهم بقتال المشركين في المسجد الحرام، لأنَّ ذلك هو السبيل لحماية المسجد الخرام من القوّة الطاغية الباغية التي تشوّه روحية المعاني الكبيرة في المسجد، وتهدّم أجواء السلام في داخله، فلا بدّ من قتالهم وإبعادهم عنه حتى يخلو الجوّ للخير والمحبّة والتقوى والسلام في نهاية المطاف، ليستمرّ قاعدة للأمن لكلّ الناس في ظلّ الدعوة التي تؤمن بهذه الحقيقة، انطلاقاً من إيمانها بالله في شريعته الممتدة في رحاب الحقّ والعدل والأمان.

وقد كان المسلمون يتحرّجون من ذلك في بعض المواقف التي كانت تتفجَّر بالحرب بينهم وبين قريش، وذلك في ما روي في مجمع البيان عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ} ـــ الآية ـــ نزلت هذه الآية في صلح الحديبيّة، ذلك أنَّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) لما خرج هو وأصحابه في العام الذي أرادوا فيه العمرة، وكانوا ألفاً وأربعمائة، فصاروا حتى نزلوا الحديبية؛ فصدّهم المشركون عن البيت الحرام، فنحروا الهدي بالحديبية. ثمَّ صالحهم المشركون على أن يرجع من عامه، ويعود العام القابل، ويخلوا له مكّة ثلاثة أيام، فيطوف بالبيت ويفعل ما يشاء، فرجع إلى المدينة من فوره. فلمّا كان العام المقبل، تجهَّز النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وأصحابه لعمرة القضاء وخافوا أن لا تفي لهم قريش بذلك وأن يصدّوهم عن البيت الحرام، ويقاتلوهم، وَكَرِهَ رسول الله قتالهم في الشهر الحرام في الحرم، فأنزل الله هذه الآية(1).

ومن خلال هذه الآية نعرف واقعية الإسلام في التشريع في ما يحرّمه ويحلّله من أشياء، فإنَّ حرمة الأشخاص والأمكنة والأزمنة تفرض نفسها على واقع التشريع والممارسة، ما دامت في حدودها الخاصة التي لا تصطدم بحرمة أشياء أعظم منها في مقياس القضايا الكبيرة، فإذا اصطدمت بها في بعض المواقف، بحيث كان الحفاظ عليها موجباً لسقوط الحرمة الأعظم، وهي حرمة الإنسان المؤمن في نفسه ودينه، كان للمسلمين الحقّ في تجاوز الحرمات العظيمة أمام الحرمة الأعظم، على ما هي القاعدة الإسلامية التي يغلب فيها الجانب الأقوى في المصلحة على الجانب الأضعف. ومن هنا تأتي الاستثناءات التي تخرج بعض الأمور من القاعدة العامة في أيّ حكم شرعي. ولولا ذلك لأمكن للفئات الباغية أن تستغلّ حرمة بعض الأمكنة والأزمنة، لتحارب الإسلام في قوّته انطلاقاً من عدم قدرة المسلمين على الردّ نظراً لحرمة الشهر أو المكان، ما يوجب تقدّم تلك الفئات في مواقع القوّة على الإسلام والمسلمين. وهذا ما عبّرت عنه الآية الكريمة: {وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ}.

ولما كانت هذه الحالة التي يمارس فيها المسلمون القتال في المسجد الحرام دفاعاً عن أنفسهم، استثناءً، فلا بدّ من أن تقدّر بقدرها، وذلك في مجال عدوانهم على المسلمين. {فَإِنِ انتَهَوْاْ} وكفّوا عن القتال في هذا المكان المقدّس، فيجب أن يتوقّف القتال عند ذلك لزوال السبب الذي أباحه في هذا المكان الحرام. ويمكن أن يكون التعليل بقوله: {فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} على أساس وضع السبب موضع المسبّب إعطاء لعلّة الحكم ـــ كما في تفسير الميزان(1) ـــ فإنَّ غفران الله ورحمته هما الأساس في جواز أيّ عمل يريده الله في أيّ شأن من شؤون الحياة، أي يجوز لكم الامتناع عن قتالهم، لأنّه لا يبقى بعد ذلك أي سبب له، فكان الله يغفر لكم ويرحمكم بالكفّ عنهم والله العالم. وربّما فسَّر قوله: {فَإِنِ انتَهَواْ} بالانتهاء عن الكفر بالتوبة منه، فيكون قوله: {فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} دالاً على أنّ الله يقبل توبة المشرك ويغفر له ذلك ويرحمه بعده، ويكون مسلماً، له ما لهم وعليه ما عليهم.

                           *****

كيف نفهم القتال من موقع الجهاد؟

ثمّ انطلقت الفكرة، لتجعل من قضية القتال ضدّ الشرك والمشركين قضية تدخل في حساب تهديم الأُسس التي يرتكز عليها الكفر في قوّته التي يحارب من خلالها الإسلام، ويضغط بها على حريّة المسلمين ليفتنهم عن دينهم، ويقف على أساسها ضدّ كلّ تحرّك للإسلام في العالم. إنَّ القضية ليست نزاعاً على مستوى الأشخاص أو القبائل أو الفئات المتخاصمة، لتحلّ على أساس الهدنة أو إنْها النزاع في نطاق المعاهدات القائمة على التجميد المؤقّت للمشكلة؛ بل هي نزاع على مستوى رسالة الله التي أراد أن تقوم الحياة على قاعدتها الصلبة الممتدّة بالحقّ والعدل؛ ولذا فإنّ وجودها يعتبر نقيض وجود الكفر الذي يعمل على العدوان والبغي والطغيان. ولذلك فلا بدّ من قتال الشرك والمشركين، حتى لا يبقى هناك أساس للضغط الذي يفتن المؤمنين عن دينهم، وحتى يكون الدِّين كلّه لله؛ فلا يبقى للشيطان وللطاغوت موطئ قدم في الأرض. {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ} من دون أي ضغط أو تهديد أو مصادرة للحرية، ما يمنع المسلمين من ممارسة دينهم براحة وطمأنينة.

إنَّ القضية هي قضية مصلحة الإنسان؛ فلا بدّ من الجهاد الشامل بشروطه الإسلامية الشرعية من أجل أن تبقى للإنسان حريّته الحقيقية في الحياة القائمة على الحقّ والعدل، بعيداً عن أوهام الحرية في ظلّ سيادة الكفر والظلم والعدوان باسم حرية الفكر والموقف. ومن الواضح أنَّ قضية الجهاد ليست قضية سيطرة سلطة غاشمة تضغط على إرادة الإنسان، فلا تمنحه الحرية ليناقش أو يحاور أو يسأل من أجل الوصول إلى الحقيقة الإيمانية، بل هي قضية تحديد حريّة الكفر وتجميد دوره، وذلك بإعطاء الإنسان الحرية في الوصول إلى القناعة من خلال الحوار الإيجابي المنفتح في نطاق خاص. فإذا تمرّد كان الحقّ للحياة الرسالية أن تعبّر عن نفسها بفرض سلطتها على الواقع من أجل الإنسان. وقد نعرف، من خلال دراسة الشروط الشرعية للجهاد، أنّه لا يهدف دوماً إلى تغيير عقيدة الإنسان بالقوّة، بل نراه يحافظ على إبقاء الآخرين على عقيدتهم في ما يتّصل بالديانات السّماوية الأخرى إذا حافظوا على شروط العهد والذمّة، أو في ما يتّصل بالفئات الأخرى غير المؤمنة ـــ في بعض الحالات ـــ في نطاق المعاهدات التي تقتضي مصلحة الإسلام إقامتها معهم. إنَّ القضية هي أن لا تكون هناك فتنة، وأن يكون الدِّين كلّه لله، بحيث تكون له الكلمة العليا في الأرض، فلا تبقى هناك كلمة للكفر في موقع السيادة الشاملة. وتلك هي قضية كلّ فكر ودين يريد أن يجعل الحياة على صورته.

{فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ}. فسِّر الانتهاء في هذه الآية بإيمانهم بالإسلام والابتعاد عن خطّ الكفر، فإنّهم إذا أسلموا كان لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، وذلك في ما روي عن النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): "إنَّ ربّي أمرني أن أُقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلاَّ الله، فإن قالوها اعمصوا منّي دماءهم وأموالهم"(1). وفي ضوء ذلك، يعتبر القتال بعد الإسلام مخصوصاً بالظالمين الذين يعتدون على الناس ويبغون عليهم بغير الحقّ.

ويمكن أن تكون الآية واردة في اتجاه آخر، وهو التأكيد على تحطيم قوّة الكفر، وتركيز سيادة الدّين وقوّته من خلال القتال الذي يحقّق هذا الهدف، بالمستوى الذي لا يستطيع المشركون والكافرون معه الممارسة العدوانية على المسلمين؛ وذلك إمّا بالإيمان بعد الكفر، وإمّا بالمعاهدات التي تنظّم قواعد السلام القائم على احترام حرية المسلمين في دينهم وفي الدعوة إلى الدِّين.

وعلى ضوء ذلك، لا تكون الآية واردة في مجال انتهائهم عن الكفر، بل عن الظلم والعدوان. وليس معنى ذلك أنَّ الإسلام لا يبرّر الجهاد من أجل تحطيم واقع الكفر في الحياة، بل كلّ ما نريد أن نقرّره هو إمكانية أن يكون للآية معنى غير ما يذكره المفسّرون.

                           *****

3 ـــ الجهاد: إطلاق الدعوة، الأهداف، إشكالات

{فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً*وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيراً*الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} [النساء: 74 ـــ 76].

                           *****

معاني المفردات:

{يَشْرُونَ}: يبيعون. يقال: شريت، بمعنى بعت، واشتريت، بمعنى ابتعت.

{وَالْمُسْتَضْعَفِينَ}: وهم الذين استضعفهم الحاكم المستكبر لأنّهم لا يملكون مقوّمات القوّة الذاتية، فيعيشون معذّبين مقهورين، ممّا يفرض على الذين يملكون القوّة والفرصة لإنقاذهم أن يتحرّكوا في هذا الاتجاه ليخلّصوهم من ضغط المستكبرين.

                           *****

{فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ} تنطلق الدعوة إلى الجهاد، في نداءٍ حاسم يدفع المؤمنين إلى القتال في سبيل الله، من خلال الأجر العظيم الذي ينتظرهم عند الله، لأنّ الإيمان الحقّ يمثّل ـــ في عمق معناه ـــ أنّ المؤمن يبيع نفسه لله ولا يرى الدنيا لنفسه ثمناً، بل يشتريها بالآخرة، فتكون هي الهدف الذي يستهدفه من كلّ أعماله ومواقفه، وهي المقياس للسعادة والشقاء في الجانب الإيجابي والسلبي منها. ولهذا جاءت الآية لتثير هذه الحقيقة الإيمانية في ذواتهم، ليشعروا بأنّ القتال في سبيل الله يمثّل الوجه الحقيقي لحركة الآخرة في وعي الإنسان وموقفه: {وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} فإنَّ الله قد أعدَّ للمجاهدين الذين يقتلون في المعركة أو الذين ينتصرون على عدوّهم الأجر العظيم. ولم يتعرّض القرآن لحالة الهزيمة، للإيحاء بأنّ ذلك ليس وارداً في أجواء المؤمنين الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ويقاتلون في سبيل الله، لأنّ طبيعة الهدف تمنعهم من ذلك في أيّة حالة من الحالات.

                           *****

 

الأهداف الواقعية للجهاد:

وتتابع الآيات حديثها عن الأهداف الواقعية للجهاد بطريقة الإثارة، فتتوجّه إلى المؤمنين بأسلوب يوحي بأنّ الأوضاع القلقة التي يعيشها المستضعفون تجعلهم لا يجدون لديهم وليّاً ولا نصيراً إلاّ الله، وذلك من خلال حالة الاستضعاف التي يعيشونها أمام حالة الاستكبار في كلّ ما يملكه الأعداء من قوىً مادية ومعنوية لا بدّ أن تفرض حلاًّ حاسماً لتغيير هذا الواقع من خلال الموقف، فكيف يواجه المؤمنون الذين يحملون لواء الدعوة إلى الله، لتتساقط كلّ الأصنام الحجرية والبشرية على الأرض ولتتحطّم كلّ القوى الظالمة الباغية أمام قوّة الحقّ والعدل؟ كيف يواجهون الموقف، وهم يشاهدون كلّ هذه المآسي التي تمثّل في المظالم التي يقوم بها المستكبرون ضدّ المستضعفين، من جلدهم بالسياط وقتلهم وسجنهم وإخراجهم من ديارهم، لا لذنب جنوه، بل لأنّهم رفضوا عبادة الأصنام وقالوا ربّنا الله بكلّ صدق وصراحة وإيمان، ووقفوا في حالة اشتداد القهر والألم والظلم أمام الله، ليستغيثوا به ويبتهلوا إليه أن يخرجهم من هذه القرية الظالم أهلها، وأن يجعل لهم من لدنه وليّاً ونصيرا. إنّ الله يأمرهم بالقتال من أجل تحقيق الأهداف التي انطلق الإسلام ـــ وكلّ رسالات الله ــ من أجلها، وهي إقامة العدل في كلّ أرض، ورفع الظلم عن كلّ إنسان، وتوفير الأمن والطمأنينة للحياة على أساس حكم الله وكلمته. وتلك هي أهداف القتال في الإسلام، فإنّه لم يدع إلى القتال للسيطرة الاستعلائية التي تريد أن تحكم لتحقّق للحاكم شهواته في العلو والاستكبار، أو لتفسح المجال للإفساد من خلال القوّة الغاشمة التي يهيّئها القتال للحكّام، بل دعا إليه من أجل أن يحقّق للحياة رسالتها، وللإنسان إنسانيّته، ولهذا جاءت الآية لتثير في داخل المؤمنين إيمانهم وعاطفتهم ومسؤوليّتهم عن الناس والحياة.

                           *****

 

معنى القتال في سبيل الله:

{وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ} الذي حدّد لكم أهدافكم في رسالته التي تدعوكم إلى إقامة حكم الله في الأرض وتشييد الحقّ والعدل وهدم الباطل والظلم، فينبغي لكم أن تنطلقوا بكلّ الوسائل التي تحقّق للإسلام حريّته في الدعوة إلى الله في كلّ مناحي الأرض، {وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ} الذين يتعرّضون لأبشع أنواع الظلم والقهر والاستبداد {الَّذِينَ يَقُولُونَ} تحت وطأة الوضع الذي لا يطاق، في ابتهال خاشع مستغيث: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ} مكّة {الظَّالِمِ أَهْلُهَا} لكلّ الناس الذين لا يخضعون لهم من الضعفاء الذين لا يملكون مقوّمات القوّة الذاتية، فيلجأون إلى الله ليجعل لهم السبيل إلى القوّة حيث لا قوّة، وإلى النصرة حيث لا نصرة. {وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيراً} وأيّ دور أعظم من هذا الدور الذي جعله الله للمؤمنين، وأي تكريم أفضل من هذا التكريم الذي منحهم إيّاه، في ما أراده منهم من القيام بشؤون الولاية والنصرة للمستضعفين، باعتبارهم القوّة المؤمنة العادلة التي تعمل لتنفيذ إرادة الله في الأرض، وفقاً لسننه في مسيرة الحياة التي جرت على أنّ النصر الذي يمنحه الله لعباده لا بدّ أن يتم بالأسباب الطبيعية التي وضعها بين أيديهم.

وهكذا نفهم، من خلال هذه الآية، رفض الفكرة التي يوجّهها أعداء الإسلام للإسلام بأنّه دين العنف والقتال، فإنَّ العنف لم يكن إلاّ لتدمير العنف الظالم الذي يتمثّل في القوى الغاشمة التي تضغط على إرادة المستضعفين، أمّا ما عدا ذلك، فإنَّ الإسلام دين الرحمة والمحبّة الذي يحتوي الحياة كلّها بكلّ وداعة وتسامحٍ واطمئنان.

                           *****

 

 

الخطّ الفاصل بين قتال المؤمنين وقتال الكافرين:

ويختم الله هذا النداء بتقرير الحقيقة الإيمانية، في الخطّ الفاصل بين قتال المؤمنين وقتال الكافرين؛ فإنَّ المؤمنين يقاتلون في سبيل الله، فليس لهم أيّ هدف يتّصل بالحالة الشخصية للمقاتل، أو بالنوازع الذاتية التي تربطه بعلاقاته وشهواته وأطماعه، أو بالأشخاص الذين يمثّلون خطّ الطاغوت في الفكر والعمل والموقف، بل كلّ ما هناك، أنّه يقاتل في سبيل الله الذي هو الوجه المشرق لسلامة الحياة والإنسان. أمّا الكفّار، فإنّهم يقاتلون في سبيل الطاغوت، بما يمثّله من الفكر الباطل والحكم الطاغي والشريعة المنحرفة والأهواء الضالّة والفرق الظالم والفئة الشرّيرة الكافرة، وهذا ما يوحي للمؤمنين دائماً بتحديد الساحة التي يقاتلون فيها، من خلال تحديد القيادة التي تقود الساحة، والحكم الذي يحكمها، والأفكار التي تسيطر عليها، والأهداف التي تستهدفها، والجبهة التي تعمل معها، أو تحاربها.

فذلك هو الذي يحقّق له مصداقية شخصيّته الإيمانية من جهة، ويمنح موقفه الشرعية الإسلامية؛ فلا يمكن للمؤمنين أن يقاتلوا أولياء الله، مهما كانت الظروف والنتائج، لأنّ ذلك يعني الحرب على الله بشكلٍ غير مباشر. وقد نحتاج إلى التدقيق في تطبيق هذا الخطّ على مسيرتنا الإسلامية، في مثل هذه العصور التي فقد فيها المسلمون الحكم الذي ينطلق من مواقع الشرعية الإسلامية، واختلفت ـــ في الوقت ذاته ـــ الأوضاع التي تتحرّك في أكثر من صيغةٍ سياسية في حياتنا، ممّا يمكن ـــ معه ـــ أن يلتبس على الإنسان الحقّ والباطل، ويشتبه عليه المخلصون من المنافقين.

{الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ} لأنّهم الذين يمثّلون الطاغوت في كلّ جوانب حياتهم الفكرية والعملية؛ ولا تخافوا من كيدهم وشرّهم وطغيانهم، لأنّهم يستمدّون قوّتهم من الشيطان الذي يملك قوّة محدودة تتحرّك من خلال الوسائل المادية التي يقدّمها لأتباعه، ولكنّها سرعان ما تتهاوى أمام الموقف الصلب الذي يقفه المؤمنون، انطلاقاً من قوّة الله المطلقة التي لا تقف عند حدّ { إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً}.

                           *****                         

4 ـــ بين القتال ونفي الإكراه في الدين:

{لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة : 256].

                           *****

معاني المفردات:

{إِكْرَاهَ}: الإكراه: الإجبار والحمل على الفعل من غير رضا.

{الرُّشْدُ}: خلاف الغيّ، وهو إصابة وجه الأمر ومحجّة الطريق، ويستعمل استعمال الهداية.

{بِالطَّاغُوتِ}: كلّ متعدّ، وكلّ معبود من دون الله، كالأصنام والشياطين وأئمّة الضلال من الناس، وكلّ متبوع لا يرضى الله سبحانه باتّباعه. والطاغوت مبالغة في الطغيان والتجاوز عن الحدّ.

{بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ}: العصمة الوثيقة، وهي استعارة تصريحيّة تمثيليّة، فقد شبّه من يسلك سبيل الله بمن أخذ بحبل وثيق مأمون لا ينقطع.

{انفِصَامَ}: انقطاع، من الفصم وهو الكسر.

                           *****

{لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} ما الذي تعنيه هذه الكلمة؟ هل تعني نفي الإكراه من خلال إعطاء إعطاء الإنسان الحرية في أن يؤمن او لا يؤمن، على أساس أنّها قضيّته الشخصية التي لا تستتبع أيّة مسؤولية، تماماً كما هي قضية أن يأكل الإنسان أو لا يأكل في ما يباح للإنسان أن يفعله أو يتركه، أو أنّها تعني نفي الإكراه من خلال إعطاء فرصة الاختيار للإنسان على أساس تقديم البراهين على ما في الدين من الحقّ، وما في الكفر من الباطل، مع التأكيد على أنَّ الاختيار المضادّ يستتبع المسؤولية بالعقاب في الآخرة، بالنظر إلى وضوح الرؤية في الحقّ الذي يمثّله الدين، وفي الباطل الذي يمثّله الكفر، فلا شبهة ولا ريب، لأنّ كلّ ما يثار من عناصر الريب والشبهة لا يمثّل قيمةً كبيرةً في حساب الفكر والوجدان، لضعف الحجج المضادّة، وقوّة الأدلّة الموافقة، ولعلّ هذا ما يظهر من ختام الآية.

ثمّ يبرز سؤال آخر: هل الفقرة واردة في مورد الأخبار، أو هي واردة في مورد الإنشاء والتشريع؟

ربّما يبدو للبعض الفرض الأوّل، باعتبار أنَّ قضية الدين تتعلّق بالقناعة الداخلية الفكرية للنّاس، وهي من الأمور التي لا تقع تحت طائلة الإكراه، ويرى هذا البعض في قوله تعالى: {قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}، دليلاً على هذا الفرض، لأنّ معنى هذا ـــ في ما يراه ـــ هو أنّ هناك ما يدعم حجّة الدين من خلال وضوحه في مقابل الكفر، فلا معنى للإكراه على أيّ حال، لأنّ الدعوة إليه تنسجم مع الطبيعة الذاتية لعلاقة الفكر بالقناعة الدينية.

وهناك من يرى في هذه الفقرة حكماً شرعياً يدعو النبيّ إلى عدم إكراه الآخرين على الدخول في الدين، بل كلّ ما هناك أن يدعوهم إليه بالحُجّة والبرهان والحكمة والموعظة الحسنة، فيعرض أمامهم الرشد الواضح في مقابل الغيّ الواضح، ويترك لهم المجال لكي يتحمّلوا مسؤولية مصيرهم في الدنيا والآخرة من موقع الإرادة السلبية أو الإيجابية.

ويذكر أصحاب هذا الرأي، أنّ مثل هذه الكلمة قد وردت في أكثر من موقع تشريعي، كما في قوله تعالى: {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة : 197] أو في الحديث الشريف: "لا ضرر ولا ضرار"(1)، وغيرهما، فإنّ مفادها هو نفي تشريع مثل هذه الأمور، ويرون في آية {قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} أساساً لهذه الفكرة، باعتبار أنّ الاعتماد على البلاغ والدعوة من موقع الوضوح في القضية هو الذي يخدم الدين أكثر ممّا يخدمه الإكراه، فإذا كان الله قد خلق الإنسان مختاراً في ما يأخذ وفي ما يدع من موقع التكوين، لأنّه يريد للحياة الإنسانية أن تتحرّك في خطّ الاختيار على أساس المسؤولية، فإنّه يريد لرسالاته من خلال رسله أن لا تفرض على الناس من موقع التشريع، وعلى هذا، فتكون الآية واردة في أسلوب الدعوة من جهة، وفي خطّ مهمّة النبيّ الداعية من جهة أخرى. ففي الخطّ الأول، ينطلق الأسلوب في إطار الوضوح الذي هو سمة الدِّين الحقّ، وفي الخطّ الثاني، يتحرّك النبيّ الداعية في أجواء الإبلاغ والإقناع وحركة حريّة الفكر. وفي هذا الخطّ، تلتقي الآية، في ما توحيه، بقوله تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ} [الكهف : 29]، وقوله تعالى: {أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} [يونس : 99].

وربّما كان هذا الاتجاه في تفسير الآية أقرب إلى هذه الأجواء القرآنية من الاتجاه الأول، بل ربّما نستطيع أن نؤكّد ذلك على أساس أنّه لا معنى لسوق الآية مساق الإخبار، لأنّ عدم قابلية الدين للإكراه من حيث هو فكر، من الأمور البديهية التي لا تحتاج إلى المزيد من التوضيح والاهتمام.

                           *****

موقع القتال من قضية الإكراه في الدين:

وهنا قد يُطرح السؤال الآتي:

كيف نفهم القتال في الإسلام، ألم يكن جهاداً من أجل الدعوة؟ وكيف نفهم تخيير الشرك بين الإسلام وبين السيف، أليس هذا إكراهاً في الدين؟ فإذا لم يكن كذلك، فما معنى الإكراه؟

ونجيب على ذلك، أن القتال في الإسلام، كما ألمحنا إليه، لم يستهدف إجبار الناس على الدخول في الدين، بل هو خاضع للأسباب والمبرّرات الواقعية التي تفرضها طبيعة الساحة من خلال الأهداف الدفاعية أو الوقائية. أمّا الجهاد من أجل الدعوة، فليس هدفه إكراه البلاد على الدخول في الإسلام، بل هدفه إيصال الدعوة إلى كلّ إنسان من قاعدة "إنّ الدين لله.."، فلا بدّ من إيصاله إلى كلّ عباده ليعبده الناس كما يريد، وإنّ الله أرسل رسوله برسالته للناس كافّةً، فلا بدّ من أن يعرفه كلّ الناس. وإذا كان هناك من يقف بين الإسلام وبين حريّته في ذلك، فله الحقّ في أن يواجه هؤلاء بمختلف الأساليب السلميّة وغير السلميّة.

فإذا وصلت الدعوة إلى الناس من خلال الدّعاة، وقامت الحُجّة بهم على الناس بما يقدّمونه من أدلّة وبراهين، فهناك فريقان من الناس؛ فريق أهل الكتاب الذين يطرح عليهم الإسلام التعايش في ضمن شروط الذمّة التي تكفل لهم حريّة المعتقد والعبادة والشؤون الشخصية في نطاق مجتمعهم الخاص، وبذلك يمكنهم أن يعيشوا مع المسلمين وفي حمايتهم ممّا يحمي به المسلمون دماءهم وأموالهم وأعراضهم، دون أن يتكلّفوا بأيّة مسؤوليات في الحرب والقتال، لاسيّما إذا كان القتال لأشخاص يدينون بدينهم. فإذا لم يستجيبوا لذلك ولا للإسلام، فإنّ معنى ذلك إعلان الحرب والتمرّد الذي يبرّر للإسلام أن يدافع عن نفسه ضدّ كلّ محارب له ومتمرّد على سلطته.

أمّا الفريق الثاني، فهو فريق المشركين والملحدين الذي يمكن للمسلمين أن يدخلوا معهم في معاهدة ضمن المصلحة الإسلامية العليا، على رأي فقهي خاص، أمّا إذا لم يكن هناك مصلحة في ذلك، فليس هناك إلاّ الإسلام لقيام الحُجّة عليهم، ولأنّ الإسلام لا يعتبر الشرك والإلحاد ديناً يبعث على الاحترام، بل هو ضدّ مصلحة الإنسان والحياة، بل إنّ الإسلام قد جاء من أجل أن يزيل كلّ عوامل الشرك والإلحاد في دعوته التوحيديّة، فلا معنى لأن يسمح بالتعايش معهما على أساس الاحترام المتبادل، لأنّه يعني إعطاء الحريّة لنقيضه، مع أنّ هذا يعتبر ـــ في نظر بعض المفكّرين ـــ تأكيداً لسلطة الإسلام على هؤلاء، لا إكراهاً لهم على الدين، لأنّ السبيل الوحيد لممارسة هذه السلطة عليهم هو ذلك، لأنّه الذي يمنعهم من ممارسة الكفر من ناحية عملية. وهذا ما جعل القرآن يفرّق في المصطلح بين الإسلام الذي يعني الخضوع لسلطة الإسلام في الجانب العملي من دون دخل للجانب العقيدي، وبين الإيمان الذي يعني إسلام القلب والوجه واللّسان، إلى جانب إسلام العمل. وبذلك جرى اعتبار المنافقين من المسلمين، مع أنّ القرآن يعلن أنّ حركيّته للمتغيّرات السياسية والاجتماعية والثقافية التي قد تفرض بعض العناوين الثانوية التي يتبدّل فيها الموضوع الذي يتبعه الحكم الشرعي، فيمكن للدولة الإسلامية، أو للمجتمع الإسلامي، إبقاء الملحد أو المشرك على عقيدته في نطاق القوانين والأنظمة العامة، ومنحه الحرية في بعض شؤونه الثقافية ليدخل في حوارات متنوّعة مع المراكز الثقافية الإسلامية حول عقيدته الإلحادية أو المنحرفة أو الإشراكية من أجل الوصول معه إلى الوضوح في المسألة الفكرية في هذا الجانب أو ذاك، خصوصاً أنّه من الصعب أن تلتقي إنساناً يؤمن بالإلحاد بمعنى اعتقال النفي، لأنّ النفي يحتاج إلى دليل لا يملكه النافي، كما هو الإثبات بحاجة إلى الدليل، بل كلّ ما هناك، أنّ الإنسان يشكّ في الله وفي الرسالة وفي اليوم الآخر، وفي بعض المفاهيم الإسلامية الثابتة كضرورة في الدين، وفي هذه الحالة، لا يُعتبر الشاكّ كافراً إذا لم يتحوّل الشكّ إلى جحود لا يملك الدليل عليه، وفي ضوء هذا، لا ينطبق عليه حكم الكافر الذي لا يسمح الإسلام له بالحريّة من ناحية المبدأ في الظروف الطبيعيّة.

                           *****

 

 

الآية ومسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

وقد يشكل البعض على الجانب الخاص بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمتمثّل بفرض التغيير بالقوّة لجهة اعتباره نوعاً من أنواع الإكراه، كما حاول البعض أن يهاجم هذا الأسلوب المتّبع في المجال التطبيقي للإسلام في المجتمع بهذه الحُجّة، فطرح فكرة "لا إكراه في الدين" التي تتنافى مع كلّ أساليب العنف والضغط في كلّ أعمال الإنسان وأقواله. ونجيب على ذلك، بأنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يدخل في نطاق تطبيق النظام على الفرد والمجتمع، أو ما يسمّى بتنفيذ القانون، ولا معنى لأن يمنح القانون للناس حريّة التمرّد عليه أو تعطيله. ونحسب أنّ هؤلاء الذين أثاروا هذا الجانب من الاعتراض، يعتقدون بأنّ للفرد حريّة من نوع خاص، فهم يرون الإنسان حرّاً في مأكله ومشربه وألعابه وشهواته التي لا تسيء إلى الآخرين. كما يرون الإنسان حرّاً في أن يعبد الله أو لا يعبده، ولكنّ الإسلام لا يؤمن بهذه الحريّة للفرد، بل هو يشرّع للفرد في حياته الخاصة كما يشرّع له في حياته العامة، ويتدخّل في شؤونه الذاتية حتى في أشدّ الأشياء خصوصية له. وبذلك يتّسع القانون حتى يشمل ذلك كلّه، ويتّسع ـــ تبعاً لذلك ـــ تنفيذه حتى يسيطر على ذلك كلّه. وعلى ضوء هذا، فإنّ الاختيار لا يمنح في هذه الدائرة، بل يمنح في دائرة اختيار الطريق في ما يعتقد وفي ما لا يعتقد، كما أشرنا إلى ذلك آنفاً.

{قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}. إنّ الإسلام هو دين الفطرة في تقريره الإيمان بالله، وفي ما يأمره به وينهى عنه، ولذلك فإنّ الإنسان لا يحتاج في إيمانه بالله وبالإسلام إلاّ أن ينفتح على الفكرة ويرجع إليها ليلتصق بها. وهذا ما عبّرت عنه بعض الآيات كما في قوله تعالى: {أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [إبراهيم : 10] وذلك بأسلوب الاستفهام الإنكاري الذي يوحي بأنّ الموضوع غير قابل للشكّ جملةً وتفصيلاً. أمّا الذين كفروا، أو عاشوا في أجواء الشكّ، فإنّهم أغلقوا عيونهم عن النظر، وآذانهم عن السماع، وعقولهم عن التفكير {لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف : 179]، إنّ قضية الإيمان والكفر لدى الإنسان هي قضية استعمال أدوات المعرفة التي تفتح قلبه على الحقيقة وعينه على الحياة، أو عدم استعمالها، وليست قضية فكرٍ معقّدٍ يحتاج إلى تحليل وتفسير، تماماً كما هي الشمس عندما تغمض عينيك، وتبادر إلى إنكارها، إنّ ذلك لا يعني وجود إشكال في وجود الشمس، بل كلّ ما يعنيه هو وجود مشكلة في طريقة مواجهتك للحقيقة من خلال أدوات المعرفة التي تستخدمها للكشف عنها.

                           *****

الكفر بالطاغوت وعلاقته بالإيمان:

{فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.

إنَّ حبل الإيمان بالله قوي وشديد ومتماسك، وإنّ جذور الإيمان عميقة عمق الحياة الممتدة في الكون، فمن آمن بالله، فقد استمسك حينئذٍ بالقوّة التي لا مجال فيها لضعف أو انحلال، ومن يكفر بالطاغوت، فقد انفصل عن كلّ عوامل الضعف والفساد والخذلان، لأنّ الطاغوت يمثّل ما يعنيه الطغيان من معاني الانحراف والانهيار المنفصلة عن كلّ ما تمثّله الإنسانية من قوّة وعمق وامتداد.

إنّها دعوةً موحيةً للكفر بالطاغوت في جميع مجالاته التي يتحرّك فيها في حياة الناس في مجال الفكر والعقيدة والحكم والسياسة والاجتماع، فالقوى التي تمثّل الفكر الباطل أو الحكم الباطل أو السياسة الباطلة أو القوّة الغاشمة المعتدية، هي قوى طاغوتية في مفهوم الإسلام، لأنّها تتنافى مع الفكر الحقّ والحكم الحقّ والسياسة الحقّة والقوّة العادلة المنفتحة على كلّ حركة الإنسانية في الحياة، وبذلك فهي ضدّ الإيمان بالله في ما يعنيه هذا كلّه.

وربّما كان التركيز على الطاغوت الحاكم من المور الحيوية في هذا الرفض للطاغوت، لأنّ خطورته تتمثّل في سيطرته على مقدّرات الواقع كلّه من الناحية الثقافية أو السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية أو الأمنية، من خلال أنّ ذلك يمكّنه من احتواء الساحة كلّها في جميع جوانبها، لأنّ ذلك هو الذي يؤكّد حاكميّته في الخطّ الذي جعله لحكمه وموقعه الطاغوتي بتأكيد المفاهيم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تفتح له آفاق الذهنية العامة للنّاس في عناصر الفساد المتنوّعة الداخلية والخارجية، بحيث يتحرّكون تبعاً لإيحاءاتها ومعطياتها ونتائجها.

فإنّ الحاكم الطاغوتي الذي يرتكز حكمه على قاعدة ثقافية ذهنية عامّة، أكثر قوّة من الحاكم الذي ينطلق بالقوّة وحدها في فرض سيطرته على الناس.

وبذلك يقف الإنسان المسلم في الحياة أمام خيارين لا ثالث لهما، الإيمان بالطاغوت الذي يعني الارتباط بخطّ الكفر والباطل ويؤدّي إلى الكفر بالله، والإيمان بالله الذي يعني الانطلاق في حركة الحياة من موقع الحقّ في ما يمثّله من امتداد ومسؤولية وشمول، ويمثّل في مدلوله العميق الكفر بكلّ ما عدا الله ومن عداه من خطوط الباطل وقواه. فلا يمكن أن يجتمع في قلب إنسان مؤمن وحي الله ووحي الطاغوت، وفي حركة إنسان مؤمن خطوات الحقّ وخطوات الباطل، لأنّ آفاق الإنسان لا تتحمّلهما معاً إذا كان الإنسان يتحرّك في الحياة من موقع الجديّة والمسؤولية في ما تعنيه كلمة الإنسان المسؤول.

وربّما ينطلق التساؤل: لماذا هذا الحديث عن الكفر بالطاغوت قبل الإيمان بالله في هذه الآية كما هو الأسلوب نفسه في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى} [الزمر : 17].

والجواب عن ذلك: أنّ الإيمان ينطلق من انفتاح القلب أو العقل على الله بحيث لا يكون في داخله أيّ موقع لغيره، حتى يكون الإيمان صافياً نقيّاً خالصاً في إيحاءاته وخلفياته ومعطياته، لئلا يسيء الجوّ الداخلي في زحف المشاعر الخفيّة السلبية إليه، فتختلط الصورة، ويرتبك الإحساس، ويمتزج الحقّ بالباطل، ويعيش الإنسان الازدواجية بين بقايا الطاغوت في الفكر، وحركة الإيمان في الذّات، وبذلك تضطرب الخطوات وتنحرف يميناً وشمالاً.

ولهذا كانت الخطّة الإلهية في تعميق الإيمان وتصفيته أن يطرد الطاغوت من عقيدته كوسيلةٍ من وسائل طرده من حياته، ليكون القلب فارغاً من كلّ المؤثّرات السلبية، ليدخل الإيمان فيه، فيستولي على الذّات كلّها، ولعلَّ هذا ما توحيه كلمة الإيمان التي هي أساس الإسلام وهي شهادة التوحيد: "لا إله إلاّ الله" التي تتضمّن مفهوماً سلبياً وهو نفي أي إله غير الله ممّن يتّخذهم الناس آلهة في الذهن وفي الواقع، ومفهوماً إيجابياً، وهو إثبات الألوهية الواحدة، لأنّ الوحدانية هي ذلك في العمق، لأنّها تعني سلب العدد الآخر والاقتصار على الواحد.

ولا بدّ لنا ـــ في هذا الاتجاه ـــ من تخطيط منهجية تربوية تنطلق في حركتها من تفريغ ذهنية الإنسان الذي ندعوه إلى الله أو نهديه إلى الإسلام وإلى التقوى، من الأفكار الضارّة والمشاعر السيّئة والانطباعات الشرّيرة، ونعزل ذاته عن كلّ شخص طاغ أو منحرف أو ضالّ، حتى لا يؤثّر على نفسيّته أو يشوّش خاطره، فإذا طهّرنا ذاته من ذلك كلّه، أمكننا أن نزرع فيها الإيمان والخير والتقوى في أسلوب صافٍ بعيد عن التأثّر والامتزاج بأيّ شيء مضادّ، والله العالم.

                           *****

5 ـــ الحثّ على القتال:

{وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ* أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ*قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ*وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللّهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ*أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [التوبة: 12 ـــ 16].

                           *****                         

معاني المفردات:

{نَّكَثُواْ}: نقضوا.

{أَيْمَانَهُم}: جمع يمين وهو القسم.

{وَطَعَنُواْ}: الطعن هو الضرب بالرّمح وبالقرن وما يجري مجراهما، واستعير للوقيعة.

{وَهَمُّواْ}: الهمّ: مقارنة الفعل بالعزم من غير إيقاع له.

{بَدَؤُوكُمْ}: البدء فعل الشيء أوّلاً.

{وَلِيجَةً}: الولوج: الدخول في مضيق. ووليجة الرجل خاصته وبطانته من دون الناس.

                           *****

هناك خطرٌ مباشرٌ يواجه الواقع الإسلامي آنذاك، من خلال هؤلاء الذين ينقضون العهد، ويتحدَّون الإسلام في فكره وشريعته، ما يخلق للمسيرة الإسلامية الكثير من حالة الإرباك والفوضى والقلق، ولذلك كانت التعليمات واضحة، بردّ الاعتداء الصادر من هؤلاء، وذلك بإعلان الحرب عليهم من جديد، واعتبار المعاهدات لاغيةً بسبب تصرّفاتهم السلبية ضدّ الإسلام والمسلمين، والإيحاء بأنّ القضية لا تحتمل المهادنة والتأخير، لأنّ الخلفيات الكامنت وراء تصرّفاتهم، تمثّل الخطر الكبير على المستقبل، من جرّاء الروحيّة الحاقدة التي تتحرّك في داخلهم في الحاضر، كما كانت في تاريخهم القريب، في الماضي، وهذا هو ما حاولت الآيات ان تثيره في وجه هذه التصرّفات، في أسلوب يعتمد على توعية المسلمين، وتوجيههم نحو التأكيد على دراسة القضايا من جميع وجوهها، لا من وجهٍ واحد.

                           *****

قتال أئمّة الكفر:

{وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ} ونقضوا عهودهم ومواثيقهم التي ألزموا بها أنفسهم {وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ} وذلك بالتهجّم عليه بالسبّ والشتم والكلمات غير المسؤولة، في ما يمثّله ذلك من انحرافٍ عن خطّ الالتزام بالعهد القائم على احترام العقيدة الإسلامية ومراعاة مشاعر المسلمين.

وقد ينبغي لنا أن نفرّق في هذا المجال بين الطعن في الدين الذي يمثّل حالةً عدوانيّة، وبين النقد الموضوعي الذي يمثّل حالةً فكرية، فإنّ الإسلام يشجب الأول ويعتبره مظهراً من مظاهر نقض العهد ولوناً من ألوان العدوان، بينما يرحّب بالثاني ويدعو الآخرين إليه، من خلال دعوته إلى حركة الحوار الإيجابي بين الفكر الإسلامي والفكر المضادّ على أساس الأجواء الفكرية الهادئة.

{فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} وهم قادته الذين يقودون مسيرته في المجتمع ويعملون على تدعيم قواعده. وربّما كان في هذا التأكيد عليهم، إشارةٌ إلى أنّهم هُمُ المسؤولون عن كلّ هذا العدوان الذي يمارسه الناس العاديّون من المشركين، {إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ} لأنّهم لا يرتكزون على قاعدةٍ إيمانيّةٍ أو فكريّةٍ لتمنعهم من النقض للعهد، بل ينطلقون ـــ في ذلك ـــ من الظروف الطارئة الضاغطة، ما يجعل للعوامل التي تخفّف من حالة الضغط، أثراً كبيراً في تصرّفاتهم السلبية المنحرفة. وقد نستوحي من ذلك أمرين:

الأوّل: أنّ مثل هؤلاء لا يبعثون على الثقة في ما يلتزمون به من عهودٍ ومواثيق، لأنّهم يفقدون الأساس الداخلي الذي يدفعهم إلى الاستمرار في الالتزام.

الثاني: أنّ من الضروري مواصلة الضغط عليهم لإخراجهم من واقعهم المنحرف، لأنّ ذلك هو السبيل الواقعي للانضباط في علاقاتهم مع الآخرين. وبذلك كان إعلان الحرب عليهم المتمثّل بالأمر بقتالهم، أسلوب ضغطٍ نفسيٍّ، ليدفعهم ذلك إلى التفكير بالنتائج الصعبة التي تنتظرهم من خلال الحرب {لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ} ويتراجعون عن اللّعب والكيد والتآمر على الإسلام والمسلمين، ما يجعل من الموقف حالةً وقائيّةً رادعةً، في ما تفرضه حسابات الواقع الموضوعي في الساحة.

                           *****

الحثّ على قتال الناكثين:

وهنا يلتفت الخطاب إلى المسلمين في عملية توعيةٍ للطبيعة العدوانية المتمثّلة في شخصية هؤلاء المشركين من أئمّة الكفر، وذلك بشرحٍ تفصيليٍّ للواقع الحاضر الذي يعيشونه والتاريخ الماضي الذي عاشوه، لئلاّ يشعر المسلمون بعقدة الذنب في إلغاء المعاهدات معهم وإعلان البراءة منهم، ممّا قد يتوهّمونه نقضاً للعهد من جانبهم، لأنّهم قد ينظرون إلى الموضوع من خلال الجانب المباشر الصريح للنقض، ولا ينظرون إلى الجوانب الخفيّة غير المباشرة منه، ليصلوا أخيراً إلى النتيجة الواقعية، وهي أنّ هؤلاء القوم هم الذين ابتعدوا عن خطّ العهد، ما جعل البراءة منهم أمراً طبيعياً تقتضيه طبيعة الساحة، في ما تفرضه من الحماية للمسيرة الإسلامية.

{أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ} في ما قاموا به من أعمالٍ وأقوالٍ توحي بذلك {وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ} عندما كان في مكّة، فتآمروا فيما بينهم على إخراجه وقتله، حتى اضطروه إلى الهجرة {وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} في معركة بدر التي كانت تمثّل العدوان المسلّح الأوّل على جماعة المسلمين، ممّا يكشف عن الجذور المتأصّلة لموقفهم العدوانيّ الحاضر الذي لم ينطلق من حالةٍ طارئة.

                           *****

الله أحقّ بالخشية:

{أَتَخْشَوْنَهُمْ} في ما يمثّلون من قوّةٍ وسلطةٍ ومالٍ؟ وكيف يخشى المؤمنون مثل هؤلاء الذين لا ترتكز قوّتهم على قاعدةٍ ثابتةٍ في الداخل، بل تتحرّك من خلال الأدوات التي يملكونها والظروف الطارئة التي ينتهزونها؟ إنّها القوّة الضعيفة التي مهما تعاظمت، فإنّها لا تثبت أمام تحدّيات القوّة المتحرّكة من موقع الإيمان الصلب الثابت الذي يستمدّ قوّته من الله. وكيف تخشونهم أيُّها المؤمنون، في ما أرادكم الله أن تواجهوه من جهادهم وقتالهم من أجل الإسلام في مسيرته الظافرة التي تعمل من أجل أن يكون الدين كلّه لله؟ وكيف تتراجعون عن ذلك أو تفكّرون بالتراجع، فإذا كان هناك خشيةٌ منهم وممّا لديهم من القوّة، فهناك خشيةٌ من الله، لما ينتظركم من عقابه لو خالفتم تعاليمه وتمرّدتم على أمره ونهيه؟ فوازنوا أمركم بين موقفكم منهم وموقفكم من الله، وستجدون أنّ الموازنة تقف بكم عند حدود الله {فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ} لأنّه مالك كلّ شيء، وبيده أمر الدنيا والآخرة، في ما تفرضه عقيدة الإيمان وروحية العبوديّة له، ممّا يجب أن تواجهوه من مواقف الإيمان {إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ} لأنّ الإيمان ليس كلمةً تقال، بل هو موقفٌ للتضحية والإخلاص والعطاء.

وربّما يخطر في البال، أنّ مواجهة الله لهم بالخشية منهم لا تلتقي بالواقع الذي كان يعيش فيه المسلمون القوّة بعد فتح مكّة، بينما كان المشركون يعيشون فيه الضعف كلّ الضعف، فكيف نفسّر ذلك؟.. وقد نجيب على ذلك: أنّ القضية قد تكون واردةً في معرض الإثارة التي تدفعهم إلى لون من ألوان الحماس الإيماني المنطلق من حالة الشعور بالقوّة، كعنصر من عناصر تثبيت الموقف في نفوسهم. وربّما كان هناك نوعٌ من الخوف، باعتبار أنّ المسألة في موضوع البراءة بدت لهم حاسمةً شاملةً لا تقتصر على فريقٍ دون فريق، بل تشمل المشركين كلّهم في موقف مواجهةٍ واسعة، ما قد يوحي بالقلق لبعض المسلمين الذين يلتفتون إلى سعة التواجد البشري للمشركين في الجزيرة العربية، الأمر الذي يوحي إليهم بالخطر الكبير.

                           *****

قتل المشرك وشفاء صدر المؤمن:

{قَاتِلُوهُمْ} فذلك هو الأمر الحاسم الذي يلغي وجود الشرك كقوّة في الجزيرة العربية، ويزيل تأثيره من النفوس، ويدفع الناس إلى شجاعة الموقف الذي يدعوهم إلى الإيمان، ولكن يمنعهم من ذلك خوفهم من المشركين، {يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ} لأنّكم تنفِّذون إرادة الله في جهادكم وقتالكم لهم، {وَيُخْزِهِمْ} بهزيمتهم المنكرة المنتظرة أمامكم {وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ} بإيمانكم وثباتكم وجهادكم في سبيل الله {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ} في ما لاقوه من التعسُّف والاضطهاد والإذلال والتشريد من جماعة المشركين، من أجل أن يفتنوهم عن دينهم. وقد ينبغي لنا أن نؤكّد على أنّ شفاء صدور هؤلاء المؤمنين لا ينطلق من عقدةٍ ذاتيةٍ مكبوتةٍ، لتبتعد المسألة عندهم عن الأجواء الرسالية العامة، بل ينطلق من حالةٍ إيمانيةٍ عميقة، لأنّهم اضطهدوا وشُرِّدوا وعُذِّبوا من أجل الله، فكانت مشاعرهم المضادّة للمشركين بعيدة عن الجانب الشخصي، لأنّها متّصلةً بالجانب الرسالي في حركته المرتبطة بالجانب السلبي أو الإيجابي من العلاقات الإنسانية {وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} في ما كانوا يشعرون به من الاختناق الروحي إزاء الواقع الممتد للشرك والمشركين {وَيَتُوبُ اللّهُ عَلَى مَن يَشَاءُ} ممّن أسلم قلبه وفكره وموقفه لله وأناب إليه وانطلق في الخطوات المستقيمة التي تتحرّك في طريق الحقّ، فإنّ الله يقبل التوبة عن عباده، إذا انطلقت من مواقع الإيمان المنفتح والقناعة المطمئنّة {وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} فقد أحاط بخفايا النفوس، بكلّ ما تضمره وتظهره، وقدَّر الأشياء بحكمته في حركة الوجود، وفي تنظيم الأمور، وفي مغفرته ورحمته للخاطئين المذنبين الذين أراد لهم من خلال التوبة أن يصحِّحوا أخطاءهم وينفتحوا على الطريق المشرق في درب الرسالات المستقيم.

                           *****

اختبار الإيمان:

{أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ} بمواجهة التجربة الصعبة التي يقف فيها الإنسان على الأرض المهتزَّة تحت أقدامه، ليرى الذين يثبتون في مواقف الاهتزاز، فلا يستسلمون لنقاط الضعف، بل يعملون على تحويلها إلى نقاط قوّة، بالصبر الواعي والإرادة الحاسمة، والفكرة الحرّة، حيث تتعمَّق أقدامهم في الأرض الصلبة، وترتبط أفكارهم بالأُفق الرحب من الحياة في نطاق الرسالة، وتتّصل أرواحهم بالله، في ما يلتقون عليه من علاقات فكريةٍ أو روحيةٍ أو إنسانيةٍ. فليس هناك إلاّ الله، الإله الواحد الذي تتّجه إليه العبادة، وتخشع كلّ القلوب له، وليس هناك في قيادة الرسالة، في خطّ الحياة، إلاّ الرسول الذي لا ينطلق إلاّ عن الله في كلّ ما ينطق به، ولا يشرّع إلاّ شريعة الله، وليس هناك في حركة العلاقات إلاّ العلاقة بالمؤمنين الذين يتعاونون على الدعوة إلى الله بالحكم والموعظة الحسنة، ويتواصون بالحقّ، ويتواصون بالصبر والمرحمة، ويجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، أولئك هم المجاهدون، الذين يخلصون لروحية الجهاد قبل أن ينطلقوا في حركته.

{وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً} فهؤلاء المؤمنون هم الذين لم ينفتحوا على غير الله ورسوله والمؤمنين من بطانة السوء التي تتحرّك في أجواء الباطل وآفاقه. وهناك في الجانب الآخر من التجربة، ما يريد الله أن يظهره من الخلفيات الداخلية لعباده، ليميّز الخبيث من الطيّب، ويتمثّل هذا بالذين يتساقطون أمام الزلزال النفسي والروحي والجسدي، في ما تقدّم لهم الدنيا من أطايبها وأطماعها وشهواتها، وفي ما تحذّرهم منه من تضحياتها وجهادها وآلامها، وما تثيره أمامهم من مخاوفها وأوهامها، حتى يشعروا أنّ الأرض تميد بهم، وأنّهم سائرون إلى قرار سحيق، فيحاولون التعلّق بأيّ شيء يبعدهم عن الهلاك في ما يتوهّمون، ولكنّهم يظلُّون في عملية تساقطٍ وتراجع، فلا يبقى لهم إلاّ الأشباح والأوهام والفراغ الهائل في متاهات الضياع. إنّ الدين تجربةً مستمرّةٌ في حركة الإنسان أمام تحدّيات الواقع، ولا بدّ للإنسان المؤمن من أن يواجه الموقف من موقع المسؤولية أمام الله في ما يريده الله وما لا يريده، لأنّ ذلك يتّصل بقضية المصير في الدنيا والآخرة، فلا مجال لأيّة نتيجةٍ إيجابيةٍ أو سلبية إلاّ على أساس التجربة الواقعية على مستوى الحياة الفردية والاجتماعية، ولا مجال للتهرّب من ذلك بطريقة اللّف والدوران، لأنّ الله هو المطّلع على خفايا الأشياء ودقائقها، فلا يعرب عن علمه مثقال ذرّة في الأرض ولا في السماء {وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}.

                           *****

6 ـــ الفتنة أكبر من القتل:

{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة : 217].

                           *****

معاني المفردات:

{وَصَدٌّ}: الصدّ: يُقال: صدّ عن الشيء: إذا أعرض وعدل عنه، وصدّ غيره: إذا عدب ه عنه ومنعه.

{حَبِطَتْ}: المراد بالحبط في الآية: بطلان العمل وفساده في الدنيا والآخرة، فلا قيمة له ولا ثواب عليه.

                           *****

{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ}. فقد انطلق السؤال عن الشهر الحرام من جهة شريعة القتال فيه، هل هو محرّم كما كان أو أنّه حلال في تشريع جديد؟! وكان الجواب: {قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} إنّه أمرٌ كبير في ما يمثّله من انتهاك حرمة من حرمات الله، التي أراد أن تحفظ وتصان لما يترتّب عليها من المصالح العامة للأُمّة من خلال الحاجة إلى فترة سلام تستريح فيها من الخلافات، وتعيش في خلالها تجربة الأمن والطمأنينة. ويضيف القرآن إلى ذلك: {وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} وربّما كان ذلك إشارة إلى بعض أشهر الحجّ التي كان يريد للناس أن يمارسوا شعائر الحجّ فيها، من أجل الرجوع إليه في هذه العبادة التي تفتح قلوبهم على معنى الخير وإرادته؛ وإلى شهر رجب الذي أراد الله للناس أن يعتمروا فيه فيرجع إليه المذنب، ويلجأ إليه الخائف في طريق التوبة والإيمان. فكأنَّ الله يحبّ للنّاس أن يحافظوا على حرية الوصول إلى المسجد الحرام من أجل تحقيق المعاني الروحية والاجتماعية التي تحصل لهم من خلال الحجّ والعمرة؛ وبذلك يكون القتال صدّاً عن سبيل الله وكفراً به وبالمسجد الحرام في ما يقتضيه من الانحراف عن خطّ الله. وقد يعبّر الله عن الانحراف العملي بالكفر، حيث إنَّ الإيمان الذي لا يتمثَّل في العمل يُعتبر بمنزلة الكفر، كما جاء في قوله تعالى: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّـنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران : 97] وبهذا المعنى جاءت الأحاديث التي تسمّي تارك الصلاة كافراً.

                           *****

ثمّ تدخل الآية في عملية مقارنة بين ما حدث من القتال في الشهر الحرام، وبين ما قامت به قريش من إخراج أهل المسجد الحرام منه وفتنتهم عن دين الله بكلّ ما يملكون من وسائل الضغط والتهديد: {وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ} فإنَّ ما قام به المسلمون على سبيل الخطأ كان اعتداءً على حرمة زمن ما، بينما كانت قريش تعتدي على حرمة المؤمنين وتخرجهم من مكّة التي هي بلدهم بمختلف وسائل الضغط الجسدي والمعنوي الموجّهة إليهم، وتحارب الله في دينه، فتفتن المؤمنين عنه، وتمنعهم من السير في طريق الله. ثمّ تتحدّث الآية عن خطورة ما تقوم به قريش، وتعتبر أنّه أكبر من القتل الذي قام به المسلمون في الشهر الحرام: {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ}، لأنَّ ذلك يمثّل الاعتداء على حرية الدِّين الذي يريد الله أن تُحفَظ وتُحتَرَم، وعلى حرية الإنسان في السير في خطّ الله دون ضغط؛ وبذلك يكون اعتداءً على الحياة في ما يمثّله الدِّين من حماية لها ورفعٍ لمستواها، فلا يُقاس به القتال في الشهر الحرام الذي لم ينطلق من جانب ذاتي، بل انطلق من محاولةٍ لحماية المسيرة التي بدأها الإسلام في مكّة، ووقفت قريش حاجزاً بينها وبين الامتداد؛ فكان القتال ردّاً للعدوان بشكلٍ غير مباشر وليس عدوانياً ابتدائياً.

 ثمّ تتوجّه الآية إلى المسلمين لتعرّفهم طبيعة الصراع الذي يدور بينهم وبين قريش، فليس هو صراعاً تفرضه الخلافات الطارئة التي تحدث بين الناس في المجتمع العربي، على طريقة الخلافات العشائرية الخاضعة لمصالح خاصة، ليكون لها فترة معيّنة وتسوية خاصة؛ بل هو صراع على العقيدة التوحيدية التي تمثّل خطّاً ممتداً في الحياة، يختلف اختلافاً كبيراً على عقيدة الشرك التي تمثّل خطّاً مبايناً لا مجال للالتقاء به في أيّة مرحلة من مراحل الطريق؛ ولذا كان الموقف حاسماً لا يخضع لأنصاف الحلول.

وهذا ما فهمته قريش من واقع هذا الصراع، وهذا ما يجب أن يفهمه المسلمون في ما يستقبلون من قضايا الصراع؛ فإنَّ قريشاً، وكلّ قوى الشرك والكفر، لن تهدأ ولن تستريح إلاَّ بعد أن يتمّ القضاء على الإسلام بالقضاء على المسلمين أو على العقيدة في داخلهم؛ وهذا ما عبّرت عنه الآية الكريمة في قوله تعالى: {وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ}. وبذلك كان القتال مفروضاً على المسلمين، وكانت الساحة مفتوحة على مستوى الزمان والمكان؛ فلا خيار لهم في التوقّف، بل لا بدّ لهم من أن يتحرّكوا على كلّ المحاور والاتجاهات والأوقات، وإن أدّى ذلك إلى اختراق حرمة الشهر أو المكان، لأنَّ حرية الدِّين في التحرّك وفي حماية نفسه لا تحتمل المساومة والاسترخاء والوقوف عند أيّ حاجز من الحواجز المطروحة في الطريق في غير هذا المجال.

                           *****

الارتداد يحبط الأعمال:

ثمّ تتوجّه الآية إلى المسلمين الذين قد يستسلمون للضعف أمام الضغط الهائل الذي تمثّله قوى الشرك، فيرتدّون عن دينهم، فتعرّفهم خطورة الارتداد في حساب المصير، تبعاً لأهمية الإيمان بالله في حياة الإنسان في الدنيا والآخرة: {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}، فتقرّر الآية ـــ في هذا الجوّ ـــ أنَّ الإنسان الذي يموت كافراً في خطّ الارتداد يسقط من حساب الله في كلّ المجالات، لأنَّ قيمة أي عمل من أعمال الإنسان تتحدّد بالانطلاق به من خلال الإيمان بالله؛ فلا قيمة لأيّ عمل لا ينطلق من تلك القاعدة. ولذا فإنَّ الارتداد يحبط أعمال الإنسان في الدنيا والآخرة، ويؤدّي به إلى الخلود في النار. وعلى ضوء ذلك، كان الإسلام يلغي كلّ الأعمال السيّئة المتقدّمة عليه، كما ورد "أنَّ الإسلام يجبّ ما كان قلبه"(1)، وكان الكفر يلغي كلّ الأعمال الصالحة المتقدّمة عليه، لأنَّ الإسلام يتعامل مع الأعمال من موقع القاعدة التي ينطلق منها العمل لا من موقع العمل نفسه، لأنَّ القاعدة الفكرية هي التي تعطي العمل منعاه الإيجابي أو السلبي في خطّ الاستقامة والانحراف. وفي هذا الإطار، يحدّد القرآن الموقف للاتجاه المعاكس لخطّ الكفر والارتداد، وهو خطّ المؤمنين الذين عاشوا الإيمان بالله في موقف الهجرة والجهاد في سبيل الله، وتحرّكوا من القاعدة الصلبة التي تحرّك خطواتهم في الحياة.

                           *****

7 ـــ التعبئة للقتال:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ*إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التوبة: 38 ـــ 39].

                           *****

معاني المفردات:

{انفِرُواْ}: النفر: الخروج إلى الشيء لأمر هيج عليه.

{اثَّاقَلْتُمْ}: التثاقل: تعاطي إظهار ثقل النفس. وهنا بمعنى: جذبتكم الأرض إليها كما لو كانت هناك أثقال شديدة تشدّكم إلى الأسفل.

                           *****

تنفتح المعركة بين المسلمين والكافرين في ساحة المواجهة الحاسمة الصعبة في أكثر من صعيدٍ، ويبدأ الرسول الدعوة إلى الجهاد بأساليب عديدة، من أجل أن يتحوّل الموقف لدى المسلمين إلى ما يشبه حالة الاستنفار القصوى التي تجمع الجميع في خطّ المواجهة، لأنّ قضية الجهاد في الإسلام ليست من القضايا الجانبيّة التي تحتمل الوقوف منها موقف اللاّمبالاة أو الحروب، بل هي من القضايا المصيرية التي يجب أن يواجهها المؤمن بإيجابيّةٍ منفتحةٍ ومواقف ثابتةٍ، ولكن بعض المسلمين القلِقين في إيمانهم الضعفاء في إرادتهم، يحاولون التهرّب من الانطلاق بعيداً في هذا الخطّ، خوفاً من نتائجه على الحياة، ويحاولون التماس الأعذار لأنفسهم في ذلك كلّه. وهذا هو الذي جعل القرآن يوجِّه إليهم اللّوم والإنذار بشدّة، من أجل أن يثير فيهم مكامن الشعور العميق ليهزّها من الأعماق في عملية توعيةٍ وإيحاءٍ. فكيف عالج القرآن ذلك؟

                           *****

لوم على التثاقل للقتال:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ} في النداء الذي يوجّهه رسول الله إلى المسلمين عند اشتداد المشاكل، وقسوة التحدّيات، وصعوبة الأوضاع الإسلامية، إذا دهمهم خطر يهدّدهم ويهدّد وجودهم وحريّتهم، فكان لا بدّ من مواجهته بالقوى المسلمة التي تتجمّع في وحدة الموقف لتجابه ذلك كلّه في وقفة التحدّي المضادّ الذي يصرخ بهم {انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ} واخرجوا إلى الجهاد لتقاتلوا أعداء الله من أجل الحصول على رضاه في تحقيق إرادته في الحياة {اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ} فجذبتكم إليها كما لو كانت هناك أثقال شديدة تشدّكم إلى الأسفل، من الإخلاد إلى الأرض والاستكانة إليها، والاستسلام لقضاياها المادية، وقيمتها الحيونيّة، والتطلّع إلى شهواتها كغايةٍ تتطلَّع إليها الحياة، بعيداً عن كلّ عوامل السموّ والانفتاح التي تجعل الإنسان يحلّق في السماء حيث النور والخير والإيمان، كآفاق للحياة والحركة والانطلاق، في ما يوحيه ذلك من التمرّد على كلّ هذه الأثقال المادية التي تثقل قلبه وروحه وضميره، وفي ما يثيره في نفسه من معانٍ روحيّةٍ تمدّه بالإشراق والحبّ والإيمان. {أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا} واستسلمتم لها في عملية استبدال واقتناعٍ بنتائجها، كما لو كانت كلّ شيء في حركة الحياة {مِنَ الآخِرَةِ} أي بدلاً من الآخرة.

                           *****

 

 

ميزان الدنيا في الآخرة:

ولكن ما هي النتائج الحقيقية الحاسمة، وما هو حجم هذا البدل في مقياس الأهداف؟ {فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي إذا نسب إلى نعيم الآخرة {إِلاَّ قَلِيلٌ} فإنّ متاع الدنيا زائل، أمّا نعيم الآخرة فباقٍ ما بقيت السماوات والأرض، فلا مجال للموازنة بينهما، لأنَّ الميزان سيختلّ لمصلحة الآخرة ضدّ مصلحة الدنيا. وهكذا يريد القرآن للإنسان ـــ من خلال هذه الآية ـــ أن يفكّر بالمسألة بعيداً عن الضغوط الخارجية في النتائج السلبيّة لتفضيل الدنيا على الآخرة في مواجهة النتائج الإيجابية على مستوى الربح الحقيقي في تفضيل الآخرة على الدنيا. ثمّ يثير المسألة من ناحية الوعيد، ليفكّر في النتائج على مستوى ما يُقدّم عليه من أوضاع العذاب في الآخرة ليحسب حساب المصير في دقّةٍ وعمقٍ وإيمان.

                           *****

التهديد بالعذاب على عدم النفور:

{إِلاَّ تَنفِرُواْ} وتستجيبوا لله في ما يأمركم به من الجهاد، فتقعدوا في بيوتكم في حالة كسل وخوف واسترخاء {يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً} جزاءً لتمرّدكم على الله قبل ذلك، فإنَّ الله لا يعذّب قوماً حتى يقيم عليهم الحُجّة {وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ} لا يتثاقلون عند الدعوة إلى الجهاد، لأنّهم يتحرّكون في الحياة من مواقع القاعدة الإيمانية التي تحكم كلّ تصوّراتهم وأعمالهم وعلاقاتهم على أساسٍ من وعي المسؤولية أمام الله، في ما يعيشون من محبّة الله وخوفه، وبذلك فهم يجدون الحياة، في مفهومهم لموقعها الحقيقي من شخصيّتهم، هبة الله التي يملك أمر استمرارها، كما يملك أمر إزالتها من أجل غايات الحياة التي أراد الله لها أن تعيش من أجلها، فليس لهم أن يمتنعوا عمّا يريده لهم من ذلك كلّه، لأنّ الأمر كلّه بيده، وهذا ما ينبغي لكم أن تعيشوه وتواجهوه وتنتظروه، فلا تعتبروا المسألة مقتصرة عليكم، فلستم أوّل الناس الذين يدعوهم الرسول إلى الجهاد، ولستم آخرهم، بل أنتم مجرّد مرحلةٍ طارئةٍ من مراحل المسيرة الإسلامية الطويلة، التي قد تتأثّر بعض الشيء بالمواقف السلبيّة التي يقفها السائرون في الطريق، ولكنّ ذلك لا يلغيها ولا يجمّدها. {وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً} لأنَّ لله عباداً صالحين مجاهدين يعملون من أجل حمل المسؤولية ومتابعتها بكلّ صدق وعزيمةٍ وإصرار، ولا بدّ لهم من أن يتحرّكوا في الخطّ الطويل ويسيروا على طبيعة المنهج {وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فلا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، لأنّ الأشياء كلّها ملكه وفي قبضته، فلا مجال إلاّ له في كلّ شيء ومع كلّ شيء وأمام كلّ شيء، بالمعنى الذي يجعل العقول والعيون والمشاعر محدّقةً بجلاله في عملية وعيٍ متحرّك، وذلك هو سرّ إخراج المؤمنين من الظلمات إلى النور في ما يريد الله سبحانه أن يخرجهم منه، إلى إشراقة النور في الحياة، من خلال رسالاته التي أراد لرسله أن يعرّفوها للنّاس، ويؤكّدوها في دعوتهم التي تنطلق في أجواء الرسالات، ويحرّكوها في وعي الناس، لتثير فيهم الشعور الواعي بقدرة الله المطلقة التي تحميهم من الانسحاق أمام نقاط ضعفهم في مواجهة قوّة الآخرين، ليجدوا في ارتباطهم بالله القوّة كلّها، في الزمن كلّه.

                           *****

8 ـــ تفريغ نفوس الناس من الإحساس بالرهبة من العدو:

{لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ*مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ*لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِّنْ عِندِ اللّهِ وَمَا عِندَ اللّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ} [آل عمران: 196 ـــ 198].

                           *****

معاني المفردات:

{لاَ يَغُرَّنَّكَ}: الغرور: إيهام حال السرور فيما الأمر بخلافه في المعلوم.

{تَقَلُّبُ}: التقلّب: التصرّف مأخوذ من قلب الشيء تصريفه وصرفه عن وجه، إلى وجه، كقلب الثوب وقلب الإنسان، أي: صرفه عن طريقته.

{مَتَاعٌ}: المتاع: النفع الذي يتعجّل به اللّذّة، إمّا بوجود اللّذّة أو بما يكون به اللّذّة، نحو المال الجليل، والملك، والأولاد، والإخوان.

{الْمِهَادُ}: الذي يسكن فيه الإنسان ويفترشه.

                           *****

في هذه الآية، يريد الله سبحانه ـــ كما في أكثر الآيات القرآنية ـــ أن يُفرّغ نفوس الماس من كلّ إحساس بالتعظيم والاحترام والرهبة من القوى الكافرة الطاغية الباغية التي تواجه الله بالتمرّد في الفكر والعمل، وذلك من أجل إرجاعهم إلى إنسانيّتهم الحقيقية في الانفتاح على ما حولهم ومن حولهم بواقعيّة وانطلاق وموضوعيّةٍ، فلا يتصوّرون الأشياء بأكبر من حجمها الحقيقي في طبيعتها وفي تأثيرها، لأنَّ المشكلة التي يعيشها الإنسان في حياته، هي أنَّ الصورة التي يواجهها في ما يشاهده من القوى المسيطرة في الكون، تملأ نفسه بالرهبة والشعور بالصّغار والانسحاق أمام هذه القوى، ويتحوّل ذلك إلى خضوع لكلّ أفكارهم وأوضاعهم المنحرفة، ما يؤدّي إلى انحراف المنحرفين وتنازل الكثيرين عن خطّهم.

وهذا هو المنطق الذي يفرض نفسه على كثير من الساحات الإسلامية في العالم، ولا يزال يفرض نفسه على ساحتنا الآن، فنحن ننظر إلى القوى في مرحلتها المتقدّمة ولا ننظر إليها في حالة ولادتها، أو في حالة انحسارها، فنشعر بالضعف أمام ذلك كلّه. أمّا إذا تبدّل هذا المنطق، فأصبحنا ننظر إليها في مراحل بداياتها أو نهاياتها، فإنّنا سننظر إلى القوّة كمرحلة مجرّدة من مراحل نموّ الإنسان وتطوّره، فنتعامل معها، من خلال ذلك، تعاملاً واقعياً ليس فيه الكثير من حالات الانفعال والتضاؤل. وهذا ما أراد القرآن الكريم أن يثيره أمام الإنسان في أكثر من صورة، فنراه يعرض هؤلاء الذين يعتبرهم الناس آلهة في حالات ضعفهم ولا يلتفت إلى حالة قوّتهم، لأنّه يهدف إلى إبراز جوانب الضعف، ليعيش الإنسان الشعور بواقعية الضعف في حياتهم كشيء طبيعي جداً. فإذا رأوا جانب القوّة لديهم، نظروا إليه نظرة متوازنة تثير المقارنة بين الحالتين، فتتوازن من خلال ذلك النظرة والتصرّف والعلاقة والاتباع، وذلك كما في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج : 73].

فإنَّ الآية تواجه هؤلاء الذين يعتقد الناس أنّهم آلهة معبودون من دون الله في ما يثيره ذلك التصوّر من قوّتهم وضخامة شخصيّتهم، فتضع أمامهم شخصية الذباب في ضآلته وحقارته، ثمّ توحي بأنَّ هؤلاء الكبار الضخام الذين قد يشيِّدون القصور الكبيرة والقلاع المحصّنة، لا يستطيعون خلق الذباب ولو اجتمعوا له وبذلوا طاقاتهم فيه، لأنّهم لا يملكون القدرة على الخلق حتّى في أشدّ الأشياء حقارة، فتتضاءل الصورة وتتصاغر، ويتعمّق الشعور بأنَّ قضية القوّة الإلهية لا تكمن في القدرة على إعلاء البناء فقط، بل تتمثّل في إبداع الروح في الأشياء مهما كانت حقيرة، لأنَّ ذلك هو الشيء الذي يميِّز الخالق عن المخلوق.

وتتصاعد الفكرة في اتجاه جديد، فهذه الذبابة الصغيرة الحقيرة تملك من القدرة على أن تسلبهم بعض الأشياء من قوّتهم وصحّتهم، فلا يستطيعون إرجاع ذلك منها ولا يملكون استنقاذه، فأيّ ضعف هو هذا الضعف الذي يتمثّل في هؤلاء الأقوياء الذين إذا ملكوا القوّة في جانب، فإنَّ الضعف يتمثّل فيهم في جوانب أخرى. وتلك هي القصة في الأشياء التي يتمثّل فيها الضعف من جهة وتتحرّك فيها القوّة من جهة أخرى، لتتوازن النظرة في الإنسان، فلا يصعد إلى ما لا يبلغه من الدرجة لدى نفسه ولدى الآخرين.

                           *****

صورة الكافرين في القرآن:

وتنطلق هذه الآية في هذا الاتجاه: {لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ} فقد يخضع الإنسان للشعور بالانسحاق أمام القوّة الكبيرة المتمثّلة في حركة الكافرين، عندما يفتحون بلداً أو يحكمون آخر ويسيطرون على شعب من الشعوب، وقد يغرّه ذلك، فيمتدّ معهم في ما لا يستحقّونه، ويستسلمون له استسلام الأمل الكبير للفرص الخالدة الممتدّة المتعاظمة أمامهم، التي توحي إليهم بالكثير من الأطماع والشهوات، فيستريحون إلى ذلك كلّه في ما ينتظرهم من مستقبل الأيام الطويلة. ولكنّ القرآن يريد أن يربطهم بواقع الأشياء ويُبعدهم عن الأجواء الخياليّة المتحرّكة بالأحلام الضبابيّة؛ فلكلّ واحدٍ منهم عمر محدود وطاقة محدودة، ولكلّ واحد منهم نقاط ضعف في ذاته وفي حكمه. إنَّهم مجرّد مرحلة في حياة الأُمّة، قد تتّسع وقد تضيق، وقد تمتدّ وقد تنكمش. ولكنّها سوف تنتهي في وقت قصير {مَتَاعٌ قَلِيلٌ}.

وماذا بعد ذلك؟ ما قيمة ذلك كلّه؟ إنَّ العاقبة الوخيمة تنتظرهم هناك عندما يفارقون هذه الدّنيا، فسيفقدون كلّ هذه العظمة الفارغة ويتحوّلون إلى غذاءٍ شهيّ للنّار، تماماً كما هي الأخشاب والهشيم. {ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} فذلك هو مأواهم ومصيرهم السيِّئ وبئس المهاد. إنَّه الدور النفسي الذي يستهدف تفريغ داخل الإنسان من التأثيرات النفسية المنبهرة بمظاهر العظمة المحيطة بهم، فما قيمة ذلك كلّه في نطاق إدراكنا بأنَّ هؤلاء الكافرين يعيشون الحياة كمتاع، مجرّد متاع؟! فقد لا يكون لهذه النظرة السلبية في داخلنا ضدَّهم تأثير على القوى الطاغية والباغية بشكلٍ فوري حاسم، ولكنّه يترك الأثر الإيجابي للمستقبل، لأنَّ الصراع بين المستكبرين والمستضعفين، في حركة الصراع بين القوّة والضعف، لا تحكمه القوى الماديّة فقط، بل تتدخّل فيه القوى النفسية.

فإنَّ هناك عنصرين يساهمان في هزيمة الضعفاء أمام الأقوياء وهما: عنصر القوّة المادية التي يملكها المستكبرون، وعنصر المشاعر السلبية الانهزامية التي ينسحق ـــ من خلالها ـــ المستضعفون تحت تأثير المستكبرين. وقد تعامل الإسلام ـــ في ما يريده من تقوية حركة المقاومة ضدّ هؤلاء ـــ مع العنصر الأول في ما جاءت به الآية الكريمة: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} [الأنفال : 60]، ومع العنصر الثاني في ما جاءت به هذه الآية وأمثالها للدخول في عملية موازنة ومقارنة بين القوّة التي تفنى وتزول، وبين القوّة التي تملك أمر الحياة والموت، فلا يستسلم الإنسان للقوّة الزائلة، بل يخضع للقوّة الخالدة التي تملك كلّ القوى المادية والمعنوية، وبذلك يتحرّك في عملية تطوير القوّة المضادّة والانطلاق بالصراع إلى نهايته حتى النصر، ولو بعد حين. إنَّ الفكرة الحاسمة هي أنَّ كلّ القوى لن تدوم، لأنّها مجرّد متاع قد يفنى في الدّنيا، وقد تفنيه الدُّنيا. وفي هذا الجوّ، ينطلق التفاؤل بالمستقبل الكبير من أجل صنع القوى الوليدة الجديدة التي تمسك بزمام الأمر كلّه على اسم الله.

صورة المؤمنين في القرآن:

تلك هي صورة الكافرين؛ متاع قليل لا يلبث أن يتحوّل إلى عالم الموت، وكيان يحترق حتى يستحيل إلى رماد. {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ} فوقفوا حيث يريد الله منهم أن يقفوا، وتحرّكوا حيث يريد الله منهم أن يتحرّكوا، في مختلف مجالات الحياة السياسيّة والاجتماعية والاقتصادية والعسكريّة. لأنَّ لكلّ جانبٍ من جوانب الحياة تقوى تحكمها في ما يتحرّك فيها من أحكام شرعية ومفاهيم إسلامية تفرض على الإنسان الخضوع لها والانضباط على أساسها؛ انطلاقاً من شمول الإسلام لكلّ نواحي الحياة، ما يوحي لك بأنَّ عليك أن تحسب حساب الله في ذلك كلّه، ولا تستسلم لنزواتك ومزاجك، أو لما يحاول الآخرون أن يهوِّلوا به عليك، أو يبرّروه لك من دون أن تملك فيه حُجّة أو برهاناً، فذلك هو خطّ التقوى الذي يعطينا الله ـــ من خلاله ـــ فكرةً عن الأجواء في الآخرة التي تنتظر السائرين عليه. {لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِّنْ عِندِ اللّهِ} فهو الذي ينزل رحمته على المتّقين في الدنيا والآخرة، {وَمَا عِندَ اللّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ} فإنَّ هذه الآفاق الرحيبة التي تفتح قلب الإنسان وروحه على المتع الروحية المطلقة، هي خير من كلّ ما يتطلّعون إليه في الدّنيا أو يفقدونه فيها، وقد ورد في بعض الأحاديث المأثورة عن الجنّة ونعيمها: "فيها ما لا عين رأت ولا أُذن سمعت ولا خطر على قلب بشر". وهكذا تتقارن الصورتان أمام المؤمن، صورة الكافرين وصورة المتّقين، ليقف مع الخطّ الإيماني التّقي الأصيل من موقع النهايات السعيدة التي تنتظره في نهاية المطاف.

                           *****

9 ـــ تفضيل المجاهدين على القاعدين:

{لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُـلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً*دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} [النساء: 95 ـــ 96].

                           *****

معاني المفردات:

{الضَّرَرِ}: النقصان، وهو هنا كلّ ما يضرّك وينقصك؛ من عمى ومرض وعلّة، ممّا يمنع من القيام بأمر الجهاد والقتال.

 {دَرَجَةً}: الدرجة: المنزلة.

                           *****

لا فضل في الإسلام لأحدٍ على أحد إلاّ بالعمل في نطاق المسؤولية، وأيّ عمل أفضل من الجهاد في سبيل الله. وقد جاءت هاتان الآيتان لتؤكّدا على هذه الحقيقة الإسلامية بشيء من التفصيل؛ ففي حالات التحدّي التي يواجهها المسلمون في معركتهم ضدّ الكفر والشرك والطغيان، قد يقعد بعض الناس بسبب بعض الحالات المرضية التي قد تمنعهم عن القتال؛ وهؤلاء معذورون لا ينقص من أجرهم شيء، لأنّ الله لم يجعل على المؤمنين من حرج في ما يكلّفهم به، وقد يقعد البعض بسبب خوفٍ أو حالة كسل أو استرخاء أو حبّ للدّعة والرحة، في الوقت الذي لم تصل فيه الدعوة إلى الجهاد إلى مستوى النفير العام، بل كانت واجباً كفائياً يقوم بمن تُسَدُّ بهم الحاجة، وهؤلاء مأجورون في ما يقومون به من أعمال صالحة على المستوى الفردي والجماعي، ولكنّهم يخسرون الكثير الكثير من فرص الثواب الكبير الذي يحصل عليه المجاهدون في الجهاد، الذين رفع الله منزلتهم عن المسلمين القاعدين، وأعطاهم من مغفرته ورحمته الدرجات الرفيعة والأجر العظيم.

وقد تحدّثت الآية عن المجاهدين بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، وعن تفضيلهم على القاعدين بطريقة مؤكّدة، وذلك ما يوحي به أسلوب التكرار، فبدأت بقوله تعالى: {لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ} لتقرّر التفضيل من جانبه السلبي من حيث عدم المساواة بين هذا الفريق وذاك، ثمّ أوضحت الموضوع بخصوصيّته الإيجابية {فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً} والظاهر أنّ المراد من الدرجة ليس الوحدة في الأرقام الحسابية، بل المبدأ من حيث النوع، وذلك ما يوحيه وقوع الكلمة بعد فقرة عدم الاستواء، لبيان أنّ هذا الفريق أعلى درجة من الفرق الأخرى؛ فلا يتنافى مع الفقرة المذكورة في الآية التالية {دَرَجَاتٍ مِّنْهُ}؛ ثمّ قرّرت الآية أنّ القعود لا يمثّل خطيئة في ذاته، عندما لا يكون هناك إلزام بالجهاد {وَكُـلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى}؛ فلكلٍّ من القاعدين والمجاهدين أجره بحسب عمله، {وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً} فليست الحسنة التي وعد الله بها المجاهدين، هي نفسها التي وعد الله بها القاعدين، لأنّ للجهاد مرتبة كبيرة عند الله، ممّا يجعل أجره في مستوى عظيم لا يرقى إليه أجر أيّ إنسان آخر {دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رَّحِيماً}، فإنَّ الصعوبات التي تواجه المجاهدين، والمتاعب التي يتحمّلونها، ترفعهم عند الله {دَرَجَاتٍ مِّنْهُ}، لأنّ علوّ الدرجة يتبع صعوبة المعاناة وروعة التضحية {وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً} فإنَّ الله يغفر لمن آمن وعمل صالحاً، وأيُّ عمل صالح أعظم من بذل النفس والمال في سبيل الله، {إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56]، وأيُّ إحسان أعظم من الذين يضحّون في سبيل الله والمسلمين.

                           *****

10 ـــ جزاء المجاهدين:

{لَـكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ*أَعَدَّ اللّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 88 ـــ 89].

                           *****

{لَـكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ} هم الذين أعطوا الأمل الكبير للساحة من موقع التحرّك الواقعي الذي يبحث عن أدوات الواقع من أجل تغيير المواقع، ولا يتجمّد أمام أحلام المثاليّة الخياليّة، وتلك هي وسائل الجهاد، فقد {جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ} في ما يحتاج إلى التضحية بالأموال { وَأَنفُسِهِمْ} في ما يحتاج إلى بذل النفوس في سبيل الله، لأنّ فكرة الجهاد في الإسلام ليست منطلقةً من السيطرة الذاتية للاستعلاء على الناس وسحق إرادتهم وتحطيم مستقبلهم، بل هي منطلقةً من تحقيق إرادة الله في بناء الحياة على أساس رسالته، في ما يريد للحياة أن ترتكز عليه.

{وَأُوْلَـئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ} التي تمثّل النتائج الطبيعيّة لأعمالهم الخيّرة على مستوى الدنيا والآخرة {وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} لأنّهم أخذوا بأسباب الفلاح في العقيدة والعمل، في ما أخذوه من الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر، وساروا على شريعته المرتكزة على أساس وحيه، وواجهوا كلّ القوى الكافرة والشرّيرة من أجل حماية الحياة من كفرهم وشرورهم. {أَعَدَّ اللّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا} لما عملوا ولما جاهدوا وأخلصوا لله دينه ووحيه. {ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} الذي يمثّل الخير كلّ الخير، والنعمة كلّ النعمة، والرضا كلّ الرضا، والقيمة الكبيرة العليا في الدنيا والآخرة.

                           *****

11 ـــ القتال مرتبط بظروف المصلحة:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 123].

                           *****

معاني المفردات:

 {يَلُونَكُم}: يقربون منكم.

{غِلْظَةً}: شدّة.

                           *****

هل هذا نداء للمؤمنين بإعلان الحرب على الكفّار الذين يعيشون قريباً منهم لتتحوّل الساحة إلى حروب حارّة متّصلة بين المؤمنين والكافرين بطريقةٍ شاملة، أو أنّه حديثٌ عن التفاصيل المتّصلة بالمسؤولية المباشرة التي يحملها المؤمنون القريبون إلى مواقع القتال في مواجهة الخطر الآتي منهم، بقتالهم تحصين مواقعهم والدفاع عنهم؟؟

ربّما كان الأقرب إلى جوّ الآية هو المعنى الثاني، لأنّ قضية القتال تتّصل بالتخطيط الإسلامي للمعركة من قِبَل القيادة التي تتولّى أمور المسلمين، فقد تفرض الخطّة القتال في هذا الموقع وقد لا تفرض ذلك، بل تفرض ـــ بدلاً منه ـــ الانتظار للوصول إلى الظرف الملائم أو تقتضي الهدنة والمعاهدة وغير ذلك.

وليس معنى ذلك أنّ الإسلام لا يفرض الجهاد الابتدائي للدعوة إلى الإسلام، لأنّه أمر أساسي في التشريع الإسلامي، ولكنّ هذا الأمر لا يبتعد أيضاً عن التخطيط للمسألة تبعاً لما هو الأصلح في حركة الإسلام في الحياة، من خلال الظروف الموضوعية المحيطة بالواقع من الزمان والمكان والأوضاع العامة والخاصة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ} أي القريبين منكم، فيما إذا اقتضت مصلحة الإسلام القتال من أجل أن تكون الحياة كلّها لله، {وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً} أي شدّةً وتصميماً على المواجهة، في مقابل الضعف والتخاذل، وليس المراد بها القسوة والجفاء والخشونة والفظاظة، فإنّ ذلك ليس من الإسلام في شيء، {وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} الذين يخافون ربّهم ويخشونه ويراقبونه في كلّ شيء، ويتحمّلون مسؤوليّتهم أمامه في ما يأمرهم به أو ينهاهم عنه، ويستمدّون منه القوّة في الموقف، ويعرفون أنّه معهم في جميع المواقف.

                           *****

12 ـــ القتال في الشهر الحرام:

{الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 194].

                           *****

معاني المفردات:

{الشَّهْرُ الْحَرَامُ}: هو الذي يحرم فيه ما يحلّ في غيره من القتال ونحوه.

{الْحَرَامِ}: هو القبيح الممنوع من فعله، ويقابله الحلال المطلق المأذون فيه.

{وَالْحُرُمَاتُ}: جمع حرمة، وهي ما يجب حفظه ويحرم هتكه.

{قِصَاصٌ}: الأخذ للمظلوم من الظالم لظلمه إيّاه.

                           *****

في هذه الآية يتحدّث الله عن القتال في الشهر الحرام الذي كان المسلمون لا يجرؤون على القتال فيه احتراماً لحرمته، فأباح الله لهم ذلك على أساس المقابلة بالمثل، في الوقت الذي لا يملك الإنسان فيه أي خيار، لأنَّ القضية قضية حياة أو موت بالنسبة للأُمّة وللرسالة. وهذا هو قوله تعالى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ}.

وإذا كانت قريش قد انتهكت حرمة هذا الشهر، فلم يحترموا حقّ الإنسان فيه بالسَّلام، فللمسلمين الحقّ في أن لا يحترموهم فيه. وعقب على ذلك بقوله: {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ}، فلكلّ إنسان الحقّ في أن يقتصّ لحرمة ما انتهكه الآخرون منه، وذلك بانتهاك حرمتهم. وأوضح الفكرة بأنَّ من حقّ المعتدى عليه أن يردّ العدوان بمثله، فلا يتجاوزه إلى أكثر من ذلك التزاماً بخطّ العدل الذي يتركّز على المماثلة في العقاب: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} أي: عاملوه بالمثل، جوازاً لا إلزاماً. ولا بدّ من أن يلاحظ أنّ ردّ الاعتداء ليس اعتداءً، لأنّه من حقّ المعتدى عليه؛ ولكنّه سمّاه باسمه، لأنّه مجازاة اعتداء، باعتبار أنّه مثله في الجنس وفي المقدار، ولأنّه ضرر كما أنَّ ذلك ضرر، والمماثلة تقتضي عدم تجاوز حجم العدوان وطبيعته.

{وَاتَّقُواْ اللّهَ} ثمَّ أمر بالتقوى تدليلاً على أنَّ الوقوف أمام حدود الله والالتزام بالخطّ الفاصل بين العدل والظلم يرتكز على أساس التقوى الداخلية، التي يشعر الإنسان معها بالمسؤولية الدائمة أمام الله في كلّ مواقفه العامّة والخاصة، في ما له من الحقّ وما عليه، فيقف حيث يريد الله منه أن يقف، ويتحرّك حيث يريد الله منه أن يتحرّك. فإنّ الإنسان الذي لا يعيش حسّ التقوى في نفسه، قد ينجرف أمام نوازع النفس الذاتية التي توحي بالعصبيّة والانتقام والتشفّي والحقد، وغير ذلك ما يجعل الإنسان يأخذ أكثر ممّا له من الحقّ أو يعطي أقلّ ممّا عليه من الحقّ. ثمَّ حدَّدت للمؤمنين الموقع الذي يحصلون من خلاله على رضا الله، ذلك من خلال التقوى {وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}، فإنَّ الله مع المتّقين الذين يخشون ربّهم بالغيب ويراقبونه في كلّ صغيرة أو كبيرة في السرّ والعلانية.

                           *****

13 ـــ الإمساك بزمام المبادرة في الصراع:

{وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً} [النساء: 104].

                           *****

معاني المفردات:

{تَهِنُواْ}: تضعفوا في القلب والنفس، فتضعفوا في الحركة والمقاومة، والوهن: الضعف.

{ابْتِغَاء}: الطلب.

{تَأْلَمُونَ}: الألم: الوجع.

{وَتَرْجُونَ}: الرجاء: الأمل، وقد يستعمل بمنعنى الخوف، قال تعالى: {مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} [نوح : 13] والمعنى: لا تخافون لله عظمة. وإنّما استعمل على معنى الخوف لأنّ الرجاء أمل وقد يخاف أن لا يتمّ.

                           *****

إنّها دعوة للأخذ بأسباب القوّة، من خلال ما يوحيه الإيمان بالله والثقة بنصره وعدم الاستسلام للوهن، وذلك لما يهوّله الشيطان ويثيره من نوازع الضعف. {وَلاَ تَهِنُواْ} أي: لا تضعفوا، بل تابعوا الهجوم والملاحقة {فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ} أي: في طلب الكفّار والمشركين في المعركة، فإنّ حالكم ليس بأسوأ من حال أعدائكم {إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ}، لأنَّ آلام المعركة تفرض نفسها على جميع المقاتلين، ولكنّكم تتفوّقون عليهم في نقطة مهمّة، {وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ} من النصر والمعونة والتأييد والرضوان والجنّة؛ فأنتم تتحرّكون من موقع الثقة بالله والأمل الكبير به، بخلافهم، فإنّهم لا يتمسّكون بشيء من ذلك. {وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً} بما تعملون، {حَكِيماً} في ما يفرضه عليكم من المواقف.

وربّما نستوحي من أجواء الآية أنّ القضية المطروحة هي أن يبقى المسلمون في خطّ المواجهة للأعداء، الذين يعملون على إسقاط الواقع الثقافي والسياسي والاقتصادي والأمني، بالرغم من اختلال موازين القوى، ومن الآلام الروحية والجسدية، الماديّة والمعنوية، لأنّ طبيعة الصراع في عملية الكرّ والفرّ في حركة التجاذب المتبادل بين الفريقين، تفرض توزيع الآلام على الجميع، فقد ينتصر هذا الفريق ليجلب الآلام للفريق الآخر وقد يردّ الفريق المهزوم الكرّة على الفريق المنتصر ليفرض عليه الآلام بشكلٍ أقسى، وهكذا يفرض الإسلام على المسلمين أن لا يسمحوا للمأساة الذاتية أن تأكل الإرادة القويّة الصلبة في حركة جهادهم، لأنّ لا جهاد من دون ألم، ولا نصر من دون معاناةٍ، وفي ضوء ذلك تتحرّك الآية من أجل الدعوة إلى أن يتسلَّم المسلمون زمام المبادرة في حركة الصراع، لأنّ الذين يبادرون هم الذين يمسكون ـــ غالباً ـــ بزمام القضية، لا أن تكون مبادرتهم الهجومية عدواناً من خلال العقدة الذاتية ضدّ الإنسان الآخر، بل هي مبادرة وقائية ضدّ الذين يريدون السبق إلى الهجوم ليكونوا في موقع القوّة كأيّ مهاجم، لا في موقع الضعف كأيّ مدافع. وهكذا ينطلق الموقف المتحدّي في رحلة الآلام الجهادية من قاعدة الإيمان بالله والأمل به، لأنّهم يجاهدون في سبيله ويعملون من أجل تأكيد دينه ويستهدفون ـــ في نهاية المطاف ـــ الحصول على رضاه في كلّ شيء. وإذا كان الرجاء ينطلق في واقع الدنيا من النصر الإلهي الذي يهيّئ الله أسبابه، وفي واقع الآخرة من الشهادة التي قد تفرضها المعركة، فإنّ المؤمن يعيش الرجاء في كلتا الحالتين، وكلاهما النصر أو الشهادة ربح في الدنيا وسعادة في الآخرة.

                           *****

14 ـــ ضرورة الحذر والاستعداد الدائم للأعداء:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُواْ جَمِيعاً*وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُن مَّعَهُمْ شَهِيداً*وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِّنَ الله لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً} [النساء: 71 ـــ 73].

                           *****

معاني المفردات:

{حِذْرَكُمْ}: حَذَرَكُم وتحرَّزكم على خِيفةٍ من أعدائكم المتربّصين بكم. وقيل: ما يحذر به، وهو آلة الحذر كالسلاح، فعلى المعنى الأوّل مصدر، وعلى الثاني اسم، وسمّى الأسلحة حذراً لأنّها التي بها يُتقى الحذر.

{فَانفِرُواْ}: اخرجوا للجهاد والقتال بسرعة وأهبة.

{ثُبَاتٍ}: مجموعة متفرّقات، فرقة بعد فرقة.

{لَّيُبَطِّئَنَّ}: ليتثاقلنّ ويتأخرنّ عن الخروج إلى الجهاد والمعركة من دون عذر. والتوكيدات المتعدّدة تدلّ على مدى اجتهاد هؤلاء في التخلّف والتبطئة.

{شَهِيداً}: شاهداً وحاضراً في القتال وميدان المعركة.

                           *****

هذه الآيات انطلاقة جديدة للدعوة إلى إطاعة الله والرسول، في خطّ الجهاد الذي فرضه على الأُمّة، لتكون قادرةً على مواجهة التحدّيات من مواقع القوّة، لأنّ أيّة أُمّة تريد الوقوف على قدميها، لا بدّ لها من قاعدة فكرية تواجه بها الفكر المنحرف الضالّ، ومن قاعدةٍ للقوّة تواجه بها الفئات المنحرفة الضالّة، لتستمرّ في رسالتها على مدى الزمن. ولهذا جاء النداء للمؤمنين ليأخذوا حذرهم من كلّ التحدّيات المحتملة المحيطة بهم، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ} فهناك أكثر من عدو يتربّص بهم، سواء كان من أهل الكتاب أو المشركين، وهناك أكثر من جهة تعبث بأمنهم، سواء في ذلك المنافقون وغيرهم. فلا بدّ لهم من مواجهة ذلك كلّه بالاستعداد، {فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُواْ جَمِيعاً} فإذا جاء وقت النفر إلى الجهاد، فعليهم أن ينفروا متفرّقين أو مجتمعين، حسب الخطّة الموضوعة للنفر في نطاق المصلحة العليا للإسلام والمسلمين؛ فقد تكون المصلحة أن يخرجوا فرقة فرقة، وهو ما يسمّى بنظام السرايا، وقد تكون المصلحة أن يخرجوا جميعاً وهو ما يسمّى بنظام العسكر.

                           *****

لا بدّ من الحذر على كلّ المستويات:

وإذا دقّقنا في كلمة {خُذُواْ حِذْرَكُمْ} فإنّنا ننفتح من خلالها على كلّ ساحات الصراع التي يمكن أن يتواجد فيها أعداء الإسلام والمسلمين في كلّ زمان ومكان، ليستغلّوا كلّ الثغرات الموجودة في المجتمع المسلم لينفذوا من خلالها إليه، للإضرار به ليبعثوا بأمنه أو ليحشدوا القوّة العاتية، ليهجموا بها على الواقع الإسلامي كلّه، لأنّ المعركة في حركة التحدّيات المضادّة مستمرّة في صراع الحقّ والباطل والخير والشرّ. وإذا أردنا استنطاق كلمة {حِذْرَكُمْ} فإنّها تعني مواجهة كلّ الأوضاع والمشاكل والتيّارات المختلفة والظروف المتنوّعة، بالكثير من الدراسة والتخطيط للتعرّف على مخطّطات العدو في مواقع قوّته وقدرته وأساليبه واستراتيجيّته، ومداه البشري والعسكري، ولتجميع كلّ نقاط القوّة المتناثرة في الساحة الإسلامية، ولتوزيع الطاقات على مواقع المعركة بكلّ دقّةٍ وإتّقان، لأنّ قضية المواجهة لا تسير على نهج واحد وعلى أسلوب واحد، بل تتنوّع تبعاً لتنوّع قدرات العدوّ وأوضاعه.

ولا بدّ من التنبيه على أنّ كلمة "الحذر"، تختلف عن كلمة "الخوف" فإنّ الخوف يشلّ القدرة ويدفع إلى الهزيمة، أمّا الحذر، فإنّه يوحي بالدراسة الدقيقة الموضوعية للواقع للتعرّف على أفضل الوسائل للمواجهة بطريقةٍ حكيمة واعية مدروسة.

                            *****

المقابلة بين المؤمنين والمنافقين:

ويتحدّث القرآن عن بعض الفئات التي تعيش الضعف في الموقف، بين فئةٍ تعاني من ضعف الإيمان والإرادة، وبين فئة تعيش النفاق في داخلها، في الوقت الذي تعيش في مجتمع المؤمنين كأيّة فئة منهم. {وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ} وخلاصة موقفهم أنّهم لا ينفرون مع النافرين، بل يتباطأون متعلّلين ببعض الأعذار التي تبرّر لهم ذلك، حتى يخرج الجميع وتفوتهم الفرصة التي أرادوا أن تفوتهم، {فَإِنْ أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ} فإذا رجع المؤمنون من الجهاد وكانوا في موقع الهزيمة أو الفشل أو القتل ـــ في ما عبَّر عنه القرآن بالمصيبة ـــ قال هؤلاء الناس، كما لو كانوا يتحدّثون عن نعمة من نِعَمِ الله عليهم: {قَدْ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيَّ} لأنّنا لم نشهد المعركة، {إِذْ لَمْ أَكُن مَّعَهُمْ شَهِيداً} فلم نصب بما أصيبوا به من قتل أو جرح أو نحو ذلك، من دون أن يلتفتوا إلى الآفاق الروحية التي يعيش فيها المؤمنون الصادقون المجاهدون، الذين يعتبرون القتل والجهد والجرح في سبيل الله ربحاً وسعادةً، ينالون من خلالها رضا الله في الدنيا والآخرة، وذلك جزاء المحسنين. فليست قصّة الحياة لدى المؤمنين، قصّة استمتاع ولذّة وامتياز، ولكنّها قصّة مسؤولية ومعاناة وجهاد؛ فقد اشترى الله منهم أنفسهم أن يبذلوها في سبيله، في أي موقع من مواقع العمل والجهاد المرّ.

{وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِّنَ الله لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً} أمّا إذا رجع المسلمون بالنصر وبالغنائم التي غنموها من العدوّ، فلم يصابوا بأيّ بلاء ممّا يصيب المقاتلين، فإنّ الموقف يتبدّل لدى هؤلاء، ويتمثّل بإطلاق التمنيّات الذاتية التي لا تنطلق من رغبة روحية في المعاناة مع إخوانهم المؤمنين في ما عانوه من جهد في سبيل الله، ليكون لهم فضل المشاركة في الجهاد والمؤاساة لإخوانهم، فهم لا يعيشون المودّة للمؤمنين المجاهدين ولا يشعرون بالعلاقة الإيمانية التي تربطهم بهم، لتكون قضاياهم المصيرية مشتركة في الموقف والشعور؛ بل تنطلق كلّ تمنّياتهم من النظر إلى الأرباح التي حصل عليها المجاهدون، تماماً كأيّ إنسان بعيد عن المؤمنين عندما يتمنّى لنفسه الفضل المادي الذي حصلوا عليه؛ فيقولون وهم يعبّرون عن الحسرة الداخلية لفوات الفرصة عليهم: يا ليتنا كنّا معكم فنفوز فوزاً عظيماً.

                           *****

15 ـــ علاقة تشريع الأشهر الحرم بالقتال:

{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ*إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلِّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِّيُوَاطِؤُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [التوبة: 36 ـــ 37].

معاني المفردات:

{كَآفَّةً}: قيل معناه كافّين لهم كما يقاتلونكم كافين، وقيل معناه جماعة كما يقاتلونكم جماعة.

{النَّسِيءُ}: التأخير. وهو شهر كانت تؤخّره العرب في الجاهلية بحسب مصلحتهم.

{لِّيُوَاطِؤُواْ}: المواطأة: الموافقة.

                           *****

هذا حديث لا يبتعد عن أجواء القتال، ولكنّه يعيش في بعض تفاصيل الزمن الذي يحلّ فيه القتال أو يحرم، لأنَّ الله قد حدَّد في ذلك حدوداً معيّنة، فلا يجوز للناس أن يتجاوزوها أو يتعدّوها بأيّة وسيلةٍ كانت إلاّ في حال الاضطرار، على ما هو الحال في كلّ حدود الله التي لم يحلّها إلاّ لمن اضطر إلى تجاوزها.

أمّا تفصيل الموضوع، فقد أراد الله للزمن أن يتحرّك في حياة الناس من المواقع الطبيعيّة التي ركَّز عليها تكوين الوجود في حركة الشمس والقمر حول الأرض، وهي الشهور القمريّة التي تخضع لأوضاع القمر في عالم الحسّ، وعدّتها اثنا عشر شهراً، وقد أراد الله أن يجعل في أجواء السنة أشهر سلام، حرّم فيها القتال على الناس إلاّ في حالة ردّ العدوان، وسمّاها الأشهر الحرم، وهي ذو القعدة وذو الحجّة ومحرّم ورجب. وقد حاول بعض الناس في الجاهلية أن يقدّموا فيها أو يؤخّروا تبعاً لمصالحهم وشهواتهم، فحرّموا ما لم يكن حراماً، وأحلّوا ما لم يكن حلالاً، من غير قاعدةٍ، وعلى غير أساس في ما يرتكز عليه التحريم والتحليل، وهذا ما عالجت الآيتان بعض مظاهره.

                           *****

 

الأشهر الحرم أربعة:

{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللّهِ} والظاهر أنّ المراد به كتاب الوجود والتكوين من خلال ما أودعه في الكون من قوانين الوجود التي تنتظم بها الأشياء وتتحرّك من خلالها الظواهر، ما اعتبره من الثوابت الكونية التي لا تتغيّر في طبيعتها، لأنَّ الله أراد منها تركيز القواعد التي تمثّل نظام الحياة الزمني الممتدّ في كلّ أجواء الكون {يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ} حرّم فيها القتال بين الناس ليعيش الناس بعضاً من الأوقات في حالة سلمٍ وهدنةٍ، ليتنفَّسوا فيها الهدوء والطمأنينة، وليتخفَّفوا فيها من أثقال الحرب، وليفكّروا فيها في الأسباب التي دعت إلى النزاع والخصام، وإثارة أجواء التنازع والتقاتل، وليرتاحوا من ذلك، فيقودهم الشعور بالراحة إلى التأمُّل في عواقب الحرب والسلام، وليوازنوا بين هذه وتلك ليخرجوا إلى النتائج الإيجابية الحاسمة التي تثبّت لهم أقدامهم على طريق الخير والنجاح.

                           *****

قيمومة الدين الإسلامي:

{ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} الذي بدأ الله تشريعه منذ عهد إبرهيم (عليه السلام)، وامتدّ في حياة الناس، وتعمّق في وعيهم، واستمرّ في ممارساتهم، حتى أصبحت له حرمة التقاليد الثابتة في كلّ أوضاعهم، فلم يجرؤ أحد على مواجهته بالإلغاء، أو يتجاوز حدوده، في الوقت الذي ابتعدوا فيه عن كثير من حدود الإيمان وتشريعاته. وقد أقرَّ الله هذه الشريعة وأراد للمسلمين في دعوة النبيّ محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) أن يأخذوا بها باعتبارها الدين الثابت الذي لا يتغيَّر، لأنّه لا ينطلق من حالةٍ طارئةٍ قابلةٍ للزوال تبعاً لزوال ظروفها المحيطة بها، بل من حالةٍ عميقةٍ في عمق المصلحة الإنسانية، ممتدّةٍ بامتدادها، لأنّها ممّا يقوم به أمر حياتهم، ويثبت به توازن أوضاعهم. فمن أخذ به، فقد أخذ بالسبيل الأقوم الذ يصلح به أمر معيشته، ويرفع به مستوى أمنه وسلامته، ومن ابتعد عنه وانحرف عن خطّه، فقد ظلم نفسه، وأساء إلى طبيعة السلام في حياته، لذلك فإنَّ الله يحذّر عباده من أيّة حالةٍ من حالات التمرّد عليه {فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ} بالقتال.

                           *****

أمر بقتال كافّة المشركين:

{وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً} بجميع فصائلهم ومشاعرهم {كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً} بجميع تجمُّعاتكم، فلا يتركون أحداً من شرّهم وعدوانهم، فإنَّ ذلك هو السبيل للقضاء على الشرك، بالقضاء على كلّ عوامل نموّه وتطوّره وسيطرته على حركة الواقع الفكري والعملي، كأسلوب دفاعيٍّ من جهةٍ، ووقائيّ من جهةٍ أخرى، من أجل أن يكون الدّين كلّه لله، وأن تنطلق المسيرة الإسلامية في الاتجاه السليم، {وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} الذين يقفون عند حدود الله في ما يأمرهم به أو ينهاهم عنه، والذين يخافون عقابه، ويرجون ثوابه، ويحبّون طاعته التي تؤدّي إلى رضاه، ويرفضون معصيته التي تؤدّي إلى سخطه، فيأخذون بأسباب القتال في الزمن الذي أراد الله لهم فيه القتال، ويتوقّفون عن ذلك في ما لم يرد لهم فيه القتال.

                            *****

النسيء زيادة في الكفر:

{إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} وامتدادٌ فيه بتغيير شريعة الله من عند أنفسهم في ما لم يأذن به الله، فيتصرّفون من خلال ذلك، على أساس أنّه الشريعة التي يريد الله أن يُطاع من خلالها، وبذلك فإنّهم يضيفون إلى كفرهم بالله وبتوحيده كفراً بحدود الشريعة ونظامها.

أمّا النسيء، فالمراد به ما كانت تفعله العرب في الجاهلية، فإنّهم ربّما كانوا يؤخّرون حرمة بعض الأشهر الحرم إلى غيره، تبعاً لمصالحهم في الحرب والسلم، فإذا كانت مصلحتهم في الحرب جعلوا محرّمهم صفراً، واعتبروا صفراً في السنة الثانية محرّماً، يمنعون فيه أنفسهم من القتال عوضاً عمّا مضى، فهم لا يرفضون الشريعة من الأساس، بل يحاولون أن يتلاعبوا بعملية توقيتها وتحديدها في التقديم والتأخير، الأمر الذي يؤدّي إلى فقدان الأساس الذي يرتكز عليه التشريع في إقامة الحياة على قواعد ثابتةٍ يخضع لها الجميع من دون تمييز ومن دون إشكال. {يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ} أي الناس الآخرون في ما يفرضونه عليهم من هذا التغيير في حدود الله والتجاوز لها، {يُحِلِّونَهُ عَاماً} فيرون محرّماً صفراً في هذه السنة {وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً} فيجرونه على ما كان عليه ويضيفون إليه بدله في العام القابل {لِّيُوَاطِؤُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللّهُ} ليوافقوا العدد المحرّم وإن ابتعدوا عن المضمون التشريعي له، فتبقى الأشهر الأربعة في السنة موقع تحريم، ولكن في أشهر أخرى غير ما شرَّعها الله، {فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللّهُ} من دون أن يأخذوا إذناً في ذلك، فيشرّعون لأنفسهم ظلماً وضلالاً {زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ} فخيّل إليهم ـــ في ما زيَّنه لهم الشيطان ـــ أنَّهم يملكون أمر ذلك كلّه، لأنَّ المهم هو العدد، بعيداً عن خصوصية هذا الشهر أو ذاك، لأنّ الزمن يشبه بعضه بعضاً، فلا مانع من وجهة نظرهم أن نقدّم ما أخَّره الله أو نؤخِّر ما قدَّمه {وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} بإجبارهم على الهدى، لأنّه قد أقام عليهم الحُجّة بدلالتهم إلى طريق الهدى من خلال ما عقلوه وسمعوه من الأنبياء من وحي الله في آياته، فإذا انحرفوا إلى طرق الضلال، وظلموا أنفسهم بالسير فيها، فإنَّ الله يتركهم لأنفسهم ولا يهديهم سواء السبيل من جديد.

                           *****

 

 

16 ـــ التهرّب من القتال:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ*كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ*إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ} [الصف: 2 ـــ 4].

                           *****

معاني المفردات:

{مَقْتاً}: المقت: البغض الشديد.

{صَفّاً}: جعل الأشياء على خطّ مستوٍ كالناس والأشجار.

{بُنيَانٌ}: البناء.

{مَّرْصُوصٌ}: من الرصاص، والمراد به ما أحكم من البناء بالرصاص فيقاوم ما يصادمه من أسباب الانهدام.

                           *****

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} هذا هو الخطّ الإيماني الذي يريد الله من المؤمنين أن يتحرّكوا فيه، على أساس أنّ الإيمان ليس مجرّد كلمةٍ تقال، ولا تمنّياتٍ تعيش في دائرة الشعور، بل هو عقيدةٌ تجتذب الفعل، وشعور يتحرّك في الموقف. فالمضمون الإيماني في الإسلام يعني العقيدة والشريعة والمنهج في ما تلتقي عليه من التخطيط لحركة الإنسان في الحياة، وبنائها على أساس رضا الله، ولا بدّ للوصول إلى ذلك من الالتزام الجدّي الفاعل الذي يجسّد التطابق بين القول والفعل، لأنَّ الهدف الإسلامي هو في تغيير الحياة والإنسان، ولأنّ الانحراف عن ذلك يعني إرباك حركة القيادة في مواجهة التحدّيات، ما يؤدّي إلى اهتزاز الوضع الإسلامي كلّه، وإفساح المجال للفئات المضادّة أن تسيطر على المسلمين، من خلال اختلال مواقع القوّة في الميزان الإسلامي، لا سيّما إذا كانت المسألة تتّصل بالجانب العسكري الذي يواجه فيه الواقع الإسلامي هجوم الأعداء وحصارهم للمسلمين، من أجل القضاء على الإسلام أو إخضاع المسلمين للسيطرة الكافرة. وربّما كانت هذه الآيات نداءً جهادياً في ما جاءت به أحاديث أسباب النزول، فقد روي عن ابن عباس قال: كان ناس من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاد يقولون: وَدَدْنا أنّ الله دلّنا على أحبّ الأعمال إليه فنعمل به، فأخبرهم الله أنّ أفضل الأعمال إيمانٌ لا شكّ فيه، والجهاد، فكره ذلك أُناس وشقّ عليهم وتباطأوا عنه، فنزلت الآية(1).

وهذا هو الخطّ الذي ينبغي أن تتحرّك التربية الإسلامية على أساسه من أجل صياغة الإنسان المسلم صياغةً إسلاميةً على أساس أن يكون تجسيداً عملياً للإسلام في مفهومه وشريعته.

                           *****

{كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} وذلك هو غاية الفظاعة في ما يمكن أن يوجّه إلى المؤمن عندما يتطلّع إلى نفسه وإلى موقعه من ربّه، فيرى نفسه ممقوتاً منه أشدّ المقت، ومبغوضاً أشدّ البغض، بينما يفرض عليه إيمانه أن ينال المحبّة من الله، للحصول على رحمته التي هي أساس خلاصه وسعادته في الدنيا والآخرة. وهذا ممّا يوحي إليه بخطورة المسألة التي لم يعهد التعبير عن غيرها بهذا الأسلوب العنيف الذي يضع المسألة في أعلى درجةٍ من الأهمية، لأنّه يمثّل في النطاق الذاتي لوناً من ألوان الخداع والغشّ في إعلان الموقف الإيماني الذي يعني الميثاق مع الله على تحويل ذلك إلى موقفٍ عملي. وأيّة جريمةٍ أعظم من جريمة خداع الإنسان لربّه. أمّا في النطاق الاجتماعي، فإنّه يمنع قيام أيّة ثقةٍ اجتماعيةٍ بين الناس في ما يتحرّكون به على مستوى العلاقات والمعاملات على أساس ما يعلنونه من التزامات الإيمان، عندما تكون الأخلاق العامة في هذا المستوى السلبي من الوفاء بالالتزامات الخاصة والعامة، أو ما يثيرونه من الالتزامات الخاصة فيما بينهم. وأمّا في نطاق الدولة، فإنّه يمنع القيادة من الشعور بالقوّة أمام المشاكل الصعبة والتحدّيات الكبيرة التي تواجهها في مسألة الأمن والنظام، ما يؤدّي إلى اختلال النظام العام للأُمّة بالمستوى الذي يعرِّضها للضعف ويدفعها في نهاية المطاف إلى السقوط والانهيار.

وعلى ضوء ذلك، فإنّ هذه القيمة الأخلاقية ـــ وهي التطابق بين القول والفعل ـــ تمثّل العمق الإيماني الذاتي على مستوى الفرد، والقيمة الاجتماعية على مستوى تماسك المجتمع في علاقاته العامة والخاصة، والأساس القوي لقوّة الدولة في التزام الأُمّة بالقيادة في مسؤولياتها العامة.

وإذا كانت الرواية السابقة قد ذكرت نزول الآيتين في حديث النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) عن الجهاد، فإنّ ذلك يمثّل النموذج الحيّ الذي يعطي الخطّ العريض لكلّ النماذج الأخرى في كلّ أحكام الإسلام وشرائعه.

                           *****

إنّ الله يحبّ الذين يقاتلون في سبيله صفاً:

{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ} إنّه الحبّ الإلهي الذي يفيض على عباده بالرحمة عندما يتحرّكون للقتال في سبيله، لا في سبيل عصبيةٍ ذاتيةٍ أو فئويةٍ، ولا في سبيل طمع شخصيٍ، بل من أجل الأهداف الكبيرة التي جعلها الله للجهاد في الحياة، من أجل إقامة الحقّ وإزهاق الباطل وإعلاء كلمة الله وإسقاط كلمة الشيطان، ليكون الدين كلّه لله، من أجل مصلحة الحياة والإنسان.

وإذا كان القتال في سبيل الله، فلا مجال لأيّة عقدةٍ نفسيةٍ ذاتيةٍ تفسح المجال للاهتزاز في الموقف، أو لأيّة ثغرةٍ من ضعفٍ تفتح الطريق، فلا بدّ أن يتضافر الجميع على نجاح المعركة وسدّ كلّ الثغرات فيها، وتنظيم الوضع القتالي بالطريقة التي يأخذ فيها كلّ شخصٍ موقعه بحيث يتكامل الجميع في أدوارهم ومواقعهم ومواقفهم، فلا يتخلّى أحد عن مكانه في داخل الخطّة، ولا يبتعد عن التعليمات التي تحدّد له حركته في طبيعتها وشروطها، تماماً كما هو البنيان المرصوص الذي تتعاون لبناته على إقامته وتماسكه وقوّته، بحيث تؤدّي كلّ لبنةٍ دورها من خلال موقعها في هندسة البناء، بحيث إذا تخلَّت عن موقعها انهار البناء كلّه.

إنّها الصورة الحيّة للبناء الاجتماعي الذي يريد الإسلام إقامته في مجتمع الحرب، كما يريد إقامته في مجتمع السلم، انطلاقاً من أنّ تحدّيات السلم في تركيز الوضع الإسلامي في الداخل في التخطيط الدقيق الشامل للبناء الاجتماعي والاقتصادي والروحي والثقافي، قد تفوق تحدّيات الحرب، ما يفرض بناء القوّة الذاتية بشكلٍ قوي.

                           *****

17 ـــ أساليب التهرّب من القتال:

{وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ*إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ*قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ*قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ} [التوبة: 49 ـــ 52].

                           *****

 

معاني المفردات:

{تَرَبَّصُونَ}: التربّص: الانتظار بالشيء.

هذه الآيات تتحدّث عن ملامح المنافقين الذين برزوا كظاهرةٍ انهزاميّةٍ منحرفة في أجواء الاستعداد للمعركة، في ما كانت تمثّله من تحدّيات الساحة لكلّ المظاهر الإيمانيّة التي كانت تختفي خلفها أفكار النفاق ومشاعره. ماذا يقولون، وكيف يفكّرون أو يشعرون تجاه الجماعة المسلمة؟

                           *****

{وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي} فهذا الفريق يحاول أن يظهر أمام النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) بمظهر الإنسان الذي يخاف على نفسه من الوقوع في الفتنة التي تهدّد إيمانه، في ما تتمثّل به المعركة من تجربةٍ صعبةٍ يتساقط فيها الضعفاء أمام إغراءات النصر ونتائجه المفرحة، أو أمام مشاكل الحرب وويلاتها المحزنة. فهو لا يريد الذهاب إلى الحرب لئلا يسقط عندها في إيمانه، فيخيّل إليك ـــ وأنت تسمعه ـــ أنّه من المؤمنين الذين يخافون على إيمانهم من السقوط أمام حالات الضعف البشريّ من الرغبة والرهبة، ولذلك، فإنّهم يخشون من التجربة الصعبة التي تهدّدهم بالانحراف، فيطلبون من الرسول أن لا يعرّضهم لها، في ما يفرضه عليهم من فروض، أو يحمِّلهم من مسؤوليات، ولكنّ الله يكشف زيف هذا المنطق، فإذا كانوا يخشون من نتائج الفتنة، فلأنّها تبعد الإنسان عن الله وتمنعه من الحصول على رضاه، فكيف بهم الآن، وهم يخضعون للنوازع النفسية التي تدفعهم إلى الابتعاد عن رضاه، في العمل على التمرّد على أمره ونهيه، وفي محاولة التخلُّص من المسؤوليّة في المحافظة على سلامة الإسلام والمسلمين، الأمر الذي يجعلهم في مواقع الفتنة بالذّات، من حيث يريدون تفاديها في ما يزعمون، {أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ} بسبب ما يمارسونه من الانحراف عن خطّ الإيمان في مواقع الجهاد، وسيتحمّلون نتائج ذلك في الآخرة {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} فهي تحاصرهم من كلّ جانب، فلا يهربون منها من جهةٍ، إلاّ ليقعوا فيها من جهةٍ أخرى، وذلك من خلال إحاطة الكفر بجميع دوافعهم وأعمالهم ونتائجها في الوقوف ضدّ إرادة الله في الحياة من حولهم.

                           *****

نوايا المنافقين تجاه النبيّ:

{إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ} لأنّهم لا يعيشون انفتاح الإيمان بالمحبّة تجاه الرسول والمسلمين، بل يعيشون العقدة المستحكمة التي تنفث الحقد في الداخل، في ما يواجههم من الأزمة الذاتية التي يتحرّكون فيها بين واقع الكفر في الباطن، ومظهر الإيمان في الظاهر، فيعبرون عن ذلك بالمشاعر القلقة التي تظهر المحبّة وتبطن العداوة، فهم يتعقّدون من كلّ النجاحات التي يحصل عليها المسلمون في حربهم وسلمهم، وفي حركة الإسلام المتقدّمة في الحياة، فيستاؤون من ذلك {وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ} يفرحوا بها {يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ} وسيطرنا عليه وعلى نتائجه، فلم نسمح له بأن يفسد ويضيع وينهار، وهو واردٌ على سبيل الكناية التي توحي بالإمساك بالواقع المرتقب الذي يوحي بالقلق والحيرة، فكأنّهم أخذوا جانب الحذر وحفظوا خطّ الرجعة، فتجنَّبوا نتائج المصيبة {وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ} على ما استطاعوا أن يحفظوا أنفسهم منه ممّا أصاب النبيّ والمسلمين من جراحةٍ أو خسارةٍ أو قتل أو فشل. هذا من جهة، ومن جهةٍ أخرى، فإنّهم يفرحون من باب الشماتة بالإسلام والمسلمين.

                           *****

التسليم لله بقضائه وقدره:

{ قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا} فقد قدّر الله للحياة أوضاعها، من خلال ما أودعه من أسباب ذلك كلّه، وجعل النتائج السلبية والإيجابيّة محكومةً لذلك. ولذلك فإنّ المسألة لا تخضع لتمنّيات الأصدقاء أو لشماتة الأعداء، فلا يملك أحدٌ من أمر ذلك شيئاً، لأنّهم لا يملكون لأنفسهم وللآخرين ضرّاً ولا نفعاً إلاّ بالله. أمّا المؤمنون به، الواثقون برحمته وقدرته وحكمته، فإنّهم يواجهون الحياة من موقع الطمأنينة الواثقة بالله وبسننه الكونيّة التي أجرى عليها حركة الكون في تقديره وتدبيره، ولهذا فإنّهم ينطلقون من قاعدة الثقة الواعية، في دراسة دورهم الفاعل في ما يفعلون ويتركون، فإذا قاموا بما يجب عليهم من مسؤوليات من خلال قدرتهم، واجهوا المستقبل بثقةٍ، وتحمَّلوا كلّ نتائجه بصبر، وانطلقوا مع حركته بوعي وإيمان لثقتهم بتدبير الله في ما لا يملكون أمره ولا يبلغون مداه، فيتقبّلون كلّ شيءٍ لله وبالله ومع الله، في كلّ شيء، {هُوَ مَوْلاَنَا} الذي يملك ولاية أمورنا، فعلينا أن نطيعه في ما يأمر به وينهى عنه، ونستسلم لتدبيره في ما يهيمن عليه من شؤون الحياة بما تفرضه حكمته ورحمته، {وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} ليسلِّموا له كلّ شيء في حركة المستقبل المجهول الذي قد يوحي إليهم بالخوف في ما يجهلون من أسراره، ولكنّ الإيمان يحمل إليهم الطمأنينة من خلال ما يوحيه الإيمان بالله والثقة به.

وذلك هو سرّ العقيدة الإسلامية بالقضاء والقدر في استسلام المؤمن لقضاء الله وقدره من موقع الوعي للعقيدة بالله، فليس هو استسلام الإنسان المهزوم بإرادته، الخائف من مسؤوليّته، بل هو استسلام الثقة بالله في ما يجهله، بعد انطلاقه من مواقع الإرادة المسؤولة التي تحرّك الحياة من حوله في ما يمكنه أن يعمل، ليترك الأشياء الأخرى التي لا يستطيع عملها لله، على أساس الثقة المطلقة بحكمته في كلّ شيء، وبذلك فإنَّ العقيدة تثبّت له أقدامه على الأرض التي يحاول القلق الذاتيّ والخوف الوجداني من المجهول، أن يهزّها من تحت أقدامه، وتوحي له بالثبات والاستقرار والاطمئنان.

                           *****

 

 

التربّص بإحدى الحسنيين:

{قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} النصر أو الشهادة، فماذا تنتظرون منّا عندما نخوض الحرب، فليست هناك سيّئةٌ تفرحون بها، أو حسنةٌ تتألّمون منها، لتواجهوا الموقف من موقع النتائج السلبيّة أو الإيجابية من خلال مشاعركم الذاتيّة، بل القضية بالنسبة إلينا، تمثِّل الخير كلّه والحسنة كلّها، لأنّ النصر إذا حصل، كان التجسيد الحيّ للنتائج الإيجابية على مستوى الحياة الدنيا، أمَّا إذا كانت النتيجة هي الشهادة، فإنّها تمثّل الفرح الروحي الذي يؤدّي بنا إلى الحصول على لطف الله وثوابه في الآخرة، فليست هناك مشكلةٌ بالنسبة إلينا، بل هي الحسنة على كلّ حال. تلك هي القضية بالنسبة إلينا، فلا موقع للشماتة في ما تواجهون به نتائج الفشل عندنا، لأنّنا نتطلَّع إلى القضية من جانبها المشرق، إذا كنتم تتطلَّعون إليها من جانبها المظلم. أمّا أنتم، فماذا تنتظرون، وماذا ننتظر بكم؟ إنّكم اليائسون من روح الله، المتمرّدون على أوامره ونواهيه، المتحرّكون في الحياة على أساس الأسباب الماديّة المحدودة التي لا تحمل أيّ أُفقٍ ممدود خارج نطاق المألوف في آفاقها. إنّكم اللاعبون بالحياة وبالمسؤولية وبالإيمان، فماذا ننتظر بكم جزاءً لأعمالكم وأوضاعكم؟ {وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ} وننتظر بكم {أَن يُصِيبَكُمُ اللّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ} في الآخرة عقاباً على معاصيكم في الدنيا {أَوْ بِأَيْدِينَا} في ما نواجهكم به من عقوبات تستحقّونها، بعد افتضاح أمركم وانطلاقة المواجهة الحاسمة بيننا وبينكم، {فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ} لنعلم ـــ من خلال ذلك الانتظار المتبادل ـــ لمن الحقّ ولمن الأمر، ولمن العاقبة الطيّبة والنتيجة الجيّدة.

                           *****

 

 

18 ـــ الجهاد بين الواقع والأمنيات:

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً*أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَـذِهِ مِنْ عِندِ اللّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَـذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ فَمَا لِهَـؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً*مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيداً} [النساء: 77 ـــ 79].

                           *****

معاني المفردات:

{كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ}: كناية عن الإمساك عن القتال، أي أمسكوا عن القتال والحرب، لأنّ المرحلة لم تستوجب ذلك بعد.

{فَتِيلاً}: كناية عن القلّة والحقارة، والفتيل هو ما تفتله بيدك من الوسخ ثمّ تلقيه. وقيل: ما في شقّ النواة لأنّه كالخيط المفتول.

{بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ}: الحصون المحكمة المرتفعة، والتشييد الرفيع.

{يَفْقَهُونَ}: يدركون ويعون ويفهمون حقيقة الأشياء وأبعادها وحكمتها.

                           *****

 

يتحدّث القرآن عن بعض الأوضاع القلقة التي كان يعيش فيها المجتمع المؤمن في مواجهته لتحدّيات الكفر، وذلك كأسلوب قرآني تربوي يعلّمنا أن لا نؤكّد دائماً على الجوانب الإيجابية في مجتمعنا، فنتحدّث عن نقاط القوّة فيه والجوانب المشرقة في داخله، بل لا بدّ لنا من التأكيد أيضاً على الجوانب السلبية، فنتحدّث عن نقاط الضعف والجوانب المظلمة في داخله، لأنّ ذلك هو السبيل الوحيد لوضوح الرؤية وسلامة المسيرة، عندما يتطلَّع العاملون إلى المجتمع، كما هو في طبيعته الواقعية، فيعرفون كيف يتصرّفون بطريقةٍ عمليّة، من خلال نقاط الضعف والقوّة معاً، ليخطّطوا للعمل على هذا الأساس. أمّا إذا انطلقنا في إثارة الموضوع أمام أنفسنا وإخواننا من جانب واحد ـــ إيجابياً كان أو سلبياً ـــ وألغينا الجانب الآخر، فسيترك ذلك تأثيراً على سلامة الخطّ ويعرّض المسيرة للارتباك أو الانهيار.

وهذا ما أكّد عليه القرآن في أكثر من آية؛ ومن ذلك ما حدّثنا الله به عن هؤلاء المؤمنين الطيّبين الذين التقوا بالدعوة الإسلامية في بدايتها، فآمنوا بها من خلال الإيمان بالله، وشعروا بالقوّة الروحية التي تمنحهم شجاعة الموقف وقوّة التحدّي والمواجهة، ففكّروا باندفاع وانفعال، تماماً كما يفكّر الإنسان في خوضٍ المعركة الشخصية دون أن يحسب حساباً للساحة، لأنّ هناك حالةً نفسية معقّدة متوتّرة تدفعه إلى المواجهة الحادّة، وتوحي له بأنّ التراجع يمثّل الذلّ والانهزامية وغير ذلك من المشاعر الخاصّة، ولا تترك له مجالاً ليدرس الموقف من خلال النتائج المحتملة، بما يتطلّبه ذلك من استعداد عمليّ، ومن دراسة العناصر المقابلة المعادية وطريقة عملها، ليحدّد ما هو المصلحة لما يؤمن به من قِيَم ذاتيةٍ أو عامّةٍ، فقد يقع الإنسان في قبضة الذلّ من خلال حركة انفعاليةٍ اندفاعية، أكثر ممّا يعانيه من ذلك فيما لو سيطر على مشاعره، وتحمّل بعض انفعالات الموقف، وخطّط لربح المعركة في نهاية المطاف.

بمثل هذه الحالة الانفعالية وقف هؤلاء المؤمنون الطيّبون الذين كانوا يعانون من اضطهاد المشركين، حتى أنّهم قالوا لرسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): ـــ كما ذكرت بعض الروايات ـــ يا نبيّ الله، كنّا في عزّ ونحن مشركون، فلمّا آمنّا صرنا أذلّة(1). فواجهوا الموقف بانفعال، تماماً كأيّة حالة ذاتية سريعة، ولم يفكّروا أنّ الموقف هو موقف الدعوة والحاجة إلى تخطيط العمل على أساس المراحل، فقد تكون بحاجة إلى أن يعيش أفرادها روح الاستشهاد والتضحية والثبات، ليعمِّقوا تأثير الدعوة في نفوس المجتمع الذي يضطهدهم بشكلٍ غير مباشر، وليأخذوا لأنفسهم الوقت الملائم لإيصال الدعوة إلى كلّ قلب في الجزيرة العربية من خلال الموقع المميّز لمكّة، وذلك بالابتعاد عن الصدمات اليومية التي قد تضيَّق عليهم الخناق وتمنعهم من حرية الحركة، فربّما كان من مصلحة الدعوة أن لا ينتبه المشركون، إلى القوّة الذاتية التي تملكها، من خلال ما يملكه أفرادها المؤمنون من القوّة، وربّما كانت القوّة التي يملكونها لا تستطيع مواجهة القوّة التي يملكها المشركون، ممّا قد يدفع بالموقف إلى هزيمة لا تتحمّلها الدعوة الجديدة.

ولهذا لم يؤمر النبيّ بالقتال طيلة عهد ما قبل الهجرة، وذلك من أجل تحضير الأجواء لانتشار الدعوة من جهة على أيدي مؤيّديها ومعارضيها، ومن أجل إعداد المجتمع الجديد الذي ينطلق من قاعدة ثابتةٍ صلبة خارج نطاق مكّة، كما حدث في المدينة، فكانت هجرة المسلمين إلى الحبشة؛ وكانت مواقف الصمود والاستشهاد من قِبَل الذين لم يهاجروا، حتى أذن الله بالقتال. ووقف هؤلاء المؤمنون الذين قال لهم الله من خلال النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): {كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ}، فذلك ما ينبغي لكم القيام به، على أساس ما تقتضيه المصلحة الإسلامية في هذه المرحلة لأنّ إقامة الصلاة تمثّل انفتاح الإنسان على الله للحصول على القرب منه، من حيث هي معراج روح المؤمن إلى الله، فذلك هو الذي ينمّي في داخله القِيَم الروحية والمعاني الإنسانية، كما أنّ الزكاة بمعناها الواسع، وهو العطاء، تمثّل انفتاح الإنسان على الإنسان الآخر المحروم في حاجاته الخاصة والعامة لمساعدته على تجاوز حالة الحرمان التي يعانيها؛ الأمر الذي ينمّي إنسانيّته في علاقته بالآخر من خلال علاقته بالله، فذلك هو الذي يقدّم الإنسان المسلم إلى العالم من موقعه الروحي والإنساني، ممّا يترك تأثيره الإيجابي على استجابة الناس للإسلام باعتباره الدين الذين يبلور للإنسان إنسانيّته ويحوّله من إنسان مستغرقٍ في ذاته إلى إنسانٍ منفتحٍ على الآخرين والعالم كلّه من موقع المسؤولية العامة عن الإنسان والحياة، على أساس أنّ الخلق كلّهم عيال الله وأحبّهم إلى الله أنفعهم لعياله.  Farah

وقد نستوحي من هذا الخطّ الفاصل بين تكليف المسلمين في مكّة وتكليفهم في المدينة أنّ مكّة كانت ساحة الإعداد والتعبئة الروحية والثقافية والاستقامة في العمل من أجل صنع الطليعة الواعية القائدة لحركة الصراع تحت قيادة النبيّ محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، أمّا المدينة، فهي ساحة الصراع التي تتحدّى وتواجه التحدّي من خلال قوّة المسلمين الجديدة التي تريد أن تكون رقماً صعباً في موازين القوّة، وهذا ما يفسّر الخطوط العملية الفارقة بين الموقعين.

ولم يرتح المسلمون إلى ذلك. ومرَّت الأيام، وجاءت التجربة الإسلامية الجديدة في المرحلة الثانية الصعبة، وهي مرحلة المواجهة للكفر بأسلوب التحدّي والقوّة. وفرض الله القتال على المسلمين. وكان هؤلاء ممّن كتب عليهم القتال، ووجّهت إليهم الدعوة، فماذا كان موقفهم؟ {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ} إنّ القرآن يحدّثنا عن لحظات الضعف التي عاشواها إزاء هذه الدعوة، فقد واجهتهم حقيقة الخصائص الذاتية الكامنة في نفوسهم، فهم لا يعيشون القوّة الروحية في المستوى الذي يجعلهم أقوياء في مواجهة التحدّي، فلم تكن مواقفهم الأولى منطلقة من قاعدة صلبة في داخل ذواتهم، بل كانت منطلقة من حالة انفعالية طارئة بعيدة عن دراسة الموقف وحسابات الساحة. وهكذا بدأوا يواجهون حقيقة أنفسهم، فها هم ينهارون أمام حالة الرعب من قوّة الأعداء فلا يستطيعون التماسك أمامها. وهذا ما صوّره القرآن لنا بهذه الصورة المعبّرة: {إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} فهم يخافون من الناس، كما يخافون من الله، أو أكثر من ذلك، ولهذا واجهوا الموقف بعدم الاستجابة للدعوة إلى القتال، خوفاً من عذاب الناس، في ما يمكن أن تسفر عنه المعركة من جراحة أو قتل.

وقد دفعهم هذا الخوف إلى موقف ضعف مدمّر، عبّروا به عن ضعف إيمانهم، في ابتهالهم إلى الله، في لهجة توحي بالعتاب أكثر ممّا توحي بالخشوع: {وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} إنّ القتال يدفعنا إلى أن نفقد حياتنا في المعركة، ولكنّنا نحبّ الحياة ونريدها أن تستمرّ إلى الأجل المحتوم الطبيعي الذي جعله لكلّ إنسان يعيش ويموت حتف أنفه، ولكنّ الله يريد أن يوقظ في أعماقهم روح الإيمان ومعناه وامتداده، ويفلسف لهم قصّة الموت والحياة في نفس المؤمن ووعيه. {قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} إنّ الإيمان يمثّل انفتاح الإنسان على الله بكلّ كيانه، فيحبّ ما أحبّه الله، ويكره ما كرهه الله، ويختار ما أراده الله، ويجعل الحياة كلّها رحلة في طريق الله، وعلى هذا فإنَّ المؤمن يختار الموت في سبيل الله إذا اختار الله له ذلك، ويحبّ الحياة من أجل الله إذا اختار الله له ذلك.                           *****

تربية المسلم على التعاطي مع واقعة الموت:ثمّ ما معنى الارتباط بالدنيا؟ هل هو لتحصيل المتع والشهوات الحسيّة؟ فما عند الله خير، وذلك لما أعدّه للمتّقين جزاءً على أعمالهم الصالحة التي يثيبهم الله عليها من دون أن ينقص منها شيئاً، فإذا وازن المؤمنون بين المتاع القليل في الدنيا، وبين ألطاف الله في الآخرة، فسيجدون أنّ متاع الدنيا لا يمثّل شيئاً.

وينطلق القرآن بأسلوبٍ آخر يناقش فيه هذا الخوف من الموت الذي يدفعهم إلى الامتناع عن القتال، فإنّ ذلك لا ينجّيهم من الموت، {أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ} فقد يموت الإنسان وهو في برج مشيّد، وقد ينجو منه وهو في قلب المعركة، لأنّ الإنسان مرهون بأجله الذي لا يتقدّم ولا يتأخّر ولو مقدار لحظة. ثمّ يتحدّث عن بعض ملامح النظرة التي ينظر فيها البعض من هؤلاء أو من غيرهم إلى الرسول؛ {وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَـذِهِ مِنْ عِندِ اللّهِ} إذا واجهوا الحسنة في ما يحصلون عليه من راحة ورزق وأمن ومتع ورغبات، فإنّهم ينسبون ذلك إلى الله، أمّا إذا واجهتهم السيّئة، {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} في ما يلاقون من مرض أو بلاء أو فتنة أو مشكلة صغيرة أو كبيرة {يَقُولُواْ هَـذِهِ مِنْ عِندِكَ}، فإنّهم ينسبونها إلى الرسول من باب التطيّر والتشاؤم؛ كما حدّثنا الله عن بعض هذه النماذج في قوله تعالى: {قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ*قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِن ذُكِّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} [يس: 18 ـــ 19] ولكنّ الله يردّ عليهم هذه النظرة {قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ} إنّ كلّ الأحداث التي تطرأ على حياة الإنسان، ترجع إلى الأسباب الطبيعية التي أودعها الله في الكون، سواء منها الأسباب الكونية، أو الأسباب العادية في حياة الإنسان النفسية والاجتماعية والجسدية، وبذلك يرجع الأمر كلّه إلى الله وذلك ما يسمّى بالسيّئة أو الحسنة، من دون أن يلغي ذلك إرادة الإنسان واختياره، لأنّ ذلك من قبيل الأسباب العادية، ولذلك فإنّ من الممكن أن ينسب العمل إليه بالذّات بواسطة مباشرته له، ولكنّ هؤلاء القوم {لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً}، لأنّهم لا يعرفون طبيعة الأشياء من خلال ما أودعه الله فيها من سننه الكونية والاجتماعية.

وإذا كانت هذه الآية ترجع الأمور كلّها إلى الله، باعتبار أنّه مصدر كلّ شيء، فإنّ الآية الأخيرة تنسب الحسنة إلى الله، والسيّئة إلى الإنسان وذلك قوله تعالى: {مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ}، ولعلّ القضية ترجع إلى اختلاف الحيثيّة؛ فقد كانت الآية الأولى واردة في مورد الردّ على الذين يتطيّرون بالرسول، فينسبون التأثيرات السيّئة إليه، فكان المناسب أن تعالج الفكرة على أساس أنّ العباد لا يملكون التأثير في مجريات الأمور، لأنّ الله هو مصدر كلّ شيء، فلا يملك أحد تبديل أيِّ شيء وتغييره إلاّ بإذنه؛ أمّا الآية الثانية، فقد وردت في مورد الحديث عن تأثير أفعال العباد في حدوث كثير من المشاكل والأزمات والآلام، باعتبار علاقة المقدّمات بالنتائج، وذلك لما أودعه الله من قانون السببيّة في الكون؛ وبذلك أمكن نسبة السيّئة إلى الإنسان، وهي التعبير عن مظاهر المشاكل والآلام في حياة الإنسان. أمّا الحسنة، فإنّها إذا كانت تصدر من الإنسان بشكلٍ مباشر، فإنّ نسبتها إلى الله أكثر، باعتبار ما أعدّه الله من مقدّمات، وما وجّه إليه من أعمال، حتى أنّ إرادة الإنسان الخيرّة قد تحرّكت بفعل التوجيه الإلهي، بينما الأمر في السيّئة على العكس، لأنّ التوجيه كان متعلّقاً برفض السير في هذا الاتجاه. وقد تحدّث القرآن في أكثر من آية عن هذا الموضوع، كما في قوله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41]، فلم يبقَ هناك أي تناف بين مفاد الآيتين، من خلال اختلاف طبيعة الجهة التي تدعو إلى اختلاف النسبة؛ والله العالم.

{وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيداً} ربّما كانت هذه الفقرة تأكيداً للفكرة التي ترفض علاقة الرسول بالأحداث التي تحدث للناس من بلايا وآلام، لأنّ مهمّته تحدّد بإبلاغ الرسالة للناس، من دون أن تترك في حياة الناس أيّ شيء في أمورهم الحياتية من ناحية تكوينية؛ والله العالم.

                           *****

19 ـــ الأعذار المشروعة للتخلّف عن القتال:

{وَجَاء الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ*لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ*وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ*إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاء رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [التوبة: 90 ـــ 93].

                           *****

معاني المفردات:

{الْمُعَذِّرُونَ}: المقصّرون الذين يعتذرون وليس لهم عذر.

{الأَعْرَابِ}: الذين يسكنون البادية.

{نَصَحُواْ}: النصح: إخلاص العمل من الغشّ.

{لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ}: كناية عن إعطاء المركوب من فرس أو بعير أو غير ذلك.

{حَزَناً}: ألماً في القلب.

                           *****

{وَجَاء الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ} وهؤلاء الذين كانوا يسكنون البادية، ممّن كانوا يملكون العذر المقبول الذي يبرّر لهم تخلّفهم، ولكنّهم لا يستسلمون لذلك، ولا يستقلّون بأخذ العذر لأنفسهم من دون الرجوع إلى القيادة النبويّة، بل يرجعون إلى النبيّ، ليعرضوا عليه ظروفهم وأوضاعهم التي تمثّل عذرهم في التخلّف ليأذن لهم على أساس ذلك. {وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ} من الأعراب، فلم يشعروا بالحاجة إلى تقديم العذر وأخذ الإذن، لأنّهم لا يؤمنون بالله ورسوله في عمق تفكيرهم وشعورهم، وإن أظهروا ذلك في الشكل، {سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ} لعلّ الضمير يعود إلى الأعراف، الذين جاء ذكرهم في نطاق الحديث عن المعذرين. وبذلك نفهم من الآية أنّ الله قد أعطى العذر للفئة الأولى ولم يعذر الفئة الثانية في موقفها، لأنّها تمثّل الموقف المعاند الجاحد المتمرّد، فأنذرهم بأنّهم سيصيبهم منه {عَذَابٌ أَلِيمٌ}.

                           *****

وفي هذا الجوّ، يثير القرآن بعضاً من النماذج التي تملك العذر المشروع للتخلّف عن القتال، لأنّها لا تملك الطاقة الذاتية التي تساعدها على ذلك، ولا تجد الوسائل العملية التي توصلها إليه، ولكنّها تملك الإيمان العميق الذي يدفعها إلى النصح لله ولرسوله، ممّن أحسنوا العزم والشعور والعمل.

{لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء} الذين يعيشون الضعف الجسدي كحالةٍ طبيعيّةٍ لازمةٍ {وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى} الذين يعيشون الضعف الطارئ عن حالة المرض فيمنعهم من المشاركة في القتال، {وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ} حيث كانت الحرب آنذاك ممّا يتحمّل مسؤوليتها المقاتلون أنفسهم لا السلطة الموجودة في الساحة. فقد لا يكون للمقاتل مالٌ ينفقه على نفسه وعلى الحرب، فليس عليه في هذه الحال، ولا على غيره ممّن لا يملكون الطاقة {حَرَجٌ} ولا عقدةٌ، لأنّ الله قد منحهم الرخصة في عدم خوض المعركة {إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ} فعاشوا في أعماقهم ومشاعرهم الإخلاص والجديّة والاهتمام بكلّ ما يتّصل بمسيرة المعركة في الداخل والخارج، وقدَّموا النصح، في ما يملكون تقديمه من رأي وخطةٍ وتعاونٍ في غير مجالات القتال، لأنَّ ذلك هو مظهر النصح الذي لا يدّخر جهداً في سبيل الوصول إلى النتائج الكبيرة في المعركة {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ} لأنّهم أحسنوا في ما يستطيعون تقديمه، وفي ما يملكون تحريك مشاعرهم نحوه، إذا لم يملكوا تحريك أيديهم وأرجلهم إليه.

وهذه قاعدةٌ عامّةٌ في جميع المجالات العامة لحركة الإنسان في أجواء المسؤولية، إذا كان عمله متحرّكاً في طريق الإحسان إلى الأفراد والمجتمعات، ولذا اعتبرها الفقهاء أساساً تشريعيّاً في كثير من الموارد التي قد تتحقّق فيها الخسارة من تصرّفٍ شخصيٍ تجاه آخر، فلا يُحكم بضمانه إذا كان محسناً له في هذا العمل، وإن كان فيه إساءةٌ له من حيث النتائج {وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.

{وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ} لأنّهم لا يجدون الدابّة التي تحملهم إلى أرض المعركة، في ما كانوا يحتاجون فيه إلى الراحلة لبعد المسافة التي لا يستطيع الإنسان أن يقطعها سيراً على الأقدام، فجاؤوا إلى النبيّ ليدبّر لهم أمر ذلك، ولكنّه لم يستطع تحقيق طلبهم {قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} لأنّ الظروف المادية لا تسمح بذلك، {تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ} لأنّهم يعيشون مسؤولية الإيمان بعمق، فيحاولون بكلّ جهدهم أن يزيلوا الحواجز التي تمنعهم من التقدّم، ويرفعوا الموانع التي تؤخّرهم عن المشاركة، ولهذا فإنّهم يتألّمون ويحزنون إذا لم يصلوا إلى تحقيق ذلك. إنّها روحيّة الإنسان الذي يعيش الإيمان كمسؤوليّة، ويحبّ ممارسة مسؤوليّته بلهفةٍ وشوقٍ، فلا يرتاح لأيّ شيء يعطّل مسيرته في هذا الاتجاه. إنّه يحاول ويحاول تذليل الصعوبات، فإذا لم يوفّق في ذلك، عاش القضية شعوراً في العمق، يوحي لقلبه بالحزن، ولعينيه بالدموع، وهذا ما يقدّره الله لهم حقّ التقدير، ولهذا فإنّه يعفيهم من أيّ شعور بالإحباط والتعقيد أمام أجواء الساحة، فلم يجعل لأحد سبيلاً عليهم من أيّة جهةٍ في موقع القيادة وفي موقع القاعدة.

                           *****

 

 

الاعتذار غير المشروع:

{إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاء} يملكون المال الذي يستطيعون معه أن يحقِّقوا لأنفسهم كلّ وسائل المعركة، ويزيلوا كلّ الحواجز التي تفصلهم عن الوصول إلى الهدف، في ما يحتاج الأمر فيه إلى مالٍ {رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ} العاجزين المتقاعدين أو المخالفين، لأنّهم لا يملكون الطموحات الروحية والإيمانية التي يحصلون من خلالها على الدرجة العالية عند الله في الإيمان والجهاد، لتحرّكهم خطوةً نحو بذل الجهد في اتجاه ذلك. {وَطَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} فأغلقها عن كلّ وعيٍ وانفتاح وعمق، من خلال سننه التي أودعها في حركة الإنسان في الكون، التي تربط بين النتائج ومقدّماتها، فإذا أغلق الإنسان على نفسه نافذة الضوء التي تتدفّق بالشعاع، ومنع فكره من أن يتحرّك في اتجاه المعرفة، وأبعد روحه عن الاعتراف من ينابيع الإيمان، وسدّ أذنيه عن سماع كلّ ما يوجّهه إلى الهدى ويبعده عن الردى، وأغمض عينيه عن رؤية كلّ ما يذكّره بالله والخير والحياة، فإذا عاش ذلك كلّه في النطاق الضيّق الذي يحبس نفسه فيه، كان ذلك سبباً في أن يختم الله على قلبه، لأنّ القلب لا يملك عند ذلك أيّ مجال للانفتاح. {فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} شيئاً من حركة المسؤولية وفاعليّتها وأريحيّتها، فانغلقوا عن كلّ شيء من حولهم، فلم يعرفوا الساحة في نتائجها المستقبليّة، ولم يفهموا قصّة المصير في ما يعلمون وفي ما لا يعلمون.

                           *****

20 ـــ في أجواء معركة أُحُد:

{وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ*إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 121 ـــ 122].

                           *****

 

معاني المفردات:

{غَدَوْتَ}: خرجت من أوّل النهار. وقوبل الغدوّ بالآصال كما في قوله تعالى: {وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} [الأعراف : 205] وقوبل الغداة بالعشي: {وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} [الأنعام : 52].

{تُبَوِّئُ}: تعدّ وتهيّئ، والتبوئة: اتّخاذ الموضع للغير. وفي قولهم: حيَّاك الله وبيّاك، أنَّ أصله ــ كما يقول الراغب ـــ بوّاك منزلاً، فغيّر لازدواج الكلمة(1). وفي المجمع: يُقال بوّأت القوم منازلهم وبوّأت لهم أيضاً، أي: أوطنتهم وأسكنتهم إيّاها... ومنه: المباءة المراح لأنّه رجوع إلى المستقرّ المتّخذ، ومنه: بوّأت بالذنب، أي: رجعت به محتملاً له(1).

{تَفْشَلاَ}: تضعفا وتجبنا، قال الراغب: الفشل ضعف مع جُبن(2).

                        *****

النبيّ يخطّط لمعركة أُحد:

كانت واقعة أُحُد من أهمّ الوقائع الإسلامية الحربية التي عاش المسلمون فيها حالة النصر كأفضل ما يكون، ثمَّ حوّلوها إلى هزيمة منكرة بفعل الممارسات الخاطئة التي انحرف فيها الكثيرون من المقاتلين عن الهدف الذي يفرض عليهم الانضباط في ما تقتضيه خطّة الحرب من مواقع ومواقف.

وفي هذه المعركة انطلقت قريش إلى حرب النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) بعد هزيمتها الساحقة في بدر من أجل الثأر لكرامتها وقتلاها، والقضاء على قوّة الإسلام المتنامية المتصاعدة في بداياتها. عندما عرف النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) بالخبر استعدّ لقتالهم وخرج في ألف مقاتل، ولكن عبد الله بن أُبَي ـــ رأس المنافقين في المدينة ـــ استطاع أن يدفع ثلاثمائة منهم إلى التراجع.. وحاول ذلك مع حيّين من الأنصار، وهما بنو سلمة من الخزرج وبنو حارثة من الأوس، فلم يفلح بعد أن كاد يصل إلى خطّته..

ورسم النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) الخطّة للمعركة، وكان من ضروراتها سدّ بعض الثغرات التي تطلّ على أرض المعركة ممّا يعتبر نقطة ضعف في دفاعات المسلمين، فجعل على تلك الثغرة الواقعة في جبل خلف جيش المسلمين خمسين من الرماة، بقيادة عبد الله ابن جبير، وأمرهم بالثبات في كلّ الحالات، سواء كانت الغلبة للمسلمين أو للكافرين.. ودارت المعركة التي تروي تفاصيلها كتب السيرة، وهُزِمَ المشركون وتغلّب المسلمون عليهم واندفعوا في جمع الغنائم.. واعتبر الرّماة الواقفون على الجبل أنَّ المعركة انتهت، وخافوا أن تفوتهم فرصة الحصول على نصيبهم من الغنائم، وبدأوا يخلون أماكنهم؛ وناشدهم قائدهم أن يلتزموا بأوامر النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، فلم يسمع له إلاّ عشرة رجال منهم..

وحانت من خالد بن الوليد التفاتة ـــ وكان من المنهزمين مع المشركين ـــ فرأى خلوّ الثغرة، فقصدهم بكتيبةٍ من المشركين فقتل العشرة بأجمعهم، وانضمّت فلول المشركين إلى خالد، فانطلقوا في عملية التفافٍ مباغتة، فدارت الدائرة على المسلمين حتّى تعرّضت حياة الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) للخطر، إذ أصابته حجارة من المشركين، فكُسرت رباعيّته، وشُجّ في وجهه، وجُرِحت جبهته، ودخلت حلقتان من حلق المغفر في وجهه.. وفرَّ المسلمون عنه، ولم يبقَ معه إلاّ نفر قليل كان في طليعتهم عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، وأبو دجانة، وسهل ابن حنيف، فدافعوا عنه دفاع المستميت.. وقتل حمزة في المعركة بحربة وحشي، وذلك بإغراء هند له، واستخرجت كبده فلاكتها.. وكان عدد القتلى من المشركين اثنين وعشرين قتيلاً، وعدد شهداء المسلمين سبعين..

                           *****

 

 

القرآن يركّز على نقاط الضعف:

وقد عالجت هذه السورة تجربة المعركة، وتحدّثت عن نقاط الضعف والقوّة فيها، وأثارت في وعي المسلمين الكثير من المفاهيم الإسلامية المتعلّقة بحركة المعركة وموقع القيادة في خطّ السير ومدى تأثير وجودها وغيابها، في موضوع الالتزام بالمسيرة والاستمرار على المبدأ، وتابعت المسلمين في المعركة وهم يتأمّلون ويخافون ويندفعون ويواجهون الأعداء وينهزمون أمامهم.. ولاحظت كيف تتحكَّم بهم جوانب الضعف البشري، ووقفت معهم لتدفعهم إلى مواجهتها بشجاعة المؤمن الذي يعترف بها بصراحةٍ في محاولةٍ لتحويلها إلى نقاط قوّة بالجهد والإيمان والمعاناة.. وأعطتنا درساً عمليّاً في التأكيد على الجانب السلبي في الشخصية التاريخيّة بالقوّة نفسها التي تؤكّد على الجانب الإيجابي فيها، على أساس الواقعية الإنسانية في الإنسان، وعدم إغفال الضعف في التجربة الحيّة بحجّة أنَّ ذلك يسيء إلى قداسة التاريخ وعظمة أبطاله، ما يترك انطباعاً سلبياً عند الأجيال المقبلة بفقدان النماذج الكثيرة التي تصلح للقدرة البشرية، فلا يبقى لنا إلاّ الأنبياء والأولياء الذين يتميَّزون بميزة العصمة في ملكاتهم وطاقاتهم الروحيّة، الأمر الذي يوحي للأجيال بأنَّ تكليف الأنبياء يختلف عن تكليفهم، فإذا تميَّزوا بخُلُقٍ أو عمل، فليس معنى ذلك أنَّ علينا أن نلتزم بهذا الخلق أو ذلك العمل، لأنَّنا لا نملك ما يملكون من طاقات.. فلا بدَّ لنا من تاريخ أبيض ناصع يؤرّخ للبطولات البشرية العادية التي تنطلق فيها الإيجابيات بدون سلبيات، لتتصاعد لدينا الثقة بالإمكانيات التي تُكمن في داخل الإنسان العادي للارتفاع إلى المستوى الأعلى..

ولكنَّنا نعتقد أنَّ هذه الحُجّة لا ترتكز على أساس إسلامي واقعي، وذلك من خلال ملاحظتين:

الأولى: إنَّ الفكرة القائلة بأنَّ سيرة الأنبياء والأولياء لا تعتبر أساساً للدعوة إلى القدوة لأنّهم فوق مستوانا غير صحيحة، لأنَّ الأنبياء في ممارساتهم الروحيّة والعمليّة لا يتحرّكون من مستوى فوق مستوى البشر، بل يعيشون في الحياة بالطاقات البشرية العادية التي تتكامل وتتصاعد بالوعي والمعاناة، وهذا ما أكّده القرآن في أكثر من آية، في حديثه عن بشرية الأنبياء وخطأ العقيدة التي تفرض لهم شيئاً فوق هذا في تكوينهم الذاتي، وفي هذا الاتجاه كانت الدعوة الإلهية إلى التأسّي برسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) في قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب : 21].

الثانية: إنَّ قيمة القدوة في التجربة الإنسانية تُكمن في واقعيّتها التي توحي بأنَّ الخطأ والانحراف في بعض مراحل العمل، لا يعني سقوط الإنسان ونهايته في حساب العقيدة والمصير، بل يمكن له أن يقوم من سقطته ويصحّح خطأه ويقوِّم انحرافه واعوجاجه، ليستقيم له الطريق نحو الهدف، ما يعني أنَّ على الإنسان السعي الدائب في خطّ التكامل في حالات النقصان وعدم الانسحاق أمام الحالات السلبية.. وهذا ما أكّده القرآن الكريم في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} [الأعراف : 201]، فلا مانع من أن يطوف بكَ الشيطان ـــ وأنت تقيّ ـــ، لأنّ المهمّ هو أن لا تظلّ مع الشيطان في وحيه وانحرافه؛ وبذلك يكون التاريخ تاريخاً للتجربة الإنسانية الناجحة التي تدفع إلى الأخذ بأسباب النجاح، وتمنعنا من تقديس الأخطاء والخطايا باسم عصمة الخاطئين المخطئين.

لقد عالجت هذه الآية كثيراً من الجوانب الإنسانية المتحرّكة في المعركة، وأثارت كثيراً من الأجواء.. ونعتقد أنَّ من واجب الباحثين الإسلاميين الذين يدرسون طبائع المعارك الإسلامية أن لا يكتفوا بالتاريخ العادي الذي يدرس الجوانب الظاهرة في الحادثة ولا ينفذ إلى تحليل الحالات الإنسانية الداخلية في التجربة، بل عليهم أن يحاولوا الانطلاق إلى القرآن الذي هو كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ليعرفوا حجم المعركة بأسلوب عميق شامل، وسنحاول ـــ بعون الله ـــ أن نتابع دراسة معركة أُحُد من خلال هذه الآيات الكريمة.

                           *****

 

 

 

معركة أُحُد بين تخطيط الرسول وحركة النفاق:

وتبدأ الآيات بهاتين الآيتين اللّتين قدّمناهما أمام الحديث: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} لقد بدأ الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) يدبّر أمر المعركة في بداية النهار، وهو معنى الغدوة الذي يمثّل الفترة ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس؛ فقد انطلق (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) لتحديد مواقع المسلمين في المعركة من أجل الإعداد للنصر، {وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} فهو الذي لا يعزب عن علمه شيء ممّا يحتاج إلى أن يُسمع أو يُبصر، لأنَّه محيط بذلك كلّه.

وبدأت حركة النفاق تعمل لتخذل المؤمنين وتبعدهم عن المشاركة في القتال من أجل إضعاف الجبهة الإيمانية، كوسيلة من وسائل تقوية خطّ الشرك وسلطته، لأنّ ذلك هو الذي يمنحهم فرصة استعادة نفوذهم التي فقدوها عند ظهور الإسلام.. واستطاعوا أن يزلزلوا بعض النفوس ويضعفوا بعض العزائم.. فــ {إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ} وتتراجعا، وقد نلاحظ في هذه الفترة من الآية، أنّها لم تتحدّث عمذا تحدّث به المؤرّخون من انسحاب ثلاثمائة رجل من الذين أعدَّهم الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) للمعركة، ما يوحي بأنَّ ذلك غير صحيح، لأنَّ الآية تحدّثت عن حالة التردُّد ومحاولة الانسحاب كظاهرة من ظواهر الضعف الموجودة في المجتمع الإسلامي آنذاك، ولتنبّه المؤمنين إلى مثل هذه الحالة من أجل المستقبل. ولو كان ما نقله المؤرّخون صحيحاً، لكان ذلك أشدّ خطورة على المسيرة، وأكثر حاجة للتأكيد عليه، لأنّه يمثّل حالة التراجع التي تعني الانسحاب من مسؤولية الإيمان بطريقة حاسمة.

وهناك ملاحظة أخرى جديرة بالتأمُّل، وهي أنَّ التعبير القرآني عبّر عن الانسحاب بكلمة "الفشل"، ما يوحي بأنَّ الجانب العملي من حياة المسلم يعتبر حالة فشلٍ بالنسبة إلى إيمان المؤمن. فالإيمان الذي لا يعبّر عن نفسه بالعمل في خطّ الطاعة هو إيمان فاشل، لأنّه لم ينجح في التجربة المرّة في صراع الإنسان مع الشيطان. وهذه نقطة لا بدَّ من التركيز عليها في أساليب التربية، بالإيحاء بأنَّ الإيمان يمرّ ـــ في الحياة ـــ بتجربة النجاح والفشل، كما هو الحال في كلّ قضية تستتبع المعاناة، ما يرفع من درجة استعداد المؤمن في المجاهدة من أجل الحفاظ على نجاحه في خطّ الإيمان.

أمّا كلمة {وَاللّهُ وَلِيُّهُمَا} فتحمل في داخلها تعميق الشعور للمؤمن بالرعاية الإلهية له في حالات الضعف والزلزال النفسي الناتج عن الضغوط الصعبة المحيطة به، ما يجعله يحسُّ بالأمن والطمأنينة بحماية الله له في أوقات الغفلة. وربَّما كان في التعبير بكلمة "الولي" من الحنان والحميميّة ما يملأ النفس بأصفى المشاعر وأنقاها وأسماها في علاقة الإنسان بالله.

{وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} وهي دعوة للمؤمنين أن يتحرّكوا من فكرة {وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران : 68] ليتوجّهوا إليه في حالات الضعف، أو في الأوضاع التي يخافون أن يضعفوا أمامها مستقبلاً، فإنَّ التوكّل على الله يمثّل أرقى أنواع الإيمان، لأنّه يمثِّل الاستسلام لله من خلال الثقة المطلقة به في أوقات الشدّة والرخاء واليُسر والعُسر، الأمر الذي يزرع في نفسه الثقة بالحاضر والمستقبل في كلّ عمل من أعمال الدُّنيا والآخرة.

                           *****

21 ـــ وقفة نقد وتقويم لأحداث معركة أُحُد:

{وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ*إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ*وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ*أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ*وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ} [آل عمران: 139 ـــ 143].

                           *****

معاني المفردات:

{وَلاَ تَهِنُوا}: لا تضعفوا، والوهن: الضعف القلبي والروحي والانسحاق الداخلي. وقد مرّ.

{قَرْحٌ}: أثر الإصابة بجراح. والقرح ـــ كما يقول الراغب ـــ الأثر من الجراحة من شيءٍ يصيبه من خارج(1).

{الأيَّامُ}: الدول والظفر والسلطنة والقهر، على نحو الكناية، قال الإمام عليّ (عليه السلام): "الدهر يومان: يومٌ لك ويومٌ عليك"(2). واليوم ـــ كما يقول صاحب الميزان ـــ هو المقدار المعتد به من الزمان اللازم لحدوث الحوادث، فيختلف باختلاف الحوادث. وقد شاع استعماله في ما بين طلوع الشمس وغروبها، وربّما استعمل في الملك، والسلطنة، والقهر، ونحوها بعلاقة الظروف والمظروف(3).

{نُدَاوِلُهَا}: نصرّفها ونداورها ونحوّلها. ودال يدول دولاً: دار، ودالت الأيام: دارت وتحوّلت من قوم إلى آخرين. والمعنى: نصرّفها مرّةً لفرقةٍ ومرّةً عليها. ومداولة الأيام تعاقب الشدّة والرخاء، والهزيمة والنصر، والضرّاء والسرّاء.

{شُهَدَاء}: جمع: شهيد من الشهادة بمعنى القتل في سبيل الله، في إشارةٍ إلى من قتل من المسلمين في معركة أُحُد، لأنَّهم ـــ كما قيل ـــ بذلوا الروح عند شهود الواقعة ولم يفرّوا؛ أو جمع شاهد، والمراد به الشاهد على الناس في ما يقومون به من الأعمال السيّئة والحسنة من خلال رؤيته وموقعه القيادي، الذي يتيح له هذا الموقع المميَّز الذي ينفصل به عن الناس الذين يعيشون التجربة الواقعية العمليّة. وبهذا كانت هذه التسمية لمشاهدتهم الأعمال التي  

{وَلِيُمَحِّصَ}: ليخلّص ما في قلوبكم من نقاط الضعف والعيوب، والتمحيص: التطهير والتصفية وتخليص الشيء من الشوائب، وأصل المحص ـــ كما يقول الراغب ـــ: تخليص الشيء ممّا فيه من عيب.. يُقال: مَحَصْت الذهب ومحَّصتُه إذا أزلت عنه ما يشوبه من خبث(1). والتمحيص يكون في القلوب والنفوس كما يكون في الصفوف.

{وَيَمْحَقَ}: يبطل وينقص ويهلك. والمحق: إنفاد الشيء تدريجياً وإزالته شيئاً فشيئاً، والمحق ـــ كما يقول الراغب ـــ: النقصان، ومنه: المحاق لآخر الشهر(2). والمحق يكون في النفوس كما يكون في الصفوف.

{تَمَنَّوْنَ}: من التمنّي. قال في المجمع: الفرق بين التمنّي والإرادة، أنَّ الإرادة من أفعال القلوب، والتمنّي قول القائل ليت كان كذا. وقيل: إنَّ التمنّي معنى في القلب يطابق هذا القول، والصحيح هو الأوّل(3).

                           *****

أدَّت الهزيمة في هذه المعركة إلى حالةٍ شديدةٍ في داخل الذّات الإسلامية من الشعور بالوهن والضعف والحزن، في تساؤل نفسي عنيف، كيف حدث كلّ هذا، ولماذا؟.. ويواجه القرآن هذا كلّه بالرفض لهذه الحالة في موقف المؤمنين: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ}، لأنَّ الوهن والحزن يعبّران عن انسحاقٍ داخلي أمام الهزيمة، في انطواءٍ روحيّ يسقط معه الشعور بالكرامة والإحساس بالعزّة. إنَّ الله يستثير في المؤمنين انطلاقة الإيمان ودلالاته في موقع المؤمن من الحياة، فهو الأعلى بالمقياس الحقيقي للأشياء، لأنَّ ارتباطه بالله يُشعره بالقوّة العليا، وانطلاقه من قاعدة الإيمان يوحي له بالفكرة العليا، وتحرّكه في خدمة الحياة يشدّه إلى الأعلى في أهداف الحركة.. وبذلك يتحوّل الإيمان إلى عنصر قوّةٍ يدفعه إلى الاستعلاء على كلّ عوامل الضعف والخوف والحزن، ليدعوه إلى الإحساس بالقوّة والفرح الروحي بالألم والتضحية في طريق الجهاد.

ولعلّ من الواضح أنَّ الآية الكريمة لا تريد أن توحي للمؤمنين بالموقع الأعلى في عمليّة استعلاء للذّات على الآخرين لتصبّ في مجرى الأنانية الذاتية، بل كلّ ما تريده ـــ في ما نستوحيه منها ـــ هو الاستعلاء الروحي والرسالي على قوى الكفر والظلم والطغيان، وذلك من خلال ما تُعطيه كلمة {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} من مفاهيم وأحاسيس وإيحاءات.

ثمَّ تلتفت إليهم في أسلوب واقعي يريد للقضية أن تعيش في نطاق أسبابها الطبيعية التي أخضع الله لها كلّ ما في الظواهر الكونيّة والإنسانيّة، فإنَّ قضية النصر والهزيمة في حياة الأفراد والجماعات لا ترتبط بالجانب الغيبيّ للحياة ليواجه الإنسان قضاياها من هذا الموقع، فيدفعه ذلك إلى الشكّ في منطلقات الإيمان وخطواته، بل ترتبط بالجانب الواقعي للأشياء؛ فإذا أخذ الناس بأسباب النصر فإنَّهم سينتصرون وإن كانوا كافرين، وإذا تركوها انهزموا وإن كانوا مؤمنين، لأنَّ الله لا يريد أن يُحارب بالنيابة عن المؤمنين، بل يريدهم أن يأخذوا بسنّته، ويسيروا على حسب قوانينه، فينطلقوا إلى ساحات الصراع من موقف الوعي للساحات ومتطلّباتها المادية والمعنوية.. ولا مانع من اقتضاء حكمة الله أن يتدخّل في الحالات الصعبة التي تمثِّل فيها الهزيمة حالة انهيار للإسلام وللمسلمين ـــ كما حدث ذلك في معركة بدر ـــ ولكنّها حالاتٌ طارئة لا تصل إلى مستوى القاعدة العامّة الثابتة.

وهكذا خاطب الله المسلمين بعد أن نهاهم عن الحزن والوهن ودعاهم إلى الشعور بالعلوّ في خطّ الإيمان، ووضعهم في واجهة الصورة؛ وذلك في قوله تعالى: {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ} فإذا كان المسلمون قد انهزموا في المعركة في أُحد وأصابهم القرح، فقد أصاب الكافرين مثل ذلك في بدر، فليست الهزيمة حالة ثابتة للمهزومين في بعض المعارك، وليس النصر قانوناً حتمياً دائماً في حياة المنتصرين في حالات النصر؛ فقد ينتصر المهزوم في معركة جديدة، وقد ينهزم المنتصر، {وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} فقد تكون القوّة لفريق من الناس في ما هيَّأ الله لهم من أسباب القوّة، وقد تتبدّل الحال فتكون القوّة في الجانب الآخر والضعف في جانب الأقوياء، تلك هي سنّة الله في الأرض التي تدفع الحياة إلى خطّ التوازن، فلا ييأس المهزوم من النصر فيظلّ يُلاحق التجربة الحيّة التي تقود إليه، ولا يطغى المنتصر بانتصاره ويستسلم لنتائجه، بل يبقى في هاجس الهزيمة المرتقبة، فيُحافظ ـــ من خلال ذلك ـــ على مواجهة المستقبل بروح متوازنة.. وفي ذلك كلّه تتجدّد الحياة وتنمو وتتكامل فُرَصها وتتوازن حركاتها ويتحرّك خطّ الصراع في اتجاه سليم.

                           *****

 

أسلوب قرآني مميَّز:

{وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ} فإنَّ المواقف الصعبة التي يواجه فيها الناس الهزائم قد تزلزل النفوس وتدفع بعض المؤمنين إلى الريبة والشكّ والتراجع، وتزيد المؤمنين الآخرين ثباتاً وقوّةً وتحفّزاً وتصميماً على مواجهة التحدّيات، وبذلك ينكشف الإيمان المزيّف من الإيمان الخالص الصحيح الثابت، فإنَّ حالات الرخاء والأمن والدعة تجمع في داخلها كلّ النماذج الخيّرة والشرّيرة، لأنَّ الجوّ لا يفرض عملية الفرز الاجتماعي الإيماني ما دامت الفرصة تحتوي الجميع وتستوعبهم من دون سلبيات.

وقد يوحي هذا التعبير بأنَّ التجربة تستهدف علم الله بالمؤمنين، فهل يحتاج الله في علمه بالأشياء إلى وسيلة للعلم ممّا يحتاجه الإنسان في ذلك؟! تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً. فما معنى ذلك إذاً؟! الظاهر أنَّ هذا أسلوب قرآني مميَّز يستعمل الأفعال المنسوبة إلى الله بالطريقة التي تنسب إلى الإنسان من أجل التأكيد على ارتباط النتيجة بالمقدّمات في طبيعة الأشياء؛ وإن اختلفت في طريقة نسبتها إلى الله الذي يعلم الأشياء قبل حصولها، ونسبتها إلى الإنسان الذي يحتاج إلى الوسيلة التي تؤدّي إلى العلم.

وهذا أسلوب جرى عليه القرآن في طريقة المحاكاة في الموارد التي لا يحمل فيها الفعل طبيعة المعنى الذي أطلق عليه، كما في قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة : 194]؛ مع أنَّ انتصار الإنسان لنفسه لا يعتبر اعتداءً، ولكنّ المشكلة لا تخلو من المناسبة التي تُعطي الفكرة بتناسب الفعل مع ردّ الفعل. وعلى ضوء ذلك يكون المقصود: ليظهر الله الذين آمنوا من خلال التجربة. فالقضية قضيّة تعبيريّة فنيّة ولا صلة لها بالمضمون، فلا حاجة إلى ما ذكره صاحب مجمع البيان في تفسيره، قال: ".. وإذا كان الله تعالى يعلمهم قبل إظهارهم الإيمان، كما يعلمهم بعده، فإنَّما يعلم قبل الإظهار أنَّهم سيميّزون، فإذا أظهروه علمهم متميِّزين، ويكون التغيّر حاصلاً في المعلوم لا في العالم، كما أنَّ أحدنا يعلم الغد قبل مجيئة، على معنى أنَّه سيجيء، فإذا جاء علمه جائياً، وعلمه يوماً لا غداً، فإذا انقضى فإنَّما يعلمه الأمس لا يوماً ولا غداً، ويكون التغيّر واقعاً في المعلوم لا في العالم"(1).

{وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء} الظاهر أنَّ المراد منه جمع المشاهد، لا جمع الشهيد ـــ كما ذكره صاحب تفسير الكشّاف(2) ـــ وقد تكرّر في القرآن الحديث عن أنَّ الله جعل هذه الأُمّة في موضع الشهادة على الناس: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة : 143]؛ أمّا علاقة ذلك بالمعركة ـــ التجربة ـــ الامتحان، فهي تعميق الإيمان وتصفيته وتنميته في نفس الإنسان المؤمن، ما يجعله في مستوى الشهادة التي تحتاج إلى عمق وصفاء وامتداد في الإيمان.

وربَّما تنطلق التجربة الصعبة التي تتنوَّع فيها المشاكل وتتكرّر فيها الحلول وتشتدّ فيها المعاناة، لتعمل ـــ بأجمعها ـــ على صنع الإنسان القيادي، والمؤمن الصلب الواعي المتحدّي الفاعل، لأنّ مسألة القيادة ليست مسألة تتّصل بالجانب الفكري للإنسان ـــ بل هي ـــ إلى جانب ذلك ـــ مسألة مرتبطة بالتجربة الحيّة التي تتحرّك في وعي الإنسان في ساحة المعاناة ومواقع الصراع، وهذا واقع دور الشهادة الذي يطلّ بالإنسان على واقع الأُمّة ليرصد كلّ حركتها الإيجابية أو السلبية في خطّ الاستقامة أو الانحراف من خلال وعيه الحركي للجانبين معاً، ومعاناته في الإصرار على الموقف الحقّ في صراع الحقّ والباطل.

وفي ضوء هذا، قد نجد معنى الشاهد في الشهادة أقرب من معنى الشهيد، لا سيّما أنَّ الله قد حدَّثنا في القرآن في أكثر من آية عن الشهداء على الناس، من دون أن يتحدّث عن الشهيد بهذا التعبير في آية واحدة، بل لم يعهد استعماله في القرآن، وإنّما هو من الألفاظ المستحدثة الإسلامية ـــ كما يقول صاحب الميزان ـــ مع ملاحظة أخرى، وهي أنَّ كلمة {وَيَتَّخِذَ} لا تتناسب مع الشهداء بمعنى قتلى المعركة. فقد لا يكون من المألوف أن يُقال اتّخذ الله فلاناً مقتولاً في سبيله أو شهيداً، كما يقال: اتّخذ الله إبراهيم خليلاً، أو اتخذ الله موسى كليماً، ومحمّداً يشهد على أُمّته يوم القيامة(1)، لأنّ التعبير ـــ على الظاهر ـــ يُناسب المعنى الذي يمنح صاحبه خصوصية له، كالخليل والكليم والحبيب، وهذا لا ينسجم مع المعنى المذكور، والله العالم.

{وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} الذين ظلموا أنفسهم بالانحراف عن الحقّ والتراجع عن الطريق السويّ، {وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ} ويختبرهم بما يبتليهم به، ويقودهم إلى المواقف السليمة الثابتة، وذلك من خلال أنَّ الابتلاء المنفتح على التجربة المتنوّعة الأبعاد المتعدّدة الجوانب، يمنح الإنسان المؤمن وعياً جديداً صافياً، بحيث تتغيَّر نظرته إلى الأشياء وفهمه للأمور لمصلحة تغيير الذهنية العامة، والسلوك الأخلاقي، والقيمة العملية، فتتحوّل نقاط الضعف إلى قوّة، والجوابن السلبية إلى جوانب إيجابية، فتزول كلّ الشوائب التي تبتعد بالإنسان عن صفاء الحقّ ونقاء الحقيقة.

{وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} وذلك بتوجيه الضربات المتتالية إليهم، وتتابع الفرص أمام المؤمنين في الاندفاع مرّة بعد أخرى، وذلك من دون فرقٍ بين المحق الفردي والجماعي، تبعاً للأسباب الحادثة في الواقع الذي يعيشه الكافرون، حتّى يستقيم الأمر للخطّ الصحيح في نهاية المطاف.

                           *****

الجنّة ليست منحة مجانية للكسالى:

{أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} كان حديث الآيات الثلاث السابقة، هو حديث التجربة الحيّة في المعركة، وكيف يمكن الاستفادة منها بالتخفيف من سلبياتها ومضاعفة إيجابيّاتها، ودراسة أهدافها القريبة والبعيدة؛ أمّا في الآيتين الأخيرتين، فنلاحظ أنّ الحديث يتّخذ بُعداً آخر، وهو مواجهة المؤمنين في الآية الأولى بالميزان الإسلامي للدخول إلى الجنّة، وهو العمل الصالح المتحرّك في خطّ الصبر والجهاد الذي يعبّر عن نفسه في الممارسات الصعبة التي يخوضها المجاهدون والصابرون الذين يضعون حياتهم في كفّة الميزان، وإيمانهم وعقيدتهم في الكفّة الأخرى، فترجح كفّة الإيمان والعقيدة على كفّة الحياة، فيقدّمون حياتهم ضحيّة على مذبح إيمانهم وعقيدتهم، فليست الجنّة منحة مجّانية يمنحها الله للكسالى الذين يقضون أيّامهم في استرخاء نظري كسول، يمارسون فيه ترف الفكر وغيبوبة الروح في أجواء الفراغ، ثمّ يبدأون بالتنديد بالطلائع المجاهدة التي تقف في مواقع الخطر في خطّ الجهاد، ليحطّموا معنوياتهم ويهدّموا روحهم بالأساليب المتلوّنة الخبيثة. فمن أراد الجنّة، فلا بدَّ من أن يسعى نحوها بوسائلها التي يقف الجهاد في طليعتها ليقود الإنسان إلى جنّة الله، كما تزفّ العروس إلى زوجها في ليلة العرس.

وفي هذا الجو، لا بدّ للإنسان المؤمن الذي يفكّر بالجنّة من أن يطلبها في حركة الواقع الصعب، وفي ساحات الجهاد المرّ، لا في ساحات المساجد ومحاربيها فحسب؛ حتى المسجد كان في أيام الإسلام الأولى منطلقاً لصيحات الجهاد التي تختلط بأذان الصلاة لتأكيد أنَّهما ينطلقان من قاعدة واحدة، وهي الإخلاص في مواقف العبودية الخالصة؛ ولكنَّ المدّ الإسلامي قد انحسر عن الحياة عندما ابتعد المسلمون عن الجهاد.

وتتحرّك الآية الثانية في خطّ التحدّي للتمنّيات السابقة على المعركة التي كان المؤمنون يعيشونها في داخل أنفسهم: {وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ}. فقد كانوا يتمنَّون قتلاً في سبيل الله ليحصلوا على جنّته ورضوانه ممّا كان القرآن يحدّثهم عمّا أعدَّ الله للمجاهدين من فضلٍ وكرامة وسعادة في الدار الآخرة عنده، ولكنَّ التمنّيات كانت تعيش في الفراغ خارج نطاق التجربة الصعبة، فلم يكن هناك معارك تفرض نفسها على الساحة، ولا اضطهاد وتشريد ومواجهة أخطار، كما هي حالة الكثيرين منّا عندما يقفون خلف المنابر فيهزّونها بخطاباتهم الحماسية، وأساليبهم البلاغية، ودعوتهم للموت في سبيل الله.

وجاءت التجربة في معركة أُحُد، وكان الموت يركض في هذا الموقع، ويقف في ذلك، ويرفرف على رأس هذا، ويتحرّك حركة صاعدة وهابطة في هذا الاتجاه أو ذاك؛ وبدأ التردّد والقلق، وانطلقت نقاط الضعف في حركة التفاف حول أحلام الإنسان ونوازعه الذاتية، وجاء القرآن ليُخاطب هؤلاء ويُخاطبنا من خلالهم، ويؤكّد أنَّ الأمنية قد تجسّدت في الموقف، فها هو الموت أمامكم، حدّقوا به كيف يتحرّك في خطّ الشهادة، {فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ} لقد رأيتموه، فكيف تواجهون الموقف؟! ويسود الصمت، فلا تتحدّث الآية عن التفاصيل، ولكنّها تترك للمؤمن أن يفكّر ليمتدّ تفكيره في اتّجاه المسؤولية التي تقف في الخطّ الفاصل بين الدُّنيا والآخرة.

                           *****

هذه صورة من صور معركة أُحُد، في نهاياتها التي رافقت أجواء الهزيمة بعد النصر، وأبرزت كثيراً من السلبيات الفكرية والروحية في النماذج المتنوّعة المتواجدة في المعركة: {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ} فقد انهزم المسلمون وأبعدوا في الأرض هرباً من الموقف الصعب الذي فرضته الهزيمة؛ وانطلق الرسول يدعوهم إلى أخراهم فيقول: ارجعوا إليَّ عباد الله، ارجعوا إنّي أنا رسول الله، من يكرّ فله الجنّة {فَأَثَابَكُمْ غُمَّاً بِغَمٍّ} أي: غمّاً أذقتموه للرسول بعصيانكم له، أو غمّاً مضاعفاً، أي غمّاً بعد غمّ، وغمّاً متّصلاً بغمّ، من الاغتنام بما أرجف به من قتل رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) والجرح والقتل وظفر المشركين وفوت الغنيمة.. ما يوحي بأنَّهم كانوا ممتدّين في هربهم في خطّ طويل ابتعد أوّلهم عنه، واقترب آخرون منه؛ فقد كان يريدهم أن يتوقّفوا قليلاً ليدرس معهم طبيعة الموقف، ويحاول من خلاله تحويل الهزيمة إلى نصرٍ جديد، ولكنّهم لا يلوون على أحد، فلا يلتفتون إلى نداء الرسول أو غيره، فقد أخذت الهزيمة الداخلية مأخذها منهم، فهربوا من الموت.

وعاشوا الغمّ النفسي الذي أثاره الله في نفوسهم في ما واجهوه من حالة الانسحاق الذاتي والندم المرير على ما قاموا به، وأفاقوا على واقع لهم يحسبوا له حساباً، وذلك كردّ فعلٍ على الغمّ الذي جلبوه للرسول وللمسلمين وللإسلام. وقد أراد الله لهم من خلال ذلك أن يعرّفهم كيف يربطون بين النتائج وأسبابها، فلا يبادرون إلى الاندفاع في موقف إلاّ بعد التفكير والتأمّل في عواقبه، لأنّهم باندفاعهم يملكون الذهنية الساذجة أمام مشاكل الحياة وآلامها وهزائمها، لذا عليهم أن يملكوا الذهنية التي تجلس في كلّ مجال من هذه المجالات، لتحلّل وتناقش وتستنتج، من أجل أن تحوّل نقاط الضعف إلى نقاط قوّة، وتغيّر السلبيات إلى إيجابيّات. وهذا ما نستوحيه من قوله تعالى: {لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} فإنَّ الظاهر منها أنَّ الله أراد لهم أن يعيشوا الحالة النفسية التي تمثّل ما يشبه الصدمة في الداخل على أساس ما حدث من أجل أن تكون تجربة ودرساً يُبعدهم عن مشاعر الحزن إزاء الخسارة أو المصيبة.

إنَّ الخطّ الإسلامي في أمثال هذه الحالات الصعبة التي يمرّ بها المسلمون في الواقع السلبي الذي قد تتمخَّض عنه الحرب بالهزيمة العسكرية، هو عدم السقوط أمام التجربة المرّة بالحزن العاطفي الذي يجتر معه الإنسان الآلام في حالة نفسيةٍ مدمّرة، كما لو كانت الهزيمة أو الفشل نهاية المطاف في حياته، فلا يصير إلى غلبة أو نجاح بعدها أبداً. فإنَّ الحزن عاطفة إنسانية نبيلة، ولكن لا بدّ للإنسان من أن يحرّكها في الاتجاه الإيجابي الذي يثير في النفس المرارة لتدخل في هذا الجوّ في وعي التجربة، لاستخلاص العِبَر منها، من أجل الدخول في تجربة جديدة في مستقبل جديد.. وهكذا يتحوّلا هذا الغمّ الذي يمثِّل ضيقاً في الصدر، وألماً في الإحساس، إلى انفتاح على كلّ مفردات القضية السلبية، من أجل أن يتفهَّموا طبيعتها وتفاصيلها، على صعيد الخسائر البشرية والمادية والمعنوية، فالله لا يريد للحزن أن يكون طابع المجاهدين العاملين في نتائج الأوضاع المعقّدة في حياتهم، فعليهم أن يراقبوا الله في ذلك من خلال إيمانهم بأنّه خبير بما يفعلونه، سواء كان ذلك من خلال باطن أفعالهم أو ظاهرها، لينفتحوا على مواقع الصواب من خلال المحاسبة الدقيقة لكلّ الماضي المعقّد في انتظار المستقبل المنفتح، وهكذا يرتفع الحزن على الخسارة ليحلّ محلّه الوعي والأمل بانتظار الربح في المستقبل الآتي.

22 ـــ الفئة المؤمنة تأخذ دروساً من أحداث معركة أُحُد:

{إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غُمَّاً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ*ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاساً يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران: 153 ـــ 154].

                           *****

معاني المفردات:

{تُصْعِدُونَ}: تبتعدون وتذهبون خوفاً وهزيمةً وفراراً من العدوّ، والإصعاد هو الذهاب والإبعاد في الأرض، والصعود: الارتقاء إلى مكان عالٍ. والفرق بين الإصعاد والصعود ـــ كما يقول صاحب المجمع ـــ أنَّ الإصعاد في مستوى من الأرض، والصعود في ارتفاع. يُقال: أصعدنا من مكّة: إذا ابتدأنا السفر منها، ومنه قول الشاعر:

هَوَايَ مع الرَّكْبِ اليَمانينَ مُصْعِدٌ           جَنيبٌ وجُثماني بِمَكَّة موثق

وروي عن الحسن أنّه قرأ "تُصْعِدُونَ" بفتح التاء والعين، وقال: إنَّهم صعدوا في الجبل فراراً، وقال الفراس: الإصعاد: الابتداء في كلّ سفر، والانحدار: الرجوع عنه(1).

{تَلْوُونَ}: تلتفتون من ورائكم إلى نداء الرَّسول القائد وغيره، قال الراغب: يُقال: فلان لا يلوي على أحد: إذا أمعن في الهزيمة(2)، وفي المجمع، "لاَ تَلْوُونَ": أي: لا تعرجون على أحد كما يفعله المنهزم. ولا يذكر هذا إلاَّ في النفي، لا يُقال لويت على كذا، وأصله من ليّ العنق للالتفات(3).

{غُمَّاً}: الغم: ألم وضيق في الصدر من أمر محرج.

{أَمَنَةً}: أمناً، وهو ضدّ الخوف.

{نُّعَاساً}: النعاس: الوسن، وناقة نعوس: توصف بالسماحة في الدرّ.

{يَغْشَى}: يغطي ويستر.

{مَضَاجِعِهِمْ}: مصارعهم قد قتلوا فيها.

                           *****

هذه صورة من صور معركة أُحُد، في نهاياتها التي رافقت أجواء الهزيمة بعد النصر، وأبرزت كثيراً من السلبيات الفكرية والروحية في النماذج المتنوّعة المتواجدة في المعركة: {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ} فقد انهزم المسلمون وأبعدوا في الأرض هرباً من الموقف الصعب الذي فرضته الهزيمة؛ وانطلق الرسول يدعوهم إلى أخراهم فيقول: ارجعوا إليَّ عباد الله إنّي أنا رسول الله، من يكرّ فله الجنَّة {فَأَثَابَكُمْ غَمَّاً بِغَمٍّ} أي: غمّاً أذقتموه للرسول بعصيانكم له، أو غمّاً مضاعفاً، أي غمّاً بعد غمّ، وغمّاً متّصلاً بغمّ، من الاغتمام بما أرجف به من قتل رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) والجرح والقتل وظفر المشركين وفوت الغنيمة.. ما يوحي بأنَّهم كانوا ممتدّين في هربهم في خطّ طويل ابتعد أوّلهم عنه، واقترب آخرون منه؛ فقد كان يريدهم أن يتوقّفوا قليلاً ليدرس معهم طبيعة الموقف، ويحاول من خلاله تحويل الهزيمة إلى نصرٍ جديد، ولكنَّهم لا يلوون على أحد، فلا يلتفتون إلى نداء الرسول أو غيره، فقد أخذت الهزيمة الداخلية مأخذها منهم، فهربوا من الموت.

وعاشوا الغمّ النفسي الذي أثاره الله في نفوسهم في ما واجهوه من حالة الانسحاق الذاتي والندم المرير على ما قاموا له، وأفاقوا على واقع لم يحسبوا له حساباً، وذلك كردّ فعلٍ على الغمّ الذي جلبوه للرسول وللمسلمين وللإسلام. وقد أراد الله لهم من خلال ذلك أن يعرّفهم كيف يربطون بين النتائج وأسبابها، فلا يُبادرون إلى الاندفاع في موقف إلاَّ بعد التفكير والتأمُّل في عواقبه، لأنّهم باندفاعهم يملكون الذهنية الساذجة أمام مشاكل الحياة وآلامها وهزائمها، لذا عليهم أن يملكوا الذهنية التي تجلس في كلّ مجال من هذه المجالات، لتحلّل وتناقش وتستنتج، من أجل أن تحوّل نقاط الضعف إلى نقاط قوّة، وتغيّر السلبيات إلى إيجابيات. وهذا ما نستوحيه من قوله تعالى: {لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} فإنَّ الظاهر منها أنَّ الله أراد لهم أن يعيشوا الحالة النفسية التي تمثِّل ما يشبه الصدمة في الداخل على أساس ما حدث من أجل أن تكون تجربة ودرساً يُبعدهم عن مشاعر الحزن إزاء الخسارة أو المصيبة.

إنَّ الخطّ الإسلامي في أمثال هذه الحالات الصعبة التي يمرّ بها المسلمون في الواقع السلبي الذي قد تتمخّض عنه الحرب بالهزيمة العسكرية، هو عدم السقوط أمام التجربة المرّة بالحزن العاطفي الذي يجترّ معه الإنسان الآلام في حالة نفسيةٍ مدمّرة، كما لو كانت الهزيمة أو الفشل نهاية المطاف في حياته، فلا يصير إلى غلبة أو نجاح بعدها أبداً. فإنَّ الهزيمة عاطفة إنسانية نبيلة، ولكن لا بدَّ للإنسان من أن يحرّكها في الاتجاه الإيجابي الذي يثير في النفس المرارة لتدخل في هذا الجوّ في وعي التجربة، لاستخلاص العِبَر منها، من أجل الدخول في تجربة جديدة في مستقبل جديد.. وهكذا يتحوّل هذا الغمّ الذي يمثّل ضيقاً في الصدر، وألماً في الإحساس، إلى انفتاح على كلّ مفردات القضية السلبية، من أجل أن يتفهّموا طبيعتها وتفاصيلها، على صعيد الخسائر الشرية المادية والمعنوية، فالله لا يريد للحزن أن يكون طابع المجاهدين العاملين في نتائج الأوضاع المعقّدة في حياتهم، فعليهم أن يراقبوا الله في ذلك من خلال إيمانهم بأنّه خبير بما يفعلونه، سواء كان ذلك من خلال باطن أفعالهم أو ظاهرها، لينفتحوا على مواقع الصواب من خلال المحاسبة الدقيقة لكلّ الماضي المعقّد في انتظار المستقبل المنفتح، وهكذا يرتفع الحزن على الخسارة ليحلّ محلّه الوعي والأمل بانتظار الربح في المستقبل الآتي.

                           *****

 

الفئة المؤمنة تأخذ دروساً:

{ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاساً يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنكُمْ} وعاد البعض إلى رسول الله، وهم يعيشون هذه الصدمة الكبيرة، ويقارنون بين أسباب الهزيمة ونتائجها، وشعروا بالتقصير والندم، وبدأوا في التخطيط لحسابات المستقبل. وكان لا بدّ من حالة استرخاء يستريحون فيها من متاعب المعركة وانفعالات الندم، ليملكوا زمام تفكيرهم، فألقى عليهم النعاس ليعيشوا الإحساس بالأمن والطمأنينة، فتتجدَّد لهم طاقاتهم التي أتعبها الجهد، وتصفو أفكارهم التي كدرها الألم، وترتاح أعصابهم التي أرهقها الانفعال، فغابوا في سباتٍ عميق يفصلهم عن كلّ هذه الأجواء الخانقة من التوتُّر والرُّعب والانفعال.. وتلك هي الفئة المؤمنة التي لا تفقد صوابها، ولا ترتاب في إيمانها، ولا تتزلزل في مواقفها أمام الصعوبات والتحدّيات والهزائم، بل تقف من جديد، لتفكّر في المستقبل من خلال دروس الحاضر، ولتواصل المسيرة وتعتبر أنّ كلّ ما حدث ما هو إلاّ تجربة وامتحان واختبار قد يفشل الإنسان فيه وقد ينجح. ولكنّ القضية في كلا الحالين تمثِّل العبرة التي يستفيد منها الفاشل كيف يتفادى الفشل في المستقبل، ويتعلّم منها الناجح كيف يمكن أن يستزيد من فرص النجاح في الحياة.

                           *****

مفهوم الابتلاء في الإسلام:

{وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ} ويختبركم بإظهار ما تخفونه من نوايا سيّئة، حتى لا ينخدع الناس بالجانب الظاهري من حياة الآخرين، فيستسلموا للخديعة في علاقتهم ببعضهم البعض.

{وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} وتلك هي فائدة المحن والنكبات التي تحدث للإنسان، فإنّها تمحِّص ما في قلبه، فتعزل الخبيث عن الطيّب، وتكشف الإيمان الثابت من الإيمان الطارئ المستودع.

{وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} فلا يحتاج في معرفته بدخائل الناس إلى دليل، لأنّه المحيط بالأشياء الخفيّة من نوايا الإنسان، كما هو محيط بالأشياء الظاهرة منها.

وهذا هو المفهوم الإسلامي للابتلاء الذي يبتلي به الله عباده، فليس هو ـــ في جميع مظاهره ـــ نقمةً وعذاباً، بل قد يكون رحمةً يبني بها الله للإنسان شخصيّته الصلبة من خلال المعاناة التي يُعانيها أمام البلاء، كما يكشف له طبيعة المشاعر والأحاسيس والأفكار التي تعيش في داخله، فيكتشف الزّيف من الإخلاص، ويعرف الأشياء العميقة في داخل كيانه من الأشياء الطافية على السطح.

وهذا ما ينبغي للعاملين في سبيل الدعوة إلى الله وفي حقل التربية الإسلامية أن يواجهوه في ما يخوضونه من تحدّيات، وما يواجهونه من عقبات وصراعات، وما يدفعون إليه العاملين الآخرين من مهمّات ومسؤوليّات، فقد يكون من الأفضل أن لا ينهزموا أمام المصاعب، وأن لا يتعقَّدوا منها. كما قد يكون من الخير لهم أن يوكلوا إلى العاملين معهم بعض القضايا التي تثير المتاعب والمشاكل في بعض مراحل الطريق من أجل بناء شخصيّتهم الإسلامية بالصدمات القوية التي توقظ في داخلهم حسّ المواجهة للأخطاء والانحرافات، وتدفعهم إلى الوقوف بقوّة أمام الأعاصير القادمة من بعيد.

                           *****

 

 

 

 

 

 

 

القوّة   

موارد القوّة ـــ الإنسان وحركة القوّة في كيانه ـــ تحذير المسلمين من الأساليب الانهزامية ـــ من الأساليب التربوية لتعميق المفاهيم ـــ مراقبة خطط الباطل: عنصر قوّة.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

1 ـــ أسباب عدم تشريع القتال في بدء الدعوة:

{وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} [الأنفال : 60].

                           *****

معاني المفردات:

{رِّبَاطِ الْخَيْلِ}: الخيل المرابطة أو المربوطة: الجاهزة للتحرّك.

{تُرْهِبُونَ}: تخيفون وتقلقون.

                           *****

{وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} لا بدّ للحقّ من قوّةٍ في مواجهة التحدّيات المضادّة، لردع القوى المعادية التي تمنع الحقّ من ممارسة حريّته في الدعوة إلى الإيمان به وبقضاياه، أو تعمل على تحطيم قوّته وتهديم أركانه، لأنَّ أسلوب الرّفق والحوار لا ينفع مع الذين لا يؤمنون بهذا الأسلوب، بل يعتبرون العنف القائم على القهر والضغط الماديّ أساساً للسيطرة على الآخرين. ولذلك أراد الله للمؤمنين أن يقوموا بعمليّة إعداد القوّة العسكرية بكلّ ما يملكون من إمكاناتٍ وقدرات ماديّة، فليس لهم أن يدّخروا جهداً في هذا السبيل، لأنّ ذلك هو القاعدة الصلبة التي ترتكز عليها القوّة المستقبلة الواثقة بالتماسك والنصر والامتداد، القادرة على ردّ التحدّي بالتحدّي المماثل، أو بالأقوى منه.

وإذا كانت القوّة العسكرية في الماضي تتمثّل في ما تعارف عليه الناس من أدوات القتال، من السيف والسهم والرمح والدرع، فإنّ العصور المتأخّرة قد استحدثت وسائل أخرى كالبندقية والمدفع والرشاش والدبّابة ونحوها، فلا بدّ لنا من أن نحصل على ذلك كلّه، إذ لا معنى لأن نتحدّث عن الوسائل القديمة التي استنفدت أمام الوسائل الجديدة للحرب، ولكن لا بدّ للقرآن من أن يتحدّث للنّاس بالطريقة التي يفهمونها، وبالأشياء التي يعيشونها، لأنّهم المخاطبون بها في البداية، ولهذا عقّب الله ذلك بقوله: {وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ} باعتبار أنّها كانت المظهر للقوّة العسكرية المتحرّكة آنذاك. {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ}. وبذلك كان الإعداد للقوّة تدبيراً وقائياً يرهب العدوّ، فيمنعه ذلك من العدوان، ويدفعه إلى الدخول في معاهدات ومواثيق مع المسلمين، أو يجعله خاضعاً للسيطرة الإسلامية، أو يوحي له بالدخول في الإسلام.

وهكذا تكون القوّة الكبيرة البارزة سبيلاً من سبل ردع العدوّ ومنع الحرب، ممّا يجعل منها ضرورةً سياسيةً وعسكريةً معاً، فيفرض على القائمين على شؤون المسلمين أن لا ينتظروا حالة إعلان الحرب ليستعدّوا، بل لا بدّ لهم من الاستعداد الدائم في كلّ وقتٍ، وذلك تبعاً للظروف الموضوعية المحيطة بالواقع السياسي والعسكري الموجود من حولهم، من أجل إرهاب عدوّ الله وعدوّ المسلمين.

{وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ} أي ممّن هم أقل منهم درجةً في القوّة أو في العداوة، أو من غيرهم، {لاَ تَعْلَمُونَهُمُ} لأنّكم لا تحيطون بالساحة كلّها في ما تختزن من عداواتٍ وتحدّياتٍ في الحاضر والمستقبل، ممّن يحيط بالمسلمين في أكثر من موقع، ولكن {اللّهُ يَعْلَمُهُمْ} فيوحي إليكم بضرورة الإعداد الدائم المتحرّك، الذي يرصد تصاعد القوّة العسكرية للآخرين، والاكتشافات الجديدة لأنواع السلاح التي قد تتغيّر في كلّ يوم، بحيث تصبح الأسلحة القديمة غير ذات فائدةٍ، ممّا يفرض تبديلها دائماً بشكلٍ متحرّك. وربّما يفرض ذلك الإعداد لإنتاج السلاح، لأنّ مشكلة وجود مصانع الأسلحة في أي بلدٍ آخر غير إسلاميّ يفرض كثيراً من الضغوط السياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية على البلد المستورد له، ويجعل نتائج الحرب خاضعةً للسياسة التي يسير عليها البلد المنتج. وهذا ما نلاحظه في العصور المتأخّرة التي تحوّل فيها السلاح من تجارةٍ حرّةٍ، إلى تجارةٍ موجهةٍ تابعةٍ للموقف السياسي الذي قد يتحرّك من أجل الابتزاز السياسي للبلد المستورد، بفرض شروطه الخاصة.

                           *****

ضرورة توفير مقوّمات القوّة على كلّ صعيد:

وإذا كان جوّ الآية يوحي بوجوب الاستعداد للحصول على القوّة العسكرية، فإنّنا نستوحي منها ضرورة الإعداد للقوّة من نوعٍ آخر، ممّا تحتاجه الأُمّة في تطوّرها العلمي والاجتماعي والاقتصادي في موقعها السياسي بين الأمم الأخرى، لأنّ ذلك يحقّق لها الاكتفاء الذاتي أو التفوّق الواقعي، الذي يفسح لها المجال للتحرّك بقوّة من موقع استغنائها عن الآخرين، أو من موقع حاجة الآخرين إليها، فنستطيع بذلك أن نتخلّص من الضغوط التي تقيد حريّتها في الحركة، أو تفرض الضغوط التي تحتاجها في علاقاتها بالآخرين، وهذا ما يُلزم الأُمّة ـــ بجميع أفرادها ـــ أن تستنفر كلّ طاقاتها في سبيل الوصول إلى المستوى المتقدّم في كلّ المجالات التي تمثّل أساس القوّة في الحياة، ولتتخلَّص من كلّ نقاط الضعف المفروضة عليها من الداخل والخارج، فذلك هو السبيل الأفضل لانطلاقة الإسلام بقوّةٍ في حياة الناس في عالمٍ لا يفهم إلاّ بلغة القوّة. فالحقّ الذي لا يستند إلى القوّة لا يرتكز على أساسٍ ثابتٍ متين.

وإذا كان الوصول إلى هذا المستوى من القوّة يحتاج إلى الكثير من المال، فإنّ على الأُمّة أن تساهم في ذلك على جميع المستويات، وأن تعتبر ذلك إنفاقاً في سبيل الله، لأنّ رفع المستوى العلمي والعسكري والاقتصادي للأُمّة هو من أفضل السبل العملية التي تؤدّي إلى تدعيم الحقّ وتفتح طريق الانتصار في المعركة الطويلة ضدّ الكفر والكافرين. وقد أراد الله أن يوحي للمؤمنين بأنّه سيعوّضهم عمّا أنفقوه في هذا السبيل في الدنيا والآخرة {وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} فتأخذونه وافياً غير منقوص، { وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} بل تجدون العدل كلّه، والخير كلّه،  الرحمة الواسعة التي تفتح لكم أبواب الحياة على آفاق الفلاح والنجاح.

                            *****

2 ـــ الإنسان وحركة القوّة في كيانه:

{أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِم مِّدْرَاراً وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ} [الأنعام : 6].

                           *****

معاني المفردات:

{قَرْنٍ}: القرن: أهل كلّ عصر، مأخوذ من إقرانهم في العصر.

{مَّكَّنَّاهُمْ}: التمكين: إعطاء ما به يصحّ الفعل كائناً ما كان من آلة وغيرها.

{مِّدْرَاراً}: غزيرة المطر.

                           *****

مشكلة الكافرين ـــ كما يصوّرها القرآن دائماً ـــ أنّهم يمارسون السلبيّة المطلقة أمام الفكر الحقّ الذي تقدّمه الرسالات، وذلك بالإعراض عنه وعن براهينه ودلائله وآياته من دون أساسٍ، وبذلك لم تكن قضية التكذيب به قضية فكرٍ يناقشونه ويرفضونه، بل هي قضية عقدةٍ ذاتية ضدّ الأمور الجادّة في الحياة، فيعملون على أن لا يُلزموا أنفسهم بشيءٍ من ذلك، وذلك بأن لا يواجهوا الموقف بالجديّة التي تفرض التأمّل والمحاكمة والاقتناع، فلا يفتحون عيونهم على ما يحتاج إلى بصر، ولا يوجّهون أسماعهم إلى ما يحتاج إلى سمع، ولا يطلقون عقولهم في ما يحتاج إلى تفكير. وهذا ما نزال نلاحظه لدى كثير من شباب الجيل الذين ينحرفون عن الخطّ دون أن يحاولوا التعرّف على ملامحه، وذلك بالاستجابة إلى القراءة والتأمّل والحوار، بل هم يتّخذون بدلاً من ذلك الموقف الذي يرفض بعض الأمور من دون دليل، ويتقبّل البعض الآخر من دون حُجّة أو برهان.

                           *****

الهلاك للجاحدين والكافرين بنعم الله:

وماذا ينتظر هؤلاء وغيرهم من المكذّبين؟ هل ينتظرون إلاّ الهلاك الذي حلّ بالقرون السالفة من قبلهم؟ {أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ} بما أعطاهم من وسائل القوّة، وأسباب النعيم، {وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِم مِّدْرَاراً} فقد أرسل السماء عليهم بأمطارها الغزيرة {وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ} وتحوّلت الأرض من خلال ذلك إلى أنهار تجري من تحتهم. ولكنّهم لم يشكروا ولم يخضعوا لله، {فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ} فأهلكهم الله بذنوبهم، وأنشأ من بعدهم قرناً آخرين، فأين ذهب هؤلاء كلّهم؟ وماذا حدث للأرض وللسماء من بعدهم؟. لم يحدث شيء. بل استمرّت الحياة كما أرادها الله في قومٍ آخرين، وهكذا تستمرّ الحياة مع غيرهم، فلا يتصوّر أحدٌ أن أيّاً من تصرّفاته يمكن أن يغيّر من سُنّة الله في الحياة، بل عليه أن يعرف بأنّ الأمر كلّه لله، وأنّ الذي أوجد الكون بإرادته قادر أن يزيله بتلك الإرادة الحكيمة القادرة التي لا يُعجزها شيء في الأرض ولا في السماء.

                           *****

 

لماذا يثير القرآن فكرة الموت باستمرار؟

قد يتساءل قارئ القرآن عن السبب الكامن وراء إثارة القرآن لفكرة الموت بشكلٍ دائم. لماذا يلحّ دائماً على أن يجعل الإنسان مهزوماً أمام فكرة الموت؟ هل يريد له أن يعيش تحت تأثير هذا الهاجس، كالشبح المرعب، الذي يوحي له بالخوف والهلع المستمرّ، ما قد يُفقده التركيز على مشاريع الحياة التي تحتاج إلى الشعور بالامتداد في خطّ العمل من أجل التخطيط المستمرّ لإكمال المسيرة؟

وفي ضوء هذا التساؤل، يحاول البعض من الناس اتّهام الوعظ الديني الذي يعمل على تعميق إحساس الإنسان بالموت في كلّ لحظة، بأنّه يمنع الإنسان من الشعور بالقوّة، لأنّه يجمّد قوّة الحياة في داخل وعيه وتفكيره من خلال الإيحاء بأنّ من الممكن أن تنتهي الحياة في أيّ وقت. فيتضاءل الإنسان ويضعف ويسترخي في تهاويل الحزن انتظاراً للموت. وبهذا يتحوّل الناس إلى جماعات متناثرة تنتظر الموت بدلاً من أن تنطلق وحدة قويّة في بناء الحياة!

والجواب عن ذلك: إنّ هذا الأسلوب هدفاً تربوياً يسعى إليه، وذلك لأنّ الشعور بالقوّة المطلقة له أثران: إيجابي وسلبي. أمّا الأثر الإيجابي، فهو حريّة الحركة وحيويّتها في جميع الأشياء التي يفكّر بها أو يطلبها منه الآخرون؛ وأمّا الأثر السلبي فهو الشعور بالغرور الذي يجعله يتحرّك في إحساسٍ بضخامة الشخصية بشكلٍ غير معقول، فيؤدّي به ذلك إلى التكبّر والتخبّر والدخول في متاهاتٍ من الأعمال التي لا يملك زمام القدرة فيها. وهذا ما أراد الإسلام أن يخفّف منه، وذلك، من ضمن خطّة تتحرّك في عدّة أساليب، منها: الإيحاء الدائم بمواطن الضعف البشري في ما يصيب الإنسان من أمراض وعوارض وبلايا، دون أن يملك أمر مقاومتها أو دفعها عن نفسه. ومنها: هذا الحديث الدائم عن الموت، بالحديث عمّن هلكوا وعمّن أهلككم الله من القرون السالفة التي كانت تملك من القوّة أكثر ممّا يملكها المخاطبون، للإيحاء للإنسان بأنّ القدرة التي يملكها هي قدرة محدودة مستمدّة من الله وخاضعة في استمرارها لإرادته المطلقة، الأمر الذي يحثّ الإنسان على التواضع في نظرته إلى نفسه، وفي خضوعه لله من خلال الخضوع للقدرة العظيمة في سلطانه.

فيس هدف القرآن الإيحاء بالهزيمة والانسحاق تحت تأثير الشعور بالموت، بل تحقيق التوازن في شعوره بالحياة وارتباطه بحركتها الممتدّة في طاقاته، فلا يفقد الأمل بالامتداد لما أودعه الله فيه من طاقةٍ قابلةٍ للاستمرار، ولما أثاره في نفسه من الثقة به والرجوع إليه، لا يسترخي أمام قوّة الحياة في داخله ليستسلم لها استسلاماً مطلقاً، بل يشعر بأنّ الموت يمكن أن يأتي في أيّة لحظةٍ، ليظلّ الإنسان منطلقاً في خطّ العبرة الموحية التي تجعله يفكّر بالموت حين يستحضر التاريخ، ويعيش الحاضر، ليقوده ذلك إلى التفكير في ما بعد الموت، فيتحوّل إلى حالةٍ من الانضباط في الحياة العملية تحت تأثير هذه الفكرة.

                           *****

الإنسان وقانون القضاء والقدر:

1 ـــ إنّ قانون السببيّة شامل للمواقف الإنسانية كما هو واقع في الظواهر الكونية، فقد جعل الله الواقع الإنساني خاضعاً للمواقف التي يتّخذها الإنسان من خير أو شرّ، وهذا ما يجعل النتائج الإيجابية أو السلبية في حياته تابعةً لذلك. وهو ما يوحي إلينا بأنّ الله أوكل للإنسان أمر صياغة دنياه كما أوكل إليه صياغة مستقبله في آخرته، وذلك بقدر ما يتّصل الأمر بإرادته واختياره، وهذا ما يصحّ لنا معه أن نقول: إنّ الإنسان يصنع قضاءه وقدره في الأمور المرتبطة بحركته الإرادية القادر من خلالها على تحريك الواقع، وليس القضاء والقدر شيئاً فوق إرادة الإنسان دائماً، بل هو كذلك في الأمور الكونية التي يتحرّك بها النظام الكوني، أو في الأمور الحادثة التي يتعرّض لها من دون اختياره.

وهذا ما توحي به الآية الكريمة: {فَقَدْ كَذَّبُواْ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنبَاء مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الأنعام : 5] فهي أنباء السوء الناتجة عن أعمالهم الشرّيرة ومواقفهم من الحقّ الذي جاءهم، فاستهزأوا به وأنكروه، فخسروا إيجابيات الحقّ في الدنيا، وسيواجهون عقاب الله في الآخرة.

إنّها الأنباء التي يتمخّض عنها الموقف السلبي، وهي ليست أنباءً سعيدة على كلّ حال.

وهذا هو منطق السنن الاجتماعية التاريخيّة في تقدير الله للكون والإنسان، وهو الذي تتحرّك فيه التجارب الإنسانية في الماضي والحاضر والمستقبل، لأنَّ ذلك لا يخضع لحدّ زمني معيّن، بل هو خاضع للزمن كلّه ولحركة الحياة في عناصرها الحقيقيّة.

                           *****

2 ـــ إنّ حركة القوّة في كيان الإنسان لا تمثّل الضمانة له في الحصول على الفرص السعيدة في القضايا التي يخوض تجربته فيها ويحصل على نتائجها، بل إنّها قد تدمّره إذا تحوّلت إلى حالة من الفوضى في الطغيان، أو اهتزاز في التوازن، أو امتدادٍ في الغرور الذي يوحي بانتفاخ الشخصية في نظرة الإنسان المَرَضيّة لنفسه وتعامله مع غيره؛ فإنَّ مثل هذه الآثار السيّئة في صورة الانحراف بما  تمثّله كلمة الذنوب في الأفكار والأعمال في الواقع الفكري والعملي، لا بدّ من أن تنتهي إلى نهاياة سلبية، لأنّ القوّة سوف ترتد عليه لتقتله عندما تصبح طاقةً مجنونة تتحرّك بطريقةٍ جنونية لتطبق عليه، تماماً كمن يحمل الحجر ليكسر رأسه بدلاً من أن يكسر به رأس عدوّه.

وهذا هو الذي عبَّرت عنه الآية الكريمة في قوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِم مِّدْرَاراً وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ} وليس من الضروري أن يكون الإهلاك بالذنوب بمعنى العقاب الإلهي الذي ينزله الله عليهم بسبب ذنوبهم، بل قد يكون بمعنى الآثار السيّئة التي هي النتائج المتلازمة مع الأعمال على هدى قوله تعالى في آيةٍ أخرى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم : 41] ليذوق الإنسان وبال أمره.

وعلى ضوء هذا، لا بدّ للإنسان ـــ فرداً أو مجتمعاً ـــ من أن يدرس ـــ بموضوعية ـــ اتّجاهاته الفكرية والعملية المنحرفة بشكلٍ خاص في خصائصها وفي نتائجها الإيجابية والسلبية، ليعرف كيف يحرّك قوّته بوعي ويحصل على نتائجها بمسؤولية واتّزان، ويدرس التاريخ دراسة الباحث في حركة التجربة ونتائجها.

                           *****

الإنسان واحترام العقل

3 ـــ إنَّ الله أراد للإنسان أن يفكّر في كلّ ما تعرضه عليه الرسالات ويقدّمه إليه الرسل من آيات الله ودلائل قدرته ومواقع عظمته ونعمته، ممّا يمثّل الحُجّة عليه في خطّ الشريعة، لأنّ الله يتعامل مع الإنسان من خلال عقله الذي أعدّه ليرشده إلى الحقّ، وليقوده إلى المعرفة الواعية المنفتحة على حقائق الحياة في دلالاتها ونتائجها، وهذا هو المنهج القرآني الذي أراده الله للإنسان عقلاً وإرادة وحركة مسؤولية في الحاضر والمستقبل.

إنّ الله يحترم في الإنسان عقله ويريد أن يأخذ بنتائجه القطعية الحاسمة من خلال التأمّل والتفكير، فإذا لم يحترم الإنسان هذه الطاقة الإلهية المقدّسة في وجوده، فعليه أن يواجه المسؤولية بكلّ سلبياتها على صعيد الدنيا والآخرة.

                           *****

3 ـــ من الأساليب التربوية لتعميق الشعور بالقوّة:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ اللّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ يُحْيِـي وَيُمِيتُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ*وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ*وَلَئِن مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ} [آل عمران: 156 ـــ 158].

                           *****

معاني المفردات:

{ضَرَبُواْ}: سافروا وقطعوا المسافات البعيدة للتجارة أو طلب العلم أو نحو ذلك.

{غُزًّى}: جمع غازٍ، نحو ضارب وضرّب، وطالب وطلّب، والمراد به غزاة من الغزو، أي: محاربين للعدوّ.

                           *****

هذا نداءٌ من الله للمؤمنين يستهدف إفراغ مشاعرهم من السلبيات العاطفية الضاغطة التي تهيمن على الروح والفكر والوجدان، فتنحرف بها عن الخطّ الإيماني الأصيل في التصوّر والشعور، فتدفعها إلى الاستسلام لحالات الضعف التي تهزم مواقفها من ناحية نفسية قبل أن تنهزم في معركتها من العدوّ، ولذلك أراد الله سبحانه أن يعيش المؤمن في مواقعه الإيمانية فكرياً وروحياً وعمليّاً، فيظلّ في وعيٍ دائم لمقتضيات الإيمان، بعيداً عن الضغوط العاطفية السلبيّة، فيرصد مشاعره في اتجاهاتها الإيجابية والسلبية، ويُراقب الكلمات التي يسمعها في ما يختبئ في داخلها من خلفيّات خيّرة أو شرّيرة، ويربط ذلك كلّه بالموقف الإسلامي في خطواته العملية في الحياة، ليتعرّف على مدى تأثير تلك الأشياء عليها في ما تستتبعه من اهتزازٍ أو ثبات.

إنَّ الله يثير ذلك ـــ في ما نستوحيه ـــ في هذا النداء الذي يكشف للمؤمنين بعض الأوضاع التي يعيشها الكافرون الذين يخوضون المعارك المنطلقة من حالات الغزو فيفقدون فيها بعض إخوانهم في المعركة، أو يسافرون ويضربون في الأرض فيتعرّضون لبعض أخطار السفر فيموتون تحت تأثيرها؛ فإذا حدث ذلك كان ردّ الفعل لديهم أن يطلقوا التمنّيات الحزينة والافتراضات غير الواقعيّة، فيقولون: لو كان هؤلاء الذين ماتوا عندنا، فلم يخرجوا إلى الغزو وإلى السفر لظلُّوا أحياءً، لأنّهم يبتعدون بذلك عن أسباب الموت، كما ابتعدنا عنها فبقينا أحياء. وتتحوّل هذه الكلمات لديهم إلى مشاعر تتفاعل في وجدانهم وتملأ قلوبهم بالحسرة، في ما أودعه الله في تكوين الإنسان من ارتباط المشاعر السلبية بالأفكار غير الواقعية البعيدة عن خطّ الإيمان. ويبتعد الإنسان من خلال ذلك عن الحركة المستقبلية نحو أهدافه الكبيرة، وتتجمّد مشاريعه، فيخاف من السفر وأخطاره إذا دعته المصلحة إلى ذلك، فيتركه استسلاماً لحالة الخوف من الموت، ويخشى من نتائج المعركة التي تفرض عليه حياته أن يخوضها، فيبتعد عنها ويجلس في بيته مهزوماً، خشيةً من الموت، فتتجمَّد أوضاعه تبعاً لذلك.

إنَّ هذا النداء يحذّر المؤمنين الذين قد يعيشون في مجتمع الكافرين فيتأثّرون بأساليبهم العاطفية، لا سيّما في حالات الألم الشديد، فتتأثّر بذلك مسيرتهم في الجهاد الذي يفرضه عليهم إيمانهم أمام التحدّيات الدائمة الحاضرة والمستقبلة من قِبَل الكافرين، ويفقدون حركة إيمانهم في الداخل، فإنَّ المؤمن يعتقد أنّ الحياة والموت بيد الله لا بيد الإنسان، وأنَّ ظروف الموت وأسبابه ليست محصورة في نطاق الأخطار التي تواجه الإنسان، بل ربّما يموت الإنسان في حالة السلم وينجو في حالة الحرب، وقد يخرج سليماً من قبضة الخطر ويقع صريعاً في حالات الاسترخاء. وبذلك كانت القضية لدى المؤمن هي أن تكون حياته لله، وأن يكون مماته لله من حيث طبيعة الهدف الكبير الذي يشمل حياته، فلا مجال أمام ذلك للتراجع عن الخطر والابتعاد عن المعركة والاستسلام للانفعالات العاطفية التي تصيب الإنسان عندما يفقد حبيباً أو قريباً أو صديقاً، بل هو الصبر والثبات والرضى بقضاء الله والشكر على نعمة الجهاد، والفرح الروحي الذي يستشعره المؤمن في كلّ هذه الحالات بأنّه تحت سمع الله وبصره، فتهتزّ مشاعره أمام النظرة الإلهية الراحمة عند مواقف الطاعة المخلصة الممتدة في خطوات الإيمان.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ} الذين لا تزال الرواسب التاريخية في مجتمعهم الذي كان يتخبّط في تقاليد الجاهلية ويتأثّر بمفاهيمها، تفرض نفسها عليهم بطريقةٍ لا شعورية، أو تتحرّك في الأحاديث العامّة الخاضعة لأجواء الحزن في مشاعره السلبية في مواجهة الإنسان للجانب العاطفي في حياته المتأثّر بالمصائب الطارئة عليه التي تصيبه في أقربائه وأصدقائه وأحبّائه. أيُّها المؤمنون، لا تتأثّروا بتلك الرواسب، واندفعوا إليها بوعي الإيمان الحقّ المنفتح على سُنّة الله في الحياة وحكمته في تقديره للأمور، من حيث هو مالك كلّ شيء، والمهيمن على الأمر كلّه، لتطردوها من نفوسكم، فلا تسقطوا أمامها ولا تتأثّروا بها بعيداً عن الخطّ الإيماني الشعوري والفكري والعملي، {لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ} بالله وابتعدوا عن وعي الحياة في كلِّ أحداثها المتنوّعة في حركة الآلام في واقع الإنسان في مسيرته في الدُّنيا، من خلال تعقيداتها الكثيرة وتأثيراتها عليه، فلم يتعمَّقوا في معناها من حيث ارتباطها بإرادة الله وقدرته وتخطيطه للنظام الكوني والإنساني في سننه في الكون والحياة والإنسان، بل استغرقوا في الجانب الحسّي المحدود الذي يتطلّع إلى الأمور من جانب واحدٍ في الأفق الضيّق، لا من جميع جوانبها في الأفق الواسع، وهكذا واجهوا مسألة مصابهم بإخوانهم بهذا المنطق السطحي الانفعالي، فتحدَّثوا {وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ} الذين يلتقون معهم في النسب أو في النوع والخصائص القريبة، والمراد بقولهم لهم، هو الحديث عنهم لأجل التعبير عن تمنّياتهم لهم بالأخذ بأسباب السلامة والتنديد باقتحامهم أخطار السفر والحرب، كما لو كانوا أحياءً معهم {إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ} وسافروا. وابتعدوا في قطع المسافات الشاسعة للتجارة أو غيرها، {أَوْ كَانُواْ غُزًّى} في ساحة المعركة الضارية ضدّ الأعداء، {لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا} مقيمين بيننا في حالة الدّعة والأمن والاسترخاء والبُعد عن مواقع الأخطار {مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ} لأنَّ أسباب الحياة متوفّرة لدينا، وعوامل الخطر بعيدة عنّا، ولذلك امتدّت الحياة بنا بكلّ عناصرها ولذّاتها.

وهكذا كانوا يتحدّثون بأسلوب المتمنّي اليائس الحزين الذي يتطلّع إلى الأحداث من مواقع انفعاله لا من موقع تفكيره، ليوجّه مشاعره نحو السقوط العاطفي، فيتحوّل ذلك إلى حالة قريبةٍ من اليأس {لِيَجْعَلَ اللّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ} يجترونها في أحاديثهم الانفعالية. واللام هنا للعاقبة، أي لتكون عاقبة ذلك الحسرة النفسية بدلاً من الطمأنينة الروحية في مواجهة البلاء على أسلوب قوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} [القصص : 8].

وفي هذا تحذير للمسلمين أن لا يقولوا هذا القول، ولا يفكّروا بهذه الطريقة، لأنّها تبتعد بالإنسان المؤمن عن عقيدته، وتملأ بالحسرة نفسه، فيسقط بروحه أمامها، وتعطّل حركته نحو الجهاد في مواجهة الأعداء، وتسقط طموحه في الوصول إلى المواقع المتقدّمة في الحياة {وَاللّهُ يُحْيِـي وَيُمِيتُ} فهو الذي يملك أمر الحياة والموت من خلال سنّته المتحرّكة من مواقع إرادته في خطّ حكمته وقدرته، فقد يموت الإنسان في داره في حالة الأمن والدّعة، وقد يعيش الإنسان المتحرّك في مواقع الخطر في السفر الشاقّ والحرب الخطرة، {وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فهو المطّلع على كلّ أعمالكم في سرّكم وعلانيّتكم، وعليكم مراقبته في كلّ حركة أفكاركم ومشاعركم وأقوالكم وأفعالكم، لتنسجموا مع إيمانكم الذي يحقّق لكم رضاه.

 

تأكيد الموقف بحقيقتين إيمانيّتين:

ثمّ يؤكّد الله سبحانه للمؤمنين في هذا النداء حقيقتين إيمانيّتين في ما يريده لهم أن يعيشوه من حقائق الإيمان، ليستثيروا بذلك الأجواء التي تمنع العواطف السلبية المضادّة من النموّ والتأثير على مجرى التفكير والشعور.

الأولى: في قوله تعالى: {وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ}.

إنّ المؤمنين الذين يعيشون حياتهم في خطّ الطاعة لله والجهاد في سبيله، فيقتلون في سبيل الله أو يموتون في طريق الطاعة، لا يعيشون الشعور بالخسارة إزاء الموت، بل يتطلّعون إلى الرّبح الأعلى، لأنّ الإيمان يخضع المشاعر الإيمانية للتطلّع إلى ما عند الله من المغفرة والرحمة، لأنّها السبيل الوحيد إلى الطمأنينة والسعادة الخالدة التي تصغر أمامها كلّ رغبات الدُّنيا وامتيازاتها وشهواتها وأموالها، لأنّها النعيم الزائل الذي لا يخلو من الكثير من الآلام، بينما تمثّل الآخرة في نعيمها الخلود واللّذة التي لا يشوبها الألم من قريب أو من بعيد. وفي ضوء ذلك، لا بدَّ للمؤمنين من استقبال أخطار الجهاد بالإقدام والإرادة القوية بعيداً عن كلّ السلبيات العاطفية، ليستقبلوا ألطاف الله في مغفرته ورحمته.

الثانية: في قوله تعالى: {وَلَئِن مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ}.

إنَّ المؤمن يعرف ـــ من خلال إيمانه ـــ أنّ الموت لا يمثِّل النهاية المحتومة التي ينتهي إليها وجوده، فيغرق في أمواج العدم الباردة التي تملأ كيانه بالصقيع، حتى يعيش الحسرة أمام الموت، لأنَّه يفقد بذلك قوّة الحياة في نعيمها ولذّتها، ولكنّه يمثِّل الجسر الذي يلتقي فيه الإنسان بالله عندما يحشر إليه مع كلّ الخلائق، فيجد عنده الأمن والطمأنينة عندما يقدّم إليه حسابه فيوفيه أجره خالصاً كاملاً غير منقوص، فيدفعه ذلك إلى استقباله حالة الموت بروح هادئة مطمئنّة تستعجل لقاء الله طلباً لما عنده، وذلك هو الفوز العظيم.

ماذا نستوحي من الآيتين:

وقد نحتاج إلى استيحاء هاتين الآيتين في واقع الجهاد الذي يخوضه المؤمنون الآن عندما يلتقون بالمشاعر السلبية الحزينة التي يثيرها المجتمع المنحرف الخاضع لأساليب الكفر، فيواجهون التجربة الصعبة عند أوّل حالة جهاد يخوضونها ويفقدون فيها إخوانهم، وتتحرّك التأوّهات والتمنّيات لتثير أمام المؤمنين مشاكل عاطفية ونفسية. فقد ينبغي لنا ـــ في هذا المجال ـــ أن نثير هذه الأجواء القرآنية بشكلٍ عميق تستيقظ فيه روحية الإيمان لتُحرّك المشاعر الإنسانية في الاتجاه الصحيح، وتوجّهها إلى الوجهة المستقيمة، وذلك في ضمن خطّة تربوية مستمرّة تعمل لتفريغ وجدان المسلمين من السلبيات الفكرية والشعورية التي قد يلتقون بها في مجتمعاتهم، فيفقدون من خلال ذلك أصالة الشخصية وعمقها وامتدادها، لأنَّ مشكلة المسيرة الإسلامية في كثير من مظاهرها، هي في أنَّ المسلمين يغفلون عن بعض مستلزمات الإيمان، فيندمجون في تقاليد المجتمع وعاداته وتصوّراته، ويتحوّلون ـــ عندئذٍ ـــ إلى طاقاتٍ تتحرّك باسم الإسلام، ولكن بمؤثّرات غير إسلامية، وتتراكم من خلال ذلك في واقعهم الأوضاع والأساليب غير الإسلامية، وتفسح المجال للأفكار المنحرفة لتدخل في عمق الفكر والشعور بطريقة خفيّة، فتتأثّر بذلك خطواتهم لتنحرف إلى خطّ الكفر من حيث لا يشعرون.

                           *****

 4 ـــ مراقبة خطط الباطل: عنصر قوّة

{وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} [إبراهيم : 46].

                           *****

يحاول الباطل بكلّ جنوده وأسلحته وأدواته، أن يعقّد الظروف، ويثير المشاكل، ويخلق المنازعات والمشاحنات، ويحرّك الرواسب والخلفيّات، ويبعث الشكوك والشبهات، ويمارس كلّ الأساليب الانفعالية في مواجهة الأساليب العقلانية، ويضع الخطط الخبيثة وكلّ ما يدخل في دائرة الكيد والمكر والحيلة والخداع، لمحاربة الحقّ في ساحة صراعه المرير معه.

                           *****

مكر أهل الباطل تزول منه الجبال:

{وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ} في كلّ المواقف والأعمال والأوضاع التي أثاروها في وجه الحقّ {وَعِندَ اللّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} لا يغيب عنه شيءٌ من خفاياه ولا يعزب عن علمه مثقال ذرّةٍ ممّا يخفيه الناس من مؤامراتهم وخططهم الخبيثة، وذلك هو ضمان حماية المسيرة الإيمانية الواعية المنفتحة على الحقّ وأهله، واستمرار مضيها في طريقها المستقيم، بكلّ قوّةٍ وعزيمةٍ وإخلاص، {وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} بما يمثّله من ضخامةٍ وصلابةٍ وشدّة ودهاءٍ.

وقد نستوحي من ذلك نقطتين:

مراقبة خطط الأعداء:

الأولى: متابعة مخطّطات أهل الباطل والكفر والضلال والطغيان، ومواجهة نتائجها على مستوى القاعدة والأسلوب، إضافة إلى التفكير الدقيق بالخصائص التي تميّز هذه الخطّة أو تلك، وبالعناصر الإيجابية أو السلبية هنا وهناك، وبالنتائج العملية التي تحصل من هذه الحركة أو تلك، وهكذا تنطلق الدراسة الشاملة، لتضع بين أيدينا المزيد من المفردات، والكثير من القضايا التي تعيننا على وضع الخطّة المضادّة التي تحمي الساحة من جهة، وتواجه الصراع بالقوّة التي تهزم الآخرين من جهةٍ أخرى.

إنّ المسألة التي يجب أن تحكم موقفنا في الهجمة الشرسة التي تندفع نحونا من مواقع الباطل وخططه الشرّيرة، هي أن لا نتحرّك بعقلية ردّة الفعل العاطفية، التي تثير في النفس الحزن والألم، وتوحي للفكر بالسلبيّة، وتدفعنا للمزيد من الخوف والضعف والجمود، بل أن نتحرّك بعقلية الفعل الذي يخطّط في اتجاهين:

أحدهما: يركّز الحقّ على أساس قاعدة فكرية ثابتة تمدّ الجوانب الأخرى، سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية وعسكرية، بشكلٍ متوازن ومتواصل، ليعرف العاملون قاعدة الانطلاق، وخطّ السير، ونهاية الطريق، بعيداً عن كلّ الرياح القادمة من بعيد، الملائمة وغير الملائمة.

ثانيهما: يخطّط ضدّ الباطل، من موقع المفاهيم والأُسس التي تحكم تلك القاعدة أو تتفرّع منها، وبذلك لا يكون التحرّك لوناً من ألوان ردّ الفعل، بل فعلاً يهزم فعل الآخر وردّ فعله، في عملية ملاحقة لكلّ المتغيّرات الواقعية التي تطرأ على الظروف الموضوعية المحيطة بالصراع على أكثر من صعيد.

إنّ من الضروري للعاملين أن لا يكونوا في حالة انفصال عن حركة الساحة من حولهم، وما يطرأ عليها من اهتزازاتٍ ومتغيّرات، بل عليهم أن يرتبطوا بأحداثها ارتباطاً عضوياً، بحيث يصبحون جزءاً فاعلاً من حركة الواقع، لا يستكين لظروف الكلّ، بل يعمل على أن يعطي الكلّ من حيويّته وفاعليّته وحركيّته، قوّةً جديدة، وحيويّةً جديدة.

                           *****

 

 

 

 

 

القيادة

القيادة الشرعية وحدها لها حقّ الطاعة ـــ تقدّم موقع الرسالة على موقع القيادات ـــ مسؤولية القيادة تمنح بعد الاختبار ـــ واخفض جناحك لمن اتّبعك من المؤمنين.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

1 ـــ القيادة الشرعية وحدها لها حقّ الطاعة:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء : 59].

                           *****

معاني المفردات:

{وَأُوْلِي الأَمْرِ}: أصحاب الأمر والشأن فالأمر من شأنهم وهم حقيقون به فلا يخالفون أمر الله وأمر رسوله، وهم  الأئمّة المعصومون، وقيل غير ذلك.

{تَأْوِيلاً}: مآلاً ومرجعاً وعاقبة، والمآل: المرجع والعاقبة.

                           *****

في هذه الآية، يريد الله سبحانه أن يخطّط للمسلمين ويدخلهم في أجواء النظام، على أساس النظرية والتطبيق معاً، فيدعوهم إلى اعتبار الطاعة لله وللرسول ولأولي الأمر قاعدةً ثابتة، ترتكز عليها الحياة العامة؛ وهذا ما عالجته هذه الآية في دعوتها إلى طاعة الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ}؛ فإنّها أساس الإيمان، لأنّ معناه العميق يتمثّل في الإحساس بعبودية المؤمن لله في كلّ أفكاره وأقواله وأفعاله، ممّا يدفعه إلى السير في حياته وفق أوامر الله ونواهيه، في ما يحبّه وما لا يحبّه؛ وفي دعوتها إلى إطاعة الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، {وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ} في ما تمثّله من السير على الخطّ الذي يرسمه الرسول في تخطيطه للمسار العملي في تفصيلات الأمور، وجزئيات القضايا، وحركة الصراع، وقيادة الأُمّة إلى أهدافها وتحريك الساحة نحو المواقف الحاسمة في مواجهة التحدّيات، وتفجير الطاقات في سبيل الإبداع والعطاء. وهكذا كانت سُنّة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، المتمثّلة في قوله وفعله وتقريره، الوجه التفصيلي والتطبيقي للمفاهيم القرآنية العامّة؛ فلا مجال للأخذ بالقرآن بشكلٍ دقيق، إلاّ بالرجوع إلى السُنّة لنعرف من خلالها تفصيل ما أجمله القرآن، وإيضاح ما أبهمه، وتخصيص ما أطلقه، فقد أوكل الله إلى رسوله أمر ذلك كلّه، كما أوكل إليه القيام بإدارة شؤون الرسالة وقيادة الأُمّة، وذلك بما أوكله إليه من شؤون الحاكمية بالإضافة إلى الرسالة، عندما جعله أولى بالمؤمنين من أنفسهم، واعتبره حكماً وحاكماً في كلّ ما اختلفوا فيه، لتسير الحياة على خطّين: خطّ الرسالة، وخطّ القيادة؛ لتكتمل لها شروط الثبات والتقدّم والنجاح. ولهذا كان التأكيد في أكثر من آية على إطاعة الرسول، إلى جانب إطاعة الله، لئلا يستقلّ الناس في قضايا التطبيق والتخطيط، بعيداً عن القيادة الأولى الرسولية، التي تعرف من عمق المفاهيم وامتدادها، المدى الذي يمكن أن تتحرّك فيه وتصل إليه.

                           *****

الرسول جامع لصفات الحاكم والداعي:

وربّما نستوحي بعض ملامح ذلك في قوله تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً} [النساء : 65]. وهذا هو ما ينبغي لنا التعرّف إليه من شخصية الرسول في الإسلام، فنجد فيه صفة الرسول المبلّغ الداعية، كما نجد فيه صفة القائد الحاكم المحارب، الذي يخطّط وينفِّذ، ويمسك بيده زام الأمر كلّه، خلافاً لبعض الباحثين الذين حاولوا اقتصار دور النبيّ على مهمّة التبليغ والدعوة، وذلك على أساس بعض الآيات التي تشير إلى ذلك مثل قوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ*لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية: 21 ـــ 22]. ولكن غاب عن فكر هؤلاء أنّ مثل هذه الآيات كانت تتحدّث عن الجانب الرسالي في شخصيّته، لتحدّد له دوره في إثارة الإيمان في نفوس الناس من خلال الدعوة والإقناع، لأنّه لا يملك السيطرة على كلّ شروط الإيمان الداخلية في أفكارهم ومشاعرهم ومؤثّراتها الخاصة والعامة، بل الله هو الذي يملك أمر ذلك كلّه، من خلال ما يملكه من شؤون الإنسان في ما يريده وما لا يريده، ولم يكن لهذه الآيات أيّ اتّجاه في الحديث عن الجانب التطبيقي أو التنفيذي للمهمّات الرسالية العملية في الحياة.

ثمّ تحدّثت الآية عن إطاعة فئة أخرى {وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ}، الذين أوكل الله إليهم أمر القيام بإدارة شؤون الناس وذلك من خلال القواعد التي وضعها للقائمين على الأمر، لما يتّصفون به من صفات وما يقومون به من مسؤوليات ومهمّات، ولما وضعه من التسلسل في القيادة، فقد لا يكون لأولي الأمر إطاعة مستقلّة إلاّ من خلال ارتباطها بإطاعة الرسول، في ما جعله الله له من ذلك، لأنّهم لا يملكون مهمّة التشريع، بل كلّ ما هناك أنّهم يملكون التحرّك في نطاق ساحته على أساس تطبيقي.

                           *****

من هم أولو الأمر؟

ولكن من هم أولو الأمر؟ هل هم الذين يتصدّون لولاية الأمر بطريقة واقعية، انطلاقاً من الوسائل التي يملكونها، ممّا يهيّئ لهم الإمكانات العملية للسيطرة والاستيلاء على الحكم، بعيداً عن الشرعية الإسلامية؛ وذلك من خلال قوّة السلاح والمال والرجال؟ هذا ما توهّمه البعض، ممّن يسيرون في حياتهم وراء الحكّام، مهما كان لونهم ووضعهم وطريقتهم في الحكم، ويطلبون من أتباعهم أن يخضعوا لهم ولا يثوروا في وجودهم مهما فعلوا أو ظلموا، لأنَّ الله أمرنا بإطاعة أُولي الأمر، ولم يحدّد لنا صفتهم لنحدّد نحن ذلك في المجال العملي. وقد استطاع هذا المفهوم أن يمكِّن الظالمين والمنحرفين والمستكبرين من السيطرة على مقدّرات الأمور، ويجمّد كلّ إمكانات الثورة ضدّهم من قِبَل الشعوب المسلمة المضطهدة. ونحن نعلم أنّ الله قد أقام الولاية على أساس العدل، وركّز السلطة على أساس الإيمان والتقوى والسير على الصراط المستقيم، من خلال ما جاءت به الآيات والأحاديث والروايات؛ ممّا يمكن أن يكون أساساً لتقييد هذا المفهوم بذلك كلّه.

وقال البعض: إنّه الأُمّة؛ فهي التي تمثّل السلطة الشرعية الصالحة للحكم. وخلاصة فكرتهم أنّ إطلاق الأمر بالطاعة لشخص أو لجماعة يفرض العصمة فيه، لأنّه إذا كان ممّن يجوز عليه الخطأ، كان الأمر بإطاعته ـــ بشكلٍ مطلق ـــ أمراً بالسير على وفق أوامره ونواهيه حتى في حالات الانحراف عن الحقّ، وهو غير جائز. وقد دلّ الدليل على عصمة الأُمّة، في رأي هذا القائل، بالحديث المعروف لدى كثير من المسلمين "لا تجتمع أُمّتي على ضلالة..."(1)، ولكنّ هذا الرأي لا يرجع إلى قاعدة مركّزة واضحة، لأنّ هذا الحديث موضع جدل بين العلماء في صحّته وعدم صحّته، ولأنّ إجماع الأُمّة كلّها لم يتحقّق في أيّ وقت على أي فرد أو جماعة في ولاية الأمر. وأمّا اعتبار قول أهل الحلّ والعقد، فهو قابل للأخذ والردّ، في تعيينهم، وفي الحكم بإصابتهم في الرأي، وفي غير ذلك من الأمور التي يمكن أن تقع محلاًّ للنقاش، ممّا لا يتّسع المجال لبحثه.

وقال علماء الشيعة الإمامية: إنّ المراد بهم الأئمّة الاثنا عشر المعصومون، لأنّهم الذين ثبت عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) الأثر في ولايتهم، كما دلَّت آية التطهير على عصمتهم، بعد أن كانت الآية دليلاً على وجوب عصمة أُولي الأمر لإطلاق الأمر بالطاعة، كما ألمحنا إليه آنفاً. وقد وردت أحاديث كثيرة مستفيضة في إرادة هذا المعنى من الآية.

وقال البعض: إنّهم صحابة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)؛ وقال بعضهم: إنّهم أمراء السرايا والجيوش والعمّال الذين كان يستعملهم رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، على الناس.

وقد تكون الإفاضة في تحليل الأقوال المختلفة في تفسير هذه الكلمة، تستدعي المزيد من الأبحاث الكلامية، التي قد لا يكون مجالنا التفسيري متّسعاً لها، لأنّ القضية لا تنطلق من بحث في المفهوم؛ فهو واضح تمام الوضوح، بل البحث في المصداق، في ما يختلف فيه المسلمون من شؤون الولاية ممّن يملك السلطة في أمور المسلمين، فلنقف من ذلك عند حدود العرض الذي عرضناه، مع الإشارة إلى بعض الملاحظات القصيرة.

1 ـــ إنّ الأمر بالإطاعة لا يفرض دائماً عصمة الشخص المطاع، بل ربّما يكون وارداً في مجال التأكيد على حجّية قوله، كما في الكثير من وسائل الإثبات التي أمرنا الله ورسوله بالعمل بها والسير عليها، في الوقت الذي لا نستطيع التأكيد بأنّها تثبت الحقيقة بشكلٍ مطلق، وكما في الكثير من الأحاديث التي دلَّت على الرجوع إلى الفقهاء الذين قد يخطئون وقد يصيبون في فهمهم للحكم الشرعي، وذلك انطلاقاً من ملاحظة التوازن بين النتائج الإيجابية التي تترتّب على الاتباع لهم، وبين النتائج السلبية التي تحصل من عدم ذلك، مع غلبة الجوانب الإيجابية على الجوانب السلبية. وعلى ضوء هذا، فإنّنا لا نستطيع اعتبار الأمر بالطاعة دليلاً على تعيين المراد من أُولي الأمر بالمعصومين، بعيداً عن الأحاديث الواردة في هذا المجال.

2 ـــ إنّ من الممكن السير مع الأحاديث التي تنص على أنّ المراد من أُولي الأمر، الأئمّة المعصومون، مع الالتزام بسعة المفهوم؛ وذلك على أساس الأسلوب الذي جرت عليه أحاديث أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، في الإشارة إلى التطبيق بعنوان التفسير، للتأكيد على حركة القرآن المستقبلية في القضايا الفكرية والعمليّة الممتدّة بامتداد الحياة، لأنَّ ذلك هو السبيل الأفضل لوعي الإنسان المسلم للفكرة، على أساس التطبيق الواضح من أجل أن يرتبط بالواقع بشكلٍ مؤكّد.

3 ـــ إنّ هذا الاحتمال الذي يؤكّده إطلاق الآية يجعلنا قادرين على التمسّك بالآية، في ما يُثار فيه الجدل كثيراً من أمر الولاية في حال غيبة الإمام، في ولاية الفقيه، أو في ولاية أهل الشورى من المسلمين، وذلك في الحالة التي يصدق عليهم أنّهم أُولو الأمر من ناحية واقعية.

إنّ هذه الملاحظات قد تستطيع أن تثير أمامنا بعض الأفكار حول الموضوع، من أجل الوصول إلى نتيجة حاسمة في مجال التطبيق والاستنتاج؛ والله العالم.

                           *****

ميزان فضّ المنازعات في الإسلام:

{فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} فقد يتنازع المؤمنون في قضاياهم الفكرية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية ونحوها، فكيف يجب أن يعالجوا أمثال هذه المنازعات؟ ومن هو المرجع؟ إنّ الآية تحدّد لنا الميزان الذي يزن لنا الحقيقة، فيعرّفنا الخطّ الفاصل بين الحقّ والباطل؛ فليرجعوا إلى الله من خلال كتابه المجيد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ومن خلفه، وليهتدوا بهدي رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وسنّته، في ما لا يستطيعون فهمه من القرآن؛ فهما المصدران المعصومان اللّذان نستطيع من خلالهما الوقوف عند الحقّ لنعمل به، والانطلاق ضدّ الباطل لنجتنبه، وذلك هو دليل الإيمان بالله واليوم الآخر، في ما يفرضه على الإنسان من الالتزام بكتاب الله وسُنّة نبيّه؛ لأنّ الإنسان الذي لا يسير على هذا الخطّ هو إنسان لا يعيش الانتماء إلى خطّ الله ورسوله، لما يعنيه الانتماء من الابتعاد عن كلّ خطّ آخر غيره، سواء كان من وحي نفسه أو من وحي الآخرين.

وربّما كان من الضروري لهذا الحديث، الإشارة إلى أنّ الآية توجّهنا إلى السير في هذا الخطّ في اتّجاهين: الاتجاه الفكري، والاتجاه العملي. فإذا اختلفنا في الخطوط الفكرية السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي يرتكز عليها نظام المجتمع، فيجب علينا الانطلاق إلى الله والرسول، لنرسم الخطّة على أساس المفاهيم والأحكام والوسائل التي يتضمّنها الكتاب والسُنّة، لنحدّد الخطّ الإسلامي من غيره عندما تشتبك الخطوط أمامنا وتشتبه؛ فهو هو الذي يحفظ للرؤية الإسلامية وضوحها وسلامتها من الانحراف والخلل، وهذا هو الذي يؤكّد للمسيرة الإسلامية أصالتها وثباتها وتوازنها، ولهذا حضت الكثير من الأحاديث المسلمين على ضرورة تقديم الأساس بين صحيح الحديث وباطله، ممّا يروى عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وأئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، بإرجاعه إلى كتاب الله وسُنّة نبيّه (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، مؤكّدة هذه الروايات بأنّ "كلّ حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف"(1) أو باطل، وما إلى ذلك من الكلمات التي تقترب من بعضها البعض.

وهذا ما ينبغي لنا مواجهته في ما يخوضه المفكّرون المسلمون من صراعات فكرية، يتحرّك بعضها في نطاق الإصرار على الرجوع إلى المصادر الأصيلة للإسلام في الفكر والتشريع والتخطيط وبناء الدولة وإقامة النظام، ويتحرّك بعض آخر، ليوفّق بين مفاهيم الإسلام القرآنية والنبويّة، وبين المفاهيم الحديثة التي انطلقت في تفكير الفلاسفة الأوروبيّين، وذلك من أجل المحافظة على تحديث الإسلام وعصرنته حتى ينسجم مع مسيرة العصر الحضارية، وربّما يتحرّك في كلا الاتجاهين متطرّفون هنا وهناك، ليتجمّد هؤلاء على النصّ في لفظه بعيداً عن روحه، وليتحرَّر أولئك فيتركوا النصّ تماماً ليستلهموا روحه بطريقة مائعة، وقد أثار هذا الاختلاف جوّاً سلبياً في الساحة الإسلامية على مستوى الفكر والعمل.

والآية التي نحن بصددها ليست إلاّ نوعاً من التذكرة، بأنّ النزاع في فهم الفكرة، وفي طبيعة الخطّ، قد يكون له مبرّراته الداخلية والخارجية، ولكنّ ذلك لا يتأتّى بطريقة ذاتية، بل بالرجوع إلى القواعد الفكرية القرآنية والنبويّة لتكون هي الميزان في الفكر الإسلامي الصحيح، في مواجهة الفكر الزائف؛ فإنّ ذلك هو علامة الإيمان الحقّ. أمّا في الجانب التطبيقي الذي يحكم المسيرة، فالأمر لا يختلف عن الجانب الفكري؛ لأنّ قضية الإسلام ليست الإيمان بالفكرة على أساس المعرفة فحسب، بل العمل على خطّ الإيمان في حركة الواقع، فلا يكفي في سلامة المسيرة أن يكون الفكر صحيحاً، بل ينبغي أن يكون التطبيق سليماً، لتتكامل الشخصية الإسلامية وتتوازن. وفي ضوء ذلك، لا بدّ أن تحلّ مشاكل الاختلاف في التطبيق على هدى القرآن والسُنّة، ليعرف الإنسان المؤمن أنّ حياته لم تبتعد عن فكره وإيمانه.

{ذَلِكَ خَيْرٌ}: للإنسان في حياته في ما يثيره فيها من نتائج طيّبة.

{وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}: الظاهر أنّ المراد منها أحسن مآلاً ومرجعاً؛ وذلك من خلال المصير الذي ينتهي إليه الإنسان المؤمن الذي يرجع إلى الله، فيجد عنده الرحمة والرضوان واللّطف الكبير.

                           *****

2 ـــ تقدّم موقع الرسالة على موقع القيادات:

{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران : 144].

                           *****

في هذه الآية تأكيد قرآنيّ على أحد المبادئ الإسلامية الإيمانية، وهو أنّ غياب القيادة، مهما كانت عظيمة، لا يوقف المسيرة ولا يُلغي الرسالة ـــ المبدأ، لأنَّ عظمة القائد في حساب الرسالات لا تجمّدها عند حدود حياته لتنتهي بانتهاء حياته، بل تمثِّل ـــ بدلاً من ذلك ـــ خطوةً أولى نحو الانطلاقة المستمرّة في الدرب الطويل، ومرحلة متقدّمة من مراحل العمل، ثمَّ تتبع الخطوة خطوات على الطريق، وتنطلق المراحل الجديدة على درب المرحلة القديمة. فالرسالة هي الأصل والقاعدة، والقيادات المتتابعة تمثِّل دور الحَمَلة لها، فقيمتهم بمقدار ما يقدّمون لها من خدمات وتضحيات، وعظمتهم بقدر ما يواجهونه من مواقف الصدق والإخلاص، الأمر الذي يُلغي من المسيرة عبادة الشخصية التي توحي بأنَّ الشخص هو الأساس والرسالة شأن من شؤونه وميزةً من ميزاته، وليس الأمر بالعكس، كما هو منطق الرسالات. ولهذا كان القرآن حاسماً في معركة أُحُد عندما تعرّضت حياة الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) للخطر، وظنَّ بعض الناس أنّه قد مات، وصاح بعضهم: إنَّ محمّداً قد قُتل، وحدثت البلبلة والارتباك وانكفأ الناس عن النبيّ محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وما بقي معه إلاَّ قليل، وقال البعض: ليتنا نجد من يأخذ لنا الأمان من أبي سفيان، وقال آخرون: لو كان محمَّد نبيّاً لم يقتل، الحقوا بدينكم الأوّل، كما يروي المؤرّخون ذلك وغيره، في الخطّ السلبي للقضية. أمّا في الخطّ الإيجابي الذي يمثِّل الثبات على الإسلام حتى في غياب الرسول القائد، فتمثّله لنا القصّة التي ينقلها الطبري في تفسيره: "أنَّ رجلاً من المهاجرين مرَّ على رجل من الأنصار وهو يتشحّط في دمه(1)، فقال يا فلان، أشعرت أنَّ محمَّداً قد قُتل؟ فقال الأنصاري: إن كان محمّد قد قُتل فقد بلغ، فقاتلوا عن دينكم(2). وفي رواية أخرى ـــ يرويها الطبري أيضاً ـــ أنَّ أنس بن النضر مرَّ بعمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله في رجال من المهاجرين والأنصار، وقد ألقوا بأيديهم، فقال أنس: "ما يجلسكم؟ قالوا: قد قُتل محمَّد رسول الله. قال: وما تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله. واستقبل القوم فقاتل حتّى قتل"(3).

                           *****

الارتباط بالرسالة لا بالشخص:

وهكذا نجد القاعدة الإسلامية التي تربط الإنسان المؤمن بالرسالة ولا تربطه بالشخص إلاَّ من خلال الرسالة، فلا تموت الرسالة بموته، ممثّلة في بعض النماذج المؤمنة في ذلك الوقت.

وقد وقف القرآن الكريم موقفاً حاسماً ـــ كما أشرنا إلى ذلك ـــ وأكَّد أنَّ الرسول محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) هو أحد رسل الله، جاء على فترة من الزمن، وجاهد في سبيل تبليغ هذه الرسالة حتى يربط الناس بالله من خلالها؛ فإذا مات ميتة طبيعيّة، أو قُتل في أيّة معركة من معارك الجهاد، كان على الرسالة أن تستمرّ، وعلى الناس المؤمنين بها أن يستمرّوا معها، ولا يجوز لهم أن ينقلبوا على أعقابهم فيكفروا أو ينحرفوا عن الخطّ؛ لأنّهم لم يرتبطوا بالرسول كشخص، بل ارتبطوا بالله ورسالاته من خلاله، وذلك هو قوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ} من رسل الله الذين أرسلهم الله إلى الناس ليبلّغوهم رسالاته، لينطلقوا في خطِّها المستقيم في خطّ العقيدة والالتزام، {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ} فقد مضت الرّسل من قبله وقاموا بمسؤوليّاتهم الرسالية خير قيام، وماتوا وقتل بعضهم، وسيموت محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) أو يُقتل كما ماتت الرّسل أو قتلت من قبله واستمرّت الرسالات من بعدهم ولم تتجمَّد عندهم، {أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ} من خلال سُنّة الله في عباده، {انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} وتراجعتم عن الالتزام بالرسالة التي هي التجسيد الحيّ لارتباط المؤمن بالله من خلال الارتباط برسالته، كمن يرجع القهقري في عملية تراجعيّةٍ قبيحة، في الوقت الذي كان يجب عليه مواصلة حركة السير في عملية تقدّم إلى الأمام، لا سيّما إذا كان الخطّ يمثِّل الامتداد في انفتاح الإنسان على الحقّ في امتداد المستقبل في واقع الحياة الإنسانية، {وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ} فيرتدّ عن دينه ويعود إلى الكفر، {فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً} لأنَّ الله غنيّ عن عباده، فلا ينفعه إيمان من آمن ولا يضرّه كفر من كفر من ناحية الذّات، فهو الذي خلقهم من دون حاجة، وهو القادر على إزالتهم من دون نقص، ولكنَّهم هم الذين يقعون في الضرر ويسقطون في هوّة الهلاك.

ثمَّ يصعّد الموقف الذي يؤكّد المبدأ، وهكذا قرّرت الآية أنَّ الذي ينقلب على عقبيه بعد موت الرسول، بأن يكفر أن ينحرف عن الحقّ الذي بلّغه الرسول وأوصى به، سوف يضرّ نفسه، لأنَّه يسير بها في طريق الهلاك والدمار، ولن يضرّ الله شيئاً، لأنَّ رسالات الله لا تتوقّف أو تتجمّد عند كفر كفر أو انحراف منحرف مهما كان دوره، ومهما كانت درجته وطبقته، فإنَّ المسيرة تبقى وتتقدّم، وأمّا الأشخاص فزائلون. ثمَّ انعطفت الآية إلى السائرين على خطّ الحقّ، فاعتبرت ذلك شكراً لله كما يجب أن يشكر، وهو ما يمثِّله الشكر العملي الذي يتحوّل إلى موقف للعمل، ولا يظلّ مجرّد كلمة تتحرّك في الشفاه، ووعدت هؤلاء بأنَّ الله سيجزيهم على ذلك جزاءً موفوراً {وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ}.

رفض الاستغراق الذاتي في الشخصية القيادية:

إنَّ هذه الآية تؤكّد الرفض الإسلامي لفكرة عبادة الشخصية بالاستغراق في ذاتياتها، بحيث يكون وجوده هو كلّ شيء في القضية، وذلك من خلال ذهنية التقديس للفرد التي تندفع في استيحاء العظمة للقائد بالدرجة التي تتوقّف فيها عنده وتنسى خطّ القيادة، وتذوب في الرّسول وتبتعد عن الرسالة؛ فكأنَّ الرسالة شأنٌ من شؤونه الخاصة لتكون العلاقة بها من خلال العلاقة به، وليس العكس، بحيث يكون الارتباط به من خلالها، كما نلاحظه في التأكيد القرآني على صفة الرسولية في الحديث عنه لتكون الصفة حاضرة في الوجدان الديني في حضور اسمه في الوعي الداخلي والالتزام العملي.

إنّنا لا نريد ـــ في هذا المجال ـــ أن نفصل بين شخصية الرسول وحركة الرسالة لنتصوّر وجود فاصل خارجي بينها وبينه، لأنَّ عظمة الرسول الذي اصطفاه الله من بين خلقه، في أنّه يجسِّد الرسالة في كلّ وجوده، في ملكاته وأخلاقه واستقامته وإخلاصه لله، فهو رسالة تتحرّك فيراها الناس في سيرته، وهذا ما جاء في الحديث عن النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) في كلام بعض زوجاته: "كان خُلُقه القرآن".

ولكّنا نريد ـــ من هذا الحديث ـــ أن نؤكّد على عدم الاستغراق الذاتي في شخصية الرسول، لنحبّه كما نحبّ أيّ إنسان من حيث خصوصيّته الذاتية، بل تعمل على الارتباط به من حيث هو رسول الله الذي يحمل الرسالة في حياته وجوداً متجسِّداً، كما يحملها في عقله ولسانه دعوة إلى الله؛ فنبتعد عن عبادة الشخصية فيه إلى عبادة الله من خلال رسالته، ومن خلال كونه مظهراً لقدرة الله في خلق الإنسان الذي يملك أعلى صفات الكمال في شخصيّته بما أفاض الله عليه من ألطافه الربوبيّة.

ولعلَّ ممّا يسير في هذا الاتجاه في حركة الدعوة إلى الإسلام، الكلمات التي يُطلقها البعض عند غياب بعض العلماء العاملين عن الساحة وانتقاله إلى جوار ربّه، بأنّ الإسلام قد مات بموته، وأنّ المسيرة ستتوقّف، أو ما يقوله البعض أمام دور بعض القادة الكبار الذين يمثِّلون القمّة في المرحلة الجهادية التي تمرّ بها الأُمّة، بأنَّ غيابه يمثِّل نكسة خطيرة للعمل الإسلامي الكبير الذي يتحمّل مسؤوليّة قيادته. فإنَّنا نعتقد ـــ بوحي الآية ـــ أنَّ هذه الكلمات تفتقد الدقّة والوعي والمسؤولية، فإنَّ الإسلام هو الذي صاغ شخصية هؤلاء وقادهم إلى الطريق المستقيم، وهو قادرٌ في كلّ مرحلة أن يصنع قادةً وأبطالاً ومجاهدين للحاضر والمستقبل، كما قام بصنع ذلك في الماضي. وإذا كان هناك من أثر سلبي لذلك، فإنّه يتمثّل في ضعف المرحلة مؤقّتاً لفقدانها إحدى الطاقات الفاعلة، ولكنّها لا تموت، فقد غاب الأنبياء والأئمّة والأولياء، وبقي دين الله مندفعاً في الساحة من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا وكلمة الشيطان هي السفلى. إنَّ القضية هي أن نثق بالله لتدفعنا هذه الثقة إلى الإحساس بأنَّ الله ينصر دينه ولو كره المشركون في كلّ مرحلة من مراحل المسيرة، مهما ارتاب المرتابون وتقاعس المتخاذلون.

                           *****

3 ـــ مسؤولية القيادة تُمنح بعد الاختبار:

{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة : 124].

                           *****

يدور الحديث هنا، عن بعض الجوانب الحيّة من شخصية إبراهيم (عليه السلام) في رسالته، حيث نلاحظ في هذه الشخصية التي يصوّرها القرآن طابعاً مميّزاً في ما يتحدّث الله عنه، في صفاته الذاتية من الملكات الروحية التي تزخر بها روحه وتتحرّك بها حياته، وفي مواقفه الإيمانية الرسالية المتمثّلة في هذا الاستسلام المطلق لله في أشدّ المواقف صعوبةً وحراجةً، سواء في ابتلاء الله في ذبح ولده أو في موقفه من أبيه ومجابهته لقومه ومواجهته لطاغية زمانه، من دون أن نلمح في أيّ موقف من هذه المواقف شعوراً بالضعف أو الإحراج أو الصعوبة، بل هو الانسجام القوي مع المهمّة والمسؤولية، والانطلاق معها في قوّة وإخلاص، والانسياب الروحي في عمق الإيمان الكبير بالله الذي يتفايض بالحبّ والوداعة والحياة في كلّ كلمة وفي كلّ موقف، فلا تجد، حتى في أشدّ المواقف صعوبة وخطورة، أيّ ابتعاد عن جوّ الإيمان، أو أيّ غيابٍ عن الله، بل هو الحضور الدائم الذي يشعر معه بوجود عينٍ نفّاذةٍ في القلب والضمير واللّسان والفكر والشعور والوجدان وهي تحدّق بالله هنا وهناك، في كلّ مظهرٍ من مظاهر الخلق وفي كلّ سرٍّ من أسرار الوجود.

وفي هذا الجوّ الرائع من ملامح شخصيّته، يمكن للعاملين، في كلّ زمان ومكان، استيحاء هذا النموذج النبويّ الرسالي في وداعة الروح الرسالية وصفائها، وفي استغراقها في الله في حضور روحيٍّ منفتح لا في غيبوبةٍ صوفيةٍ غارقةٍ في الضباب.

وقد لا تكون شخصية النبيّ إبراهيم (عليه السلام) هي النموذج الأوحد للأنبياء في هذا الفيض الروحي من الإيمان والوداعة والصفاء، ولكنّ القرآن لم يفض في الحديث عن نبيّ من الأنبياء كما أفاض في الحديث عن إبراهيم (عليه السلام) في التأكيد على ملامح الشخصية الواحدة المتنوّعة في مجالاتها مع وحدة المشاعر وطهارتها وصفائها، فإنّنا نلاحظ، في ما يأتي من حديث التفسير، أنّه أثار أمامنا قضية إيمانه في حواره مع نفسه ومع قومه ومع الله، فنجد أنّه يأخذ مساحةً كبيرة من قصّته، وقد لا يكون من الضروري أن تتحرّك القصّة من موقع المعاناة الذاتية لإبراهيم (عليه السلام) في كلّ ما قاله، فربّما كانت بعض الأحاديث أسلوباً من أساليب الرسالة في عرض الفكرة بطريقة الحوار. ولكنّها لا تخلو من إيحاء بالروح التي توحي بهذه الكلمة أو تلك، أو بهذا الأسلوب أو ذاك، فإنَّ للكلمات وللأساليب روحاً لا تختفي في المعنى اللّغوي للكلمات، أو في القواعد الفنية للأساليب، بل تنطلق من عمق الروح التي تنطق بالكلمة وتتحرّك في الأسلوب.

وربّما كان للأبوّة النسبيّة للرسل من بعده، وللأبوّة الروحية للرسالات المتأخّرة التي يمتاز بها إبراهيم في شخصه ورسالته، أكبر الأثر في ذلك، انطلاقاً من الشعور الذاتي الذي يربط كلّ أتباع الديانات به، ما يجعل للإيحاء بملامح الشخصية عمقاً يتّصل بالمشاعر الحميمة من جهة، وبالقداسة الإيمانية من جهةٍ أخرى، ولا سيّما أنّنا لا نجد في التفاصيل التي نقلها القرآن لنا من رسالته أيّ اختلاف مع الرسالات الأخرى، في التفاصيل التي تختلف فيها الرسالات حسب اختلاف المراحل الزمنية التي تؤدّي إلى ذلك في حدود المفهوم والتشريع، فقد يكون ذلك سبباً في تأكيد شخصيّته باعتباره ملتقى للرسالات من جهةٍ، وللرسل من جهةٍ أخرى، فيمكن اعتبار رسالته حَكَماً في مواضع الاختلاف بين أتباع الرسل، كما يمكن أن تكون شخصيته نموذجاً موحّداً في ما يتنازعون فيه من شخصيات الأنبياء.

وعلى أيّ حال، فإنّنا نشعر بالحاجة الرساليّة إلى الامتداد في الأجواء الرحبة لهذا النبيّ العظيم، لنستعين بذلك على صنع الشخصية الإسلامية في النماذج الرائعة من مواقفه وأساليبه وإيمانه.

                           *****

اختبار الله لإبراهيم:  

ونلتقي في هذه الآية بإبراهيم، في موقف الإنسان الذي يتعرّض للابتلاء والاختبار، ليظهر، من خلال ذلك، ما يملك من طاقاتٍ كبيرةٍ تؤهّله لحمل الرسالة وللقيادة، ونلاحظ أنَّ القرآن قد أجمل الكلمات التي كانت وسيلةً للابتلاء فلم يفصح بالحديث عنها، ولكنّه حدّثنا عن إتمامها من دون أن يتّضح هل كان الإتمام من إبراهيم (عليه السلام) أو من الله في ما يحتمله الضمير في الكلمة، ولم يفصّل لنا كيف كان هذا الإتمام؛ هل هو في وعي إبراهيم (عليه السلام) للكلمة وحفظها في فكره في مقابل النسيان، أم في تجسيدها العملي في الواقع التطبيقي للحياة، لأنَّ القضية لا تختلف باختلاف التفاصيل في ما يريد القرآن أن يفيض فيه أو يفصح عنه من انطلاق العهد الإلهي من موقع الاختبار والكفاءة لا من موقع الاختيار التلقائي، فإنَّ ذلك هو ما تحتاج أن تتعرّفه، أمّا التفاصيل، فقد يحتاج المؤمنون الذين عاشوا في عهد إبراهيم أن يعرفوها لأنّها تتّصل بخطواتهم الفكرية والعملية في الحياة، ولا بدَّ أن يكونوا قد عرفوها في ما دعاهم إليه من أحكام وتعاليم.

                           *****

نجاح إبراهيم في الاختبار وجعله إماماً للنّاس:

{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ} أي اختبره في حركته في خطّ المسؤولية الرسالية التي تعمل على تغيير الحياة، من الواقع الضالّ إلى الواقع الإيماني المستقيم في الخطّ الذي يحقّق للإنسان سعادته في الدنيا والآخرة، ليظهر إخلاصه لله وقدرته على تحمّل المسؤولية، كما يختبر الله رسله وعباده الصالحين في المواقع الصعبة التي تتحدّى طاقاتهم لتعبّر عن نفسها بقوّة وصلابة وإخلاص، {بِكَلِمَاتٍ} ممّا أوحى به إليه من آياته في الصحف التي أنزلها عليه، وفي المسؤولية المتنوّعة التي حمّله إيّاها، {فَأَتَمَّهُنَّ} ووقّاهنّ حقّهن بالدعوة تارةً وبالانقياد أخرى، وبالحركة المتحدّية في مواجهة الكفر والاستكبار ثالثة، فلم ينقص شيئاً من دعوته، ولم يهمل موقفاً من مسؤوليّته، ولم يبتعد خطوةً واحدةً عن ساحات التحدّي الكبير، وبذلك استحق درجة القدوة الحسنة الكبيرة التي يُراد للناس الأخذ بها وموقع الولاية التي هيّأه لها، لتنفتح النبوّة المنطلقة في خطّ التبليغ على الإمامة المتحرّكة في خطّ الواقع، ممّا يوجِدُ تكاملاً بينهما لا انفصالاً. وهناك وجه آخر لتفسي {فَأَتَمَّهُنَّ} بإرجاع الضمير إلى الله في إتمام كلماته، {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} في تطوّر النبوّة ـــ الدعوة إلى الإمامة ـــ الحركة.

وربّما كانت المسألة كنايةً عن الرسالة كلّها في خطّها الفكري والعملي، بحيث يكون الاختبار الإلهي بالكلمات واستيعاب إبراهيم لهنّ في موقع التكليف بالرسالة، حركةً مترتّبةً متدرّجة، إذ لا دليل على أنَّ الجعل كان بعد النبوّة، بل كلّ ما هنك أنّ الآية توحي بأنَّ ثمّة إيحاءً من الله بالكلمات الرسالية، وإعلاناً له بأنّها تمثّل خطّ الإمامة بمعنى الولاية النبويّة والقدرة الحركية في حياته. وقد لا تجد في القرآن الكريم أيّ شاهد على أنَّ الإمامة تحمل مفهوماً مقابلاً للنبوّة في مفهومها الواقعي العام، لأنَّ الوحي الذي ينزل على النبيّ أو الرسالة التي يحملها الرسول، ليسا تعبيراً عن حالةٍ ثقافية في وعي النبيّ ترتبط بذاته أو تنفتح على غيره في عملية سماع مجرّد لآياتها، بل هما معنيان حركيّان في عملية الاهتداء والاقتداء والمتابعة، ممّا تختزنه كلمة الإمامة في مضمون الائتمام الذي يعني الاقتداء والمتابعة، وهذا ما نلاحظه في قوله تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} [الأنبياء : 73]. وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة : 24]. فإنَّ الصفات المذكورة للأئمّة هي صفات الأنبياء في مهمّة نبوّتهم ورسالتهم، من الهداية بأمر الله والوحي المنفتح على فعل الخيرات، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، من خلال وعيهم اليقيني لآيات الله، وصبرهم الحركي في مواجهة التحدّيات والعقبات من قِبَل أعداء الله. وأمّا ما استدلّ به البعض أنّ مورد الآية قد جاء في أواخر عهد إبراهيم (عليه السلام) بعد كبره وولادة إسماعيل وإسحاق له، وذلك لكونه لم يكن يعلم (عليه السلام) أنّه ستكون له ذريّة تخلفه إلاّ من بعد ما بشرته الملائكة بالأولاد، ما يلزم عنه أنَّ الإمامة المجعولة لإبراهيم (عليه السلام) هي غير النبوّة، لا يصلح دليلاً على الموضوع، إذ من الممكن للإنسان أن يتحدّث عن مستقبل أولاده الذين يرجو أن يرزق بهم ـــ بحسب طبيعة الأنبياء ـــ لاهتمامه بامتداد الخطّ في ذريّته، ولا سيّما إذا عرفنا أنّه لم يتحدّث عن ذريّته بشكلٍ مباشر بل كان يتحدّث عن الأجيال القادمة من أولاده ممّن لم يكونوا موجودين.

وقد نستوحي من القرآن أنّ إبراهيم كان عارفاً بطبيعة المهمّة ومطمئنّاً إليها، فلما أتمّ الكلمات، أو أتمّ الله له الكلمات، ونجح في الامتحان، لم يفاجأ بالعهد الإلهي في قوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} فلم يصدر عنه أيّ ردّ فعلٍ في ما واجهه من مسؤولية جديدة في نطاق ذاته، بل كان ردّ فعله منطلقاً من التفكير في مستقبل العهد وامتداده، فهل هو من العهود التي تقتصر عليه من خلال المهمّة المحدودة بالزمان والمكان والشخص، أم هو من العهود التي تمتدّ بامتداد الذريّة في مدى الزمن، فتساءل: {وَمِن ذُرِّيَّتِي} في استفهام متطلّعٍ مستشرف يحمل طابع الأمنية التي يحملها الإنسان في فطرته لذريّته في كلّ خيرٍ يحصل له. وكان الجواب حاسماً ينطلق في عملية تحديد للقاعدة الرسالية التي تبرّر إعطاء العهد لأيّ إنسانٍ في كلّ زمان ومكان {قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}، فليست القضية امتيازاً إرثياً أو تكريماً شخصياً يتّصل بالذّات، كما هو شأن الملوك الذين يعيشون هاجس وراثة الملك عندما يفكّرون في الذريّة، بل القضية مسؤولية رسالية تتّصل بحياة الناس في ما يفكّرون وفي ما يعيشون، وبخلافة الله في الأرض في ما يريد من تنظيم وتدبير، وبعبادة الله الواحد الأحد في ما تحقّق من وحي وما تثير من روحانية، فلا بدَّ لمن يحملها من كفاءةٍ روحية وفكرية وعملية في ما تمثّله الكفاءة من معاني الاستقامة والانسجام مع الخطّ العام للرسالة وللدعوة، فهي عهد الله الذي يجعله للصالحين من عباده المنسجمين مع خطّ العدل في أنفسهم من أجل أن يقوم الناس بالقسط، فلا ينال عهده الظالمين الذين يظلمون مَنْ فوقهم بالمعصية، ومَنْ دونهم بالغلبة، ويظاهرون القوم الظلمة، كما جاء في نهج البلاغة عن الإمام عليّ (عليه السلام) في الكلمات القصار: "للظالم من الرجال ثلاث علامات: يظلم من فوقه بالمعصية، ومن دونه بالغلبة، ويظاهر القوم الظلمة"(1)، ويظلمون أنفسهم في ذلك كلّه، وهكذا كان الجواب دستوراً عملياً لكلّ رسالة ورسول.

بين الابتلاء والتكريم:

إنَّ الابتلاء في كلّ ما أمر الله به عباده أو نهاهم عنه ـــ ومن ابتلاء الله لإبراهيم ـــ لا يُراد منه الاختبار من أجل المعرفة، لأنَّ الله عالِم بكلّ ما سيقع من عباده، فلا يحتاج إلى أيّة وسيلة للمعرفة، بل المراد منه إظهار ذلك ليكون حُجّة عليهم في ما لله من حُجّة، وتكريماً لهم في ما يريد الله لهم من إظهار التكريم.

                           *****

إنَّ المسؤولية لا تُمنح إلاّ بعد الابتلاء والاختبار، ولا سيّما إذا كانت تتعلّق بالأمر الذي يستدعي تغيير الأُمّة في حاضرها ومستقبلها، فلا يمكن أن تُجعل على أساس انطباعاتٍ عامّة، أو على أساس المجاملات والمحسوبيات الخاصة.

وإنَّ القدوة في الأفعال والأقوال لا يمكن أن تجعل الإنسان إلاّ بعد أن تثبت كفاءته في مجال الإخلاص في السلوك والتعامل والعلاقات، لأنَّ معنى القدوة، أن يكون الشخص هو الوجه الذي يتّجه الناس إليه والقاعدة التي يتحرّك المجتمع منها، فكف يمكن أن يتحقّق ذلك من دون الابتلاء والخبرة الطويلة؟

                           *****

4 ـــ واخفض جناحك لمن اتّبعك من المؤمنين:

{وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ*فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ} [الشعراء: 215 ـــ 216].

                           *****

{وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} الذين آمنوا برسالتك، فانفتحوا على الله من خلالها، والتزموا بالحقّ على هداها، واتّبعوك من موقع النبوّة والقيادة الحقّة على أساسها، وواجهوا كلّ تحدّيات الكفر والضلال في مواقعها، الأمر الذي يجعلهم في الدرجة العليا من المستوى الرسالي بعيداً عمّا هو الموقع في الميزان الطبقي في الصعيد الاجتماعي، لأنَّ الرسالة تعطي للجانب الرسالي في حركة الشخصية قيمتها، فيتفاضل الناس في ذلك لا في النسب والمال والجاه وغيره.

وهذا ما يفرض على الرسول والدّعاة والقادة الإسلاميين من بعده، أن يحضنوا المؤمنين الذين اتّبعوه، كما يحضن الطير أفراخه، فيبسط إليهم جناحه ليضمّهم إليه، ويجمعهم عنده، وأن يرأفوا بهم ويرحموهم ويتواضعوا لهم من مواقع الإيمان، ليشعر المؤمنون بأنّ الإسلام قد أعطاهم قيمةً كبيرةً في التزامهم به، وأنّ القيادة قد منحتهم موقعاً متميّزاً في الموقع والعاطفة والرعاية في حركة الاتّباع والطاعة والانقياد، فتقوى نفوسهم، وتشتدّ مواقفهم، وتثبت خطواتهم.

{فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ} لأنّ الرعاية والرأفة والرحمة لا بدّ من أن تنطلق من أجواء الالتزام الإيجابي المتمثّل في سلوكهم العملي بالاقتراب من طاعته والابتعاد عن معصيته، فإن تبدّل ذلك بالمعصية والتمرّد، فلا بدّ من إعلان الموقف الحاسم الذي يضع الأمور في نصابها الصحيح، وذلك بالبراءة من العمل المنحرف عن أمر الله ونهيه، لأنّ ما يجمع الرسول بالناس هو العمل، فهو الذي يقرّبهم إليه إن انطلق في اتّجاه الاستقامة، وهو الذي ييبعدهم عنه إن تحرَّك في اتجاه الانحراف.

                           *****

 

 

 

المترفون والاستكبار    

في كلّ مجتمع مترفون يمكرون فيه ـــ عقدة الاستكبار وتجلّياتها في الواقع ـــ واقع المستكبرين في الأرض ومصيرهم ـــ المترفون غايتهم الاستمتاع ـــ تضخّم ذات المستكبرين ـــ من أساليب المستكبرين في مواجهة الدّعاة إلى الله ـــ بين التهلكة وصراع الاستكبار ـــ المستكبرون خطاب التنصّل والعجز.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

1 ـــ المستكبرون والطغاة أساس الفساد الفكري والعملي:

{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ*إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ*الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ*وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ*وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ*الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ*فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ*فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ*إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر: 6 ـــ 14].

                           *****

معاني المفردات:

{إِرَمَ}: اسم مدينة.

{الْعِمَادِ}: ما تعتمد عليه الأبنية.

{جَابُوا}: الجوب: القطع.

{لَبِالْمِرْصَادِ}: المرصاد: الطريق، المكان الذي يرصد منه ويرقب.

                           *****

{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ} وهم قوم هود الذين يمثِّلون القوّة الجبّارة في التاريخ القديم، وكان مسكنهم في الأحقافِ، وهي كثبان الرمال في جنوبي الجزيرة بين حضرموت واليمن.

{إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ*الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ} فقد كانت مدينةً لا نظير لها ذات قصور عاليةٍ وعمد ممدّدة، ولا نعرف من هؤلاء الجماعة ومن تاريخهم شيئاً ذا بال، إلاّ ما قصّه القرآن علينا من أنّهم كانوا ذوي بسطةٍ في الخلق أولي قوّةٍ وبطشٍ شديد، وكان لهم تقدّمٌ ورُقيٌّ في المدينة والحضارة، ولهم بلادٌ عامرةٌ وأراضٍ خصبة ذات جنّاتٍ ونخيل وزروع ومقامٍ كريم.

وقد اختلقت قصّة جنّة إرم المشهورة المروية عن كعب الأحبار ووهب ابن منبه، ممّا لم يثبت له أساس في الروايات الإسلامية الصحيحة.

{وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ} أي قطعوا الصخر من الجبال، وشيّدوا منها القصور، كما جاء في قوله تعالى: {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ} [الشعراء: 149].

وقيل: إنّ ثمود كانت تسكن بالحجر في شمال الجزيرة العربية بين المدينة والشام، وكانوا أُولي قوّةٍ وبطشٍ شديدٍ.

{وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ} وهو ـــ على الظاهر ـــ صاحب موسى (عليه السلام)، وقد قيل: إنّ إطلاق هذا اللّقب عليه، "لأنّه كان إذا أراد أن يعذّب رجلاً بسطه على الأرض ووتد يديه ورجليه بأربعة أوتاد في الأرض، وربّما بسطه على خشبٍ وفعل به ذلك، ويؤيّده ما حكاه الله من قوله، يهدّد السحرة إذا آمنوا بموسى: {قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى} [طه: 71]. فإنّهم كانوا يوتدون يديّ المصلوب ورجليه على خشبة الصليب"(1).

واحتمل سيّد قطب في تفسيره، في ظلال القرآن، أنّ الأرجح، أنّها "الأهرامات التي تشبه الأوتاد الثابتة في الأرض المتينة البنيان"(2)؛ والله العالم.

                           *****

{الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ} وتجاوزوا الحدّ في الإساءة إلى الناس بمختلف الوسائل التي أثقلت كاهلهم بكلّ بغيٍّ وطغيان، مستغلّين قوّتهم وضعف الناس، للضغط على حياتهم، واستغلال مواردهم، وفرض إرادتهم عليهم بالتعسّف والقسوة. {فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ} لأنّهم لم ينطلقوا، في علاقتهم بالناس، من قانون عادل يخضع له الجميع، لينظّم لهم حياتهم، ويرعى موازين العدل في خلافاتهم، ويضع الحدود لهم حتى يعرفوا حدود أعمالهم وأقوالهم وعلاقاتهم وأوضاعهم، فإذا تجاوزوها كان هناك أساسٌ شرعيٌّ للعقاب، لإرجاع المتجاوزين إلى الحدود المرسومة والضوابط المعلومة، بل انطلقوا في علاقتهم بهم من خلال تأليه الذّات المتحرّكة من شريعة الاستكبار القائمة على القوّة، المنطلقة من الهوى، الخاضعة للعقدة المستحكمة في شخصية هذا أو ذاك من هؤلاء الطغاة المستكبرين، ممّا لا يجعل هناك أيّة ضابطةٍ لتصرّفاتهم في الحكم والتشريع والإدارة والاقتصاد والحرب والسّلم. فكلمات الطاغية هي القانون، ونزواته هي حيثيّات الحكم، ومصالحه هي الأُسس التي يخضع لها الاقتصاد، وغضبه ورضاه هما القاعدتان اللّتان تحكمان الحرب والسلم، وبهذا يتحرّك الطغيان من موقع اللاّقاعدة في ما هو مضمون الحركة في الحياة.

ثمّ لا يقتصر الأمر عند هذا الحدّ، فإنّ الطّغاة يعملون على تغيير المفاهيم والقِيَم والقوانين لمصلحة طغيانهم، من أجل أن يغيِّروا الذهنية العامة للتحوّل إلى رأيٍ عامٍّ لمصلحة النتائج السلبية التي يريدون لها أن تحرّك قضايا الواقع في مواجهة مسألة الحرية، التي تنطلق ثورتها في حركة الجماهير الغاضبة، ليقوموا بتدميرها، والناس تصفّق لهم، والهتافات تلهج بأسمائهم. وهكذا يعملون على تحويل القانون العام والقِيَم الكبيرة التي يصوغونها على طريقتهم، إلى أداة قمعٍ لكلّ مَنْ يواجه ذلك، فيكون المعروف منكراً والمنكر معروفاً. وهكذا، حتّى يتحوّل الفساد واقعاً حيّاً في حياة الناس، ولكن في صورةٍ أخرى، كما لو كان بعنوان الصلاح، وهذا ما عبَّرت عنه الآيتان الكريمتان في الحديث عن المنافقين في قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ*أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ} [البقرة: 11 ـــ 12].

كيف نستوحي النظرية في الواقع؟

وعلى ضوء ذلك كلّه، فإنّنا نستطيع استيحاء النظرية الإسلامية في الدائرة الاجتماعية والسياسية، وهي أنّ الطغيان في القوى الحاكمة والنافذة في واقع الأُمّة، يستلزم الفساد في كلّ جوانبها ومواقعها، حتى يُفسد المستضعفين الذين ينالهم طغيان الطغاة في عملية التعسُّف والظلم والقسوة، من خلال إفساد المجتمع كلّه. وإذا انتشر الفساد في المجتمع من خلال طغيان الطغاة، فإنَّ الإرادة الإلهية تتدخّل في عملية إنهاء الطغيان أو تخفيفه، أو إفساح المجال للقضاء على رموزه، ليتنفَّس المجتمع فترةً من الزمن، بحيث يمكن للمصلحين أن ينفذوا إلى بعض ثغراته، ليدخلوا ـــ من خلالها ـــ إلى الساحات الواسعة التي يمكن لهم أن يغيِّروا فيها الكثير أو القليل من قضاياها. وهذا ما نراه في كلّ فترات التاريخ التي سيطر فيها الطغيان، فإنَّ السنن الكونية الإلهية في حياة النس تفرض إيجاد الظروف المتنوّعة والتحرّكات المختلفة لتغيير حالة الثبات التي تحكم واقع الطغيان للعمل على خلخلة قواعده وإسقاد رموزه وهزّ مواقعه، لتستمرّ حركة الصراع بين الخير والشرّ والحقّ والباطل بشكلٍ متوازن، ولتبقى للقوى المستضعفة الإمكانات الذاتية للوقوف في مواجهة المستكبرين بالوسائل الطبيعية الممكنة. وربّما تتدخّل القدرة الإلهية بصورة المعجزة، كما حدَّثنا القرآن الكريم عن هذه الفئة الطاغية وهي عاد وثمود وفرعون.

                           *****

بين الطغيان والعذاب:

{فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} فأفاض عليهم عذابه، كما لو كان فيضاناً يغمرهم بكلّ مياهه الحارة اللاهبة، ويلهب ظهورهم وكيانهم كمثل السوط الذي يهوي على الأجساد فيلذعها بما يثيره من الآلام القاسية الصارخة، وذلك بمختلف ألوان العذاب التي قضت عليهم أجمعين، فلم تبق منهم باقية.

وينطلق التاريخ بعدهم ليبدأ مرحلة جديدةً في فكرٍ جديد، وصراع جديد.

{إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} فهو المهيمن على الواقع كلّه، وعلى الأمر كلّه، والراصد لكلّ أعمال الطغاة وأوضاعهم. وستبقى مسألة الطغيان تفرض نفسها على الواقع المتجدّد، وستبقى إرادة الله تلاحق كلّ الطغات لتنزل عليهم العذاب بشكلٍ مباشرٍ، في ما يخلقه الله من وسائل العذاب، أو بشكلٍ غير مباشر، في ما يتحرّك به المستضعفون بوسائلهم الخاصة، ليعملوا على القضاء عليهم أو إضعافهم.

وهكذا يقف الدّعاة إلى الله، والمستضعفون في الأرض، لينفتحوا على الأمل الكبير، عندما تضيق بهم الحياة، وتشتدّ عليهم الضغوط، وتزحف نوازع اليأس إلى حياتهم، فإذا بالله في قدرته ورصده وإشرافه على أوضاع عباده، يوحي لهم بمتابعة طريق الدعوة والجهاد في سبيله والأخذ بأسباب الحرية، ليقول لهم: إنّي معكم، وليقول كلّ واحد لصاحبه: {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا} [التوبة : 40] فيزدادون قوّةً وثباتاً واندفاعاً في حركة الصراع.

                           *****

2 ـــ في كلّ مجتمع مترفون يمكرون فيه:

{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ*وَإِذَا جَاءتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللّهِ اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ} [الأنعام: 123 ـــ 124].

                           *****

 

معاني المفردات:

{جَعَلْنَا}: حكمنا جكماً تكوينياً بحسب النظام الكوني والأسباب والمسبّبات وصراع الإرادات. وقد مرَّ سابقاً.

{أَكَابِرَ}: جمع الأكبر وقد قالوا: الأكابرة والأصاغرة، كما قالوا: الأساورة والأحامرة.

{لِيَمْكُرُواْ}: أصل المكر: الفتل، ومنه: جارية ممكورة، أي: مفتلة البدن، فكان المكر معناه الفتل إلى خلاف الرشد.

{أَجْرَمُواْ}: الإجرام: الإقدام على القبيح بالانقطاع إليه، لأنّ أصل الجرم القطع، فكأنّه قطع ما يجب أن يوصل من العمل. ومنه قيل للذنب: الجريمة.

{صَغَارٌ}: ذلّ وهوان. والصاغر: الراضي بالمنزلة الدنيّة.

                           *****

{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا} ففي كلّ مجتمع صغير أو كبير فئةٌ من المترفين الذين يعتبرون أنفسهم في الطبقة العليا من المجتمع، ويرون لأنفسهم الحقّ في أن يخطِّطوا للناس حياتهم ويفرضوا عليهم سلطتهم، ولذلك فهم يعملون للجريمة في نطاق الدين والسياسة والاجتماع والاقتصاد، بكلّ ما يملكون من وسائل المكر الذي يعبِّر عن التدبير الخفيّ الذي يوهم الآخرين بأنّه خيرٌ، في الوقت الذي يمثّل أبشع أنواع الشرّ، {وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ} لأنّ الجريمة إذا تحوَّلت إلى تيّارٍ اجتماعي، فإنّها تتّسع في حركتها حتى تعود لتفتك بالناس الذين دبَّروها، فهي لا تتجمّد في أيدي صانعيها، بل تمتدّ لتنتقل إلى أيدي الناس الذين لا تتّفق أطماعهم ومصالحهم مع الناس الآخرين، فيرتدّون عليهم ليصنعوا بهم ما صنعوه بغيرهم.

ثمّ ماذا بعد الجريمة؟ فليذهب هؤلاء يميناً وشمالاً، وليربحوا ما شاءت لهم أطماعهم من أرباح الحياة الدنيا، فإنّهم سيقفون أمام الله، إنْ عاجلاً أو آجلاً، وسيشعرون هناك بأنّهم خسروا أنفسهم، وأنّ مكرهم الذي صنعوا منه الجريمة قد تحوّل إليهم، ليجدوا أنفسهم ـــ معه ـــ وجهاً لوجه أمام النار ـــ وبئس القرار. وتلك هي الحقيقة التي ستواجههم غداً نتيجة ما فعلوه، ولكنّهم يفعلون ما يفعلون بأنفسهم {وَمَا يَشْعُرُونَ} بالنتائج التي ستتمخَّض عنها في الدنيا والآخرة.

ويأتي السؤال في كلّ آيةٍ مماثلة جاء فيها قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ} فإذا كان الله هو الذي يجعل، فأين يكمن عنصر الاختيار الإنساني في صنع الجريمة؟

وقد أجبنا عن ذلك، بأنّ الجعل هنا ليس بالطريقة المباشرة، ولكن بالطريقة غير المباشرة الموجودة في النظام الكوني الذي أودعه الله في الكون وربط فيه الأسباب بمسبّباتها، وجعل من بين الأسباب إرادة الإنسان واختياره بالإضافة إلى الظروف الموضوعية المحيطة به، ممّا لا يشلّ قدرته، ولا يعطّل إرادته، وبذلك صحَّت نسبة الجعل إلى الله، باعتبار علاقة الفعل بالنظام العام الذي خلقه الله، وترك للإنسان أن يتحرّك في نطاقه بملء إرادته وحريّته.

                           *****

أساليب الكافرين في المكر:

ويتحدّث الله لنا في الآية التالية عن بعض أساليبهم في المكر، فهم لا يرتبطون إلاّ بالجانب الحسّي في حياتهم، أمّا العقل والفكر وما يتطلّبانه من تأمّل وحوار، فليس لهما مكانٌ في حياتهم. ولذلك فهم لا يطلبون الإيمان من خلال حركة الفكر، بل من خلال حركة الحسّ، وإذا طلبوه من خلال الحسّ، فإنّهم يطلبون الشيء الذي اعتادوه أو سمعوا عنه، فلا يقبلون نموذجاً آخر، ممّا لم يمرّ عليهم، ولم يحدّثهم الآخرون عنه، {وَإِذَا جَاءتْهُمْ آيَةٌ} من معجزةٍ ترتكز على الجانب العقلي، أو تتّفق مع طبيعة الظروف والأوضاع المحيطة بهم، {قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللّهِ} فقد سمعوا أنّ موسى (عليه السلام) جاء بالعصا، وأنّ عيسى (عليه السلام) جاء بإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص فأرادوا آياتٍ كهذه، ولكنّهم لم يفكّروا لحظةً واحدةً، في أنّ قصّة المعاجز ليست موضوعاً خاضعاً للتمنيّات والافتراضات، وليست عمليّةً منفصلةً عن طبيعة التحدّي التي تواجهها الرسالات، فقد أرسل الله موسى (عليه السلام) بالعصا ردّاً على التحدّي الكبير لفرعون الذي استعمل وسائل السحر، كما أنّ الله أرسل عيسى (عليه السلام) بإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، ردّاً على التحدّي الذي كان يشكّل فيه الطبّ في زمنه نوعاً من أنواع التحدّي. وليست المعاجز سبيل هدّى، فللهدى وسائله التي تنفذ إلى العقل، ولكنّها سبيل قوّةٍ في مواجهة القوّة المضادّة، ولهذا فلا معنى لما طلبوه، بل عليهم أن يفكّروا في ما قدّمه إليهم الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ممّا يبعثهم على التفكير، ويدعوهم إلى المناقشة والحوار.

                           *****

الله أعلم حيث يجعل رسالته:

وهذا الوجه الذي ذكرناه مبنيّ على القول الذي فسّر الآية، بأنّ أكابر المجرمين من العرب اقترحوا على محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) أن يأتيهم من المعجزات مثل ما أُوتي موسى (عليه السلام) من فلق البحر وعيسى (عليه السلام) من إحياء الموتى، وهناك قولٌ آخر إنّهم قالوا له: لن نؤمن حتى ينزل علينا الوحي كما أنزل على الأنبياء، وربّما كان هذا القول أقرب إلى جوّ الآية في ما جاء بعد هذه الجملة التي أرادها الله ردّاً عليهم: {اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} فليست قضية الرسالة امتيازاً ذاتياً يمنحه الله لأيّ شخص كان، بل هي قضية اصطفاء واختيار وكفاءةٍ، في ما يعلمه الله من قابليّات عباده وقدرتهم، فمنهم الذي تميَّز بسعة الفكر، وصفاء الروح، وطيبة القلب وقوّة الإرادة، وعناصر القيادة، ومنهم الذي تميَّز بضيق الأفق، وقلق الروح، وخبث النيّة، وضعف الإرادة، فاختار من النموذج الأول أنبياءه ورسله، وترك الآخرين في موقع القاعدة وأرادهم أن يهتدوا بهدى الأنبياء وأن يجاهدوا في سبيل الوصول إلى ذلك، وسهَّل لهم سبيل الإيمان، بما يتّفق مع قابلياتهم وإمكاناتهم، فليس لهم أن يطلبوا لأنفسهم ما لا يملكون عناصره، لأنّ الرسالة ليست مجرّد كلمات يتلقّفها الإنسان ويحفظها ثمّ يبلّغها للآخرين، بل هي قضية قيادة الحياة في جانبها الفكري والروحي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي.. وتغيير الإنسان على أساس هدى الله، بالكلمة وبالأسلوب وبالقدرة الحَسَنَة، بحيث تعيش الرسالة في شخصية الرسول جسداً يتحرّك بكلّ أخلاقيّاتها ومعانيها، وروحاً تصفو وتهفو وتحنو وترقّ وترعى، فيحسّ الناس معها بالرحمة التي تحيط بهم من كلّ جوانب حياتهم، ويعيشون معها بردّ السلام وهدوء الطمأنينة.

إنّ حركة الرسالة في شخصية الرسول تعني أن يعيش هذا الإنسان في فكره وروحه وكيانه كلّه مع الله، ليستطيع ـــ من خلال ذلك ـــ أن يحتوي كلّ آفاق الرسالة ومعانيها في كلّ مراحل حياته في الدعوة وفي الحكم وفي الجهاد، وبذلك كان الرسول يأخذ من الرسالة وحياً تنفتح منه نفسه على الله، ويعطيها من طاقاته الروحية والفكرية، ومن قوّة إرادته عنصر قوّة يدفعها إلى الأمام، ولذلك لم تكن الرسالة خاضعةً لاختيار الناس وتمنّياتهم، بل هي خاضعةٌ لإرادة الله واختياره، فهو {أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}، في ما يعلمه من الطاقات الروحية والفكرية والعملية والقيادية الكامنة في ذواتهم ممّا لا يعلمه الناس من أنفسهم، ولا يعلمه غيرهم منهم.

فأين يذهب هؤلاء في تفكيرهم؟ إنّها عقدة الكبرياء التي تكبر في صدورهم عندما يتطلّعون إلى الأنبياء فيجدونهم في الطبقة السفلى من الهرم الاجتماعي، فيدفعهم ذلك إلى احتقارهم، واحتقار دورهم، وتكذيبهم ومحاولة تحدّيهم بأيّة طريقةٍ، حتى بالأمور التي لا تثبت أمام النقد، ولذلك فإنَّ الله سيجزيهم عن هذه المشاعر وهذه الادّعاءات وذلك الكبرياء، صغاراً وذلاًّ واحتقاراً وعذاباً، {سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللّهِ} في ما يُظهرهم به أمام الخلائق يوم القيامة من حالة الذلّ والانسحاق {وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ} لأنّ مكرهم وانحرافهم لم ينطلق من حالةٍ فكريّةٍ قد تبرّر لهم ذلك، بل من حالةٍ شيطانية، يفهمون كلّ خطواتها ومنطلقاتها ودوافعها، ما يجعل من تصرّفاتهم، حالةً إجراميةً معقّدةً تستوجب العقوبة الشديدة والعذاب الأليم.

وقد يلاحظ البعض أنّ الصغار الذي يصيب المستكبرين في الحياة الدنيا هو بلحاظ أنّ الآية تتحدّث عن الحياة الدنيا ونتيجة الصراع في الأرض، ولا مانع من أن يكون عامّاً في الدنيا والآخرة، ما يفرض التركيز على واقع الحياة الدنيا في نتائج الأفعال، حيث يُنزل الله الهوان والعذاب الدنيوي بمعنى البلاء الذي يصيبهم بفعل سلوكهم المنحرف وموقفهم المضادّ.

وإنّنا في الوقت الذي لا نجد مانعاً من استنطاق هذه الآية في المعنى الشمولي للصغار الدنيوي والأخروي من حيث المبدأ في نتائج المواقف التي يتمثّل فيها التمرّد على الله والعدوان على رسله ورسالته من موقع الاستكبار الذاتي الذي يحكم كلّ أقوالهم وأفعالهم، ولكنّ ظاهر الآية في الحديث عن الصغار والعذاب على مستوى المستقبل قد يوحي بأنّ المسألة تتحدّث عن الآخرة في ما يلاقونه في يوم القيامة، وقد جاء عن الزجّاج في تفسيره لهذه الفقرة قال: أي سيصيبهم عند الله ذلّ وهوان وإن كانوا أكابر في الدنيا(1). انتهى.

وهذا ما يؤكّد أنّ المراد به هو المقابلة بين كبريائهم في الدنيا الذي يدفعهم إلى إنكار الحقّ والاستعلاء على أهله، وصغارهم في الآخرة بما يلاقونه من الهوان والعذاب بين الخلائق. وفي بعض الروايات، كما جاء في تفسير الكاشف: أنّ المتكبّرين يحشرون في صورة الذر يطأهم الناس بأقدامهم جزاءً على تعاظمهم في الدنيا(2). والله العالم.

 

3 ـــ عقدة الاستكبار وتجلّياتها في الواقع:

{إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً*وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً*اسْتِكْبَاراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً*أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً*وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً} [فاطر: 41 ـــ 45].

                           *****

معاني المفردات:

{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ}: بالغوا واجتهدوا في الأيمان.

                           *****

كيف يفكّر هؤلاء الذين يجعلون لله شريكاً، وهل يدركون مدى قدرة الله، وهل يعرفون كيف يدبّر الله الكون كلّه بإرادته من دون معين؟ هل يتطلّعون إلى السماء من فوقهم، وإلى الأرض من تحتهم، فيتأمّلوا كيف تثبّتت السماوات في الفضاء، وكيف استقرّت الأرض في الخلاء، ومن الذي أمسكهما عن الاهتزاز والسقوط، ومن الذي يعيدهما إلى الثبات لو زالتا؟ هل فكَّر هؤلاء بالمسألة العقيدية من ناحية التوحيد والشرك بوعي وعقلٍ؟

إنَّ الآية التالية تقرّر الحقيقة التوحيدية التي تثبت قدرة الله على الإمساك بالسماوات والأرض وحده، وتتضمّن طرح السؤال الذي لا يجد جواباً عند هؤلاء إلاّ بتقرير الحقيقة من جديد.

{إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا} عن موقعهما الذي يتحرّكان أو يستقرّان فيه، وقد استمرّت الحياة منذ كانت السماوات والأرض، ولا تملك البشرية الملامح الحقيقية لهذا التاريخ إلاّ بالحدس والتخمين القائم على الخيال العلمي الذي يحاول أن يستنتج النتائج من ظواهر غير يقينية المدلول... ولم يحدث أن زالت السماء عن مواقعها، أو انحرفت الأرض عن مدارها، فهل هناك من هؤلاء الذين لم يكن لهم وجودٌ ممتد في عمق الزمن، بل كانوا حدثاً طارئاً لا يملك أيّ عمقٍ وامتدادٍ، من يزعم لنفسه، أو يزعم له غيره أنّه كان شريكاً في إمساكها؟ {وَلَئِن زَالَتَا} على سبيل الفرضية العلمية عندما يتخيّل العلماء إمكانات الحركة في الكون {إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ} ممّن يملك قدرة ذلك... إنّ الآية لا تتساءل وإن كانت تختزن السؤال، ولكنّها تنفي على نحو الجزم، لأنّ النفي هو الحقيقة اليقينيّة، {إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} فلا يقابل عباده بالعقاب السريع، بل يتركهم ليفكّروا ويتراجعوا ليتوبوا ويستغفروا ربّهم، ليغفر لهم كلّ ما أخطأوا فيه.

{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} فلم يتركوا يميناً إلاّ والتزموه على أنفسهم، {لَئِن جَاءهُمْ نَذِيرٌ} يرشدهم ويدلّهم على الطريق المستقيم، ويخوِّفهم المصير الذي يقبلون عليه، تماماً كما كانت النذر التي جاءت للأُمم السابقة، {لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ} مبرّرين ضلالهم لفقدان المرشد  والدليل والنذير.. وهكذا كانوا يتحدّثون مع الناس الذين ينكرون عليهم بعض انحرافهم وكفرهم، وكانوا يظنّون في أنفسهم أنّ هذا الكلام لن يلزمهم بشيءٍ لأنّه لن يتحوّل إلى واقعٍ عمليٍّ، باعتبار أنّ زمن النذر ـــ كما يتصوّرون ـــ قد ولَّى، ولهذا فإنّهم كانوا يتفادون بكلامهم الإحراج الذي يقعون فيه أمام تلك الكلمات، ولكن ظنّهم قد أخطأ، فهذا هو الرسول محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) الذي أرسله الله إليهم أوّلاً، وللنّاس ثانياً، ليكون بشيراً ونذيراً، {فَلَمَّا جَاءهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً} فقد تعقَّدوا منه بشكلٍ عنيف، لأنّه استطاع أن يفضح دَجَلَهم ونفاقهم ويظهر حقيقتهم العارية، بعيداً عن كلّ التهويلات والكلمات الخادعة التي يبرّرون بها واقعهم للآخرين، ولكن، لِمَ يفعلون ذلك؟ إنّ الآية تجيب عن ذلك.

                           *****

{اسْتِكْبَاراً فِي الْأَرْضِ} فهم، بسبب عقدة الكبرياء المتأصّلة في نفوسهم، يريدون المحافظة على امتيازاتهم الطبقية التي يستغلّون بها المستضعفين، فيظلمونهم في أنفسهم وأموالهم وحقوقهم الإنسانية العامّة، كما أنّهم يواجهون الأفكار التغييرية التي ترجعهم إلى حجمهم الطبيعي الإنساني، حيث يتحوّلون إلى مجرّد أشخاصٍ عاديين يتميّزون، إذا أرادوا التميّز، بأعمالهم وخدماتهم للآخرين، ولهذا كان هؤلاء المستكبرين هُمُ القوّة المضادّة الغاشمة التي تقف ضدّ الرسالات والرسل والمصلحين الذين يريدون للمستضعفين أن يتمرّدوا على ضعفهم، وللمستكبرين أن يبتعدوا عن استكبارهم، فيجحدون الحقّ، وهم يعرفونه، ويحاربون الرسول، وهم يعلمون أنّه الصادق في رسالته، الأمين على حياة الناس.

{وَمَكْرَ السَّيِّئِ} في ما كانوا يخطّطون من مكائد ومؤامراتٍ وحيلٍ، من أجل أن يحرّكوا فكر السّوء ومشروعه ونهجه في الواقع، ليحاربوا به فكر الخير ومشروعه ونهجه، ولكن المكر السيّئ الذي يريد هؤلاء أن يثيروا مشاريعه بين الناس، قد يمتدّ إلى حياتهم فينقلب عليهم دون أن يكونوا قد أعدّوا عدَّةً للتخلّص منه، لأنّهم كانوا مستغرقين في توجيهه للآخرين، الذين قد يكونون مستعدّين للتخلّص منه بسبب استنفارهم لمواجهة التحدّيات.. ولهذا أطلق القرآن الآية في أسلوب المثل {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} وربّما كانت المسألة تتعدّى جانب النتائج السيّئة للمكر السيّئ، من نتائج الدنيا إلى نتائج الآخرة، حيث يتحوّل ما فعلوه وما خطَّطوا له من الإضرار بالآخرين إلى عذاب شديدٍ يحلّ بهم، كما حلّ بهم بلاؤه في الدنيا.

{فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ} التي تدلّ عليها كتب التاريخ، أو تكشفها آثار الأُمم الماضية التي عملت السيّئات وتآمرت على الرسل والرسالات، وتمرّدت على خطّ الله، وخطّطت للإضرار بعباده، كيف ذهبت وتحطّمت كلّ حياتها وحلّ بها العذاب؟ هل يدرسون الفكرة من خلال التجربة السابقة ليتعرّفوا أنّ تلك النتائج السلبية لم تنطلق من خصوصيّةٍ معيّنةٍ لواقع هؤلاء، بل انطلقت من الخطّ العام الذي يجمعهم مع الآخرين في عناصر زوال الأُمم التي تتحرّك في سبيل الدمار والمكر السيّئ في كلّ ألوانه وأوضاعه.. وتلك هي سُنّة الله في الكون في ما جعله من نظام السببيّة التي ترتبط فيها المسبّبات بأسبابها، بعيداً عن خصوصيات الزمان والمكان والشخص، ما يجعلها ممتدّةً في كلّ مواقع الحياة، فلا تتخلّف النتائج عن المقدّمات، انطلاقاً من إرادة الله التي لا تتغيَّر ولا تتبدّل.

{فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} لأنّ معنى التبدّل أو التحوّل، أن تهتزّ الثوابت التي جعلها الله بمثابة القاعدة التكوينية للنظام الكوني القائم على سننٍ وقوانين، ما يسيء إلى إرادة الله، فالسنّة تعني الثبات، ولو كان الأمر متحوّلاً أو متبدّلاً لما كان هناك سنّةً في معناها الكوني.. وهذا ما يريدنا الله أن نفرّق فيه بين الإرادة المتعلّقة بالحالات الطارئة للأشياء، وبين الإرادة المتعلّقة بالقوانين الثابتة في الكون، لنواجه المسألة في نهاية الأمور ضمن هذا الاتجاه.

                           *****

دراسة نتائج المستقبل بدراسة نتائج الماضي:

{أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} ممّن دمّرهم الله من دون أن يتمكّنوا من التخلّص من هذه العاقبة، {وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} فلم تنفعهم القوّة التي قد تنفع مخلوقاً قوياً في مواجهة مخلوقٍ قويّ مثله، فتختلف موازين النتائج تبعاً لاختلاف موازين القوّة، ولكن ماذا تنفع القوّة أمام خالق القوّة الذي يملك القوى بكلّ عناصر قوّته، ليذهب بها في لحظةٍ واحدةٍ، فتتبخَّر في الهواء، فكيف يفكّر هؤلاء الذين يقومون باستعراض قوّتهم أمامك أو أمام أنفسهم، ليشعروا بأنّهم قادرون على التمرّد على الله، وأنّ أمرهم سوف يعجزه، فلا يستطيع القضاء عليهم، ولا ردّ ما يريدون، {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} لأنّه المالك لكلّ ما في الوجود، والمسيطر عليه، فكيف يعجزه شيءٌ منه ممّا لا استقلال له بذلك، ولا قدرة له في وجوده، بل هو خاضعٌ لله في حركته، ومشدودٌ إليه بوجوده، {إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً} يعلم كلّ شيء ويقدر عليه. ولكن يكفر الناس ويستمرّون في طغيانهم وكفرهم، وكيف يعصون الله، ويبقون أقوياء في مواجهتهم له في ما يأمرهم به أو ينهاهم عنه؟ وكيف نفسّر القدرة المطلقة لله التي لا يعجزها شيء وقدرة هؤلاء المضادّة الممتدّة في الحياة؟

لقد جعل الله للحياة نظاماً ثابتاً تخضع له كلّ الظواهر الكونية والإنسانية في حركتها، فلم يجعل العقاب مرتبطاً بالعمل ارتباط المعلول بالعلّة، من دون أيّ فاصلٍ زمنيٍّ بينهما، بل جعل له موعداً نهائياً في اليوم الآخر، لتتحرّك تجربة الانحراف إلى جانب تجربة الاستقامة، وليدور الصراع بينهما، فيغلب هذا تارةً وتغلب تلك أخرى، لتتحرّك القناعة من خلال الفكر المتحرّك بين التجربتين، وينطلق الموقف من خلال الإرادة المنطلقة مع الموقفين، لأنَّ لله حكمته في أن تعيش الحياة غنى التجربة الإنسانية في الصراع بشكلٍ عميق ومتحرّك.

                           *****

4 ـــ واقع المستكبرين في الأرض ومصيرهم:

{سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ*وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَلِقَاء الآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 146 ـــ 147].

                           *****

معاني المفردات:

{يَتَكَبَّرُونَ}: كلّ من لا يخضع للحقّ فقد تكبّر عليه.

{الرُّشْدِ}: سلوك طريق الحقّ. وضدّه الغيّ وهو سلوك طريق الضلال.

{حَبِطَتْ}: الحبوط: سقوط العمل حتى يصير بمنزلة ما لم يعمل.

                           *****                         

هذه صورة لبعض النماذج الإنسانية، من الجاحدين لآيات الله، السائرين في طريق الضلال، وهي صورةٌ حيّةٌ متحرّكةٌ في أكثر من اتجاه، وفي أكثر من مجتمع، وقد أراد الله تقديمها إلينا لنستوحي منها كيف تكون الغفلة عن الله وعن آياته سبباً في ضلال الإنسان وهلاكه ووصوله إلى الدرك الأسفل من الانحطاط والسقوط، وفي بعده عن رحمة الله وهدايته.

{سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ}، فأتركهم ليسيروا على هواهم، في ما يريدون وما لا يريدون، فلا أمنحهم لطفاً من ألطافي التي أمدُّ بها المؤمنين، عندما تنحرف بهم الطريق عن غير قصدٍ واختيارٍ، فأهديهم بذلك إلى الصراط المستقيم، لأنّهم عاشوا الحياة من أجل السير في طريق الهداية. أمّا هؤلاء فإنّهم لم يريدوا الاهتداء بما أنزلت إليهم من هدى الوحي والرسالة، ولم يحرّكوا طاقاتهم الذاتية في هذا الاتجاه؛ فحذّرتهم فلم يحذروا، وخوَّفتهم فلم يخافوا، وأنذرتهم فلم يذعنوا، فسأتركهم لما اختاروه، وسأصرفهم عن آياتي من خلال ذلك. {الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ}، فهم يتحرّكون من موقع العقدة الذاتية المرَضِيّة التي تشعرهم بالاستعلاء والكبرياء، فتوحي لهم بأنّهم أعظم من أن يذعنوا للفكر الذي يأتيهم من خارج ذواتهم، وأكبر من أن يخضعوا لإنسان ما ـــ حتّى لو كان نبيّاً ـــ وتتعاظم عندهم العقدة، لتمنعهم من الاستسلام لأمر الله والإيمان بآياته، دون أن يكون لهم أيّ حقٍّ أو أيّة حُجّةٍ في ذلك كلّه، لأنّه لا مجال للكبرياء إلاّ لله، وكلّ من هو غيره مخلوقٌ حقيرٌ لا يملك امتيازاً على غيره إلاّ بالعلم والتقوى، وهما الصفتان اللّتان توحيان بالتواضع وتمنعان عن التكبّر.

{وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا}، لأنّ العقدة تمنعهم عن الانطلاق في أجواء الإيمان الفكرية أو الروحية من أجل أن يفكّروا ويتعرَّفوا السبيل الحقّ للإيمان. {وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً}، لأنّهم لا يصدرون في ما يسيرون فيه من طرق، عن دراسة النتائج الإيجابية والسلبية على مستوى الصبر، في ما يتمثّل فيه من رضا الله وسخطه على أساس قضايا الكفر والضلال، بل يصدرون في ذلك كلّه عن ملاءمة ذلك لهوى أنفسهم وعدم ملاءمته لها، من دون فرقٍ بين الرشد والغيّ. {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ} فضّلوا سواء السبيل. {وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَلِقَاء الآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} وسقطت عن الاعتبار، لأنّها لم ترتكز على قاعدةٍ ثابتةٍ من فكرٍ ووعيٍ وإيمان. {هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}، وتلك هي العدالة الإلهية في ما يثيب الله أو يعاقب، وفي ما يعطي أو يمنع، فلا نجاة إلاّ بعمل، ولا هلاك إلاّ بعمل.

                           *****

5 ـــ المترفون غايتهم الاستمتاع:

{وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} [الإسراء: 16].

                           *****

معاني المفردات:

{مُتْرَفِيهَا} المترف: المتروك يصنع ما يشاء ولا يمنع منه.

{فَدَمَّرْنَاهَا}: أهلكناها.

                           *****

في هذه الآية حديثٌ عن قانون اجتماعي من القوانين التي ركّز الله الحياة عليها، وهي تكشف أسباب هلاك الأُمم، وتدمير المجتمعات. فقد جعل الله للحياة قاعدةً تتحرّك من خلالها، فالنجاح يتحقّق إذا انطلقت الحركة من قاعدة الحقّ والعدل والخير، حيث تسود النظرة المتوازنة وعنصر الانضباط في علاقة القاعدة المؤمنة بالقيادة الصالحة، فلا مجال للهوى أو العبث أو البغي أو الفساد، بل هناك النظام الذي يحكم القيادة في قيادتها للأُمّة، ويحكم الأُمّة في التزامها بتعليمات القيادة. وبذلك تتوازن الحركة ويستقرّ الواقع، وتتطلَّع الحياة إلى مستقبلٍ قويٍّ زاهرٍ. أمّا إذا انطلقت الحركة من قاعدة الباطل والظلم والشرّ، والتي تلتقي بفقدان التوازن في النظر إلى الأشياء، وانعدام الانضباط في طبيعة العلاقات، فهناك الحكم الذي يخضع للمزاج، والحركة التي تنطلق وفق الهوى، والحياة التي يعبث بها الفساد، ويسيطر عليها البغي والعدوان، فإذا اجتمعت هذه الشروط، كان مستقبل الناس الهلاك والدمار.

                           *****

{وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً} فالإرادة الإلهية تتعلّق بالأشياء على أساس قانون السببيّة الذي أقام الله الكون عليه، فإذا توفّرت أسباب الهلاك لهذه القرية أو تلك، من خلال الظروف المحيطة بها، والأعمال التي تحدث فيها، والعلاقات السيّئة التي تحكمها، فلا بدّ من أن يحصل المسبَّب وهو الهلاك كنتيجة حتميّة للقانون الكوني، {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} والمترفون هم الذين يعيشون حياة الترف المتمثّلة في إرواء ظمأ الحسّ من اللّذة، وإشباع جوع الغريزة من الاستمتاع، والأكل والشرب، وتحويل الطاقات كلّها نحو الحصول على الجاه والوصول إلى مواقع الفساد، بحيث يعتبر ذلك كلّه القيمة المثلى التي تسقط أمامها كلّ القِيَم، فلا قيمة لغيرها، ولا حركة للعلاقات الإنسانية إلاّ من خلالها. وهؤلاء المترفون هم الذين ينشرون الفساد، لأنّهم لا يطيقون الحياة مع الصلاح والمصلحين، ولا ينسجمون مع أفكارهم وأوضاعهم، ولا يستجيبون إلاّ لشهواتهم وأطماعهم، بل قد يقفون ضدّهم في عملية صراعٍ عنيف، ولذلك فإنّ المترفين يعملون على إخضاع الحياة لعناصر اللّهو والعبث والفجور وتهيئة الأجواء الملائمة لطريقتهم في الحياة، ويثيرون الفساد في كلّ المجالات الفكرية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، بحيث يتحوّل الواقع إلى ما يشبه الفوضى في ميزان القِيَم، كنتيجةٍ لانحراف الموازين عن خطّ الحقّ والاستقامة والإصلاح، بحيث يصبح المعروف منكراً، والمنكر معروفاً.

                           *****

فهم أمر الله للمترفين:

ولكن كيف نفهم أمر الله للمترفين؟

هناك تفسيران في هذا الصدد: الأوّل: أنّ المقصود بالأمر التكليف التشريعي، فيكون المعنى أمرنا بالطاعة، فلم يمتثلوا بل فسقوا، كما يقال: أمرت فلاناً فعصاني، وبذلك لا يكون في الآية أيُّ إشكال من هذه الجهة، لأنّها تكون منسجمةً مع الموازين الفكرية الإسلامية.

الثاني: أنّ متعلّق الأمر هو الفسق، فيكون المعنى: أمرناهم بالفسق ففسقوا فيها، كما يقال: أمرته فأكل، وهنا يأتي الإشكال: كيف ينسجم هذا مع الخطّ السليم للعقيدة، فكيف يأمر الله بالفسق كما جاء في قوله تعالى: {وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 28].  

وقد ذكر في الجواب عن ذلك، أنّ الأمر بالفسق ليس أمراً تشريعياً، بل المقصود به الأمر التكويني الذي يرادف الإرادة التكوينية التي تتعلّق بأفعال العباد بشكلٍ غير مباشر، وذلك بتهيئة الأسباب الواقعيّة التي لا يستطيع المترفون الفسق بدونها، من القوّة البدنية والفكرية والمال والسلاح والجاه والشهوات، ولكن ذلك لا يجعل من الفسق أمراً حتمياً، لأنّ بإمكانهم أن يسخّروها في الطاعة والخير، وفق ما أراد الله لهم بالالتزام بالتشريع. فإذا استعملوها في طريق الفسق، كان الفعل مرتبطاً بالله من ناحية أنّه السبب الأعمق الذي ترتبط به الأعمال، وأنّه الذي ربط بين السبب والمسبّب، غير أنّ الإنسان هو الذي يحرّك السبب نحو المسبّب، فيكون هو العنصر المباشر الذي يتحمّل المسؤولية، لأنّ الله جعل له الحرية بين الفعل وعدمه. وهذا أسلوبٌ قرآنيٌّ، أشرنا إليه في كلّ مورد أسند فيه الفعل الصادر من الإنسان مباشرة إلى الله.

ولعلّ التفسير الثاني هو الأقرب إلى ظاهر الآية، كما نلاحظ ذلك في دراسة هذا التعبير من خلال التعبيرات المماثلة التي حذف فيها متعلّق الأمر للدلالة عليه بالفعل المسبوق بالفاء، الذي يوحي بانفعال الفاعل بتحقيق الأمر المتوجّه إليه، بينما نجد التفسير الأول بعيداً عن الفهم العرفي، بالإضافة إلى أنّه لا وجه لاختصاص المترفين بتوجيه التكليف إليهم وعصيانهم له؛ والله العالم.

{فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ} الإلهي الذي تفرضه سننه الكونية، {فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} وأهلكناها بكلّ مظاهر الهلاك الروحي والفكري والاجتماعي والسياسي، جزاءً لها على ذلك كلّه.

وخلاصة الفكرة، التي تريد أن توحي بها الآية، أنّ الله لا يريد إهلاك أيّة قرية إلاّ بعد أن يتحرّك فيها المترفون الذين يستغلّون النعم التي أغدقها الله عليهم في الفساد والإفساد اللّذين يؤدّيان إلى الدمار الشامل.

                           *****

6 ـــ تضخّم ذات المستكبرين:

{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 34].

معاني المفردات:

{اسْجُدُواْ}: السجود: الخضوع والتذلّل. وفي الشرع وضع الجبهة على الأرض. والسجود لله يكون على نحو العبادة، ولغيره على وجه التكريم والتحيّة، ومنه سجود الملائكة لآدم وسجود يعقوب وأهله ليوسف.

{إِبْلِيسَ}: اسم أعجمي معرّب، واستدلّوا على ذلك بامتناع صرفه، وذهب آخرون إلى أنّه عربي مشتق من الإبلاس الذي هو الحزن المعترض من شدّة اليأس. والمقصود بــ "إبليس" المخلوق الغيبي الذي يمثّل رمز الشرّ، وهو من الجنّ، التحق بالملائكة حتى أصبح معدوداً منهم لشدّة عبادته ـــ كما يُقال ـــ وقد جاء الحديث عنه بذلك في قوله تعالى: {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف: 50].

{أَبَى}: الإباء شدّة الامتناع، فكلّ إباء امتناع، وليس كلّ امتناع إباء، ومنه: رجل أبيّ: ممتنع عن تحمّل الضيم.

{وَاسْتَكْبَرَ}: الاستكبار: إظهار الإنسان من نفسه ما ليس له من خلال تكبّره وإعجابه بنفسه، والكبر، حالة الإعجاب ورؤية نفسه أكبر من غيره في صورة انتفاخ الشخصية، والتكبّر على الله إنّما هو بالامتناع من قبول الحقّ ومن الإذعان له بعبادته.

                           *****

موقف أراد الله فيه أن يكرِّم هذا المخلوق الجديد، ليظهر قيمته وفضله، فأمر الملائكة بالسجود له إعظاماً وتحيّة وتكرمة، وكان إبليس يعيش في أجواء الملائكة حتى كاد أن يحسب منهم، كما يوحي به الاستثناء الذي هو من قسم الاستثناء المنقطع الذي يعتبر فيه المستثنى من لواحق المستثنى منه وإن كان خارجاً عنه.

وانسجم الملائكة مع هذا الأمر الإلهي لأنّهم عباده المكرمون الذين {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء: 27] أمّا إبليس، فإنَّ الأمر يختلف لديه، لأنّه لا يعيش هذا الجوّ الروحي إزاء أوامر الله ونواهيه، بل القضية عنده هي ما إذا كانت الطاعة لله منسجمة مع ذاتيّته ونظرته إلى نفسه، أو غير منسجمة. وكان السجود لآدم لا يرضي غروره الذاتي وشعوره بالاستعلاء أمام هذا المخلوق الجديد، على أساس عنصري، كما توحي به الآيات القرآنية الأخرى التي تحدّثت عن القصة بإسهاب، فما كان منه إلاَّ أن تمرّد وأبى واستكبر وامتنع عن الطاعة.

                           *****

الملائكة تسجد آدم تكريماً له:

{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ} هذا المخلوق الجديد الذي هو قبضة من الطين وإبداع من القدرة، ونفخة من روح الله، في ميزانه الإنسانية؛ في عقله الذي يتّسع لكلّ حقائق العقيدة والحياة، وإرادته التي تمثّل العزيمة القوية في حركة القوّة الروحية في وجوده، وحرية حركته في جميع مجالات الكون الموضوعة تحت قدرته، وفي حيوية إحساسه بالمسؤولية الشاملة لكلّ مواقع الخلافة عن الله في الأرض في إدارة شؤونها، وترتيب أوضاعها، وتنظيم حركتها، وتوجيهها في الخطّ الذي يرضاه الله للحياة في داخل النظام الكوني.

وفي ضوء ذلك، كانت عظمة خلقه لوناً من ألوان الدلالة على عظمة الله في إبداع مثله، ما يفرض التحيّة له والتكريم لوجوده، والخضوع لله على عظمة قدرته في خلقه، الأمر الذي يجعل السجود له شأناً من شؤون العبادة لله والتقدير لإبداعه في الخلق، والتحية للمخلوق الحيّ الفاعل الذي يشارك الملائكة المهمّات الموكولة للعباد في إدارة النظام الكوني. {فَسَجَدُواْ} خضوعاً، وإذعاناً للأمر الإلهي، وتحيّة لهذا الخلق الذي أكرمه الله بخلافته وكرّمه بنعمه، {إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى (أن يسجد) وَاسْتَكْبَرَ} انطلاقاً من العقدة المستعلية في داخل ذاته في إحساسه المرضيّ بالتفوّق العنصري لانتمائه إلى النار أمام انتماء آدم إلى التراب، حيث تستطيع النار أن تحرق التراب.

                           *****

المستكبرون ومشكلة تضخّم الذات:

وهذه مشكلة المستكبرين الذين يستغرقون في جانب من جوانب الذّات، ويغفلون عن الجوانب الأخرى المتّصلة بالعناصر الحيّة الفاعلة في الشخصية المنفتحة على الآفاق الواسعة في الحياة في أفكارها وحركيّتها وفاعليّتها، من دون اعتبار للمادة في ماديّتها الذاتية التي لا تمثّل إلاّ أداة من أدوات الحركة الوجودية في الشكل، لتكون الروح هي العنصر الذي يمنح الذات امتداداً في البعد العملي وعمقاً في المضمون الفكري والروحي للدور الإنساني في الحياة، فلم يدخل الشيطان في المقارنة بينه وبين الإنسان في الجوانب الأخرى، بل استغرق في المسألة المادية، فابتعد عن وعي الخصائص الأخرى التي قد يتفوّق فيها هذا المخلوق عليه ليتواضع أمامه من خلالها، وهكذا سقط من الأعالي ليهوي في الحضيض الأسفل في وحول الاستكبار الذي يتغذّى من قذارات العناصر الشريرة في الذّات.

{وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} الذين ابتعدوا عن الله، واعترضوا على حكمته، وتمرّدوا على أوامره، فكانوا سواءً مع الذين أنكروا وجوده في النتائج العملية الحاسمة في الموقف والموقع.

7 ـــ من أساليب المستكبرين في مواجهة الدعاة إلى الله:

{وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ*وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلَاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ*قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ*وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاء الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ*وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ*قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ: 34 ـــ 39].

                           *****

معاني المفردات:

{مُتْرَفُوهَا}: الذين يتنعّمون في الملذّات كما يشاؤون.

{وَيَقْدِرُ}: يُضيّق.

{زُلْفَى}: قربى.

{مُعَاجِزِينَ}: معاندين، ظانين أنّهم يعجزون الله، وقيل معاجزين مسابقين.

                           *****

لعلَّ مشكلة الكثيرين من المجتمعات في ضلالها وكفرها وفسقها وفجورها وظلمها وانحرافها، هي مشكلة المترفين الذين لا يمثّل الترف لديهم حالةً من النعيم المادي يعيشونه في حياتهم ويتيح تحقيق ما يطلبونه لأنفسهم من ملذّاتٍ ومشتهيات من خلال ما يملكونه من المال والجاه، بل يمثّل حالةً نفسيةً متعاليةً، ووضعاً طبقيّاً معقّداً، من خلال المواقع التي يتحرّكون فيها، والقضايا التي يثيرونها، والصراع الذي يخوضونه ضدّ دعاة الإيمان والخير والصلاح، الذين يريدون تغيير المجتمع الطبقي إلى مجتمعٍ يتساوى أفراده في الحقوق والواجبات، وتغيير القِيَم الإنسانية العامة، من قِيَمٍ مادية يكون فيها للمال الحظّ الأوفر والدرجة العليا في الحياة الاجتماعية العامة، إلى قِيَم روحيةٍ، يكون فيها للإيمان والخُلُق والعمل الصالح، في ما تمثّله التقوى على الصعد الفكرية والأخلاقية والعملية في حياة الناس، النصيب الكبير.

ويقف هؤلاء المترفون دائماً ليواجهوا الرساليّين، بكلّ وسائل المواجهة الإعلامية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، بما يطلقونه من أضاليلٍ، وما يثيرونه من شبهات واتّهامات، وما يحرّكونه من فتنٍ ومؤامرات، حفاظاً على امتيازاتهم الذاتية والطبقية من خطّ الرسالات، ودعاة الإصلاح، وهذا هو ما تتناوله هذه الآيات في معالجتها للتحدّيات التي تواجه المرسلين والمنذرين، لتناقش الطروحات المنحرفة التي يحاول هؤلاء المترفون التأثير من خلالها على ذهنية الناس البسطاء.

{وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ} لينذر الناس بعذاب الله، إذا انحرفوا عن خطّ الإيمان برسالته {إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا} الذين يعتبرون الترف، في عمقه المالي والطبقي، وامتداده الاجتماعي والسياسي، أساساً للقيمة الذاتية عندهم، {إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ} لأنّ الرسالات تعمل على تحرير الإنسان من الخضوع لإنسان مثله تحت ضغط حاجاته، وتأثير نقاط ضعفه، فهي توحي إليه بأنّ الله هو الذي يرعى حاجاته وحاجات المخلوقات التي تعيش معه، وأنّ الآخرين من الطغاة والأغنياء من مترفي الأمم، لا يخرجون عن دائرة الحاجة أمام الله، فما من نعمةٍ يتقلّبون فيها، إلاّ وهي مستمدّةٌ من الله، فهو الذي منحهم إيّاها وأنعم عليهم بها، وهو القادر على أن يسلبهم إيّاها، كما تعمل الرسالات أيضاً على تغيير مفهوم الإنسان للحياة في قيمها العامة والخاصة، في الجانب الروحي والماديّ منها، والهدف أن تجعل الناس المستضعفين أحراراً في حياتهم، وأقوياء في مواقفهم، من خلال كونهم مؤمنين في عقيدتهم رفض العبودية إلاّ لله، والتمرّد على كلّ الشرائع إلاّ شريعة الله... وهكذا كان المترفون يعلنون الكفر بالرسالات في مواجهة الأنبياء للحفاظ على امتيازاتهم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في دائرة الظلم والطغيان.

                           *****

 

 

منطق القوّة لدى المترفين:

{وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلَاداً} ما يجعلنا الأقوى موقعاً وموقفاً وشأناً من هؤلاء الرسل الفقراء المعدمين الذين لا يملكون ما نملك من الكثرة في الأموال والأولاد والأتباع {وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} لأنّ الله لا يمكن أن يعذّب الطبقة العليا من الناس التي تمثّل المستوى الكبير في الحياة على صعيد المال والمعرفة والقوّة، ففي خيالهم أنّ امتيازات الدنيا تحكم امتيازات الآخرة بحكم سيطرة القِيَم المادية عليهما معاً.

                           *****

منطق الرسالة في مواجهة منطقهم:

{قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} فليست السعة في الرزق تمثّل امتيازاً للغني، بما يرزقه الله، وليس التقدير في العيش يمثّل احتقاراً للفقير، بما يضيّقه الله عليه من رزقه، بل الأمر يختلف في طبيعته باختلاف حركة الحكمة التي يجسّدها التخطيط الإلهي الخاص بأرزاق الناس في الحياة، بما يصلح به أمورهم في طبيعة حياتهم. فقد يكون الفقر بلاءً للفقير، ليختبر الله به صبره وإيمانه، ليرفع درجته من خلال ذلك فيكون خيراً له، وقد يكون الغنى بلاءً للغني ليختبر به شكره وتقواه، فإذا لم يشكر كان ذلك شرّاً له، فتسقط درجته. فلا بدّ من أن يُنظر للمسألة من هذه الجهة، لتتوازن النظرة في مجريات الحياة في حركة الرزق فيها، ليعرف الناس عمق المعنى في ذلك كلّه، فلا تغريهم المظاهر ولا تسلبهم الثروة التي يملكها الآخرون استقامة نظرتهم إلى الواقع، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} لأنّهم يرتبطون بالسطح الظاهر للقضايا ولا ينفذون إلى العمق.

{وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى} ممّا قد يوحي به كلامكم الذي تؤكّدون فيه أنّكم لستم بمعذّبين، لأنّكم أكثر أموالاً وأولاداً، فكيف تفكّرون بهذه الطريقة؟ وكيف يمكن أن يقرّب الله إنساناً لكثرة أمواله وأولاده، مع أنّه الذي أعطاه ذلك كلّه، وهو الذي قسم العطايا بين خلقه، فكيف يميّزهم بالقيمة، ما ميَّزهم به من حيث الحكمة والبلاء، لا من حيث المنزلة والمقام، فلا يميّز الله عبداً عن غيره في أيّ موقع من المواقع {إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} فأعطوا الله من جهدهم الفكري ما جعلهم أقرب إليه في عقولهم وقلوبهم من خلال الإيمان بوجوده، والإخلاص لتوحيده، ومن جهدهم الجسدي ما جعلهم أقرب إليه في نشاطهم العملي الذي يراعي تقوى الله {فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاء الضِّعْفِ} الذي يتضاعف فيه الثواب تبعاً لقيمة الجهد المبذول، لا سيّما ما يواجهه المؤمن من جهاد النفس، في التحدّيات الداخلية في حاجاته وغرائزه، ومن جهاد العدوّ في التحدّيات الخارجية التي يفرضها خصوم الرسالة وأعداؤها {بِمَا عَمِلُوا} من الأعمال الصالحة، لأنّ الله جعل ثوابه تابعاً للعمل في حياة الناس، {وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ} أي في غرفات الجنّة، وهي البيوت العالية فيها، وقد تكون كنايةً عن علوّ الدرجة {آمِنُونَ} لا يصيبهم فيها سوء ولا خوف ممّا كانوا يحذرون منه في الدنيا، لأنّ الجنّة هي دار السلام والاطمئنان والاستقرار الأبدي.

{وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ} يعملون على تعجيز الدّعاة إلى الله وتثبيطهم وإثارة الخوف في نفوسهم، بما يخطّطونه من خطط الشرّ، وما يثيرونه من أجواء الكفر، وما يقومون به من مشاريع الضلال، {أُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} لأنّ ذلك هو النتيجة الطبيعية لأعمالهم وأوضاعهم.

{قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ} هو مصدر نظام الرزق في الحياة، وهو ضمانة استمراره في تلبية حاجات الإنسان، فمنه يستمدّ الثقة الكبيرة بالاستقرار والطمأنينة في ذلك، فهو الذي يعطي السعة لمن يريد أن يوسع عليه، ويضيّق على من يرى المصلحة والحكمة أن يضيّق عليه، {وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} فليس لكم أن تخافوا من الفقر إذا أنفقتم ممّا رزقكم الله من مال، لأنّ المسألة لا تتعلّق بجهدكم الذاتي في تحصيل المال، لتخافوا من الضياع وفقدان التعويض إذا أذهبتم ما لديكم منه، فانطلقوا مع العطاء، وانتظروا العوض من الله في الدنيا مثل الآخرة {وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} لأنّه الذي لا يمنع أحداً رزقه ممّن أطاعه وممّن عصاه من دون حاجةٍ إلى أيّ شيء من المرزوقين.

                           *****

8 ـــ بين التهلكة وصراع الاستكبار:

{وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195].

                           *****

معاني المفردات:

{التَّهْلُكَةِ}: التهلكة والهلاك بمعنى واحد، وقيل: التهلكة، كلّ ما يصير عاقبته الهلاك، وأصل الهلاك: الضياع، وهو مصير الشيء بحيث لا يدري أين هو.

                           *****

انطلق القرآن في مجال يتّصل بأجواء القتال والجهاد في سبل الله، وهو الإنفاق في هذا السبيل، فإنَّ للجهاد تكاليفه ونفقاته المالية التي يحتاجها المقاتلون في ما يأكلون وما يركبون وما يتسلّحون به ضدّ العدوّ، فلا بدّ من الجهاد بالمال مع الجهاد بالنفس. {وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ} أي: أنفقوا من أموالكم في الجهاد وطريق الدِّين، وكلّ ما أمر به من الخير وأبواب البرّ؛ فهو سبيل الله، لأنَّ السبيل هو الطريق، فسبيل الله هو الطريق إلى الله وإلى رحمته. وعقَّب ذلك بالنهي عن إلقاء الإنسان نفسه بالتهلكة {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} أي: بأنفسكم. وجاء التعبير باليد، باعتبار أنّها مظهر القوّة للذّات. فكأنّ الإنسان عندما يلقي بنفسه إلى التهلكة يسقط قوّته التي تتمظهر في يديه. وهذا التوجيه يتناول المجالات الفردية أو الجماعية التي يعرّض فيها نفسه للخطر، من دون أن يكون هناك أيّ تكليف ملزم من الله بالتضحية والاستشهاد، وذلك بأن يندفع الإنسان في المواقف التي لا يضمن فيها السلامة بنحو معقول على المستوى الفردي، أو تندفع الجماعة في المواقف الصداميّة مع الأعداء، من دون إعداد سابق للخطّة الحكيمة التي تضمن تحقيق الأهداف الكبيرة، فإنَّ الانتحار الفردي أو الجماعي محرّم عند الله، في غير المواقف الشرعية التي تفرض ذلك.

وقد ورد في بعض الأحاديث عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) ما يوحي بأنَّ الآية واردة في الانتحار المالي ـــ إذا صحَّ التعبير ـــ وذلك بأن ينفق الإنسان ما لديه من المال بحيث لا يبقى معه شيء. فقد جاء في كتاب الكافي عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} قال: لو أنَّ رجلاً أنفق ما في يديه في سبيل الله ما كان أحسن ولا وفّق. أليس تعالى يقول: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} يعني المقتصدين(1).

والظاهر أنَّ الحديث المشار إليه وارد في مورد التطبيق لا التعيين؛ فإنَّ الآية مطلقة لكلّ عمل يؤدّي إلى التهلكة، سواء من ناحية الخطر على الحياة، أو من ناحية الخطر على حاجاتها الطبيعية التي قد تؤدّي إلى الخطر على الحياة في نهاية المطاف.

وهناك تفسيران آخران يربطان الإلقاء في التهلكة بالجانب السلبي في حركة الإنسان؛ الأوّل: أن يكون ترك الجهاد موجباً للتهلكة، وذلك في ما روي في الدرّ المنثور بطرق كثيرةٍ عن أسلم أبي عمران، قال: "كنّا بالقسطنطينية، وعلى أهل مصر عقبة بن عامر، وعلى أهل الشام فضالة بن عبيد؛ فخرج صف عظيم من الروم فصففنا لهم، فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم، فصاح الناس وقالوا: سبحان الله، يلقي بيديه إلى التهلكة، فقام أبو أيوب صاحب رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) فقال: يا أيُّها الناس، إنّكم تتأوّلون هذه الآية هذا التأويل، وإنّما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار، إنّا لما أعزّ الله دينه وكثر ناصروه، قال بعضنا لبعض سرّاً دون رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): إنَّ أموالنا قد ضاعت، وإنَّ الله قد أعزَّ الإسلام وكثر ناصروه؛ فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها. فأنزل الله على نبيّه ـــ يردّ علينا ما قلنا ـــ {وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} فكانت التهلكة الإقامة في الأموال وإصلاحها وتركنا الغزو"(1).

ونحن نلاحظ أنّ الآية يمكن أن تنطبق على هذا المورد، وهو ترك الجهاد، والاستسلام للدّعة والاسترخاء، والإقبال على إصلاح الأموال كهدفٍ كبيرةٍ للحياة.. فإنَّ المجتمع عندما يعيش مثل هذا الجوّ السلبي أمام قضايا المصير، فلا بدَّ من أن يقع في التهلكة، لأنَّ العدوّ سوف يتغلّب على المسلمين ويسيطر على مقدّراتهم الاقتصادية والأمنية، ويحتلّ أرضهم، ويهزم جمعهم، ويحطّم قوّتهم، الأمر الذي يؤدّي إلى هلاك الأُمّة سياسياً واقتصادياً وأمنياً. وهذا ما لا يرضاه الله، ولكن من المستبعد أن تكون الآية دالّة على ذلك بخصوصه، فإنَّ الظاهر منها الربط بين الإنفاق والإلقاء في التهلكة، ومع الإغضاء عن ذلك، فإنّها تكون مطلقة لكلّ الموارد الإيجابية والسلبية في الأشياء كلّها.

أمّا التفسير الثاني، فيرى أنَّ "الإنفاق بشكلٍ عام يؤدّي إلى نجاة أفراد المجتمع من الهلاك، وبالعكس، حينما ترك أفراد المجتمع الإنفاق وتتراكم الثروة في أحد أقطاب المجتمع، تنشأ أكثرية محرومة بائسة، ولن يلبث هذا المجتمع حتى يحدث انفجار عظيم فيه يحرق الأثرياء وثروتهم، ويتّضح من ذلك ارتباط الإنفاق بإبعاد التهلكة"(2).

ونلاحظ على هذا الوجه ما لاحظناه على الوجه الأول، مع ملاحظة بعده عن السياق العام للآية، وهو حالة الجهاد، ما يبعد معه إرادة الخصوصية السلبية، ولكن علاقة ترك الإنفاق بالإلقاء في التهلكة يمكن أن يكون مصداقاً للخطّ العام الشامل لجميع موارده.

                           *****

مع صاحب مجمع البيان في دلالة الآية:

هذا وقد اعتبر صاحب المجمع، بعد أن عرض لأكثر من وجه يضع الآية في دائرة خصوصية معيّنة، أنَّ الأولى حمل الآية على جميع الوجوه ولا تنافي فيها. وفي هذه الآية دلالة على تحريم الإقدام على ما يخاف منه على النفس وعلى جواز ترك الأمر بالمعروف عند الخوف، لأنَّ في ذلك إلقاء بالنفس إلى التهلكة. وفيها دلالة على جواز الصلح مع الكفّار والبغاة إذا خاف الإمام على نفسه أو على المسلمين، كما فعله رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) عام الحديبيّة، وفعله أمير المؤمنين (عليه السلام) بصفّين، وفعله الحسن (عليه السلام) مع معاوية من المصالحة لما تشتّت أمره وخاف على نفسه وشيعته.

فإن عورضنا بأنَّ الحسين (عليه السلام) قاتل وحده، فالجواب أنَّ فعله يحتمل وجهين:

أحدهما: أنّه ظنَّ أنّهم لا يقتلونه لمكانه من رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم).

والآخر: أنّه غلب على ظنّه أنّه لو ترك قتالهم قتله الملعون ابن زياد صبراً كما فعل بابن عمّه مسلم، فكان القتل مع عزّ النفس والجهاد أهون عليه(1).

ونلاحظ على هذا المنهج في معالجة المسألة في مفهوم الإلقاء في التهلكة، أنَّ القضية في الصلح وعدمه، نسواء أكان ذلك في صلح رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) في عام الحديبيّة، أم في طريقة الإمام عليّ (عليه السلام) في مواجهة الموقف بصفّين، أم في صلح الإمام الحسن (عليه السلام)، فهذا التوجّه لم يكن منطلقاً من هذا المبدأ الذي تقرّره الآية، بل من خلال مراعاة المصلحة الإسلامية العليا التي تفرض ذلك، كالاستعداد لفتح مكّة من خلال التخطيط النبويّ الذي كان يفرض تبريد الجوّ. أمّا موقف الإمام عليّ (عليه السلام) من التحكيم، فقد كان منطلقاً من النتائج السلبية في انقسام جيشه ووصول معاوية إلى غايته في السلم بما لم يستطعه في الحرب انتظاراً لفرصة أخرى لم تأتِ من خلال الظروف الطارئة. أمّا صلح الإمام الحسن (عليه السلام)، فقد كان من أجل الإبقاء على المعارضة للتخطيط للمستقبل الذي يكشف طبيعة الحكم الأموي من خلال حركة معاوية في بيعته ليزيد وتجربة يزيد ومن بعده.

إنّنا نلاحظ أنّ المسألة لم تكن من باب الخوف على النفس أو على الجيش من الهلاك، بل كانت من أجل النتائج السلبية الطارئة للحرب على مستوى القضايا الكبرى.

وإذا أردنا أن نتحرّك مع المبدأ العام في انطلاقه في تشريع الصلح مع الكفّار، فإنَّ المسألة لا بدَّ من أن تخضع لدراسة الجانب السياسي على مستوى الحاضر والمستقبل، بالإضافة إلى الجانب الأمني، ولا يمكن الاقتصار على الجانب الأمني، لأنَّ المسألة الجهادية تتحرّك من أجل دفع المجاهدين إلى التضحية بأنفسهم في سبيل الله. وربّما كانت طبيعة الظروف العسكرية توحي بأنَّ السلامة غير محتملة للكثيرين من أفراد الجيش، بحيث كان المطلوب منهم أن يلقوا بأنفسهم إلى الموت، لينالوا شرف الشهادة والقتل في سبيل الله.

أمّا قضية الإمام الحسين (عليه السلام)، فقد انطلقت من موقع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإصلاح في أُمّة جدّه، ما يجعل من حركته جهاداً في سبيل الله يتجاوز النصر فيه الجانب المادي إلى الجانب المعنوي، ولينطلق في مدى المستقبل في تأثيراته لعدم وجود أيّة فرصة للنصر في الحاضر. وهذا ما نستوحيه من كلماته التي قال في بعضها على ما روي عنه:

"إنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالِماً، وإنّما خرجتُ لطلب الإصلاح في أُمّة جدّي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، أُريد أن آمُر بالمعروف وأنهى عن المنكر"(1).

"ألا إنَّ الداعيَّ ابن الدعيّ قد رَكَزَ بين السِّلّة والذلّة، وهيهات ما آخذُ الدنية، أبى الله ذلك ورسوله، وجدود طابت، وحجور طَهُرَت، وأنوف حميّة ونفوس أبيّة، لا تؤثر مصارع اللئام على مصارع الكرام"(2).

فلم تكن المسألة لديه دائرة في نطاق احتمالات السلامة، لأنَّ الظروف كلّها لا توحي بأيّ احتمال لذلك أمام رفض الاستسلام لما يفرضونه عليه، كما أنّها لم تكن اعتقاداً بأنّهم سيقتلونه على كلّ حال، حتى لو استسلم إليهم، بل كانت المسألة هي التحرّك من موقع العناوين الإسلامية الكبرى التي تتحرّك في خطّ التضحية والشهادة في الواقع الذي يحيط به والذي قد يفرض الصدمة الروحية الجهادية التي تهزّ أعماق المسلمين في الاتجاه الذي يضع الثورة في المستقبل.

إنَّ هذا المبدأ الذي تقرّره هذه الآية ينطلق في دائرة الحالات الفردية التي يتحرّك فيها الإنسان في حياته الخاصة لأهدافه الذاتية، ولا يقترب من العناوين الكبرى القائمة على أساس الخطر كالجهاد الذي لا ينفصل عن تعريض النفس للتهلكة على المستوى الفردي، أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في القضايا العامة في الظروف المشابهة لحركة الإمام الحسين (عليه السلام) التي تواجه السلطة الحاكمة من موقع الشخصية التي يعتقد الناس قيادتها الشرعية، كما هي كذلك على أساس طبيعة الأمور، ما يجعل التكليف الشرعي يتحرّك في دائرة الخطر في نطاق الظروف الموضوعية.

ولذلك فلا بدّ من دراسة المسؤوليات الشرعية الكبرى في قضايا الحريّة أمام المحتل، والعدالة أمام الظالم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمام الأوضاع الاجتماعية والسياسية المنحرفة التي يتمثّل فيها الخطر على الواقع العام، ودراسة الموازنة بين النتائج الإيجابية في مواجهة الأخطار بما يؤدّي إلى الخطر على الفرد أو المجموع من الناحية الذاتية والمالية وما إلى ذلك، وبين النتائج السلبية من جهة التضحيات بالنفس والمال والعرض، فذلك هو الذي يحدّد للفرد أو المجتمع أو الأُمّة مجابهة الأخطار أو عدمها.

وقد أدّى فقدان الدراسة المقارنة بين الإيجابيات والسلبيات إلى إيجاد حالة من الضعف أو الانهيار النفسي أو الهزيمة العملية أمام القوى الظالمة أو المحتلّة في الداخل والخارج، تحت تأثير عنوان الإلقاء للنفس في التهلكة بالدرجة التي سقطت فيها عناوين الجهادن والحرية، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، حتى استطاع الكفر والاستكبار العالمي السيطرة على البلاد الإسلامية كلّها.

وهناك مسألة لا بدَّ من الإشارة إليها في هذا السياق لكثرة الجدل حولها من تطبيق هذه الآية عليها، وهي العمليات الاستشهادية التي قام بها بعض المشاهدين في عصرنا الحاضر في مواجهتهم للصهيونية وللاستكبار العالمي، حيث يقوم أحد المجاهدين بتفجير نفسه من خلال ربط جسده بحزام من المتفجّرات أو الانطلاق بسيارةٍ مملوءة بالقنابل المتفجّرة، فيفجّر نفسه بمركز من مراكز العدوّ أو بمجموعة من جنوده، فقد أخذ بعض الفقهاء أو المتفقّهين يصدر الفتاوى بحرمة هذا العمل، لأنّه انتحار وإلقاء للنفس بالتهلكة.

ولكنّنا لا نرى فرقاً بينه وبين اقتحام المجاهد ساحة الحرب الجهادية مع علمه أو غلبة ظنّه بالقتل، إلاَّ في أنَّ القتل هناك بيد العدوّ، وفي هذه القضية بيده؛ ولكن هذا الفرق ليس بفارق من حيث الحكم الشرعي، ما دامت خطّة الجهاد تفرض ذلك منخلال حاجة المعركة للوصول إلى النتائج الإيجابية على مستوى المرحلة في خطّ الاستراتيجية والهدف النهائي الكبير. وماذا يقول هؤلاء في حاجة الحرب إلى اقتحام المجاهدين للأرض المزروعة بالألغام التي تتفجّر بالأشخاص الذين يمرّون عليها؟ فإنّه قد يجوز لهم أو يجب عليهم القيام بذلك إذا توقّف النصر عليه.

وربّما كانت مشكلة هؤلاء أنّهم لا يؤمنون بالجهاد من حيث المبدأ في هذه المرحلة من عمر الإسلام، ويرون أنَّ التكليف الشرعي يفرض عليهم القعود والانتظار إلى ظهور الإمام المهدي (عليه السلام)، ليبرّروا لأنفسهم الابتعاد عن ساحة المعركة، وليثيروا النكير على المجاهدين في كلّ ساحات الصراع.

                           *****

9 ـــ المستكبرون ... خطاب التنصُّل والعجز:

{وَبَرَزُواْ لِلّهِ جَمِيعاً فَقَالَ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللّهِ مِن شَيْءٍ قَالُواْ لَوْ هَدَانَا اللّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاء عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ} [إبراهيم: 21].

                           *****

معاني المفردات:

{وَبَرَزُواْ لِلّهِ}: ظهروا له.

{مُّغْنُونَ}: دافعون.

{مَّحِيصٍ}: منجى ومهرب.

                           *****

تتناول الآيات موقف المواجهة الصعب يوم القيامة، بين الضعفاء والمستكبرين من جهةٍ، والعذاب الذي يلقونه جمعاً عقاباً على ما عملوا وما أسلفوا من خطايا وذنوبٍ وجرائم، كانت تجسّد التمرّد على الله وعلى رسله وشرائعه، من جهة أخرى، في حوار تتنوّع طبيعته تبعاً لاختلاف مواقع أطرافه والعلاقات التي كانت سائدة بينهم، ونجد في هذه الآيات النموذج الرائع الذي يوضح لنا الفكرة بأسلوب حيّ.

{وَبَرَزُواْ لِلّهِ جَمِيعاً} ظهروا لله في موقف المسؤولية الحاسم الذي لا يملكون فيه إلاّ النطق بالحق، بعيداً عن كلّ عوامل القوّة والضعف التي كانت تحكم علاقاتهم في الحياة، فهم الآن متساوون أمام الله بصفتهم الحقيقيّة التي توحّدهم جميعاً كعبيد أمامه.

{فَقَالَ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً} لقد كنّا نمثّل الفئة المسحوقة التي لا تملك أن تريد أو لا تريد بما تعنيه التبعية في كلّ شيء.

إنَّ الآية تؤكّد لنا كيف واجه الجميع نتائج المسؤولية في عذاب الله، وإن اختلفوا في نوعية العذاب، وتصوّر لنا موقف أولئك الذين أخضعوا إرادتهم لإرادة الآخرين ولنزواتهم في حين كانوا يستطيعون تحرير أنفسهم وإرادتهم من تلك التبعية، ولكنّهم خضعوا أمام مظاهر القوّة ومطامع المال التي ساقتهم للسير خلف المستكبرين دون وعيٍ ولا شعور.

إنّهم الآن يستيقظون على ما وصلوا إليه من واقع يحاولون التخلّص من بعض قسوته على الأقلّ، متوجّهين إلى من كانوا يتبعونهم في كلّ شيء، طالبين منهم تحمّل تبعاتهم في الآخرة، مقابل ما تحمّلوه من تبعاتهم في الدنيا، تماماً كما كان الحال في الدنيا، حيث كان الرئيس يقدّم لأتباعه الحماية من المتاعب والمشاكل، مقابل ما يقدّمونه من خدمات تصل إلى درجة المخاطرة بالحياة.

وينطلق سؤالهم، بلهجةٍ متوسّلةٍ يائسةٍ، تحمل كثيراً من خيبة الأمل، وعدم الثقة بالنتيجة، كما توحي كلمة "من شيء" في سؤالهم {فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللّهِ مِن شَيْءٍ}، أيّ شيء، ولو بالمقدار الذي يخفّف عنّا قسوته وشدّته؟

وتجسّد الصورة القرآنية تهرّب أولئك المستكبرين، باعتبار الموقف يائساً من كلا الطرفين، فهم لا يملكون لأنفسهم شيئاً، فكيف يملكون لأتباعهم الحماية، حيث لا متّسع للحساب، ولا مجال للهروب، بل أمامهم الاستسلام اليائس للمصير الذي تعبّر عنه هذه الكلمة القرآنية أبلغ تعبير: {قَالُواْ لَوْ هَدَانَا اللّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ}، لأنّ المشكلة أنّنا ابتعدنا عن الله وتمرّدنا عليه، ولم نهتدِ بهداه، بعد أن قام علينا الحُجّة وتركنا لأنفسنا، دون أن يتدخّل بقوّته لفرض الهداية علينا، فضللنا وأضللناكم لأنّكم جعلتم حياتكم تبعاً لحياتنا. لذا نقف هنا ـــ جميعاً ـــ وجهاً لوجه ـــ أمام نتائج المسؤولية الصعبة، دون أن يكون هناك فرق بيننا في الموقف، لأنّنا مشتركون في تجميد إرادة الحقّ في وعينا، في ما يحكم به العقل والوجدان، والذي جاءت به الكتب وبلغه الرسل، واتّبعنا شهواتنا ومطامعنا، فلا بدّ لنا من أن نواجه الحقيقة، بكلّ صعوبتها وقسوتها {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ}، ومهرب من المصير الأسود الذي لا نملك إلاّ أن نتقبّله ونخضع له، لأنّنا لا نملك له تغييراً، سواء سقطنا جزعاً أو استسلمنا للصبر.

وقد نفهم من جواب هؤلاء المستكبرين، نوعاً من الهروب من طبيعة المسؤولية، فهم لا يعتبرون أنفسهم مسؤولين عن ضلال أتباعهم، لأنّ الهداية تكون من الله، فإذا لم يوفّرها لهم، فكيف يمكن أن يوفّروها هم لغيرهم. وفي ذلك تجسيد لغاية اليأس في الموقف.

فالله يريد من خلال هذا النص أن يصوّر للمستضعفين في الدنيا، كيف تتجسّد مواقف الندم واليأس في الآخرة، ليواجهوا واقعهم، مواجهة مَن سيتحمّل مسؤوليّته وحده، ولذا فإنّ عليه أن يبدأ الحساب على هذا الأساس.

 

 

المسجد    

مهمّة المساجد في المفهوم الإسلامي ـــ محدّدات قيمة المسجد ـــ القيمة الحقيقية للمسجد ـــ الاعتداء على المساجد: أبشع أنواع الظلم.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

1 ـــ مهمّة المساجد في المفهوم الإسلامي:

{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ*رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ*لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [النور: 36 ـــ 38].    

                           *****

معاني المفردات:   

{بِالْغُدُوِّ}: جمع غداة، وهو الصباح.

{وَالْآصَالِ}: جمع أصيل، وهو العصر.

{وَإِقَامِ}: الإقامة، وحذفت التاء تخفيفاً.

                           *****

ما المعنى الذي يختزنه المسجد والجوّ الذي يحتويه؟ وما هي صفة الرجال الذين يمثّلون مجتمع المسجد في ما يقولون ويفعلون؟ وما هي النتائج التي تترتَّب على ذلك؟

{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ} وهي المساجد التي جعلها الله مكاناً لعبادته، وأراد لخلقه أن يرفعوها في العمران الذي تقوم به أعمدتها ويرتفع به سقفها، وفي العبادة التي أراد الله أن ترتفع أرواح عباده بها إليه، فتعرج إليه في مواقع العبودية، وفي آفاق الصفاء والشروق والنقاء. وهكذا يريد الله أن ترتفع البيوت بالمعاني الروحية الصافية التي تبني للإنسان إنسانيّته، وتحرّك دوافعه الإيمانية في الحياة، وتوحي له بالمعاني الخيّرة التي تجعل منه إنسان الخير لا إنسان الشرّ.

تلك هي مهمّة المساجد في المفهوم الإسلامي، أن تكون حضناً لروح الإنسان ومصنعاً لبناء شخصيّته، ومنطلقاً لتأصيل أهدافه، وخطّاً لتحريك خطواته، وموقعاً للبدايات التي يحدّد على أساسها خطّ السير إلى غاياته. وذلك من خلال أجواء الذكر والدعاء والخشوع والتلاوة والصلاة.  

وليس مهمّتها تجسيد الفن والإبداع الإسلامي وتمثيل معاني الجمال، وتحريك الذوق من خلال إبداع الزخرفة وجمال الهندسة وفخامة البناء، وهي مظاهر عظمة مادية بحتة يحاول الكثيرون تأكيدها في أماكن العبادة الإسلامية، لأنّ الإسلام يريد أن يشمل المسجد البساطة والعفوية التي لا تشغل الإنسان عن انطلاقه الروحي بين يديّ الله، في ما توحي به الزخرفة من شواغل البصر التي تشغل الفكر والشعور.

{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ} والإذن يوحي بمعنى الانقياد لله والارتباط به، لحاجة الإنسان إلى صدور الإذن من الله له، في ما يريد أن يقوم به من عمل، وما يريد أن يرفع من بيوت، فليس له أن يبتدع ما لا يعلم أنّ الله يأذن به، أو ما يعلم أنّ الله لا يأذن به، من ناحيةٍ عامةٍ أو خاصةٍ.

{وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} في ما يعنيه الذكر لاسم الله من استحضار ذاته في نفوس عباده، ليكون ذلك منطلقاً للشعور بحضوره الدائم في حياتهم، ليدفعهم ذلك إلى المزيد من التوحيد في العبادة، أو في الطاعة، أو في حركة الحياة. 

                           *****

ملامح شخصية المؤمنين:

{يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} عندما تشرق الشمس في بداية يوم جديد وعندما تغرب في نهايته، حيث يتحرّك التسبيح ليوحي للنفس الإنسانية بمعاني العظمة الإلهية التي يراد لها أن تنفعل بتلك العظمة في عملية انفتاح على خطّ عبوديّتها لله، وطاعتها له، ليكون اليوم منفتحاً على الله في بدايته ونهايته كوسيلةٍ من وسائل الامتلاء بروحيّته وعظمته، في مواقع رحمته.  

{رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ}، لأنّ حضور الله في ذواتهم أقوى من حضور أيّ شيءٍ غيره فيهم، من الأشخاص أو الأعمال التي تشغل الناس وتهيمن على حياتهم. فهم إذا ذكروا الناس ذكروا الله معهم باعتبار أنّهم عباده المخلوقون له، المتحرّكون في تدبيره، المتقلّبون في نعمه. وإذا ذكروا التجارة ذكروا حدود الله وموقع رزقه فيها، في ما يريد لعباده أن يتحرّكوا فيه من مواطن رزقه، ولذلك فإنَّ عملهم في البيع والتجارة لا يشغلهم عن ذكر الله بل يزيدهم ارتباطاً به. وتلك هي الشخصية التي يريد الله للنّاس أن يعيشوا ملامحها الأصيلة في ذواتهم، بحيث تكون علاقتهم بالله أقوى من كلّ علاقاتهم الأخرى، وتكون هي العلاقة الوحيدة الأصيلة التي تخضع لها كلّ العلاقات الأخرى على مستوى القرب والبعد، والقوّة والضعف، فلا يستغرقون في أيّ شيءٍ آخر بعيداً عن الله، بل يكون استغراقهم به هو الذي يحدّد لهم مدى الاستغراق في شؤون الآخرين والأشياء الأخرى.

{وَإِقَامِ الصَّلَاةِ}، وهي العبادة التي يعيش معها الإنسان حضور الله في كلّ كيانه وحياته، {وَإِيتَاء الزَّكَاةِ} وهي العطاء المادي المنطلق من روحية العطاء الروحي، الذي تتحوّل فيه العبادة لله والرغبة في القرب إليه إلى حركة إنفاق على الفئات المحرومة، وبذلك تخرج العبادة من حالة الاستغراق الذاتيث المجرّد في آفاق الله، لتصبح حالةً في الواقع العملي الذي يتّصل بحياة الإنسان نفسه، وبحياة الآخرين.

{يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ}، وذلك في ما تواجهه من فزع وهول يوم القيامة، فتضطرب وتشخص وتهتزّ وتزيغ، على النهج الذي جاءت به الآية في قوله تعالى: {وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} [الأحزاب : 10]. وربّما قيل بأنّ المراد بتقلّب القلوب والأبصار هو تقلّب أحوالها وتغيّرها، فتفقه القلوب بعد أن كانت مطبوعاً عليها لا تفقه، وتبصر الأبصار بعد أن كانت عمياً لا تبصر، "فتنصرف القلوب والأبصار يومئذٍ عن المشاهدة والرؤية الدنيوية الشاغلة عن الله الساترة للحقّ والحقيقة، إلى سنخٍ آخر من المشاهدة والرؤية، وهو الرؤية بنور الإيمان والمعرفة، فيتبصّر المؤمن بنور ربّه، وهو نور الإيمان والمعرفة، فينظر إلى كرامة الله، ويعمى الكافر ولا يجد إلاّ ما يسوؤه"، أمّا "توصيف اليوم بقوله: {تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} ـــ على هذا الرأي ـــ لبيان سبب الخوف، فهم إنّما يخافون اليوم لِما فيه من تقلّب القلوب والأبصار، وإنّما يخافون هذا التقلّب لما في أحد شقّيه من الحرمان من نور الله والنظر إلى كرامته، وهو الشقاء الدائم والعذاب الخالد، وفي الحقيقة يخافون أنفسهم"(1).

ولكنّ الظاهر هو الوجه الأوّل، لأنّ المسألة المطروحة هي الخوف الذي يدفع إلى الانضباط على خطّ الطاعة والتقوى، ما يجعل القضية قضية الهول الذي يواجههم في يوم القيامة، الذي تكرّر الحديث عن في القرآن، كما في قوله تعالى: {إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً} [الإنسان : 10]، لأنّ الصفة التي يؤكّدها القرآن في حديثه عن يوم القيامة، هي الجوّ المرعب الذي يحكم ذلك اليوم؛ والله العالم.

{لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا} وتلك هي غاية العمل الذي يقومون به في خطّ التقوى والإخلاص لله والانفتاع عليه، وسينالون الجزاء عليه بالدرجة الأحسن والأفضل، بحيث يجزيهم في كلّ بابٍ جزاء أحسن عمل في ذلك الباب. ومرجع ذلك ـــ في ما يقوله بعض المفسّرين ـــ إلى أنّه ـــ تعالى ـــ يزكّي أعمالهم، فلا يناقش فيها بالمؤاخذة في جهات توجب نقصها وانحطاط قدرها، فيعد الحسن منها أحسن(1). وربّما كان المقصود به هو الجزاء المضاعف، كقوله تعالى: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس : 26] {وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ} في ما يتفضّل به عليهم، ممّا قد لا تقتضيه طبيعة العمل من جزاء، وذلك ما نستوحيه من الآيات التي تتحدّث عن العطاء الإلهي بدون حساب، كما في قوله تعالى: {وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ*لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ} [الزمر: 33 ـــ 34].      

{وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} وذلك في ما تكفّل لهم من رزقه في مواقع رحمته، التي لا تضيق بشيء، ولا يضيق عنها شيء، بل تتّسع لكلّ ما في الحياة من مجالات العطاء، فهو الكريم الذي لا حدّ لكرمه، وهو الرحيم الذي وسعت رحمته كلّ شيء.

                           *****

2 ـــ محدّدات قيمة المسجد:       

{مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ*إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَـئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة: 17 ـــ 18].

                           *****

معاني المفردات:

{يَعْمُرُ}: العمارة أن يجدّد ما استرمّ من الأبنية، ومنه اعتمر إذا زار، لأنّه يحدّد بالزيارة ما استرمّ من الحال.

كان المشركون يتردّدون على المسجد الحرام في مكّة، ويحجُّون إلى البيت الحرام ويطوفون به، في ما توارتوه من عبادة الحجّ من عهد إبراهيم (عليه السلام). ولكنّهم كانوا يمارسون عبادة الأصنام التي نصبوها على جدران الكعبة، وبذلك كان الجوّ هناك جوّ شركٍ في العبادة، ما يتنافى مع الأجواء الروحية التوحيدية التي يريد الله لزوّار مسجده أن يعيشوها في إخلاص العبادة له، ورفض كلّ عبادةٍ لغيره، سواءٌ أكانت وسيلةً للتقرّب إليه، ممّا كان المشركون يعتقدونه في تلك الأصنام من القداسة الذاتية حيث تقرّبهم إلى الله زلفى، أم كانت مستقلةً في العبادة في ما يعتقده بعضهم من معاني الألوهية في داخلها، فالمسجد هو بيت الله، فلا مجال فيه إلاّ لعبادته.

وهذا هو ما أراد الله لنبيّه أن يعلنه، في إعلان البراءة، من منع المشركين من الحجّ بعد ذلك العام، في ما نادى به الإمام عليّ (عليه السلام) من قوله: " لا يحجّ بعد العام مشرك، وهذا هو ما نفهمه من هاتين الآيتين.

{مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله} والمراد من العمارة ـــ هنا على الظاهر ـــ هو عمارتها بالتواجه فيها وممارسة شؤون العبادة التي يبتعدون فيها عن روح التوحيد، وليس المراد عمارتها بالعمل على تشييدها، لأنّ ذلك لا يتناسب مع أجواء الآيات، {شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} بالله الواحد، لأنّ ذلك هو ما تمثّله عبادة الأصنام التي تعتبر شهادةً فعلية بالكفر الذي يبعد عن روحية المساجد التي هي إخلاص العبادة لله ـــ وحده ـــ لأنّ الشرك يمثّل تمرّداً عليه وإساءة لقدس جلاله {وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ} فذلك هو الجزاء العادل لهؤلاء الذين يعيشون في نِعَم الله الذي خلقهم وأوجدهم من عدم، ثمّ يواجهونه بالتمرّد عليه والانصراف عنه إلى غيره، في ما يسيء إلى الإنسان والحياة، ممّا يُخرج الشرك عن أن يكون عملاً فردياً خاصّاً ليتحوّل إلى عمل يتّصل بسلامة المجتمع في تصوّراته المنحرفة وسلوكه الأعوج.

                           *****

 

 

 

المساجد يعمرها المؤمنون:

{إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ} فهذا هو النموذج الإنساني الذي يحقّق للمساجد رسالتها، ويعطيها معناها، ويحرّكها في الاتجاه الروحي الذي يجعل أبواباً مفتوحة على الحياة المتحرّكة من خلال الله وباسمه، لينطلق الإنسان على أساسك ذلك، عاملاً في أرض الله في الأجواء الروحيّة التي يختزنها في أعماقه من روحيّة الإيمان في المسجد. فقصّة المسجد، ليست في هذه الأحجار الجامدة التي تمثّل سقفه وحيطانه، وليست في هذه الأشكال المزخرفة التي توحي بعظمة الفنّ وروعة الإبداع، بل هي في الإنسان الذي يعمر المسجد بالعبادة المنطلقة من الفكر الإيمان، والشعور الروحي، والممارسة الخيّرة، حيث يتحوّل المسجد إلى ساحةٍ للانطلاق الإنساني من أجل بناء الحياة على قواعد الحقّ والقوّة والعدل، من خلال ما يثيره من عمق الروحيّة الواقعية التي تصنع الإنسان المسؤول الفاعل، الذي يعطي الحياة من نفسه وطاقاته أكثر ممّا يأخذ منه، لأنّه لا يجد فيها الفرصة السانحة للعبث واللّهو وممارسة الشهوات، بل يجد فيها الموقع المتقدّم الذي يمارس فيه مسؤوليته كعبادةٍ خالصةٍ بين يديّ الله. وبهذا كان الإيمان بالله واليوم الآخر وجهاً من وجوه حركة الإنسان في الداخل، التي تدفع حركته في الخارج إقامةً للصلاة وإيتاءً للزكاة، كما كانت الخشية من الله، والتحرّر من كلّ خوف من غيره، عنصر قوّة في رفض     كلّ أشكال العبادة المنحرفة لآلهة الأرض الذين اعتبرهم المنحرفون آلهةً من دون الله وكلّ المناهج الضالّة التي سار عليها الناس بعيداً عن المنهج الذي يريد الله للحياة أن تنطلق منه وتسير عليه. وهذا هو الذي يحقّق للإنسان حريّته بعمقٍ، ويعطي للمسجد أجواء الحريّة التي يتنفّسها المصلّون والمتعبّدون ليخرجوا إلى الحياة من خلال المسجد بفكرٍ حُرٍّ، وإرادةٍ حُرّةٍ، وموقفٍ يجسّد الحركة كمنهج حياة، وكحركة واقع.

{فَعَسَى أُوْلَـئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ} لأنّ ذلك هو سبيل الهدى الواضح. وربّما كان التعبير بكلمة "عسى" التي لا توحي باليقين بالنتائج، إيحاءً للإنسان بأنّ عليه أن يظلّ في موقف الترقّب والحذر في قناعاته وممارساته، فلا يستسلم لذلك كلّه في اعتبار النتائج المصيرية حاسمةً، فلعلّ هناك شيئاً خفيّاً في الداخل لم يلتفت إليه، ولعلّ هناك حالةً مَرَضيّةً لم يشعر بها، ما يجعله واقفاً بين الخوف والرجاء، والبحث الدائب من أجل تعميق الإيمان في نفسه، وتصحيح التجربة في موقفه.

                           *****

3 ـــ القيمة الحقيقيّة للمسجد:

{وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ*لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ*أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ*لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 107 ـــ 110].

                           *****

معاني المفردات:

{ضِرَاراً}: الضرار: هو طلب الضرر ومحاولته.

{وَإِرْصَاداً}: ارتقاباً.

{شَفَا جُرُفٍ}: حرفه ونهايته، يضرب به المثل في القرب من الهلاك.

                           *****                         

إنّ قيمة المسجد في الإسلام، في ما يمثّله بناؤه من قيمةٍ روحيةٍ، لا تنطلق من الشكل من حيث هو جهدٌ ماليٌّ وبدنيّ وعمرانيٌّ كبيرٌ، بل من المضمون من حيث الدوافع الخيّرة التي تدفع إليه، والأجواء التي تحيط به، والنتائج التي تتحقّق من خلاله، وذلك هو مقياس العمل الصالح. فليست القضية قضية حجم العمل وكميّته، بل هي قضية روح العمل ونوعيته. فإنّ الله قد يتقبّل العمل القليل من عبده المؤمن، إذا كان منبعثاً من إخلاصٍ قلبيّ وعبوديّة مخلصة، ويرفض العمل الكثير إذا كان أساسه الوباء والمباهاة والإضرار بالآخرين. وهذا هو الذي جعل مسجد قبا، موضع التقدير والاحترام والرعاية من الله ورسوله، لأنّه مسجد أُسس على التقوى من أوّل يوم، لأنَّ الذين شيّدوه، لم يفكّروا فيه إلاّ من خلال الشعور بالحاجة إلى وجود مكانٍ يُعبَد الله فيه، بعيداً عن أيّ طموحٍ شخصي، أو فائدةٍ عائليّةٍ، أو مصلحةً ماديّة، أمّا المسجد الآخر، وهو مسجد الضرار، فقد كان يمثّل ردّ الفعل الذاتي للامتياز الذي حقّقه أصحاب مسجد قبا، من صلاة الرسول فيه واجتماع المسلمين عليه، واعتباره قاعدة للإسلام في منطقته. وبذلك كان الهدف هو الحصول على امتيازات مماثلةٍ من وحي الأنانية العشائرية أو الشخصية، ليحطِّموا الموقع الذي حصل عليه أولئك، وليحصلوا على موقع أكبر وأرباح أكثر، ولذلك واجههم الله والرسول بطريقةٍ حاسمةٍ، على خلاف الأهداف التي استهدفوها، وذلك بامتناع النبيّ عن الصلاة فيه من جهةٍ، وتهديمه وإحراقه من جهةٍ أخرى، وما يستتبع ذلك من كشفٍ لنواياهم السيّئة وأفكارهم الخبيثة، وفضحهم على أكثر من مستوى بين المسلمين.

                           *****

الموقف تجاه من يتستَّر بأعمال الخير:

وهذا هو الذي ينبغي للمسلمين أن يستوحوه في تقييم الأشخاص والجماعات التي تقوم بأعمال خيريّة من بناء المساجد والمدارس والمياتم ونحو ذلك، لتكون اليمة للشخصية من الداخل، لا للعمل من الخارج، لئلا يصدر إلى الدرجة العليا في المجتمعات الإسلامية، بعض الأشخاص الذين لا يعيشون طهر الفكرة التي تمثّلها المؤسّسات، فيستغلّون ذلك في سبيل الإساءة إلى الأهداف الكبرى للإسلام، باسم الجانب الشكلي من مؤسّسات الإسلام، عندما يحصلون على ما يريدونه لأشخاصهم أو لارتباطهم المشبوهة أو الشرّيرة من خلال ذلك.

إنَّ هذا الاتجاه في فهم الحقيقة للعمل  الصالح ولفكرة المؤسّسات، يمنع الطامحين غير المخلصين من اللّعب على الناس في حاضرهم ومستقبلهم باسم العمل الخيري في شكله ومظهره الساذج، لأنّ الناس سوف تواجه المسألة من موقع دراسة الشخصية ومعرفة النتائج السلبية أو الإيجابية للعمل قبل الحكم له أو عليه. وقد نستطيع الدخول في التفاصيل بطريقة أكثر تفصيلاً من خلال تفسير الآيات.

                           *****

دوافع مسجد ضرار:

{وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً} من حيث الدوافع التي تكمن وراء بناء المسجد، في الإضرار بالمسلمين الآخرين الذين بنوا مسجد قبا، أو في الإضرار بالمسلمين بشكلٍ أشمل من ذلك، لما يريدونه من إيقاع المشاكل فيما بينهم {وَكُفْراً} بالله ورسوله، في ما يمثّله هذا العمل من أداةٍ شيطانية للوصول إلى بعض النتائج التي تخدم الكفر في نهاية الأمر، كما ورد في بعض الروايات، أنّهم كانوا ينتظرون أبا عامر الراهب الذي وعدهم أن يأتيهم بجيش من الروم ليخرجوا النبيّ محمّداً (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) من المدينة، وأمرهم أن يستعدّوا للقتال معه {وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ} فيجعلوا لكلّ فريق منهم مسجداً يتعصّبون له ضدّ المسجد الآخر، ليتحوّل ذلك إلى نوعٍ من الحاجز النفسي الذي يفصل المسلمين عن بعضهم البعض، وبذلك تحصل الفرقة بين المسلمين من الموقع الذي أريد لهم أن يجتمعوا فيه، وهو المكان الذي حرّره الله من كلّ خصوصيّةٍ للشخص وللعائلة وللفئة، فلا يريده ملكاً لأحد، بل يبقى ملكاً لله لمنفعة المسلمين جميعاً، ليحصلوا فيه على أجواء العبادة الخاشعة الخالصة، وليلتقوا فيه من أجل التداول في مشاكلهم وقضاياهم في حالة السلم والحرب، ولتفتح لهم من خلاله أبواب الحياة بكلّ سعتها، من قاعدة الطهارة الروحية الخالية من كلّ قذارات العصبية الجاهلية، فأراد هؤلاء أن يعيدوا الإنسان إلى سجن المؤسّسة العائلية، ليهدّموا أساس الفكرلة التي تنطلق منها الوحدة، فيحوّلوها إلى قاعدة للفتنة، فيتحوّل المسجد إلى هيكل تقليديّ، تُعبد فيه العشيرة والأشخاص، بدلاً من الله.

{وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ} فيكون محلّ رصد ورقابة، ويتحوّل إلى موقع متقدّم، ومعقل لكلّ الجماعات التي تكيد للإسلام والمسلمين حرباً لله ورسوله، لتستطيع التحرّك من موقعٍ إسلامي عباديّ يلتقي فيه الكافرون المقنّعون باسم الصلاة ليتآمروا وليفتنوا المسلمين الساذجين عن دينهم من خلال أجواء الدين. وسيحاولون التأكيد على إخلاصهم بمختلف وسائل الإقناع عندما يجدون علامات الاستفهام تحاصرهم في عيون المسلمين وأفكارهم ومشاعرهم {وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى} من خلال ما يمثّله الحلف بالله من إيحاءٍ بالصدق والإيمان، وتأكيد على عمق الالتزام وطهارة الدوافع ونظافة الأفكار، ولكنّ ذلك لا يجديهم شيئاً، فما هي قيمة شهادتهم لأنفسهم أمام شهادة الله عليهم الذي يعلم السرّ وأخفى، ويعلم وساوس الصدور {وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} في ما يدّعون ويحلفون، لأنّ الله اطّلع على سرّهم فرأ كيف تحرّكوا من موقع الكفر لا من موقع الإيمان، ومن قاعدة الانحراف لا من قاعدة الاستقامة.

ولهذا فإنّ محاولتهم إقناع النبيّ محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) بالصلاة في هذا المسجد يعني منحهم الشرعيّة في ذلك كلّه، ليصلوا إلى أهدافهم من أقرب طريق. وفي ضوء هذا، كان الأمر الإلهيّ للنبيّ حاسماً بالرفض القاطع لهم وللمسجد ولكلّ ما يمثّلون، من أجل حماية المسيرة في شكلها ومضمونها وفي امتدادها في الحياة على خطّ الاستقامة التي لا تسمح لأحدٍ باللّعب، ولا تساعد مرحلةً على الانحراف.

                           *****

عدم الاعتراف بشرعية المسجد:

{لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً} في صلاةٍ أو في اجتماع، أو في أيّ نشاط آخر يوحي بالرضا والتأييد، لأنّ القيادة لا يمكن أن تدعم الوجود المنحرف، بل يجب عليها العمل على القضاء عليه، وتوجيه الأُمّة كلّها إلى هذا الاتجاه، في عملية توعيةٍ فكريةٍ من جهة، وقدوةٍ عمليّةٍ من جهةٍ أخرى، ليتحوّل الدعم والإخلاص إلى الوجود المستقيم الخالص لله في كلّ شيء، وهذا ما يفرض الإصرار على القيام في مسجد قبا وأمثاله من مساجد الله الخالصة.

                           *****

المساجد تؤسّس على التقوى:

{لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ} لأنّه هو الذي يحقّق للصلاة غاياتها، ويركّز للدين قواعده على أساس الحقّ، ويبني للمسلمين علاقاتهم على أساس التقوى، ويدفع الحياة إلى أن تتحرّر من عبوديّتها للشيطان، ليبقى لها الخطّ الذي تتحرّك فيه من خلال عبوديّتها لله، في حركة الإنسان في حريّته وعبوديّته.

وقد خاض المفسّرون في الحديث عن المقصود بهذا المسجد، بين من قال بأنّه مسجد رسول الله الذي بنيَ على التقوى من أوّل يوم في المدينة، وبين من قال بأنّه مسجد قبا، وهذا ما تؤيّده أحاديث أهل البيت، في ما روي عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) وربّما يؤيّد هذا ما ورد في أسباب النزول، في ما توحي به القصّة من المقابلة بين المسجدين، مسجد قبا ومسجد الضرار، باعتبار أنّ الثاني هو ردّ فعل للأوّل.

وقد ذهب البعض إلى أنّ المقصود به كلّ مسجد أسّس على التقوى من أوّل يومٍ تعميره، واستدلّ بالتنكير على ذلك. ولكن يمكن المصير إلى ذلك من خلال الإيحاء، لا من خلال مدلول الآية، لأنّها واردة في الحديث عن موضوع يختصّ بموقف من مواقف النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) هناك، فإذا أردنا الاستيحاء منه، فقد نفهم أنّ للمسلمين أن يواجهوا المسألة في الحالات المماثلة، من المنطلق الذي واجه النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) الحادثة التي عاش فيها، {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ} بسبب ما يمثّله المسجد من ينبوع للطهارة، وما توحي به الصلاة من طهارة الفكر والقلب والشعور، وما ينطلق به الإيمان بالله، من سمو في انفتاح الإنسان على طهر الروح في علاقته بالله، بعيداً عن كلّ الآفاق الضيّقة والمواقع القذرة والأجواء العفِنة التي تثقل الروح بالعصبيّة، والفكر بالجاهلية، والحياة بالرجس والخبث والقذارة، في ما يريد الكثيرون أن يعيشوه من الاتّجار بالإيمان للوصول إلى أرباحٍ مادّيةٍ خسيسةٍ، من هؤلاء الذين يبغضهم الله ولا يحبّهم، لأنّه ـــ سبحانه ـــ يريد للإنسان أن يقف بين يديه في صلاته من موقع الإخلاص والطهارة التي يحبّها ويحبّ من يتحرّك في مواقعها ويسبح في أمواجها {وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} الذين يعملون للطهارة الروحية على مستوى الفرد والمجتمع والحياة كلّها، في الطريق إلى الله في رحابه الفسيحة الشاملة.

                           *****

الموقف الواعي والموقف المزاجي:

وهنا يتساءل القرآن، لتأكيد القاعدة التي تفرض الموقف الإيجابي أو السلبي في الحياة، فهناك فرقٌ كبيرٌ بين الموقف الذي يرتكز على أساس الوعي الكامل لمسألة الإيمان في ما يمثّله من مفهوم وعقيدةٍ وخطٍّ واضحٍ يتّصل بتقوى الله، في عملية مراقبةٍ ومحاسبةٍ وحركةٍ واعيةٍ قويّةٍ تستهدف رضا الله في الإقدام على الفعل أو الترك، وبين الموقف الذي لا يرتكز على أساس ثابتٍ لخضوعه للحالات المزاجيّة الطارئة والأطماع الشخصية والأفكار القلقة التي تدفع الإنسان إلى تلبية النوازع الذاتيّة المعقّدة. ففي الموقف الأوّل، هناك رضوان الله الذي يسبغه الله على عباده المؤمنين الواعين، في وعي العقيدة والعمل الثابتين في حالات الاهتزاز، وفي الموقف الثاني، هناك الانهيار الكبير للشخصية، لفقدانهم الثوابت الفكرية والروحية التي تمنع السقوط في الحضيض.

                           *****

بنيان التقوى وبنيان الشك:

{أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ} أي من أسَّس فكره على قاعدة التقوى في حسابات المفاهيم المحدّدة الواضحة، وأطلق إرادته وفق قاعدة الارتباط برضوان الله، لتكون متّصلةً بإرادة الله، في خضوعٍ وإيمانٍ {خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ} أي من أسس فكره ووجوده على حافة الوادي المهتزّ في حركة الانهيارات المتساقطة من أعلى {فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ} حيث السقوط المميت الذي لا يستقرّ معه الساقطون على قرارٍ. وتلك هي النهاية التي ينتهي إليها أولئك الذين لا يفتحون عيونهم للنتائج من خلال حركة الطريق، ولا يفتحون قلوبهم للهدى من خلال خطّ السير، وإذا أغفل الإنسان ذلك كلّه، فماذا هناك إلاّ الضلال، {وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والتمرّد والعصيان، لأنّهم اختاروا ذلك لأنفسهم، بعد أن فتح الله لهم أبواب الهداية على مصاريعها، فتركوها وساروا في طريق الضلال.

{لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْاْ} على أساس من الاهتزاز في الفكر والموقف {رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ} يثير الشكّ ويقود إلى التزلزل، فيطبع كلّ مشاعرها ونبضاتها بطابعه، حتى يتحوّل إلى ما يشبه الخصوصيات الذاتية التي لا تزول إلاّ أن تزور الذّات نفسها، فتبقى ما بقيت الذّات {إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} وتتلاشى وتموت، فيتلاشى الشكّ بزوال قاعدته وموضعه {وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} في ما يمنح من رضوانه، وفي ما يمنع من غفرانه.

وتلك هي القصّة التي يريد الله للإنسان أن يعيشها في كلّ مواقفه في الحياة، لينطلق الموقف من القاعدة الثابتة في العقيدة والشعور والإرادة، ليتحرّك الفرع الأخضر من الجذور الضاربة في أعماق الأرض المتحرّكة بالخصب والحياة، فلا حركة إلاّ من فكرة، ولا فكرة إلاّ من قاعدة. وكلّما اقترب الإنسان من الله، كلّما كانت حساباته دقيقةً في كلّ شيء، لأنّه الأساس في كلّ خيرٍ وحقّ وثبات، ولا فرق في ذلك بين حالةٍ فكريةٍ أو سياسيّة أو اجتماعيةً أو غير ذلك ممّا تعارف الناس أن يدفعوا حياتهم نحوه.

                           *****

4 ـــ الاعتداء على المساجد: أبشع أنواع الظلم

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَـئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ لهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة: 114].

                           *****

إنَّ من أبشع أنواع الظلم هو الاعتداء على مساجد الله وعلى حريّة المؤمنين فيها، وذلك بمنعهم من الصلاة والدعاء وذكر اسم الله. {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} في منع المصلّين من الصلاة فيها { وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} مادياً بتهديمها أو معنوياً بالمنع من عمارتها بالعبادة.

أمَّا إنّه من أقوى أنواع الظلم، فلأنه يجمع بين الاعتداء على حرمة الله بالاعتداء على بيوته وإبطال دورها في العبادة، وبين الاعتداء على حرمة الإنسان بالاعتداء على حريّته في ممارسة شعائره وعباداته؛ {أُوْلَـئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ} وقد أراد الله للمسلمين أن يأخذوا بموقف القوّة ضدّ هذا الظلم والظالمين، فيمنعوهم من دخولها إلاّ كدخول الخائفين، وذلك على سبيل الكناية في تدمير قوّتهم وإضعافهم، حتى يتحرّكوا في المجتمع تحرّك الخائف الذي إذا أراد أن يدخل المسجد، فلا يدخله إلاّ خائفاً، ثمَّ يتوعدهم الله الذي يملك القوّة في الدنيا والآخرة بالخزي في الدنيا {لهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ} وذلك من خلال ما يصيبهم فيها من ضعف وهوان وذلّ بسبب تصرّفاتهم الظالمة الباغية، {وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.

                           *****

ما معنى خراب المساجد؟

وللمفسّرين خلاف في هؤلاء المقصودين بالآية؛ هل هم الروم الذين "غزوا بيت المقدس وسعوا في خرابه، حتى كانت أيّام عمر، فأظهر الله المسلمين عليهم وصاروا لا يدخلونه إلاَّ خائفين"، كما روي عن ابن عباس ومجاهد؛ أم أنّهم قريش حين منعوا رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) دخول مكّة والمسجد الحرام، كما روي عن أبي عبد الله جعفر الصادق (عليه السلام)، وبه قال البلخي والرماني والجبائي؟(1).

وقد علّق الطبري في تفسيره على هذا الرأي بأنَّ قريشاً لم يسعوا في تخريب المسجد الحرام، وبأنَّ هذا لا يتناسب مع الآيات المتقدّمة الواردة في سياق ذمّ أهل الكتاب، بينما ينسجم الرأي الأوّل معه(2). ولكنّنا نرى مع صاحب مجمع البيان، أنَّ من الممكن أن يكون المراد من خرابها تعطيل دورها في العبادة، لأنَّ ذلك هو الأهم في وجودها، وهذا ما نستوحيه من التركيز على المنع عن ذكر اسم الله فيها في بداية الآية، ما يوحي بأنَّ القضية تعيش في هذا الجوّ. وقد ورد في التفسير في قوله تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة: 18]، أنَّ المقصود بالتعمير، هنا، تعميرها بالعبادة. وقد جاء في بعض الكلمات المأثورة في أخبار آخر الزمان في صفات الناس آنذاك: "مساجدهم عامرة وهي خراب من الهدى"(1)، ممّا يقرّب إرادة هذا المعنى في نطاق هذا التعبير.

وربّما كان من القريب أن يكون السعي بالخراب لا يعبّر عن واقعٍ مباشر في حياة قريش في مكّة، بل يعبّر عن نتائج السعي في تخريب الإسلام وتدميره بما أثاروه من حروب ضدّه وحاولوه من إضعافٍ لقوّته، وقد يتأيَّد ذلك بالتعبير بكلمة "المساجد" بصيغة الجمع، مع أنّها ليست متعدّدة في مكّة أو في بيت المقدس، ما يرجّح أنّ الآية لم تجرِ مجرى الحديث عن القصّة في نطاقها الخاص، بل جرت مجرى الانطلاق منها كنموذج للتحدّث عن الفكرة العامّة، ما يجعل أجواء الآية قريبة من التعبير عن الروح التي يعيشها أمثال هؤلاء ممّن يحملون عقلية قريش وروحيّتها، فتدفعهم إلى خنق حريّة المؤمنين وإلى السعي في خراب المساجد.

وقد روى صاحب مجمع البيان، أنَّ الراية قد وردت بأنَّ القرشيين قد قاموا بهدم مساجد كان أصحاب النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) يتّخذونها أماكن للصلاة لما هاجر النبيّ إلى المدينة، وبذلك لا يبقى مجال لاعتراض الطبري(2).

ولكنّنا لا نستقرب هذا الوجه، لأنَّ الآية تتحدّث عن حالة قائمة يتحرّك فيها هؤلاء القوم للمنع من ذكر اسم الله والسعي في خراب المساجد، لا تخريبها بعد رحيل المسلمين إلى المدينة. أمّا قضية الانسجام مع سياق الآيات المتقدّمة، فإنّنا لا نرى رأيه في اختصاص الحديث بأهل الكتاب؛ بل الظاهر أنَّ الحديث قد تعدّاه إلى غيرهم من المشركين، لأنَّ السياق قد تحرّك في اتجاه توعية المسلمين في ما يتعلّق بأوضاع الفئات التي تقف ضدّهم، كما لاحظناه في الآيات التي تحدّثت عن المشركين وأهل الكتاب معاً.

ونلاحظ في الآية أنّها لم تتحدّث عن دخولهم خائفين كواقع حيّ ليشار إلى القصّة في تفسير الآية، بل إنّها تحدّثت عمّا ينبغي أن يبلغه المسلمون من القوّة التي تخيف الكافرين؛ فإذا جاؤوا إليها ـــ وهي مراكز المسلمين القيادية والاجتماعية ـــ دخلوها دخول الخائف، سواء كان مجيئهم إليها لأجل الدخول في الإسلام أو لغير ذلك من الأغراض الأخرى.

                           *****

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

من تجارب الرُّسل والدُّعاة    

القصص القرآني: الغرض والوظيفة ــ دور الرسل التبشير والإنذار ـــ الأنبياء يحكمون الحياة ـــ حدود مسؤولية النبيّ ـــ تفضيل الرسل على بعضهم البعض لا يعني اختلاف الهدف ـــ الارتباط بالأنبياء ارتباط بالخطّ ـــ نوح في خطّ الدعوة ـــ كيف كان نوح يدعو قومه ـــ تجربة نوح ودرس التمسّك بالأمل ـــ روحية النبيّ هود في الدعوة ـــ درس من تجربة النبيّ هود في الدعوة ـــ درس من تجربة النبيّ هود ـــ الأسلوب النموذجي للنبيّ إبراهيم في الدعوة ـــ النبيّ إبراهيم يتحدّى الطاغوت ـــ إبراهيم وإسماعيل يعملان على تأسيس الروح المؤمنة ـــ النبيّ يوسف وفرص الإصلاح في النظام غير الإسلامي ـــ أسلوب النبيّ يوسف بين الغاية والوسيلة ـــ منطلقات دعوة النبيّ شعيب الرسالية وأهدافها ـــ منطق النبيّ موسى في مواجهة الطغاة ـــ تجربة النبيّ موسى في الدعوة والقيادة ـــ النبيّ موسى يستخدم الصبر كأداة مواجهة ـــ النبيّ موسى يدرس خلفيات القاعدة ـــ النبيّ موسى والأسلوب القرآني في تربية الأمّة ـــ النبيّ موسى يخضع لقيادة العبد الصالح ـــ المستضعفون في مواجهة فرعون ـــ مؤمن آل فرعون نموذج إنساني إيماني ـــ طالوت في مواجهة الطغيان ـــ مع داد وسليمان في خطّ الرسالة ـــ أيوب الصابر ـــ النبيّ عيسى وامتداد حركة الرسالة ـــ عيسى والمحبّة ـــ روح القوّة في شخصية الرسل ـــ العمق الإنساني في شخصية المؤمن.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

1 ـــ القصص القرآني: الغرض والوظيفة:

{وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَـذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ*وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ*وَانتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ*وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [هود: 120 ـــ 123].

                           *****                         

معاني المفردات:

{مَكَانَتِكُمْ}: مكانة الإنسان: حاله التي تمكنه من العمل.

                           *****

{وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ} الذين سبقوك في المرحلة، فبلّغوا وعملوا وواجهوا كلّ أنواع التحدّي والتمرُّد، وثبتوا في مواقع الاهتزاز، وانتصر الله لهم في أكثر من موقف، فوقفوا في الموقع القويّ الذي زادهم قوّةً إلى قوّتهم. ولكن ما مهمّة هذا العرض القصصي؟؟ هل هو مجرّد حكاية التاريخ، وسرد أحداثه، أو هو تخطيطٌ إلهيّ لتثبيت موقف النبيّ، أمام الهزّات النفسية التي قد يتعرّض لها أمام التحدّيات الصعبة التي تواجه حركة الرسالة؟ إنَّ الله يثبت لنا الشقّ الأخير في المسألة، فالقرآن كتابٌ رساليٌّ يخطّط للرسول طريقه، في التفكير والإحساس، ويوجّه السائرين على خطّ الرسول أن يقفوا في مواقع الثبات والقوّة أمام حالات التحدّي، لأنّ سرد التاريخ الرساليّ أمام الرساليين يجعلهم يستشعرون الخطّ الثابت الذي تتحرّك فيه الرسالات فيسيرون عليه امتداداً لحركة التاريخ في ما يلتقي فيه الأنبياء في خطّ الدعوة والتغيير.

{مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} فلا يقترب إليك القلق، ولا يدنو منك الاهتزاز، وفي هذا بعض الإيحاء بأنّ الله يربّي نبيّه بآياته أمام ما يمكن أن يعانيه من مشاعر سلبية في مواجهة واقع صعب يتحدّاه، بوصفه بشراً يتأثّر بما حوله من دون أن يغيِّر ذلك شيئاً من طبيعة الموقف، فيأتي القرآن ليفتح قلبه على الأفق الرحب من التاريخ، ليبدع تاريخاً جديداً منفتحاً للرسالة، وهذا ما ينبغي للرساليين أن يواجهوه عند قراءة التاريخ الرسالي في القرآن، حيث التجربة الرسالية النبويّة التي تفتح القلوب على الله، وتحرّك المشاعر في اتجاه النور.

                           *****

دور القرآن في حياة الإنسان:

{وَجَاءكَ فِي هَـذِهِ} الآيات {الْحَقُّ} الذي يحتوي كلّ المفاهيم المتعلّقة بقضايا الإنسان في الكون والحياة بالطريقة التي تحتوي الخير كلّه، وتلتقي بالثبات كلّه، فلا مجال للاهتزاز ولا للاختلاط بالباطل في أي اتجاه، {وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} في ما يفتح قلوبهم على الله، واليوم الآخر، فتخشع قلوبهم لذكر الله، وترتعد فرائصهم للحديث عن عقابه، وتنتعش أرواحهم لذكر ثوابه، فتلتقي الموعظة بالذكرى في عملية انفتاحٍ وتأمّلٍ وتدبُّرٍ وتذكُّرٍ لقضية المصير في الآخرة. وهذا هو دور القرآن في حياة الإنسان، فهو لا يغفل حركة الإنسانية في أعماقه، ولكنّه يفتح لها الآفاق التي تجعلها تبدع وترقّ وتصفو، وتثير المشاعر في اتجاه التركيز المصيري للحياة في عملية تنمية وتوعية وتذكير.

{وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ} وتصرّفوا بما يحلو لكم في المواقع التي أنتم فيها، وخذوا حريّتكم في ما تفيضون فيه من أعمال، وفي ما تتحمّلونه من مسؤوليات، فقد اخترتم سبيل الكفر، وتمرّدتم على الله في ذلك كلّه، {إِنَّا عَامِلُونَ} فلن نتوقّف عن السير في الخطّ الإلهيّ مهما تحمّلنا من جهد، ومهما كلّفنا ذلك من تضحيات، لأنّنا نجد فيه الخير الذي يبني الحياة على أساس ثابت من الإيمان والعمل الصالح، {وَانتَظِرُوا} نتائج أعمالكم السيّئة في ما تتحرّكون به من خطط الشرّ القائمة على الكفر والشرك، وستعرفون من خلال ذلك صدق وعيد الله لكم بالعذاب، {إِنَّا مُنتَظِرُونَ} ذلك لأنّنا آمنا به لإيماننا بالرسول.

{وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} بما يعلمه من شؤون خلقه وأعمال عباده، وهو المسيطر على ذلك، فلا مهرب لأحدٍ منه، ولا ملجأ إلاّ عنده، لأنّ إرادته هي التي تحيط بكلّ شيء، وتصنع كلّ شيء، وتتدخّل في كلّ التفاصيل الصغيرة والكبيرة، {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ} وليس لأحد معه شيء، فهو الواحد في ألوهيّته، وهو المستحقّ للعبادة، {فَاعْبُدْهُ} ولا تعبد غيره، {وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} في كلّ أمورك، فلا تخف من أشباح الغيب التي يمكن أن يواجهك بها المجهول، الذي لا تملك أمره قدرة واختياراً، وتقدّم إلى حياتك ورسالتك بقوّة وثبات، فإنّ الله يكفي المتوكّلين عليه من كلّ شرّ، {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} فلا تغفلوا عن مراقبته، في كلّ عمل، لتخلصوا له وتطيعوه، فلا يصدنّكم الشيطان عن ذلك بوسوسته وتثبيطه، وكيده وحبائله وغروره، فيبعدكم عن الله، ويصرفكم عن الحقّ من حيث لا تشعرون، وتلك هي الرقابة الداخلية التي يريد القرآن إثارتها في وعي الإنسان، فيشعر بالحضور الإلهيّ في كلّ أموره وأعماله، فينضبط في موقع المسؤولية، ويثبت في مواقف الاهتزاز، لتحصل له العصمة من ربّه، في ما يرحم به عباده، وفي ما يفيضه عليهم من لطفه ورضوانه، إنّه أرحم الراحمين.

                           *****

2 ـــ دور الرّسل التبشير والإنذار:

{إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً*وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيماً*رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} [النساء: 163 ـــ 165].

معاني المفردات:

{زَبُوراً}: الزبور: الكتاب.

                           *****

هذه جولة عامّة في آفاق التاريخ النبويّ، من خلال التعداد الإجمالي للرسل مع الإشارة إلى بعض الشخصيات البارزة التي تركت في الواقع البشري بعض الأثر، في ما يمثّله تاريخها من حركة متنوّعة، أو التي توحي ملامحها الشخصية ببعض العبرة في اتجاه التربية والسلوك العملي للإنسان؛ {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ} فقد جاء الحديث عن شخصية نوح والنبيّين من بعده، الذين أجمل الله ذكرهم لعدم وجود ضرورة في ذلك، لأنّهم لم يقوموا بدورٍ بارز، بينما كان نوح الشخصية التي تمثّل نهاية تاريخ سابق للبشرية، استوعب الكفر جميع جوانبه وأفراده، وساهم نوح في الجهاد من أجل تغييره بالدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، حتى إذا استنفد كلّ التجارب للوصول إلى ذلك، ولم تبق هناك تجربة واحدة، انطلق التغيير على يده بالطوفان، ليبدأ تاريخ جديد يرتكز على أساس الإيمان بالله؛ ولذلك اعتبر الأب الثاني للبشرية.

{وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ} أمّا إبراهيم، فهو الشخصية البارزة المتحرّكة في هدوء وقوّة ووداعة، التي تنوّعت مجالاتها في أكثر من صعيد، وكانت رسالته أم الرسالات اللاحقة، لأنّها كانت تمثّل الخطوط العامة التي تلتقي بكلّ التفاصيل الموجودة في بقية الرسالات؛ وبهذا كان دوره حيوياً في هذا التاريخ.

وتحرّكت القافلة من بعده لتشمل أولاده، {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ}، وهم أولاد يعقوب كما قيل، {وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً}. وقد كان لكلّ واحد منهم بعض الخصائص التي تغري بالتفصيل، بما تشتمل عليه من العبرة، وربّما كان لبعضهم امتداد في تاريخ الرسالات أكثر من بعضٍ آخر، فإنّنا قد نلاحظ اختلاف الآفاق بين شخصية عيسى وشخصية الأنبياء الآخرين من أولاد إبراهيم. وقد يكون الحديث عن بعضهم كالأسباط، حديثاً عن متعلّقات الأنبياء، لأنّه لم يثبت ذلك، فيمكن أن لا يكون المراد بالوحي إليهم الوحي بشكلٍ مستقلّ، بل ربّما كان ذلك يتبع الوحي إلى آبائهم. وقد نواجه في شخصية أيوب ويونس جانب الفكرة الموحية المملوءة بالعبرة أكثر ممّا نواجه فيها التفاصيل الرسالية الممتدة في الجانب العملي الحركي من الرسالة.

أمّا سليمان، فقد انطلقت شخصيّته في الملك والسيطرة المطلقة التي تتحرّك بالوسائل الغيبية، ولم يبرز منها الشيء الكبير في مجال الحركة الرسالية على مستوى الدعوة إلى الله على طريقة الأنبياء، وليس معنى ذلك أنّها غير موجودة، ولكنّ القرآن لم يحدّثنا عنه إلاّ من جانب الملك بالإضافة إلى الملامح الذاتية الرسولية في إخلاصه لله وانقطاعه إليه.

وقد تحدَّث الله عن داود كونه صاحب كتابٍ أوحاه الله إليه ـــ وهو الزبور ـــ ليكون الوجه الرسالي الذي يلتقي فيه بالناس في روعة الآفاق الفنية الروحية التي توحي بالخشوع، ليعيش دور الخلافة القوي الذي يمارس الحكم في حياة الناس من موقع الإرادة الإلهية.

وهكذا أجمل الله لرسوله ـــ بعد ذلك ـــ قصّة الرسالات بين رسلٍ لم يحدّثه الله عنهم وآخرين حدّثه عنهم، {وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} لأنّ الكتاب ليس كتاب تاريخ عادي يستعرض كلّ الوقائع والأشخاص والمواقف، بل هو كتاب هداية وإرشاد وتوجيه، يأخذ من التاريخ في وقائعه وأشخاصه ما يتّصل بذلك الهدف، ويترك ما عدا ذلك. وأفرد موسى بالذكر، وأشار إلى أنّ الله قد كلَّمه بشكلٍ مباشر، بخلاف الأنبياء الذين كلّمهم عن طريق الوحي، {وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} لأنّ هناك حكمةً في هذا الأمر، في ما يعلمه الله من مصلحة الرسالات من خلال مواجهة الرسل للتحدّيات الضاغطة عليهم في حياتهم. وقد كثر الحديث عن شخصية موسى في القرآن، لأنّه من الشخصيات النبويّة المتحرّكة التي كانت أدوارها تضجّ بالحركة والحياة، من خلال ما تحمله شخصيّته من القوّة والحيوية والامتداد، وما يتحرّك به جوّه البشري من مواقف وتحدّيات وأوضاع معقّدة في نطاق دوره، وفي نطاق الأدوار اللاحقة له من بعده.

ما هو دور هؤلاء الرسل، ولماذا أطلقهم الله في تاريخ البشرية؟ {رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} إنّ هذه الآية تحدّد دورهم بالإنذار والتبشير من أجل إقامة الحُجّة على الناس، في ما يريد الله للنّاس أن يعرفوه ويعملوا به في طاعته، من خلال القضايا التي قد يحتاجون فيها إلى الوحي، من أجل إدراك تفاصيلها، أو من خلال المواقف المتنوّعة التي تواجههم، فلا يملكون التفاصيل الواضحة الهادية إلى الصراط المستقيم، أو في ظلّ إخراجهم من طبيعة الغفلة التي قد تطبق على أفكارهم وعقولهم، فتبعدهم عن التركيز والامتداد في الخطّ الصحيح، إلى غير ذلك من الأمور التي قد لا يكفي فيها العقل لإقامة الحُجّة، بل يحتاج فيها إلى الوحي الذي يهدي العقل، في ما لا سبيل إلى الوصول إليه، أو ما تحيط به الشبهات والأضاليل فتغرقه في الأجواء الكثيفة من الضباب؛ فقد يقول الناس غداً، عندما يحاسبهم الله على ما انحرفوا فيه، أو ما أخطأوا به، إنّهم لم يلتقوا بالرسل الذين يبصّرونهم الطريق؛ فكان تاريخ الرسل الذي تلاحقت فيه الرسالات هو الردّ على كلّ ذلك؛ {وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً} في قوّته وقدرته، {حَكِيماً} في أوامره ونواهيه وتقديره في الأمور.

                           *****

3 ـــ الأنبياء يحكمون الحياة:

{وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ*وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ*وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ*وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ*ذَلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ*أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَـؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ*أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} [الأنعام: 84 ــ 90].

                           *****

معاني المفردات:

{وَاجْتَبَيْنَاهُمْ}: اصطفيناهم واخترناهم للرسالة.

{وَهَدَيْنَاهُمْ}: سددناهم وأرشدناهم فاهتدوا.

{لَحَبِطَ}: بطل.

                           *****

كانت كرامة الله لإبراهيم أن جعل النبوّة في ذريّته، من خلال الروح الإيمانية التي أثارها في بنيه، ما جعل الرسالة وصيّةً متنقّلةً من الآباء إلى الأولاد الذين عاشوا الإسلام فكراً وروحاً وممارسةً وحركة حياة، في ما أراده الله سبحانه لعباده أن يُسلِموا أمرهم له في كلّ شيء، فهو المرجع في كلّ مسألةٍ، وهو الملاذ في كلّ مشكلةٍ. وهذا هو ما نستوحيه من قوله تعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ*أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـهَكَ وَإِلَـهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَـهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 132 ـــ 133]. وهكذا كانت هداية الله لهذا الجيل من الأنبياء، بما فتح الله قلوبهم لرسالته، وأعدَّهم لدعوته، وملأ قلوبهم بالحكمة، وحياتهم بالتفوى، فأمكنهم ـــ من خلال ذلك ـــ أن يكونوا الدّعاة الهداة، المبشّرين المنذرين الذين تتحوّل حياتهم إلى رسالة ورسالتهم إلى حياةٍ، فيتجاوزون حدود الزمن، فلا تتحدّد آفاقهم بحجم اللّحظات التي عاشوها في عمرهم، بل تمتدّ لتكون تاريخاً في أعمار الآخرين، لأنَّ رسالتهم لا تمثِّل فكرهم وتجربتهم المحدودة، بل تمثّل الحقيقة التي يحملها الله إلى الناس كلّهم في كلّ زمان ومكان، لتكون الصراط المستقيم في جميع أمورهم وقضاياهم، فلا يبقى هناك مجالٌ لاعوجاجٍ في الفكر، ولا انحرافٍ في الطريق.

وقد اختلفت أجواء هؤلاء الأنبياء باختلاف حاجات محيطهم التي يعيشها، روحياً وعملياً، {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ} وكان منهم نوح ـــ النبيّ الذي ذكره الله كنموذجٍ سبق الجيل الإبراهيميّ من الأنبياء، باعتباره النبيّ الأوّل في سلسلة النبوّات المتحرّكة في خطّ الدعوة، فكان المثال الرائع للإنسان ـــ الرسول الذي تتجدّد قوّته الداخلية، كلّما تجدّدت التحدّيات التي يلقاها من الكافرين بدعوته، فلا ينهار ولا يتزلزل ولا يتنازل، بل يندفع ليكرّر التجربة ويؤكّد الرسالة كموقف وحيدٍ للحياة، ويسخر منه الآخرون، فلا يزيده ذلك إلاّ قوّة في الروح والموقف، فيسخر منهم بشجاعة الإنسان الذي يدرك أنّ الله معه.

وجاء الطوفان ليشكّل نهاية الجيل الكافر، ليبدأ نوح الدعوة مع جيلٍ جديدٍ إلى الإيمان بالله. لتبدأ الحياة بعيداً عن الحواجز الضاغطة من قبل الكافرين المعاندين.

{وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ} الذين تميّزت أدوارهم بالسلطة التي يملكونها، والحكم الذي مارسوه، بالإضافة إلى النبوّة. فقد جعل الله داود خليفة في الأرض ليحكم بين الناس، وأعطى سليمان رغبته في ملك لا ينبغي لأحدٍ من بعده، ووهب أيوب، قبل أن يبتليه، السطوة الكبيرة في قومه ـــ كما يروى ـــ وأعطى يوسف الملك في مصر، أمّا موسى وهارون، فقد مارسا الحكم في بني إسرائيل. وهكذا كانت حياة هؤلاء مظهراً للقوّة يريد الله من خلالها الإيحاء بأنّ النبوّة لا تعني الضعف لانطلاقها من أساليب اللّين والحكمة وحركة السلام في الحياة.

{وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ} الذين تميّزت حياتهم بالروحانية الصافية في أسلوب العيش وفي حركة العلاقات، وبالوداعة الطاهرة التي كانت تتفايض في عيونهم إشراقاً وحبّاً ورحمةً للعالمين، وبالانقطاع عن زخارف الدنيا، كمظهر من مظاهر الوقوف ضدّ المادية المفرطة المتمثّلة في عصرهم، ليتحقّق للحياة التوازن بين الأسلوب الروحي والأسلوب المادي في الحياة، فتعيش الروح واقعيّة المادة كما تعيش المادة مثالية الروح؛ وبذلك لا يبتعد الواقع العملي للناس عن  آفاق الله.

وقد لا يتحقّق ذلك ـــ في بعض الحالات ـــ من خلال المواعظ والنصائح، بل يحتاج إلى المثل الحيّ الذي يمثّل القدوة الحسنة، لأنّ الفكرة إذا لم تتحوّل إلى تجسيدٍ عملي في الشخص، فإنّها لا تترك تأثيرها العميق في حركة الواقع. ولذلك كانت النماذج المفرطة في المادية، تحتاج إلى حركة تمثّل الإفراط في المظهر الروحي الرافض لعبودية المادة وليس للمادة نفسها، فالمادة من مستلزمات الحياة التي يريد الدين بناءها، خلافاً لما يحاول البعض اتّهام الدين به من مثالية خيالية لا تمتّ إليه بصلة.

{وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً}، وقد ابتلاهم الله بظروف صعبةٍ، ومشاكل معقّدة في حياتهم، وواجهوا ذلك كلّه بالإيمان والصبر والمسؤولية العالية، حتى استطاعوا أن يقدّموا من أنفسهم النموذج الأمثل للإنسان المؤمن الصابر أمام المصاعب والتحدّيات، والواثق بالله في ما ينتظره من فرج وانتصار.   

وقد قدَّم الله سبحانه لكلّ نموذج من هؤلاء وصفاً خاصاً يتناسب مع طبيعة الدور الذي أوكله إليه. فمع النموذج الأوّل جاءت فقرة: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} في ما تفرضه حركة السلطة العادلة والقوّة المسؤولة من إحسان للناس في تقديم العدالة لهم، وتقوية ضعفهم. وفي النموذج الثاني، جاءت فقرة: {كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ} في ما توحي به كلمة الصلاح من معانٍ روحيّةٍ تلتقي بالصفاء والوداعة والربّانية في القول وفي العمل، والزهد في مواجهة شهوات الدنيا. وفي النموذج الثالث: {وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ} لما يحتويه البلاء من اختبار للطاقة الروحية، وفي ما ينتهي إليه من انتصار على تحدّياته ومشاكله، وفي ما ينطلق معه من مواقف وتطلُّعات، ما يعطي معنى الفضل على الجوّ الذي يحيط بم، والتفضيل على الناس الذين يعيشون معهم.

وعلى ضوء هذا، يمكننا أن نقرّر أنّ المراد بالعالمين هنا، هم الناس الذين يعاصرونهم، وليس تفضيلهم على جميع الناس ممّن تقدّمهم أو تأخّر عنهم، لأنّ ذلك يستلزم أن يكونوا أفضل من جميع الأنبياء، حتى أُولي العزم، وهذا ممّا لم يلتزم به أحدٌ، أمّا احتمال أن تكون الفقرة راجعة إلى جميع الأنبياء، فهو خلاف ظاهر التنويع الذي ألمحنا إليه في كلّ آية مع كلّ نموذج تعرّضت إليه الآيات، والله العالم.

                           *****

كيف نفهم التنويع في نماذج الأنبياء؟

وقد يقول قائل: إنَّ الالتزام بهذا التنويع في نماذج الأنبياء قد يعني التوزيع في مقوّمات الشخصية لدى الأنبياء بين زاهدٍ لا يملك السلطة، وسلطانٍ لا يعيش الزهد، ومبتلٍ لا يحمل المسؤولية، وهذا ما قد لا ينسجم مع طبيعة الرسالة التي يحملها كلّ واحدٍ منهم من أجل تغيير المجتمع في الواقع الأخلاقي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي على هدى الله في ما يأمر به أو ينهى عنه، ما يفرض أن لا يترك الرسول أيّ فراغٍ في حياة الناس، لئلا تبقى النظرات المختلفة بمثابة نقاط ضعفٍ في حركة الإنسان في الحياة، ولذلك فإنّ من المفروض أن تكون مهمّة الرسول شاملةً، ما يفرض أن تكون شخصيّته متكاملةً في طبيعتها وأخلاقيّتها ودورها العملي.

ويجاب عن ذلك، بأنّ إبراز دور معيّن في شخصية هذا النبيّ أو ذاك، لا يعني تحديد هذه الشخصية، بل كلّ ما يعنيه هو تميّز المرحلة التي يعيشها بهذا الدور لحاجتها الواقعية إليه. وبذلك فلا مانع من اشتراكهم في مستوى حمل المسؤولية أمام الله تجاه الناس، وفي الصفات الذاتية التي تمثّل العمق الروحيّ في طبيعة الشخصية، وفي الحركة العملية في الدعوة إلى الله وفي الجهاد في سبيله.

إنَّ التنوّع في الخصوصيات الذاتية تابع لتنوّع الأفكار والظروف التي يعيشها الإنسان في ساحة الواقع، وهذا ممّا يمكن أن نستفيده في مجال حركة العاملين في سبيل الله، فقد يعيش البعض منهم في منطقةٍ تفرض عليهم ظروفها أن يدخلوا في إطار عمليّ قويٍّ يمارسون فيه السلطة والحاكميّة، لأنّ قضية التحدّيات تفرض المواجهة على هذا المستوى، وقد يعيش البعض منهم في منطقةٍ أخرى تفرض عليهم ظروفها أن يعيشوا الزهد في المظهر والانقطاع عن الدنيا في حركة الحياة، لأنّ هذا هو السبيل الموحي بالروحية الصافية التي تحرّك المشاعر، وتثير الأفكار، وتحقّق الثقة، وتوصله إلى الهدف الكبير في إيصال الرسالة إلى أفكار الناس ومشاعرهم.

وقد تفرض عليهم الظروف أن يعيشوا المشاكل والتحدّيات وصنوف البلاء والحياة الصعبة، ليدلّلوا على إمكانية الثبات أمام صعوبات الحياة، وعلى واقعية الرسالة أمام تحدّيات الكفر والانحراف.

وهكذا تكون قضية التنوّع مرتبطة بالجانب البارز من شخصية كلٍّ منهم، مع توفّر العناصر الأخرى في شخصية كل منهم.

                           *****

ذلك هدى الله يهدي به من يشاء:

وإذا كان الله قد أعطى هؤلاء الأنبياء الهداية، فقد منحها للمحطي الذي عاشوا فيه، والبيئة التي انتموا إليها، من آبائهم وذرّياتهم وإخوانهم الذين عاشوا الخطّ الإلهي فكراً وأسلوباً وعملاً، ما أدّى إلى نموّ الأجيال داخل هذه المجتمعات نموّاً طبيعياً، فيجتبيها الله بما عرفه من هداها الذي سارت عليه، وطريقها المستقيم الذي عاشت فيه.

وهذا هو الخطّ الواحد الذي يتميّز بطبيعة الوحدانية في العقيدة والعمل، مع كلّ ما تفرضه من مفاهيم ومسؤولياتٍ وعلاقاتٍ، {ذَلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}، من خلال الوسائل التي هيَّأها لهم ليجرّبوا ويختبروا، بعيداً عن الإكراه والجبر والقهر. فإنَّ الله لا يهدي عباده بطريقةٍ قسريّةٍ، كما لا يضلّهم كذلك، بل يحقّق لهم كلّ ذلك، بالأسباب الاختياريّة التي توصل إلى الهدى، فتؤدّي بهم إلى رضى الله عليهم وقبوله لعملهم.

{وَلَوْ أَشْرَكُواْ} أمّا إذا تمرّدوا على هدى الله، وانحرفوا عن خطّ التوحيد، وأشركوا به ما لم ينزّل به سلطاناً، {لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} فإنَّ الله سيحبط كلّ أعمالهم ويحوّلها إلى رمادٍ اشتدّت به الريح في يومٍ عاصفٍ، لا فرق في ذلك بين إنسانٍ وآخر. فلا امتيازات ولا طبقيّة، فيمن يرضى عنه الله، أو يغضب عليه، بل الأمر كلّه خاضعٌ للقاعدة الوحيدة، وهي العمل في طريق الخير، أو العمل في طريق الشرّ، فهي القاعدة التي ترفع الأنبياء والأوصياء والأولياء، وهي القاعدة التي تضع الشياطين والكافرين والأشقياء.

                           *****

ثمّ يعود بنا إلى الأنبياء {أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} الذي يبيّن للناس خطّ الحياة الفكري والعملي {وَالْحُكْمَ} والحكم الذي يمثّل الميزان الفاصل بين الحقّ والباطل والخير والشرّ، ليقوم الناس بالقسط {وَالنُّبُوَّةَ}. وبذلك لا تكون مسؤولية الأنبياء هي التبليغ والإنذار فقط، وإنّما تمتدّ إلى التطبيق والتنفيذ، بل هناك دور آخر، وهو الحكم بين الناس في ما يختلفون فيه، وفي ما يتنازعون عليه، ويتحرّكون فيه من شؤونٍ وشجون.

وليس الكتاب الذي آتاهم إيّاه شأناً ذاتياً ينطلقون فيه من خبرةٍ ذاتيةٍ وثقافةٍ شخصية، بل هو ممتدٌ من خطّ النبوّة التي آتاهم الله إيّاها، فيما أوحى به إليهم من آياته وشرائعه وإحكامه.

وهكذا يلتقي في شخصية النبيّ الذي اختاره الله، دور النبيّ الذي يحمل الكتاب وحياً من الله، ويعيش النبوّة رسالةً في حركة الحياة من حوله، لما يفرضه ذلك الدور من وصل بين عالمي الحسّ والغيب في حياة الإنسان، إضافةً إلى ذلك دور الحاكم الذي يحرّك الرسالة في الواقع التنفيذي الذي تلتقي فيه النظرية بالتطبيق، في ما أراده الله للإنسان من القيام بالقسط في مجالات حياته العامّة والخاصّة، فكان الكتاب هو الذي يخطّط شرعة العدل، وينظّم ركائزه وقواعده، وكان النبيّ هو الذي يطبّق وينفّذ ويحكم، ليتحوّل الخطّ إلى حركة حياة، وبرنامج عمل، وخط ّسير.

وفي ضوء ذلك، نعرف أنّ الحكم لا ينفصل عن دور النبوّة، كما يخيّل للبعض الذي يحاول أن يثير في الفكر الإسلامي قضيّة الفصل بين الرسالة والحكم، ليوحي بأنَّ دور الأنبياء هو الإبلاغ والإنذار والتبشير والتذكير، لا دور التنفيذ والتطبيق والضغط، بل ربّما نستوحي من المهمّة النبويّة أنّها تقود عملية التغيير بالفكر والممارسة والحركة، ولا تكتفي بالإيحاء الفكري بذلك، لأنّ الأنبياء في وعيهم للخطّة الفكرية أو التشريعية، هم من يعرف خطّة التطبيق، فهم أولى الناس بهذا الدور في ما يراد له من حفظ سلامة الخطّ ووضوح الرؤية.

وإذا كان بعض الأنبياء لم يبلغوا هدفهم في تغيير الواقع على أساس قضية الحكم الشامل، فليس ذلك من جهة أنَّ الهدف لا يلتقي بمواقع الحكم، بل لأنَّ الظروف الموضوعية المحيطة بهم لم تحقّق لهم الوصول إلى النتائج المرجوّة، لأنّ أدوات التغيير لم تستكمل عملية الإعداد والتنفيذ، أو لأنَّ الساحة العملية لم تحفل بالامتداد الذي يعطي للحكم سعة الأفق وامتداد التجربة، لأنّ القضايا التي تتحرّك في حياة الناس، والمشاكل التي تتحدّى أوضاعهم، كانت تنطلق من مواقع محدّدة، ومشاكل ضيّقةٍ، لا مجال معها لبروز الحكم في صورته الواسعة، بما قد يوحي للآخرين بأنّ الحكم لا يمثّل هدف المسيرة النبويّة.

                           *****

سيرة الإيمان لا تتوقّف بكفر الكافرين بها:

وهذه هي المسيرة التي أراد الله للناس أن يسيروا معها ويؤمنوا برسالتها، وينطلقوا مع أهدافها على أساس ما قدَّمه لهم الأنبياء من بيّنات وبراهين {فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَـؤُلاء} المشركون ويتمرّدوا عليها، فإنّ المسيرة لن تتوقّف، والرسالة لن تموت، لأنّ قضية حياة الرسالة ليست قضية فئةٍ، تتحرّك بحياتها وتموت بموتها، بل هي قضية انفتاح القلوب على إشراقة الإيمان في داخلها، في كلّ جيل وفي كلّ مكان، ما يحقّق للإيمان الانتصار في هذا الجيل أو ذاك، أو في هذه المرحلة أو تلك. ويكفل لمسيرة الإسلام أن تتقدّم. وهذا ما عبَّر عنه الله سبحانه بقوله: {فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ}.

ووقف المفسّرون أمام هذه الفقرة ليحدّدوا شخصية هؤلاء الذين وكَّلهم الله بالرسالة، واختلفوا حول هذا الأمر. ونحن لا نظنّ بأنّ الآية واردةٌ في مجال الإشارة إلى أشخاص معيّنين، أو فريقٍ معيّن، بل هي واردة في مجال الحديث عن عدم سقوط الرسالة، وانتهاء المسيرة بكفر الكافرين من هؤلاء، لأنّ الله يرسل عباده أُناساً يؤمنون بها ويحملون شعاراتها، ولا يكفرون بمبادئها، وهم الذين انطلقوا مع الرسالة في كلّ مراحلها في حركة الحياة. وربّما انطلق الكثير ممّا حدَّدوه، من موقع الحدس والتخمين، لا من موقع الرواية واليقين.

وتنطلق خاتمة الفصل بالآية التي تدعو النبيّ إلى أن يقتدي بهذا الهدى الذي أرشد الله إليه هؤلاء الأنبياء، فيهتدي به، على أساس أنّه هدى الله الذي تتحرّك به الحياة فتحتوي كلّ مراحلها في خطّةٍ موحّدة لا سبيل معها للانحراف أو التبديل، لأنّه يمثّل الحلّ الرسالي لمشكلة الإنسان، بعيداً عن الخصوصيّات، ولذلك كانت التغييرات والتبديلات في شرائع الأنبياء لا تمسّ المبادئ العامة، بل تتعرّض للتفاصيل التي لا تمثّل إلاّ اختلافاً في التطبيقات والهوامش والشكليات، وهذا هو قوله تعالى: {أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}.

وفي ضوء ذلك، كانت الرسالة الإسلامية تؤكّد في دعوتها إلى الإيمان، على الإيمان بما أنزل إلى الرسول محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وإلى الأنبياء الذين سبقوه، انطلاقاً من وحدة الرسل في وحدة الرسالة.

                           *****

الأنبياء: رسالات متواصلة

قد نستوحي من هذه الآية، أنّ الله لا يريد لرسله وللعاملين في سبيله أن يتحرّكوا في دعواتهم من منطلق ذاتيٍّ يؤكّد على الجانب الشخصي الذي يستدعي انطلاق كلّ واحدٍ منهم من نقطة البداية بعيداً عن خطوات الآخرين الذين سبقوه، لأنّه لا يريد أن يوحي بالفكرة التي تقول إنّه بدأ من حيث انتهى الآخرون، أو أنّه يسير على الهدى الذي ساروا عليه، لأنّ ذلك يُنقص من شخصيّته التي تبحث عن الاستقلال الذاتي، في ما تطرحه من قضايا، أو تدعو إليه من دعوات، وإن اتّفقت مع ما يطرحه الآخرون أو مع ما يدعون إليه، بل يريد لهم أن يتحرّكوا من منطلق الرسالة، فهي القاعدة، والمسار، والهدف، وهي التي تعطي للشخصيات معنىً وقيمةً وامتيازاً، وهي التي ترتقي بهم إلى الدرجات العليا، وليسوا هم الذين يرتقون بها.

وعلى هذا الأساس، فإنَّ النبيّ لا يعيش همَّ الذّات في حركته، بل يعيش همّ الرسالة في منطلقاته، ما يجعل من موقعه في حركة الرسالة موقعاً يكمل السلسلة في خطواتها، لا موقعاً يعطي الذّات دوراً مميّزاً منفصلاً عن الأدوار الأخرى. وهذا ما جعل عيسى (عليه السلام) يقول ـــ في ما روي عنه ـــ جئت لأكمل الناموس، وما دعا محمّداً (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) أن يقول: "إنّما بعثت لأتمِّمَ مكارم الأخلاق"، انطلاقاً من الهدى الذي جاء به الأنبياء في مكارم الأخلاق(1)، وجاء به في رسالته التي تكمّل خطّ السير.

وربّما كان لنا أن نستوحي من ذلك، أنّ الله يريد أن يعلمنا أن لا نستغرق في الأنبياء كأشخاص، بل أن نستغرق فيهم كخطّ وكهدى وكرسالة. وأن لا نقول إنّ هذا النبيّ أفضل من ذاك، ليكون ذلك مبعث خصام وخلافٍ وانقسام فيما بيننا، لأنّهم لم يعيشوا في حياتهم هذا الهاجس، ولم يتحرّكوا من أجل تأكيده، وإن كان الله قد فضَّل بعضهم على بعض، لكن ذلك لا يباعد بين خطواتهم، بل كلّ ما هناك هو السير على الخطّ الذي ساروا عليه، في اتجاه الهدف الأسمى، لأنَّ الله هو الذي يفاضل بينهم في الدرجات، بعد أن فاضل بينهم في مسؤوليات الحياة، وليس لنا في ذلك دخلٌ من قريب أو من بعيد، فلنقف حيث يريد الله لنا أن نقف، ولنوفّر على أنفسنا جهد البحث في ما لا سبيل لنا للإحاطة به، ولا فائدة لنا في الوقوف عنده، ولندَّخر تفكيرنا لما أرادنا الله أن نخوض في معرفته، وللجهاد في سبيله، من خلال قيادة الرسول فكراً وحركة وعملاً.

                           *****

الأنبياء لا يسألون الناس أجراً:

وماذا بعد ذلك؟ إنّ هدى الله الذي سار عليه الأنبياء كان يقدّم نفسه إلى الناس منحةً وعطيّةً من دون أجر، بكلّ محبةٍ وإخلاصٍ، لأنّ الله أراد للحقيقة أن تعيش في حياة الناس كالنور والماء والهواء، لينفتحوا عليها، بكلّ بساطةٍ وعفويّةٍ، لتلامس أرواحهم وأفكارهم ومشاعرهم من دون حواجز أو عقباتٍ، لأنّ الإنسان الذي يشعر بأنّه يدفع الأجر لمن يدعوه إلى اتّباع ما يحمله من رسالة، قد يعيش الشعور السلبي بالمعنى التجاري للرسالة، في ما تعنيه قضية التجارة من معنى السلعة للمعوّض ومعنى الثمن للعوض، ومعنى التاجر لمن يقدّم السلعة، ودور المشتري لمن يدفع الثمن، ثمّ قد تقف مثل هذه العملية التجارية حجر عثرة في حركة الرسالة، في خضوع قضية الانتماء إليها والإيمان بها، لقوانين العرض والطلب والانفراج أو الانكماش الاقتصادي، في ما تعيشه حياة الناس من أزمات أو انفراجاتٍ.

إنَّ الله يريد للرسالة أن تدخل في وعي الناس، من خلال روحيّة الرسول الذي يعيش العطاء بدون مقابل ليعيش الناس الإحساس بأنّها حقّهم كما هي مسؤوليّتهم، ولذلك فلن يكون الأجر منهم هو ما يستهدفه الرسول، بل الإيمان الذي يحقّق له محبّة الله ورضاه، ولن تكون قدرتهم على دفع الأجر هي التي تفتح لهم باب الإيمان، وتدفع الرسول إلى أن يقدّم إليهم آياته وبراهينه، بل قدرتهم على الاستماع والتفكير والحوار والاستعداد للسير في خطّ الهدى المستقيم.

وهذا ما جعل شعار الأنبياء كلّهم أمام أممهم {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً} لأنّهم لا يملكون شيئاً ممّا يقدّمونه للناس، بل هو ملك الناس الذي وهبه الله لهم، كما وهب لهم الحياة، والذي أراد لهم من خلاله أن يخرجوا من غفلتهم ويتذكّروا دائماً كيف يحرّكون حياتهم في اتجاه الله، حيث الحقّ والخير والعدل والإيمان، فلا حقّ للنبيّ بالأجر، في ما أعطاه الله، {إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ}.

إنّ هذه الروحيّة التي عاشها أنبياء الله، هي روحية الرسالة التي تحمل همّ الناس في وعيهم للحقيقة، وفي انفتاحهم على الحياة، وفي إخلاصهم لله، ما يدفعها إلى أن تحطّم الحواجز في سبيل ذلك، وأن تدفع الثمن من جهدها وحياتها، بعيداً عن كلّ ما يوحي بالعوض، أو يثير قضية الأجر.

وهذا ما نحتاجه في سلوك العاملين من أجل الرسالة، ليعيشوا رساليّة العمل، ولا يغرقوا في تفصيلات المهنة، فإذا واجهتهم المشاكل بالتحدّيات، وقفوا أمامها بوعي الرسالة، وقوّة الإيمان، وإذا أثقلتهم المسؤوليات، عاشوا مع الله، فوهبهم منه القوّة التي تخفّف عنهم ما يحسّونه من ثقل، فيشعرون كما لو كانوا يطيرون في خفّة النسيم وزهو الشعاع المتدفّق من ينابيع الشروق. فهم مع الله ـــ دائماً ـــ على موعد، كلّما كان لهم موعد مع الناس في حركة الرسالة، لأنّ ذلك ما يوحي إليهم بالروحيّة الفيّاضة بالرحمة والمحبّة والحنان. وبذلك كان لهم هذا الامتداد في حياة الناس، من خلال امتدادهم الروحي في حجم الرسالة، ليعيش ذلك كلّه تاريخاً وإيماناً يتحرّك للحياة ليركّزها على قاعدةٍ جديدةٍ من الاهتمام بأمور الناس والتفاعل مع قضاياهم ومشاكلهم، في وعيٍ يبعد الذّات عن الساحة، لتبقى الساحة للرسالة في كلّ المجالات.

                           *****

4 ـــ حدود مسؤولية النبيّ:

{وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ*إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ*وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ*الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَـئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [البقرة: 118 ـــ 121].

                           *****

معاني المفردات:

{بَشِيراً}: مبشّراً بالخير.

{وَنَذِيراً}: منذراً ومحذّراً من العاقبة قبل حلولها.

{مِلَّتَهُمْ}: المِلّة: الديانة، ومثلها النِّحلة.

 

اختلف المفسّرون في طبيعة الفئة التي عبَّر عنها القرآن بالذين لا يعلمون، فقال بعضهم: إنّها النصارى، وقال بعضهم: إنّها اليهود، وهو قول ابن عباس، وقال بعضهم إنّهم مشركو العرب، كما عن الحسن وقتادة(1)، ولعلّه الأقرب، لأنّه أشبه بالمصطلح القرآني في الحديث عنهم كما جاء في الآية السابقة {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ} وقوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ} [التوبة : 6]. وقد يتأكّد ذلك من خلال دراستنا للطلبات التعجيزية التي كانت تقدَّم إلى النبيّ محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) في استحداث آيات جديدة مقترحة من قِبَل المشركين، ممّا يلتقي بهذه الطلبات المذكورة في هذه الآية، وهي أن يكلّمهم الله وجهاً لوجه أو تأتيهم آية من الآيات التي كانوا يسمعون عنها في قصص الأنبياء.

{وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللّهُ} لنسمع كلامه، فنؤمن به من خلال حاسّة السمع، إذا لم نتمكّن من معرفته من خلال حاسّة البصر، {أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ} معجزة لا يقدر البشر عليها لنعرف أنَّ محمّداً رسولٌ من الله، وليس بشراً عادياً كبقيّة بني البشر. {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ} كما حدث ذلك لليهود، {تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} في الكفر والتعنُّت والعناد والمشاعر القلقة، التي لا تنفتح على الحقائق من موقع الجديّة الواعية التي تثير علامات الاستفهام في هذا الجانب أو ذاك للوصول إلى الحقيقة، بل تتحرّك من العقدة المرضية التي تعمل على التنفيس عن ذاتها بالأساليب التعجيزيّة، لأنّهم لو عقلوا المسألة بطريقة واعية، لعرفوا أنَّ الله لا يستجيب للهو اللاهين، أو عبث العابثين، الذين يقدّمون الاقتراحات من دون حاجة إليها في المجرى الكوني العام، أو في الخطّ الرسالي الشامل، لأنَّ خرق القوانين المألوفة مخالف لحكمة الله المتحرّكة في السنن الطبيعية التي أودعها الله في الكون، أو في الوسائل الضرورية لإثبات صدق الأنبياء ممّا لا مجال فيها للتصديق العام.

فقد حفل تاريخهم بمثلها، إذ قال الذين من قبلهم من اليهود لموسى: {أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً} [النساء : 153] وغير ذلك، ويضيف الله إلى ذلك قوله: {قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}، ليثير أمامنا القضية التالية: وهي أنَّ المشكلة التي تواجه الأنبياء أمام شعوبهم، هي أنّهم ـــ أي شعوبهم ـــ لم يكونوا في موقف الذين يريدون الحصول على القناعات الذاتية في قضايا الرسالة الإلهية، ولهذا كانوا لا يفكّرون في ما يقدَّم إليهم من آيات وبيّنات وبراهين، بل كانوا يتنقّلون من طلب إلى آخر في عملية إلهاء وإشغال وتحدّيات لا معنى لها، لأنَّ النبيّ لم يأتِ ليغيّر ناموس الكون في قوانينه المودهة في الآفاق ليكون دوره الاستجابة لهم في كلّ ما يقترحه عليه من هذه الأمور، ولم تجعل له هذه القدرة الذاتية لو أراد ذلك، بل الأمر لله في ما يفعل وفي ما لا يفعل تبعاً لما يعلمه من الحكمة في ذلك كلّه، بل كان دور النبيّ الأساس هو أن يكون بشيراً ونذيراً بالحقّ ليهدي الناس من خلال التبشير والإنذار، وليس عليه إلاّ أن يقدّم للناس ما فيه الحُجّة على الحقّ ثمّ يتّجه إلى الحقّ في كلّ تفاصيله بشيراً ونذيراً، وذلك قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً} وتلك هي مهمّته، وتلك هي مسؤوليته، فإذا استجاب الناس له، فذلك هو ما يريده ويتمنّاه، وإذا انحرف الناس عنه فاختاروا الجحيم على النعيم باختيارهم الضلال على الهدى، {وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ}، فهذا ما لا يسأل عنه النبيّ، لأنّه لم يحدث عن تقصير منه، بل عن عنادٍ منهم واختيار للطريق السيّئ في قضية المصير.

                            *****

حدود المسؤولية:

وقد حاول المفسّرون أن يعتبروا هذه الآية وأمثالها تسلية للنبيّ، كما جاء في مجمع البيان، حيث قال ـــ تعليقاً على الآية ـــ: وفيه تسلبية للنبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، إذ قيل له إنّما أنت بشير ونذير ولست تسأل عن أهل الجحيم وليس عليك إجبارهم على القبول منك، ومثله قوله: {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر : 8] وقوله: {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} [البقرة : 272](1).

أمّا نحن فلا نرى هذا الرأي، بل نعتقد أنّ هذه الآيات واردة في مورد وضع القاعدة الثابتة للمسؤولية التي يتحمّلها النبيّ من حيث هو رسول وداعية، وتحديدها بالعناصر الاختيارية لأساليب الدعوة ووسائلها التي يملكها، من حيث طبيعة الفكرة والكلمة والأسلوب والجوّ العام؛ أمّا الجوانب الأخرى التي تخرج عن اختياره، وترجع إلى أشياء ذاتية في حياتهم النفسية، أو إلى ظروف موضوعية أخرى، فهذا ما لا يدخل في حساب مسؤوليّته، وبذلك فلا مجال لأيّ حزن أو خوف أو حسرة، لأنَّ الله لم يرسل رسوله ليغيِّر الكون تغييراً تكوينياً بشكلٍ غير طبيعي، بل كلّ مهمّته هي السير في عملية التغيير من خلال وسائلها الطبيعية التي لا يملك كلّ عناصرها، فلا يكلّف إلاَّ بما يملكه في نطاق قدرته، وليس هذا مختصّاً بالنبيّ محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) أو بالأنبياء من قبله، بل يشمل كلّ داعية إلى الله، في أي موقع من مواقع الدعوة، فليس عليه إلاَّ أن يفجّر كلّ طاقاته ويستخدم كلّ الأساليب والوسائل التي يملكها للوصول إلى قناعة الآخرين وتغيير الواقع، فإذا فعل ذلك فقد قام بمسؤوليته. وتلك هي الطريقة الواقعية العملية التي تفرغ داخله من كلّ انفعال غير طبيعي، ما يجعله يواجه الفشل والهزيمة مواجهةً هادئة لا تنسحق أمام نتائج الهزيمة وعناصرها، بل تقف في ساحة الواقع لتجمع العناصر الجديدة الممكنة التي يمكن لها أن تحوِّل الهزيمة إلى نصر، والفشل إلى نجاح، من خلال دراسة الأسباب الواقعية لما حدث ومحاولة التغلّب عليها في حركة المستقبل.

                           *****

 

وعي هوية الصراع:

{وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} قال المفسّرون في أسباب نزول هذه الآية: إنَّ النبيّ كان مجتهداً في طلب ما يرضيهم ليدخلوا في الإسلام، فقيل له: دع ما يرضيهم إلى ما أمرك الله به من مجاهدتهم. وقالوا ـــ في مجالٍ آخر ـــ: كان اليهود يسألون النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) الهدنة ويُرونه أنّه إن هادنهم وأمهلهم اتّبعوه، فآيسه الله تعالى من موافقتهم(1).

إنّنا نعتقد أنَّ ما يذكره هؤلاء المفسّرون هو نوع من أنواع الاجتهاد في استيحاء القصة التي يفرضون وجودها في كلّ آية من الآيات التي يخاطب الله فيها نبيَّه في كلّ قضية من القضايا المتعلّقة بموقف النبيّ من العلاقات المتّصلة بالآخرين، ولكنّنا لا نرى ضرورة في ذلك، بل الظاهر هو أنَّ الله كان يريد أن يقدّم للمسلمين ـــ من خلال النبيّ ـــ الوعي العميق للواقع الذي يحيط بهم، سواء في ذلك الواقع المتمثّل بالأشخاص الذين يخالفونهم في الدِّين، أو المتمثّل بالأحداث والأوضاع المحيطة بهم، ليكونوا على معرفة عميقة شاملة لما حولهم، ما يجنّبهم خطر الوقوع في تجربة المعرفة التي قد تعرّضهم للهلاك، وتدفعهم إلى السير في وضوح الرؤية بعيداً عن الانفعالات السريعة والأوهام الطائرة.

وقد يكون الأساس في اختيار النبيّ للخطاب، ثمّ اتّباع أقسى الأساليب شدّةً في خطاب الله، هو الإيحاء بأنَّ هذه القضية هي من القضايا التي تبلغ مرحلة كبيرة من الأهمية والخطورة، بالمستوى الذي لا يمكن فيها مراعاة جانب أي شخص، وإن كان في مستوى عظمة النبيّ محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، لأنَّ عظمة الأشخاص وقداستهم مستمدّة من طاعتهم لله في ما يريد وفي ما لا يريد، فإذا انحرفوا عن الخطّ ـــ ولن ينحرفوا عنه ـــ سقطت عظمتهم وتحوَّلوا إلى أشخاص عاديين خاطئين، لا يملكون لأنفسهم من دون الله وليّاً ولا نصيراً.

ويعتبر هذا الأسلوب من الأساليب البارزة في القرآن في القضية التي تتّخذ جانب الخطورة على أساس العقيدة وصدقها وسلامتها من الانحراف، وذلك كما في قوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر : 65]، وقوله سبحانه وتعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ*لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ*ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ*فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة: 44 ـــ 47].

أمّا هذه الآية، فقد عالجت قضية من أخطر القضايا التي قد تواجه العاملين في سبيل الله في علاقتهم بالكافرين والمنافقين والفاسقين، فقد يستسلم العاملون لحالة نفسية طاهرة يعيشون فيها الأمل الكبير بهداية هؤلاء المعادين للإسلام من خلال الأساليب التي يتبعونها إزاء المسلمين في ما يقدّمونه من تبريرات، وفي ما يثيرونه من انفعالات وعواطف، وفي ما يوحون به من أفكار حميمة توحي بقربهم إلى الحقّ، وذلك من خلال بعض المواقف التي يتقدّمون بها في بعض مراحل الطريق، ممّا يخلق انطباعاً بأنّهم يتقدّمون إلى الحقّ، وقد تخلق هذه الحالة حالة أخرى، وهي الرغبة في إرضاء هؤلاء ببعض الكلمات والمواقف طمعاً في الحصول على صداقتهم أو رضاهم، ممّا يستدعي من المسلمين تقديم تنازلات فكرية أو عملية في حالات معيّنة.

وقد وقع الكثيرون من العاملين في هذا الشرك الشيطاني الذي ينصبه أعداء الله، فاستطاعوا أن يجرّوهم إلى تقديم بعض التنازلات على حساب سلامة الإسلام في عقيدته وشريعته ومواقعه، ما أعطاهم ـــ في نظر البسطاء من المسلمين ـــ صفة الشرعية لمبادئهم، وأغراهم ـــ بالتالي ـــ بالمطالبة بتنازلات جديدة تبعاً لحاجة الظروف الموضوعية لذلك، وكانت النتيجة هي إعطاء أعداء الدِّين فرصة للتقدّم وللحصول على الشرعية، وخسارة المسلمين لكثير من المواقع الفكرية والعملية، من خلال الفكرة التي أوحت بها هذه التنازلات، وهي أنَّ من الممكن للمسلم المحافظة على إسلامه، مع التنازل عن بعض جوانب عقيدته وشريعته. وما زال الأعداء يساومون، وما زال الكثيرون منّا يقدّمون التنازلات، ليحصلوا على رضاهم من أجل الحصول على هدايتهم، ثمّ تحوّلت القضية إلى الهزيمة النفسية التي عاشها المسلمون، من خلال الهزيمة الفكرية والسياسية والعسكرية، ما جعلنا نلهث في سبيل الحصول على رضاهم، كما يلهث الضعفاء في الحصول على رضى الأقوياء للحصول على الحماية والمكاسب والحاجات الصغيرة في الحياة.

وتلك هي النتيجة التي حذَّر منها القرآن في أسلوبه الحاسم في خطابه للنبيّ محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ}، إنَّ عليك ـــ يا محمّد ـــ أن لا تجعل هدفك في مسيرتك هو الحصول على رضاهم، لأنّ القضية ليست قضية خصومة شخصية طارئة ليمكنك الوصول إلى تبديل حالة الخصومة بحالة الصداقة من خلال بعض التنازلات الشخصية، بل هي قضية اعتبار هؤلاء أنّهم على الحقّ وأنّك على الباطل، ما يجعل من تقديم التنازلات تشجيعاً لهم على موقفهم وإغراءً لهم بالثبات على عقيدتهم، ليجرّوك إلى مواقع جديدة من التنازلات، وهكذا، لارتباط الحصول على رضاهم بالوصول إلى التنازل الأخير وهو اتّباع ملّتهم، فذلك هو السبيل الوحيد لربح ثقتهم ب.

ثمَّ يثير الله القضية من قاعدة المبدأ الذي لا يحتمل مساومة أو مجاملة أو تنازلاً {قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الهُدَى} وهي الصراحة في الإعلان عن الحقّ والهدى والإيحاء إلى الآخرين بأنّه لا مجال لطريق غير طريق الله، ولهدى غير هدى الله الذي يجب أن يتبع وحده، ليعرفوا أنَّ الموقف حاسم لا مجال فيه للتراجع وللتنازل، مهما كلَّف ذلك من خصومات ومن عداء ومن انفصال في العلاقات العامة والخاصة.

ثمّ يتصاعد الأسلوب قوّة وشدّة، ليخاطب الأُمّة من خلال النبيّ بأسلوب القسوة الذي يوحي بالحسم في ما لو استسلم لنقاط الضعف النفسية، {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ} فانجذبت إلى جوّ الإغراء العاطفي الذي يثيرونه في نفسك، وسرت معهم في ما يريدونه {بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} بأنّك على الحقّ وأنّهم على الباطل، {مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} وإذا فقد الإنسان رعاية الله ونصرته فمن ذا الذي ينصره من الله، ومن ذا الذي يرعاه بعده؟!

                           *****

القراءة الواعية:

{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَـئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} يختلف المفسّرون هنا، كما اختلفوا في آيات مشابهة في من هم المقصودون بهذه الآية؛ فقال بعضهم: إنّهم الذين قدموا مع جعفر بن أبي طالب من الحبشة؛ وقيل: هم مَن آمن من اليهود كعبد الله بن سلام وغيره؛ وقيل: هم أصحاب محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، على أن يكون المراد بالكتاب القرآن، بينما يكون المراد منه في القولين الأوّلين التوراة، كما جاء في مجمع البيان(1).

ولكنّنا نحسب أنَّ هذه الآراء المذكورة اجتهادية تنطلق من الاستنتاجات والملاحظات الذاتية لأصحابها، وليست نقلية كما نلاحظ من الآراء؛ ولعلَّ الأغلب في الظنّ أنّها ليست في مورد التركيز على جماعةٍ معينة، بل هي في مجال التنبيه على قاعدة أساسية عامّة في باب الإيمان والكفر، وهي تلاوة الكتاب حقّ تلاوته التي يريد بها القراءة عن تدبُّر وتفكير وروحية واعية تتحرّك من موقع البحث عن الحقّ لا من موقع التعصُّب الأعمى، فإنَّ ذلك هو سبيل الانفتاح على آيات الله وما تشتمل عليه من دلائل الحقّ وبراهينه، حيث يقود ذلك إلى الإيمان.

ومن خلال ذلك، نفهم أنَّ الكفر لا ينشأ من حالة فكرية مضادّة، بل من حالة اللامبالاة والغفلة الناشئة من عدم التوفّر على القراءة الواعية والفكر المسؤول، ما يجعل من الإنسان إنساناً يتحرّك في جوّ التعنُّت والتعصّب والعناد الذي لا يملك معه الانفتاح على الحقّ من قريب أو بعيد. وقد اكتفى القرآن بالحديث عن خسارة الكافرين ولم يتحدّث عن السبب في كفرهم، لأنَّ ذلك كان واضحاً في الحديث عن سبب الإيمان، وذلك كمحاولةٍ للإيحاء لهم بضرورة التوفّر على السير في خطّ القراءة الواعية للحصول على فرص النجاح في الدنيا والآخرة.

{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ} وانطلقوا من خلاله إلى آفاق المعرفة، وتحرّكت علامات الاستفهام في وجدانهم، ليلاحقو كلّ مفردات القضايا الفكرية والعملية، ليحصلوا على الأجوبة الشافية من خلال القراءة الواعية: {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ} في فهم عميق للمضمون الفكري، وفي استيحاء للمشاعر الروحية، وفي دراسةٍ لكلّ جوانبها المتّصلة بالله وبالحياة والإنسان، ليحصلوا من ذلك على الثقافة الإيمانية في أجواء الإيمان المنفتح الباحث عن الحقيقة، لا الإيمان الأعمى الغارق في ضباب التقليد، فلا يقتصرون على الأداء اللّفظي الذي يشغل البعض من الناس أو على العنصر الأدبي البلاغي، بل يتحرّكون معه ككتاب عملٍ ووعيٍ وحركةٍ ومنهج للحياة، كما جاء في الإرشاد للديلمي "يرتّلون آياته، ويتفقّهون به، ويعملون بأحكامه، ويرجون وعده، ويخافون وعيده، ويعتبرون بقصصه، ويأتمرون بأمره، وينتهون بنواهيه، ما هو الله حفظ آياته، ودرس حروفه، وتلاوة سوره، ودرس أعشاره وأخماسه، حفظوا حروفه، وأضاعوا حدوده، وإنّما هو تدبّر آياته، العمل بأركانه، قال الله تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} [صـ : 29].

وربّما كان المراد بالكتاب التوراة، وربّما كان المراد به ما يشمل القرآن. وعلى كلّ حالٍ، فإنّ الفكرة تنطلق من وظيفة الكتاب في الوعي الإيماني الذي يخرج به الناس من الظلمات إلى النور، فلا فرق ـــ في ذلك ـــ بين كتاب وكتاب، فإنَّ كلّ كتاب يصدق الكتاب الذي بين يديه والرسول الذي أنزل به. {أُوْلَـئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} لأنَّ القراءة الواعية للكتاب الذي يتضمّن إشراقة المفاهيم الروحية والفكرية والعملية، لا بدَّ أن تعود إلى الإيمان للذين يتطلّعون إلى حقائقه وآفاقه، ليلتزموها عقيدة وسلوكاً وانتماءً. {وَمن يَكْفُرْ بِهِ} من الناس الذين لا يعيشون مسؤولية المعرفة، ولا جديّة الحوار، ولا وعي القراءة، بل يعيشون الحياة على أساس الغفلة واللامبالاة واللاانتماء، ويسيرون مع كلّ ريح، فلا يتدبّرون الكتاب، ولا يتفهّمون آياته، {فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} الذين خسروا الدنيا التي يخطّط الكتاب لها في خطّ التوازن الفكري والعملي، وخسروا الآخرة التي يريد الكتاب للإنسان أن يجعلها الهدف في حركته في الدنيا، لينال الدنيا والآخرة معاً.

                           *****

5 ـــ تفضيل الرسل بعضهم على بعض لا يعني اختلاف الهدف:

{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَـكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة: 253].

                           *****

معاني المفردات:

{بِرُوحِ الْقُدُسِ}: قد يعني اللّطف الإلهي والتأييد، وقد يعني جبرائيل، وقيل غير ذلك. قال الطبرسي: وأقوى الأقوال والوجوه قول من قال هو جبرائيل (عليه السلام)، وإذا قيل لِمَ خصّ عيسى (عليه السلام) من بين الأنبياء بأنّه مؤيّد بجبرائيل وكلّ نبي مؤيّد به؟ فالقول فيه إنّه إنّما خصّ بذلك لثبوت اختصاصه به من صغره إلى كبره(1).

                           *****

في الآية حديث عن تفضيل الله لبعض الرسل على بعض، وحديث عن اختلاف أُممهم من بعدهم واقتتالهم، فكيف نفهم ذلك؟

أمّا التفضيل، فقد يخطر في البال، أنّ المراد به تفضيل القيمة، لما توحي به الكلمة من الأفضليّة، ولكن التدبّر في الآية يوحي أنّه بمعنى الميزة والخصوصية التي يمنحها الله لبعض الناس دون بعض لحكمةٍ يراها، من دون أن تعني امتيازاً ذاتياً. وهذا ما نستوحيه من الآيات التي تحدّثت عن تفضيل بني إسرائيل على العالمين، حيث إنّ البارز فيها هو تفضيل النعمة لا تفضيل القيمة، ولهذا لم يمنع ذلك من ذمّهم ولعنهم في آياتٍ كثيرة من القرآن، وربّما يؤكّد ذلك، أنّ الله عندما فصَّل التفضيل، جعل منه تكليم الله لبعضهم، وجعل منه رفعه لبعضهم درجات، الأمر الذي نستوحي منه، أنّ التفضيل قد يأتي بمعنى لا يفرض ارتفاع المنزلة. وبهذا نرُدّ على من تساءل أنّ فقرة {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} بمثابة تكرير لما تفيده كلمة التفضيل. فإنّ المعنى الذي أشرنا إليه يبتعد بالآية عن ذلك كما هو واضح.

ولكنّ ذلك لا ينفي انطلاق القيمة في التفضيل من تفاضل العناصر الذاتية الموجودة في كلّ واحدٍ منهم، كما قد تكون من الألطاف الإلهية التي اختصّ بها الله بعضهم ببعض الامتيازات والمهمّات، انطلاقاً من الظروف الموضوعية المحيطة بالمرحلة الزمنية، والتحدّيات المتنوّعة، والأوضاع الاجتماعية أو بعض القضايا الخفيّة التي اختصّ الله بعلمها، ما يفرض الحاجة إلى معجزةٍ معيّنة في مجتمع ما، ومعجزةٍ أخرى في مواجهة هذا التحدّي، وصفات مميّزة في هذا النبيّ أو ذاك تبعاً للدور الذي أوكل إليه أو المهمّة التي كلّف بها.

وقد يطرح سؤال ثان، لماذا تحدّث القرآن عن تفضيل الرسل بعضهم على بعض ليتحدّث بعد ذلك عن اختلاف أتباعهم واقتتالهم؟

وربّما يجاب عن ذلك بما أجاب به صاحب الميزان، بأنّ الآية في مقام دفع ما ربّما يتوهّم، أنّ الرسالة، خاصة من حيث كونها مشفوعة بالآيات البيّنات الدالّة على حقيّة الرسالة، ينبغي أن يختم بها بليّة القتال: إمّا من جهة أنّ الله سبحانه لما أراد هداية الناس إلى سعادتهم الدنيوية والآخروية بإرسال الرسل وإيتاء البيّنات، كان من الحريّ أن يصرفهم عن القتال بعد ويجمع كلمتهم على الهداية، فما هذه الحروب والمشاجرات بعد الأنبياء في أُممهم، وخاصةً بعد انتشار دعوة الإسلام الذي يعد الاتحاد والاتّفاق من أركان أحكامه وأصول قوانينه؟ وإمّا من جهة أنّ إرسال الرسل وإيتاء بيّنات الآيات للدعوة إلى الحقّ لفرض الحصول على إيمان القلوب، والإيمان من الصفات القلبية التي لا توجد في القلب عنوةً وقهراً، فماذا يفيده القتال بعد استقرار النبوّة؟

ويتابع السيّد العلامة الطباطبائي الحديث، فيجيب عن هذا التوهّم: إنّ الذي يجيب تعالى به: أنّ القتال معلول الاختلاف الذي بين الأُمم، إذ لولا وجود الاختلاف لم ينجرّ أمر الجماعة إلى الاقتتال، فعلّة الاقتتال الاختلاف الحاصل بينهم، ولو شاء الله لم يوجد اختلاف فلم يكن اقتتال رأساً، ولو شاء لأعقم هذا السبب بعد وجوده، لكنّ الله سبحانه يفعل ما يريد، قد أراد جري الأمور على سنّة الأسباب، فوجد الاختلاف، فوجد القتال، فهذا إجمال ما تفيده الآية.

ويقول في سياق الحديث: وعلى هذا، فصدر الآية لبيان أنّ مقام الرسالة على اشتراكه بين الرسل (عليه السلام)، مقام تنمو فيه الخيرات والبركات وينبع منه الكمال والسعادة ودرجات القربى والزلفى، كالتكتيم الإلهي، وإيتاء البيّنات، والتأييد بروح القدس، وهذا المقام على ما فيه من الخير والكمال لم يوجب ارتفاع القتال لاستناده إلى اختلاف الناس أنفسهم(1).

وهو توجيه متين، ولكن قد نستوحي من الآيات أنّ الله قد أرسل الرسل ليبلغوا الناس رسالات الله، التي ترجع ـــ في عمق مضمونها ـــ إلى رسالةٍ واحدة وهي الإسلام لله، فلم تختلف رسالاتهم مع اختلاف خصائصهم التي يفضل بعضهم على بعض بها، سواء كانت متّصلة بالذات في عناصرها المميّزة أو بالدور، أو بالمعجزة، أو بالصلة المباشرة بالله أو نحلة الله له، أو بشمولية الرسالة وخاتميّتها، ليكون الرسول خاتم النبيّين الذي يجمع الكتاب كلّه والرسالة كلّها في رسالته، فقد كانوا موحّدين يصدق بعضهم بعضاً ويبشّر بعضهم ببعض، لأنّهم انطلقوا من الروحية النقيّة الصافية المنفتحة على الله وعلى كلّ سننه، ومن إدراك الحاجة الإنسانية لكلّ رسالاتهم من خلال ارتباط مسيرة الإنسان بعضها ببعض، فإنّ لكلّ مرحلة حاجاتها وقضاياها وتحدّياتها؛ الأمر الذي يفرض التكامل والتواصل، لتستقيم الحياة كلّها في الطريق الواحد الذي يصل بالإنسان إلى الله في كلّ مراحله المتنوّعة.

وقد عرَّفوا الناس هذه الحقيقة التي وحّدت بينهم عندما التقى الخطّ عندهم على الدعوة إلى عبادة الله وحده التي تختصر كلّ تفاصيل الرسالات.

فكان من المفروض لأتباعهم أن يستجيبوا لهم في حركة الوحدة الإنسانية على خطّ الرسالات التي جاء بها الرسل، وأن تكون وحدة الأتباع من خلال وحدة المتبوعين، ولكنّ المشكلة أنّ الله لم يخلق الناس على طريقة واحدة ومزاج واحد وذهنية واحدة، لأنّ طبيعة اختلافهم في مواقعهم ومؤثّراتهم وأوضاعهم، تؤدّي إلى اختلاف الأفكار، وتنوّع المصالح، وانحراف السلوك، وطغيان المنافع والمطامع، فلا تكون الرسالة هو العنوان الكبير لالتزاماتهم، بل تكون الذّات هي الخلفية اللاشعورية أو الشعورية لتصرّفاتهم، فيجعلون الدين وسيلة من وسائل تحقيق مآربهم، فتشتدّ الحساسيّات وتصطدم المصالح وتضرى الأنانيات التي تطلّ بهم على ساحة القتال الذي يتحرّك بضراوة، لأنّ ما يختلفون فيه، وهو الدين، يمثّل معنى القداسة العميق في عمق الذّات، ما يجعل حرارة التحرّك باسمه أكثر تأثيراً من أيّ موقع أو فكرٍ آخر، ولم يعطّل الله فيهم هذه الحالة الإنسانية المتحرّكة في اندفاع الغرائز الذاتية التي لا يخضع فيها الإنسان لعاملٍ واحد، ولوجهٍ واحد، بل يخضع لتأثيرات أكثر من عامل في أكثر من وجه، ما يدخل في تنوّع موارد الحياة ومصادرها في حركة الإنسان في داخلها وخارجها، ويحقّق لها الإيجابيات الكبيرة إلى جانب السيّئات، فإذا كان هذا الاختلاف سلبياً في جانب، فإنّ له أكثر من إيجابية في الجوانب الأخرى التي يتنوّع فيها الإنسان تبعاً لتنوّع حاجاته ومطامعه وتطلُّعاته وأفكاره.

وهكذا أراد الله للرسالات أن تنطلق من موقع الرسل الذين يبلغونها من دون أن يفرضوها لتتّجه إلى مواقع الناس الذين ينطلقون في عملية الاختيار نحو الإيمان هنا، ونحو الكفر هناك، لتتطوّر الأمور إلى الاقتتال الذي يحاول فيه كلّ فريق أن تكون الساحة له من موقع القوّة الراغبة في السيطرة لمصلحة الإيمان أو لمصلحة الذّات.

وربّما حاول البعض من هؤلاء أن يجعلوا من تفضيل بعض الرسل على بعض وسيلةً من وسائل الوقوف عند هذا الرسول، فلا يتعدّاه للإيمان بالرسول الآخر، بالإضافة إلى إيمانه به، فيثور الخلاف والنزاع الذي يعدّد الأديان ليدّعي أحدهم أنّ دينه هو دين الحياة الأخير ويدّعي الآخر الدعوى نفسها في دينه.

إنّها إرادة الله في حركة التكوين في خضوعها للأسباب والمسبّبات الطبيعية التي أودعها في الكون، القائمة في الإنسان على أساس حريّة الإرادة وحيوية الاختيار، في الوقت الذي كانت إرادته التشريعية تدعوه إلى أن يمتنع عن القِيَم السلبية ليلتزم بالقِيَم الإيجابية في الدين والحياة، لأنّ الله يريد لدينه ولشريعته ولحركة الحياة في الإنسان أن تنطلق من موقع الحريّة لا من خلال الجبر، لأنّ المصلحة تقتضي ذلك في عمران الكون القائم على التنوُّع والصراع والتوازن.

                           *****

 

 

 

التفاضل بين الرسل لم يمنع من اللّقاء:

ولكن ما هو مغزى هذا الحديث هل هو مجرّد تقرير الفكرة، أو هو تمهيد لفكرة أخرى؟ الظاهر ـــ بقرينة السياق ـــ هو الثاني. فإنّ القضية هي حركة الرسالة في حياة الناس الذين عاشوا مع الرسل أو جاؤوا بعدهم، فاختلفوا وتقاتلوا حولهم حول رسالتهم، في طريقة الإيمان بها، أو في أصل الإيمان بها... فلعلّ الآية كانت تريد أن توحي بالتقاء الرسل على رسالة الله، باعتبارها سرّ شخصيّتهم الرسالية، وبأنّ تفضيل الله لبعضهم على بعض لم يمنع من هذا اللّقاء، لأنّ جهات التفضيل لا توجب الخلاف فيما بينهم ليختلف من بعدهم على هذا الأساس، بل هي من مميّزات شخصيّتهم ورسالتهم في ما تحتاج إليه من مميّزات.

                           *****

كيف حدث اختلاف أممهم:

كيف حدث الاختلاف والتقاتل بين أُمم الأنبياء ولماذا؟

لقد قرَّر الله أنّه قادراً على أن يمنع الاقتتال والاختلاف بين الأمم بالقوّة القاهرة، التي تجعل من وحدة الإيمان عنصراً من العناصر الذاتية للإنسان كما هو لونه وصفات جسده الأخرى، ولكنّه أراد للإنسان أن يتحرّك نحو الإيمان أة الكفر بإرادته واختياره، من خلال السنّة الكونية التي أراد أن يربط فيها الأسباب بمسبّباتها، ما قد يفرض الكفر إذا تحقّق سببه كما يفرض الإيمان إذا تحقّق سببه، الأمر الذي قد يؤدّي إلى التقاتل والتنازع في الأجواء الحادّة التي تتجمّع ظروفها الموضوعية في هذه الساحة أو تلك. وهذا ما جرت عليه سنّة الحياة في ما سنَّ الله للحياة من خطط أو قوانين، ولكن ذلك لا يعني أنّ الله يرضى به أو يريده في الإطار التشريعي، بل كان ينهى عنه في هذا الإطار من أجل أن يقود الإرادة الإنسانية للاختيار الأفضل من موقع القناعة الذاتية، وهذا هو معنى أنّ الله يفعل ما يريد، من دون أن يكون ذلك منطلقاً من فكرة الجبر ومبتعداً عن فكرة الحريّة والاختيار.

وقد يقول قائل: لماذا أقدر الله الإنسان على الشرّ وهو قادر على أن يشلّ قدرته عنه؟ والجواب: أنّ السرّ في ذلك، هو السرّ في خلق الإنسان على أساس الاختيار الذي قد يحصل من خلال المنفعة للإنسان أو للوجود أكثر ممّا يحصل له من مضرّة، وليسي في ذلك أيُّ قبح في فعل الله، ما دام الله ـــ سبحانه ـــ لا يعطي الإنسان قدرة عمياء لا تستطيع أن تعرف طريقها جيداً عند اختلاف الطرق، بل أعطاه قدوة مفتوحة الأعين على كلّ خير وعلى كلّ شرّ، واعيةً لكلّ ما حولها من خلال الفكر الذي تملكه ومن خلال الرسالات التي أرسل الله بها رسله ليوجهوا الناس إلى استخدام الإرادة الواعية المنفتحة على الحقّ والخير، في ما توعد الله عليه من عقاب في جانب السلب، وما وعد به من ثواب في جانب الإيجاب، ولذلك كان القرآن الكريم يكرّر في أكثر من آية قوله تعالى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ} [هود : 101].

                           *****

هل الدين أساس الحروب بين الناس؟

ربّما يثير الكثيرون من الناس أنّ الدين هو العنصر الحادّ السريع الاشتعال في الوجدان الإنساني، لما يتضمّنه من حسّ القداسة الغيبية التي تدفعه إلى التحرّك من أجل إلغاء الآخر، لأنّ هذا الجوّ الغيبي المنفتح على الإيمان بالله يمنع الوصول إلى أيّة تسوية مع الكفر به ويجعل من الإنسان الكافر إنساناً لا يستحقّ الوجود، فلا بدّ من إزالته من الحياة ليبطل تأثيره في إضلال الناس عن خطّ الإيمان، لتكون مواجهته ثأراً لله وللرسول وللدين، فلا مجال للحوار معه، لأنّ القضية تفرض نفسها على الواقع الحيّ من خلال وضوحها الذي لا يلتقي بأيّة شبهةٍ في احتمالات الخطأ، ليكون هناك مجال للجدل من خلالها، وبذلك يتحوّل المؤمن بالدين إلى شخصية عدوانية ساحقة ضدّ الإنسان الآخر الكافر، وإلى نار محرقةٍ لكلّ وجوده، وهذا ما يجعل من الحروب الدينية أمراً طبيعياً أمام الخلافات الدينية، سواء كانت منطلقة من عمق الإيمان، أو من استغلال الشعار، ولهذا، بدأ البعض يدعو إلى إلغاء الدين من حياة الإنسانية لتستطيع الإنسانية أن تحصل على السلام.

ونلاحظ على ذلك، أوّلاً: إنّنا لا ننكر أنّ للدين تأثيراً على الوجدان الإنساني أكثر من أيّ فكرٍ آخر، لأنّ القداسة التي يختزنها في مضمونه الإلهي والتي تجعل المؤمن في حالة ذوبان في الله وإخلاص عظيم له، قد تثير في النفس الكثير من المشاعر والانفعالات الحادّة التي تنطبع في السلوك العام والخاص في علاقته بنفسه أو بالآخر.

ولكن، ليس معنى ذلك أنّ الروح الدينية تنطلق من فكرة إلغاء الآخر، بل هي، في مضمونها الرسالي، تدفع بأتباعها إلى الانفتاح على الآخر بالدعوة القائمة على الحكمة والموعظة الحَسَنَة والجدال بالتي هي أحسن بالأسلوب الذي يعمل على الدخول إلى عقله وقلبه والنفاذ إلى واقع حياته، ومناقشة فكره باحترام في عملية أخذ وردّ، بالطريقة التي يملك فيها حريّة المناقشة بلا حدود أمام الهدف الذي يحوّل الأعداء للرسالة والقضية والموقع والموقف إلى أصدقاء لها. وهذا هو شأن الواعين من المؤمنين الذين يعيشون الإيمان حركة دعوة منفتحة على الإنسان كلّه والحياة كلّها من أجل هدايته وهداية الحياة في حركته ووجوده.

ولكنّ الجهل والتخلُّف اللّذين يسيطران على بعض المجتمعات المتديّنة أو الأشخاص المتديّنين، هما اللّذان يدفعان بالإنسان إلى مواجهة الفكر الآخر بالانفعا والحماس المضادّ والأسلوب العاطفي الذي لا يفكّر بعقل واتّزان، لأنّه لا يمك العقل الذي يواجه العقل الآخر والاتّزان الذي يلتقي من خلاله بالخلفيات التي تكمن في قناعات الفئات المضادّة، فلا يملك في هذا الجوّ شجاعة المجابهة العقلانية، فيحوّل الموقف إلى المجابهة العدوانية.

ويمكن أن تتحرّك الحرب من خلال الطرف الآخر الذي يعمل على العدوان على الموقع الديني، وذلك من خلال عملية احتلال عسكري أو سيطرة اقتصادية أو سياسية، ممّا يجعل القضية دفاعاً من النفس، أو وقاية من العدوان المحتمل، وذلك من خلال روحيّةٍ منفتحةٍ على القضايا الكبرى في عناوينها الحيوية التي يرى فيها المحاربون فريضة إلهيّةً لا تحمل عقدة في الذّات الطائفية، بل علاجاً للواقع الصعب الذي يختزن الأخطار على مصير الدين والمستضعفين وعلى حريّة المؤمنين في الدعوة إلى الله.

وهكذا نجد أنّ الحرب الدينية ليست حركة عدوانية ضدّ الإنسان الآخر، بل هي حركة دفاعية أو وقائية من أجل المحافظة على الذّات والموقع والإنسان.

ثانياً: إنّنا لا نرى في الحديث عن مسؤولية الدين عن الحرب في حياة الإنسان حديثاً واقعياً دقيقاً، بحيث يكون السبب الرئيسي في حركة الحرب في الواقع، فهناك الحروب العرقية والقومية والاقتصادية والسياسية التي قد تختبئ وراء الشعارات الدينية في بعض الحالات، وقد تكشف عن وجهها الحقيقي في حالات أخرى، ما يجعل من هذه الأمور أساساً للحرب الدائبة بشكلٍ مباشر أو غير مباشر.

ثالثاً: إنّ الدين الذي ألغى الفروق العرقية والعنصرية والجغرافية، يمثّل العنصر الحيوي في تجفيف منابع الحرب وإلغاء أسبابها، لأنّها حرب قائمة على العصبية، وهي مرفوضة من الدين، لا سيّما في الإسلام، جملاً وتفصيلاً. فقد جاء في الحديث: من تعصّب أو تُعصّب له، فقد خلع ربقة الإيمان من عنقه(1). وعلى ضوء هذا، فإنّ الحروب ناشئة غالباً من انعدام الدين، لا من الدين نفسه.

رابعاً: إنّ الدين قد طرح القضايا الإنسانية للطبقات المضطهدة أو المحرومة أو المستعبدة، كعناوين كبرى لحركته في ساحة الصراع، ما يجعل من الحرب التي يخوضها المؤمنون حرباً جهادية إنسانية لا دينية بالمعنى المباشر التقليدي للدين، وهذا ما نراه في الحرب التي يخوضها الإسلاميون في هذا العصر ضدّ المستكبرين والمتسغلّين والظالمين، بحيث نجدهم يتعاونون مع غير المسلمين من أتباع الديانات الأخرى أو التيّارات الأخرى في مواقع اللّقاء على طريق الأهداف المشتركة.

6 ـــ الارتباط بالأنبياء ارتباط بالخط:

{مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ*وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 79 ـــ 80].

                           *****                         

معاني المفردات:

{رَبَّانِيِّينَ}: الرباني: هو الربّ الذي يربّ مر الناس بتدبيره وإصلاحه إيّاه، يقال: ربّ فلان أمره ربابة وهو ربّان، إذا دبّره وأصلحه، ونظيره نَعَس يَنْعَسُ وهو نعسان. وأكثر ما يجيئ فعلان من فَعَل فيكون العالِم ربّانياً لأنّه بالعلم ربّ الأمر ويصلحه، وقيل: إنَّه مضاف إلى علم الربّ، وهو علم الدين الذي يأمره به، إلاّ أنّه غيّر في الإضافة ليدلّ على هذا المعنى، كما قيل في الإضافة إلى البحرين بحراني، وكما قيل للعظيم الرقبة: رقباني، وللعظيم اللّحية: لحياني، فقيل لصاحب علم الدين الذي أمر به الربّ: رباني(1)؛ وقيل: هو الشديد التمسُّك بدين الله وطاعته.

{تَدْرُسُونَ}: تديمون القراءة والدرس والحفظ.

                           *****

لقد حدث في التاريخ الديني القديم، أنّ بعض الناس قد تطرَّفوا في تعظيم الأنبياء الذين كانوا يملكون طاقات روحيّة كبيرة، وينطلقون في حياة الناس من خلال الدور العظيم الذي أوكل الله إليهم القيام به، ممّا استلزم صدور المعجزات على أيديهم لمواجهة التحدّي الذي كان يوجّه إليهم من قبل الكافرين، ولإثبات علاقتهم بالله من خلال النبوّة، فنشأ من بعدهم جماعة يؤلّهونهم وينسبون إليهم صفات الربوبيّة من خلال ما يدّعونه لهم من أسرار خفيّة في طاقاتهم ترتفع بهم إلى هذا المستوى، كما حدث ذلك بالنسبة إلى عيسى (عليه السلام) في ظاهرة التأليه والغلوّ التي امتدّت إلى وقتنا هذا في ما يعتقده النصارى من فكرة المسيح ـــ الإله.

وقد حدثت ظاهرة أخرى للتأليه، وهي ما كان متعارفاً لدى بعض العرب أو غيرهم من تأليه الملائكة، وذلك من خلال الأحاديث الدينية التي تتحدّث عن طاقاتهم الخارقة وقدراتهم الكبيرة في أوضاعهم وأشكالهم وأسرارهم.

وربَّما يتعلَّل هؤلاء وأولئك بانتماء هذا الفكر إلى الأنبياء، فهم يدعون الناس إلى أن يكونوا عباداً لهم، بتقديم فروض العبادة لهم، وبتقديسهم بالمستوى العظيم الذي يرتفع بهم إلى مستوى الربوبيّة. وقد يحدث ذلك من خلال ما يريد النبيّ لنفسه من قداسة وتأليه، وقد يحدث ذلك من خلال ما يفرضه أحد الأنبياء من توجيه الناس إلى عبادة نبيّ آخر، أو في تأليه الملائكة، وذلك لما يثيره الأنبياء أمام الناس من قصص وتعليمات في عظمة الملائكة وقداستهم التي تصل بهم إلى مستوى التأليه والربوبيّة.

                           *****

 

 

 

النبوّة والرّسالة:

 فكانت هاتان الآيتان من أجل أن يضوع الله ـــ سبحانه ـــ الفكرة في موقعها السليم، ليدفعنا إلى التفكير في بطلان هذا التعلُّل ببطلان الأساس الذي يرتكز عليه. {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ} فإذا كان الله قد أرسل بشراً بالكتاب الذي يفصّل للناس حقائق الأشياء في شؤون العقيدة والشريعة والحياة، ليركّز لهم المفاهيم الحقّة على أساس من الوحي. {وَالْحُكْمَ} وأتاه الحكم ليفصل بين الناس في ما اختلفوا فيه من خلال تطبيق الفكرة على حركة الواقع، لئلا يضيع الناس في متاهات النظريات بعيداً عن التطبيق، {وَالنُّبُوَّةَ} وأعطاه النبوَّة التي هي سفارة النبيّ بين الله وبين خلقه من خلال الوحي الذي ينزل عليه. {ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ اللّهِ} فلا يمكن أن يرسل الله مثل هذا الإنسان ويختاره من بين عباده، إلاّ إذا كان متمتّعاً بالصفات العظيمة التي تبعده عن كلّ انحراف في التصوّر والسلوك، وواعياً لدوره وموقعه، وامتداد خطّه الرساليّ، وعظمة الله في نفسه، وضعة نفسه أمام الله، وشعوره العميق بالعبودية المطلقة أمام الألوهية المطلقة؛ لتكون رسالته منطلقخيرٍ وصلاح وإصلاح وتأكيد على الحقيقة في كلّ مجالاتها الفكرية والعملية. وفي هذا الاتجاه، لا يمكن أن يدعو الناس إلى عبادة نفسه من دون الله، لأنّه يعرف أنَّ قدراته كلّها، مهما كانت عظمتها، مستمدّة من الله ـــ سبحانه ـــ فإنّه لا يملك لنفسه ضرّاً ولا نفعاً إلاّ الله؛ ولا يمكن أن يدعوهم إلى اتّخاذ الأنبياء الآخرين والملائكة أرباباً من دون الله، لأنَّ ذلك هو الكفر الصريح الذي لا يمكن أن يصدر من النبيّ الذي تتلخّص رسالته في تحويل الناس من الكفر إلى الإسلام، لا في تحويلهم من الإسلام إلى الكفر.

إنّ النبيّ لا يمكن أن يدعو الناس إلى ذلك، بل لا بدَّ من أن يدعوهم إلى أن يكونوا ربّانيين متألّهين، يعلمون كتاب الله ويعملون به ويعلّمونه للناس الآخرين ليكون العلم للعقيدة وللعمل وللهداية.

إنَّ القرآن يناقش الفكرة بهذا الأسلوب الذي يصوّر القضية في مقام إثارتها بطريقة أنَّ ذلك ليس من حقّ النبيّ، وليس من شأنه، من أجل الإيحاء بأنّه لا يفعل ذلك، لأنّه لا يتجاوز حدّه الذي حدَّده الله ـــ سبحانه ــــ له؛ وليس في مقام التنديد بمن يفعل ذلك من الأنبياء، فإنَّ الآية واردة في مقام الكناية.

                           *****

الأنبياء يبرزون بشريّتهم:

وقد نستوحي من هاتين الآيتين أنّ الأنبياء لا يتحدّثون عن أنفسهم كثيراً للناس ليثيروا في حياتهم الشعور بالتعظيم والتقديس لهم، بل هم ـــ على العكس من ذلك ـــ يعملون على تأكيد جانب البشرية في ذواتهم بشكلٍ صريح مؤكّد، ويبرزون نقاط الضعف البشري بطريقة واضحة. كما نجد ذلك في ما حكاه الله عن رسوله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) في حواره مع المشركين، الذين طلبوا منه فعل بعض خوارق العادة التي يقترحونها للدلالة على نبوّته، انطلاقاً من عقيدتهم فيه بأنّه مزوّد بطاقات هائلة يستطيع أن يقوم من خلالها بكلِّ شيء يُطلب منه. فقد أجابهم بقوله: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَراً رَّسُولاً} [الإسراء : 93] ؛ وقوله: {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} [الأعراف : 188]، {قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يِوحَى إِلَيَّ مِن رَّبِّي} [الأعراف : 203].

وهكذا نلاحظ أنَّ القرآن لم يتحدّث عن الأنبياء إلاَّ من خلال صفاتهم الذاتية المتّصلة برسالتهم، كما حدَّثنا عن حركة الرسالة في حياتهم وما لاقوه من عنتٍ واضطهادٍ وتشريد. وعن بعض نقاط الضعف البشري التي عاشوها في واقعهم الداخلي والخارجي، من أجل إبعاد الناس عن الضلال والغلوّ، ليظلّ التصوّر في العقيدة مشدوداً إلى الواقع، بعيداً عن كلِّ ضروب الخيال والمثال الذي قد يطوف في أخيلة الكثيرين وأفكارهم.

{مَا كَانَ لِبَشَرٍ} أي ما ينبغي له، فليس ذلك من شأنه في ما جعله الله للبشر ـــ أيّاً كان ـــ من الشأن والموقع والدرجة {أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ} الذي أنزله عليه وكلّفه بإبلاغه للنّاس، {وَالْحُكْمَ} الذي يريد منه التحرّك في الساحة العامّة للنّاس بإدارة أمورهم، وحلّ مشاكلهم وفصل القضايا في منازعاتهم، ليكون الحاكم في ذلك كلّه باعتبار أنّ الله جعل الرسول حاكماً بين الناس كما في قوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ} [النساء : 105]. وقوله تعالى: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ} [المائدة : 49]، {وَالنُّبُوَّةَ} وهي الرسالة التي أراد الله منه أن يحملها للناس ليبلّغهم كلمات الله وتعاليمه وآياته {ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ اللّهِ} لأنَّ الله يختار هؤلاء البشر من الصفوة الطيّبة الخالصة من بين الناس، بحيث يعيشون التوحيد في كلّ وجودهم، حتى يتحوّل إلى عنوان للذّات في الفكر والعاطفة والحركة والحياة كلّها، فلا مكان لغير التوحيد في ذواتهم، وينطلقون من قاعدة الصدق في التزاماتهم بالحقّ، في إحساسهم به في أنفسهم ومع الله ومع الناس، فهم الصادقون مع أنفسهم وربِّهم والناس من حولهم، فلا يتحدّثون عن الله إلاّ بما بلّغهم إيّاه، ولا يبلّغونهم إلاّ ما أوحى به إليهم من دون زيادة ولا نقصان ولا تحريف، فلا يمكن ـــ والحال هذه ـــ أن يستغرقوا في عبادتهم لأنفسهم بحيثُ ينحرفون في التصوّر ليبتعدوا عن الإحساس بعبوديّتهم لله وربوبيّته لهم، فيطلبون من الناس أن يعبدوهم من دون الله، كما هو الحال عند بعض الناس الذين ينطلقون في البداية من موقع الإصلاح ورسالة تغيير الواقع على أساس الحقّ، ثمّ يكبر موقعهم، وترتفع درجتهم في الحياة الاجتماعيّة والسياسيّة أو غير ذلك، وتتضخَّم شخصيّتهم عند الناس وعند أنفسهم؛ فيتصوّرون أنفسهم أرباباً من دون الله، فيدعون الناس إلى عبادة ذواتهم بدلاً من الله.

إنَّ الأنبياء لا يفعلون ذلك، بل لا يفكّرون في ذلك، لأنّهم المعصومون عن الخطأ والانحراف من خلال المستوى الأربع للإيمان والطهارة والعصمة، ما يجعلهم بشراً يرتفعون بملكاتهم الروحية العملية عن البشر. وهذا ما حدَّثنا الله به في حواره مع عيسى (عليه السلام) ـــ يوم القيامة ـــ حول العقيدة التي حملها بعض النصارى في اعتبار عيسى (عليه السلام) ربّاً، وفي التعبُّد لأمّه مريم (عليها السلام)، كما لو كانت في موقع الألوهية، وذلك في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ*مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المائدة: 116 ـــ 117].

فنحن نلاحظ في هاتين الآيتين، أنَّ عيسى (عليه السلام) يؤكّد أنَّ دعوة الناس إلى عبادة ذاته ليس من حقّه، لأنّه عبد الله الذي هو ربّه وربّهم، وهو لم يفعل ذلك، بل كان منطقه منطق الرسول الذي يدعو الناس إلى عبادة الله بمقتضى أمره له بذلك. وهذا هو التعبير الحيّ عمّا توحي به هذه الآية، فلا يمكن لأيّ نبيّ أن يتحدّث بذلك فيدعو إلى نفسه، بل إنَّ حديثه أن يقول لهم: {وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ} المنتسبين إلى الربّ في انفتاحهم على الإيمان به، وعلى العلم المستمدّ من رسالاته، وعلى الالتلزام به بعبادته وتعاليمه من خلال الوعي للحقّ في كلّ بنيانهم الفكري والروحي، وربّما أُريد من الكلمة أن يكونوا العلماء أو الحكماء أو الفقهاء الذين يربون الناس ويدبّرونهم بما فيه صلاح أمرهم من خلال دعوتهم إلى الأخذ برسالة الله في ثقافتهم وفي عملهم وسلوكهم الخاص والعام {بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ} الذي أنزله الله على رسوله وتبيّنونه للنّاس وتقدّمون لهم حقائقه {وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} أسراره ومفاهيمه من خلال ما يبيِّنه أمر عيسى أنّه عبد الله ورسوله وروح منه وكلمته ألقاها إلى مريم، وأرسله إلى الناس ليبيّن لهم ما اختلفوا فيه من الكتاب الذي أنزله الله على موسى (عليه السلام)، فتفرّق الناس من بني إسرائيل في تفاصيله؛ وليحلّ لهم بعض الذي حرَّم عليهم، وليتحرّك بهم في خطّ التغيير الرساليّ للحياة لتكون على الصورة التي يرضاها الله وليكونوا أنصاره إلى الله في الرحلة الطويلة التي تمثِّل مرحلة من مراحل مسيرة الأنبياء في مدى الحياة. {وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَاباً} معطوف على قوله: {ثُمَّ يَقُولَ} على قراءة النصب، فلا يمكن للنبيّ الذي أرسله الله أن يأمر باتّخاذ الملائكة أرباباً كما نُسب إلى بعض الناس، أو يدعو إلى اتّخاذ النبيّين أرباباً هو الحديث عن أنَّ عُزير هو ابن الله أو أنَّ المسيح هو الله أو ابن الله {أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ} المتمثّل بالدعوة إلى عبادة غير الله {بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ} ممّا تقودكم إليه الفطرة التي تفتح عقولكم وقلوبكم على توحيد الله، فيقف بينكم وبين فطرتكم حاجزاً يُبعدكم عن الإسلام التوحيدي الذين هو دين الله في جميع رسالاته؛ فإنَّ الله لا يبعث من ينحرف بالناس عن فطرتهم التي فطر الناس عليها، بل يبعث من يقوّيها ويدعمها ويحرّك فيها كلّ المفردات التي تجعل الإنسان مستقيماً على درب التوحيد في فكره وعمله.

                           *****

الفكرة في خطّ التربية الإسلامية:

وقد نحتاج إلى استيحاء هذا الأسلوب التربوي في دراستنا وأبحاثنا التي ندرس فيها حياة الأنبياء والأئمّة والأولياء، فنستغرق في الجوانب العملية من حركة الإسلام في حياتهم الشخصية والعامّة، لنبقى في خطّ الارتباط بالشخص من خلال الفكرة والرسالة والعمل، فيزيدنا ذلك ارتباطاً بالخطّ الصحيح، وابتعاداً عن مواطن الخطأ والضلال في الطريق، ولا نستغرق في الأسرار الخفيّة الغامضة التي يُثيرها البعض في حديثه عن هذه الشخصية أو تلك ممّن نعظِّم من شخصيات الأنبياء والأولياء، لأنَّ الاستغراق في الجوانب الضبابية الغامضة التي لا نستطيع فهمها ولا تعقّلها، قد يؤدّي بنا إلى الانحراف في التصوّر أو الوصول إلى درجة الغلوّ.

إنَّ القضية ليست في واقعية هذه الصفات الممنوحة لهذه الشخصية أو تلك أو عدم واقعيّتها، ليتّجه الحديث إلى إثبات ذلك بالروايات الصحيحة أو غير الصحيحة في عمليّة نقاش علمي طويل، بل القضية هي أنَّ ذلك الأمر ليس من ضرورات العقيدة ولا من فروض العمل، فلماذا نكلِّف أنفسنا الجهد والتعب في الدخول في أبحاث ليس لها قيمة عقيدية أو عملية، بل قد تؤدّي ـــ في بعض الحالات ـــ إلى ما يشبه عبادة الشخصية إذا لم تؤدّ إلى الغلوّ المفرط؟ عصمنا الله من الزلل، ووقانا شرّ الانحراف عن الخطّ الإسلامي في العقيدة والعمل.

                           *****

7 ـــ نوح في خطّ الدعوة:

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ*أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ*فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ*قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيَ وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ*وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَلَـكِنِّيَ أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ*وَيَا قَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ*وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللّهُ خَيْراً اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ} [هود: 25 ـــ 31].

                           *****

معاني المفردات:

{أَرَاذِلُنَا}: الرذيل: الخسيس الحقير من كلّ شيء، والجمع أرذل ثمّ يجمع على أرذل.

{الرَّأْيِ}: الرؤية، أي: رؤية العين. والرأي أيضاً: ما يراه الإنسان في الأمر، وجمعه آراء.

{بِطَارِدِ}: الطرد: الإبعاد على جهة الهوان، وتطارد الأقوال: حمل بعضها على بعض.

{تَزْدَرِي}: الازدراء: الاحتقار، افتعال من الزراية. يقال: زريت عليه إذا عبثه وأزرت به إذا قصرت به.

                           *****

 

مع نوح في خطّ الدعوة:

هذه جولة مع رسالة نوح (عليه السلام)، في خطّ الدعوة، وحركة الحوار، ومواجهة التحدّي، حيث يريد الله أن يركّز أمامنا القاعدة التي تلتقي عليها الرسالات، في إطار المسيرة الإنسانية المستوهبة لكلّ تطلُّعات الإنسان في الحياة، ممّا يحتاج إلى التوفيق فيه بين رغباته الذاتية في الجانب المادي والروحي، وبين رسالية الإيمان بالله.

في إطار المسيرة الإنسانية المستوعبة لكلّ تطلُّعات الإنسان في الحياة، ممّا يحتاج إلى التوفيق فيه بين رغباته الذاتية في الجانب المادي والروحي، وبين رسالية الإيمان بالله.

ثمّ في ما يريد الله أن يعرّفنا من طبيعة الذهنية التي كانت تتحكّم بقوم نوح، فتدفعهم إلى الرفض والتمرّد والعصيان، دون الرجوع إلى قاعدة فكرية أصيلة، تناسب حجم الفكرة وما تفرضه من فكر وتأمُّل ومسؤوليّة، ثمّ في موقف نوح الذي يمثّل الأسلوب الوديع، والمواجهة القوية الحاسمة التي لا تقدّم أيّة تنازلات على حساب الرسالة، ولا تتسامح في مسألة دعم المؤمنين مهما كانت الظروف، ثمّ في الوقفة الرسالية التي يقف فيها الرسول أمام العالم بعيداً عن كلّ الوضعيات الاستعراضية، ليواجهه من مواقع إنسانيّته التي لا تبتعد عن الواقع في الوقت نفسه الذي تلتقي فيه الوحي، من خلال النظرة الموضوعية للحياة وللناس.

وتلك هي قصّة نوح، النبيّ، الداعية في إيحائها الدائم الذي يمكن أن يتحرّك في مواقف الدّعاة إلى الله في كلّ زمان ومكان، في ما تلتقي فيه صفة الدعوة بين الأنبياء وبين أتباعهم، وفي ما ينبغي لهم أن يتحرّكوا من خلاله على أساس وضوح القاعدة التي ينطلق منها خطّ الدعوة، وفي الردّ الحاسم الوديع الذي يجب أن يحكم خطّ المواجهة، وفي الحماية القوية التي يشمل بها الداعية كلّ المؤمنين البسطاء الذين يتبعونه في مقابل المستكبرين المترفين الذين ينظرون إليهم باحتقار واستهزاء.

العبادة كلمة جامعة للنهج الرسالي:

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ} ليبلّغهم رسالة الله في كلمات موحية حاسمة، فقال لهم: {إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} لأنذركم المصير الذي ينتظركم في الدنيا، ويواجهكم في الآخرة، نتيجة ما تمارسونه من عبادة الأوثان وما يتبعها من القِيَم المادية المستغرقة في الطين، وفي غرائز اللّحم والدم، بعيداً عن كلّ المعاني الروحية السامية التي ترفع الإنسان إلى الله، فتجعل لحياته معنى يتجاوز صورتها المادية، وتثير فيها روح السموّ، وامتداد القيمة، وانفتاح الإنسانيّة على عمق الروح التي تتجاوز الذّات إلى حياة الآخرين، فالعلاقة بالله ليست مجرّد عبادية ذاتية يرتبط فيها بالله ذاتياً، بل هي حالة روحيّة، تجعل قضية الإيمان شيئاً أساسياً في حركة الحياة، لا مجرّد حالةٍ ذهنيةٍ تجريديّة، وترف فكريٍّ لا علاقة له بالحياة والإنسان على مستوى المصير.

{أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ} لتلتقي لديكم العبادة بالخطّ المستقيم الذي ينبغي لها أن تسير عليه، لأنّ عبادة غيره لا تحمل أيّ معنىً في حساب الحقيقة، وفي ميزان القيمة، لأنّ كلّ من هو غير الله مخلوقٌ له ومحتاجٌ إليه في كلّ شيء، فكيف يعبده من هو مثله في المخلوقية والحاجة؟ وقد تحدّثنا سابقاً، أنّ العبادة تمثّل الكلمة الجامعة للنهج الإلهي الرسالي الذي يتحرّك فيه الإنسان انسجاماً مع إرادة الله، لأنّه يمثّل خطّ السير في كلّ تفريعاته ومداخله ومخارجه، ويلتقي جانب التوحيد فيها، بتوحيد الفكر والشريعة والمنهج، في كلّ أقوال الإنسن وأفعاله على أساس كلمة الله، فلا مجال لغيرها في ما يفكّر فيه، أو في ما يشرّعه، أو ما يتحرّك فيه من منهج، ولهذا اقتصر القرآن في حديثه عن رسالة نوح عليها، في الوقت الذي نعرف فيه أنّ هناك تفاصيل كثيرة، تتعلّق بالقضايا الجزئية التي تحكم حياة الناس في ما يريده الله منهم.

                           *****

لهفة الرسول:

{إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} وفي هذا التعبير بالخوف نستشعر المعنى الإنساني الذي ينطلق به الرسول، ليوحي إلى الناس أنّه ليس إنساناً يفكّر فيهم بطريقةٍ جامدةٍ، ورسميةٍ تتوسّل المفردات القانونية في حساب الجزاء، بل هو إنسان يتحدّث معهم بلغة الإحساس والشعور والعاطفة، عمّا يراه ـــ كمثل الشمس ـــ من مستقبل مؤلم للمتمرّدين وما سيواجهونه من العذاب الأليم في يوم القيامة، إذ يناديهم في ما يشبه اللّهفة الملتاعة، ليرجعوا عن غيّهم وكفرهم لئلا يلاقوا العذاب الشديد. ومن خلال ذلك نفهم ما على الداعية أن يعيشه من تفاعل مع مشاكل الآخرين، ليعتبر الانحراف لديهم مشكلةً ترتبط بإحساسه تجاههم، ليتحسَّسوا العاطفة في كلماته، وتعبيراته، ونظرات عينيه، ونبضات قلبه ووجهه، وذلك هو خطّ سير الأنبياء، ممّا يجب أن تتحرّك البشريّة معه في طريقها الطويل، وتلك هي دعوة نوح للنبيّ (عليه السلام) لقومه، فكيف أجابوه؟

                           *****

الفهم الخاطئ للنبوّة:

{فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا} فكيف يمكن أن تكون نبيّاً، في ما توحي به النبوّة من سرّ الغيب الذي لا بدّ أن يكون الحالم له شخصاً غيبياً كالملائكة، ويعود هذا الفهم الخاطئ للنبوّة لديهم إلى عدم وعيهم لدور النبيّ في حياة الناس، الذي يفرض أن يكون النبيّ من البشر لا من غيرهم، ليتفاعلوا معه من موقع التكوين الذهني والحسّي المشترك.

{وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ} وهذه هي نقطة الضعف التي يعتبرونها أساس امتناعهم عن اتباع نوحٍ، لأنّ النخبة التي تمثّل طليعة المجتمع لم تكن ضمن الجماعة المؤمنة به، فإيمان النخبة به، في ما لو حصل، يشكّل سبباً في انسجامهم معه، واتباعهم لرسالته، وذلك لما للنخبة ـــ في اعتبارهم ـــ من عمق في الفكر، وامتداد في حساب العقل، القوّة، والمستوى الاجتماعي، ولكنّ المحيطين به كانوا من الجماعة المرذولة، التي تمثّل الطبقة السفلى في المجتمع من جهة الذهنية والامتيازات والثروة الاقتصادية، وهم من الفقراء والمساكين، ولم يأتِ إيمان هؤلاء عن تأمُّل أو تفكير، بل جاء انفعالياً سطحياً سريعاً، لرغبة في الحصول على موقعٍ، أو لضعف في الفكر، وهذا ما تمثّله كلمة: {بَادِيَ الرَّأْيِ} أي قبل التأمّل، وهو الرأي الذي يبدو للذهن لأوّل وهلة، كخاطرةٍ سريعةٍ طارئةٍ.

إنّه المفهوم الخاطئ في تقييم الأشخاص باعتبار مستواهم الاجتماعي والاقتصادي أساساً للتقدير، بدلاً من المستوى الروحي والفكري، كما أنَّ هناك انحرافاً في تحديد القاعدة التي يرتكز عليها الإيمان، فإنّ الأساس فيه هو التفكير في طبيعة مضمون الدعوة الموجّهة إلى الناس، للحكم على ما تشتمل عليه من عناصر الخطأ والصواب، لا التطلُّع إلى طبيعة الأشخاص الذين يؤمنون بتلك الدعوة، فالعقيدة لا بدّ أن تخضع للمعاناة الفكرية الذاتية، لا للتقليد والمحاكاة للآخرين.

{وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ} وهذا هو الأمر الثالث الذي يرونه مانعاً من اتّباعه، فهم يرون الإيمان بالرسالة امتيازاً اجتماعياً يقدّمه المؤمنون للداعية، أو للرسول، لتبوّئه مركز القيادة للمجتمع، فلا بدّ من أن يكون له بعض التميّز في المستوى الاجتماعي، لجهة امتلاك الجاه، أو المال، أو القوّة، أو غير ذلك، ليتقبّل الناس الخضوع له من موقع القيمة الطبقية التي يتمتّع بها، بينما لا يمتلك نوح والمؤمنون معه، شيئاً من تلك الفضائل يصلح أساساً لاتّباعهم، {بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} لأنّكم لا تملكون قاعدة "صدق" تتأسَّس على مستوى اجتماعيّ أو موقع ماليّ وغير ذلك، لذلك ليست دعوتكم سوى وسيلة من وسائل الحصول على النفوذ الذي تفقدونه، لا الإيمان الذي تعتقدونه.

                           *****

 

كشف الخطأ:

فماذا كان جواب نوح؟

{قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيَ وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ}، وهو هنا يناقش ما استبعدوه من فكرة النبوّة للبشر، ليؤكّد أنّ مثل هذه الأمور لا تخضع لمثل هذه الطريقة في التفكير، بل تخضع لقيمة الدلائل والبراهين التي يرتكز عليها الرسول، في ما يقدّمه منها. فهو يقول لهم: هذا ما أريد أن أُثيره أمامكم، فإنّي أملك من البيّنات الواضحة على الإيمان برسالتي ما أقتنع به مصدّقاً بأنّي رسولٌ من الله إليكم، فقد أعطاني الله البيّنة على ذلك وأتاني رحمة من عنده بما أفاضه عليَّ من موقع الرسالة، ووضوح الرؤية للأشياء، الأمر الذي يجعلني في موقع القوّة، في ما أؤمن به وأدعو إليه، وما المانع من أن يكون البشر رسولا، ما دامت مسؤولية الرسول لا تمثّل حركةً في الغيب، بل هي حركةٌ في الواقع، خاضعة للخصائص التي يملكها العاملون في ساحته؟! وماذا أفعل لكم إذا كنتم خاضعين للفكرة الخاطئة التي ورثتموها عن آبائكم، فمنعتكم عن التفكير المستقل الأصيل، لما يُطرح عليكم من بيّنات وبراهين؟! {فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ} كنتيجة للجوّ الفكري والنفسي الخانق الذي خضعتم له، فحجب عنكم وضوح الرؤية للأشياء، {أَنُلْزِمُكُمُوهَا} ونفرضها عليكم، إذا لم تفرضوها على أنفسكم من موقع القناعة والإيمان الصادر عن التأمُّل والتفكير، {وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} ممّا يُبعدكم عن الانفتاح على الفكر الذي يقدّم إليكم، بعمق وواقعية وتدبُّر.

{وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً} فلم أطرح عليكم تقديم أيّ امتياز مالي شخصي لي كأجرٍ على الرسالة، لتفسّروا الموقف على أساس الطمع في مكاسب وأرباح يبحث عنها الآخرون في مواقف مماثلة.

{إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ}، فهو الذي حمّلني مسؤولية الرسالة، وهو الذي وعدني الأجر من عنده، في ما أعدّه لرسله ولأوليائه المجاهدين من ثواب عظيم، يدفع الدّعاة العاملين في سبيله إلى التضحية والعطاء بلا مقابل دنيوي، {وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُواْ} استجابة لما تطرحونه من طلب استبعادهم عن ساحة الرسالة في الحياة، كأساس لتفكيركم بالإيمان بها، لأنّي لا أملك أمرهم، كما لا أملك أمر تقييم ما في نفوسهم وصدق إيمانهم من خلال الأُسس التي ترتكزون عليها في الحكم على الأشياء والأشخاص، أو من خلال الاتّهامات التي يثيرونها حول مواقعهم، كما أنّكم لا تملكون موقع الحكم عليهم، {إِنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ} ليواجهوا النتيجة الحاسمة لموقفهم، فهو العالِم بخفايا الناس بما تختزنه من صدق الإيمان، وجديّة المواقف، {وَلَـكِنِّيَ أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ} في طريقتكم في التحدّي، وأسلوبكم في التقييم والحكم على الواقع.

{وَيَا قَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ} فهم عباد الله الذي آمنوا برسالته، وجاهدوا في سبيل ذلك، فاستطاعوا الحصول بجهادهم على محبّة الله ورضاه، كمظهر من مظاهر القرب منه فكيف أطردهم، وهم أحبّاء الله، وأولياؤه، وهل تنصروني من الله، إن أنا طردتهم تحت تأثير إلحاحكم عليّ في ذلك؟ إنّ الله يعاقبني على هذا الموقف، لأنّه لا يرضى من رسله الإساءة إلى عباده المؤمنين، بل يريد لهم أن يقوموا بنصرتهم ورعايتهم وحمايتهم من كلّ عدوٍّ أو حاقد.

{أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ}، وتعرفون مواقع الأمور في مواردها ومصادرها، ونتائجها الإيجابية والسلبيّة.

{وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ} لأدعوكم إلى الإيمان من خلال التأثير النفسي المعنوي أو المادي، الذي يضغط على أفكاركم، لتؤمنوا بي، وعلى مواقفكم لتسيروا معي، {وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ} لأجعل من ذلك أساساً للدخول إلى قناعاتكم من خلال ما يمثّله ذاك العلم من قوّة ذاتية أمام الآخرين، لاتصاله بالعوالم الغيبيّة التي تجعله محيطاً بخفايا الحاضر والمستقبل وبما تضمره النفوس، أو في ما تشتمل عليه قضايا الواقع، فليس من مهمّة الرسول أن يكشف للنّاس الخفايا من خلال النبوءات، بل كلّ مهمّته كشف الواقع من خلال الخطط والأعمال، {وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ} لأجاريكم في اعتقادكم: بفكرة المنافاة بين البشرية والرسالة، وضرورة أن يكون النبيّ ملكاً من الملائكة ليكون أكثر اتّصالاً بالغيب، فيصبح أكثر انسجاماً مع النبوّة التي هي حالةً غيبية، {وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ} من المؤمنين الفقراء والمساكين {لَن يُؤْتِيَهُمُ اللّهُ خَيْراً} لأنّهم لا يملكون موازين القيمة بحيث ينالون عندكم ما تقدّمونه للآخرين من خير على أساسها، {اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ} من الإيمان والصدق والإخلاص لله، وللحياة، والإنسان، والله يعطيهم الامتياز والموقع اللائق بهم، والدرجة التي يستحقّونها على أساس عملهم الصالح، {إِنِّي إِذاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ} إذا فعلت ذلك أكون ظالماً لهؤلاء في الحكم عليهم بغير الحقّ، وفي إذلالهم وإسقاطهم من الموقع الكبير الذي أراد الله لي وللمؤمنين أن أضعهم فيه، في ما يفرضه إيمانهم وعملهم.

                           *****

8 ـــ كيف كان نوح يدعو قومه؟

{إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ*قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ*أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ*يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاء لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ*قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً*فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَاراً*وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً*ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً*ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً*فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً*يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً*وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً*مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً*وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً} [نوح: 1 ـــ 14].

                           *****

معاني المفردات:

{جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ}: كناية عن استنكافهم عن الاستماع إلى دعوته.

{وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ}: أي: غطّوا بها رؤوسهم ووجوههم.. وهو كناية عن التنفُّر وعدم الاستماع.

{جِهَاراً}: النداء بأعلى الصوت.

{أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ}: متقابلان وهما: الإظهار والإخفاء.

{مِّدْرَاراً}: كثير الدرور بالأمطار.

{وَيُمْدِدْكُمْ}: إلحاق المدد، وهو ما يتقوّى به المُمَدّ على حاجته.

{لَا تَرْجُونَ}: الرجاء: هو ما يقع مقابل الخوف، وهو الظنّ بما فيه مسرَّة.

{وَقَاراً}: الوقار: العظمة.

{أَطْوَاراً}: جمع طور، وهو حدُّ الشيء وحاله التي هو عليها.

                           *****

{إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} لأنّهم كانوا مقيمين على الشرك، رافضين لعبادة الله، سائرين على خطّ الأهواء الضالّة التي تدفعهم إلى الانحراف عن التوازن في أوضاعهم العامة والخاصة على مستوى العقيدة والعمل.

وقد يكون الإنذار ناشئاً من تمرّدهم على رسالات سابقةٍ على رسالة نوح في ما تمثّله من قيام الحُجّة عليهم بها، الأمر الذي يجعلهم في موقع العذاب الذي يستحقّه كلّ رافض للرسالات بعد إبلاغه إيّاها، من دون أن يملك أيّة حُجّةٍ على الرفض.

وقد تكون المسألة منطلقةً من الحُجّة العقلية التي تتمثّل بالفطرة في ما توحي به من الإيمان بالله وبتوحيده، ومن الانفتاح على مراقبته في ما تفرضه من مواقع رضاه في السلوك الذي تدفع إليه الفطرة التي هي بمثابة الرسول الباطني.

وقد نستطيع استيحاء وجود حالةٍ دينيّةٍ في الواقع التاريخي السابق على رسالة نوح من قصّة بني آدم اللذَّين {قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ*لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ*إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ} [المائدة: 27 ـــ 29] وهكذا نفهم من ذلك وجود مفهوم دينيّ واضح عن القربان المرفوع إلى الله، وعن التقوى وعن السلوك الأخلاقي الذي يدفع إلى رضى الله، في مقابل السلوك غير الأخلاقي الذي يدفع إلى سخطه وإلى دخول النار. ولا بدّ من أن يكون هذا المفهوم ممتدّاً في مستقبل الناس بعد ذلك، في ما يمثّله الوجدان الديني من حالةٍ عامة في المجتمع آنذاك، ما يجعل من الصعب زوالها واندثارها. وبذلك يمكن أن يكون هذا الوجدان قد تنامى بفعل إرسال الرسل الذين لم يقصص الله علينا تاريخعم، مع ملاحظةٍ مهمّةٍ، وهي أنّ الله لا بدّ من أن يقيم الحُجّة على عباده، بإرسال الرسول قبل أن يعذّبهم، وذلك ما جاءت به الآية الكريمة في قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15] وربّما نستوحي وجود رسلٍ غير نوح من قوله تعالى: {وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ} [الفرقان: 37] فإنّ الجمع يفرض ذلك. وقد ورد الحديث عن أبي جعفر الصادق (عليه السلام) في ما رواه صاحب كتاب إكمال الدين وإتمام النعمة قال: "كان بين آدم ونوح عشرة آباء كلّهم أنبياء".

وربّما كان الإنذار بالعذاب باعتبار ما يأتي بعد إرسال نوح إليهم وإبلاغهم رسالة الله ليؤمنوا بها، لأنّهم سيواجهون العذاب عند الانحراف عنها.

أمّا اختصاص رسالته بقومه، فقد يكون بلحاظ أنّهم القاعدة الأولى التي تتحرّك في داخلها الرسالة، كما ورد التعبير بذلك عن كثير من الأنبياء أُولي العزم الذين قيل إنَّ رسالتهم تتعدّى محيطهم.

                           *****

النذير المبين:

{قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} في ما أرادني الله أن أُحذّركم من عقابه الذي ينزل على الجاحدين بربوبيّته وتوحيده، المنحرفين عن عبادته، وذلك من خلال الحُجّة الواضحة التي لا غموض فيها ولا ضعف في دليلها، {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ} في ما تمثّله العبادة من الخضوع لله في كلّ شيء، بحيث تكون الحياة كلّها في وجودكم العملي خاضعة له، منقادةً لإرادته، {وَاتَّقُوهُ} في ما تمثّله التقوى من الحالة العقلية التي تراقب الله كحقيقةٍ تفرض نفسها على الجانب العقلي للإنسان، ليكون ذلك أساساً للمراقبة المسؤولة التي تقود إلى السلوك المسؤول، وفي ما تثيره من الحالة الشعورية التي تزحف إلى وجدان الإنسان وشعوره، فتهزّ الإحساس بالخوف الشعوري من الله ومن عقابه، حتّى يتحوّل ذلك إلى موقفٍ للطاعة في حركة الإنسان في الالتزام العملي.

{وَأَطِيعُونِ} باعتبار أنّه الرسول القائد الذي يقود خطاهم إلى الخطّ المستقيم، في ما يمكن أن يبلّغه من الأوامر والنواهي التي أراد الله له أن يبلّغهم إيّاها، وفي ما يمكن أن يحرِّك أوضاعهم التفصيلية في مجال التطبيق للنظرية في تفصيلات الحياة وجزئيّاتها، وفي ما تتحرّك به القيادة من تدريب الناس على طريقة احتواء النظرية العامة في الحياة الواقعية، {يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ} التي بدأتموها بالكفر، وحرّكتموها في أوضاع التمرّد والجريمة في سلوككم العملي المنحرف عن الخطّ الصحيح. فإنّ الإيمان السائر على خطّ العمل يهيّئ للغفران الإلهي الذي يناله المؤمنون بالله العاملون في خطّ طاعته، فلا يبقى للماضي الأسود أيّ تأثير على مصيرهم المستقبلي في رحمة الله، {وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} فلا يستأصلكم بعذابه، بل يمهلكم إلى الأجل الطبيعي الموعود المحدَّد لكم في وجودكم الخاص، { إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاء لَا يُؤَخَّرُ} فهو الذي حدَّده في عملية تحديد جزئيات الوجود.

ويمكن أن يكون المراد بالأجل يوم القيامة الذي سوف يأتي بحتميّته في وقته الحاسم الذي لا مجال لتخلّفه وتأخّره، { لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} بالحقائق النهائية الحاسمة التي لا يمكن أن تنحرف عن دائرتها الواقعة في حركة الوجود المنطلق من إرادة الله.

                           *****

النبي نوح يقدّم تقريره النهائي إلى الله:

{قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً} فلم تشغلني أوضاع النهار ومشاغله عن الدعوة إليك، كما لم يبعدني اللّيل في راحته الاسترخائية التي تدفع إلى النوم عن ذلك، لأنّني أعتبر مسألة الرسالة مسألةً حيويةً تفرض على الرسول أن يتابع إبلاغها وتحريكها في حياة الناس، لحظةً بلحظةٍ، من خلال مراقبته للأوضاع التي يعيشونها في نقاط ضعفهم وقوّتهم، ليستفيد من أيّة حالةٍ عميقةٍ أو طارئةٍ، في سبيل الوصول إلى قناعات الناس الفكرية والروحية التي تتغيّر وتتبدّل، تبعاً لما يحيط بهم من أوضاع، ولما تحفل به حياتهم من متغيّرات، لأنّ الإنسان قد يقتنع في الصباح على أساس بعض الأوضاع النفسية أو بعض الأحداث الطارئة بما لا يتأثّر به في المساء، باعتبار اختلاف الأوضاع والأحداث، ما يجعل الرسول أو الداعية في حالة ملاحقةٍ دائمةٍ ورصدٍ دقيقٍ لحركة الناس اليومية، فلعلّ ذلك الإصرار على التبليغ في مدار الساعة يحقّق شيئاً من التقدّم في قناعاتهم. ولكنّ قوم نوح كانوا بعيدين عن ذلك، لأنّهم قرَّروا الرفض الحاسم للرسالة وللرسول، فأغلقوا آذانهم عن السماع، وعقولهم عن التفكير، وألسنتهم عن الحوار. وهذا ما عبَّر عنه نوح في تقريره الرسالي إلى ربّه: {فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَاراً} من الحقيقة الدامغة التي تفرض نفسها عليهم، وتنفذ إلى عقولهم، وتنساب في مشاعرهم، وتطبق على وجودهم، فيفرّون منها كما لو كان هناك خطرٌ كبيرٌ يتهدّدهم ليخرجهم من واقعهم الذي اعتادوا عليه، ويُربك عاداتهم وتقاليدهم التي ورثوها من أجدادهم، ولذلك فإنَّ الرسول الماثل أمامهم يمثّل الرمز لهذا الخطر، فيفرّون منه وهو الضعيف بينهم في نظرهم، كما لو كان يريد الإطباق عليهم لافتراسهم.

{وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ} بدعوتهم للسير في خطّ الهدى بالتزام الإيمان بالله { جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} خوفاً من أن تنفذ كلمات الرسالة إلى أسماعهم، فتمتدّ في عقولهم، وتأخذ عليهم قناعاتهم، فيتصوّرونها كما لو كانت مطارق صاخبة تثير الضجيج الشديد في آذانهم، فيغلقون آذانهم عنها {وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ} فغطّوا وجوههم بثيابهم ليتفادوا رؤية الرسول الذي يجسّد لهم الخطر القادم من الرسالة ضدّ الواقع الذي يحرسونه بكلّ وجودهم، {وَأَصَرُّوا} على الكفر والضلال، {وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً} في ما توحيه إليهم أوضاعهم المالية والاجتماعية من الكبرياء التي تجعلهم يستعلون على مَنْ حولهم من الناس الضعفاء الذين لا يملكون مالاً ولا موقعاً اجتماعياً متقدّماً بين الناس، فيقودهم الاستكبار إلى  رفض الأفكار الرسالية التي توحّد بين الناس وتساوي بينهم في إنسانيّتهم، وتلغي الفروق الطبقية فيما بينهم، لاسيّما إذا كان الذين يحملون هذه الرسالة من المستضعفين الذين هم أدنى الناس في الطبقة الاجتماعية، أو كان رسولهم من بين هذه الجماعة. وهكذا نرى أنّ القرآن يتحدّث عن الكافرين في كفرهم ليوحي بأنّ الاستكبار لِما يمثّل من عقدةٍ ذاتيةٍ لدى المستكبرين هو المسؤول في كثيرٍ من الحالات عن كفر الكافرين، لأنّ الحالة النفسية قد تترك تأثيراتها الضاغطة على واقع الناس الفكري والعملي، باعتبار أنّ الإنسان يخضع في نشاطاته الداخلية والخارجية للعوامل النفسية المعقّدة.

{ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً} بالصوت العالي المسموع الذي ينفذ إلى  أسماعهم بقوّة، {ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ} بالطريقة العلنية التي تملك الوضوح في الحياة العامة بحيث لا تخفى على أحدٍ {وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً} بالطريقة السريّة التي كانت تتمّ بالتشاور والتناجي مع جماعةٍ معيّنين في دائرةٍ اجتماعيةٍ ضيّقةٍ من هؤلاء الذين يملكون التأثير على الناس التابعين لهم، أو من الذين يخافون إعلان مواقفهم في ما كانوا يريدونه أو يدّعونه من مواقف، فيطلبون أن يكون اللّقاء سرّياً حتى لا يفتضح أمرهم عندما يريدون اتّباع الرسالة والعمل على تأييدها، لئلا يكون لأحد حجّةٌ في الامتناع عن الإيمان على أساس ظروفه الخاصة التي قد تلتقي بالحاجة إلى الإعلان تارّة، وإلى الإسرار أخرى.

{فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً} فهو الإله الغفّار الذي يمنح عباده الفرصة للرجوع إليه، ويدعوهم إلى الاستجابة له، ليرجعوا إلى الحقّ الذي يكفل لهم رحمة الله ومغفرته ورضوانه، لأنّ القضية ليست قضية كلمةٍ تقال، بل هي قضية موقفٍ ثابتٍ حاسم، والمقصود بالذنب الذي يدعوهم إلى الاستغفار منه، هو الكفر أو الشرك وما يتفرَّع عنهما على صعيد الأعمال التي تبتعد عن مواقع رضى الله.

{يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً} أي ينزل عليكم المطر الغزير من السحاب المرتفع في الفضاء الأعلى، {وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ} لأنّه مصدر الرزق كلّه، ومصدر الخلق كلّه، {وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ} في ما تمتدّ بها الخضرة الحافلة بألوان الزرع من فاكهةٍ وثمارٍ وعشبٍ ونحو ذلك، {وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً} تجري في الأرض من الينابيع التي أودعها الله في أعماقها، أو من الثلوج التي جعلها الله في أعالي الجبال، فتبدع الخصب والرخاء، وتحيي الأرض بعد موتها.

                           *****

 

العلاقة بين الإيمان وإنزال هذه النِعَم!

ولعلَّ هذا الربط بين الإيمان الذي يعبّر عنه الاستغفار، وبين إنزال الله هذه النِّعَم التي تمثّل حاجاتهم الحيوية العامة، ناشىءٌ من أنَّ الإيمان الخالص يجعل الناس موضع رحمة الله في ما ينزله عليهم من ألطافه وفيوضاته، ممّا قد يزيد من حجمها وامتدادها. كما أنّ الانحراف عن الله قد يجعل القضية في دائرة البلاء الذي قد يقلِّل من نِعَم الله، ويؤدّي إلى فساد الواقع في حياة الإنسان، وبذلك فإنّ نوحاً (عليه السلام) ربّما كان يريد أن يثير في نفوس قومه قيمة العلاقة بالله من موقع الإيمان به في حياة الناس العامّة على مستوى النِّعَم التي يحتاجونها. وربّما كان الأساس في ذلك هو الإيحاء لهؤلاء الناس الكافرين بأنّ الله هو وحده المهيمن على الكون كلّه في ما يشتمل عليه من الظواهر المتّصلة بالحياة الإنسانية، ليرتبطوا به من موقع النعمة، كما يرتبطون به من موقع القدرة والعظمة، وقد أشار القرآن الكريم إلى الجانب الإيجابي في هذا المجال بقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} [الأعراف: 96] وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ*وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ} [المائدة: 65 ـــ 66] وقوله تعالى: {أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ*وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} [هود: 2 ـــ 3].

أمّا في الجانب السلبي، فقد جاء في قوله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41] وقوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} [الشورى: 30].

                           *****

في خلقكم أطواراً سرّ عظمة القدرة الإلهية:

{مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} أي لا تأملون له توقيراً، أي تعظيماً، وقد يبدو أنّ الرجاء هنا واردٌ على سبيل الكناية، باعتبار لما يمثّله الرجاء من محبّة الشيء المرجوّ، والالتزام به، في ما يمثّله من مواقع الالتزام. وبذلك يكون المقصود ـــ والله العالِم ـــ ما لكم لا تلتزمون مواقع العظمة لله في ما تفرضه من توقير لمقامه بالإيمان بالله والالتزام بأوامره ونواهيه.

{وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً} أي خلق كلَّ واحدٍ منكم تاراتٍ متنوّعةٍ، وذلك في ما تعبّر عنه الأطوار الجنينيّة من النطفة إلى العلقة إلى المضغة إلى الهيكل العظمي إلى الخلق الكامل، أو في ما تعبّر عنه مراحل النموّ الإنساني من الطفولة إلى الشباب، إلى الشيخوخة.

وربّما يكون المراد تعدُّد الأطوار بتعدّد الأشخاص والجماعات في اختلاف ألوانهم وألسنتهم وأوضاعهم الجسدية المتنوّعة.

ولا بدّ لهذا التنوّع العجيب في خلق الإنسان من دلالاتٍ وجدانيةٍ فكريةٍ على سرّ العظمة في القدرة الإلهية التي تخلق ما تخلق من دون مِثال، وتُبدع الألوان والأوضاع والأحجام المختلفة من نطفةٍ مماثلةٍ لا تختلف أشكالها ولا طبيعتها ولا أحجامها، فكيف انطلق التعدُّد من الوحدة؟

                           *****

9 ـــ النبيّ نوح يعتمد أسلوب السخرية المضادّة:

{وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ*وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ*وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ*فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} [هود: 36 ـــ 39].

                           *****

معاني المفردات:

{تَبْتَئِسْ}: الابتئاس: حزن في استكانة، وهو افتعال البؤس.

{وَاصْنَعِ}: الصنع: جعل الشيء موجوداً بعد أن كان معدوماً.

{الْفُلْكَ}: هي السفينة، مفردها وجمعها واحد.

{بِأَعْيُنِنَا}: الأعين: جمع قلّة للعين، وإنّما جمع للدلالة على كثرة المراقبة وشدّتها.

{سَخِرُواْ}: السخرية: إظهار خلاف الإبطال على وجه يفهم منه استضعاف العقل، ومنه التسخير: التذليل. ويكون استضعافاً بالعقل.

                           *****

تحكي هذه الآيات انتهاء مهمّة نوح في الدعوة، فقد استنفذ كلّ التجارب والأساليب، فلم يؤمن له إلاّ نفر من قومه، أمّا الباقون فقد ازدادوا تمرّداً وطغياناً، فلم ينفع ترغيب معهم أو ترهيب، بحيث لم يبق أمل في هدايتهم وإيمانهم، وجاء دور العذاب. ولكنّ الله أراد أن يعلن ذلك لنوحٍ بأسلوب ينعش روحيّته ولا يشعر معه بالهزيمة، أو بالتقصير، لقيامه بمهمّته كنبيّ خير قيام، وصبره على ما لا يملك عليه أحد صبراً خلال مسيرة دعوته التي امتدّت طويلاً، امتداد عمره، دون تأفّف أو ضجر، ولم يسقط أمام كلّ تحدّيات الكفّار.

{وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} من كفر وعصيان لأنّك قد أقمت عليهم الحُجّة بمختلف الوسائل، ويسّرت لهم كلّ سبل الهداية فامتنعوا عن السير فيها، وبذلك فإنّهم يتحمّلون مسؤولية أفعالهم كلّها، فلا تتعقّد من جهتك الشخصية، لأنّك لم تقصر، ولا من جهتهم فهم لا يستحقّون الرحمة، التي رفضوا إسباغها عليهم في ظلّ الالتزام بدين الله، ولا تلتفت إلى كلّ هذا التاريخ الشاقّ المليء بالجهد والمعاناة، فقد أدّيت رسالتك، وقمت بمهمّتك خير قيام، ولم يبقَ عليك إلاّ أن تساهم في الإعداد لمرحلة العذاب، استجابة لطلب الله في نطاق قدرتك.

                           *****

نوح يصنع الفلك:

{وَاصْنَعِ الْفُلْكَ} أي السفينة {بِأَعْيُنِنَا} أي برعايتنا، باعتبار أنّ عمله كان بنظر الله بحيث لا يستطيع أن يمنعه أحدٌ من ذلك {وَوَحْيِنَا} في ما أمره الله، وفي ما علّمه من طريقة الصنع، ومهّد له من تبيان وسائله، {وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ} بالعفو عنهم، انطلاقاً من طهارة مشاعرك وطيبة قلبك، فقد صدر الحكم عليهم من الله، وانتهى أمرهم بذلك، لأنّهم لا يستحقّون الرحمة من الله بعد أن رفضوا رحمته في رسالته وفي شريعته، فحقّ عليهم العذاب، {إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ} بطريقة عجيبة معجزة لا يتصوّرها أحد منهم، ولا تخطر لهم على بال.

                           *****

إن تسخروا منّا فإنّنا نسخر منكم:

{وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ} ويستمرّ في صناعته بجدٍّ واجتهاد في الليل والنهار، ولكن عمله ذاك كان محلّ استغراب، لأنّ المنطقة التي يعيش فيها كانت فلاة لا وجود للماء فيها، أو في المواقع القريبة منها، بما يوحي أنّ عمله ذاك كان حالةً من العبث، أو مظهراً لغياب العقل، لذا كان موضع سخرية قومه: {وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ} بما يحملونه من عقد خبيثة ضدّه، تجعلهم يعملون على تدمير شخصيّته، وعلى إذلاله، بما يحمله حكمهم على الأشياء من سطحية وتسرّع لا ينفذ إلى أعماق الأمور، فلو فكّروا بطريقة موضوعية، لنظروا إلى تاريخ حياته الذي يكشف لهم عن قوّة فكره، وسلامة نظره، ولسألوه عن سرّ عمله الغامض في الظاهر، باعتباره صادراً عن شخص يملك العقل الكامل، والذهنية المتوازنة ليتمكّنوا بعد استجماع كلّ عناصر الموضوع الحكم، ولكنّهم ينظلقون من موقع الرغبة في تحطيمه، لا من موقع الرغبة في الفهم الصحيح للأمور.

ولكنّ الله أراد لنوح أن يردّ الأسلوب بمثله، لأنّ الفكر إنّما يكون لمن يحترمون الفكر، والحوار ينشأ مع مَن يريدون الحوار، أمّا من يريدون التحطيم والتدمير، عن قصد وتصميم شرّير فلا بدّ من مواجهتهم بأسلوبهم، لأنّ ذلك ما تقتضيه الحكمة في مواجهة الموقف بما يتطابق مع مقتضى الحال، وهكذا أراد الله له أن يقول، في ما ألهمه من وحي الحكمة: {قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ}، فذلك هو ردّ الفعل على الموقف، ولكنّه يختلف في دوافعه عمّا انطلقتم فيه، فإذا كانت سخريتكم ناشئةً عن عقدة، أو عن جهل لطبيعة العمل الذي أقوم به، فإنّنا نسخر منكم من موقع اطّلاعنا على النهاية السيّئة التي ستنتهون إليها، {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} من دون أن تشعروا، أو تفكّروا، أو تواجهوا ذلك بجديّة ومسؤوليّة، فإنّ من يرقص في مأتمه، أو يعبث بما يمثّل قضية المصير عنده ادعى للسخرية ممّا تسخرون منه، لأنّ مقدار البعث فيه أشدّ من العبث الذي تتصوّرونه في صنع السفينة، التي ستكتشفون أنّ صناعتها أمر جدّي كلّ الجديّة لا مجال فيه لأيّ عبث، أو جهل، أو ما يشبه ذلك.

                           *****

 

 

المواجهة بالفكر ليست دائماً ناجحة:

وهذا هو الأسلوب الذي نستوحيه، في مقام الدعوة إلى الله، عندما يعترضنا الكافرون بأسلوب السخرية، لتمييع الجوّ المحيط بالدعوة، وتعريضه للضحك والعبث بهدف إسقاط الدعوة، لا سيّما إذا وقف الداعية للدفاع عن الفكر بأسلوب جدّي، واستخدم في ذلك أدلّة علميّة، فإنّ الجوّ الضاحك العابث يحوّل ذلك إلى مادّة جديدة للسخرية ليحطِّموا وقار العلم الذي يمثّله الفكر بأدوات الجهل، ممّا يجعل من الموقف الجادّ موقفاً خاسراً على أكثر من صعيد. ولذلك فإنّ الموقف الحكيم هو مواجهة هؤلاء بأساليبهم، سخريةً بسخرية، واستهزاءً باستهزاءٍ، لإحداث صدمة قويّة عند المستهزئين تُسقط موقفهم، وتهزم أساليبهم، فيتراجعون أو ينهزمون، في حين يقف الداعية موقف المنتصر المتماسك، الذي لم يسمح للعبث أن يحطّم موقع الجدّ من فكره، ولم يدع للضعف أن يقترب من شخصيته، لينعكس ذلك على موقع الرسالة الثابتة في ساحة الحقّ.

                           *****

10 ـــ تجربة نوح ودرس التمسُّك بالأمل:

{مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَاراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَنصَاراً*وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً*إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً*رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَاراً} [نوح: 25 ـــ 28].

                           *****

 

 

معاني المفردات:

{دَيَّاراً}: الديّار: نازل الدار.

{فَاجِراً}: الفجور: الفسق الشنيع.

{كَفَّاراً}: الكَفَّار: المبالغ في الكفر.

{تَبَاراً}: التَّبَار: الهلاك.

                           *****

{مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا} أي أنّهم أُغرقوا من خلال إصرارهم على الامتداد في طريق الخطيئة التي تحوّلت إلى طوفان أحاط بهم من جميع جوانبهم، فهلكوا ووقفوا بين يديّ الله للحساب ليواجهوا كلّ تاريخهم الكافر المتمرّد على الله.

{فَأُدْخِلُوا نَاراً} أعدَّها الله للكافرين المعاندين، {فَلَمْ يَجِدُوا لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَنصَاراً} يخلّصونهم من عذاب الله، في ذلك اليوم الذي {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الإنفطار : 19]. وقد ذُكِرَت هذه الجملة عن طريق الاعتراض، في داخل تقرير نوح الذي لم يُستكمل بعد، لمناسبتها للدعاء السابق عليها بالهلاك والدمار لهؤلاء القوم، ثمّ تابعت السورة حكاية التقرير الرسالي الذي رفعه نوح إلى ربّه.

                           *****

ربّ لا تذر من الكافرين ديّارا:

{وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً} أي شخصاً حيّاً يعيش في داره ليتحرّك فيها في ساحة الحياة، فلا بدّ من إهلاك كلّ الجيل القديم الذي تربّى على الكفر وأصرّ عليه واستغرق فيه، حتى أصبح الكفر جزءاً من ذاته، لينشأ جيلٌ جديدٌ على الإيمان وتقوى الله من أجل أن يبني الحياة بناءً قائماً على الحقّ والخير والعدل.

ولم ينطلق نوح في هذا الدعاء المدمّر من عقدةٍ نفسية مستحكمةٍ في داخله، كما يفعل البعض من الناس عندما يواجهون التحدّي والتمرّد والعناد من الآخرين الذين يرتبطون بهم من خلال الدعوة، أو من خلال أشياء أخرى، بل انطلق من خلال دراسةٍ طويلةٍ شاملةٍ عميقةٍ، استنفذ فيها كلّ التجارب، فلم يعد هناك أيّ أملٍ في هدايتهم، بل أصبحت المسألة مسألة الخطر الذي يمثّله وجود هؤلاء على الأجيال القادمة من أولادهم، {إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً} بما يملكونه من وسائل الضغط من خلال امتيازاتهم القائمة على الكثرة العدديّة، والقوّة المالية، ما يجعل الناس مشدودين إليهم من موقع الحاجة والخوف، فيخضعون لهم في انتماءاتهم لأنّهم هم الذين يتولّون مهمّة تنشئة أولادهم على الكفر والفجور، ويمنعون غيرهم من العمل على إرشادهم إلى الطريق المستقيم. وقيل: إنّ الرجل من قوم نوح كان ينطلق بابنه إليه، ويقول له: احذر هذا ـــ مشيراً إلى نوح ـــ فإنّه كذّاب، وإنَّ أبي أوصاني بمثل هذه الوصية، فيموت الكبير وينشأ على ذلك الصغير.

ويختم نوح تقريره بالابتهال إلى الله والانقطاع إليه في طلب المغفرة منه لنفسه في ما يمكن أن يكون قد قصَّر فيه من تبليغ الرسالة، ولوالديه وللمؤمنين معه، في ما توحي به كلمة المغفرة من الرضى والرحمة واللّطف الإلهي الكبير.

{رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً} من المجتمع الكافر الذي استطاع هؤلاء أن يتمرّدوا على قِيَمِهِ وضغوطه فآمنوا من موقع القناعة العميقة.

{وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} الذين عانوا الكثير في خطّ الرسالة، وثبتوا على الإيمان بالرغم من كلّ الضغوط العائلة والإغراءات الكثيرة. {وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَاراً} أي هلاكاً. وينتهي التقرير الرساليّ، ويسود الصمت في تاريخ نوح والمؤمنين معه بعد نهاية الطوفان ممّا لا يعلم سرّه إلاَّ الله.

                           *****

كيف نستوحي الآيات؟

وتبقى للدّعاة إلى الله، العاملين في سبيله، مسألة العبرة التي تفتح قلوبهم على مواقع الثبات على الحقّ، وآفاق الحركة في ساحات الصراع والامتداد في التجربة إلى أبعد مدى، حتى لا يبقى هناك أيّ مجال لتجربةٍ جديدةٍ ولأمل أخضر. فلا موقع لليأس في طريق العاملين المخلصين، لأنّ مسألة الأمل ليست شيئاً يأخذونه من زوايا الواقع المحدود الذي يحاصرهم في حدوده وحواجزه، بل هي شيء يستمدّونه من إيمانهم بالله الذي يجعل للمتّقين المخرج حيث لا مخرج، وللمحرومين الرزق من حيث لا يحتسبون، وللمجاهدين النصر من حيث لا ينتظرون.

هذا بالإضافة إلى أنّ مسألة الدعوة ليست حالةً ذاتيةً مزاجيةً لتخضع للنوازع النفسية والطوارئ العابرة، بل هي حالةً رساليةٌ متّصلةٌ بالله، في ما يستهدفه الإنسان من خلالها من رضى الله، فلا مشكلة لديه إذا كان الله راضياً عنه، حتّى في أشدّ ساعات الشدّة، فهو الغاية في كلّ عمل، والهدف الكبير في كلّ شيء.

                           *****

 

 

11 ـــ روحية النبيّ هود في الدعوة:

{وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ*قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ*قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ*أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ*أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَاذكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُواْ آلاء اللّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ*قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ*قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤكُم مَّا نَزَّلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ*فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 65 ـــ 72].

                           *****

معاني المفردات:

{سَفَاهَةٌ}: خفة الحلم، قال مؤرج: السفاهة: الجنون بلغة حمير(1).

{بَسْطَةً}: طولاً وقوّة.

{آلاء}: نِعَم.

{وَنَذَرَ}: نترك وندع.

{رِجْسٌ}: عذاب، وقيل الرجس: الرجز.

{دَابِرَ}: عقب، نسل، ذرية.

                           *****

هذه قصّة نبيٍّ أرسله الله إلى قومه ـــ بعد نوح ـــ وهو هودٌ الذي أرسل إلى قوم عاد، ونستوحي من آياتٍ أخرى، أنّ قوم عاد كانوا من العمالقة الذين يملكون أجساداً قويّةً تمكّنهم من اقتلاع الصخور الثقيلة من الجبال العالية إلى الوديان السحيقة، ومن حمل الأثقال بشكلٍ يفوق العادة. وربّما كان لهذه القوّة غير العادية تأثيرٌ على الشعور الذاتيّ بالشخصية المستكبرة المتعالية. {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً} أي من عائلتهم. {قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ}. إنّها الدعوة نفسها التي أطلقها نوح، فهي امتداد للخطّ الرسالي الذي يعتبر توحيد الإله في العقيدة والعبادة أساس الفلاح النجاح.

وقد نضيف إلى ما أسلفنا الحديث عنه، من التعليق على الدعوة إلى العبادة لا إلى الإيمان، أنّ هؤلاء القوم ربّما كانوا من المؤمنين بالله، ولكنّهم كانوا يشركون بعبادته غيره؛ فكانت الرسالة هي هدايتهم لتوحيد العبادة. ونلاحظ أنّ هوداً لم يتحدّث عن العذاب في مقام الدعوة، بل تحدّث عن التقوى في إلحاحٍ إنكاريّ لابتعادعم عنها. وقد يكون ذلك أسلوباً يستهدف التخويف بطريقةٍ أخرى، وذلك من خلال الإيحاء بالقوّة المطلقة لله الذي لا إله غيره، ممّا يدفع الإنسان إلى الشعور بالرهبة أمامه خوفاً من عقابه، ويدفعه إلى الالتزام بأوامره ونواهيه.

                           *****

العقل في مواجهة الانفعال الطائش: 

{قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ}، لأنّك لا تتكلّم كلام الراشدين الذين يزنون كلامهم بميزان العقل، ويتصرّفون بالطريقة التي لا يسيئون بها إلى أنفسهم وإلى من حولهم، فأنت تواجه عقيدة الناس التي درج عليها الآباء، وتتمرّد على تقاليدهم، وتثير الجوّ الهادئ، بأفكار غريبةٍ تحوّل هدوءهم إلى عنف، وتصيب علاقاتهم الوثيقة بالتصدُّع والتمزُّق، وذلك ما توحي به كلمة "السفاهة" عندما يرمي بها إنسان إنساناً.

وربّما يسمع الكثيرون من دعاة التغيير في كلّ مجتمع مثل هذه الكلمة، إذا كان هؤلاء الأشخاص لا يمثّلون وزناً اجتماعياً كبيراً في حياة الناس. {وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ}. لم يقولوا له إنّك من الكاذبين، لأنّهم لا يملكون أساساً في الجزم بكذبه، أو لأنّهم يريدون تخفيف التهمة ليصوّروا أنفسهم بصورة من لا يريد إلقاء الكلام جزافاً، بل يعملون على إعطاء القضية دور المسألة الأكثر رجحاناً. ويبقى الأسلوب أسلوب اللاّمناقشة في أصل الفكرة، ولا تفكير في الموضوع، بل هو الكلام الانفعاليّ الذي ينفّس عن العقدة بدل أن يواجهها بهدوء.

{قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ}، لأنّ للسفاهة مقاييس وعلامات تخضع للاهتزاز في الفكرة أو في الشخصية، فماذا وجدتم في أفكاري من ضعفٍ، وماذا اكتشفتم في شخصيّتي من اهتزاز؟ هل ناقشتم طريقتي في الدعوة، ومنهجي في الفكر، وأسلوبي في العمل؟ وهل درستم هذه الطروحات التي أطرحها عليكم في آفاق الإيمان؟ إنّكم لم تفعلوا ذلك كلّه، فكيف تحكمون بغير علم؟! لقد قالها هذا النبي بكلّ روحٍ هادئةٍ عقلانيةٍ، توحي بأنّنا إذا كنّا نتحرّك في أجواء الدعوة إلى الله، فإنَّ علينا أن نواجه أسلوب السباب والاتهام اللامسؤول، بالأسلوب الهادئ الذي يعمل على إثارة التفكير في عقول هؤلاء الشاتمين والمتّهمين، فإنّ ذلك قد يتحوّل إلى صدمةٍ عقلانيةٍ تقودهم إلى الموضوعية في حكمتهم على الأشياء والأشخاص.

دور الرسول النصح لأُمّته دوماً:

وهذا ما يحاوله الدّعاة إلى الله، الأدلّاء على سبيله، الذين لا يشعرون بأنّهم يتحرّكون من مواقعٍ ذاتية في مواجهة ردور الفعل السلبية القاسية، بل يتحرّكون من موقعٍ رساليٍّ ينتظر تحطيم مقاومة هؤلاء الضالّين، بالإصرار على الموقف الهادئ الكفيل بدفع الضالّين إلى احترام الفكرة الهادئة التي يطرحها الرسل من خلال احترامهم للعقل الهادئ الذي يوحي به الموقف الرسالي الواعي، الذي تمثّل في موقف هود كنموذج حيٍّ راشد، عندما قال: {لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ*أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} وذلك هو دور الرسول في رسالته، أن يكون ناصحاً لأُمّته في حاضرها ومستقبلها، أميناً على الحقيقة التي تفتح قلوب الناس على الله، وعلى الحياة الكريمة من خلاله، وعلى الرسالة التي يحملها بصدق، ويبلّغها بوعيٍ وإيمان وقوّة، وذلك هو دور كلّ داعيةٍ إلى الله في حركته الرسالية في حياة الناس، أن يعيش معهم بروحيّة الإنسان الذي ينصح لله في خلقه، ويكون أميناً على كلّ أوضاعهم العامة والخاصة على كلّ صعيد، وأن يجسِّد ذلك كلّه في أقواله وأفعاله.

{أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ} فما وجه العجب في ذلك؟ هل هناك ما يمنع أن يكون الرسول بشراً؟ {وَاذكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} فأورثكم الله أرضهم وديارهم. {وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً} بما وهبكم من طول القامة، وقوّة الجسد والعضلات. {فَاذْكُرُواْ آلاء اللّهِ} ونعماءه وعظمته {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} من خلال هذه الذكرى التي تفتح قلوبكم على الله، وتوحي لكم بكلّ خيرٍ ورحمة وإيمانٍ. إنّه يستثير فيهم العناصر الطيّبة الأصيلة التي يمكن أن تجعل منهم أُناساً طيّبين، تنفتح أفكارهم للمعرفة، وتنبض قلوبهم بالرحمة، وتعيش حياتهم للمسؤولية، وتتحرّك خطواتهم في اتجاه الله.

                           *****

منطق التوحيد في مواجهة منطق الشرك:

{قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا}؟ ما معنى هذه الدعوة التي جئتنا بها؟! إنّ معناها أن نتنكّر لقدسية تاريخ الإباء، في ما يعتقدون ويمارسون من طقوس وعادات. وتلك قضية تهدّم البناء الاجتماعي للعشيرة القائم على أساس حرمة التاريخ. فلا بدّ من عبادة هذه الأصنام لتقرِّبنا إلى الله زلفى، ولتجعل من حياتنا امتداداً لحياة الأجداد، وهذا ما يجعل المسألة لا تحتاج إلى بحثٍ أو مناقشة أو تعديل. فإذا كنت مصرّاً على دعوتك الهدّامة {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} فلن نتبعك في شيء ممّا تقوله أو تدعو إليه، فليس بيننا وبينك إلاّ المواجهة في ساحة الصراع. {قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ} الرجس هو الخبث والقذر؛ وربّما كان هذا كنايةً عمّا يوقعه الله عليهم من العذاب المتمثّل بما يلقيه عليهم من مظاهر العقاب الدنيويّ، الذي يؤثّر سلبياً على نفس الإنسان، تماماً كما هو القذر الذي يصيب الجسد. أمَّا الغضب، فهو سخط الله المستتبع لعذاب النار، فقد حقَّ عليكم القول بعد أن أقام الله عليكم الحُجّة، وتمرّدتم عليها. {أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤكُم}؟ ماذا تمثّل هذه الأصنام غير ما تمثّله الأشياء التي صنعتموها منها، من الحجر والخشب والنحاس؟ ماذا لديها من معاني الحياة والعلم والقدرة والخلق التي لا بدّ من توفّرها في ذات الإله؟ ليس لها أيّة ميزةٍ إلهية أو غير إلهية، سوى أنّكم أطلقتم عليها أو أطلق عليها آباؤكم أسماءً، وتحوّلت الأسماء إلى حقائق نفسيةٍ وعباديةٍ واجتماعيةٍ، يجادل فيها المجادلون ويتخاصم فيها المتخاصمون، فإذا أردتم الجدال المنتج، فجادلوا بالأشياء التي تحمل معنى حقيقياً في ذاتها وتأثيرها في الواقع، لا في هذه الأشياء التي صنعتموها بأيديكم ومنحتموها صفة الألوهية التي {مَّا نَزَّلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ} من عقلٍ أو شرعٍ، فهي لا تمثّل أيّة حقيقةٍ مقبولةٍ في أي مجالٍ.

                           *****

نجاة المؤمنين وهلاك الكافرين:

{فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ} فليست مسألة العذاب الذي أنذرتكم به، ممّا أملك أمر تنفيذه، لأواجه التحدّي الذي طرحتموه عليّ، لأنّني لا أملك قوّةً ذاتيةً في حجم القضايا الكونيّة، في ما ينزل من عذابٍ على الكافرين ممّا يخرج عن القوانين العادية للحياة، فذلك ممّا اختصّ به الله، فهو القادر على أن يرسل عذابه، بالقدرة نفسها التي يرسل بها رحمته. وما دام الله قد توعّدكم بالعذاب، فانتظروا عذابه الذي سيأتيكم، إن عاجلاً أو آجلاً؛ إنّي منتظر ذلك معكم، لأنّ لي الثقة المطلقة برسالات ربّي في وعده ووعيده. وجاء العذاب لهؤلاء المتمرّدين، فأهلكهم الله وأبادهم فلم يبق منهم أحد. أمّا هود والذين معه، فقد أنجاهم الله برحمته، لأنّهم كانوا في مستوى المسؤولية في إيمانهم بالله، وطاعتهم له، وصمودهم أمام كلّ التحدّيات في سبيل الله. وذلك هو قوله تعالى: {فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِينَ} فلا مجال لأن تنالهم رحمة الله، لأنّهم لم يتعلّقوا من رحمته بشيء ممّا أراد لهم من موقف الإيمان.

                           *****

12 ـــ درس من تجربة النبيّ هود:

{وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَنَجَّيْنَاهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ*وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ وَاتَّبَعُواْ أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ*وَأُتْبِعُواْ فِي هَـذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ عَاداً كَفَرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْداً لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ} [هود: 58 ـــ 60].

                            *****

معاني المفردات:

{لَعْنَةً}: أي أنّهم فعلوا ما يستوجب اللّعن دنيا وآخرة. ومعنى اللّعن البعد عن كلّ خير.

                           *****

{وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا} في ما يرحم الله به عباده المؤمنين، ممّا يحيطهم به من ألطافه، ويرعاهم به من حنانه وعطفه {وَنَجَّيْنَاهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} ممّا أنزله الله على قومه من الكافرين.

                           *****

لا عذر للضعفاء في الاستسلام لواقعهم:

{وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ وَاتَّبَعُواْ أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} وتلك هي قصّة العذاب الذي ينزله الله بعباده نتيجة لأسباب تستدعيه، فإنّ الله يعذّب الجاحدين بآياته، العاصين رسله بعد إقامة الحُجّة عليهم بما لا يدع لهم مجالاً لريب أو لشبهة، المستسلمين للجبابرة الطغاة المعاندين للحقّ، في ما يأمرونهم به من الكفر والضلال، فإذا وقفوا بين أمر الله، وأمر هؤلاء، تركوا أمر الله، واتّبعوا أمرهم، وهم يعلمون، بوحي فطرتهم، أنّ ما يدعوهم إليه الله هو الحقّ، وأنّ ما يدعو إليه هؤلاء هو الباطل، ولكنّهم يضعفون أمامهم، وتتساقط مواقفهم بسقوط إرادته، والله ـــ سبحانه ـــ لا يرى للضعفاء عذراً في الاستسلام لحالة الضعف أمام الأقوياء، إذا استطاعوا أن يأخذوا بأسباب القوّة، ولو بالانتقال إلى موقعٍ آخر يمكّنهم من ذلك.

وفي هذه الفقرة إيحاءٌ بأن الغالب في ضلال الشعوب المستضعفة، هو سيطرة القوى المستكبرة التي تقودها إلى ذلك، كظاهرة من الظواهر الاجتماعية لتفاوت موقع القوّة والضعف بين الناس على أكثر من مستوى في بعض المجتمعات.

{وَأُتْبِعُواْ فِي هَـذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً} في ما تمثّله اللّعنة من البعد عن ساحة رحمة الله، بما أنزل الله بهم من العذاب، ليبقى ذلك إعلاناً عن الطابع العام الذي يغلب على تلك المرحلة من التاريخ، ودرساً لكلّ من يسير في هذا الاتجاه. {أَلاَ بُعْداً لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ} ليظلّ هود الوجه الرسالي المشرق الذي تلتقي في شخصيّته الروح الرسالية المنفتحة على الواقع بكلّ سعة الصدر ومرونة الصبر، والإرادة القويّة التي تواجه التحدّيات بصلابة دون أن تتنازل أو تتراجع أمام تهاويل المخاوف التي تثار حولها، والحكمة العميقة الواعية التي تواجه بها الذهنيات البدائية لهؤلاء الناس الذين يملكون قوّة الجسد دون قوّة الفكر، لعملهم على تنمية أجسادهم دون تنمية أفكارهم. لذلك استخدم هود أساليب بسيطة في الدعوة، حيث تطرح الفكرة ببساطة لا تحوجهم إلى بذل الجهد في فهم الدعوة. وكانت الأساليب العملية في الحركة التي ترقّ عند الحاجة إلى اللّين، وتعنف عند الحاجة إلى العنف، دون أي تأثير على موقف عاد الكافر المتمرّد الذي لا يخضع لتفاهم الحوار، ولا لتفهُّم الفكر، بل كلّ ما عنده هو المزيد من الجهل والغرور والكبرياء والتقليد.

13 ـــ الأسلوب النموذجي للنبيّ إبراهيم في الدعوة:

{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً*إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً*يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً*يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً*يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً*قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً*قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً*وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيّاً*فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلّاً جَعَلْنَا نَبِيّاً*وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً} [مريم: 41 ـــ 50].

                           *****

 

 

معاني المفردات:

{صِدِّيقاً}: الصدّيق: صيغة مبالغة من الصدق، أي: كثير التصديق بالحقّ.

{صِرَاطاً سَوِيّاً}: طريقاً مستقيماً معتدلاً.

{عَصِيّاً}: عاصياً.

{مَلِيّاً}: دهراً طويلاً.

{حَفِيّاً}: برّاً لطيفاً.

{شَقِيّاً}: خائباً في مسعاه.

{لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً}: أي: ثناء حسناً، وذكراً مرتفعاً.

                           *****

إنّنا أمام حوار مثير يديره إبراهيم مع أبيه، أو عمّه الذي تبنّاه، وقد كان كافراً، كقومه، فقد رأى أنّ من أولى مهمّاته في الدعوة إلى الله، أن يبدأ بدعوة أبيه، لأنّ بقاءه على الكفر يترك نقطة ضعف في موقفه، وقد يخلق له مصاعب داخلية تعطّل بعض خطواته، أو تجلب له مشاكل غير منتظرة.

وقد واجه الحوار صعوبة في البداية، لأنّه حوار الابن مع أبيه، في مجتمع يعطي للأبوّة قيمةً كبيرةً إلى درجة التقديس الذي يلزم الأبناء الخضوع المطلق لآبائهم، ولهذا استخدم إبراهيم أسلوباً حذراً، فلم يلجأ إلى أي عنصر من عناصر الإثارة التي تتناول الذات بالتجريح والتبكيت، بل حاول، على العكس من ذلك، أن يشحن أسلوبه في الحوار، بالعاطفة إلى درجة تجعل من يقرأه يتصوَّر أنّه في حالةٍ من حالات التوسُّل إلى أبيه تماماً كما هي حالة من يخاطب إنساناً عزيزاً معرَّضاً للسقوط أو للهلاك، ففيها يتحدّث الإنسان عادة بكلّ هلع ومحبّة، لإنقاذ من يودّه بأيّ طريق. وبذلك نجد في الحوار الذي تمثّله الآيات المتقدّمة، بساطة الفكرة ووضوحها، في إطار الجو الحميم الذي يسود الموقف.

فنحن نلاحظ، في أسلوب إبراهيم، أنّه حاول تبرير دعوته لأبيه بأنّه قد جاءه من العلم ما لم يأته، ولذا، فلا مانع هناك من وجهةٍ اجتماعيةٍ أن يدعو الابن أباه، مع حفظ مقام الأبوّة، كما عبّر عن شعوره العاطفي تجاه ضلال أبيه، وخوفه من أن يمسَّه عذاب الله.

وقد جاء ردّ أبيه، من موقع من يشعر بسلطة الأبوّة التي تضغط على الابن ليسير على خطى أبيه، وتهدّده بالقوّة والطرد والهجران، إن خالف ذلك، فلا حوار ولا كلام بين الابن وأبيه، إنّما هو الأمر والطاعة، فللأب أن يعلن رغبته قبل أمره، وللابن أن ينفّذ دون تردُّد أو تفكير.

إنّها شريعة المجتمع، آنذاك، التي تجعل من علاقة الأبناء بآبائهم علاقة تشبه علاقة العبودية التي يعيشها العبيد أمام المالكين.

ولم يتراجع إبراهيم عن إثارة الجوّ العاطفي في إعلان موقفه الرسالي من أبيه بعد أن رفض دعوته، وقد استطاع فيه أن يوفّق بين الرسالة والعاطفة، فجعل العاطفة طريقاً إلى رسالته، وشعوراً بالمسؤولية تجاه أبيه، محوّلاً الموقف إلى موقف إنقاذ، فكان ردّ فعله أن توجّه إلى أبيه بالسلام، ووعد أن يدعو له بالمغفرة، وبأن يوفّقه الله تعالى لأسبابها من الهداية إلى الإيمان؛ وأعلن له ولقومه، باعتبار أنّ أباه يمثّل فريق الكفر، بأنّه سيعتزلهم وما يعبدون من دون الله، بعد أن قام بواجبه تجاههم.

وقد كان هذا الوعد من إبراهيم لأبيه بالاستغفار ناشئاً عن أمله في أن يتراجع أبوه عن موقفه ويعود إلى الله، وليس ناشئاً على الإطلاق من إحساسه بأنّ القرابة تمثّل امتيازاً يميِّز أباه عن غيره، ولذا أعلن البراءة من ه بعد أن يئس من إيمانه، وظهرت عداوته له.

وإنّنا في هذا المجال، نستطيع الاستفادة من هذا الأسلوب في المواقف التي نحتاج فيها إلى دعوة الأشخاص الذين تربطنا فيهم بعض الروابط العاطفية من نسب أو غيره، لنتعلّم من إبراهيم (عليه السلام)، كيف نشحن الحوار بالمشاعر التي تسهّل المهمّة، بما تثيره لديهم من مشاعر تسهل انسجامهم مع الأجواء الحميمة للحوار دون أن يخلق ذلك انجرافاً مع العاطفة لمصلحة الكفر والضلال، لأنّ الأسلوب العاطفي في هذه الحال لا ينبع من حالة نفسية عفوية، بل يرتكز على تخطيط يعتبر العاطفة جزءاً من الخطّة العامة تخضع لما تخضع له تلك الخطّة من مرونة ووعي وثبات.

وعلى ضوء هذا، نجد أنّ من واجبنا إعطاء الأسلوب بعض القوّة في حالات أخرى، إذا ما عمل من ندعوهم على استغلال أسلوب العاطفي لأغراض في غير صالح الدعوة إلى الله، تماماً كما كان عليه الأسلوب الآخر لإبراهيم، في ما أشرنا إليه، ليظلّ الأسلوب، في كلتا الحالتين، منسجماً مع خطّ الحكمة الذي يريد الله للدعوة في سبيله أن تسير عليه.

وقد نشعر، في نهاية هذا العرض، بالحاجة إلى الاستفادة من الأجواء الروحية في بعض حالات الحوار، بين أسلوبٍ يربط المتحاورين بفضل الله ونعمه، وبين أسلوب ينقل الموقف إلى ابتهال خاشعٍ يمارسه الداعية للتأثير النفسي على الآخرين عندما يشغلهم عمّا هم عليه، بروعة المناجاة، وخشوع الابتهال.

هذه بعض الأفكار العامة حول هذه الآيات، ولا بدّ لنا من الدخول في التفاصيل التفسيرية لمفرداتها.

                           *****

 

 

إبراهيم (عليه السلام) يباشر الدعوة إلى الله:

{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً} قد يكون من الضروري للنبيّ، أو للداعية بشكلٍ عام، أن يستحضر في وعيه ملامح الشخصيات الرسالية التي تمثّل النموذج الأكمل لحركة الإنسان الرسالي في الدعوة، ليدرس أساليبها، ويستسلهم روحيّتها، وينتفع بتجربتها. ومن أبرز هؤلاء إبراهيم ـــ النبيّ ـــ وهو النبيّ الصدّيق الذي كانت حياته صدقاً كلّها، مع نفسه ومع ربّه ومع الناس من حوله، فلم يجامل أحداً في الحقّ، ولم يهادن قريباً أو بعيداً في مستلزمات الرسالة، ولم يترك في حياته فراغاً لغيرها، بل كانت الرسالة بكلّ فكره وهمّه، وكلّ حياته. فقد كانت تجربته غنيّةً بالتنوّع الذي يحكم جوانبها، كما كانت روحيّته، في علاقته بالله وفي إخلاصه للرسالة، في المستوى الأعلى من روحية الأنبياء والصدّيقين، وقد يكون من بين تجاربه الرائعة التي تعكس عمقه الروحي تجربته مع أبيه.

{إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً} فقد رأى أباه يعبد الأصنام التي يعبدها قومه، وهو بذلك خاضع كغيره، لعادة السير على خطى الآباء والأجداد، وتقليدهم في السلوك. والسبب غياب الوعي الفكري، الذي يكفل عدم صدور أي عمل عن الإنسان إلاّ بعد دراسة طبيعته وخلفيّاته ونتائجه، ومدى انسجامه مع الجانب الخيّر من الحياة مع موقع الحقّ في الفكر. وتبقى للعادة حرمتها وقداستها ويعمل الجميع على تبريرها بأن يفرضوا لها أسراراً عميقة غامضة في قدراتها الذاتية في الخير والشرّ.

وهكذا أراد إبراهيم أن يثير التساؤل في تفكير أبيه، وذلك بأن يطرح عليه الجانب اللامعقول في هذه العبادة بطريقةٍ بسيطةٍ لا تكلِّف الإنسان بذل أيّ جهد في التفكير من أجل اكتشاف انحرافها عقيدياً. فحاول أن يهزّ جمود الموقف عنده، بطريقة الصدمة وأسلوب الإثارة، فهاجم هذه المقدّسات الصنميّة بعنف. فكيف يمكن له وهو العاقل الواعي الكبير في سنّه، أن يعبد هذه الحجارة التي لا تسمعه ـــ إذا خاطبها الإنسان بحاجة أو سؤال أو خضوعٍ وابتهال ـــ، ولا تبصره إذا وقف أمامها في وقفة عبادة، لأنّها لا تملك أيّ حسّ يوحي بالتأثّر والانفعال في ما يقوم به الآخرون تجاهها؟! فكيف يمكن أن تكون آلهة، وإحساسها غائب غياباً كليّاً عن الإنسان والكون والحياة؟ ثمّ ما الذي تملكه من قوّة وقدرةٍ على التأثير بما حولها ومن حولها؟ إنّها اللاشيء في عالم المعقول، أو في عالم الحركة، فكيف تستجيب لدعوات الناس الذين يعبدونها، وكيف تدفع عنهم الضرر أو تجلب لهم النفع، أو ترفع ضغط الواق عنهم؟ وما فائدة عبادتهم لها، وما قيمتها على مستوى الوجود كي تعبد؟

إنّها اللّافائدة، واللّامعقول، واللّاإحساس بأي شيء في الحياة.

                           *****

إبراهيم (عليه السلام) يعظ أباه:

{يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ} فقد عشت تجربة الفكر التي أعطتني المعرفة التأمّلية، وقد عشت تجربة الواقع، فمنحتني الثقافة العملية، وقد ألهمني الله من وحيه الكثير من تفاصيل العقيدة والشريعة، والمنهج العملي في الحياة، واستطعت من خلال ذلك كلّه أن أحصل على المعرفة الواسعة التي تتيح لي هداية الناس ودعوتهم إلى الله. والمسألة هنا ليست مسألة أبٍ أو ابنٍ، بل هي مسألة جاهلٍ وعالمٍ. وليست قصّة عمرٍ كبيرٍ، أو عمرٍ صغير، لأنّ أهمية العمر هي في ما يختزن من تجربة، لا في ما يستهلك من لحظات زمنية. فإذا كان العمر خالياً من تجربة الفكر وتجربة الواقع، فإنّه لا يمثّل امتداداً في قيمة الزمن في حساب العلم. وهكذا فقد جاءني من العلم ما لم يأتك {فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً} يقودك إلى الإيمان بالله والعمل بما يرضيه، والانفتاح على الآفاقت الحلوة في الحياة، والوصول إلى جنّته ورضوانه، وذلك هو سبيل السعادة في الدنيا والآخرة.

{يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ} في ما تمثّله العبادة من الطاعة له بما يوسوس للإنسان من وساوس الشّر، وما يزيّنه له من أفعال الجريمة، ومن الابتعاد عن الله وعن خطّه المستقيم، إلى غير ذلك ممّا يجلب لك الشقاء في الدنيا والآخرة، فابتعد عنه، واقترب من ساحة الله، في خطّ عبادته {إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً} فقد عصى الله في البداية، عندما أمره بالسجود لآدم، وما زال مقيماً على معصيته، وداعياً الآخرين إليها ليقودهم إلى عذاب السعير.

{يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن} بسبب طاعتك للشيطان وعصيانك لله، {فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً} يتولّى أمرك لأنّك تتولّى مواقفه ومواقعه، ومن كان الشيطان مولاه فإنّه سائر إلى الهلاك، ومن كان الرحمن مولاه فإنّه سائر إلى الخير والنجاح والفلاح.

{قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ} كيف تتجرأ على الانفصال عن خطّ أبيك فتتركه، وتترك مقدّساته، وترغب عن آلهته؟ وما هذا اللّغو الذي تتحدّث به، وكيف تجرؤ على أن تتّخذ لنفسك صفة الواعظ المرشد الموجّه لأبيك؟ متى كان الصغار يعلّمون الكبار، أو يناقشونهم في أقوالهم أو أفعالهم؟ هل تريد أن أناقشك في كلامك، أو أستمع إليك؟ أصحيحي أنّك تفكّر بهذه الطريقة؟ ردّي الوحيد عليك هو أنّك {لَئِن لَّمْ تَنتَهِ} عن هذا السلوك، وعن هذا الكلام {لَأَرْجُمَنَّكَ} وهذا يعني تهديده بالقتل رمياً بالحجارة، {وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً} وابتعد عنّي وقتاً طويلاً فلا أراك ولا تراني، لأنّي بريء منك، براءتي من عقيدتك وسلوكك.

وهكذا رأينا أنّ أبا إبراهيم لجأ إلى أسلوب الكافرين التقليدي نفسه الذي لا يجد الكافر فيه ما يقوله دفاعاً عن موقفه، لأنّ عقيدته لا تنطلق من موقع فكر وقناعة، فيلجأ عندئذٍ إلى التهديد والوعيد، ليغطّي بذلك ضعفه أمام الكلمة الواعية المسؤولة. {قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ} فلن أستخدم الأسلوب الذي استخدمته معي، ولن أهدّدك كما هدّدتني، فإذا كنت قد أعلنت الحرب عليَّ، فإنّي أردّ عليك بالسلام الذي يعيشه المؤمن تجاه الآخرين، فيعفو عنهم ويصفح إذا أساؤوا إليه، وأجرموا في حقّه، ليدفع السيّئة بالحسنة، ويفسح لهم المجال للتراجع عن موقفهم السيّئ، ولو بعد حين.

{سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} فلعلّه يستجيب لي فيفتح قلبك على الإيمان، ويهديك سواء السبيل، فإن لم أستطع أن أصل إلى هدايتك بطريقتي الخاصة، فإنّي أطمع أن تهتدي بلطف الله وعنايته، فسأدعوه وأبتهل إليه {إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً} فلا بدّ أن يسمع دعائي، وهو الذي يعرف صلاح الأمر كلّه، ولا أزال أطمع في أن تكون لك فرصة للخير في حياتك.

{وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} لأنّ دعوتي إلى الخير منطلقةً من الله، أمّا دعوتكم فهي إلى الشّر القادم من الشيطان، ولن يلتقي الباحثون عن الخير بالباحثين عن الشّر في نقطة من الطريق، لأنّ طريق كلّ منهما يختلف عن الآخر، كما أنّ مجتمع كلّ منهما يختلف عن مجتمع الآخر. ولذلك فإنّي سأبتعد عنكم، كما تريدون، وكما يفرض عليّ الموقف والموقع، {وَأَدْعُو رَبِّي} وأرجع إليه، وأرجو رحمته ورضاه، {عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيّاً} لأنّه يشمل عباده برحمته، فيستجيب لهم إذا دعوه، ويلبّيهم إذا نادوه، ويقبل عليهم إذا ناجوه، لأنّه الربّ الرحيم الذي سبقت رحمته غضبه، فلا يحجب رحمته عن السائرين إليه، الراجين رضاه.

{فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} وأعطى من نفسه المثل الحيّ والنموذج الأكمل الذي يرفض كلّ مشاعر القرابة في مقابل مواقف الإيمان، لأنّ علاقته بالله تعلو فوق كلّ علاقة، كما أنّ رضا الله يسبق رضا كلّ من يتّصل بهم من الناس. وهكذا ابتعد عنهم واعتزلهم، فلمّا أكّد الإخلاص في الموقف، {وَكُلّاً جَعَلْنَا نَبِيّاً} وجعلنا النبوّة في ذريّته، وامتدّت الرسالة في حياتهم، وارتفعت درجاتهم في مواقعها ومواقفها، لأنّهم أخلصوا لله، {وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً} في ما يعبّر ذلك من الثناء الجميل والذكر الحسن، جزاء لهم على إيمانهم، وجهادهم وإخلاصهم لله؛ وهكذا يكون جزاء العاملين في سبيل الله الداعين إليه، المنفتحين على رسالته ورضاه.

                           *****

 

14 ـــ النبيّ إبراهيم يتحدّى الطاغوت:

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 258].

                           *****

معاني المفردات:

{أَلَمْ تَرَ إِلَى}: الهمزة للاستفهام التعجّبي، ألم ينته عملك ورؤيتك.

{حَآجَّ}: غالب خصمه بالحُجّة، والمحاجّة، أن يطلب كلّ واحد أن يردّ الآخر عن حجّته ومحجّته.

{أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ}: لأن آتاه، فهي واردة مورد التعليل، لأنّ إيتاء الملك أبطره.

{فَبُهِتَ}: دهِشَ وتحيَّرَ وانقطع، فالبُهت الحيرة عند استيلاء الحُجّة.

                           *****

لقد واجه إبراهيم ـــ النبيّ في حياته طاغيةً من أكثر الطغاة تمرّداً، حيث بلغ به الطغيان حدّاً خُيِّل إليه معه أنّه الإله الذي يجب على الناس أن يعبدوه من دون الله، ولم يحدّثنا القرآن عن اسمه، ولكن تاريخ القصص الديني للأنبياء يعطيه اسم النمرود، ولا يهّمنا ذلك في قليل أو كثير، لأنّ القيمة تتمثّل بالنماذج الحيّة في ما تمثّل من مواقف حاسمة وتجارب رائدة.

وقد وقف إبراهيم معه، في قصّة الحوارن موقفاً حاسماً قوياً، حاول أن يثير فيه قضية الألوهة وارتباطها بالقدرة المطلقة التي لا يملكها هذا الطاغية، فطرح فكرة الحياة والموت، وأنّ الله ـــ ربّ إبراهيم ـــ هو الذي يحيي ويميت، ووجد هذا الطاغية الفرصة لاستغلال سذاجة أتباعه البسطاء في أسلوب التمويه الذي يعتمد التلاعب بالألفاظ، فأجاب إبراهيم، بأنّه يحيي ويميت، لأنّه يستطيع أن يبقي المحكوم عليه بالموت فيهبه الحياة، وأن يعدمه فيقضي عليه بالموت، فيكون مالكاً لأمر الحياة والموت. وإذاً، فهو يملك صفة الإله الذي يحيي ويميت، فيحق له أن يكون إلهاً.

ولم يترك إبراهيم له الفرصة الذهبية التي يأخذ بها زهو طغيانه وتمرّده، فتحدّاه بالظواهر الكونية الثابتة التي خلقها الله في الكون، وطلب منه تغييرها إذا كان إلهاً حقّاً، وقدّم له عرضاً بالشمس التي خلقها الله لتشرق من جهة المشرق، وطلب منه أن يحوّل طلوعها إلى جهة المغرب، {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} ولم يملك جواباً لهذه الحُجّة المفاجئة، {وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} لأنّ طبيعة الانحراف عن خطّ الله الذي هو خطّ العدل والسير مع خطّ الظلم الذي هو خطّ الكفر، يبعد الإنسان عن الرؤية الواضحة الصحيحة للأشياء، فيتخبَّط في الضلال على غير هدى، ويتركه الله لضلاله، بعد أن كان قد أقام عليه الحُجّة فلم يهتد بها ولم يخضع لها في ما يريد الله له من هداية وخضوعٍ.

ويلاحظ في قوله تعالى: {أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ} الواردة في موارد التعليل لما قاله هذا الطاغية لإبراهيم، أنّ السبب في هذه الدعوى وفي هذا الطغيان هو رؤيته لنفسه في موقع الملك الذي أعطاه الله إيّاه في ما يعطيه الله لعباده من الفرص التي يختبرهم ويبتليهم بها في الحياة، وذلك من خلال الأسباب الطبيعيّة المودعة في الكون لحدوث الأشياء وفنائها. وقد تعاظم هذا الشعور في نفسه من خلال مظاهر القوّة التي يُحدثها الملك وينمّيها، فتملأ نفس الإنسان بالزهو والإحساس بالعظمة، لا سيّما فيما إذا رأى الآخرين يتصاغرون أمامه من موقع إحساسهم بالضعف والانسحاق بالمستوى الذي يتحوّل خضوعهم له إلى عبادة، تماماً كما هي عبادة العبيد للرب، فيخيّل لنفسه أنّه في هذا المستوى، وتبدأ التصوّرات الذاتية تتجمّع في كيانه، فتغشي عينيه وتسدّ نوافذه الوعي المنفتح عن قلبه، فيتحوّل إلى نصف إله في بعض الأحيان، ويتحوّل إلى ما يشبه الإله في أكثر الحالات لدى ذاته ونفسه، ثمّ يتطوّر الأمر به إلى أن يدعو الآخرين إلى الاعتراف بذلك من مواقع الإقرار والإيمان، بعد أن كان الأمر لديهم مجرّد ممارسة لا ترتقي إلى درجة الاعتراف.

وربّما كان في هذا الإيحاء بعض التوجيه للإنسان بخطورة المواقع المتقدّمة التي يحصل عليها في الدنيا، من ملك أو جاه أو مال، على نظرته إلى نفسه وموقفه منها، فقد تنحرف به هذه النظرة إلى أن يخرج بها عن حدود التوازن، فتصل به إلى حدود الطغيان، ما يدفعه إلى مراقبة نفسه دائماً لتقف عند حدودها في ما يريد الله منها أن تقف عنده.

                           *****

ما نستوحيه من الحوار:

أمّا فائدتنا من هذا الحوار، فهي مواجهة الكثيرين ممّن يحاولون أن يموِّهوا على البسطاء من الناس، باللّجوء إلى الأساليب الساذجة التي يخدعونهم بها، سواءٌ في ذلك ما يتعلّق بشؤون العقيدة وما يتّصل بأمور الحياة، فنعمل على أن نستلهم أسلوب إبراهيم ـــ النبيّ ـــ في الانتقال إلى التحدّيات الواضحة التي لا تخفى ولا تنطلي ـــ بالنتيجة ـــ على أحد، ممّا يعطّل خطّة التمويه والتضليل.

ولا بدّ لنا ـــ في سبيل الوصول إلى ذلك ـــ أوّلاً: من النفاذ إلى واقع الأساليب المضلّلة التي يخضع لها البسطاء من الناس، والأساليب الصارخة التي تملك قوّة التحدّي، من دون أن يستطيع الآخرون ردّها أو مقاومتها ـــ على الأقل ـــ، وهذا ما يفرض على العاملين أن يقوموا به من أجل أن يلاحقوا الواقع وأساليبه التي تحكمه وتوجّه خطواته، بكلّ وعي ودقّةٍ وشمول وانفتاح.

ثانياً: القيام بالتوعية الثقافية للناس البسطاء من جهة التأكيد على الواقع الموضوعي للأشخاص الذين يملكون بعض مواقع القوّة كالسلطة والمال والجاه ونحوها، ليواجه الناس نقاط ضعفه إلى جانب نقاط قوّته، وليتوازنوا في تقدير الجوانب الإيجابية في شخصيّته من خلال المقارنة بالجوانب السلبية فيها، حتّى لا تتضخّم ذاته في وجدانهم، بحيث يرتفعون بها إلى الدرجة التي لا تستحقّها، كما لا ينتفخ ـــ هو ـــ عند نفسه في نظرته إلى موقعه إذا اندفع الناس نحوه من خلال هالة التقديس والتعظيم، لأنّ السبب في الكثير ممّا ينطلق به الواقع البشري من ظواهر الشخصيات التي تؤلّه نفسها أو يؤلّهها الناس، هو فقدان التوازن في نظرة الناس إلى هؤلاء الأشخاص، وفي نظرتهم إلى أنفسهم. وفي ضوء ذلك، لا بدّ من الابتعاد عن أساليب التزلّف والمبالغة والاندفاع العشوائي في قضايا المدح والتعظيم في الواقع الاجتماعي والسياسي العام.

إنّنا نريد التنبيه على هذه النقطة من خلال ظاهرة النمرود الذي حاجّ إبراهيم في ربّه في نظرته إلى نفسه من موقع الربوبية للناس، فإنّ ذلك لم يكن إلاّ من جهة الإخلال بتوازنه في نفسه وتوازن الناس معه، فلولا ذلك لما كان هناك مجال للمسألة، لأنّه سوف يتحوّل ـــ في نظر الناس وفي نظر نفسه، إلى شخص عاديّ، كسائر الناس الذين يملكون بعض الصفات الإنسانية الإيجابية والسلبية.

                           *****

15 ـــ إبراهيم وإسماعيل يعملان على تأسيس الروح المؤمنة:

{وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ*وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ*وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ*رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ*رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} [البقرة: 125 ـــ 129].

قصّة أخرى من القصص القرآني تتّصل بالتاريخ الديني في قصّة النبوّات من جهة، وترتبط بعلاقة الإسلام بالامتداد الرحب لشخصية إبراهيم في تطلّعاتها المستقبلية من جهةٍ أخرى، وتلك هي قصّة بناء البيت ـــ الكعبة الحرام ـــ الذي أراد الله مرجعاً للناس يرجعون إليه ويثوبون، كقاعدة روحية يعيشون فيها الشعور بالوحدة الروحية التي تربط بعضهم ببعض بين يديّ الله، ويطوفون به في إحساس عميق بعبوديّتهم لله، وفي استيحاء الفكرة الإيمانية المتحرّكة، حيث يستلهمون منه أن يكون طوافهم في الحياة حول كلمات الله وتعاليمه ومفاهيمه، ويشعرون في ظلاله بالأمن الذي أراده الله طابعاً مميّزاً لهذا البيت في ما أوحىبه إلى الأنبياء في شرائعهم؛ من حرمة الاعتداء على الناس والإساءة إليهم حتّى في الحالات المشروعة في ذاتها. فقد ورد في بعض الأحاديث عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، أنّ الحدّ لا يُقام على الجاني في مكّة إلاّ إذا كانت جنايته في مكّة بالذّات. وكأنَّ الله أراد أن يجعل من هذا البيت قاعدة سلام يجتمع إليها الناس من دون إحساسٍ بالخوف وبالمشاعر المضادّة التي تمنعهم من اللّقاء. ثمّ أراد الله أن يكرِّم جهد نبيّته إبراهيم في بناء البيت وفي إخلاصه العميق له، فطلب من الناس أن يتّخذوا من مقام إبراهيم موضعاً للصلاة، تخليداً لإيمانه وتحيّةً لإخلاصه لله في سرّه وعلانيّته، ولاستجابته لله في ما يريده منه. هذا من جهة، ومن جهةٍ أخرى ليعيش الناس في أجواء إبراهيم كقدوةٍ في كلّ المعاني الروحية الكبيرة، فتمتزج صلاتهم بصلاته، ودعواتهم بدعواته وابتهالاتهم بابتهالاته في تفاعل روحيّ عظيم.

ثمّ عهد إليه وإلى ولده إسماعيل، أن يجعلا هذا البيت طاهراً من كلّ دنس، سواء كان ذلك من مظاهر الشرك والوثنية، أو من عناصر القذارة والنجاسة، أو من الأشخاص الذين يدخلون فيه من حيث نظافتهم من القذارات المادية والمعنوية، ليعيش الناس الذين يطوفون به، أو يقيمون فيه للاعتكاف، أو يصلّون فيه فيركعون ويسجدون، في أجواء روحية طاهرة مادية ومعنوية.

وربّما استفاد الإنسان من الأمر بتطهير بيت الله من كلّ رجس، أن يكون البناء على هذا الأساس، وذلك بتشييده على هذه الصفة، لا بتطهيره بعد بنائه، كما قد يتوهَّم، لأنَّ ظاهر الآيات هو أنَّ إبراهيم وإسماعيل هما اللّذان قاما ببناء البيت.

                           *****

إبراهيم في تطلُّعاته المستقبليّة:

ويثير القرآن أمامنا تطلُّعات إبراهيم المستقبليّة؛ فهو لا يريد لعمله هذا أن يظلّ في نطاق هذا البناء المتمثّل بالكعبة، بل يريد له أن يتحوّل إلى بلدٍ واسعٍ كقاعدة بشريّةٍ للسلام، ولهذا نجده يدعو الله أن يجعله بلداً آمناً يجتمع فيه المؤمنون بالله حول هذا البيت، فيلتقون على طاعة الله وعبادته، وتمتدّ بهم الحياة في مجتمعٍ إنساني آمن؛ ويفكّر فيهم كيف يعيشون في هذا الجوّ الذي لا يُنبتُ الزرع ولا يقدّم للإنسان أيّ شرط من شروط الحياة الكريمة، فيلجأ إلى الله لكي يرزق أهله من المؤمنين الثمرات، أمّا الكافرون فلم يلتفت إليهم ولم يشعر بضرورة الاهتمام بهم، لأنّه لا يريد لهم أن يعيشوا في أجواء هذا البيت، خوفاً من أن يشوِّهوا روحيّته ويعطّلوا دوره، ولأنّه لا يجد أيّ أساسٍ للاهتمام بالكافرين الذين يكفرون بنعمة الله ويجحدونها ويفسدون في الأرض، فتركهم لله، فهو الذي خلقهم، وهو أعلم بما تقتضيه الحكمة في ذلك كلّه.

ويستجيب الله دعاءه كما توحي هذه الآيات، فقد تحدّث الله عن الكافرين الذين لم يذكرهم إبراهيم في دعائه، فأراد الله أن يكمّل الصورة، فأوحى إليه أنّه لا يستثني الكافرين من متع الحياة الدنيا، لأنَّ عطاءه لا يختص بأحد دون أحد في الدنيا، فهو يعطي الكافرين كما يعطي المؤمنين، لأنَّ العطاء في الدنيا لا ينطلق من فكرة الثواب والتكريم، بل ينطلق من الإمداد للكافرين، والبلاء للمؤمنين، ولكنّ الدار الآخرة هي التي يختصّ فيها المؤمنون برحمة الله ولطفه ورضوانه، بينما يقف الكافرون هناك ليضطرذهم إلى عذاب النار، وبئس المصير، جزاءً لكفرهم وجحودهم، ولم يتحدّث عن المؤمنين إيذاناً بأنَّ دعاء إبراهيم قد صادف موقعه.

                           *****

عمل وابتهال:

وتتجسّد الصورة أمامنا، ويبرز المشهد واضحاً في قوّةٍ وحياة، كما لو كنّا ننظر ونستمع؛ فهذا هو إبراهيم وولده إسماعيل يقفان ليرفعا قواعد البيت في عملٍ يستغرق كلّ جهدهما واهتمامهما، ويشعران في هذا الجوّ بعباديّة العمل، تماماً كأيّة فريضةٍ عبادية؛ ونستمع إليهما كما لو كان الصوت يهزّ أسماعنا في لهاث العاملين الخاشعين المجاهدين، ونصغي بقلوبنا إلى ذلك الدعاء الخاشع الذي ينساب من أعماق الأعماق في روحيةٍ طاهرةٍ، كأنّها هيمنات الفجر عندما يتنفّس في الفضاء، فتتصاعد أنفاسه نوراً وسلاماً وحياةً وروحانيةً وبركةً. إنّها الروح المؤمنة الصافية، تعبِّر عن نفسها في ابتهالات حبيبةٍ خاشعةٍ، فتحتضن في تطلُّعاتها كلّ انطلاقات الحياة الوديعة السابحة في بحيرات الصفاء.

وهو ـــ بعد ذلك ـــ دعاء العاملين الذين يتحرّك الدعاء لديهم من مواقع العمل لا من حالات الاسترخاء، فتحسُّ ـــ مع الدعاء ـــ كما لو كانا يقدّمان تقريراً لربّهما يحمل معه شظايا الروح وخفقات القلب وهدهدات الشعور في أحلام المستقبل. إنّهما يتطلّعان إلى أن يعرفا في خطوات عملهما رضي الله وقبوله؛ فليس المهمّ أن ينجحا في عيون الآخرين أو يكونا مقبولين لدى المجتمع الذي يعيشان فيه، بل المهمّ أن يعيشا الشعور بالرضى والقبول من الله، فهو الغاية في كلّ عمل. إنّهما يطلبان من الله أن يتقبَّل منهما هذا العمل، فهو السميع الذي يسمع طلبات عباده ويعلم ما في قلوبهم في ما يعملون ويتركون. ويتجاوزان هذا العمل فيمتدّان إلى كلّ مجالات حياتهما العملية في حاضرها ومستقبلها، ويبتهلان إليه أن يجعلهما يعيشان إسلام القلب والفكر والجوارح واللّسان كلّه، لتكون حياتهما صورةً متجسّدة لإرادة الله وأمره.

وينتقلان في تطلُّعاتهما وتمنّياتهما إلى ذرّيتهما، فلا يريدان لهذه الذرية أن تنحرف عن الله سبحانه، بل يتطلّعان إلى أن تعيش الإسلام لله، فتولد منها الأُمّة المسلمة الممتدة التي تحوِّل الحياة كلّها إلى إسلام يتحرّك في كلّ اتجاه، لتتجسَّد عبودية الإنسان لله في صدقٍ وإخلاص. ويختمان هذه التطلُّعات بالرغبة إلى الله أن يعرِّفهما أصول مناسكهما أو مواضعها، وأن يتوب عليهما لأنَّ التوبة تجسّد المعنى الذي يوحي برضى الله وثوابه ورحمته، وليس من الضروري أن تكون مسبوقةً بالذنب في أيّ حال من الأحوال.

                           *****

إبراهيم وولده يخطّطان للإسلام الحركيّ:

ثمّ يتّجه الدعاء اتّجاهاً آخر؛ فقد لا يكفي أن يُسلم الفرد وجهه لله، أو يسلم المجتمع حياته لله إذا لم ين هناك مضمون فكري وعملي يحقّق للإسلام المعنى الحيّ المتحرّك الذي يحقّق للحياة أن تكون صورةً لإرادة الله في ما يفعله الإنسان أو يتركه، وذلك من خلال الرسالات التي تضع للإنسان الخطوط التفصيلية الواضحة المحدّدة لحركته في الحياة، وتشير إلى الأهداف الكبيرة التي تحكم مسيرته في الكون، لتكون الصلة بالله عميقة، منفتحة في نطاق الوسيلة والهدف، فلا لبس هناك ولا غموض ولا انحراف، بل هو الوضوح في الرؤية والاستقامة في الخطّ والانفتاح الواعي على الله في كلّ إرادته. فكان الدعاء الأخير أن يبعث الله في أفراد هذه الأُمّة التي تعيش في هذا البلد رسولاً منهم، فيعرف كلّ نوازعهم وأوضاعهم وتطلُّعاتهم وعقلياتهم. فيتلو عليهم آياته بالأسلوب الذي يتناسب مع عقلياتهم وأفكارهم، ويعلِّمهم الكتاب الذي أنزله الله عليهم والحكمة التي يتضمّنها ذلك التكاب، ويزكّيهم بمواعظه ونصائحه وسيرته، لتتحوّل الأُمّة إلى خطّ الوعي والريادة التي تعيش المسؤولية في حمل الرسالة بعيداً عن كلّ النواع الذاتية والآفاق الضيّقة.

                           *****

الكعبة مثابة وأمن:

{وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ} الكعبة الحرام {مَثَابَةً لِّلنَّاسِ} مرجعاً ومآباً يثوبون إليه ويقصدونه من كلّ مكان، فيكون موقعاً لحركتهم العبادية ومناسبةً لاجتماعهم من خلال قدومهم إليه ورجعوعهم منه؛ وقيل: مكاناً للثواب يثيب الله فيه عباده على حجّهم إليه وعبادتهم له، كما في مفردات الراغب الأصفهاني(1). {وَأَمْناً} يأمن فيه الناس على أنفسهم من الظلم والاضطهاد والقتل، لأنّ الله جعله ساحةً للسلام، فلم يرخّص لأحد في الاعتداء على أحد، ليعيش الناس هذه التجربة الروحية التي يتمرّدون فيها على غرائزهم ونوازع الانتقام في ذواتهم، وينمّون عناصر الخير والعفو والتسامح في أخلاقهم من موقع الجهاد النفسي الذي يفرض فيه الإنسان على نفسه الصبر على المشاعر الانتقامية.

وقيل: إنَّ هذا التشريع تحوّل إلى واقعٍ حيّ في حياة الناس الذين يعظّمون البيت الحرام ويقدّسونه، حتى كان الرجل يلقى قاتل أبيه فلا يتعرَّض له. وقد تحدّث الله عن ذلك في آيةٍ أخرى في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} [العنكبوت : 67]. ولا يخفى ما في ذلك من النِّعم والبركات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية.

ثمَّ أمر الله المسلمين أن يتّخذوا من مقام إبراهيم، الملاصق للبيت أو الواقع خلفه مصلَّى، فقال: {وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} أي مكاناً يصلّون فيه، وقد فرض الله على الحجّاج والمعتمرين الإتيان بركعتي الطواف بعد الطواف بالبيت، خلف مقام إبراهيم، مهما أمكن. {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ} اللّذين أوكل الله إليهما مهمة بناء البيت {أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ} الذي أردته مكاناً للطواف والاعتكاف والركوع والسجود، ولغير ذلك من ألوان العبادة لله، فكان لا بدّ من أن يكون طاهراً من الأصنام التي تمثّل الشرك(1) الذي ينافي التوحيد، ومن كلّ القذارات(2) المادية والمعنوية والقولية التي تتنافى مع أجواء العبادة. والمقصود من هذا العهد الإلهي لهما أن يؤسّساه على الطهارة الكاملة {لِلطَّائِفِينَ} الذين يطوفون بالبيت، {وَالْعَاكِفِينَ} أو المعتكفين الذين يقومون بالمسجد ويلازمونه ويجاورون فيه للعبادة، {وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} الذين يركعون ويسجدون لله في صلاتهم.

                           *****

ربّ اجعل هذا البلد آمناً:

{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ} الذي أراد للبيت أن يكون مركزاً لبلدٍ يسكنه الناس ويجتمعون فيه للحصول على ضروراتهم العامة والخاصة؛ {رَبِّ اجْعَلْ هَـَذَا} المكان الذي يضمّ البيت الحرام {بَلَداً آمِناً}، يعيش الناس فيه الأمن والطمأنينة، {وَارْزُقْ أَهْلَهُ} المقيمين فيه {مِنَ الثَّمَرَاتِ} التي يحتاجون إليها في غذائهم، { َنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}، من هؤلاء الذين أخلصوا لله إيمانهم وانفتحوا عليه وعاشوا الاستعداد للقاء به في اليوم الآخر الذي يخضعون فيه للحساب، لأنَّ الكافرين لا يستحقّون الخير الإلهي. ولكنَّ الله الذي استجاب له دعاءه، أعلن له أنّ الرزق الذي يمثّل متاع الحياة الدنيا لا يختصّ بالمؤمنين فقط، بل يشمل الكافرين، {قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً} ممّا أرزقه من متاع الدنيا في حاجاته المادية والمعنوية، لأنّي أعطي الناس جميعاً ما يحتاجونه في وجودهم الدنيوي، سواء المؤمن والكافر، والمطيع والعاصي، لأنَّ الدنيا ليست هي الأساس في قرب الناس وبعدهم في قضايا العطاء والمنع، بل هي الدار الآخرة التي تمثّل المكان الفصل في اليوم الفاصل الذي تتحدّد فيه المواقع ونتائج المصير بين المؤمن والكافر، فيلقى المؤمن جزاء إيمانه، أمّا الكافر فإنّي أترك له الفرصة في الدنيا، {ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} في الخلود في العذاب من خلال سخط الله وغضبه.

                           *****

إبراهيم وإسماعيل يبنيان المسجد على أساس التقوى:

{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ} ويقيمان الأُسس التي يرتكز عليها البناء، في روحية خاشعة منفتحة على رضى الله في مواقع القرب إليه، من بناء بيته وتهيئة الأجواء التي تقرّب الناس منه وتبعدهم عن مجالات سخطه، لأنَّ المسجد هو المكان الذي يهيّئ للناس الفرصة للاجتماع في العبادة والاندماج في روحية الدعاء وخشوع الابتهال، فكانا يبنيان البيت كما لو كانا في حالة صلاةٍ أو موقف طاعةٍ يبتهلان إلى الله فيها أن يتقبّل منهما ذلك: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا}، قرباتنا وابتهالاتنا وأعمالنا، {إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} الذي يسمع نجوانا ويعلم ما في خفايا ضمائرنا ونيّاتنا من المحبّة لك وإخلاص القرب إليك؛ {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ}(1) لنسلم لك في كلّ أقوالنا وأفعالنا وعلاقاتنا ومواقفنا ومواقعنا وأفكارنا ومشاعرنا، لنذوب في عمق رضاك ومحبّتك، فلا يكون لنا شيء إلاّ ما يرضيك في ذلك كلّه، ليكون إسلامنا حركةً في وجودنا كلّه في الباطن والظاهر. وإذا كان الإسلام هو ما نتطلَّع إليه في منهج حياتنا، فإنّنا ننطلق به من خلال إيماننا بأنّه هو الصراط المستقيم الذي ينتهي إليك في مواقع رحمتك ورضاك، ولذلك فإنّنا نريد له أن يمتدّ في ذريّتنا، {وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ} تتحرّك في كلّ حركتها في الحياة في خطّ الإسلام لك {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} من شرائع عباداتنا أو حجّنا، والنسك هو غاية الخضوع والعبادة، وشاع استعماله في عبادة الحجّ وأعماله.

{وَتُبْ عَلَيْنَا} من موقع الإخلاص لك والاندماج في الإحساس بعظمتك، حتى يخيّي إلينا أنّنا لم ننسجم مع كلّ ما رضيك في الوقت الذي لم يصدر منّا شيء من شؤون سخطك، {إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} الذي  يتعهَّد عباده بالمحبة والعفو والرضوان، فيغفر للعاصين منهم، ويزيد الطائعين من رضاه انطلاقاً من رحمته التي وسعت كلّ شيء.

{رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ} من داخل مجتمعهم يعيش كلّ أوضاعهم ويطّلع على كلّ مشاكلهم، ويعرف كلّ حاجاتهم الروحية والفكرية والعملية، فإنَّ قضية أن يكون الرسول من داخل الأُمّة التي يتحرّك منها نحو العالم هي قضية الرسول الذي يعي كلّ الواقع، وكلّ الآفاق الواسعة التي ينطلق بأمّته فيها، يحاكي شجونها وقضاياها قبل أن يصل إلى مرتبة النبوّة والرسالة. {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ} التي توحي إليهم بكلّ الشرائع والمفاهيم والأفكار والمناهج والأساليب والأهداف، التي تمثّل إرادتك في حياة خلقك لتكون طوع رضاك؛ {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ} الذي يمثّل خطّ النظرية العام في المنهج الرسالي للإنسان والحياة {وَالْحِكْمَةَ} التي تمثّل حركة التطبيق العملي للنظرية، فيضعون الأشياء في مواضعها، ويتحرّكون بها في مسارها الطبيعي؛ {وَيُزَكِّيهِمْ} فيطهّر نفوسهم من الشرك، ومن كلّ القذارات الروحية الأخلاقية التي تشوّه إنسانيّتهم، وتربك خطواتهم، وتبتعد بهم عن نظافة التصوّر والسلوك؛ {إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} الذي لا ينتقص أحدٌ من عزّته، الذي جعل لكلّ شيء قدراً ووضع كلّ شيء في موضعه انطلاقاً ممّا يُصلِح الحياة والإنسان ويجنّبهما المفاسد في كلّ حركة الواقع.

                           *****

أمّا ما نستوحيه من هذه الآيات فهو عدّة أمور:

الجوّ الروحي في بناء المؤسّسات:

1 ـــ الجوّ الروحي الذي ينبغي للعاملين الإسلاميين أن يعيشوه، وهم يعملون في بناء المؤسّسات، فلا تشغلهم التزامات العمل وقضاياه المادية التي تفرضها طبيعة هذا النوع من العمل، عن البقاء في الخطّ الروحي الواعي الذي ينفتح فيه الإنسان على الله الذي كان العمل من أجله، ليبقى للعمل جوّ العبادة والواجب والمسؤولية، فلا يتحوّل إلى غايةٍ بعد أن كان وسيلة،  كما نشاهده في كثير من المؤسّسات الدينية التي انطلق أصحابها من موقع الفكرة الرسالية في البداية، حتّى إذا اندمجوا فيها وعاشوا الأجواء المادية التي تفرضها العلاقات والالتزامات، تحوّلوا إلى أشخاصٍ جامدين لا يملكون أيّة حيويّة روحيّة في هذا المجال، بل ربّما تبدأ العقلية الفردية الضيّقة في التحكُّم بطبيعة المؤسّسات وخطواتها العملية، فتتحوّل إلى شيء يخصّ الشخص أو الجهة، في ما يفرضه المزاج أو تدعو إليه المصلحة الخاصة، وقد يحدث ـــ في هذا الجوّ ـــ أن يبدأ الصراع بين مؤسّسة وأخرى من خلال تعارض المصالح الفردية للقائمين عليها، أو لتصادم الخطوط التي يسير عليها هذا أو ذاك، وبذلك تصبح المؤسّسات الدينية خطراً على العمل الديني بما تثيره من أجواء الحقد والبغضاء والتنافس الفردي على الأطماع والامتيازات، وبما تتحرّك فيه من أساليب وشعارات تستخدم القِيَم الدينية للمحافظة على أطماع الدنيا وشهواتها، وربّما كان السرّ في ذلك هو ابتعاد الأجواء عن الله واستغراقها في ظلمات الذات، خلافاً لما نستوحيه من أجواء إبراهيم وإسماعيل في روحيّتهما الفيّاضة الدافقة في بناء بيت الحرام.

التفكير بإيمان الأجيال

2 ـــ وقد نستوحي من ذلك أن يعيش العاملون بالله الحُلُم الكبير في ما يحلمون به لمستقبل أولادهم، وذلك بالتركيز على أن يكونوا مؤمنين بالله، عاملين في سبيل إيجاد القاعدة الصلبة للمجتمع المسلم والأُمّة المسلمة، فتتحوّل التربية، في هذا الجوّ، إلى التخطيط العملي، الأمر الذي يجعل ارتباط الإنسان بأولاده ارتباطاً رسالياً يتحرّك في نطاق الحركة الرسالية، لا في موقع العاطفة الذاتية التي تحلم وتفكّر لهم بالنجاح المادي في الدنيا بعيداً عن النجاح الروحي في الدنيا والآخرة، وهذا ما نلمح مظاهره وخطواته في سلوك بعض الدّعاة إلى الله الذين يفصلون بين أولادهم وبين الآخرين، فيعملون على أن يضمنوا لأبنائهم المزيد من الأمن والبعد عن الأخطار التي يفرضها العمل على السائرين في الطريق، ولكنّهم لا يعيشون هذا الاهتمام بالآخرين من الناس وأولادهم، فيدفعونهم إلى اقتحام الخطر في سبيل الله ويحشدون في سبيل ذلك كلّ ما يملكونه من أساليب الإثارة والانفعال. إنّها الازدواجية في الفكر والعاطفة والعمل، التي تجعل للعاملين شخصيّتين مختلفتين تتحرّك إحداهما في النطاق الذاتي بعيداً عن الرسالة، وتنطلق الأخرى في نطاق الآخرين لتثير كلّ الأجواء من خلال شعارات الرسالة، خلافاً لما توحيه الآية من وحدة الشخصية التي يحلم بها إبراهيم وإسماعيل لأولادهما بما يحلمان به للذّات ولأولاد الآخرين، لأنَّ المسؤولية تتحرّك في داخلهم من موقعٍ واحد نحو هدف واحد.

                           *****

بين الرسالة والقيادة:

3 ـــ ويستوحي المتأمّل من هذه الآيات، أن يفكّر المسؤولون عن العمل الإسلامي في مسؤوليّتهم الرسالية في تهيئة الأجواء الإسلامية للناس من خلال وجود مسؤولين دينيّين في حياة  المجتمع، باعتبارهم الذين يملكون قدرة قيادة الناس في خطوات الفكرة على أساس تفصيلي واضح، فلا يغرقون في الشموليات التي تُفقدهم الرؤية الواضحة للطريق، ولا يضيعون في الطريق بين العلامات المتنوّعة أو الرمال المتحرّكة.

إنَّ هذا الدعاء الأخير الذي يطلب من الله إرسال الرسول، يوحي لنا بالحاجة إلى الرسالة والرسول في كلّ عمل تغييري يستهدف تغيير المجتمع من الجذور، فلا قيمة للقيادة بدون رسالة، ولا قيمة للرسالة بدون قيادة تدلّ الناس على مواضع الطريق. وقد يجدر بنا أن نشير، في نهاية الحديث، إلى الحديث المأثور عن النبيّ محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، وهو يعلّق على هذه الآية: "أنا دعوة أبي إبراهيم"(1).

                           *****

16 ـــ النبيّ يوسف وفرص الإصلاح في النظام غير الإسلامي:

{وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ*قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ*وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ*وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} [يوسف: 54 ـــ 57].

                           *****

معاني المفردات:

{أَسْتَخْلِصْهُ}: أجعله خالصاً لنفسي.

{مِكِينٌ}: المكين: صاحب المكانة والمنزلة.

                           *****

برز النبيّ يوسف (عليه السلام) كشخصية مميّزة أمام الملك، بعد أن سأله عن تأويل ما رأى في منامه، فوجده يملك العلم والخبرة اللّذين يؤهّلانه للتخطيط للحكم، وللدولة بشكلٍ سليم، كما يملك الطهارة الأخلاقية، والعمق الروحي اللّذين يساعدانه على سلامة التنفيذ، دون أيّ خلل أو انحراف، ممّا يضيف قوّة جديدة للحكم متمكّنة من إدارة الدولة بطريقة ناجحة، ومعالجة للمشاكل الصعبة، والأزمات الخانقة. وهكذا فكَّر الملك أن يستدعيه ليساعده على إدارة أمور الدولة.

{وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي} لأنّي بحاجة إلى العقل الذي يفكّر، والإرادة التي تحسم، والأمانة التي تحفظ، والوداعة التي تحبّ وترعى وتحنو، وهذا ما لم أجده لدى كثيرين ممّن يجتمعون حولي لأجل أطماعهم وشهواتهم، إذ أنّ قربهم من الحاكم يتيح لهم بعض فرص الحكم للعبث والسرقة والظلم ما توفّرت الفرص المناسبة لذلك. وجاء يوسف بعد أن حصل على البراءة من التهمة التي أُلصقت به، ليتحمّل المسؤولية من موقع التاريخ المشرق الطاهر الذي لا تلوّثه جموح الغرائز في اتجاه الجنس المنحرف، ولا يسقطه الضعف المتهالك أمام حالات التحدّي.

لقد جاء يحمل في شخصيّته، الوعي والقوّة والثقة بالموقع وبالنفس، وبالروح التي تشعر بأنّها ليست بحاجة إلى الآخرين، لتسقط أمام رغباتهم، بل إنّ الآخرين هم الذين يشعرون بالحاجة إليها، لتفرض عليهم شروطها. وهكذا قابل يوسف الملك، الذي عبّر أمام الناس أنّه يريد أن يستخلصه لنفسه، ليستفيد من طاقاته أعظم استفادة، {فَلَمَّا كَلَّمَهُ} عرف طبيعة القوّة التي يتمتَّع بها، والعقل الذي يحمله، والشخصية الصلبة التي يملكها، {قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ} فلك المكانة التي تتيح لك تنفيذ كلّ رغباتك، ولك منّا الثقة التي تجعلنا نأتمنك على كلّ شيء، فاطلب ما تريد من مواقع المسؤولية، لأنّك تعرف حجم قدراتك وطبيعة خبرتك في إدارة أمور المجالات التي ترتئيها.

لقد أراد أن يتحمّل المسؤولية، التي لم يطلبها يوسف لنفسه، بل كانت تكليفاً من الملك في ما نستوحيه من التأكيد على مكانته المفضّلة لديه، وإعلانه الثقة بأمانته. وهكذا اقترح يوسف عليه أن يعهد إليه بمسؤولية الجانب الاقتصادي، لأنّه يملك المؤهّلات والخبرة التي تمكّنه من إنجاح خطّته المرسومة لتخفيف الأعباء الثقيلة التي تواجه البلد، {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ} وهكذا طلب من الملك أن يعهد إليه أمر حفظ وتدبير الشأن المالي على مستوى الصرف والرعاية، وإدارة الموارد والمصادر، بما يملكه من علم، وكأنّه يريد أن يقول له: إنّه سيكون في مستوى الثقة التي وضعها فيه.

وهكذا كان، فقد عهد إليه الملك إدارة الشؤون الاقتصادية للبلد، وأصبح بذلك في موقع كبير يستطيع من خلاله، تحقيق هدفه في إقامة العدل، ورعاية المستضعفين، فهو ليس من الذين يزحفون إلى المواقع المقدّمة في المجتمع، أو في الدولة، لأجل طموحات ذاتية، ولو كان يسعى إلى شيء من هذا القبيل لاستطاع تخفيف الكثير من الآلام التي حملها في السجن، وفي خارجه كي يبقى في ساحة الإيمان، بعيداً عن كلّ أجواء الانحراف. إنّه صاحب رسالة، ولهذا فإنّه يعمل على توفير الامتداد لها في حياة الناس من خلال بعض المواقع المتقدّمة في الدولة.

                           *****

بين الإصلاح الجزئي والحلّ الشامل:

ونستطيع أن نستوحي من هذا الموقف، أنّ بإمكان المؤمنين الاستفادة من بعض الفرص السياسية والاجتماعية التي تمنحهم حرية الحركة، وتسهّل لهم أمر تطبيق مبادئ الإسلام في بعض مجالات الحياة، فلا يجب عليهم ـــ من وجهة النظر هذه ـــ أن ينتظروا إقامة الدولة التي تخطّط للساحة كلّها، بل يمكنهم أن يعملوا على سدّ بعض الفراغات، وحلّ بعض المشاكل، واحتلال بعض المواقع، التي تمكّنهم من إصلاح بعض قضايا الواقع، لأنّ الله يريد للإنسان أن يساهم في حلّ ما يمكن حلّه، دون انتظار للحلّ الشامل.

ولكنّ سلوك مثل هذا التوجّه، يتوقّف على ألاّ تكون فرصة الحلّ الكامل جاهزةً على الطريق، ولا تحتاج سوى بعض الخطوات التنفيذيّة للوصول إليها، فإنّ الموقف حينئذٍ يتبدّل باتجاه العمل على رفع كلّ الحواجز التي تعيق الوصول إلى الهدف الكبير، وبذلك يكون الإصلاح الجزئي عملاً غير صحيح، لأنّه يعطّل الحركة السريعة نحو تحقيق النتائج الكبيرة، ويجمّد حالة التوتّر الضروري لدفع عملية الوصول. إنّنا نريد استيحاء هذا المبدأ من قصّة يوسف، في مواجهة الرأي القائل بضرورة الابتعاد عن مؤسّسات المجتمع غير المؤمن، ويؤكّد على الثورة الشاملة، ويرفض الإصلاح الجزئي بقطع النظر عن الظروف التي قد تفرض تأخير الوصول إلى الثورة الشاملة.

                           *****

سرّ العبودية ومكانة يوسف (عليه السلام):

{وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ} بما استطاع أن يحصل عليه ـــ من خلال العناية الإلهية التي شملت تاريخه ـــ من سلطة مطلقة في أمور الدولة، بحيث أصبحت الأرض، تحت سلطته، له أن يتحرّك فيها حيث يشار بوصفه حاكماً مطاعاً يخضع الجميع لإرادته. وتلك هي رحمة الله التي يشمل بها عباده المؤمنين الذين يخلصون له العبودية، ويلتزمون خطّ الطاعة، فلا ينحرفون تحت عوامل الإغراء أو القهر أو التهديد، {نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء} لأنّ الأمر لله في كلّ شيء فإذا أراد شيئاً تحقَّق، {وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} الذين أحسنوا لله القول والعمل، فأثابهم الله برحمته التي تتّسع لكلّ خير في دنياهم في ما يمكّن لهم من الملك أو في ما يحلّ لهم من المشاكل، {وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} لأنّ أجر الدنيا زائل، مهما كان كبيراً وعظيماً، بينما يشمل أجر الآخرة كلّ حياة الإنسان في النعيم الخالد، في رحاب الله التي لا نهاية زمنية لامتدادها.

وهذا ما ينبغي للمؤمنين أن يفكّروا به، كهدفٍ كبيرٍ من أهداف تضحياتهم الكبرى، وذلك بأن يحصلوا على ثواب الله في الآخرة، لأنّه الثواب الباقي، ولا يجعلوا من ثواب الدنيا كلّ همّهم بل بعضاً من ذلك، فالإخلاص لله لا ينفي أن يطلب الإنسان الدنيا من الله، كما يطلب الآخرة منه، لأنّ سرّ العبودية هو أن تخضع لله، باعتباره المرجع الوحيد لك في كلّ طلباتك، دون فرق بين أن تكون طلباتك للدنيا أو للآخرة، مع التأكيد على القيمة الكبيرة لثواب الآخرة مقابل ثواب الدنيا. وبذلك يحقّق الإيمان العملي لحياة الإنسان التوازن بين حاجات الجسد، وأشواق الروح، ويحتوي تطلُّعاته، في آفاق الدنيا، ورحاب الآخرة، فلا يعزله عن اهتمامات الدنيا، شريطة أن تكون مرتبطة خطّاً وهدفاً بالآخرة، كقيمة تحكم الواقع لتبعث فيه الروح وتمنع عنه التجمّد في نطاق المادة.

ولا بدّ للمؤمنين ـــ من ناحية أخرى ـــ أن يضعوا في حساباتهم بأنّ القرب من الله، والتمتُّع بفيض رحمته وإحسانه، يتوقّف على أن يعيش الإنسان الإحسان في قوله وفي عمله، لأنّ الله يجازي الإحسان بالإحسان، فلا يمنع رحمته عن المحسنين.

                           *****

17 ـــ أسلوب النبيّ يوسف بين الغاية والوسيلة:

{وَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَاْ أَخُوكَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ*فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ*قَالُواْ وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِم مَّاذَا تَفْقِدُونَ*قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَن جَاء بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ*قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ عَلِمْتُم مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ*قَالُواْ فَمَا جَزَآؤُهُ إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ*قَالُواْ جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ*فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاء أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاء أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاء وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 69 ـــ 76].

                        *****

معاني المفردات:

{آوَى}: ضمّه إليه.

{السِّقَايَةَ}: وعاء يسقى به.

{صُوَاعَ}: المكيال.

{زَعِيمٌ}: كفيل.

                           *****

وصل إخوة يوسف إلى مصر، ومعهم أخوهم غير الشقيق {وَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ} وسلَّموا عليه، وعرَّفوه على أخيهم، { آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ} وقرّبه إليه وحدَّثه بحميميّةٍ توحي بأنّ هناك علاقةً غير عادية بينه وبينه، وانفرد به أو همس في أذنه بشكلٍ مفاجئ بالحقيقة الصارخة التي هزَّت أخاه الذي ربّما كان قد نسي يوسف، {قَالَ إِنِّي أَنَاْ أَخُوكَ} الشقيق، فلا تشعر بالوحدة معهم، لما تلاقيه من اجتماعهم مع بعضهم، وانفرادهم دونك، {فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} ولا تحمل همَّ ما كان يصدر منهم نحوك، فهذا أوان الفرج والانفتاح على الحياة، من خلال المحبّة الصادقة والأُخوة المخلصة الطاهرة، ولن ترجع إليهم لتعود إلى حياة القهر والإيذاء. وأخذ يدبّر الخطّة التي يستطيع بواسطتها العذر في استبقائه عنده، والحُجّة التي تبرّر ذلك أمامهم دون أن يضطر إلى استعمال العنف ضدّهم للوصول إلى إقناعهم بذلك، لأنّه لا يريد أن يُبطل الفكرة الطيّبة العادلة التي حملوها عنه.

                           *****

{فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ} وهي الصاع التي كانت تستعمل للسقاية، فقد أمر فتيانه أن يحملوها في متاع أخيه، {ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ} وصاح صائح رافعاً صوته للإعلام بوجود شيء مفقود في رحل القافلة، {أَيَّتُهَا الْعِيرُ} أي القافلة {إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ}.

هل ذلك حكم عليهم بالسرقة؟ ولكن كيف ذلك وهم لمي سرقوا؟ هل هو وارد على سبيل التورية؟ على أساس سرقتهم ليوسف من أبيهم، وبيعهم له، أو أنّه مجرّد توجيه التهمة من ناحية شكليّة على سبيل الاستفهام، من أجل الوصول إلى ما توخّاه يوسف من احتواء أخيه عنده؟ وقد لا يكون في ذلك أيّة مشكلة ما دامت الغاية نظيفةً، والوسيلة لا تضرّ أحداً، لأنّ المسألة لا تعدو أن تكون مجرّد ضغط نفسيٍّ على إخوة يوسف، بما يتضمّنه الموقف من إحراج لهم أمام أبيهم، ولكنّه لا يؤذيهم في شيء، بل قد ينفّس عقدتهم ضدّ يوسف وأخيه، فقد تكون هذه الحادثة فرصةً للتشفّي من هذا الأخ الذي حلّ محلّ يوسف في قلب أبيه دون أن يملكوا فعل شيءٍ حياله، لا سيّما أنّ الأب ما زال يعيش همّ يوسف في نظراته إليهم التي لا تخلو من ملامح الاتّهام.

وفي تلك الحادثة يمكننا أن نستوحي فكرة أنّ الغاية تبرّر الوسيلة، إذا كانت الغاية أعظم من ناحية الأهميّة، لأنّها بذلك تنظّف الوسيلة، وتطهّرها.

وهكذا واجه فتيان يوسف إخوته باتّهامهم بالسرقة، وفوجئ هؤلاء الشباب بالتّهمة، فهم لم يسرقوا لأنّهم ليسوا بحاجة إلى السرقة، بالإضافة إلى أنّهم يعرفون ما فعلوا، الأمر الذي يثبت براءتهم، أمّا أخوهم غير الشقيق فليس في تاريخ حالة سرقة، ممّا جعلهم يجزمون بأنّ التهمة ناشئةٌ من سوء تفاهم، أو من سوء فهم للواقع. لقد كان النداء صدمة كبيرة لهم، ومفاجأة سيّئة.

{قَالُواْ وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِم مَّاذَا تَفْقِدُونَ} حتّى تتّهمونا بالسرقة؟ {قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ} وهو صواعٌ مميّزٌ لا يمكن أن نتسامح به، لأنّه يخصّ الملك، لذا فإنّ الحصول عليه أمر غاية في الأهمية، ولمن يأتي به جائزةٌ كبيرة، {وَلِمَن جَاء بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ} من الطعام، {وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ} أي كفيل، قالها المنادي للإيحاء بالثقة بأنّه هو يضمن حصول من يأتي بالصواع على الجائزة، إذا لم يستطع الوصول إلى الملك الذي أمر بها. وربّما كان في ذلك ما يخفّف من وقع التّهمة، فقد تحرّك إعلان المنادي بالشكل الذي يوحي وكأنّ فقدان الصاع قد لا يكون نتيجة سرقة، بل نتيجة ضياعه بين الأدوات خطأ، أو شبه خطأ، ولهذا حاولوا أن يدافعوا عن أنفسهم، ويظهروا براءة ساحتهم.

                           *****

التدبير الإلهي الخفي:

{قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ عَلِمْتُم مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ} فقد عرفتم سلوكنا وطريقتنا في التعامل معكم، وربّما يذكر بعض المفسّرين أنّ إخوة يوسف أعادوا البضاعة التي وضعها يوسف في رحالهم ظنّاً منهم أنّ في الأمر خطأ ما، ممّا يوحي بأمانتهم. ولكن مثل هذا غير دقيق، بلحاظ كلامهم مع أبيهم الذي كان يوحي بأنّهم كانوا مقتنعين بأنّ هذه البضاعة قد ردَّت إليهم، إحساناً وترغيباً لهم في الرجوع. ومهما كانت المسألة، فها هم يقفون ليشهدوهم بأنّهم لم يأتوا ليفسدوا في الأرض بالعبث بأملاك الملك عن طريق السرقة، {وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ} في الماضي لنسرق في الحاضر، لأنّ ذلك ليس من أخلاقنا ولا من عاداتنا. ولم يعلّق فتيان يوسف على ذلك، بل تركوا لهم أن يتحدّثوا بما يشاؤون.

ولكنّهم بوحي من يوسف الذي كان يعرف شريعة يعقوب في عقاب السارق، سألوهم عن ذلك، {قَالُواْ فَمَا جَزَآؤُهُ إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ} في دعواكم الأمانة، وإنكارهم للسرقة، لأنّنا لا نريد أن نعاقب السارق بمقتضى شريعتنا، بل نريد أن نلزمكم بما تفرضه شريعتكم، لتعلموا أنّنا لا نقصد استغلال موقعكم الضعيف عندنا بأن نفرض عليكم ما نريد، بل نترك الأمر لكم في اكتشاف المسألة وفي الحكم عليها. {قَالُواْ جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} وذلك بأن يسترقّ ويستعبد، أو يؤسَر ليفعل به صاحب المال ما يشاء، وتلك كانت شريعة يعقوب في معاقبة السارق، {كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} الذين ظلموا غيرهم بالاعتداء على ماله، وظلموا أنفسهم بالانحراف عن أمر الله.

{فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاء أَخِيهِ} ليبدو الأمر طبيعياً لهم، فلا يثير أيّ شكّ لديهم بوجود خطّة لإبقاء أخيه، فلم يجد في أوعيتهم شيئاً ممّا أثار في نفوسهم الاطمئنان إلى أنّ الأمر لا يعدو أن يكون اشتباهاً. وهنا كانت المفاجأة التي تنتظرهم: {ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاء أَخِيهِ} ووقفوا جميعاً أمام هذه الصدمة الكبيرة لا يعرفون ماذا يفعلون وكيف يفسّرون الأمر بعد أن واجهتهم الحقيقة الصارخة.

{كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} ودبّرنا له الحيلة في الوصول إلى هذه النتيجة السعيدة التي كان يحبّها ويرتضيها، إنّه التدبير الإلهي الخفيّ، {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} لأنّ دين الملك وشريعته أن يسجن السارق أو يعاقبه، ولكنّ الله ألهمه أن يُلزمهم بما تفرضه شريعة يعقوب، فحصل على ما يريد، ولعلَّ هذا هو المراد بقوله: {إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللّهُ} فإذا شاء أمراً هيّأ أسبابه، {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاء} كما رفعنا مكانة يوسف بالعلم والتقوى، فبلغ ما بلغه من الشأن، {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} حسب ما تفرضه طبيعة اختلاف الدرجة في المعرفة، وربّما كان في هذا بعض الإيحاء بما يميّز يوسف عن إخوته في العلم، لأنّهم كانوا يحملو بعض العلم حسب ما ذكر المفسّرون.

                           *****

 

18 ـــ منطلقات دعوة النبيّ شعيب الرسالية وأهدافها:

{قَالُواْ يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ*قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىَ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ*وَيَا قَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ*وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ*قَالُواْ يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ*قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءكُمْ ظِهْرِيّاً إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ*وَيَا قَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُواْ إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ*وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مَّنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ*كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا أَلاَ بُعْداً لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} [هود: 87 ـــ 95].

                           *****

معاني المفردات:

{أُخَالِفَكُمْ}: أرجع.

{يَجْرِمَنَّكُمْ}: أي لا يكسبنَّكم.

{شِقَاقِي}: الشقاق: المباعدة بالعداوة إلى جانب المباينة وشقّها.

{نَفْقَهُ}: الفقه: فهم الكلام.

{رَهْطُكَ}: الرهط: عشيرة الرجل وأصله.

{لَرَجَمْنَاكَ}: الرجم: الرمي بالحجارة.

{أَعَزُّ}: الأعزّ: نقيض الأذل.

{ظِهْرِيّاً}: الظِهْرِيّ: بكسر الظاء: المتروك وراء الظهر، لا يعتنى به.

{مَكَانَتِكُمْ}: المكانة: الحالة التي يتمكّن بها صاحبها من عمله.

{وَارْتَقِبُواْ}: انتظروا.

{الصَّيْحَةُ}: صيحة العذاب.

{جَاثِمِينَ}: الجاثم: البارك على ركبتيه مكبّاً على وجهه.

{بُعْداً}: دعاء بالهلاك.

                           *****

دعا شعيب قومه إلى توحيد الله، وفي تطبيق تعليماته، ليبدأ ردّهم عليه، فماذا قالوا؟ هل ناقشوا التوحيد كفكرة في مقابل فكرة الشرك؟ أو هل دافعوا عن فكرة التطفيف من الموقع الذي هاجمه شعيب؟ هل أكّدوا فكرة الصلاح فيها، في مواجهة ما أثاره من فكرة الفساد والإفساد، لتكون القضية هي قضية فكر يواجه فكراً؟

إنّهم لا يفعلوا ذلك، بل لجأوا إلى أسلوب الإثارة لمواجهة الموقف معتمدين على السخرية، والكلمات الاستعراضية التي لا ترتكز على حُجّة أو دليل بغرض التهرُّب من المسؤولية، وتحطيمه نفسياً. وأخذوا يسخرون من صلاته باعتبارها المظهر البارز لتوحيد العبادة لله، والخطّ الفاصل بين موقفه وموقفهم، حسب ما ورد في دعوته لهم إلى عبادة الله بأسلوب الصلاة، فحاولوا أن ينظروا إليها باستهانةٍ وازدراءٍ وتهكُّمٍ، باعتبارها مصدر الإيحاء في حديثه، فهم لم يجدوا فيها شيئاً مهمّاً، شكلاً ومضموناً، لأنّهم لا يستطيعون استيعاب المعنى الروحي العميق للصلاة، لأنّ تأثيراها لا تتمثّل في الشكل، بل تحتاج إلى المعاناة الداخلية التي تثير الفكر، وتهزّ الكيان، وتوقظ الروح.

وهكذا لم يفهموا كيف يمكن للصلاة أن تدفع النبيّ شعيب إلى التحرّك في موقع المسؤولية، ليقف في خطّ المواجهة، ويأمرهم بما أراد الله أن يأمرهم به، ويُشهد الله، وهو بين يديه، أنّه قد أدّى رسالته، وقام بسمؤليّته.

{قَالُواْ يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} إنّنا نراك تصلّي دائماً، ثمّ تنطلق لتثير معنا الحديث المستمرّ عن رفض عبادة الأصنام التي كان آباؤنا يعبدونها، فصارت جزءاً من شخصيّتنا، تعبيراً عن امتداد الآباء في وجودنا بكلّ عقائدهم وعاداتهم وتقاليدهم، كمظهر حيّ للوفاء وللالتزام بخطّ العشرة بما تمثّله من أفكار وأعراف، تمتدّ في الحاضر والمستقبل كتاريخٍ أصيل يصنعه الماضي. وإذا كانت القضية في هذا المستوى، فكيف يمكن لنا أن نترك كلّ هذا التاريخ الضخم، من عبادة هذه الأوثان، لنستسلم لما تثيره صلاتك فيك من مشاعر ومواقف، لتأمرك بأن نترك ما يعبد آباؤنا، فأين هو موقع الصلاة من شخصيّتنا كلّها، وأين هي قيمتها من تاريخنا كلّه؟

                           *****

التشريع يحول دون حريّة التصرّف المطلق بالمال:

{أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء} إنّك تتحدّث إلينا بلغة غير سليمة، فلا علاقة للصلاة بأموالنا، ولا علاقة للتوحيد والشرك في ذلك، ولا علاقة لك أنت بأموالنا التي ورثناها من إبائنا، أو التي حصلنا عليها بجدّنا وجهدنا وسعينا، فهي تخصّنا وحدنا، وليس لأحد أن يفرض علينا كيفية التصرّف بها؛ إنّنا نملك فيها كلّ الحرية التي هي فوق كلّ أمرٍ، وفوق كلّ تشريع.

إنّ رفض هؤلاء القوم للمبدأ التشريعي الذي يحرّم التطفيف، يرجع إلى اعتقاد خاطئ، وهو حرية التصرّف المطلق، في ما يملكه الإنسان من مال، فليس لأيّ تشريع أن يقترب من هذه الحريّة بأيّ نوع من أنواع التضييق والتقييد، وهذا ما يعبّر عنه احتجاجهم على ذلك بقولهم: {أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء}.

وقد كان شعيب منسجماً مع القاعدة الإلهية التي لا تعتبر الحريّة وعدمها، إلاّ بالمقدار الذي يحقّق للإنسان مصلحته العامة، وللحياة توازنها الدقيق، ولذا كان التشريع يتحرّك على أساس تحقيق هذا التوازن عندما يمنح الحريّة أو يقيّدها، في ما يحلّل أو في ما يحرّم، وقد كان التطفيف نوعاً من أنواع الاستغلال الخبيث الذي يجسّد التعدّي على حقوق الناس، وسرقة أموالهم، ممّا يسبّب إخلالاً بالتوازن الذي تريد الأديان إقامته في حياة الناس، لجهة تحقيق العدالة في التعامل كضمان لتساوي طرفي المعاملة في الأخذ والعطاء، تبعاً للالتزام العقدي الذي ينظّم الحقوق والواجبات. وعلى هذا الأساس جاء تحريم التطفيف، منعاً للفساد في الأرض.

                           *****

من رحم الاقتصاد الحرّ ولد الاستعمار:

وقد نخرج ـــ من هذا كلّه ـــ بنتيجةٍ حاسمةٍ ضدّ كثيرٍ من الدعوات التي تبشِّر بمبدأ الاقتصاد الحرّ الذي يسمح للإنسان بكلّ أنواع التعامل، ما كان منه مضرّاً بمصلحة الإنسانيّة، وما كان غير مضرّ، ويوفّر للإنسان الحماية القانونية لعمليات الإفساد السياسي والاقتصادي والاجتماعي التي يمارسها تحت شعار التجارة الحرّة التي تحرّكها دوافع الربح والخسارة، بعيداً عن أيّ جوانب أخلاقيّةٍ أو إنسانيةٍ.

وهذا ما يتمثّل في التفكير الرأسمالي الحديث الذي يشجّع الإفساد، ويحميه في إطار الحرية الاقتصادية التي تُعتبر ـــ في مفهومهم ـــ إحدى ركائز الحرية الأساسية في الكون.

وقد أدّى هذا التفكير إلى إفساح المجال لولادة الاستعمار الذي يستعبد الشعوب، ويستغلّ ثرواتهم الطبيعيّة، ويحوّلهم إلى وحدات استهلاكيّة، لتصريف المنتجات الصناعيّة بكلّ ما يستلزمه ذلك من حماية التخلّف والجهل والخرافة، والوقوف بقسوةٍ، ضدّ كلّ نوازع التحرّر والاستقلال السياسيّ والاقتصادي.

وقد كان من نتائجه الكبيرة العمل على إثارة الخلافات الدينية والاجتماعية والإقليمية، وغيرها، وتحويلها إلى نزاعٍ مسلّح معقّد طويل، يستنزف طاقات الشعوب وثرواتها من أجل تحريك مصانع الأسلحة التي لا تزدهر إلاّ في الحروب، ممّا يجعل من السياسيّين في كلّ بلد، عملاء طبيعيّين لأصحاب تلك المصانع، من أجل دفع الفتنة أشواطاً إلى الأمام، وإثارتها من جديد، كلّما قاربت الركود والهدوء.

                           *****

الحريّة الاقتصادية بين الإسلام والرأسمالية:

إنّ حوار شعيبٍ مع قومه يؤكّد لنا "رفض الحريّة الاقتصادية، بمفهومها الرأسماليّ، الذي لا يخضع للمفهوم الإنساني والأخلاقي، ولا يضع موضوع الحرية المالية ضمن نطاق مصلحة الإنسان، وتوازن الحياة، ليسمح بما يدخل في ذلك، ويمنع ما يخرج عنه، في كلّ زمان ومكان.

وربّما نشعر بالحاجة إلى التأكيد على كثيرٍ من المؤمنين، أو العاملين في سبيل الله، الذين يغفلون عن الخطّ الدقيق الفاصل بين الحرية الاقتصادية ـــ كما تفهمها الرأسمالية ـــ وبين الحريّة الاقتصادية ـــ كما يفهمها الإسلام ـــ من خلال تشريعه الملكية الفردية وحمايته لها. إنّ الرأسمالية تطرح شعار قوم شعيب الذي عبَّر عنه القرآن الكريم في احتجاجهم على منعهم من فعل ما يشاؤون، لأنّهم يرون الحقّ لهم في ذلك كلّه، بينما يطرح الإسلام شعار شعيب: {إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ}، وقوله: {وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [هود: 85]. فهو يؤمن بالملكية الفردية بشرط ألاّ يستغلّها أصحابها في إفساد البلاد والعباد، سواء في ذلك مصادرها ومواردها. فإذا تحوَّلت إلى عنصر إفساد، وقف الإسلام ليقيِّدها، بكلّ قوّة وعنف، لتجري الحياة على أساس من الحريّة الملتزمة، لا الحرية المنفلتة"(1).

                           *****

محاولات غير مجدية لاحتواء الرسول:

{إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} بما تملكه من هدوء الطبع وسعة الأُفق، وعمق النظرة للأمور بحيث تراعي الموازين الحقيقيّة للأشياء، فكيف صدر منك هذا التصرّف، وهذا الكلام الذي يدلّ على النزق، وعلى عدم الحكم السليم على القضايا؟ إنّهم يحاولون بهذا الأسلوب القيام بعملية تطويق عاطفيّ، واحتواءٍ نقسي له، بإثارة شعوره بمكانته الرفيعة عندهم، كي يقوده ذلك إلى التراجع عن موقفه، ليحتفظ بهذه المكانة، كما هو شأن الكثير من الناس الذين يريدون الحصول على ثقة المجتمع، بالانسجام مع ما يحبّ ويرغب. ولكنّ أنبياء الله لا يعيشون لأنفسهم، بل يعيشون لرسالتهم، ولذلك فإنَّهم لا يتنازلون عن خطّ الرسالة لحساب الذّات، وإذا أرادوا الوصول إلى ثقة المجتمع، فإنّما يريدونها على أساس الثقة بالرسالة، لتكون قيمة الذّات، في ما تجسّده من السلوك الرساليّ، لا في ما تجسّده من صفات الذات، ولذلك رأينا النبيّ شعيب يقف أمامهم بقوّة من دون أيّ تأثّرٍ عاطفيّ بما قالوه.

                           *****

بيّنات... وأهواء:

{قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىَ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي} لما أعيشه في مسألة الإيمان من وضوح الرؤيا والدلائل والبيّنات التي أكرمني بها الله، إلى درجة عدم إحساسي بأيّ حالة من حالات الشك والريب في صحّة ما أنا عليه، وفي صدق ما أدعو له، {وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً} بما أغدقه عليَّ من نعمه وألطافه، وبما رزقني من رسالته، فلا بدّ لي من أن أقف لأدعو، وأتحرّك لأتحدّى بالأسلوب الذي يحقّق القناعة للفكر، ويركّز القوّة للموقف، ويبعث الامتداد في الدعوة، وليست المشكلة هي أن يرضى الناس أو لا يرضوا، بل كلّ مشكلتي، هي أن يرضى الله عمّا أقوم به في مجال تأدية الرسالة، وإخلاص الدعوة.

{وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ}، فلم أنهكم عن شيء إلاّ وقد ألزمت نفسي بتركه، انطلاقاً من قناعتي بما يتضمّنه من المفسدة، وما يؤدّي إليه من الضرر، وبذلك فإنّ موقفي ينطلق من موقع القناعة والإيمان، لا من موقع الرغبة في التحكّم بكم، والتضييق عليكم، والتقييد لحريّتكم، كما تزعمون. لأجل ذلك، كان لا بدّ لي من إثارة الفكرة أمامكم، لحثّكم على الدخول معي في نقاش فكريّ حولها، ولكنّكم واجهتم المسألة باللامبالاة، وابتعدتم عن مسؤولية ما تحملونه من عقيدة، وما يُلقى عليكم من فكر، فاستسلمتم لعقائد آبائكم التي لا ترتكز على أساس، ولحريّة الأهواء التي لا تخضع لقاعدة، فوقفتم هذا الموقف السلبيّ الساخر المتعنِّت. إنّ ذلك شأنكم في التصرّف الذي سوف تتحمّلون مسؤوليته أمام الله، في الدنيا والآخرة، أمّا أنا فسأبقى في ساحة الرسالة من أجلكم، لأقدِّم لكم النصح الذي يصلح أمر دنياكم وآخرتكم.

                           *****

 

دين الله لإصلاح الإنسان والحياة:

{إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ} هذا هو الشعار الذي أرفعه في حركة الرسالة، وهذا هو مضمون مفاهيمها وتشريعاتها، وهذا هو الهدف الذي أسعى إليه من وراء موقفي معكم ومع الناس، فليس لديّ هدفٌ شخصيّ في ما أدعوكم إليه، ولا أريد ممارسة السيطرة عليكم ولا التحكّم بكم، بل كلّ ما أريده تأدية الرسالة في إصلاح الإنسان والحياة، على هدى دين الله، ولذا فإنّني ألتزم في نفسي وفي حياتي العملية بما أدعوكم إليه، وهل يريد الإنسان لنفسه إلاّ الخير، {وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ} وسأستمر في السير إلى الهدف، متطلِّعاً إلى توفيق الله ورعايته، معتمداً على الله فهو الذي يهيّئ لعباده الأسباب، ويدبّر لهم الأمور.

                           *****

الله هو الكافي:

{عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} في كلّ ما أريد أن أقدم عليه، في إمكاناتي الذاتية التي رزقني بها الله، وفي كلّ ما يمكن أن يواجهني في حاضر الحياة ومستقبلها، من تهاويل المجهول الذي جعل الله أمره بيده، فهو الكافي له، والحامي منه، لأنّه يكفي رسله من كلّ شيء، في حدود الحكمة والمصلحة، ولا يكفي منه شيء، لأنّه القادر على ما لا يقدرون عليه، والمهيمن على كلّ شيء من مخلوقاته الناطقة والصامتة، {وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} فهو المرجع في الدنيا، والملاذ في الآخرة، وإليه المصير.

وهذا هو موقف القوّة الواعية التي أراد شعيب أن يعيشها في نفسه لئلّا تهتزّ أمام ضغوطهم، وليبنيها لهم، حتى يشعروا بطبيعة القوّة التي يملكها بالاعتماد على الله، والتوكّل عليه في جميع أموره ممّا يجعل لموقفه قوّة بارتكازه على الغيب أوّلاً، وعلى قوّة شعيب الذاتية ثانياً.

                           *****

تحذيرات شعيب لا تلقى الصدى المطلوب:

ثمّ يتابع شعيب ممارسة الضغط النفسي عليهم، فيعيدهم إلى ما ينتظرهم من نتائج الكفران والجحود، الذي أصاب السابقين من الكافرين {وَيَا قَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي} أي لا يدفعنَّكم خلافكم معي، ومعاداتكم لرسالتي، {أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ} من الأمم السالفة، {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ} من الأمم القريبة من تاريخكم ممّا يجعلكم قادرين على معرفة الآثار التي تركوها، والمدائن المخسوفة التي لا تزال ماثلةً أمام أعينكم، لأنّ الأعمال التي عذّبهم الله بها هي أعمال التمرّد على الله، والكفر برسالته ورسله التي تقومون بها الآن.

{وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ} وافتحوا قلوبكم لله، وأشهدوه عليها بالإحساس العميق بالندم، والابتهال الخاشع إليه، واطلبوا منه المغفرة لذنوبكم في ما أسلفتم من ذنوب {ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ} في موقف عمليّ، يؤكّد رجوعكم عمّا أنتم فيه، ويدفع بكم إلى الموقف الصحيح الذي يضع أقدامكم على الصراط المستقيم الذي يؤدّي إلى الحصول على مغفرته ورحمته ورضوانه، {إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} فمنه الرحمة الواسعة لعباده، والمودّة الرحيمة التي يسبغها عليهم من لطفه وعطفه.

ولعلَّ في تعبيره عن الربّ، بالإضافة إليه، بعد أن كان قد أضافه إليهم، إشارة إلى ما يملكه من المعرفة به في صفاته الحسنة، وجهلهم بتلك الصفات. بينما كان هدف إضافته إليهم في دعوتهم للاستغفار والتوبة، الإيحاء بأنّهم المربوبون له، لا إلى غيره من الأرباب التي يتوهّمونها ويدَّعونها من دونه، الأمر الذي يفرض عليهم المبادرة للحصول على رضاه.

ويستمرَ شعيب في إنذارهم وترويضهم بمختلف الأساليب، ولكنّهم لا يرتدعون، ولا يسمعون، فهم في شغلٍ عن التفكير بذلك، لانصرافهم إلى التفكير بالوسائل التي يضعفون بها موقفه، ويهزمون بها رسالته، {قَالُواْ يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ} فليس لهذه الأفكار التي تثيرها أمامنا، أي صدىً في نفوسنا لأنّها بعيدة عن الأجواء التي عشناها في حركة العبادة، فقد تعوّدنا على نمط من الفكر والسلوك، عايشناه، ولا مجال معه للنظر في تفكير جديد أو دعوة جديدة، لأنّ ذلك يدفع بنا إلى الاهتزاز في المواقف، والابتعاد عن مواقعنا التاريخيّة المرتبطة بالآباء والأجداد. هذا من جهة، ومن جهةٍ أخرى فإنّ مَنْ يريد تغيير المجتمع على أساس دعوته لا بدّ من أن يملك القوّة الاجتماعية التي تفرض على الناس اتّباعه، والخضوع له، لأنّ قضية التغيير تمثّل نوعاً من أنواع القوّة التي لا تملكها بيننا، {وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً} فأنتَ لا تملك نفراً قليلاً من عشيرتك، وهو ما يعبّر عنه بكلمة الرهط، نراعي موقفهم ونحترم موقعهم، ولذلك فإنّنا لا نسيء إليك، لأنّنا لا نريد الإساءة إليهم، كونهم انسجموا مع موقفنا منك، فلم يتبعوك في ما تدعونا إليه {وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} فليست لك أيّة منعةٍ أو عزّةٍ أو كرامةٍ، ممّا يجعلنا ننظر إليك نظرة استهانةٍ واحتقارٍ، فلا نعبأ بك ولا بما تقول.

ولكنّ شعيباً لا يتراجع عن موقفه ورسالته، بل يتابع العمل على تصحيح مفاهيمهم الخاطئة والمنحرفة عن الخطّ المستقيم {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ اللّهِ}، ممّا يدفعكم إلى احترامي لحساب قومي، ولا تستجيبوا لما أبلّغكم به من رسالات الله، لحساب الله ربّكم وربّي، فأيّ منطق هو هذا المنطق الذي توازنون من خلاله بين عباد مخلوقين، هم رهطي، وبين ربّ العالمين جميعاً، فتشعرون بالتعاطف مع هؤلاء، وتتركون مراقبة الله القويّ القادر القاهر الجبَّار. {وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءكُمْ ظِهْرِيّاً} أي جعلتموه وراء ظهوركم، كنايةً عن نسيانه وعدم الاعتناء به، وهذا منتهى السفه في التفكير وفي العمل، يفقد معه الإنسان اتّزانه في تقييم الأشياء، وتقدير موازين القوّة، ومواقع القدرة. {إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ}.

                           *****

 

 

وقفة العزّة:

ثمّ يقف شعيب وقفة القوّة والعزّة التي يستمدّها من إيمانه بالله وتوكّله عليه، ليؤكّد لهم صلابة موقفه، ومتانة مركزه، وقوّة شخصيّته، وبأنّه سيمضي في طريقه، بالرغم من كلّ تهاويلهم وتهديداتهم، ولن يتوقّف عن السير في الطريق إلى الله، مهما قالوا، ومهما فعلوا.

{وَيَا قَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ} أي تابعوا الحال التي أنتم عليها في المجالات التي تملكون فيها إمكانات الحركة وظروف العمل، فهذا شأنكم في ما تريدون وما لا تريدون، {إِنِّي عَامِلٌ} في الخطّ الذي أسير عليه لأنّي واثق بسلامته، وصحّته، ولن يغيّر قناعاتي شيءٌ ممّا تهدون به، أو تثيرونه ضدّي. وسترون النتائج السلبية لمواقفكم الكافرة على مستوى الدنيا والآخرة، مقارنة بالمواقف الإيجابية لموقفي في السير على خطّ الرسالة.{سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ} ويرتفع عنكم غشاء الجهل والضلال الذي يغشي عيونكم وقلوبكم {وَارْتَقِبُواْ إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ} ولن يطول انتظاري وانتظاركم فسيأتيكم العذاب الشديد، وستعرفون من الكاذب، والصادق في ساحة الصراع.

{وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مَّنَّا} وجاء العذاب، وامتدّ في كلّ ساحاتهم حتى لم يبقَ منهم أحد، أمّا شعيب والمؤمنون معهم فقد أنجاهم الله منهم، لأنّهم آمنوا بالله وصدقوا معه، وثبتوا في مواقف الاهتزاز، كذلك يرحم الله عباده المؤمنين {وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ} التي صعقتهم فلم يستطيعوا حراكاً ولا دفاعاً، ولم يملكوا ثباتاً لأقدامهم في أيّ موقع {فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} لا يتحوّلون عنها {كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا} كأن لم يقيموا فيها، فقد ذهب كلّ أثر للحياة فيها من خلالهم، كما لو كانوا يعيشون فيها منذ الأزل، {أَلاَ بُعْداً لِّمَدْيَنَ} قرية شعيب، وهو الدعاء بالهلاك على سبيل الكناية {كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} قوم هود الذين أهلكم الله وأبعدهم عن ساحة رحمته.

                           *****

19 ـــ منطق النبيّ موسى في مواجهة الطغاة:

{وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ*قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ*قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ*وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ*وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ*قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُم مُّسْتَمِعُونَ*فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ*أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ*قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ*وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ*قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ*فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ*وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء: 10 ـــ 22].

                           *****

{وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} الذين ظلموا الناس وعاثوا في الأرض فساداً. وقد انطلق النداء ليؤكّد على حقيقةٍ دينيّةٍ حاسمة في موقف الدين من الظلم والظالمين، وهي أنّ الرسالة تتحرّك في إرادة الله لإرسال رسولٍ، على أساس وجود ظلم ضاغطٍ على حرية الناس وحياتهم، ما يفرض مواجهة الموقف برسالةٍ كاملةٍ شاملةٍ تنطلق في حركتها من قاعدة التوحيد لله الذي يوحد الألوهية في ذاته، ويحصر العبادة به، ويرفض عبادة غيره، مهما كانت منزلته ودرجته، ليكون التحدّي للظلم والظالمين خلال القاعدة، لا من خلال الحالة الطارئة، ما يجعل الموقف أكثر قوّةً، وأشدّ صلابةً، لأنّ انطلاق التحدّي من الجذور يختلف عن انطلاقه من السطح، وهكذا أراد الله لنبيّه موسى أن يتوجّه إلى موقع السلطة الأقوى في ساحات الظالمين {قَوْمَ فِرْعَوْنَ} الذي سعى ليفرض نفسه ربّاً على المستضعفين من الناس من خلال قوّته وملكه، وذلك بفعل طاعة قومه له وانقيادهم لإرادته، وخضوعهم لسلطاته، والتفافهم حوله على خطّ العصبية العائلية أو على الطمع في حطام الدنيا، {أَلَا يَتَّقُونَ} الله، ويخافونه، ويحسبون حساب الدار الآخرة، في ما يمكن أن يتعرّضوا له من عذاب النار جزاء معاونتهم للظلم والظالمين.

هل استعفى موسى (عليه السلام) من ربّه؟

{قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ} لأنّني أعرف فيهم الطغيان الذي يمنعهم من الإذعان للرسالة ويدفعهم إلى احتقار الناس من حولهم، ممّن هم دونهم في الطبقة الاجتماعية، الأمر الذي يدعوهم إلى تكذيبي لما أبلّغهم من رسالاتك، فلا فائدة من إرسالي إليهم، لأنّ النتيجة معلومة بالرفض، {وَيَضِيقُ صَدْرِي} في مواجهة الضغط الذي أتعرَّض له منهم ممّا لا أستطيع تحمّله في قدرتي الذاتية {وَلَا يَنطَلِقُ لِسَانِي} ممّا أعانيه من حالات احتباس الكلام حيث لا يسمح لي بالحوار والجدال وإدارة الصراع بالكلمات القويّة والأسلوب اللّبق {فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ} ليكون عوناً لي على أداء الرسالة، لما يتميّز به من صفات تسدّ النقص الذي أُعاني منه كفصاحة اللّسان ونحوها، {وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ} فقد قتلت شخصاً منهم {فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ} ثأراً له.

ونتساءل: هل هو استعفاءٌ من موسى (عليه السلام) وهروبٌ من تأدية الرسالة على أساس نقاط الضعف الذاتية التي تحدّث عنها، وعن المخاوف التي تطوف في ذهنه أمام القيام بهذه المهمّة الصعبة؟ وكيف يرفض رسالة الله إليه، وكيف يهرب من مسؤوليّته؟ والجواب: إنّ المسألة ليست مسألة استعفاء وهروب ورفض، بل هي مسألة شعور بالحاجة إلى المساعد والمعين بالنظر إلى المشاكل التي تنتظر المهمّة والمخاوف التي تحيط بها. وبذلك فإنّه يبحث عن الوسيلة التي تحقّق للرسالة قوّتها وسلامتها، ولذلك لم يطلب من الله إعفاءه من الرسالة، بل طلب مشاركة هارون له في ذلك.

{قَالَ كَلَّا} لن ينالوا منكما بسوء، لأنّ الله سوف يحميكما من بطشهم بحمايته، فتقدّما معاً إلى فرعون وقومه، {فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا} التي ستقهر موقفه وموقفهم، فلن تذهبا مجرّدين من السلاح، بل تكون الآيات المعجزة الدالّة على العمق الإلهي للرسالة هي السبيل إلى هزيمة جبروته، {إِنَّا مَعَكُم مُّسْتَمِعُونَ} في إيحاء إلهيٍّ بالرعاية المباشرة من الله لهما، فلا مجال للخوف من سطوة فرعون، لأنّ الله ربّ العالمين يشرف من موقع علمه وقدرته المطلقة على الساحة كلّها، فهو يسمع كلّ الكلمات ويعرف كلّ نتائجها ومداليلها، فعليهما أن يطمئنّا ويأمنا، وعلى الجميع أن يدركوا قوّة الموقف الذي يملكه موسى في مواجهة فرعون أمام قوّة الله سبحانه الذي يمنحهما قوّة التحدّي.

{فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قولا له إنّ صفتكما التي تقابلانه بها، ليست صفة الأتباع الذين يطلبون بركته، ويتطلّعون إلى عظمته، ويتحرّكون طوع إرادته، بل هي صفة رسول ربّ العالمين، التي توحي بالقوّة والرهبة، والعلوّ المهيمن على الموقع والكلمة والسلطة، فهناك ربّ العالمين الذي يملك الأمر كلّه، والحياة والموت بيده، فلا موجود غيره إلاّ وهو مخلوق له ومفتقرٌ إليه، وخاضعٌ لسلطانه، وعبدٌ له، وخاشعٌ أمامه، ونحن هنا نتحدّث إليك باسمه لأنّنا نحمل رسالته.

وجاء التعبير بالمفرد، بدلاً من المثنى، إمَّا باعتبار كلّ واحدٍ منهما، أو باعتبار وحدة الرسالة، أو على أساس أنّ الرسول مصدر في الأصل، فالأصل أن يستوي فيه الواحد والجمع.

                           *****

معنى المطالبة بإرسال بني إسرائيل في بداية المواجهة؟

{أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} لأنّ الله أراد أن يخرجهم من استضعافهم الذي فرضته عليهم، لتدعم ملكك باستغلال قوّتهم التي تحرّكها في خدمتك وخدمة مشاريعك لتكون أنت القويّ من خلال قوّتهم، ثمّ لترتد عليهم لتستضعفهم على هذا الأساس، بما توحي إليهم بالأسرار المقدّسة التي تختزنها شخصيتك بالطاعة المطلقة التي يفرضها موقعك، وبما تخنق به وعيهم بأضاليلك كما يفعل الطغاة من أمثالك في تضليل الشعوب وتجهيلهم من أجل أن يكون ذلك سبيلاً للسيطرة عليهم، فيستسلمون لك باعتبار أنّك وليّ النعمة، في الوقت الذي يكونون فيه هم أولياء نعمتك، في ما أعطوك من ثروةٍ وقوّةٍ وسيطرة.

ولكن، لا بدّ من أن نضع حدّاً لذلك، لأنّ المستضعفين لا بدّ من أن يأخذوا بأسباب الوعي ويتخلّصوا من مواقع التخلّف ويفهموا طبيعة الظروف المحطية بهم، والقدرات التي يملكونها، ليعرفوا ماذا يريدون، وماذا يُراد بهم وما هي حقوقهم، وما هي مسؤوليّاتهم، ليتحرّكوا من مواقع الحريّة. ولن يستطيعوا الوصول إلى هذا المستوى من الوعي والمسؤولية والحركة إلاَّ إذا خرجوا من هذه الأجواء وتخلّصوا من هذه الظروف واستبدلوا بها أجواءً جديدةً وظروفاً مميّزة حتى يتنفّسوا الهواء الطلق البعيد عن الوباء والعفونة، الذي يغتسل بشروق الشمس من جميع جوانبه، فتنفذ إليه ليتعرّفوا معنى الحرية في حركته. ولذلك، فإنّ المطلوب هو أن ترسلهم معنا، لأنّنا سوف نفتح عيونهم على الحياة من خلال الله ورسالته، ليكونوا جيل الدعوة إلى الله، والعمل في سبيله، والمدافعين عن قضية العدل في الكون، في مواجهة مسألة الظلم في ساحات الظالمين، لأنّ الذين عاشوا تجربة الظلم، هم من أكثر الناس معرفة بالبشاعة التي تتمثّل بالظلم، وبالجمال الرائع الذي يتحرّك في شخصية العدل.

وقد نلاحظ أنّه كيف يكون الطلب الذي يقدّمه رسول ربّ العالمين هو إرسال بني إسرائيل معه لا الرسالة الموجّهة إلى فرعون وقومه؟ ولكن هذه الملاحظة تزول إذا عرفنا أنّ ذلك هو الأسلوب الذي يراد به الإيحاء بالقوّة، ليكون المدخل للحديث عن ربّ العالمين وعن معنى التوحيد، وعن الرسالة التي تتحرّك في حياة العالمين جميعاً، في مفاهيمها وشرائعها، كما سنجده في ما نستقبله من آيات وممّا قدّمناه في ما سبق منها.

                           *****

ماذا نستوحي من هذا الأسلوب؟

وقد نستطيع أن نستوحي من هذا الأسلوب، كيف يمكن للداعية أن يبحث عن المدخل للحديث عن الفكرة، وتوجيه الحوار إليها، من خلال المفردات الواقعية المثيرة للاهتمام التي تدعو إلى إثارة كثيرٍ من علامات الاستفهام حول الركائز التي ترتكز عليها هذه الأمور، وإلى الدخول في جدل حولها، في ما تمثّله من مشاكل الساحة، أو الناس الذين يعيشون فيها. فقد لا يكون من الضروري ـــ دائماً ـــ أن نثير القضايا بشكلٍ مباشر، إذ ربّما كان التفكير العام غير معنيٍّ بها في الأساس لعدم وجود ظروف ملائمة لذلك من ناحيةٍ نفسيةٍ وعمليةٍ، ما يجعل من البحث عن موضوعٍ مثيرٍ، أمراً يحرّك الحديث عن أكثر الأمور اهتماماً وحساسيةً وواقعيةً.

                           *****

فرعون يذكّر موسى بنعمه عليه:

{قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ} فنحن نعرفك منذ كنت طفلاً رضيعاً، وقد عشت معنا كما يعيش الولد في أحضان أهله، فهم يعرفون نقاط ضعفه، وطبيعة موهبته، ومدى إمكاناته الفكرية، وتطلُّعاته الروحية، وعلاقاته، ومواقعه، فمن أين جاءتك هذه الأفكار المثيرة، وكيف حدث لك مثل هذا الحدث العجائبي الذي تدَّعي وجوده في شخصيتك ما لم نلمح له أيّ أثر لديك في ملامح تطوّرك ونموّك على مستوى المعرفة والسلوك؟! فلست إلاّ واحداً من هذا الشعب الضعيف المسحوق الجاهل، الذي يدين بنعمته لمواقع الألوهية عندنا؛ {وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ} في قتلك للإنسان القبطيّ الذي يتميَّز بأصله وطبقته عليك ما يؤكّد وجود طبيعة الجريمة في تفكيرك وأخلاقك، بالإضافة إلى نزعة الفساد والإفساد الاجتماعي في سلوكك العملي، فخلقت لنا المشاكل الأمنية من دون مبرّر، ولم ترع حرمة التربية والرعاية التي منحناك إيّاها، {وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} بالنعمة التي أغدقناها عليك، فكيف يتناسب ذلك مع ما تدّعيه من الرسالة التي تستهدف الصلاح والإصلاح والخر والفلاح للنّاس كافّة؟ وكيف يكون رسولاً من يكفر بنعمة سيّده الذي ربّاه وأنعم ع ليه بعد أن أنقذه من الهلاك؟

كيف اعترف موسى (عليه السلام) على نفسه بالضلال؟

{قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} أي من الجاهلين بالنتائج السلبية التي تترتّب عليَّ ما أدّى إلى أكثر من مشكلةٍ اعترضت حياتي وأبعدتني عن أهلي وبلدي، مع أنّ القضية كانت تحلّ بغير ذلك، فلم أفعلها في حال الرسالة، لتكون تلك نقطةً سوداء تسجّلها عليّ في موقعي الرسالي، بل فعلتها قبل أن يلهمني الله الهدى المتحرّك في خط ّالرسالة، عندما كنتُ ضالاًّ لم أحدّد لنفسي الطريق الواضح المستقيم المنطلق من قواعد الشريعة المنزلة القائمة على التوازن في ما يصلح الإنسان أو يفسده. وبذلك نستوحي من الفقرة في الآية، أنّ الضلال ليس بالمعنى الوجودي المضادّ الذي يعبّر عن الانحراف، بل بالمعنى السلبي المعبّر عن عدم معرفة طريق الهدى، الذي يضيء به عمق الأمور على أساس المصلحة الحقيقيّة للإنسان.

                           *****

القرآن يثير نقاط الضعف البشري في الأنبياء:

وفي ضوء ذلك، نفهم كيف يرينا القرآن الكريم نقاط الضعف البشري قبل النبوّة من شخصية النبيّ، عندما كان بعيداً عن الاهتداء التفصيلي بالشريعة والمنهج، خلافاً للفكرة المعروفة لدى الكثيرين من العلماء الذين لا يوافقون على أنّ النبيّ يمكن أن يضعف أمام عوامل الضعف الذاتي قبل النبوّة أو بعدها، حتى في ما لا يشكل معصية أو انحرافاً خطيراً عن الخطّ المستقيم.

وهكذا واجه موسى الموقف بشجاعة الاعتراف بما فعله قبل أن يبعث بالرسالة ويهتدي بالحقّ من خلال الوحي النازل من الله، فلم يسقط أمام التحدّي الذي وجّهه فرعون للرسالة على أساس ما وجّهه لشخصه من عمل سابقٍ، بل أكّده في مواقعه الذاتية، قبل الرسالة، أي قبل أن ينزل عليه الهدى الذي يدعو إليه الناس الآن، فارتكب ما ارتكبه في الجوّ الذي لو كان في الموقع الذي هو فيه الآن لما فعله، لا لأنّه فعل حراماً، فلم يكن متعمّداً للمسألة، وربّما كان الشخص يستحقّ القتل، بل لأنّه لم يكن ضرورياً بالمستوى الذي وصلت إليه القضية في نتائجها السلبية على مستوى حياته الشخصية في ما أدّت إليه من إرباك وتعقيد.

{فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ} خوفاً من أن تقتلوني جزاءً لما فعلته، وتشرّدت مدّة طويلةً من الزمن، {فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً} في ما ألهمني من الحقّ، وما أوحى به إليّ من النور الذي يضيء لي وللنّاس الطريق المستقيم الذي يكفل السلامة لمن سار فيه واهتدى بهداه، {وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ} الذين يحملون مسؤولية الدعوة إلى الله والعمل في سبيله، والإعلان بكلمة الحقّ الصارخ أمام الناس أجمعين ممّن كان في أعلى درجات السّلم الاجتماعي أو في أسفلها أو في وسطها.

ولماذا تستغرب أن يكون لي هذا الموقع الرسالي، فتحاول أن تستذكر طفولتي التي عشتها معكم؟ فهل قضيةٌ ذاتيّةٌ أو اكتسابيّةٌ لتتلمَّس ملامحها ـــ سلباً أو إيجاباً ـــ في حياتي الخاصة التي كنت تعرف قسماً منها، أو هي قضيةٌ ربّانيةٌ متحرّكةٌ من وحي الله ولطفه ورحمته؟ ثمّ كيف تكون التربية الأولى أساساً للحكم على الشخصية بعد غياب طويل، وسنين عديدة، قد يحصل الإنسان فيها على معارف جديدة ومواهب عالية تؤهّله لأكثر المواقع تقدُّماً في الحياة، ما يجعل منطقك بعيداً عن التوازن والتركيز والواقعية؟

{وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ} وجعلتهم عبيداً تستخدمهم في سبيل ملكك وتقوية سلطانك، وتقهر إنسانيّتهم بمصادرة حريّتهم ليتحوّلوا إلى أدواتٍ مقهورةٍ لتلبية رغباتك وتحقيق مرادك، في ما تحبّه وما لا تحبّه.

وقد يتساءل الإنسان: كيف يتحدّث موسى عن شيءٍ لم يسبق الحديث عنه في حواره مع فرعون؟ وقد يجاب عن ذلك بأنّ تذكيره بأنّه كان قد تربّى في بيته، يحمل بعض الإيحاء بأنّه جزءٌ من هؤلاء القوم الذين يتقلّبون في نعمته ويخضعون لسطانه، تماماً كما هو متاع البيت وأثاثه. ثمّ حديثه عن كفره للنعمة، نوع من التذكير بالنِّعم التي كان يغدقها على قومه وعليه. ويمكن أن يكون الحديث بهذا الأسلوب منطلقاً من كلام لم ينقله القرآن، ممّا جرى التداول عليه، ليكون الجواب دليلاً على ذلك.

 

وقد نجد في هذه الكلمة القوية الحاسمة المتحدّية، الردّ على الروح المتعالية التي يحملها الطغاة في نظرتهم إلى ما يقدِّمونه لشعوبهم من موارد استهلاكية وحاجاتٍ معيشية، في دائرة الحصار الذي يطبق على حريّتهم في ما يريدونه للشعوب أن تتحوّل إلى أدواتٍ صمّاء عمياء لأطماعهم وأغراضهم، وللوصول إلى غاياتهم الظالمة. وهنا تأتي الكلمة الرسالية لتقول لهؤلاء إنّ مسألة الحريّة هي أغلى من كلّ المتع والمنافع التي يقدّمها السادة للعبيد، لأنّ الحرية تعني الارتفاع بالإنسانية إلى المستوى الأعلى في رحاب الحياة، بينما العبودية تعني الانحطاط بإنسانية الإنسان إلى أسفل دركات الحياة. ولهذا فإنّهم يرفضون الشبع مع العبودية ويفضّلون الجوع مع الحرية على ذلك كلّه. إنّها كلمة ثورة الحريّة المنطلقة من روح القيادة الرسالية في مواجهة الظلم والطغيان.

                           *****

20 ـــ تجربة النبيّ موسى في الدعوة والقيادة:

{وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ*وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ*وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ*ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ*وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ*وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 49 ـــ 54].

                           *****

معاني المفردات:

{يَسُومُونَكُمْ}: يكلّفونكم ويذيقونكم، وقيل معناه: يديمون عذابكم.

{وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ}: أي يتركونهنَّ أحياءً للخدمة من غير أن يقتلوهنّ؛ فالاستحياء: طلب الحياة.

{بَلاءٌ}: البلاء والنعمة والإحسان نظائر في اللّغة، ويستعمل في الخير والشرّ.

{فَرَقْنَا}: شققنا.

{وَاعَدْنَا}: واعده مواعدة: عاهده على أن يوافيه في وقت وموضع معيّنين.

{بَارِئِكُمْ}: البارئ: الخالق، من برأ يبرأ برءاً، وأصل البرء: انفصال الشيء من الشيء، ومنه برأ الله الخلق، أي فطرهم كأنّهم انفصلوا من العدم إلى الوجود.

                           *****

{وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ} هذه إحدى النِّعم التي أنعمها الله على بني إسرائيل، فقد كانوا يرزحون تحت حكم الطغيان الفرعوني الذي كان يعمل على إبادة رجالهم بكلّ وسيلة مهما كانت وحشية قاسية، فقد كان يذبح الأولاد الذكور الذين يولدون خوفاً من أن يكونوا قوّة مضادة، ويبقي النساء لحاجته لهنَّ في خدمته وخدمة قومه. وقد ذُكر في كلمة "يستحيون" وجهان:

الأوّل: أنّها مشتقة من الحياة بمعنى أنّهم يطلبون الحياة لهنَّ.

الثاني: أنّها مشتقة من الحياء أو الاستحياء، بمعنى أنَّ الحياء يبعثهم على الإبقاء عليهنّ بعلاقة المجاز، لأنَّ الاستحياء يمنع الإنسان عن عمل ما يستحي منه عادة.

وهناك أحاديث متعدّدة لا نستطيع الوثوق بها لإمكان أن تكون مستمدّةً من بعض رواة اليهود الذين جعلوا من أنفسهم مفسّرين للقصص القرآني، وهو ما نسمّيه بالإسرائيليّات، ولا مانع من أن يكون لها نصيب من الواقع في بعض الحالات. وعلى كلّ حال، فإنّها قد تعطينا ظلالاً على الأجواء التي تحدِّثنا عنها الآية الكريمة، وذلك ما نحتاجه من القصص القرآني، فإنّنا لسنا في حديث يربطنا بالتاريخ من خلال التفاصيل، بل نحن في حديث يربطنا بالعبرة الحيّة من خلال التاريخ، وبذلك فلا نخضع للقصص المروية في استيحاء الآيات القرآنية، بل نعمل على أن نعيشها ونحاكمها في الأجواء التي نستوحيها من الآية في قراءتنا لها.

وخلاصة ما ترويه هذه الأحاديث، أنَّ فرعون رأى في منامه أنّه سيموت على يد شخص من بني إسرائيل، فأراد أن يعطّل مفعول المنام في المستقبل بإفناء كلّ الذكور منهم وذلك بقتل كلّ وليد ذكر، الأمر الذي أدّى ـــ كما تقول القصّة ـــ إلى أنَّ قومه ضجّو إليه، فقالوا له: يوشك أن نفقد العمّال ونكلّف نحن بالعمل، لأنَّ بني إسرائيل كانوا يمثّلون اليد العاملة في ذلك المجتمع، فبادر إلى ذبح أبنائهم سنة وتركهم سنة. وربّما كانت قصّة ولادة موسى وإلقاء أُمّه له في البحر دليلاً على صدق بعض هذه التفاصيل في القصّة.

وربّما كان الأساس في هذا السلوك الفرعوني، خوف الفراعنة من تكاثر هؤلاء المستضعفين من الناحية العدديّة، وتطوّرهم في قوّتهم النامية، بحيث يتحوّلون إلى خطر يتهدّد ملكهم وجبروتهم؛ الأمر الذي يفسّر ذبح الأولاد الذين هم شباب المستقبل القوي ورجاله، بينما لا تمثّل النساء أيّ عنصر قوّة اجتماعي أو اقتصادي أو عسكري، ولا سيّما في ذلك الزمان، بل ربّما يُحتاج إليهنَّ كقوّة عاملةٍ للخدمة في تقوية ملك الفراعنة.

{وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ} الذين كانوا يستعبدونكم ويضغطون على حريّتكم، فلا يملك أحدٌ منكم أمامهم أي حول أو قوّة، فلا يستطيع الدفاع عن نفسه أو حماية وجوده، فكانوا {يَسُومُونَكُمْ} أي: يذيقونكم {سُوَءَ الْعَذَابِ} أي العذاب السيّئ الشديد في وحشيته وقسوته، في استخدامهم لكم في أعمالهم العمرانية والزراعية والخدماتية، وفي فرض الجزية عليكم من دون أساس. ويشتدّ ذلك ويتعاظم في صورة أكثر قسوة ووحشية، فهم {يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ} ولا يبقى منكم في المستقبل شباب يملكون القوّة ورجال يعملون من أجل الحريّة، كوسيلة من وسائل مصادرة وجودكم القوي في المستقبل {وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ} فيبقونهنَّ للخدمة وللّذّة ولغير ذلك. {وَفِي ذَلِكُم بَلاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ} لأنّه يمثّل الموت الجسدي للذكور والموت المعنوي للإناث. وقد نجّاكم الله من ذلك كلّه ببركة موسى (عليه السلام) الذي جاهد في رسالته جهاد الأبطال من أجل حريّتكم، التي هي رمز حريّة الإنسان المستضعف.

وقد جاءت هذه الآية لتقول لهم ـــ للبقيّة الباقية منهم ـــ في زمن النبيّ محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): إنَّ الله قد رفع عنكم هذا البلاء العظيم بفضل موسى (عليه السلام) ورسالته، وأنعم عليكم بنعمة الامتداد في الحياة بعيداً عن كلّ طغيان مدمّر وحشي، فلماذا لا تشكرون؟

                           *****

ضرورة استحضار الله في كلّ شيء:

ويمكن لنا أن نستوحي هذه النعمة في كلّ موقف يقفه أفراد أيّ شعب من الشعوب تحت سلطة الحكم الظالم الذي يقهرهم، ويضطهدهم، ويقتل الأبرياء من أبنائهم، ويستغلّ خيراتهم وثمراتهم، ويكبت حريّاتهم، ويعطّل طاقاتهم عن الحركة والانطلاق، وذلك عندما يرتفع عنهم هذا الكابوس الثقيل بما يصنعه الله لهم من الظروف والأوضاع والوسائل الداخلية والخارجية، فلا بدّ لهم من الوقوف أمام ذلك موقف المؤمن الواعي الشاكر لنعمة الله، عندما يلتفت ـــ بعمق ـــ إلى ألطاف الله وآلائه، في تيسير ذلك كلّه بشكلٍ مباشر، فيواجهون الحياة من موقع إرادة الله الأصيلة العميقة  في الأشياء، لا من موقع الأسباب الظاهرية فقط، لأنَّ ذلك ما يربطهم بالله دائماً من خلال الوعي الأعمق والفهم الأرحب، فلا يتصوّرون شيئاً إلاّ ويرون الله معه، ولا يواجهون شيئاً إلاّ ويرون الله خلفه.

                           *****

إغراق آل فرعون وإنجاء بني إسرائيل:

{وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ} هذه هي النعمة الثانية التي أنعمها الله عليهم، وذلك في صورة المعجزة، فقد خرج موسى ببني إسرائيل ليخلّصهم من طغيان فرعون، بعد أن أعيته الوسائل الطبيعيّة التي حاول من خلالها إقناع فرعون بالسماح لهم بالخروج معه، حتى إذا عرف فرعون بذلك، لحقهم بجنوده ليمنعهم من التقدُّم. وهنا كانت المفاجأة الإلهية التي أنقذت الموقف بمعجزة حطّمت كبرياء فرعون، كما استطاعت أن تحطّم زهوه في معجزة العصا، فشقّ الله البحر لموسى وقومه وفتح لهم طريقاً يابساً ـــ كما يحدّثنا القرآن في ما نستقبله من آياته ـــ وعبروا إلى الجانب الآخر، وأراد فرعون أن يلحقهم في هذا الطريق اليابس نفسه الممتد أمامه بعد عبورهم، فدخلت خيوله البحر فغمره الماء الذي غطّى الطريق، وهم ينظرون إليه في حيرته الذليلة، زيادةً في إذلاله وفي إعزاز المستضعفين الذين انطلقوا في طريق الرسالة والرسول.

إنَّ الموقف قد تحرّك هنا من خلال المعجزة، لأنَّ الوسائل العادية قد استُنفدت، ولم يبقَ هناك من سبيل لإنقاذ الموقف الرسالي إلاَّ ذلك، فلو أنَّ فرعون استطاع أن يدركهم لدمّرهم ودمّر موسى معهم، ممّا يجعل القضية تمثّل انتصاراً ساحقاً للكفر على الإيمان، وهذا ما لا يريده الله في تلك المرحلة التي تحوّلت إلى موقف للتحدّي المباشر له.

{وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ} أي: فلقناه وجعلنا فيه جسراً تعبرون عليه هرباً من عدوّكم، {فَأَنجَيْنَاكُمْ} من ظلم فرعون وطغيانه، {وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ} الذين خُيِّل إليهم أنّهم قادرون على ملاحقتكم، من خلال الأرض اليابسة التي جعلها الله بقدرته في قلب البحر، فاندفعوا إليه، واندفع الماء إليهم، فغمرهم بعد أن تجاوزتم البحر إلى البرّ، {وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ} إليهم، وهم يلاقون جزاء طغيانهم في مصيرهم المحتوم.

وتلك هي قصّة المعجزة في كلّ زمانٍ ومكانٍ في مسيرة النبوّات، فهي تأتي لتنقذ الموقف حيث لا مجال للموقف البديل، وهي ليست حدثاً يومياً يأتي بمناسبة وبغير مناسبة، كما قد توحي بذلك بعض الأقاصيص المنقولة في قصص الأنبياء والأئمّة والأولياء، فإنَّ الله قد أقام الحياة على أساس السنن الطبيعيّة التي أودعها في الكون، فلا يغيّر سننه الطبيعيّة إلاَّ لأمرٍ عظيم.

                           *****

عفو الله عن بني إسرائيل بعد عبادتهم العجل:

{وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ*ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} هذه هي الحادثة الثالثة التي واجه الله بها بني إسرائيل في مجال تعداد ممارساتهم السيّئة أمام نعمه عليهم، فقد أراد لهم أن يبدأوا حياةً جديدةً في ظلّ شريعةٍ شاملة تنظّم لهم حياتهم، وترعى لهم شؤونهم وعلاقاتهم، وتفتح لهم أبواب الحياة الواسعة على أساس من الحكمة والمصلحة. وفي هذا الجوّ، استدعى الله موسى لميقاته ليُنزِل عليه التوراة في مدى أربعين ليلة؛ وهنا كانت المفارقة ـــ المفاجأة، فلم يكد موسى يغيب عنهم حتى نسوا الرسالة والرسول، ونسوا الله سبحانه، فعبدوا العجل في قصّة طويلة سيذكرها القرآن أكثر من مرّة، ولم ينفتحوا على الآفاق الواسعة التي أراد الله لهم أن ينفتحوا عليها، لينطلقوا إلى العالم كحَمَلةٍ للرسالة الشاملة، فيكون لهم المرز الكبير في ظلّ هذه الرسالة.

ولكنّ الله لم يعاملهم بظلمهم، بل عفا عنهم ليفسح لهم المجال للتراجع ولتصحيح الفكر والمسيرة، ليهيّئ لهم الجوّ الروحي والنفسي الذي يعينهم على الرجوع إليه والشكر له على نعمائه من ناحية عملية.

{وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} ليتلقّى الوحي الإلهي الذي فيه الهدى للنّاس في كلّ قضاياهم العامة، في مسؤوليّتهم اتجاه أنفسهم، واتجاه الناس من حولهم، واتجاه الحياة المحيطة بهم، بالإضافة إلى مسؤوليّتهم في عبادة الله. {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ}، فرجعتم إلى السلوك الوثني الذي يعود إلى تاريخكم المنحرف في حياتم مع فرعون، ما يوحي بأنّكم لم تنفتحوا  على الرسالة الإلهية التوحيديّة من موقع العمق الفكري والروحي والاستقامة العملية، {وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ} لأنفسكم من خلال النتائج السلبية للوثنية الجديدة في الدنيا والآخرة. {ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ} لتعودوا إلى الخطّ المستقيم واليقظة الروحية في حركة التوبة النفسية والإخلاص العملي، {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} الله على هذه النعمة التي فتحت لكم الفرصة الجديدة للعودة إلى التوازن في طاعة الله ومرضاته.

وإذا كان الخطاب موجّهاً لليهود المعاصرين للنبيّ محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) الذين لم يعبدوا العجل، فذلك لاعتبارهم امتداداً لأولئك كفريق واحد يمتدّ في الحاضر من خلال امتدادات التاريخ، ما يجعل الخصائص التاريخيّة لأسلافهم بمثابة الخصائص الذاتية لهم.

 

إنزال الكتاب والفرقان على موسى:

{وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} يثير الله، في هذه الآية، أمام بني إسرائيل مسألة إنزال الكتاب والفرقان كنعمة عظيمة من النعم الكبيرة التي يمنّ الله بها عليهم، باعتبار أنّه سبيل الهداية إلى الحقّ؛ الأمر الذي يوحي بأنَّ الاهتداء إلى الطريق القويم نعمةٌ عظيمة كبيرة، وأيُّ نعمة أعظم من النعمة التي تفتح للإنسان مجالات الحياة السعيدة الرخيّة المرتكزة على قاعدةٍ ثابتةٍ من المبادئ الحقّة والقِيَم الكبيرة، وتسيِّره نحو المصير الآمن الذي لا يخاف فيه شيئاً، وتجعله يسير في النور عندما يفكّر وعندما يعمل أو يتعاون مع الآخرين.

والظاهر أنَّ كلمة الفرقان، التي تعبِّر عن الفارق بين الحقّ والباطل، تعتبر تفسيراً لكلمة الكتاب، على سبيل العطف التفسيري الذي يُراد به توضيح الصفة العلمية للكتاب.

{وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ} الذي يفصل بين الحقّ والباطل في مفاهيمه وشرائعه ومناهجه، بحيث يحقّق لكم الثقافة الواعية التي تعرف حدود الأشياء في سلبياتها وإيجابيّاتها. {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} بآياته في إيحاءاتها وأفكارها وخطوطها الواضحة للمسيرة الإنسانية في الحياة.

                           *****

التركيز على الجانب المعنوي في الرسالات:

ونستوحي من هذه الآية أنَّ على الدُّعاة أن يركّزوا على طبيعة النِّعَم التي أنعم بها الله على الإنسان، فلا يقتصروا على النّعم الحسيّة التي يمارس الإنسان من خلالها شهواته ولذّاته ومطامحه الذاتية، بل يثيروا أمامه النّعم التي تتّصل بفكره وخطواته العملية ومصيره في الدنيا والآخرة، في ما يتّصل بقضايا الحقّ والباطل من القِيَم الروحية والإنسانية الكبرى، التي ترتفع بمستوى الإنسان الروحي والاجتماعي. وسنجد في الآيات القرآنية المقبلة كثيراً من هذه اللّفتات التي تركّز على الجانب المعنوي في النّعم المعنوية، كما تؤكّد الجانب المادي في النّعم المادية، ممّا يدخل في طبيعة تكوين الشخصية الإسلامية التي يمتزج فيها الجانب الروحي بالمادي من دون ازدواجية أو انفصال.

ولعلَّ القيمة في هذا التوجيه التربوي، هي أنّه يمنح الإنسان المسلم شعوراً بالغبطة والسعادة أمام الصعوبات والتحدّيات التي تواجهه في مسيرته نحو إقرار شريعة الله في الحياة، باعتبار أنّها لا تعني شيئاً أمام نعمة الله في التشريع المرتكز على أساس الحقّ والعدل في جميع جوانب الحياة المادية والروحية، ويخلّصه من كثير من سلبيات الطريق الصعبة.

                            *****

خطورة التمرّد والموقف الحاسم:

{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} لم يترك موسى القصة من دون عقاب، لأنّ القضية ليست قضية طارئة بسيطة، بل هي من القضايا التي تهدّد المسيرة في مجتمعها الذي يمكن أن يتلاعب به أي إنسان منحرف بفعل بعض الأساليب الشيطانية الخادعة، ما يجعل الجبهة مفتوحة أمام كلّ القوى المضادة في أيّ موقف من مواقف الصراع؛ فأراد أن يثبِّت الموقف بتعميق الإحساس بالذنب في نفوسهم، باعتباره ظلماً للنفس وإساءةً لها بتحويلها من خطّ الإيمان إلى خطّ الكفر، وتعريضها للعقوبة في الدنيا والآخرة، وذلك هو أبشع أنواع الظلم.

وكانت الخطّة ـــ في ما توحي به الآية ـــ أن يدعوهم إلى التوبة ولكن بطريقةٍ جديدة مُرعبة، وهي أن يقتلوا أنفسهم، إمّا بأن يقتل كلّ واحد نفسه، وإمّا بأن يستسلم بعضهم لبعض، حسب اختلاف فهم المفسّرين؛ ويروون في هذا المجال، أنَّ موسى أمرهم بأن يقوموا صفّين ثمَّ أن يغتسلوا ويلبسوا أكفانهم، وجاء هارون باثني عشر ألفاً ممّن لم يعبدوا العجل ومعهم الشفار المرهفة لتبدأ عملية القتل، فلمّا قتلوا سبعين ألفاً تاب الله على الباقين وجعل قتل الماضين شهادةً لهم.

وإذا أردنا أن نأخذ بظاهر هذه الآية، ونحمل القتل على معناه اللّغوي، فقد يكون السبب في هذه العقوبة الصعبة أنَّ الموقف يمثّل أوَّل تمرّد للقوم على النبوّة، في بداية تحرّكها العملي، من أجل الانتقال من دور الدعوة والتبليغ إلى دور التنظيم والتشريع، والاتجاه إلى بناء الفرد والمجتمع على أساس المفاهيم الدينية الجديدة التي أوحى الله بها إلى موسى في صيغة تشريعية متّصلة لا تترك أيّ مجال للفراغ الفكري والعملي، فكان لا بدَّ من موقف يساوي حجم التمرّد، ليكون ضربةً قوية للطبيعة المتمرّدة التي بدأت تحكم مسيرة الدِّين الجديد في مجتمعه، وليمنع حدوث أيّ تحرّكٍ أو تصرّفٍ من هذا القبيل، لأنَّ الموقف مرتبط بالتوبة، فلا مجال لها إلاّ بهذا الأسلوب الصعب، إذ إنَّ هناك فرقاً بين خطأ ينطلق من الغفلة والجهل والاندفاع العفوي، وخطأ ينطلق من موقع التمرّد والجحود مع وعي الموقف كلّه وما يترتّب عليه، لا سيّما مع وجود هارون واحتجاجه عليهم ومواجهته الموقف بكلّ قوّة.

وقد أثار بعض المتكلّمين من المفسّرين جدالاً كلامياً فلسفياً حول علاقة هذه العقوبة باللّطف الإلهي، ومدى انسجامها مع مفهومه الذي يرتبط بالمستقبل لا بالماضي. ونحن لا نريد الخوض كثيراً في هذا الموضوع، ولا نظنّ وجود مشكلة في أساس القضية، لأنّ الذي أثاروه يتّصل بقضية اللّطف في موضوع التكليف الشرعي، الذي يقصد من خلاله دفع المكلّف إلى الطاعة وإبعاده عن المعصية، ما يقتضي تسهيل الفعل عليه بالمستوى الذي لا يقع فيه المكلّف في مشقّة وحرج غير عادي، أمّا القضية هنا، فإنّها تتّصل بالعقوبة على المعصية، وهي حقّ الله يضعه أين يشاء وكيف يشاء، ونحن لا نعقل فرقاً بين الأمر للقاتل بالاستسلام لوليّ المقتول ليجري عليه القصاص وبين هذا الأمر الموجود في هذه الآية، كما لا نجد فرقاً بين عقوبة الدنيا وعقوبة الآخرة، فلا استبعاد ولا مخالفة لرحمة الله وعدله وحكمته.

وربَّما يلوّح للبعض أنّ القتل هنا لم يرد بمعناه الحقيقي، وهو إزهاق النفس، بل المراد منه قتل شهواتها المحرّمة وصفاتها الذميمة وأوضاعها السيّئة، تماماً كما يعبّر بعض المرتاضين الروحيين عنه بإماتة النفس، ويقصد بذلك إماتة كلّ شهوة أو كلّ اندفاع للشهوة المحرّمة فيها، وقد يؤيّد ذلك باعتباره أسلوباً من أساليب التوبة التي توحي بالندم على ما مضى والعزم على تصحيح المسيرة في المستقبل، ما يفرض وجود مجالٍ بعد التوبة، وربّما يجد هذا البعض في إلحاق صفة الرحيم بالتوّاب ما يوحي بأنَّ الموقف يتناسب مع الرحمة الإلهية في مفهوم العاصي، ممّا لا ينسجم مع الأمر بالقتل.

أمّا تعليقنا على ذلك، فهو ما ألمحنا إليه في حديثٍ سابق، وهو أنَّ الخطّ التفسيري الذي نسير عليه، هو العمل بظاهر القرآن في ما توحيه طبيعة الكلمة في معناها الموضوع لها أو في القرائن المحيطة بالكلمة، إلى أن يثبت خلاف ذلك من عقل أو نقل، ونحن لا نجد في ما ذكره هذا البعض دليلاً على إرادة خلاف الظاهر، لأنَّ من الممكن أن تكون التوبة بالاستسلام للقتل نظير القصاص، ولا ضرورة لوجود مجال للحياة في المستقبل، لأنَّ الحدود الشرعية في حالة القتل أو الزنى للمحصن أو غير ذلك تعتبر وسيلةً للتوبة وللتطهير، أمّا موضوع الرحمة، فقد تكون متّصلة بقبوله التوبة وعدم إغلاق وسائلها بوجه الإنسان.

                           *****

محاورة موسى لقومه حول سلوكهم المنحرف:

{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ} وهو يحاورهم حول السلبيات السلوكية الصادرة منهم في انحرافهم العملي، ليثير فيهم الشعور بعقدة الذنب الذي قد يؤدّي بهم إلى القيام بعملية التصحيح والعودة إلى خطّ الاستقامة في خطّ الرسالة في الفكر والعمل {يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ} وورّطتموها في السير بها إلى مواقع الهلاك الأخروي، وذلك بحركة التمرّد على الخطّ التوحيدي في العبادة لله {بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ} معبوداً بعد أن بيّنت لكم الأُسس العقيدية التي يرتكز عليها التوحيد في الالتزامات العملية المتحرّكة في دائرة الالتزام الفكري في توحيد الله، وذلك بإخلاص العبادة لله وعدم الإشراك به في هذا المجال. {فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ} أي خالقكم الذي يملك كلّ وجودكم، الذي هو سرّ النعمة الكبرى في إنسانيّتكم، ما يفرض عليكم العودة إليه بعد الرحلة الضالّة في الابتعاد عنه، فذلك هو الأمر الطبيعي الذي تفرضه طبيعة الأشياء التي تقتضي عودة الإنسان إلى مبدع وجوده، ليحصل على رحمته ويمتدّ معه في نعمته، وليعبّر بذلك عن شكره وانقياده له، ولا سيّما أنّ الأمر بالتوبة ليس أمراً شخصياً من موسى، بل هو من خلال صفة الرسالة التي تجعل أمره صادراً من الله. وفي التعبير بكلمة: "بارئكم" إشارة إلى عمق الموضوع، للإيحاء بالمعنى الذي يوحي للإنسان بضرورة الانضباط في خطّ التوبة. {فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ} كعقوبة حاسمة للواقع الشركي الذي ابتعدتم فيه كثيراً عن الخطّ التوحيدي المستقيم، فتمرَّدتم على الله ونسيتم نعمه، ورجعتم إلى الوثنية المتخلّفة التي انطلق كلّ الجهاد ضدّ فرعون من أجل تحريركم منها، لأنَّ القضية في حركة الرسالات التوحيدية، ليست هي في تحرير الإنسان من الوثنية الخارجية المتمثّلة في الحجر أو البشر الذي يعبده الناس من دون الله، بل هي في تحريره في ذهنية الصنميّة، بحيث لا يبقى لها جذور في الوعي الفكري للإنسان، فلا يعود إليها عند توفّر الظروف الملائمة لها في الواقع الخارجي.

وهذا ما جعل العقوبة على هذا الجرم الكبير قاسية متمثّلة بالإعدام الجماعي الذي يقتل فيه بعضهم بعضاً، بحيث يقتل المذنبون بعضهم البعض أو يقتل الأبرياء المجرمين، فذلك هو السبيل الوحيد في الشريعة آنذاك للتوبة التي تتوخّى غفران الله لهم وتوبته عليهم. {ذَلِكُمْ} أي القتل، الذي هو وسيلة التوبة، {خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ} لأنّه يحقّق لكم الحصول على رضاه، من خلال دلالته على صدق التوبة في عمق الإحساس بالندم، ويؤدّي بالتالي إلى السعادة الكبرى في النجاة من النار ودخول الجنّة. {فَتَابَ عَلَيْكُمْ} بذلك، {إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ} على المذنبين التائبين، {الرَّحِيمُ} بالخاطئين المنيبين.

الارتباط اللاواعي:

من خلال هذه الآيات المتقدّمة، نستطيع استيحاء موقف يرى أنّ قوم موسى لم ينطلقوا معه من موقع الإيمان برسالته والوعي لمفاهيمها التي تفرض عليهم مسؤولية الفكر والحركة، بل كانوا يسيرون معه من موقع الانتماء القومي من جهة، ومن موقع الحاجة إلى التخلُّص من ظلم فرعون من جهة أخرى، ولم تكن قضية الإيمان إلاَّ وسيلة من وسائل تأكيد هاتين الجهتين بعيداً عن كلّ اعتبار للحقيقة في الموقف، ما جعلهم ينحرفون عند أيّ منعطف للانحراف، ويبتعدون عن الجوّ لدى أوّل غياب لموسى (عليه السلام) عنهم، لأنّهم كانوا خاضعين للتأثير القويّ لشخصيته القوية وإحساسهم بالاعتراف بالجميل؛ وهذا ما يظهر تراجعهم السريع وشعورهم العميق بالذنب عند مواجهتهم لموسى بعد رجوعه من ميقات الله.

                           *****

مهمّة القيادة في دراسة خلفيات القاعدة:

وممّا نستوحيه أيضاً من هذه الآيات درساً جديداً للعاملين في سبيل الله، وخلاصته: إنَّ على العاملين في سبيل الله، سواء أكانوا في موقع الدعوة، أم كانوا في موقع العمل والحركة، أن لا يتأثّروا بالمظاهر الانفعالية للإيمان فيمن يتعاونون معهم أو من يتبعونهم، بل عليهم أن يدرسوا بعمق طبيعة العوامل الداخلية والمؤثّرات الخلفية التي استطاعت أن تربط هؤلاء بالقيادة أو بالخطّ العملي، أو بالفكرة الشاملة؛ فقد تكون المؤثّرات خاضعة لطبيعة القائد في قوّته الفكرية، أو جاذبيّته الشخصية، أو انتماءاته العائلية والقومية أو الإقليمية. وقد تكون الأسباب متّصلةً ببعض الأجواء العاطفية للقضية، أو ببعض ردود الفعل ضدّ حركات معيّنة، أو قيادات خاصة تقف في الموقف المعاكس لهذه الحركة أو هذه القيادة، ما يجعل من الارتباط بها تنفيساً عن عقدة أو تفجيراً لغيظ. وربّما تكون العوامل المؤثّرة مرتبطة ببعض المواقف السياسية أو الاجتماعية التي تمثّلها حركة الدعوة إلى الله في مسيرتها الطويلة، بحيث يعتبر الارتباط بالدعوة الإسلامية مرحلياً من أجل الوصول إلى الموقف السياسي أو الاجتماعي المحدّد؛ وقد لا تكون القضية نابعةً من ذلك كلّه، بل هي منطلقة من خطّ الإيمان الحقّ بالفكرة والخطّ والهدف، فلا بدّ للعاملين من دراسة ذلك كلّه، لتكون مواقفهم مبنية على معرفة عميقة للأرضية التي يقفون عليها، وللمجتمعات التي يتعاملون معها ويتحرّكون فيها، لأنّ ذلك قد يكلّف العمل وجوده، عندما تختلف حسابات الموقف أمام النماذج القلقة التي تتكشَّف عنها التجارب في صورة غير منتظرة.

                           *****

21 ـــ النبيّ موسى يستخدم الصبر كأداة مواجهة:

{وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِـي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ*قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ*قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 127 ـــ 129].

                           *****

معاني المفردات:

{أَتَذَرُ}: أتدع، أتترك.

عندما بدأ عرش فرعون يهتزّ أمام الصدمة العنيفة التي سبّبها موسى وإيمان السحرة على إثر ذلك، واستطاع موسى أن يستوعب قومه في أجواء عاطفيّةٍ تثير الأمل في نفوسهم، وتوحي بالإيمان بأفكارهم. وربّما بدأوا يلتفّون حوله تحت تأثير تلك الأجواء، وربّما رأى قوم فرعون بعضاً من هذا الالتفاف العاطفي الجديد، وربّما سمعوا عنه شيئاً من جواسيسهم، إن لم يكونوا قد رأوه، وأخذوا يفكّرون ماذا يفعلون بهذا التطوّر المخيف، وكيف يواجهونه ليقضوا عليه في بداياته الأولى؟ وكان هناك حديثٌ بينهم وبين فرعون لإثارته ضدّ موسى وقومه، وقد لا يكون بحاجةٍ إلى مثل هذه الإثارة، لأنّ صدمته العنيفة كانت كفيلةً باستثارته على المدى الطويل.

                           *****

منطق الطغاة من الحاكمين:

{وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ} وذلك هو منطق الطغاة من الحاكمين في ما يثيرونه من قضايا الإصلاح والإفساد، فينظرون إلى كلّ عمل يدعم حكمهم أو نظامهم، ويهيّئ له سبل الاستقرار والاستمرار، على أنّه من أعمال البناء والإصلاح، وينظرون إلى أيّ عمل ينقضه ويعمل على تغييره، ويساهم في إثارة الأجواء ضدّه، ويتحرّك باتجاه زلزلة قواعده وهزِّ أركانه، على أنّه من أعمال الهدم والإفساد. وفي ضوء هذا، كان هؤلاء القوم يعتبرون الدعوة إلى توحيد الله، ونبذ الشرك، ومحاربة الطغيان، والقضاء على الظلم، وغير ذلك من المفاهيم الرسالية التي يدعو إليها موسى، ويسير عليها مع المؤمنين من قومه، إفساداً في الأرض، لأنّه إطلاقٌ من أجل التغيير الذي لا يبقى معه أحدٌ من أصحاب الامتيازات الزائفة الظالمة، ولا يذر أيّ إله في الأرض غير الله، سواءٌ كان فرعون، أو ما كان يعبده من آلهة وأصنام. وهذا ما أراد قومه أن ينذروه به. {وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} في وحدة موحشة قاتلةٍ، ليس معك أحد من هؤلاء الذين كانوا يتّبعونك، ويتعبّدون لك ولآلهتك.

وجاء المنطق الفرعوني الذي هو منطق الطغاة، {قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ} فلا يبقى منهم أحد يقوى على المواجهة وحمل السلاح، لأنّ الذكور هم وقود الحرب عادةً، {وَنَسْتَحْيِـي نِسَاءهُمْ} فنبقيهنَّ كإماءٍ وخدم. وماذا تغني النساء شيئاً لموسى ولأخيه؟ ولن يبقى هناك أحدٌ في هذا الاتجاه، ولن يبقى إلاّ نحن، نحن الأقوياء الحاكمون. {وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} فنحن نملك القوّة القاهرة من السلاح والمال والملك والرجال، فأين يكون هؤلاء المستضعفون، وكيف يمكنهم أن يثبتوا أمام كلّ هذه القوّة، وكلّ هذه الجبروت؟!

                         *****

موسى (عليه السلام) يحثّ قومه على الصبر والثبات

وربّما ترك مثل هذا التهديد أثره السلبي في نفوس قوم موسى، الذين كانوا في موقع التجربة الأولى، فلم يتصلّب إيمانهم بعد، ولم تقو عزيمتهم، بل كانوا يهتزّون أمام كلّ وعيد، فوقف موسى ليشدّ من عزمهم، وليقوّي إيمانهم بالله، وليبعث فيهم روح الصبر والثبات، وليفتح لهم نوافذ الأمل وأبواب الرجاء. {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ}، فإنّ الوصول إلى الغايات التي يسعى إليها الإنسان يمرّ بأكثر من مرحلة؛ ولكلّ مرحلةٍ مشاكلها وتحدّياتها وآلامها، فلا بدّ من الصبر من أجل مواجهة ذلك كلّه، من أجل عدم الوقوع في قبضة الانفعال الذي يشلّ عقل الإنسان وتفكيره، ويقوده في النهاية إلى الهاوية، فلا تتجمَّدوا أمام المرحلة الحاضرة، لتعتبروها خاتمة المطاف، بل حاولوا التطلُّع إلى ما قبل هؤلاء الذين يحكمون هذه المرحلة ويسيطرون عليها، فهم لم يكونوا شيئاً في الوجود، ولا في السلطة، بل كان هناك قوم آخرون أورثهم الله الأرض طبقاً لسننه في الكون، ومضوا كما مضى الذين من قبلهم، وجاءت بهؤلاء إلى السلطة ظروفٌ موضوعية هيَّأت لهم وراثة الأرض، وسيزولون كما زال غيرهم ـــ إن آجلاً أو عاجلاً ـــ ويبقى الأمر كلّه لله. {إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} تبعاً لتطوّر مراحل التاريخ التي تنقل الحكم من جيلٍ إلى آخر، ومن فئة إلى أخرى، فقد ينتصر الظالمون في معركة، وقد ينهزم المستضعفون في أخرى... وهكذا تتحرّك سُنّة الله في الكون على أساس حكمته وتدبيره في ربط المسبّبات بأسبابها، ولكنّها مجرّد مراحل تبدأ وتنتهي دون عمق وامتداد.

العاقبة للمتّقين:

{وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} الذين يجسّدون إرادة الله في إصلاح أمر الحياة في الحكم والشريعة والعقيدة، على قاعدةٍ صلبةٍ تؤكّد للإنسان مفاهيمه الواسعة الثابتة، وأوضاعه المستقيمة الهادفة، وتتحرّك التقوى في داخله لتستوعب ذلك كلّه في خطّةٍ حكيمةٍ ممتدة، يحكم مراحلها الوعيُ والصدقُ والأمانة والإخلاص. وهكذا يريد الله من المؤمنين أن يعملوا على السير في خطّ التقوى في حياتهم، من أجل أن يجعلوا من أنفسهم القيادة الواعية الملتزمة التي تتحمّل الصعاب والمشاق والتحدّيات بروحٍ قويّةٍ صابرة، لأنّ مسألة حكم الأرض، في مواجهة التيّار الكافر الضاغط، ليست مسألة كلمات تقال، وليست انفعالاً يتشنَّج ويصرخ، أو عبادةً تبتهل وتخشع، ولكنّها المواقف التي تفكّر وتتقدّم وتصبر وتواجه التحدّيات بروح العزيمة والقوّة، وبإرادة الإيمان والإخلاص الباحث دائماً عن لطف الله وروحه ورضوانه في كلّ خطوةٍ من خطوات الطريق.

                           *****

انهزاميّة قوم موسى (عليه السلام)

ولم يكن قوم موسى قد بلغوا هذا المستوى من الوعي الذي يفهم معنى المرحلة في خطّ الهدف، ومعنى الصبر في الوصول إلى الغاية، ومعنى التوكُّل على الله في الانطلاق نحو غيب المستقبل بقوّة، فكانوا يتألّمون ممّا يلاقونه من آلام بعد أن ساروا مع موسى، ويرون أنّ الحال لم يتغيّر، فقد كانوا يعيشون الآلام من قبل موسى، وها هي الآلام تمتدّ بهم معه، فماذا انتفعوا به؟ فلا تزال المشكلة هي المشكلة والواقع هو الواقع. {قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا} إنّه منطق الضعفاء الذين لا يعرفون معنى حركة القوّة في الداخل من أجل تنمية روح التحدّي في الواقع، فهم لا يتعاملون مع القضايا التي يعيشونها من موقع العلاقة بالأهداف البعيدة للحياة، بل يتعاملون معها من موقع المشاعر والانفعالات في ما تختزنه من هموم وآلام. إنّهم يعيشون في جوّ الإحساس دون التفكير في مضمون المشكلة، إذ يجب أن يعرفوا أنّ هناك فرقاً بين الإيذاء الذي يتعرّض له الإنسان وهو لا يحمل قضية، فيزيده الأذى شعوراً بالانسحاق، لأنّه يحجز إحساسه بالألم الذي لحق به في اللّحظة الحاضرة، وبين الإيذاء الذي يتعرّض له وهو يحمل قضيةً ويتحرّك من أجل رسالة، فيزيده الأذى شعوراً بالقوّة، لأنّه يضاعف معنى التحدّي في مشاعره وأحاسيسه في عمليّة إيمانٍ بالقضية الكبيرة التي لا بدّ لها أن تستمرّ لتحلّ المشكلة من جذورها بعيداً عن كلّ عوامل التخدير.

                           *****

موسى يزرع الأمل في قلوب قومه:

ولهذا، فإنّ مثل هذا الاتجاه لا يرتاح لعملية التهدئة، بل ينطلق دائماً في أجواء التثوير، لأنّ المسألة ليست مسألة ذاتٍ تريد أن تستريح، بل هي مسألة أُمَّةٍ تريد أن تتحرَّر وتتقدّم، ومسألة واقعٍ يريد أن يتغيّر، وهذا ما أراد موسى أن يثيره في الانفتاح على الله في أوقات الشدّة، وفي الثقة بوعده في حالات الضيق، فذلك هو الذي يجدّد في الإنسان روح القوّة، ويبعث في روحه معنى الأمل. {قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ} كما أهلك الطغاة من قبله بالطريقة المباشرة أو غير المباشرة، فقد أعدَّ الله للطغاة مصيراً لا يستطيعون الهروب منه، ولكنّ لكلّ شيءٍ وقتاً لا يتعدّاه تبعاً لما أودعه الله في حركة الحياة من أسرار حكمته، فليكن أملنا بالله كبيراً، ونحن نعمل في سبيل تهيئة الظروف التي تتحقّق فيها إرادته بالنصر.

{وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ}، فقد وعد الله المستضعفين أن يستخلفهم في الأرض، والله لا يخلف وعده، ولكنّ قضية الاستخلاف في الأرض ليست اميتازاً لأحد، بل هي المسؤولية الواعية من أجل تغيير الواقع على الأُسس الإيمانية التي تُصلحُ أمر البلاد والعباد، بعيداً عن الأسس الاستكبارية الكافرة التي تفسد الحياة كلّها بخطط الكفر والضلال، ولهذا فإنّ المسألة تعيش في نطاق الامتحان والاختبار، لما تحملون من عقيدةٍ، ولما تعيشونه من مفاهيم، ولما تتحرّكون به من خططٍ وأهداف، ليُعرَف الصادقون من الكاذبين، والمخلصون من المنافقين. {فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} في ما تمارسونه في خلافتكم على مستوى الحكم في إدارة شؤون الناس والحياة. وتلك هي قصّة الحكم في المفهوم الديني للإنسان؛ إنّها قصّة التغيير، وتحويل المسيرة من خطّ الظلم إلى خطّ العدل، ومن شريعة الكفر إلى شريعة الإيمان، وليست عملية تبديل أسماءٍ وتغيير واجهاتٍ، لنبرّر الظلم باسم العدل، وننطلق مع الكفر باسم الإيمان.

                           *****

22 ـــ النبيّ موسى يدرس خلفيات القاعدة:

{وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ*ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 51 ـــ 52].

أراد الله سبحانه لبني إسرائيل أن يبدأوا حياةً جديدةً في ظلّ شريعةٍ شاملة تنظّم لهم حياتهم، وترعى لهم شؤونهم وعلاقاتهم، وتفتح لهم أبواب الحياة الواسعة على أساس من الحكمة والمصلحة. وفي هذا الجوّ، استدعى الله موسى لميقاته ليُنزِل عليه التوراة في مدى أربعين ليلة؛ وهنا كانت المفارقة ـــ المفاجأة، فلم يكد موسى يغيب عنهم حتى نسوا الرسالة والرسول، ونسوا الله سبحانه، فعبدوا العجل في قصّة طويلة سيذكرها القرآن أكثر من مرّة، ولم ينفتحوا على الآفاق الواسعة التي أراد الله لهم أن ينفتحوا عليها، لينطلقوا إلى العالم كحَمَلةٍ للرسالة الشاملة، فيكون لهم المركز الكبير في ظلّ هذه الرسالة.

ولكنّ الله لم يعاملهم بظلمهم، بل عفا عنهم ليفسح لهم المجال للتراجع ولتصحيح الفكر والمسيرة، ليهيّئ لهم الجوّ الروحي والنفسي الذي يعينهم على الرجوع إليه والشكر له على نعمائه من ناحية عملية.

{وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} ليتلقّى الوحي الإلهي الذي فيه الهدى للناس في كلّ قضاياهم العامة، في مسؤوليّتهم اتجاه أنفسهم، واتجاه الناس من حولهم، واتجاه الحياة المحيطة بهم، بالإضافة إلى مسؤوليّتهم في عبادة الله. {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ}، فرجعتم إلى السلوك الوثني الذي يعود إلى تاريخكم المنحرف في حياتكم مع فرعون، ما يوحي بأنّكم لم تنفتحوا على الرسالة الإلهية التوحيدية من موقع العمق الفكري والروحي والاستقامة العملية، {وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ} لأنفسكم من خلال النتائج السلبية للوثنية الجديدة في الدنيا والآخرة. {ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ} لتعودوا إلى الخطّ المستقيم واليقظة الروحية في حركة التوبة النفسية والإخلاص العملي، {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} الله على هذه النعمة التي فتحت لكم الفرصة الجديدة للعودة إلى التوازن في طاعة الله ومرضاته.

وإذا كان الخطاب موجّهاً لليهود المعاصرين للنبيّ محمّد  (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) الذين لم يعبوا العجل، فذلك لاعتبارهم امتداداً لأولئك كفريق واحد يمتدّ في الحاضر من خلال امتدادات التاريخ، ما يجعل الخصائص التاريخيّة لأسلافهم بمثابة الخصائص الذاتية لهم.

                           *****

وممّا نستوحيه من هذه الآيات درساً جديداً للعاملين في سبيل الله، وخلاصته: إنَّ على العاملين في سبيل الله، سواء أكانوا في موقع الدعوة، أم كانوا في موقع العمل والحركة، أن لا يتأثّروا بالمظاهر الانفعالية للإيمان فيمن يتعاونون معهم أو من يتبعونهم، بل عليهم أن يدرسوا بعمق طبيعة العوامل الداخلية والمؤثّرات الخلفية التي استطاعت أن تربط هؤلاء بالقيادة أو بالخطّ العملي، أو بالفكرة الشاملة؛ فقد تكون المؤثّرات خاضعة لطبيعة القائد في قوّته الفكرية، أو جاذبيّته الشخصية، أو انتماءاته العائلية والقومية أو الإقليمية. وقد تكون الأسباب متّصلةً ببعض الأجواء العاطفية للقضية، أو ببعض ردود الفعل ضدّ حركات معيّنة، أو قيادات خاصة تقف في الموقف المعاكس لهذه الحركة أو هذه القيادة، ما يجعل من الارتباط بها تنفيساً عن عقدة أو تفجيراً لغيظ. وربّما تكون العوامل المؤثّرة مرتبطة ببعض المواقف السياسية أو الاجتماعية التي تمثّلها حركة الدعوة إلى الله في مسيرتها الطويلة، بحيث يعتبر الارتباط بالدعوة الإسلامية مرحلياً من أجل الوصول إلى الموقف السياسي أو الاجتماعي المحدّد؛ وقد لا تكون القضية نابعةً من ذلك كلّه، بل هي منطلقة من خطّ الإيمان الحقّ بالفكرة والخطّ والهدف، فلا بدَّ للعاملين من دراسة ذلك كلّه، لتكون مواقفهم مبنية على معرفة عميقة للأرضية التي يقفون عليها، وللمجتمعات التي يتعاملون معها ويتحرّكون فيها، لأنَّ ذلك قد يكلّف العمل وجوده، عندما تختلف حسابات الموقف أمام النماذج القلقة التي تتكشّف عنها التجارب في صورة غير منتظرة.

                           *****

23 ـــ النبيّ موسى والأسلوب القرآني في تربية الأُمّة:

{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكاً وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن الْعَالَمِينَ*يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ*قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ*قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ*قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ*قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ*قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 20 ـــ 26].  

                           *****

معاني المفردات:

{فَافْرُقْ بَيْنَنَا}: أي افصل بيننا وبينهم.

{تَأْسَ}: الأسى: الحزن.

                           *****

هذه صورةٌ حيّةٌ من صور هذا الشعب المنحرف من بني إسرائيل، بعد أن خلّصهم الله من فرعون على يد نبيّه موسى (عليه السلام) الذي كان واحداً منهم أرسله إليهم واصطفاه برسالته، ليحرّرهم من العبوديّة المتعمِّقة في داخلهم من جرّاء استضعاف فرعون لهم، وذلك عبر قِيَم الحريّة المتمثّلة في توحيد الله، والكفر بكلّ الطغاة والجبابرة من آلهة البشر، والشعور بالمعنى الإنساني الحرّ لوجودهم.

وانطلق معهم نبيّهم موسى (عليه السلام) بأسلوب الرسالة الذي يخاطب فيهم إنسانيّتهم، ليوحي إليهم بحسّ الكرامة في ذاتهم، ويعلّمهم أنَّ العقيدة والالتزام والطّاعة كلّها لا تمثّل تعليمات يصدرها الكبار إليهم كما تعوَّدوا في عهد عبوديّتهم لفرعون، بل هي فكرةٌ وإرادةٌ ومعاناة، وحركةٌ داخليّةٌ تنطلق في رحاب الكون، ليتحوّل جهدها كلّه إلى فعل إيمان. ولذلك كان يدعوهم إلى التأمُّل والتفكُّر والتذكُّر والقراءة والحوار.

وهو قد خاض معهم الحوار في كلّ ما يطرأ عليهم من مشاكل، ليعلّمهم كيف يفكّرون، وكيف يشاركونه الفكر، ولكنّهم كانوا يبتعدون عنه كلّما اقترب إليهم، وبدأوا يتمرّدون عليه في أكثر من موقف، وذلك بسبب ما اعتادوا عليه من عبوديّة، فكانوا ينتظرون منه (عليه السلام) أن يعاملهم كما عاملهم فرعون، فيستضعفهم ويستعبدهم من خلال حكمته، كي يشعروا بالاستقرار، وكانوا يعتبرون أنَّ معنى خلاصهم من فرعون، هو أن يعيشوا حالة استرخاء ودعة وطمأنينة بعيداً عن كلّ أجواء الصراع ومشاكله، فلم يكونوا مستعدّين للقتال، بل كانوا يتحفّزون للهرب عند أوّل دعوة للمعركة، ولكنَّ شخصية الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) لا تلتقي بشخصية فرعون من قريب أو من بعيد، فإنَّ هناك فرقاً بين من يريد الناس لنفسه، وبين من يريدهم لله ولأنفسهم من موقع صلاحهم، ولهذا لم يستطع موسى (عليه السلام) النجاح معهم، ولم يكن من خطّته أن يحقّق النجاح على هذا المستوى، لأنّه كان يعمل على تغيير مفاهيمهم وروحيّتهم وطريقتهم في التفكير والعمل. ولذلك كانت الموعظة الهادئة والانسجام مع مطاليبهم والعفو عن خطاياتهم معه هو السبيل إلى الوصول إلى بعض هذا الهدف الذي استطاع أن يعطي الساحة بعض النماذج التي ارتفعت إلى مستوى الرسالة فعاشت مع موسى آفاقه وأحلامه.

وتمثّل هذه الآيات أحد نماذج أسلوب موسى معهم في الحوار، وأسلوبهم في الهزيمة النفسيّة والتمرُّد عليه. {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكاً وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن الْعَالَمِينَ} فهو دعاهم إلى فترة من التأمُّل، ليستعيدوا فيها تاريخهم المظلم الغارق بالعبوديّة والظلام، وليقارنوا بينه وبين تاريخهم الجديد الذي منحهم الله فيه الحريّة على يد رسوله بالمعجزات الخارقة، وجعل منهم أنبياء فأكرمهم برسالته، وصيَّرهم ملوكاً، ورزقهم من النِّعم ما لم يؤته لأحد من العالمين الذين عاصروهم. وقد كانت هذه الدعوة منه كي يواجهوا الحاضر والمستقبل من هذا الموقع، ليرتفعوا إلى المستوى الذي أراد الله أن يرفعهم إليه، فيتحمّلوا مسؤوليّة الرسالة معه، ويعملوا على التحرّك من أجل التغيير بقيادته.

{يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ} وكانت القافلة تسير إلى بيت المقدس، ولاحت لهم الأرض المقدّسة من بعيد، فهي الهدف الذي عاشوا له من خلال موسى، فطلب منهم أن يدخلوها ليستقرّوا وليعيشوا الحكم العادل على أساس النبوّة، ولكنّهم رفضوا ذلك العرض، لأنّ الدخول إليها سوف يكلّفهم صراعاً وقتالاً وتضحيات لا يريدونها، {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ}، فقد كان يحكمها قومٌ جبّارون، ولم يكونوا على استعداد للدخول في صراع معهم. ولذلك كان ردُّ الفعل لطلب موسى أن قالوا له: إنَّ دخولهم معلّق على خروج الجبابرة بهدوء واستسلام، حتى إذا خرجوا من دون أن يكلّفهم ذلك نقطة دم، كان الدخول معقولاً. وكان هناك رجلان لا ثالث لهما من الذين يخافون الله، أنعم الله عليهما بنعمة الإيمان، وعرفا ـــ من خلال ذلك ـــ معنى المسؤوليّة في مواطن التحدّيات، ووقفا في مواجهة هذا الجمع المهزوم ليقولا له: إنّنا نملك القوّة التي تستطيع أن تحكم الفكر والناس والحياة، وكلّ هذه الأمور من وسائل القوّة الغالبة، فلندخل الباب عليهم ولنهاجمهم في عقر دارهم، ليكونوا في موقع الضعف، ونكون في موقع القوّة، فإنَّ القوم طلّاب مُلك ونحن جنود رسالة، وستتغلّب على المُلْك إذا أخذت بأسباب القوّة المادية، مضافاً إلى ما تملكه من القوّة الروحيّة: {قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}.

ولكنَّ هذه الكلمات ضاعت في هدير الهزيمة وضجيج التخاذل، وانطلق الصوت المهزوم يتكلّم بلغة الهزيمة التي تحاول أن تعطي الكلمات صفة القرار الحاسم: {قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} تلك هي الكلمة الأخيرة التي لا تقبل نقاشاً. وامتدّ الصوت ليعلن الانفصال عن موسى (عليه السلام)، فهم غير ملزمين بطاعته في القتال، لأنَّهم يحبّون الحياة أكثر ممّا يحبّون المقدّسات. {فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} أمَّا إذا كان موسى (عليه السلام) يُحدِّثهم عن الله، ويستعين به عليهم، ويملأ قلوبهم بالشعور بقوّته، فليذهب هو وربُّه فليقاتلا إذا كان يريان القتال لازماً، ويريان المعركة منتصرة، فتلك هي مسؤوليّتهما لخدمة الرسالة التي أرسلها الله وحملها موسى (عليه السلام)، أمّا هم؛ جنوده وأتباعه، فلا مسؤوليّة لهم في ذلك كلّه، فإنَّهم قاعدون منتظرون للنتائج الإيجابيّة أو السلبيّة.

وشعر موسى بالحرج، فلم يعد لديه أيّة سلطة أو قوّة يمكن أن يمارسها على هؤلاء الناس، وكان يريد أن يُعذر إلى الله ليخرج من حدود المسؤوليّة، على رضى من الله ومحبّة، فتوجّه إلى الله ليعلن إليه ما يعلمه الله من ظروفه: {قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي}، ولا أملك أحداً من هؤلاء في ما يملكه القائد من أمر جنوده، {فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ}، الذين خرجوا عن طاعتك وتمرّدوا على رسولك، وجاءتهم العقوبة التي يستحقّها الخائفون المهزومون الذين رفضوا الهدى، فلا يستأهلون النصر إذا لم يعملوا له، فكتب الله عليهم أن يظلُّوا في التيه أربعين سنة، {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ} فلا يملكون دخول الأرض المقدّسة، لأنّهم هم الذين اختاروا لأنفسهم ذلك، وسيتحمّلون متاعب الضياع وأهواله، وسيعيشون آلام الاهتزاز ومشاكله. وذلك هو مصيرهم الذي استحقّوه نتيجة فسقهم العملي، فلا تتألَّم ـــ يا موسى ـــ من موقع الرحمة في قلبك، فإنَّ هؤلاء لا يستحقّون الرحمة، {فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ}.

                           *****

وقفة أمام القصّة:

نستوحي من هذه الآيات فكرة تربية الأُمّة على أساسٍ ينسجم مع الآفاق والأفكار التي تحملها القيادة او تعيشها، وصولاً إلى تحقيق الأهداف والغايات الكبيرة. فقد كانت مشكلة النبيّ موسى (عليه السلام) أنّه يقود أُمّةً لا تؤمن بأفكاره، ولا ترتفع إلى مستوى أهدافه، بل كانوا يفكّرون بالأمن والاسترخاء والراحة، ولو على حساب مبادئهم، بينما كان موسى يفكّر بالحياة في حجم الرسالة، وهذا هو ما تعانيه الشعوب الإسلاميّة بفعل تزوير أفكارها وتصوّراتها للواقع، وتربيتها على أساس الارتباط بحاجاتها اليوميّة واعتبارها الهمّ الكبير لها، وابتعادها عن كلّ القِيَم الروحيّة الكبيرة التي تحتضن كلّ مصالحها الحقيقيّة المستقبليّة كأُمّة تعيش مرفوعة الرأس بين الأمم، وبذلك تحوّلت إلى شعوب مستعمرة للكافرين والمستعمرين والظالمين من كلّ الأُمم، في أجواء ذللة تنمِّي في داخلها قابليّتها للاستعمار، فيكون سلوكها وطريقتها في الحياة بمثابة دعوةٍ للمستعمر ليستعمرها ويحتوي بيديه كلّ حاضرها ومستقبلها في المجال السياسي والاجتماعي والاقتصادي، لتكون لعبةً لكلّ لاعب، وطعمةً لكلّ طاعم، وهذا ما يجعلنا مسؤولين عن ربط الأُمّة بأهدافها الكبرى من أجل التقاء القاعدة والقيادة في الطريق إليها على حدٍّ سواء.

                           *****

24 ـــ النبيّ موسى يخضع لقيادة العبد الصالح:

{أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً*وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً*فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً*وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً} [الكهف: 79 ـــ 82].

                           *****

معاني المفردات:

{زَكَاةً}: طهارة.

{وَأَقْرَبَ رُحْماً}: أشدّ وصلاً للقرابة والرحم.

{يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا}: يكبرا ويعقلا.

                           *****

يلفت نظرنا في هذه القصّة التي دارت أحداثها بين النبيّ موسى (عليه السلام) والعبد الصالح، عدّة نقاط:

1 ـــ الأسلوب الوديع الذي يعبّر عن روح التواضع للعلم والعلماء، من دون نظر إلى طبيعة المركز الاجتماعي أو الديني الذي يقف فيه العالم والمتعلّم، فنحن نجد الأدب الرسالي في هذه الكلمات الهادئة المتعطّشة للعلم التي خاطب بها موسى (عليه السلام) هذا العبد الصالح: "هل أتبعك على أن تعلمني ممّا علّمت رشداً".

2 ـــ الأسلوب الواقعي الذي يعبِّر عن الروح العملية التي يعيشها العالم تجاه المتعلّمين، بعيداً عن أيّة مجاملة تفرضها الأوضاع الاجتماعية، أو أيّ أسلوب من أساليب اللّف والدوران التي تحاول خداع الآخرين، لتجعل منهم أرقاماً تضاف إلى أرقام الأتباع الموجودين الذين يشاركون في تضخيم شخصية الأستاذ، من دون ملاحظة لاستفادتهم منه أو قابليّتهم للتعلُّم والانتفاع بعلمه.

فقد لاحظ هذا العبد الصالح أنّه يختلف عن الآخرين في طبيعة معرفته بالواقع، فهم يلتقون بالجانب الظاهر منه، بينما يعتبر نفسه مطّلعاً على الجوانب التي تختفي وراء الصور الظاهرية المألوفة للأشياء، ما يجعلهم يرفضون أو لا يتحمّلون طريقته في العمل وأسلوبه في معالجة هذا الواقع، وسوف لن يتقبّلوها في نهاية المطاف. وبذلك تفقد الصحبة فائدتها، وتتحوّل إلى مزيد من المجادلات والمخاصمات التي لن تكون في مصلحة أحدٍ، ولا في مصلحة الحقيقية على أيّ حال.

وعلى ضوء هذا، أوضح له طبيعة سلوكه الذي يتعارض مع المألوف، وأعلن له ـــ مقدّماً ـــ أنّه ـــ أي موسى (عليه السلام) ـــ لن يستطيع معه صبراً، لأنّ الإنسان لا يملك الصبر على ما لم يُحط بمعرفته، فلم يكن من موسى (عليه السلام) إلاّ أن وعده بالصبر والطاعة المطلقة.. وكانت تعليمات العبد الصالح أن لا يسأله موسى (عليه السلام) عن كلّ شيء يشاهده ويثير استغرابه، أو يرسم علامات الاستفهام في ذهنه، مهما كان الشيء مثيراً أو غريباً. وينتظر حتى يبدأه ـــ هو ـــ بالحديث عنه، وعن كلّ شيء شاهده ورآه.

وبهذا كانت العلاقة المتبادلة بينهما علاقة صحبة ترتكز على السعي نحو المعرفة في إطار من الانضباط والواقعية.

3 ـــ إنّ القضايا التي قام بها هذا العبد الصالح، كانت تتحدّى صبر موسى (عليه السلام) بما أثارته من خروج عن الخطّ الشرعي، كما في قضية قتل الغلام، وخرق السفينة، لما في الأوّل من اعتداء على الأموال وتعريض الآخرين للخطر من دون حق، ولما في ا لثاني من اعتداء على الحياة بدون ذنب، وكما في حادثة تثبيت الجدار وما أظهرته من إهمال لمبدأ استغلال الطاقة التي يملكها الإنسان، من أجل حماية نفسه من الجوع، لا سيّما مع الأشخاص الذين لا يعيشون القِيَم في حياتهم العامة. ولهذا كانت احتجاجات موسى (عليه السلام) تتلاحق وتشتدّ في كلّ حالة من هذه الحالات، حتى كانت الحالة الأخيرة التي سبقها التعهُّد الأخير بالصبر من قِبَل موسى (عليه السلام)، وإعطاء صاحبه الحرية في أن يفارقه، إذا استمرّ في إثارة السؤال وفي نفاد الصبر.

وهكذا كان، ولم يستطع موسى (عليه السلام) الصبر في الحالة الأخيرة، وبدأ العبد الصالح، بعد أن نفَّذ تهديده بالفراق، يشرح لموسى (عليه السلام) كلّ شيء، ويوضح له طبيعة الأعمال التي أثارت استنكاره، وكيف كانت مرتبطة بأمر الله، لا برأيه الشخصي. وليس من شأن هذا الحديث، أن ندخل في الحديث حول تقييم هذه الأعمال، من حيث انسجامها مع الخطوط المألوفة للشريعة، أو اختلافها عنها، وخضوعها لحالة استثنائية اقتضتها طبيعة تلك الحالات الخاصة. فإنّ لذلك بحثاً آخر، لا مجال له الآن.

بل كلّ ما نريده هو الاستفادة من الجوّ الذي عشناه في هذا الحوار، بتقرير فكرتين أساسيّتين، تدخلان في نطاق عمل الداعية إلى الله والعامل في سبيل رسالته.

أ ـــ إنّ على الداعية أن يعيش الانضباط والصبر والصمت في الحياة العملية التي تتحرّك في اتجاه ممارسته المسؤولية، إذا كانت الجهة التي يتبعها أو يتعاون معها في مستوى الثقة الفكرية والدينية والعملية التي تبرِّر له أمر الاعتماد عليها، والسير معها، فلا يسارع إلى الاعتراض في ما يوجّه إليه من أوامر، وما يشاهده من أعمال تخالف ما هو مألوف لديه، لأنّ ذلك قد يوجب الارتباك في العمل، والخلل في انضباط الصفوف. بل يؤخِّر ذلك إلى الظرف المناسب والمكان المناسب، حيث يكون، من الممكن، من وجهةٍ عملية، القيام بما يريده من إثارة السؤال والجواب.

ب ـــ إنّ على المؤمنين أن يتقبّلوا بالصبر والتسليم ما يُلقى إليهم من أحكام الله، ممّا لا يتّفق مع الأفكار التي يألفونها، لأنّ الله ـــ سبحانه ـــ أعلم بجهات الصلاح والفساد، فإذا حدثت لديهم شبهةٌ في أي أمر من ذلك، فليتّهموا أفكارهم ـــ في البداية ـــ وليحاولوا البحث ـــ بعد ذلك ـــ عن طبيعة الحكم وحيثيّته، ليصلوا إليه، في نهاية المطاف.

                           *****

25 ـــ المستضعفون في مواجهة فرعون:

{طسم*تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ*نَتْلُوا عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ*إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ*وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ*وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص: 1 ـــ 6].  

                           *****

 

 

معاني المفردات:

{عَلَا فِي الْأَرْضِ}: العلوّ في الأرض كناية عن التجبُّر والاستكبار.

{شِيَعاً}: الشيع: جمع شيعة وهي الفرقة.

{نَّمُنَّ}: الأصل في معنى المنّ ـــ على ما يستفاد من كلام الراغب ـــ الثقل، ومنه تسمية ما يوزن به منّاً، والمِنّة: النعمة الثقيلة، ومنَّ عليه منّاً: أي أثقله بالنعمة.

                           *****

{طسم} من الحروف المقطّعة في القرآن التي تقدّم الحديث عنها.

{تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} التي ينبغي للمؤمنين أن يقرأوها ويتأمّلوها ويستلهموا معانيها في حياتهم بوعيٍ ووضوحٍ، لأنّها تقدّم الفكرة بعمق وجلاء، من دون غموض ولا تعقيد {نَتْلُوا عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ} اللّذين كانا يمثّلان الصراع الحاسم، بين النبوّة المتمثّلة بموسى (عليه السلام) في إيمانها بالله والتزامها بقضية الإنسان في حريّته وعدالة قضاياه، وفي انطلاقها في خطّ المواجهة للمستكبرين من موقع المسؤولية للدفاع عن المستضعفين، وبين ما هو الطغيان والاستكبار المتمثّل بفرعون الذي عاش عبوديّته لذاته، فتعقَّدت أفكاره ومشاعره تجاه الناس، وتضخّمت شخصيته في نفسه حتى ظنَّ أنه إله وطلب من الناس أن يعبدوه، ولذلك كان ردّ فعله عنيفاً أمام الدعوة التوحيدية لله والإعلان النبويّ الحاسم له بأن يترك الناس لحريّاتهم في الفكر والحياة. إنّه الموقف المتحرّك بين الإنسان الذي يعيش لربّه وللنّاس من حوله ليؤكّد حركة الرسالة في الحياة، بعيداً عن ذاته، وبين الإنسان الذي يعيش لذاته وللنوازع الشرّيرة في مجتمعه، بعيداً عن الله.

وهذا الموقف لا يمثّل حالةً تاريخيةً فريدة، بل هو الموقف الدائم في صورة الصراع الدائر في الحياة، بين الإيمان والكفر، والحرية والاستعباد، والعدل والظلم، ولذلك أراد الله للناس أن يتمثّلوه بتفاصيله، ليأخذوا منه الفكرة والتجربة وحركة الرسالة في الواقع من موقع الحقّ، لا من موقع الخيال القصصي الغارق في الضباب { لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} إذ يواجهون التاريخ بوعي الإيمان، فيأخذون منه العبرة، ويستفيدون من درس الماضي لحركة الحاضر والمستقبل. ولذلك كانت التلاوة لهم، في الوقت الذي يريد الله للناس كلّهم أن يسمعوها ويفكّروا فيها، لأنّهم ـــ وحدهم ـــ الذين يحملون مسؤولية الكلمة في ما يسمعونه أو يقرأونه منها.

                           *****

فرعون الطاغية:

{إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ} بما كان يعيشه في ذاته من عقدة الاستعلاء والاستكبار على الناس، من خلال الامتيازات العائلية التي كان يملكها، والأموال التي كان يحويها، والجماعات التي كانت تحيط به وتتزلّف إليه، وتقدّم له الطاعة والولاء، ما جعله يشعر بنفسه كربٍّ أعلى لهم، لأنّه لم يجد صوتاً يرتفع في مواجهته ليقول له: "قف مكانك، ولا تتعدَّ حدودك، واخشع لربّك الذي خلقك وأنعمَ عليك"، فامتد في طغيانه، وابتعد عن الخطّ المستقيم {وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً} ففرَّق كلمتهم، ومزَّق وحدتهم، وأثار النزاع والخلاف بينهم على مستوى علاقات الأفراد، من خلال المصالح والأطماع الذاتية، وعلى مستوى علاقات الجماعات، عبر الأوضاع العائلية والامتيازات الطبقيّة غير ذلك، ما يجعل المجتمع مستغرقاً في مشاكله وخلافاته، مشدوداً إلى الآفاق الصغيرة التي تحيط به، مبتعداً عن قضايا المصير المتمثّلة بالإنسانية والحرية والعدالة، خاضعاً للقوّة المستعلية المستكبرة التي يعمل على الخضوع لها، لتتدخّل في شؤونه، ولتتحكّم في حياته. وهذا هو أسلوب الطغاة في كلّ زمان ومكان في إحكام سيطرتهم على الشعوب، بالعمل على إثارة الانقسامات والخلافات بين أفراد الشعب، لينشغلوا بمشاكلهم الذاتية عن التفكير في مواجهة الطغاة في مخطّطاتهم العدوانية. وهكذا كان أسلوب فرعون في هذا الجانب من خططه، حيث اختار قسماً من الناس ليكون فريقاً له، واختار فريقاً آخر ليكونوا ساحة لتجربة ظلمه وتنفيس عقدته {يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ} وهم بنو إسرائيل الذين كانوا في عداد الأسرى الأرقّاء الذين يستخدمهم في جميع حاجاته، ليكونوا اليد العاملة المجّانية التي توفّر له كلّ ما يريد من دون خسارة، وكان {يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ} لاستخدامهنّ في شؤونه وشؤون طبقته الاجتماعية.

وقد نقل البعض في سبب ذلك، أنّ لهم عقيدةً غير عقيدته، فهم يدينون بدين جدّهم إبراهيم ويعقوب، ومهما وقع في عقيدتهم من الانحراف، فقد بقي لها أصل الاعتقاد بإله واحد. وناقش بعضٌ في ذلك معتبراً أنّ بني إسرائيل لم يكونوا في الخطّ الإبراهيمي التوحيدي، ولهذا قالوا لموسى بعد خروجه من البحر عندما وجدوا قوماً يعكفون على أصنام لهم، {اجْعَل لَّنَا إِلَـهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف : 138]، وذكر الشيخ المراغي في تفسيره: "أنّ فرعون إنّما اضطهد بني إسرائيل لأنّه كان يتوجّس خيفة من الذكران الذين يتمرّسون الصناعات وبأيديهم زمام المال، فإذا طال بهم الأمد استولوا على المرافق العامة، وغلّبوا عليها المصريين، والغلب الاقتصادي أشدّ وقعاً من الغلب الاستعماري". وذكر بعضهم: "إنّ كاهناً قال لفرعون: إنّ مولوداً يولد في بني إسرائيل يكون سبب ذهاب ملكه". وهناك قائل: إنّ الأنبياء الذين كانوا قبل موسى بشّروا بمجيئه، ولمّا علم فرعون بذلك خاف وذبح أبناء إسرائيل.

ولعلّ الرأي الأخير هو الأقرب إلى الذهن، لأنّ فرعون لم يكن في موقع الدفاع عن العقيدة، ولهذا لم نجد موقفه من موسى دفاعاً عن عقيدته، بل كان دفاعاً عن ملكه، كما أنّ الوضع الاقتصادي لم يكن خاضعاً للنظام الذي يمكن أن تتسلّط فيه الطبقة الدنيا على الطبقة العليا، لوجود ضوابط متنوّعة، من ذهنية العبودية المسيطرة على الفئات الكادحة، ومن طبيعة المواقع الاقتصادية لحركة الثروة، ومن حالة التخلّف المهيمنة على الواقع كلّه. ونحن نعرف أنّ المجتمع الإسرائيلي آنذاك لم يكن منطلقاً من حالة ثورةٍ أو تمرّد، ولم يكن منفتحاً على حالة طموح في اكتساب المواقع المتقدّمة في السلطة أو في الدائرة الاقتصادية، بل كان هناك نوع من الاستسلام الخاضع للحكم الفرعوني ولطبقته الاجتماعية، ما يجعل الأقرب إلى التصوّر أن يكون هناك منامٌ رآه فرعون، أو كهانة، أو حديث نبويٌّ سابق، بحيث ولَّد خوفاً لدى فرعون، استباح به قتل الذكور من الأطفال وإبقاء الإناث، والله العالِم.

{إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} الذين يتحرّكون في الحياة لخدمة ذواتهم على أساسٍ من إفساد حياة البلاد والعباد في العقيدة والحكم والشريعة، وفي حركة العلاقات العامّة والخاصّة.

                           *****

{وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ} وعاشوا الضعف في قدراتهم وأوضاعهم وأفكارهم، بحيث استغلَّ الأقوياء ذلك، فاضطهدوهم واستعبدوهم وصادروا حريّتهم، وضغطوا على إرادتهم، وسيطروا على مقدّراتهم، وحاصروا كلّ حركة للتحرّر وللتمرّد بما يملكونه من أدوات الضغط والحصار؛ ولكنّ الله لا يترك الحياة تسير على إرادة هؤلاء وتخطيطهم، بل يفسح المجال للأسباب الطبيعية الكامنة في نظام الكون والإنسان لتفتح ثغرةً هنا وثغرةً هناك، ولتمنح المستضعفين قوّةً من خلال إيجاد القيادة القوية الصالحة، وتهيئة الظروف الموضوعية الملائمة، وتحريك الأوضاع الجامدة، من أجل أن ينطلق المستضعفون لبناء قوّتهم، واسترجاع حريّتهم، وملكية قرارهم من جديد، بما يمنّ الله به على عباده لتحقيق التوازن في حركة الإنسان في الأرض، حتّى لا يأخذ الظلم حريّته في الثبات والامتداد، ولا تبقى الحياة على نهجٍ واحد من الباطل والضلال، بل تخضع لعوامل التغيير التي تعطي الإنسان حيويّته في الفكر والحركة، وتمنحه الأمل الكبير في إمكانات التغيير عند محاصرة الضغوط له، لئلّا ينسحق في روحه تحت تأثير القوى الضاغطة الساحقة.

وعلى ضوء هذا، فإنَّ الله لا يتدخّل في الأمور عندما يمنّ على عباده المستضعفين بالطرق الغيبية دائماً من حيث الأساس، ولكنّه يحرّك الأسباب التي تؤدّي إلى ذلك، ويمنحها بعض وسائل الغيب في ما تحتاج إليه منه في بعض الحالات، وقد جعل الله هذا سُنّةً له في حركة الحياة في نتائجها العملية على أساس الأسباب والمسبّبات. فلا يحسبنَّ أحدٌ، أنَّ وعد الله بشيء، يحمل في داخله تدخّلاً إلهيّاً مباشراً يحقّق للنّاس ما يحبّونه وهم جالسون في بيوتهم في استرخاء، بل لا بدّ لهم من الأخذ بالأسباب في الوصول إلى ما يريدون.

وهكذا يتحرّك المستضعفون الذين يمنُّ الله عليهم في ما وعدهم بقوله: {وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً} للأرض بما يرسلهم برسالاته ليكونوا أنبياء أو أوصياء أو قادةً في حكم الناس وإدارة شؤونهم وتنظيم حياتهم {وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} الذين يرثون الأرض، إذ يريد الله أن يجعلهم خلفاء ويمكّنهم منها ويجعلها تحت سلطانهم، ليعرفوا من خلال ذلك أنّ الضعف ليس قضاء الله وقدره الذي لا يتغيَّر ولا يتبدَّل، بل هو حالةٌ طارئة خاضعة لأسبابها ممّا يمكن أن يتحوّل إلى قوّةٍ عندما تتغيّر الظروف وتتبدّل الأسباب بإرادة الله، بشكلٍ غير اختياري للإنسان، أو بإرادة الإنسان، بما مكَّنه الله من عناصر القوّة، ليعيشوا الفكرة المتحدّية للقوّة الغاشمة التي يحرّكها المستكبرون ضدّ المستضعفين، ليواجهوا المواقف من خلال العمل على تنمية القوّة وتحريكها في اتجاه الحياة.

{وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ} بأن نعطيهم إمكانات القوّة، ونرفع عنهم سلطة المستكبرين ونمنحهم مواقع النفوذ في الحياة، {وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم} في ما نريهم من مظاهر القوّة ومواقعها للمستضعفين الذين يتحرّكون في خطّ المواجهة لهما ولسلطتهما {مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ} ويخافون، ممّا يخافه الطغاة من تنامي قوّة المستضعفين وتعاظمها، بحيث تشكّل خطراً مستقبلياً على ما يملكونه من سلطة الظلم وقوّة الاستكبار، أو ممّا كان يحذره قوم فرعون من نهاية ملكهم على يد شخص من بني إسرائيل.

وقد وردت بعض الروايات عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) في الاستشهاد بهذه الآية في موارد معيّنة، كما في مسألة الإمام المهدي (عليه السلام) ونحوها، والظاهر أنّها من باب الاستيحاء والتطبيق، باعتبار أنّ الآية توحي بأنّ سيطرة المستكبرين لا بدّ من أن تعقبها سيطرة المستضعفين، ما يجعل من القضية سنَّةً إلهيةً، ويوحي بأنّ النهاية في الدنيا سوف تكون للمستضعفين الذين يكونون ورثة الأرض وخلفاء الله.

                           *****

25 ـــ مؤمن آل فرعون نموذج إنساني إيماني:

{وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ*وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُم مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَّا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ*وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ*يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ*وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ*مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعِبَادِ*وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ*يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ*وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ*الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ*وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ*أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ*وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ*يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ*مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ*وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ*تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ*لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ*فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ*فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ*النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 26 ـــ 46].

                            *****

معاني المفردات:

{عُذْتُ}: لذت واعتصمت.

{مُسْرِفٌ}: المسرف هنا: مَنْ تجاوز الحدّ في معاصي الله.

{ظَاهِرِينَ}: غالبين.

{دَأْبِ}: عادة.

{يَوْمَ التَّنَادِ}: المقصود يوم القيامة.

{عَاصِمٍ}: مانع.

{صَرْحاً}: الصرح: البناء الظاهر.

{الأَسْبَابَ}: السبب: كلّ ما يتوصّل به إلى شيء يبعد عنك.

{تَبَابٍ}: هلاك وخسار.

{مَرَدَّنّا}: مرجعنا.

{وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ}: أرد أمري إلى الله.

{وَحَاقَ}: أحاط ونزل به.

{غُدُوّاً وَعَشِيّاً}: صباحاً ومساءً.

                           *****

دعا موسى (عليه السلام) فرعون كما أمره الله سبحانه، إلاّ أنّه أبى واستكبر، {وَقَالَ فِرْعَوْنُ} ـــ وهو يستشير قومه ـــ ليبقى له الموقع المميَّز بينهم.. {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى} فيبدو أنّه كان يواجه معارضةً منهم، ولهذا فإنّه يطلب منهم أن يوافقوه على قتله {وَلْيَدْعُ رَبَّهُ} فهذا الربّ لن يستطيع أن ينصره علينا. ثمّ بدأ عملية الإثارة التي تخاطب مشاعرهم، وتستثير غرائزهم، وتحرِّك عصبيّتهم {إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ} الذي درجتم عليه منذ بداية تاريخكم وينقلكم إلى عبادة الإله الواحد {أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} الذي قد يسيء إلى النظام العام، وإثارة الفتنة، وتحريك المشاكل ضدّ الحكم الطاغي. هذا هو الأسلوب الذي يستعمله الطغاة في تأليب الناس ضدّ من يعملون على إصلاح الواقع وإسقاط حكمهم وتغيير النظام الفاسد.. فهم يتّهمونهم بالكلمات المثيرة للمشاعر، كالتخريب، والإفساد وتبديل الدّين ونحو ذلك.. وهذا ما حاول فرعون فعله في مواجهة موسى ليحصل على تأييد قومه لفكرة قتله.

                           *****

موسى (عليه السلام) يبطل تأثير كلام فرعون في النفوس:

{وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُم} فليست قوّتي الذاتية هي التي أواجه بها هذا المنطق التهديدي الذي تستخدمونه ضدّي بما تملكونه من قوّةٍ كبيرة، بل إنّني أستجير بقوّة الله منكم، وأنا واثقٌ بأنّس سأحصل منها على ما أريد، لأنّي لا أتحرّك من موقع ذاتي، بل من موقع رساليّ، وهو موقعٌ يحقّق لي الشعور بالأمن منكم و{مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَّا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ} ولا يخاف نتائج عمله، لاستغراقه في الأنانية والكبرياء الّلتين تبعدانه عن التفكير في الواقع بموضوعية وفي النتائج بمسؤولية، وتلك هي مشكلة الاستكبار التي تمنع الإنسان من الإيمان بيوم الحساب.

ومن خلال ما ذكرناه، فإنّنا نلاحظ أنّ موسى لم يقل هذا الكلام من موقع ضعف، بل حاول التأثير على نفسيّاتهم ومواقفهم عبر الإيحاء بأنّ الله الذي هو ربّه وربّهم يدعم موقفه، ليبطل تأثير كلام فرعون في نفوسهم، وليبعث الخوف في نفس فرعون بالذّات، كردٍّ على كلامه في مواجهة موقع موسى عندما قال: {وَلْيَدْعُ رَبَّهُ}.

{وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ}.. وهذا نموذجٌ إنسانيٌّ إيماني، يريد القرآن أن يقدّمه لنا عبر ما يمثّله من مواقف في تاريخ العقيدة الإلهيّة وحركة الأنبياء وتأثيرها في حياة مجتمعاتهم الكافرة والضالّة، ويضعه في مستوى الظاهرة البارزة بسبب الموقف الرائع الذي اتّخذه في عملية التحدّي.

فليس من المستبعد أن ينشأ إنسانٌ مؤمنٌ في مجتمع الكفر بصورةٍ عامّة، ولكنَّ من المستبعد جدّاً أن يكون هذا الإنسان المؤمن جزءاً من الجهاز الحاكم الذي يرعى حركة الكفر وينمّيها، ويحارب كلّ من يعارضها أو يقف في وجهها، باعتبار أنّ الكفر هو مصدر امتيازات الحكم التي حصل عليها، وبالتالي فإنّ سيادة الإيمان في المجتمع تفقده قداسة الشخصية وقداسة المركز، وهو أمر نلاحظه في وضعيّة فرعون بالنسبة لمجتمعه، فهو كان يحكم المجتمع من موقع شعور الناس بقداسته، لأنّه يجسّد الألوهية أو يحمل جزءاً منها يبرّر مطالبتهم بالخضوع له وتقديسه.

                           *****

 

المؤمن ـــ الظاهرة:  

وعلى ضوء هذا، نستطيع أن نقرّر أنّ مؤمن آل فرعون يمثّل ظاهرةً مشرقةً جديرةً بالتأمّل والدرس، وباعثةً على الأمل في ظلمات اليأس، عندما يجد الداعية الأجواء مكفهرّةً أمامه، فإنّه سيلتقي أملاً أخضر لظهور وجهٍ جديدٍ غير منتظر، يحمل الرسالة معه، ويجاهد من أجله، من دون التفات للامتيازات أو الإغراءات المطروحة أمامه، أو الموجودة لديه.

وقد صوَّر لنا القرآن الكريم هذا المؤمن ـــ الظاهرة بصورة الإنسان الرساليّ الذي يمتلئ قلبه بالحزن على قومه، فتزحف مشاعره على كلماته لتتلمّسها بحذرٍ وهدوءٍ، لتفتح نافذةً على الحقّ هنا، أو هنك، وتفسح مجالاً للضوء كي يخترق بعض خيوط الظلام، لينطلق الضياء خطوة خطوة لمعةً في الأعماق، وإشراقةً في الضمير، قبل أن يشعر جنود الظلام بأنّ جحافل الفجر تعدّ في مقالع الضوء أعمدة الشروق.

ثمّ يندفع في رسالته، وتتصاعد الكلمات بقوّة، وتتفجَّر الآلام بحزم، وتنطلق الكلمة الحاسمة، لتكشف عن الحقّ، فيحسم الموقف بالنداء القويّ الهادر الذي يترك الحذر خلفه، ليستقبل المجابهة بقوّة.

ولعلّ قيمة هذا المؤمن الكبيرة تتمثّل في هذه الانطلاقة الإيمانية التي عاشت في نفسه فعبّأت داخله بكلّ معاني الياة الكبيرة، حتى تحوّل إلى إنسانٍ لا يكتفي بالجانب الذاتي للإيمان الذي يضمن مصيره في الآخرة من دون أن يترك أيَّ أثرٍ حركيٍّ في موقفه تجاه الآخرين، كما هي حال كثير من المؤمنين الذي يشعرون بأنّ مسؤوليّتهم تجاه الإيمان تنتهي عندما يقومون بما يفرضه عليهم من اعمالٍ وعباداتٍ أو ممارساتٍ فرديةٍ، لأنّ ذلك هو سبيل النجاة في الآخرة.. أمّا الأعمال التي تُعرِّض الإنسان للخطر، بفعل واقع المواجهة القويّة للتحدّيات الفكرية والاجتماعية والعسكرية، فليس ممّا تفرضه عليهم مسؤولية الإيمان، فإنّ لتلك الأعمال أهلها وأصحابها.

أمَّا هذا المؤمن فلم يكتفِ بهذا الجانب، بل اعتبر الإيمان مسؤولية المؤمن، لارتباطه بقضية الخلاص الشخصي في الدنيا والآخرة، وعلاقته بخلاص الآخرين، لأنّ من طبيعة الإيمان أن يعيش المؤمن ـــ في نفسه ـــ حركة الرسالة وامتدادها في حساب المسؤولية التي تحوّل كلّ المؤمنين إلى رُسُلٍ صغار، بحسب طاقتهم وقدرتهم، كما تُحوّل الأقوال والأفعال إلى رسالاتٍ تتحرّك في أكثر من اتجاهٍ، لتلتقي ـــ بعد ذلك ـــ في نطاق الهدف الواحد الكبير، وهو سعادة الإنسان في ظلّ شريعة الله ورسالته.

                           *****

سبب كتمه لإيمانه:

... وكان يكتم إيمانه، لا بسبب الخوف، فقد كان، في ما يبدو، يملك الموقع القويّ الذي يكفل له الحماية من قومه، ولكن كي يحصل على حريّة الحركة في خدمة الرسالة من خلال الإيحاء بالحياد والاعتدال، إزاء واقع التطرّف المتمثّل في موقف فرعون المتوتّر والحاقد ضدّ الرسالة والرسول.. فقد بدأ العمل على تفشيل مخطّطات فرعون ضدّ موسى بهدوء، من خلال نثر الكلمات التي توحي بالتفكير وتبعث على اليقظة هنا وهناك، مع هذا الشخص أو ذاك، ولدى هذه المجموعة أو تلك، حتى نستطيع أن نرجع إلى تأثيره في موقف فرعون الخائف الذي كان يستجدي تأييد أتباعه لاتخاذ موقفٍ شديدٍ ضدّ موسى، ولكنّه لم يحصل على شيءٍ من ذلك، فقد يظهر لنا، من خلال دراستنا للحوار الذي كان يديره مع قومه، أنّه كان يعمل على تفريغ القوّة من الداخل حتى يرتفع الضغط على الرسالة من جهة، وتقوى خطوات الرسول من جهةٍ أخرى.. وكان يتابع عمله هذا من موقع القوّة التي يتمتَّع بها لا من موقع الضعف، لأنّنا نلاحظ ـــ في ما يأتي من حديث القرآن عنه ـــ أنّه كان يعبِّر عن رأيه في كثير من المجالات بصراحةٍ وقوّةٍ من غير أن يجابه بأيِّ ردّ، أو محاولة للردّ من أحد.

وقد تحدَّث القرآن عن هذا المؤمن، وعن مواقفه في إطار حديثه عن قصّة موسى مع فرعون، حيث نلتقي به في هذا الجوّ الجديد من الحوار الذي نرى فيه فرعون مجتمعاً بقومه، طالباً منهم إعطاءه الحرية في قتل موسى، متذرّعاً بالأسباب التي يتذرّع بها الطغاة ـــ عادةً ـــ للقضاء على خصومهم من أصحاب المبادئ والرسالات والأفكار الإصلاحية، وهي المحافظة على النظام وصلاح أمر البلاد والعباد.

                           *****

الحوار غير المباشر بين المؤمن وفرعون:

وهنا يقف هذا المؤمن، لينطلق صوته من الداخل، في أسلوبٍ لا يجابه فيه فرعون بشكلٍ مباشر، بل يتّجه به إلى قومه ليمنعهم من التجاوب مع فرعون في طلبه.. فنلتقي بالموقف الرائع الذي يرسم لنا صورة جديدة من الحوار الذي لا يلتقي فيه المتحاوران وجهاً لوجه، بل يطرح أحدهما الفكرة في حياة المجتمع، وينطلق الآخر مع أفراد المجتمع لردّ الفكرة وإظهار فسادها وخطئها، لأنّ الطرف الأوّل للحوار لا يمكن أن يخضع لروح الحوار في أجواء البحث عن الحقيقة، لأنّ القضية عنده قضية سلطانٍ يجب أن يدوم ويستمرّ، لا قضية حقٍّ يجب أن يقوم وينطلق، ولهذا فإنّ مواجهته بالنقد والحوار لا تحقّق أيّة نتيجة، لأنّها قد تشارك في خنق الصوت وقتله، أو في إقامة الحواجز بين المجتمع وبينه، لذا فإنّ الخطّة العملية تقضي بالتوجّه إلى المجتمع بعيداً عن أجواء الحاكم وضغوطه، ليلقي إليه بما يواجه الفكرة المطروحة، فإنّ ذلك هو السبيل الأفضل للوصول إلى النتيجة، بدون سلبيات. ولعلّ روعة هذا الأسلوب الجديد في الحوار تكمن في أنّك لا تلتقي فيه بصوت فرعون يرن في القاعة في جانب، وصوت هذا المؤمن ينطلق في جانبٍ آخر، بل تسمع صوت موسى ينساب هادئاً رسالياً في بعض الحالات، ليعطينا الصورة الرائعة للرسالة، وهي تتحرّك بين الرسول والطاغية من جهة، وبين الطاغية والمؤمن بالرسالة من جهةٍ أخرى. وهم جميعاً يحاولون إيصال المجتمع إلى ما يريدون، في الوقت الذي نشعر فيه بأنّ هذا المجتمع لا يمارس دوراً حركياً مضادّاً، بل يبقى خاضعاً للتأثيرات النفسية والفكرية التي تأتي من هنا وهناك، من دون أن يمارس دوراً مستقلاًّ، لأنّه لم يستطع التخفّف من ضغط الجوّ الحاكم عليه تماماً، ولذلك كان يتأرجح بين رواسبه ومصالحه، وبين مشاعره وأفكاره في عملية تجاذب وصراع.

{أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ} نلاحظ أنّ هذا المؤمن يتّخذ في البداية مظهر الإنسان الحيادي البعيد ـــ نسبيّاً ـــ عن موضوع الخلاف، فيناقش المسألة المطروحة باعتباره فرداً من أفراد العائلة الحاكمة، بأسلوبٍ هادئٍ خفيفٍ، فقد كان فرعون يطلب من قومه إعطاءه الحرية في قتل موسى دفاعاً عن العقيدة والنظام، اللذين جاء موسى لتخريبهما حسب ادّعائه. وهنا يتدخّل هذا المؤمن ـــ في أسلوبه الواقعي الحذر ـــ ليواجههم باستنكار فكرة قتل موسى لأنّه قال إنّ ربّي الله، في حشدٍ من البيّنات والبراهين التي تدعم دعواه وتؤيّدها، فهو لا يملك الرجال والسلاح لتخافوا منه على الملك، فهو يطرح الفكرة من خلال الرسالة، فاتركوه وشأنه، فإن كان كاذباً فسيجني جزاء كذبه دون أن يصيبكم منه شيء، وإن كان صادقاً يصبْكم بعض الذي يعدكم، وهذا ما عبّرت عنه الفقرة التالية: {وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} فلا تكونوا من المسرفين الذين يتجاوزون حدود الحقّ في تفكيرهم وفي موقفهم فيدّعون ما ليس لهم بحقّ، ولا تكونوا من الكذّابين الذين يكذبون على الناس بالباطل في ما يدّعونه من ربوبيّة من ليس ربّاً، وفي ما يثيرونه بين الناس من أكاذيب في قضايا الحياة العامّة والخاصّة.

المؤمن يثير الخوف من بأس الله:

ثمّ بدأ في إثارة الخوف بالمقارنة بين ما يملكون من قوّةٍ وسطوةٍ، وبين ما يصوّره موسى من قوّة الله المطلقة التي لا يملكون إزاءها أيّ دفاعٍ لأنّها فوق ذلك كلّه: {يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ} في ما تملكونه من غلبة وعلوٍّ في الموقع وفي السلطة، ولكن ما حجم قوّتكم هذه، مهما كانت كبيرةً، أمام قوّة الله الذي يهدّدنا موسى بعذابه {فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءنَا} فأخذنا بعذابه، فهل نستطيع دفاعاً،ن وهل نستطيع مواجهة بأس الله لتكون لنا الغلبة، أو لندفع عن أنفسنا العذاب؟!

                           *****

فرعون يطلق حكمه المتعسّف:

ولم يشأ فرعون ـــ في ما يظهر ـــ أن يجيب عن هذا اللّون من الكلام، بل استعمل أسلوب الحاكم الذي يطلق حكمه من دون مناقشةٍ، بأسلوب حاول فيه التخفيف من تأثير كلام المؤمن عليهم، معلناً للنّاس أنّه يريهم ما يراه ولن يهديهم إلاّ سبيل الرشاد {قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} فتلك قضية لا ينتظر لها جواباً، لأنّ دور الأتباع أن يتلقّوا كلامه، كحقيقةٍ لا تُناقش، كما يفعل كلّ الطغاة أمثاله، في عملية إيحاء بما يملكونه من قوّة تطلق أوامرها من الموقع الأعلى الذي يفرض الطاعة على الجميع.

                           *****

مؤمن آل فرعون يخوّف قومه ويذكّرهم مصير الأُمم السّالفة:

.. ووقف مؤمن آل فرعون مجدّداً أمام الناس ليردّ على فرعون بأسلوب جديد، يطرح فيه قضية موقفهم من موسى ليخوِّفهم من المصير المظلم الذي قد يستقبلهم كما استقبل غيرهم من الأمم التي وقفت الموقف نفسه، فحاربت أنبياءها واضطهدتهم من دون أن تعطيهم حرية التعبير عمّا يحملونه من فكر وما يدعون إليه من رسالة.

{وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ} من الأمم التي سبقتكم وتكتّلت احزاباً للكفر، وجماعاتٍ للضلال، وتمرّدت على الله وواجهت رسله، وحاربت رسالاته، {مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ} هؤلاء الذين عذَّبهم الله في الدنيا قبل الآخرة، بعد أن أقام عليهم الحُجّة، {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعِبَادِ} بل العباد هُمُ الذين يظلمون أنفسهم بالكفر بالله والتمرّد على رسله.

{وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ} وهو يوم القيامة الذي ينادي فيه الظالمون بعضهم بعضاً أو ينادون بالويل والثبور على ما اعتادوا به في الدنيا، أو يراد به الإشارة إلى المناداة التي تقع بين أصحاب الجنّة وأصحاب النار على ما ذكره الله تعالى في سورة الأعراف. {يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ} في حالة فرار وهزيمة خائفةٍ مرعبةٍ {مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ} يعصمكم من عذاب الله، { وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ} يتركه لنفسه ويهمله فلا يفيض عليه من لطفه ورحمته، {فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} لأنّ للهدى أسبابه التي خلقها الله وطوعها لإرادة العبد واختياره، فإذا رفضها واستكبر عليها، وسلبه الله رعايته فلا يملك أحد أن يحقّق له الهداية.

{وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ} في ما كان يثيره أمامكم من فكر توحيديٍّ يهديم إلى معرفة الله، ومن روح مسلمة تسلم كلّ حياتها لله في إسلام القلب واللّسان والحركة {فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ} فلم تؤمنوا به، ولم تصدّقوه، بل واجهتم دعوته بعلامات الاستفهام الهادفة إلى التحدّي وإثارة الجدال العقيم، لا الوصول إلى معرفة الحقيقة.. {حَتَّى إِذَا هَلَكَ} وانتقل إلى جوار ربّه {قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولاً} في إعلانٍ لانتهاء عهد الرسل، لأنّ ذلك لن يكلّفكم شيئاً في الالتزام، باعتبار أنّ الإيمان بالرسل شيء يتّصل بالماضي، في الوقت الذي تؤكّدون فيه حريّة الانتماء في المستقبل، حيث لا موقع للرسالات {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ} ممّن لا ينفتح على حدود الله، ولا يقف عند ضوابط المعرفة، ولا يبني قناعاته الفكرية على قاعدة اليقين ليلتزم به.

ولعلّ هذه الآية هي المناسبة الوحيدة التي تحدَّث فيها القرآن عن شخصية يوسف الرسالية، ومعاناته مع قومه، نتيجة تمرّدهم عليه وشكّهم في رسوليّته في حركة الدعوة في حياته.. فقد كان القرآن يتحدّث عنه بصفته الحاكم الإداري الذي يملك السلطة على مقدّرات مصر المالية.

                           *****

مقت الله للجدال العابث اللاّهي:

{الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ} فهم لا يجادلون استناداً إلى حجّةٍ أو برهان، بل من موقع العبث والّلهو والعناد {كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ آمَنُوا} لأنّ مثل هذا الموقف الجامد المتعنّت أمام كلّ دلائل الحقيقة، لا يستحقّ إلاّ أشدّ البغض والاحتقار والعذاب {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} فلا يفقهون شيئاً ممّا يسمعون ولا يفهمون حقيقة في ما يفكّرون، لأنّ قلوبهم قد أغلقت على الجهل الذي يعيش في عمق شخصيّاتهم.. نتيجة ما عاشته من كبرياء وما تحرّكت به من جبروت.

يا هامان ابن لي صرحاً... لأطّلع إلى إله موسى:

ويعود فرعون من جديد، وكأنّه استمع للحوار بين هذا المؤمن وقومه، فيردّ عليه بشكلٍ غير مباشر، ليخفّف من تأثير فكرة الخوف التي أثارها المؤمن في حديثه عن الله، كحقيقة وجودٍ كما لو كان مؤمناً به، خلافاً لأسلوبه السابق في تناول تلك القضية، فهو الآن يطرح أمامهم تاريخ الرسالات والرسل مع شعوبهم.

وكان أسلوب فرعون يتمثّل في إظهار المحاولة الجادّة للصعود إلى ربِّ موسى ليراه ويحاسبه، تماماً كما لو كان الله شخصاً كبقيّة الأشخاص الذين يحاربهم ويحاربونه، ويجادلهم ويجادلونه، إنّه يوحي لهم بأنّه يريد اكتشافه، هل هو حقيقةٌ أم وهمٌ وخيال.

{وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً} ويوحي كلامه بأنّه يريد بناءً شامخاً في أعلى درجات الارتفاع {لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ} أي الوسائل التي أستطيع من خلالها الصعود إلى السماوات، {أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} الذي يتحدّث عنه موسى كما لو كان ساكناً في السماء لأتأكّد من وجوده هناك {وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً} لأنّه لم يظهر لأحدٍ من الناس، وهو أمر لا يستطيع أن يصدّقه أحد، لأنّه لا معنى لوجود إلهٍ غير مرئيٍّ، وهكذا حاول فرعون الإيحاء لمن حوله بالقوّة الكبيرة التي ينازع بها إله السماوات والأرض {وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ} في ما وجده حوله من خضوع الناس له وتزلّفهم إليه بإعلان قبولهم لدعواه الربوبية وهو خضوع وتزلّف يبعثان في نفوس الطغاة الشجاعة للاستعلاء على الناس {وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ} القويم الذي يصل بالإنسان إلى معرفة الله والعمل بطاعته والخضوع لإرادته في الحياة {وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ} أي هلاك وانقطاع، لأنّه يسير في الطريق الخطأ الذي يؤدّي إلى النتائج السلبية التي تربك كلّ مخطّطاته ضدّ الحقّ وأهله، فإنّ الله له بالمرصاد.

                           *****

المؤمن يستخدم أسلوب الوعظ:

ولكنّ مؤمن آل فرعون واقف لفرعون بالمرصاد، يتابع كلماته ويرصد تأثيره على الناس، ليخفّف من ذاك التأثير أو يبطله، فنراه ـــ في هذا الموقف ـــ يرفع صوته من جديد، بأسلوبٍ زاخرٍ بالمرارة والعاطفة، ومملوءٍ بالموعظة والنصيحة، يبصِّر قومه بالحياة وفنائها، والآخرة وخلودها، ثمّ يحدِّد لهم طبيعة المسؤولية ونتائجها، فكلّ إنسان يتحمّل مسؤولية عمله، إن خيراً فخير وإن شرّاً فشرّ، ولن يتحمّل أيّ شخص مسؤولية شخص آخر، ولذا فإنّ عليهم أن يواجهوا مسؤوليّتهم بأنفسهم، لأنّ فرعون لن يستطيع أن يدفع عنهم أيّ شيء.

{وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ} ولا تتبعوا فرعون الذي يريد أن يقودكم إلى طريق الغيّ والفساد، ليستغلّكم في ما يحقّق أطماعه ويوصله إلى غاياته الاستكبارية في التجبّر والبغي في الأرض بغير الحقّ ثمّ ينتهي أمره إلى الفناء، فلا تحصلون منه على شيء لأنّكم ستموتون معه أو في سبيله دون آية نتيجةٍ طيّبة.. أمّا أنا، فليست لديّ أيّة غاية ذاتيةٍ، بل كلّ هدفي إعطاء نظرتكم إلى الحياة امتدادها الفعلي، لتروا أنّ حياتنا هذه ليست نهاية المطاف، فهناك حياة أخرى تواجهون بها نتائج المسؤولية تبعاً لحركة المسؤولية في الدنيا في نطاقها السلبي أو الإيجابي.

{يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ} زائل يحمله الإنسان مدّة ثمّ يفارقه {وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} التي يخلد الإنسان فيها في نعيم دائم أو عذابٍ خالدٍ. و{مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا} فذلك هو الجزاء العادل الذي يضع العقوبة في حجم الجريمة، {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى} فلا فرق في قيمة العمل بين إنسانٍ آخر ذكراً كان أو أنثى، لأنّ الأنوثة والذكورة لا تمنحان طبيعة العمل آيةً ميزةٍ، فقد يكون عمل المرأة أفضل من عمل الرجل أو العكس، وقد يتساوى عملهما في القيمة، {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} لأنّ الإيمان هو المضمون الروحي الذي يميّز روحية العمل، ويمنحه معنى يتّصل بالله بدلاً من أن يقبى جامداً في مضمونه المادي الذي يتّصل بالأرض، {فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} لأنّ عطاء الله للعاملين في سبيله المتقرّبين إليه، لا حدود له، فهو الكريم الذي لا يقف كرمه عند حدّ.

                           *****

 

 

 

يا قوم تعالو إلى الإيمان فتنجوا...

هنا نلمح حدوث تجاذبٍ وصراعٍ بينه وبينهم، فقد حاولوا في ما يبدو منعه من الانطلاق بعيداً في هذا الاتجاه، وجرّه إلى حياتهم وملذّاتهم وشهواتهم، ولكنّه ظلّ صامداً في موقفه، يشرح لهم الفارق بين دعوته ودعوتهم، فهو يدعوهم إلى الجنّة وإلى السعادة، وإلى النجاة في الدنيا والآخرة.. أمّا هم، فإنّهم يدعونه إلى السير مع شخص لا يشكّل الارتباط به آية ضمانةٍ للحياة، بينما يمثّل الارتباط بالله كلّ المعاني الخيّرة الطيّبة عندما يعيش الإنسان معها عزيزاً في ظلّ عزّة الله، مطمئنّاً إلى مصيره في ظلّ غفران الله.

{وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ} من النار {وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ} فقد كانوا يحاولون جرّه إلى عقيدتهم وخطّهم الفكري والعملي في الحياة، لينسجم مع جوّ العائلة المالكة الكبيرة التي تريد الإبقاء على وحدتها في الموقف والانتماء.. لكنّه ردّ على المحاولة، بقوّة لا مهادنة فيها ولا مجاملة، لأنّ المسألة تتّصل بالعقيدة الحقّة، الأمر الذي يجعل الموقف جهاداً في سبيل جرّهم إليه.

{تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ} لا يكون انتمائي إلى مجتمعكم من دون أساسٍ أو حُجّة {وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ} الذي يملك القوّة كلّها، فهو الذي يعطي القوّة للأقوياء، كما يملك الرحمة كلّها التي تشمل المذنبين الراجعين إليه بالمغفرة.

{لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} من عبادة هذا الفرعون الذي لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرّاً إلاّ بالله، فكيف يملكهما لغيره، وكيف يكون إلهاً للناس وهو مخلوق لله خالق الحياة والناس، فهو {لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ} لأنّه لا يمثّل آية حقيقةً ثابتةٍ في الواقع الدنيوي والآخرويّ، {وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ} فهو الذي بدأ الخلق فوجِدوا من موقع إرادته، وهو الذي يعيدهم ليقفوا أمامه ليحاسبهم على أعمالهم ويدخل الذين آمنوا واتّقوا منهم في رحمته فيكونوا من أصحاب الجنّة، {وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ} الذين أسرفوا على أنفسهم بالكفر والعصيان {هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} حيث يلاقون جزاء أعمالهم الشرّيرة.

                           *****

نهاية الحوار:

وفي نهاية هذا الفصل يختم المؤمن حواره معهم، بعد استنفاد كلّ الوسائل، ليقول لهم: {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ} من الفكر الإيماني، والخطّ التوحيدي، والنهج المستقيم، وستستعيدون كلامي كلّه، عندما تصطدمون بواقع الحياة الذي يتحدّى كلّ أوضاعكم وأعمالكم، تماماً ككلّ الأصوات الخيّرة التي لا تلامس أرواح وأفكار الناس الذين توجّه إليهم نداءها إلاّ بعد حين.

ثمّ يعلن لهم أنّه ينفض يديه منهم ويفوّض أمره إلى الله بقوله: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ} فهو الذي يتولّى تدبيري في الدنيا، وتدبيري في الآخرة {إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} لا يفوته من أمرهم شيء، ممّا يخفونه وممّا يعلنونه.

الله يستجيب لعبده المؤمن:

وتأتي اللّمسة القرآنية، لتؤكّد استجابة الله له في هذا التفويض، حيث وقاه الله سيّئات مكرهم، بينما واجهوا نتائج مسؤوليّتهم، فانتهوا إلى النار، وبئس القرار {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا} وأبطل كلّ تدبيرهم في الضغط عليه، ومحاصرته ومصادرة حريّته، وهزيمة موقفه، {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ} وهو {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً} في عذاب مستمرّ في عالم البرزخ يعيشون فيه العذاب النفسي {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ} حيث ينطلق نداء الله القوي الحاسم {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} الذي يستحقّونه لطغيانهم وكفرهم.

إيحاءات القصّة والحوار:

وقد لا يفوت القارئ، وهو يتابع هذه الآيات، كيف يمكننا أن نطبّق كثيراً من عناصر هذا الأسلوب على ما نواجهه في حياتنا المعاصرة، ومنها النقاط التالية:

1 ـــ وجود مؤمنين غير معلنين يدعون إلى الله يعيشون مع مجتمعاتهم بأسلوبٍ يعطي انطباعاً بأنّهم لا يختلفون عن مجتمعاتهم تلك من حيث الانتماء، ومن حيث طريقة الحياة، ولكن من دون أن ينحرفوا عن الخطّ الصحيح، وهم يتابعون الدعوة من أجل كسب أكبر عددٍ ممكن من الأفراد إليها من جهةٍ، والاطّلاع على الخطط التي توضع ضدّ الإيمان من جهةٍ أخرى.

وهذا هو الذي تعبّر عنه فكرة "التقيّة" الإسلامية التي يعتمدها الشيعة ويرون شرعيّتها استناداً إلى المبادئ القرآنية المتعدّدة، ومنها هذه القصّة، وقصّة عمار بن ياسر وغيرها.

2 ـــ ملاحقة العاملين في سبيل الله للأفكار التي يطلقها الحاكمون المنحرفون وغيرهم، في أوساط المجتمع، لتضليله، ولتبرير خطواتهم العدوانية والانحرافية بأسلوب يربط المجتمع بالفكرة، بعيداً عن أيّة سلبيات صداميةٍ توجب الدخول في مواقف عنيفةٍ لم يستعدّ الدّعاة لها في مرحلتهم التي يمرّون بها، بحيث يتحوّل بينهم وبين المجتمع في هذه القضايا، إلى حوارٍ غير مباشرٍ بينهم وبين الحاكم، باعتبار هذا الأسلوب طريقة عمليّة ومحاولة أخيرة، لهداية الحاكم وإيقاظ ضميره، وإلقاء الرعب في نفسه عندما يشعر بالأصوات التي ترتفع ضدّ أفكاره وخطواته بهدوءٍ وقوّةٍ وحكمةٍ، فلا تترك له أيّة حُجّةٍ لمواجهتها وتصفيتها.

3 ـــ استيحاء الروح الرسالية التي تعيش في وجدان الداعية وضميره وخطواته من أسلوب هذا المؤمن، حيث نشعر بالوداعة الإيمانية التي تبدو في حياته، وبالهدوء القوي الذي يسيطر عليه، والعاطفة الفيَّاضة التي تنساب في كلماته وخطواته، والحكمة الرائعة في أسلوب الحوار والدعوة، ما يوحي بابتعاده عن أجواء التحدّي العام، حتى في أشدّ الحالات التي يواجهها ضدّهم، فنحن لم نلمح ـــ في نهاية المطاف ـــ في أسلوبه أي إعلان عن انتمائه إلى موسى، بل بقي على طريقته التي بدأها، من اعتبار نفسه إنساناً يحكم للحقّ، انطلاقاً من دراسته للموقف وقناعته به، لا من موقع انتسابه إلى أحد أطراف النزاع.

4 ـــ الإبقاء على الأسلوب الوعظي الذي يرتكز على التخويف من الله، ومن نتائج الحساب في الآخرة، حتى مع المتكبّرين والمتجبّرين والطغاة، في مواجهة لتحديهم الناس بما يملكون من قوّة بتحدٍّ أكبر منه يطرح قوّة الله في المقابل باعتبارها القوّة التي لا تقاوم، ثمّ محاولة إحداث الفجوة بينهم وبين الناس، عبر ربط قضية الحقّ والباطل بالخوف من المصير، ما يخلق لدى الناس شعوراً بضرورة الابتعاد عن مواطن الخطر مهما كانت.

5 ـــ التركيز على إيضاح الخطّ الفاصل بين الدعوة إلى الله وبين الدعوة إلى غيره، بإبراز الخصائص التي تتميَّز به كلٌّ من الدعوتين، وإظهار الطابع الأصيل لكلّ منهما، والتركيز على النتائج العملية التي تترتّب على اختيار طريق الإيمان بالله في سلامة المصير، بينما يؤدّي السير في الطريق المعاكس إلى نتائج خطِرةٍ على الدنيا والآخرة، كما لاحظنا ذلك في أسلوب هذا المؤمن في الدعوة، حيث ختم حديثه مع فرعون بالتركيز على طبيعة دعوته التي تنتهي إلى النار.

ولا بدّ لهذا الأسلوب من مواجهة المؤثّرات الفكرية والاجتماعية والسياسيّة والاقتصادية، التي تساهم في توجيه الرأي العام، وتعطي لبعض التيّارات والأفكار المطروحة، ثقةً اجتماعيةً أو رفضاً اجتماعياً، لأنّ تلك المؤثّرات قد تضلِّل الرأي العام وتنحرف به عن وضوح الرؤية، فتُلبس الباطل لبوس الحقّ، أو تمنح الحقّ ثياب الباطل، كما نلاحظه في بعض التيّارات السياسية والاقتصادية التي توجِّه التفكير إلى بعض العوامل الحيويّة التي تحرّك المجتمع، نتيجة المشاكل الكبيرة المطروحة من خلالها، فتوحي لنا بأنّ تلك العوامل هي كلّ شيء، ما يؤدّي إلى عزل بقية العوامل المؤثّرة على الحياة بحيث تبدو عوامل لا ترتبط بقضايا المصير، لأنّ المصير أصبح شأناً دنيويّاً لا علاقة له بالآخرة، أو بالإيمان بالله من قريبٍ أو بعيدٍ.

6 ـــ إنّ ظاهرة مؤمن آل فرعون تؤكّد الفكرة الإسلامية التي ترفض اعتبار البيئة عاملاً حاسماً يشلّ عنصر الاختيار والإرادة في الإنسان لجهة ما يتّخذه من مواقف وما يقوم به من أعمال، ليكون ذلك مبرّراً شرعيّاً للانحراف من جهةٍ، ومن جهة أخرى دليلاً على الاتجاه الجبري الفلسفيّ الذي ينكر على الإنسان حريّته من موقع البيئة التي تسيطر على تفكيره وتوجّه إرادته في اتجاه محدَّد منحرف أو مستقيم.

إنّ وجود مثل هذا الإنسان الذي يولد في مجتمع الشرّ، ووجود امرأة فرعون التي تعيش تحت ضغط هذا المجتمع، يؤكّد الفكرة التي تعتبر جوّ الشرّ عنصراً يشجّع الشرّ، ويضعف مقاومة الإنسان ضدّه، ولكنّه لا يلغي المقاومة، بل يبقي للإنسان مجال التعبير عن إرادته في ظلّ الظروف الصعبة، ويسمح للإنسان بتجربة الانتصار. ونجد في المقابل، الإنسان الذي يولد في مجتمع الخير، أو يعيش فيه، كابن نوح وامرأته، وامرأة لوط، وغيرهم من الأشخاص الذين لم تمنعهم أجواء الخير التي عاشوا فيها من أن ينحرفوا بسبب مؤثّرات الانحراف التي استجابوا لها.

إنّ البيئة ـــ في الأساس ـــ لا تضع أمام الإنسان حاجزاً مستحيل الاختراق بينه وبين الخروج عن إرادة مجتمعه وسلوكه، بل تضع أمامه عقبات وصعوبات يمكن للإنسان اختراقها بقوّة الفكر والإرادة ـــ لو شاء ذلك ـــ بعد جهدٍ طويل.

وهذا ما يبعث في نفوس العاملين إرادة الانتصار على عوامل البيئة الشرّيرة وضغوطها، ويمكّنهم من دفع الإنسان بعيداً عن أفكار البيئة وأخلاقها وسلوكها العملي، من أجل دفع عملية تغيير المجتمع إلى الأمام بقوّة.

27 ـــ طالوت في مواجهة الطغيان:

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ*وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوَاْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ*وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلآئِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ*فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ*وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ*فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَـكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ*تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [البقرة: 246 ـــ 252].

                           *****

معاني المفردات:

{الْمَلإِ}: أشراف القوم ووجوههم، سموا بذلك لأنّهم يملأون العيون رواءً ومنظراً، والنفوس بهاءً وجلالاً.

{بَسْطَةً}: سعة، من بسط الشيء: نشره وتوسّعه وامتداده.

{التَّابُوتُ}: روي أنّه الصندوق الذي أنزله الله على أمّ موسى فوضعت فيه ابنها وألقته في البحر، وقد وضع فيه موسى الألواح ودرعه، وما كان عنده من آثار النبوّة.

{سَكِينَةٌ}: السكينة: الهدوء وطمأنينة القلب. وأصله: السكون الذي هو ثبوت الشيء بعد تحرّك.

{دَفْعُ اللهِ}: الدفع: الردّ بقوّة. وهو ـــ هنا ـــ بمعنى قانون الصراع التاريخي في حركة المجتمعات.

                           *****

هذه قصّة من القصص القرآني، الذي أريد به التأكيد على بعض المفاهيم التربوية العامة في الحياة العملية للإنسان، وقد أفاض المفسّرون فيها بما رووه من التفاصيل المتعلّقة بالأشخاص والأحداث والأشياء. ولكنّنا نتبع الأسلوب القرآني في طريقة تناولنا للقصّة، فنجمل في ما أجمل ونفصل في ما فصّل فيه الحديث، لأنَّ القضية في هذه القصة ـــ وفي غيرها من القصص ـــ هي قضية الفكرة التي توحي بالهدف، لا السرد الذي يدفع إلى أجواء الملهاة، فلا بدّ من أن نتناول منها الإنسان النموذج والحدث النموذج، في ما نتناوله من تفاصيلها.

إنّها قصة نبيّ من أنبياء بني إسرائيل مع قومه، ولا يهمّنا معرفة اسمه، لأنَّ ذلك لا قيمة له في ما نحن بصدده من الانفتاح على الفكرة التي نريد أن نخرج بها من الحوار القصصي في هذه القصة القرآنية.

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى} الذين كانوا يشعرون بالفراغ في جانب الواقع الاجتماعي من حولهم، فقد ابتعدوا عن حركة الصراع، وأصبحوا على هامش مواقع القوّة في الناس، لأنَّ الذي يربح الموقع المتقدّم، هو الذي يقاتل الآخرين الذين يملكون السيطرة الكبيرة بين الناس، فيفرضون كلمتهم ورأيهم وسلطتهم على الفئات المستضعفة في المجتمع ـــ كما هو واقعهم آنذاك ـــ ولهذا جاؤوا إلى نبيّهم الذي أرسله الله إليهم ـــ في سلسلة النبوّات الرسالية ـــ ليتحدّثوا معه حول المستقبل الذي يتطلّعون إليه في حركة القوّة كأصحاب رسالةٍ مفتوحةٍ على قضايا الإنسان والحياة. فقد انطلقت التوراة في عهد موسى، لتكون قاعدة للتشريع والحكمة والحركة والقوّة، ما يجعل القائمين عليها في موقع الامتياز الكبير على المستوى المادي والروحي.

{إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ} اختلف المفسّرون في اسمه، فقال بعضهم: إنّه صموئيل وهو بالعربية إسماعيل، وقيل شمعون، وقيل يوشع وغير ذلك ممّا لا جدوى من الحديث فيه. {ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ}. وقد جاء عن الإمام الصادق (عليه السلام) ـــ كما في المجمع ـــ كان الملك في ذلك الزمان هو الذي يسير بالجنود، والنبيّ يقيم له أمره ويثبّته بالخير من عند ربّه(1). ولعلَّ هذا ما دعاهم إلى طلب تعيين الملك، لأنَّ النبيّ لم يكن في هذا الموقع من الناحية الفعلية. وقد أعطوا حركتهم المبتغاة عنوان القتال في سبيل الله، لأنَّ هذا العنوان هو الذي يمنح الصراع قدسيّته ويخرجه من ماديّته إلى عنوان الروح، وهو الذي يستثير النفوس ويحوّلها إلى طاقة عظيمة منفتحة على الإيمان بالله ومنطلقة في سبيله، فكأنّها تؤدّي واجباً دينياً في الحرب الدفاعية، لا حاجة ذاتية في الواقع.

إنَّ الظاهر ـــ في هذه المرحلة أو في مقابلها من مراحل النبوّة في بني إسرائيل ـــ هو توزيع الأدوار بين النبوّة والملك، فللنبيّ دور التوجيه والتربية والدعوة إلى الله والإشراف على تعيين المراكز القيادية، وللملك دور الحرب والقتال والممارسة العملية للقيادة. ولهذا لم يطلب هؤلاء القوم من نبيّهم ان يقودهم للقتال، كما هو الحال في الإسلام عندما كان النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) أو الإمام هو الذي يقود الجيوش في المعارك الكبيرة، بل طلبوا منه أن يعيّن لهم ملكاً، يشعر الجميع بأنّ له حقّ الأمر، ليكون عليهم حقّ الطاعة.

{قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ} وكان هذا النبيّ في شكّ من جديّة هذا الطلب، فقال لهم: إنّه يخشى أن لا يستجيبوا للقتال إذا فرضه الله عليهم، {قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ} فأعلنوا ـــ في جوابهم له ـــ تصميمهم على القتال {وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا} انطلاقاً من مواقع الاضطهاد الذي تعرَّضوا له، من إخراج الظالمين لهم من ديارهم وأهاليهم، ما يجعل من قضية القتال قضية ترتبط بالذات من جهة، وبالعقيدة من جهةٍ أخرى. {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} الذين ينكصون عهدهم.

وبدأت التجربة: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً} فقد عيّن النبيّ القائد، وأوضح لهم أنَّ التعيين من الله لا منه، {قَالُوَاْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا} ولم يخفوا اعتراضهم على ذلك، لما يحسبونه أساساً للملك أو للقيادة، {وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ} وهي القدرة المالية الواسعة التي لا يملكها هذا القائد المعين، في الوقت الذي كانوا يأملون أن يكون القائد أحدهم، لأنّهم يرون أنفسهم حائزين على هذا الامتياز، ما يجعلهم أحقّ منه بالملك.

{قَالَ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} ووقف النبيّ ليشرح لهم أنَّ المال لا يمثّل قيمة مميّزة في الملك القائد، لأنّ القيادة تحتاج إلى قوّة يقاتل بها، وعلم يخطّط به خطط الحرب والقتال. وكلاهما موجودان في هذا الإنسان الذي زاده الله بسطة في العلم والجسم، {وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} فالقضية، أوّلاً وأخيراً، قضية الإرادة الإلهية التي تتحرّك من موقع الحكمة.

ثمّ شرح لهم علامة ملكه: {وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ} وهي أن يأتي حاملاً الصندوق الذي فيه السكينة، وهي الإيمان في ما روي عن الإمام محمّد الباقر (عليه السلام)، {وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى} من مواريث العلم والحكمة.

{فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ} وانطلق طالوت، وهذا هو اسم الملك الذي عيّنه النبيّ، ومضى معه جنوده. {قَالَ إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ} وبدأت التجربة بين القائد وجنوده، فقد أعلن لهم أنَّ الله قد ابتلاهم وامتحنهم ـــ ليختبر انقيادهم ـــ بالنهر الذي يمرّون به، {فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ} فعليهم أن لا يشربوا منه إلاَّ بمقدار غرفة مهما بلغ عطشهم.

وسقط الأكثرون في الامتحان، ووهنت عزائمهم، ودبّ الضعف فيهم، ووقف المؤمنون المخلصون، ليكون النصر لهم في نهاية المطاف.

                           *****

إيحاءات ودروس:

تلك هي خلاصة القصة؛ فما الذي نستوحيه منها لحركة الدعوة إلى الله في الحياة، وما الذي نستفيده منها من نقاط توضيحيّة للواقع الذي كان يعيشه هؤلاء القوم آنذاك؟

هذا درس للعاملين في سبيل الله أن يقفوا موقف الحذر من كثير من المتحمّسين والمندفعين الذين يطرحون الشعارات الحادّة، ويعلنون ـــ في حماسٍ زائد ـــ استعدادهم للجهاد والقتال في ما إذا حصلت لهم القيادة الحكيمة الصالحة، وهم يظنّون أو يأملون في أنفسهم أن لا تحصل.

إنّ علينا أن نستفيد من هذه القصّة، بالطريقة التي يمكننا ـــ فيها ـــ التفاهم معهم، من أجل اكتشاف ما هم عليه من جديّة وتصميم، لتتميّز العناصر المخلصة من العناصر المزيّفة، سواء في وضعهم أمام التجربة العملية في ما يريدون، أو في إدارة الحوار معهم في بعض القضايا التي توضح لنا الفرق بين الجوانب المرتبطة بالذّات وبين الجوانب المرتبطة بالعقيدة.

إنّ قضية النصر والهزيمة ليست بالقلّة والكثرة، بل هي بالإيمان والتخطيط والتنظيم، والأخذ بأسباب القوّة؛ ما يجعل النصر في جانب القلّة المؤمنة المنظّمة، على الكثرة التي تفقد الإيمان والتنظيم والتخطيط، انطلاقاً من الشعار الذي طرحه هؤلاء المؤمنون الذين واجهوا المعركة بقلوبٍ مؤمنة واثقة بالله: {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}، الأمر الذي يجعل العاملين في موقع الثقة، مهما كانت قوّة الخصوم كبيرة.

إنَّ قيمة الحوار في هذه القصة، هو أنّنا استطعنا أن نتمثّل كلّ المشاعر والأجواء التي كان يعيشها هؤلاء من خلال مواقفهم القلقة في جانب، والثابتة  في جانبٍ آخر؛ ممّا لا يتسنّى لنا معرفته لو كانت القضية تعيش في إطار التقرير العادي للقصّة. إنّه الفرق بين أن يُحكى لك الموقف من خلال الآخرين، أو ينقل لك الموقف بنفسه وتتمثّله بنفسك.

أنّ يبقى المؤمن المجاهد في موقف الاستعانة بالله، والشعور بالحاجة إليه في ما يحصل عليه من قوّة، وما يحتاج إليه من مواقف الصبر والصمود والثبات، وما يتطلّع إليه من نصر لاعتقاده بأنَّ النصر من عند الله أوّلاً وأخيراً، فلا يدفعه الشعور بالقوّة إلى الغرور والتعالي ونسيان الله، ولا يمنعه الشعور بالضعف من التماسك إزاء قوّة الله، كما يحصل لكثيرين من الذين ينسون الله في مواقف الحرب والسلم، فينسيهم أنفسهم، فيخيّل إليهم أنّهم على شيء، وليسوا بشيء.

إنّه الفرق بين المؤمن الذي يشعر بالقوّة الروحية والمعنوية التي تمتدّ من الأرض إلى السماء فلا تقف عند حدّ، فيتحوّل إلى قوّة تدمّر كلّ قوّة تقف أمامها؛ وبين غير المؤمن الذي يستمدّ قوّته من الأرض، وممّا يحوطه من إمكانيات محدودة، فيبقى حيث هو في إطار محدود.

إنَّ إيتاء الله الملك لمن يشاء، لا يعني رضى الله عن كلّ هؤلاء الذين يملكون زمام الأمور في الحياة، فإنَّ فيهم الكافرين والظالمين والمنحرفين، بل قد يعني خضوع الحوادث في الكن لمشيئة الله التي قد تتعلّق بالأشياء بطريقة مباشرة، كما في الأمور التي يحدثها الله من خلال إرادته التكوينية المباشرة، كما في خلقه للكون في ابتداء الخلق. وقد تتعلّق بالأشياء بطريقة غير مباشرة، وذلك من خلال القوانين العامة التي أودعها في حدوث الأشياء وحركة المجتمعات وسير التاريخ، انطلاقاً من حكمته النوعية في ما يصلح أمر الحياة ويبنيها على أساسٍ متين. وقد جعل إرادة الإنسان، فرداً أو جماعة، قانوناً طبيعياً يحرّك الحياة في اتجاه النمو والتطوّر والاستقامة والانحراف. وفي ضوء ذلك، لا مانع من أن نلتزم بأنَّ الله لا يرضى عن ملك كثير من الأشخاص في ما يمارسونه من أعمال الكفر والانحراف، ولذلك نهاهم عنها أشدّ النهي؛ ولكنّه ـــ في الوقت نفسه ـــ ليس بعيداً عن سلطة الله وإرادته في الكون، فإنَّ من الممكن لله أن ينزع ملكه قهراً بإرادته التكوينية، ولكنّ حكمته اقتضت أن يملي للإنسان في ما يعيش وما يعمل، ليقرّر مصيره بإرادته واختياره.

إنَّ الآية تؤكّد بأنَّ الإخراج من الديار والأموال يشكِّل عدواناً على الإنسان الفرد والمجتمع، وذلك لو قام بها إنسان فرد أو جماعة، وبذلك يعتبر مبرّراً للدخول في قتال ضدّ المعتدي، بحيث يعتبر ذلك شرعياً عند الله. وهذا ما نستظهره من خلال التركيز على هذا المبرّر، ما يعطينا الفكرة الواضحة بتقرير النبيّ لهم على ذلك. ولا بدّ لنا، في هذا  المجال، من أن نحدّد الموضوع في نطاق الإيمان الذي يتعرّض لعدوان الكفر، كما حدث في المبرّرات التي سبقت الإذن للمسلمين بالقتال، لأنّهم {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج : 40].

قوله تعالى: {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَـكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ}.

ربّما نستوحي من هذه الفقرة من الآية، أنّ هناك قانوناً طبيعياً فطرياً في حركة الحياة الاجتماعية التي يعيشها الناس، في ما أودعه الله في الحياة من قوانين تنظّم لها سيرها، وتدفع بها إلى المجالات الكبيرة التي تحقّق لها أهدافها العليا. وخلاصته: إنَّ كلّ إنسان منّا يعمل في اتجاه الأشياء التي يألفها ويريدها ويؤمن بها، وفي اتجاه مقاومة الأشياء التي يكرهها ويرفضها أو يكفر بها، لأنّها تعطّله عن الحصول على ما يريد. وربّما يتحقّق ذلك في الأفكار، وربّما يتحقّق في الأشياء العامة، وقد يحصل في القوى التي تحيط به. فإذا لاحظ أنَّ هناك فكراً يقاوم فكره، أو شيئاً يواجه بعض الأشياء التي يحبّها، أو قوّة تريد أن تصادم قوّته فتصرعها وتهزمها. فإنّه يبادر إلى الوقوف أمام تلك الأفكار والأشياء والقوى، ليحمي فكره وأشياء وقوّته. وهكذا تسير الحياة في أجواء الصراع، فيتولّد من ذلك الفكر المتنوّع المتحرّك، والقوّة المتجدّدة بما تملك من أساليب الحرب وأدواتها، والأوضاع المختلفة المحيطة بالأشياء في وجوهها المختلفة.

إنَّ الله يريرد أن يشير إلى هذا القانون الفطري الذي سارت عليه الحياة، ولا تزال تسير، في حركتها الاجتماعية؛ فيقرّر لنا قيمة هذا التوازن ودوره في إصلاح الحياة؛ فلولاه لفسدت الأرض، لأنَّ الإنسان الذي يبلغ مقداراً كبيراً من القوّة، يستطيع من خلاله أن يفرض رأيه وموقفه وذاته على الآخرين، لا بدَّ له من ممارسة السيطرة عليهم من خلال قوّته. فإذا وقفوا منه موقفاً سلبياً ضعيفاً وتركوه يفعل ما يشاء، كانت النتيجة أن يمتدّ في قوّته وفساده، ولا يفسح المجال للخير وللحقّ أن ينمو أو يعيش. ولما كان الله يريد للحياة أن تزدهر وتصلح، كان الصراع في عملية دفع الناس بعضهم ببعض يفسح المجال لقوى الخير أن تؤكّد وجودها، ولو في نهاية المطاف، عندما تتحرّك نحو أهدافها لتقاوم كلّ الموانع والقوى التي تقف ضدّ الأهداف، فيحصل من خلاله ما يصلح الأرض من قوى جديدة تنشأ بفعل الصراع، وأفكار كبيرة تندفع من خلال النزاع، وخطوات عملية تنطلق في حياة الناس؛ وتلك هي قصّة الصراع، في ما يريد أن يوحيه لنا القرآن الكريم؛ فهو لا يمثّل مزاجاً للتحكّم وللسيطرة، وإنّما يمثّل دفع سيطرة الشرّ على الخير، والحقّ على الباطل، والعدل على الظلم والطغيان. من أجل أن تعيش الأرض في بعض مراحلها، أو المرحلة الأخيرة منها، الجوّ الإنساني المنفتح الذي يحصل فيه الإنسان على ما يوجب له الطمأنينة والراحة والكرامة. وتلك هي قصة الدوافع الفطرية التي أودعها الله في تكوين الفرد والمجتمع. فهي التي تقود الإنسان إلى ما يبني له حياته ويصلحها ويرفع مستواها في جميع مجالاتها، وذلك هو فضل الله على العالمين.

{تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ}  ويختم الله هذا الفصل وهذا الجزء، بالإشارة إلى آيات الله في الكون وفي الوحي، لتكون دليلاً للإنسان على الله الذي يفتح له آفاق الوعي في ما يفتح له من آفاق المعرفة بالحقّ. فلا بدّ للإنسان من أن ينفتح عليها ويسير في هداها ليحصل على المصير السعيد. ثمّ يؤكّد للنبيّ بعد ذلك أنّه من المرسلين، {وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} ليؤكّد في نفسه الشعور بالرسالة بعمق من أجل تعميق الشعور بالمسؤولية تجاهها، وليؤكّد في نفوس الناس الشعور الحيّ بضرورة اتّباع الرسول في ما بلغهم وما دعاهم إليه، عندما يعرفون أنّها رسالة الله على لسنان رسول الله، ما يجعل طاعته طاعة لله ومعصيته معصية لله. والحمد لله ربّ العالمين.

                           *****

 

 

28 ـــ مع داود وسليمان في خطّ الرسالة:

{وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ*وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ*وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ*حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ*فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل: 15 ـــ 19].

                                  *****

معاني المفردات:

{يُوزَعُونَ}: الوازع: المانع، ويوزعون: يُمنَعون من الفوضى ويسيرون سيراً منظَّماً.

{أَوْزِعْنِي}: ألهمني.

                           *****

هذا حديثٌ عن داود وسليمان في بعض ملامح شخصيّتهما في ما يملكانه من علم وفضل وما حدث لهما من بعض القصص العجيبة التي يتّصل بعضها بالغيب، ويدلّ بعضها على القوّة في الموقف المسيطر في دين الله على المواقع المتنوّعة الأخرى، وعلى الاتصال الدائم بالله في استشعار اللّطف الإلهي من خلال النعمة في حياتهما وحياة الناس والشكر العملي وغير ذلك ممّا قد نحتاجه في منهج التربية وفي روحية الحركة والإحساس والحياة.

 

علم داود وسليمان:

{وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً} ممّا ألهمهما الله منه، وحصلا عليه من حركة الفكر والتجربة. ولكن هذا العلم الواسع الذي امتدّ حتى تجاوز المألوف ممّا يملك الناس من علمٍ ومعرفة، لم يتحوّل لديهما إلى عقدةٍ، حيث إنّهما لم يختزنا في شخصيّتهما ما يختزنه البعض من الشعور بالعظمة والفوقية، بل كانا يعيشان شعور أهل اليقين الذين يرون كلّ نعمة هي من الله، فهو الواهب وهو المنعم، وبالتالي ما تحدّثا به، فإنّما يتحدّثان بنعمة الله وفضله، ليجعلا من ذلك وسيلةً للشكر، لا أداةً للتكبُّر والخيلاء.

وهكذا كانا يتحدّثان بحمد الله {وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ} فله الفضل ـــ وحده ـــ على ما أعطانا من علمٍ، وما مكَّننا به من قوّة، وما سهّل لنا من موقع متقدّم في حياة الناس، والثناء يكون له لا للذّات، فمنه كلّ شيء، وإليه يرجع الحمد في كلّ شيء.

{وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} من يرث الابن أباه، في ملكه وماله، وكما يرث الأشخاص الموقع والدرجة، وكما يرث الأنبياء الرسالة ممّن تقدّمهم، لا بمعنى الإرث المادي، لأنّ الله هو الذي يعطي الرسالة والموقع والدرجة العليا، للمتأخّر من الأنبياء، وليس هو النبيّ المتقدّم، بل هو بمعنى الامتداد الذي يجعل من كلّ واحدٍ مرحلةً متّصلةً بالمرحلة السابقة في ما هو امتداد حركة النبوّة في الحياة.

وهكذا أخذ سليمان موقع أبيه، وأراد أن يعلن القوّة التي يملكها في مواقع المعرفة، ليعرف الناس من قوَّته الجانب الذي يربطهم به، ليزدادوا التصاقاً بشخصيته واتِّباعاً لرسالته {وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ} فكان لنا من ذلك ما نستطيع أن نتعرّفه من حديثهم مع بعضهم البعض بطريقةٍ تفصيلية واضحةٍ، وما نستطيع أن نتحدّث به معهم في ما نثيره من حديث، وفي ما نكلّفهم به من مهمّاتٍ بشكلٍ مباشر، تماماً كما يكلِّف بعضهم بعضاً في قضاياهم التي تهمّهم في مجتمعهم الواسع.

وعلى ضوء هذا، فإنّ ما يتحدّث به سليمان من حدود المعرفة لمنطق الطير يختلف عن المعرفة التي يملكها بعض الناس من خلال الملاحظة المستمرّة، والتامّل الدقيق، ما يجعلهم يتعرّفون على بعض الإشارات في أصوات الطير في الحالات المتنوّعة، ولكن بشكلٍ غير دقيق ولا تفصيليٍّ، بينما النبيّ سليمان يعرف من ذلك كلّه سرّ التفاهم الدقيق تماماً كما لو كان واحداً منهم في تفاصيل أمورهم الخاصة {وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ} ممّا يعطيه الله للإنسان من علم وقدرة وملك ونبوّةٍ وحكمٍ ومال ونحو ذلك، ممّا يمكن أن يحصل عليه الإنسان في ما يحتاجه موقعه المميّز في حركيّته وفاعليّته بشكلٍ طبيعيٍّ معقول.

{إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ} الذي يعطينا موقع القيادة في حياتكم، ويفرض عليكم الطاعة في ذلك كلّه، لأنّ الفضل في الطاعة يثبت الفضل في الموقع تبعاً للحاجة والحركة والدور بما يتنوّع الناس به ممّا يملكونه وممّا لا يملكونه.

{وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} فقد كانت المهمّات التي أراد الله منه القيام بها في تنوّعها واختلاف مواقعها، تفرض أن تكون له هذه السيطرة على الإنس في ما يريد أن يتحرّك به في مجتمع الإنسان، وعلى الجنّ في ما يريد أن يثيره في مجتمعات الجنّ، وعلى الطير في ما يريد أن يكلّفهم به من مهمّات.

وليس من الضروري أن يكون لكلّ هذه الأصناف عقلٌ وإرادةٌ بالمستوى الذي يملكون معه التصرّف على أساس المسؤولية، كما قد يحتمله بعض المفسّرين، حيث اعتبر أنّ للطير في زمان سليمان عقلاً بقدرة الله، دون زماننا، لأنّ مسألة الجندية يكفي فيها وجود بعض الخصوصيّات والقدرة التي يملك القائد تحريكها في مهمّاته، ممّا يملكه الطير بحسب طبيعته في كلّ زمانٍ ومكانٍ، ممّا أعدّه الله له، وألهمه هداه في شؤون الحياة، وهكذا اجتمع له هؤلاء في مهمّة محدّدةٍ يتحرّكون نحوها إلى هدف لم يحدّثنا القرآن عن تفصيله.

{حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ} وهو من المناطق التي يتكاثر فيها النمل بشكلٍ كيثف كما توحي به الكلمة في نسبة الوادي إلى النمل، {قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} عندما يسيرون في هذا الحشد الكبير، فيطأونكم بأقدامهم وهم غافلون أو عارفون. وهذا ما يوحي بأنّ لمجتمع النمل قيادةً تدبّر شؤونهم وتتولّى تحذيرهم من الأخطار القادمة إليهم، سواء كان ذلك بطريقةٍ غريزيّةٍ أو بطريقةٍ واعيةٍ، ممّا لا نملك معرفته بتفاصيله الدقيقة، ولكنّ الآية توحي بشيء من هذا القبيل. وسمعها سليمان، وكان يعرف منطق النمل كما يعرف منطق الطير، وعرف بنعمة الله عليه ما يثيره موكبه من اهتمام حتى لدى النمل، {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي} ألهمني {أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ} حيث أعطيتني من شؤون العلم والقدرة والنبوّة، وأعطيت أبويّ من ذلك ومن غيره، {وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ} إذ يمثّل ذلك شكراً عملياً للنعمة، ويجسّد وسائل القرب إلى الله الذي يقرّب عباده إلى رضوانه من خلال طاعتهم وإيمانهم.

 {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} حتى أكون جزءاً من هذه المسيرة الإنسانية الصالحة من عبادك في الدنيا، وأكون جزءاً من هذا المجتمع الصالح القريب إليك بإيمانه وعمله، والسعيد بجنّتك ونعيمك في الآخرة.

وهكذا يستوحي الإنسان من خلال هذا الدعاء المنطلق من أعماق الروحية الإيمانية لدى سليمان، أنَّ على الإنسان دائماً أن لا ينفصل عن شعوره بالله وبحاجته إليه وبإحساسه بفضله على وجوده كلّه، حتى وهو في أعلى مواقع القوّة، ليبقى مشدوداً إليه بعقله وشعوره، وليفكّر دائماً أنّ وجوده مستمدٌ من وجود الله، وأنّه جزءٌ من نعمته، وأنّ عليه أن يشكر نعمته التي أنعم بها عليه وعلى والديه، لأنّ النعمة التي يغدقها الله على الوالدين هي نعمة على الولد بشكلٍ غير مباشر في ما يحصل عليه منهما من رعايةٍ وعنايةٍ وما يمثّله وجودهما من النسب المباشر لوجوده.

كما أنّ عليه أن يبتهل إلى الله تعالى في أن يوفّقه للقيام بالعمل الصالح لتكون حياته مثالاً للصلاح في كلّ مفرداتها وتطلُّعاتها إلى النمو والسموّ والتقدّم والتقرّب إلى الله، وأن يدخله في المجتمع الصالح، فلا يكون مجرّد فردٍ يعيش روحية الصلاح في نفسه وحركيّته في عمله، بل يكون جزءاً من المجتمع الصالح الذي يتفاعل معه ويتحرّك في ساحاته ويعيش تفاصيله وينتهي معه في مصيره. ولعلّنا نستوحي من ذلك أنّ الإنسان المسلم يظلّ مشدوداً إلى المجتمع الصالح ليعمل من أجل تكوينه ويقوى به ويقوّيه.

                           *****

29 ـــ أيوب الصابر:

{وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ*ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ*وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَى لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ*وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِب بِّهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 41 ـــ 44].

                           *****

معاني المفردات:

{بِنُصْبٍ}: بتعب.

{مُغْتَسَلٌ}: موضع الغسل.

{ضِغْثاً}: حزمة من العيدان ونحوها.

{وَلَا تَحْنَثْ}: حنث في اليمين إذا لم يف بها.

                           *****

هذا عبدٌ من عباد الله الصالحين الصابرين الذي عاش البلاء الشديد القاسي، فقد أصابت الآلام والأمراض جسده حتى وصل الأمر به إلى المستوى الذي لا يحتمله الإنسان العادي، فاستغاث بربّه مبتهلاً إليه، من أعماق إيمانه أن يفرّج عنه، فاستجاب له وفرَّج عنه.

{وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ} الذي امتحنه الله بالبلاء فصبر صبر المؤمنين، واستسلم لله بإيمانٍ خاشع، {إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} فقد بلغ صبره الشديد ومقاومته لتأثير الآلام في جسده أقصى مداه، وتحوّل العذاب في معاناته إلى مشكلةٍ صعبةٍ في حياته، بحيث انفجر كلّ عضوٍ من أعضاء جسمه بألمه المكبوت صيحةً صارخة؟!

أيوب ينال جزاء صبره:

{ارْكُضْ بِرِجْلِكَ} فقد انتهى عهد البلاء الذي كنت به مصلوباً على فراشك مشدوداً إلى البلاء، واقعاً تحت تأثير الآلام والأوجاع التي تمنعك من التنظيف والاغتسال، وعافيتك ستتحقّق عندما تضرب الأرض بقدمك، ممّا سيفجر عيناً باردة صافية، {هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} تغتسل وتشرب منه، لتشعر بكرامة الله وبرعايته وبرزقه الذي يغدقه عليك من حيث لا تحتسب، كدلالةٍ على محبّته ولطفه ورحمته وعنايته بك، {وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ} فعادوا إليه بعد أن ماتوا عندما أحياهم الله له، أو استردّهم بعد أن كانوا قد تركوه وابتعدوا عنه لظروف معيّنة، {وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ} في ما رزقه الله من أبناء {رَحْمَةً مِّنَّا} في ما أفاض عليه من فيوضات نعمه، كمظهر حيٍّ من مظاهر رحمته، {وَذِكْرَى لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ} ليتأمّلوا في ذلك كلّه بعقولهم، ليعرفوا مواقع بلاء الله في حياة عباده المؤمنين، ومواضع رحمته في ما يفرّج به عنهم، ويدركوا حكمة الله في ذلك، فلا ينظروا إلى الأمور من جانب السطح الظاهر منها، بل يدرسوها من عمق الأسرار الكامنة فيها.

وكان أيوب قد حلف أن يضرب امرأته، لأمرٍ أنكره منها، ممّا يضيق به الصدر، أو تثور به الأعصاب، ممّا لا ينافي أخلاقه في ما تتميَّز به من قيمةٍ روحيةٍ، وكان الحلف أن يضربها مائة جلدة، وكان هذا الأمر شديداً عليه، كما يبدو، لأنّها خدمته خدمةً عظيمة، وصبرت على مرضه ورعتْه رعاية جيّدة، فخفَّف الله عنه وقع ذلك، وقدَّم له حلّاً لا يتراجع فيه عن يمينه ولا يضغط عليها، {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً} وهو الحزمة الصغيرة من حشيش أو ريحان أو غير ذلك. وعن ابن عبّاس: قبضة من الشجر، أي من عيدانها، وذلك بأن يأخذ مجموعة من العيدان بعدد المائة، {فَاضْرِب بِّهِ} دفعة واحدة، {وَلَا تَحْنَثْ} لتجزي عن يمينك من دون إيذاء لها تيسيراً لك وإنعاماً عليك.

ثمّ يلتفت الأسلوب القرآني إلى المؤمنين وإلى النبيّ الذي أراد الله له أن يذكر حياة هذا العبد الصالح الصابر ليكون في ذلك عبرةٌ للعاملين الدّعاة المجاهدين في سبيله، وهذا ما يبتلي به الله عباده المؤمنين في خطّ حكمته ورحمته، في ما يتمثّل به صبرهم من قوّة الإيمان وصلابة الموقف.

{إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً} على البلاء، {نِعْمَ الْعَبْدُ} في إحساسه العميق بعبوديّته لله واستسلامه له، وانفتاحه على آفاق رحمته، {إِنَّهُ أَوَّابٌ} فقد رجع إلى ربّه في ابتهالٍ خاشع، فلم يشك أمره إلى غيره، بل كانت شكواه إلى الله، ودعاؤه له أن يصرف عنه ذلك البلاء، فاستجاب الله له ذلك.

وجاء في تفسير العياشي، كما في مجمع البيان، أنّ عبّاد المكي قال: قال لي سفيان الثوري: إنّي أرى لك من أبي عبد الله ـــ جعفر الصادق ـــ (عليه السلام) منزلةً، فاسأله عن رجل زنى وهو مريض، فإن أقيم عليه الحدّ خافوا أن يموت ما تقول فيه، فسألته، فقال لي: هذه المسألة من تلقاء نفسك أو أمرك بها إنسان، فقلت: إنّ سفيان الثوري أمرني أن أسألك عنها، فقال: إنّ رسول الله أتى برجل أحبى قد استسقى بطنه وبدت عروق فخذيه، وقد زنى بامرأةٍ مريضةٍ، فأمر رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) فأتى بعرجون فيه مائة شمراخ فضربه به ضربةً، وضربها به ضربةً وخلّى سبيلهما، وذلك قوله: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِب بِّهِ وَلَا تَحْنَثْ}(1).

                           *****

30 ـــ النبي عيسى وامتداد حركة الرسالة:

{وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ*إِنَّ اللّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَـذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} [آل عمران: 50 ـــ 51].

                           *****

معاني المفردات:

{وَمُصَدِّقاً}: قال في مجمع البيان: "الفرق بين التصديق والتقليد أنَّ التصديق لا يكون إلاَّ في ما تُبرهن عند صاحبه، والتقليد قد يكون في ما لا يتبرهن، ولهذا لا نكون مقلّدين للنبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وإن كنّا مصدّقين له"(1).

{وَلِأُحِلَّ}: التحليل: هو الإطلاق للفعل بتحسينه.

{حُرِّمَ}: التحريم: هو حظر الفعل بتقبيحه.

{مُّسْتَقِيمٌ}: الاستقامة: الاعتدال وهي خلاف الاعوجاج.

                           *****

{وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ} فإنَّ النبوّة الجديدة لا تلغي النبوّة القديمة، لأنَّ النبوّات ليست منطلقة من شخص النبيّ في ذاتيّاته الفكرية، بل من وحي الله الذي يشرّع للحياة كلّها وللإنسان كلّه، في الخطّ العام الذي تتكامل فيه الرسالات وتتوزّع فيه الأدوار، إلاَّ ما يختصّ بمرحلة النبيّ في الزمن الذي يعيش فيه الناس الذين أرسل إليهم والأوضاع التي قد يعرض عليها التغيير؛ وهكذا كان كلّ نبيّ مصدّقاً لمن قبله في رسالته وفي الكتاب الذي أنزل عليه، ومنهم النبيّ عيسى (عليه السلام).

فهو أحد الأنبياء الذين اختصّهم الله برسالاته، فقد جاء بعد موسى (عليه السلام) وأقرَّ الكتاب الذي أنزل عليه من التوراة وصدَّق به، لأنَّ أحكامه لم تنسخ ـــ في الأغلب ـــ ولأنَّ مفاهيمه لم يتجاوزها الزمن فلا تحتاج إلى تجديد. وفي ضوء ذلك، فإنَّ موقفه الرسالي لا يمثِّل تحدّياً للمفاهيم والأحكام التي يؤمن بها هؤلاء الذين بُعث إليهم من بني إسرائيل، لأنّه تركها على حالها، ما عدا بعض الأحكام التي حُرّمت عليهم كنتيجةٍ لتمرّدهم، فأراد الله أن يؤدّبهم بالتشريع الصعب الذي يثقل عليهم مسؤوليّاتهم، حتى إذا انطلق الزمن في مدارٍ جديدٍ، رفع الله عنهم ذلك كلّه ببركة هذا الرسول الجديد الذي جاء رحمةً لهم وبركة عليهم: {وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ}.

وهكذا كانت الرسالات السماوية تدفع الإنسان إلى السير مع خطّ الرسالة في ما أوحاه الله لرسوله من كتاب، وإلى السير مع الرسول في ما يلهمه الله من شؤون الحركة الإسلامية في قضايا الناس اليومية في ما يأمرهم الرسول به أو ينهاهم عنه، ممّا يحدث لهم في كلِّ أمورهم.

ويتصاعد الأسلوب ليضع قضية الإيمان بالله وعبادته في نطاقها الطبيعي، فهي ليست مجرّد فكرة طارئة، تأخذ جانباً من جوانب الفكر كأيّة فكرة أخرى، بل هي خطّ للحياة يفرض نفسه على الفكر والممارسة والشعور.

{فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ} وهكذا دعاهم إلى تقوى الله في الوقوف عند حدوده من خلال ما أوجبه وما حرَّمه عليهم، وإلى طاعته في ما يريد أن ينظِّم لهم من حياتهم في مسارها الجديد الذي يخلق لنا أوضاعاً جديدة في حركة الإيمان نحو أهدافه الكبيرة في الحياة. فإنَّ التقوى والطاعة لله مظهر الاعتراف بالربوبيّة الشاملة في تأكيدها المضموني الإيحائي على العبودية الخالصة في خضوع الإنسان لربِّه، وهما الخطّان اللّذان يتحرّك فيهما المبدأ العام في امتداده الحركي، كما تنطلق فيهما المفردات التفصيلية التي ترتبط بالعقيدة كلّها في مضمونها العملي: {إِنَّ اللّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَـذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ}.

فإنَّ الإيمان بربوبيّة الله للنبيّ وللنّاس الآخرين يمثّل بدايةً للتصوّر والحركة من خلال ما يعنيه الإيمان من حركة الحياة على الصراط المستقيم، لذلك فإنَّ الدعوة إليه هي دعوة للاستقامة على المنهج الإيماني الحقّ في بداية المرحلة ونهايتها.

                           *****

من وحي الآية:

وهذا ما يجب أن نستوحيه في المنهج التربوي الذي يطرحه العاملون في سبيل الله، من أجل بناء الشخصية الإسلامية والقاعدة الإسلامية الواسعة الممتدة في الحياة؛ فإنَّ عليهم أن لا يقعوا في الخطأ الذي وقع فيه الكثيرون، الذين لا يرون في الإيمان إلاّ حالةً خاصةً من حالات النفس الإنسانية التي لا يستوقفها ذلك كثيراً. فلا قيمة كبيرة له خارج هذا النطاق، بل هو الحياة كلّها في حالاتها المتنوّعة وفي مواقفها المختلفة، فإنَّ القضية بين خيارين وبدايتين؛ فإذا كانت البداية هي الاعتراف بربوبيّة الله الواحد، فإنّ حركة الحياة تتّجه إلى الآخرة عبر الحياة الدُّنيا، في خطٍّ مستقيم تحكمه القِيَم الروحية، وتنطلق في تصوّر متوازن لا تتعدَّد فيه العبادة تبعاً لتعدُّد الآلهة، بل يتوحّد فيه الإله وتتّحد فيه العبادة. وإذا كانت البداية هي إنكار الإله في وجوده وفي وحدانيّته، فإنَّ حركة الحياة تتثاقل إلى الأرض لتشدّها الأرض إلى شهواتها وغرائزها وأطماعها، وتدخل بها في منعطفاتها الضاربة في خطوط التّيه، وتتنوّع فيها العبادة ليعيش الإنسان فيها عبوديّته لكلّ شيء من حوله، ويفقد بذلك حريّته في الموقف وفي الإرادة والحياة.

                           *****

31 ـــ عيسى والمحبّة:

{فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ*رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ*وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ*إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [آل عمران: 52 ـــ 55].

                           *****

معاني المفردات:

{أَحَسَّ}: الإحساس: الإدراك بالحاسّة. وقوله تعالى: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ} إشارة إلى ظهور الكفر منهم ظهوراً بيِّناً إلى درجة الإحساس به من الآخرين، رغم كونه أمراً قلبياً.

{أَنصَارِي}: الأنصار: جمع نصير.

{الْحَوَارِيُّونَ}: أصل الحواري: الحَوَر، وهو شدّة البياض، وحواري الرّجل صفوته وخالصته. وقد جاء في إنجيل متى ولوقا ـــ الباب السادس ـــ ذكر تعدادهم: 1 ـــ بطرس، 2 ـــ أندرياس، 3 ـــ يعقوب، 4 ـــ يوحنا، 5 ـــ فيلوبس، 6 ـــ برتولولما، 7 ـــ متى، 9 ـــ يعقوب بن حلف، 10 ـــ شمعون الغيور، 11 ـــ يهوذا أخو يعقوب، 12 ـــ يهوذا الأسخريوطي الذي خان السيّد المسيح.

وقد جاء في مجمع البيان: "روي أنّهم اتبعوا عيسى، وكانوا إذا جاعوا قالوا: يا روح الله جعنا. فيضرب بيده على الأرض سهلاً كان أو جبلاً، فيخرج لكلّ إنسان منهم رغيفين يأكلهما؛ وإذا عطشوا قالوا: يا روح الله عطشنا، فيضرب بيده على الأرض سهلاً كان أو جبلاً، فيخرج ماء فيشربون. قالوا: يا روح الله من أفضل منّا إذا شئنا أطعمتنا، وإذا شئنا سقيتنا، وقد آمنّا بك واتبعنا؟ قال: أفضل منكم من يعمل بيده، ويأكل من كسبه، فصاروا يغسلون الثياب بالكراء"(1). وهكذا أعطاهم درساً اجتماعياً دينياً أنَّ القيمة هي للإنسان الذي يعطي الحياة من جهة، في مقابل ما يأخذ منها.

{الشَّاهِدِينَ}: جمع الشاهد، وهو المخبر بالشيء عن مشاهدة، وهذا هو المعنى الحقيقي، وقد يتصرّف فيه فيُقال: قولهم شاهد بحقّ، أي: هو بمنزلة المخبر به عن مشاهدة. ويقال: هذا شاهد، أي: معدّ للشهادة.

{الْمَاكِرِينَ}: المدبّرين للإيقاع بالآخرين في خفية، والله خير المدبّرين لأنّه الذي يملك زمام الحياة والإنسان. والمكر ـــ كما يقول الراغب ـــ "صرف الغير عمّا يقصده بحيلة، وذلك ضربان: مكرٌ محمود، وذلك أن يتحرّى بذلك فعل جميل، وعلى ذلك قال: {وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}، ومذموم، وهو أن يتحرّى به فعلَ قبيح"(1)، وفي الآية النوعان من المكر، والمكر: الالتفاف، ومنه: قولهم لضرب من الشجر مكر لالتفافه. والفرق بين المكر والحيلة ـــ كما في مجمع البيان ـــ "أنَّ الحيلة قد تكون لإظهار ما يعسر من الفعل من غير قصدٍ إلى الإضرار بالعبد، والمكر حيلة على العبد توقعه في مثل الوَهْق(2)"(3).

{مُتَوَفِّيكَ}: آخذك بصورة تامّة ووافية من عالم الأرض، والتوفّي: أخذ الشيء أخذاً تامّاً، ويُستعمل في الموت باعتبار الأخذ من عالم الحياة، وفي النوم باعتبار الأخذ من علم اليقظة، وفي رفع المسيح (عليه السلام) إلى السّماء باعتبار الأخذ من عالم الأرض. ولهذا فإنَّ التوفّي أعمّ من الموت. قال تعالى: {حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ المَوْتُ} [النساء: 15].

                           *****

يعتمد عيسى (عليه السلام) في دعوته إلى الله أسلوبه الوديع النابض بالمبحّة، من أجل أن يقودهم في رحلة الإيمان إلى الله في العقيدة والشريعة، ليعيشوا قصة الإيمان فكرةً وشعوراً وممارسةً. ولكنَّهم أغلقوا آذانهم عن الاستماع إليه، وأغمضوا أعينهم عن النظر إلى عجائب معجزات الله على يديه، وعطَّلوا عقولهم عن التفكير في ما يدعوهم إليه من خير الدنيا والآخرة، لأنَّ القضية الأساس عندهم هي أنّهم يرفضون الإيمان، كموقف سلبي ضدّ الرسول، عبر قرار للكفر بالرسالة.

{فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ} وذلك من خلال طريقتهم في التعامل معه، في محاولة الضغط عليه بمختلف الوسائل التي يملكونها، ورفضهم الاستجابة له، وإعراضهم عن الانفتاح على دعوة الإيمان في دعوته، فلم يدخلوا في حوارٍ معه، ولم ينفتحوا على آفاق رسالته؛ بل أصمّوا أسماعهم عن كلّ نداء للداعية، فما كان منه إلاّ أن أخذ زمام المبادرة في تحويل الموقف إلى خطّ جديد للحركة الفاعلة من موقع التحدّي الذي يعلن عن نفسه في ابتداء المسيرة نحو الله.

                           *****

طريق طويلة شاقّة:

ودرس عيسى (عليه السلام) الموقف، وأدرك طبيعته من خلال نوعيّة القرار، وعرف أنَّ القضية ميؤوس منها، ما عدا الطليعة المؤمنة الواعية من حواريّيه الذين استجابوا لدعوته وأقبلوا على ندائه؛ فأطلق الدعوة في شكل نداءٍ يوجّهه إلى الجميع، وهو يعرف من الذي يستجيب له، ليتميّز المؤمنون من الكافرين، ولتتمّ عملية الفرز على أساس طبيعة الموقف: {قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ}. إنَّ الرحلة طويلة معقّدة شاقّة، ولا بدّ للسائرين فيها من طاقةٍ إيمانية عظيمة، تثبت أمام الشدائد والأهوال، وتصمد أمام التحدّيات، وتواجه العقبات بعزم وصبر وإيمان. لأنَّ المعركة قد تسلب من الإنسان أمنه وثروته وراحته، وربّما تسلب منه حياته في بداية الشوط أو نهايته، والمطلوب أن لا تسلبه إيمانه حتى يواجه به العقبات بعزم وصبر.

وكان الفرز الإيماني جاهزاً في الساحة، فها هم الحواريون الذين فتحوا قلوبهم للرسول، وعاشوا حركة رسالته في روحانية وفكر ومعاناة، وأدركوا ما ينتظرهم من نعيم الآخرة ورضوان الله أمام ما ينتظرهم من عقبات وشدائد وأهوال. استجابوا في كلمات حاسمة تهزّ الساحة بالعزم والتصميم والإرادة: {قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ} الذين يعرفون طبيعة التحدّي وخطورة الموقف ودرجة التضحية، فهي بحاجة إلى العقل والحركة والوعي والإرادة القوية.

                           *****

أنصار الله:

ويتابعون الحديث عن منطلقات هذه النصرة... فهم قد آمنوا بالله. {آمَنَّا بِاللّهِ} والإيمان يعني التسليم، والتسليم يعني التصميم والقناعة واليقين في الخطّ الذي يبدأ من الله وينتهي إليه، لأنّ الإيمان هو موقف للحياة يستوعب كلّ التفاصيل من خلال ما يواجهه الإنسان من أوضاع، وما يقوم به من أعمال، وما يرتبط به من علاقات، وما ينطلق فيه من تطلُّعات للمستقبل. ليكون الخطّ الفاصل بين الإيمان والكفر فاصلاً على مستوى الممارسة لا على مستوى النظرية والكلمة. وبهذه الروح، وفي أجواء هذا التصوّر، كانوا يريدون التأكيد الحيّ لموقفهم الصلب بشهادة الرسول لهم بإسلام الكلمة والقلب والعمل لله الواحد، في ما يريد وما لا يريد: {وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} وهذه الشهادة تعطي للموقف بُعداً مهمّاً على صعيد حركة الإسلام في داخل النفس، فإنّ الفكرة قد تضعف إذا بقيت مجرّد فكر وشعور، ولكنّها تشتدّ كلّما تحوّلت إلى معاناة في الروح وإعلانٍ في حركة الإنسان في الحياة، لأنّ الموقف يتّخذ لنفسه معنى المسؤولية المتحرّكة أمام الله والناس، من خلال الإيحاء بإلزامه بما التزم به. وربّما كان هذا هو السرّ في أنّ إعلان الشهادة من قِبَل المسلم يعتبر عنصراً أساسياً في إسلام المسلم، فلا يكتفي بما يربط قلبه عليه من عقيدة وإيمان.

ولم يقف الحواريون عند هذا الحدّ في التعبير عن إسلامهم وإيمانهم، فهم يعرفون أنّ الرسول بشر يوحى إليه من الله، وأنَّ الله هو الذي تقدَّم إليه الشهادة للتعبير عن عمق الإخلاص في العقيدة والعبادة، وأنَّ الشهادة للرسول لا تمثّل إلاّ الإعلان له بأنّه ليس وحده في الساحة، وليس وحده في المعركة، وأنَّ صوته لم يذهب في الفراغ، كما تذهب الأصوات الضائعة في أجواء الجحود والكفران. فهناك المؤمنون الذين يتقدّمون معه في خطّ الجهاد والدعوة إلى الله، وهناك أصواتهم الهادرة التي تُشهد الرسول بإسلامها، ليسمع الجاحدون كيف تحوّل الإيمان إلى قوّة لا تخاف من الإعلان عن مواقفها المضادّة لقوّة الكفر. إنّهم يُشهدون الرسول، ولكنّهم في نهاية المطاف يقفون بين يدي الله الواحد الذي آمنوا به، وآمنوا برسوله من خلال الإيمان به، وأسلموا له على أساس خطّ الإيمان الفاعل في الحياة، ليعبّروا له عن هذا الإيمان العميق الممتدّ في وجدانهم وفكرهم، وعن خطواتهم العملية التي تحرّك الإيمان من خلالها إلى حركةٍ واعيةٍ تتمثّل في اتّباع الرسول. وليستلهموا منه القوّة على مواجهة التحدّيات لئلا يضعفوا أمام نقاط الضعف التي تواجههم في الداخل والخارج؛ فإنَّ الشعور بحضور الله في حياة الإيمان، من خلال المناجاة الذاتية التي يقدّمها المؤمن لله، يمنح المؤمن شعوراً بالرضى والطمأنينة والقوّة الواثقة بربِّها وبنفسها. في الصعب من مواقف الحياة.

وهكذا وقفوا أمام ربّهم، ولكن لا ليشهدوه على إيمانهم لأنَّ الله يعلم ما في الصدور، بل ليرفعهم إلى مستوى الدّعاة إليه، المجاهدين في سبيله، الذين يشهدون على الناس في خطّ الرسالات الكبيرة في الحياة. فإنَّ الله قد جعل للطليعة الواعية المجاهدة دور الشاهدة على الناس، كما جعل للرسل الدور الأوّل في هذا المجال. {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} الذين يشهدون للمؤمنين الذين استجابوا لله وللرسول دعوته، وحملوا على الكافرين الذين رفضوا الإيمان فكراً وحركة ومنهجاً، فانفتحوا على كلّ المشاكل المتناثرة في صعيد الساحة العامّة، بحيث إنّهم يملكون القدرة على تقديم تقرير وافٍ شامل لكلّ مفردات الرسالة وخصومها.

                           *****

بذور رسالية:

واستجاب الله لهم ذلك الدعاء كما يوحي الجوّ الذي تتحرّك فيه الآيات، وخاض الحواريون بقيادة عيسى (عليه السلام) المعركة مع الكافرين وعاشوا الاضطهاد. وبدأ الكافرون يدبّرون المكائد والحِيَل في عملية مكر خفيٍّ حاقدٍ ليطفئوا نور الله بمكرهم، ولكنّ الله شاء غير ما يشاؤون، ودبَّر غير ما يدبّرون، فقد أراد الله لرسالته أن تنطلق من مواقع اضطهاد الكافرين لرسله، لأنَّ الاضطهاد يعطي للرسالة قوّتها وثباتها وعمقها وامتدادها في مشاعر الناس وأفكارهم. فهم قد يستسلمون لسلطة الكافرين، وقد يعاونونهم في اضطهاد الرسل وأتباعهم من المؤمنين، وقد يخضعون لما يقدّم لهم من إغراءات السلطة، فيعلنون الحرب على الرسالة. ولكنّهم ـــ في الوقت نفسه ـــ يختزنون في منطقة اللاشعور عمق الاحترام لهؤلاء الدّعاة الذين يتمرَّدون على العذاب، ويسخرون من الاضطهاد، وينتصرون على كلّ نوازع الضعف في نفوسهم، ويحوّلون الحزن والألم في داخلهم إلى فرحٍ كبير.

ثمّ تبدأ البذور الرسالية تتناثر في أعماقهم من خلال كلمة يسمعونها هنا، ولفتةٍ يشاهدونها هناك، وموقف يواجهونه ويقفون فيه مع رسالاتهم. وتنمو البذور بعد ذلك لتتحوّل إلى عشب إيماني، وخضرةٍ روحية يانعةٍ تهتزّ بها الروح ويزهو بها الشعور. وتكون المفاجأة، فهؤلاء الجلّادون يتحوّلون إلى مؤمنين خاشعين يطلبون من الله التوبة ومن الرسول وأتباعه العفو. وهؤلاء المتفرّجون الذين يصفقون للسلطة عندما تضطهد الرساليّين يتحوّلون إلى عاملين في ساحة الإيمان. ويتحوّل التصفيق في أكفّهم إلى الجانب الآخر، فيصفّقون لمواقف الجهاد في نهاية المطاف. وهكذا كان تدبير الله لحركة الرسالات في تخطيط بعيد المدى. وإذا دبَّر الله أمراً فإنّه خير مَن يدبِّر، لأنّه هو الذي يملك زمام الحياة والإنسان في كلّ مصادره وموارده. {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} وقد أشرنا في المفردات إلى أنَّ المكر لا ينحصر في التحرّك الخفي السيّئ ـــ كما هو المعروف لدى الناس ـــ بل هو الطريقة الخفيّة التي يُراد منها تعطيل مبادرات الآخرين عمّا يريدونه على مستوى الفكرة والواقع، سواء كان ذلك خيراً أو شرّاً، وفي ضوء هذا جاء وصف المكر بالسيّئ في قوله تعالى: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر : 43]، ما يوحي بأنَّ هناك مكراً سيّئاً ومكراً حسناً، ولهذا أمكن نسبة المكر إلى الناس الذين دبَّروا لعيسى (عليه السلام) المكائد في خططهم الشيطانية التي حاولوا فيها إسقاط رسالته وإبطال دعوته وإبعاده عن ساحة التغيير الرسالي للواقع وتهديد حياته بالقضاء عليه ـــ وهذا هو المكر السيّئ ـــ كما أمكن إسناد المكر الحسن إلى الله سبحانه وتعالى الذي خطَّط ودبَّر لحفظ حياة نبيّه وصون دعوته وإعداد الفرص الكفيلة بإنجاح رسالته في مدى الامتداد الزمني. وإذا كان الله هو الذي يدبّر بمكره الحسن، فهل يملك أحد أن يقف أمامه أو يأمن مكره؟ إنّه الذي يملك الأمر كلّه، ويحيط به من كلّ جهاته، ويحرّكه من خلال حكمته، بينما لا يملك الآخرون من الكافرين إلاّ القليل القليل ممّا مكَّنهم الله به من القوّة التي أراد لهم أن يوجّهوها في طريق الخير فوجَّهوها في طريق الشرّ. وهكذا نستوحي من هذه المقابلة بين مكر الله ومكر الناس كيف يتحرّك الصراع بين الحقّ والباطل، والإيمان والكفر، والخير والشرّ، لتكون النتيجة في نهاية المطاف للحقّ والإيمان والخير، لأنّها إرادة الله التي لا بدّ من أن تصل إلى غاياتها ولو بعد حين.

                           *****

أمّا عيسى، فإنَّ الله أراد له أن لا يقع في قبضة الكافرين الذين جاؤوا به ليصلبوه ويقتلوه. وتحرّكت الإرادة الإلهية الخفيّة، في ما أعلنه الله لعيسى (عليه السلام): {إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} فإنَّ الفكرة ـــ كلّ الفكرة ـــ هي أنّ الله قد دبَّر بحكمته وبخطّته الخفيّة خلاص عيسى (عليه السلام) من اضطهاد اليهود ومن محاولتهم قتله. أمّا ماذا فعل، وما الخطّة؟ فذلك ممّا اختصّ الله بعلمه، فلنرجع الأمر فيه لله، في ما يريد أن يعرّفنا إيّاه، وما لا يريد أن يعرّفنا سرّه.

                           *****

وجاعل الذين اتّبعوك فوق الذين كفروا:

واختفى عيسى (عليه السلام) عن الأنظار ولم تختفِ دعوته، وغاب عن الساحة ولم يغب أتباعه، بل اندفعوا بكلّ صبر وإيمان، يركّزون الأساس، ويرفعون البناء ويصنعون للمستقبل فكره وروحيّته ونظامه. وكانت رعاية الله لهم في كلّ خطواتهم العمليّة، فبدأ الإيمان يتقدّم ليتّخذ مواقعه الثابتة في حياة الناس، وبدأ الكفر ينحسر تدريجياً.

وكان وعد الله لعيسى حقّاً: {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} فها هم اليهود يقفون في الدرجة السفلى أمام أتباعه، ولكن كيف ذلك؟ ومن هم أتباعه؟ هذا ما خاض فيه المفسِّرون كثيراً، وهذا ما يجب أن نتوقّف أمامه قليلاً لنفهم معنى هذه الفقرة من الآية. فقد ذهب بعض المفسِّرين إلى أنَّ المراد بالذين اتّبعوه، هم أهل الحقّ من النصارى الذين ساروا على دعوته الحقيقية، ومن المسلمين الذين اتّبعوه باتباعهم للنبيّ محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) الذي بشّر به وبرسالته، وأنَّ معنى الفوقية هنا هو الفوقية في الحُجّة والبرهان، لأنَّ حُجّة عيسى (عليه السلام) وأتباعه في نبوّته وصحّة دعوته ظاهرة بيّنة كلّما تقدّم الزمن وخفَّت الضغوط، بينما كانت حجّة الكافرين الذين خالفوه وعاندوه غير مستندة إلى أساس، فهي لا تزداد على مرور الأيام إلاَّ انحساراً وضعفاً. ولكن هذا الوجه ممّا لا تساعد عليه الآية لا بلفظها ولا معناها ـــ كما يقول صاحب تفسير الميزان ـــ "فإنَّ ظاهر قوله: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ} أنّه إخبار عن المستقبل، وأنَّ التوفّي والرفع والتطهير والجعل سيتحقّق في المستقبل، على أنَّ قوله: {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ} وعد حسن وبشرى، وما هذا شأنه لا يكون إلاّ في ما سيأتي، ومن المعلوم أن ليست حُجّة متّبعي عيسى (عليه السلام) إلاّ حُجّة عيسى (عليه السلام) نفسه، وهي التي ذكرها الله تعالى ضمن آيات البشارة، أعني بشارة مريم، وهذه الحجج قائمة حين حضور عيسى قبل الرفع وبعد رفع عيسى، بل كانت قبل رفعه (عليه السلام) أقطع لعذر الكفّار ومنبت خصومتهم، وأوضح في رفع شبههم، فما معنى وعده (عليه السلام) أنّه ستفوق حجّة متّبعيه على حجّة مخالفيه؟ ثمّ ما معنى تقييد هذه الغلبة والتفوّق بقوله: {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}، مع أنّ الحجّة في غلبتها لا تقبل التقييد بوقت ولا يوم..."(1).

ويرى صاحب الميزان، أنّ المراد بالذين اتّبعوه هم النصارى، وبالذين كفروا اليهود، فإنّه يكفي إطلاق هذه الصفة على المتأخّرين منهم، وإن خالفوه في بعض تفاصيل رسالته. إنَّهم يعتبرون امتداداً للذين اتبعوه حقيقة في عصره وبعد عصره، في مقابل اليهود الذين كفروا به في حياته قبل رفعه وبعد رفعه على امتداد الزمن. وبذلك تكون الآية في مقام "بيان نزول السخط الإلهي على اليهود وحلول المكر بهم وتشديد العذاب على أُمّتهم..."(1).

"وها هنا وجهٌ آخر، وهو، أن يكون المراد بالذين اتبعوا هم النصارى والمسلمون قاطبة، وتكون الآية مخبرةً عن كون اليهود تحت إذلال من يذعن لزوم اتباع موسى إلى يوم القيامة. وهذا أحسن الوجوه في توجيه الآية عند التدبُّر..."(2)، كما يقول صاحب الميزان.

وربّما كان جوّ الآية يوحي بالوجهين الأخيرين، انطلاقاً من أنَّ الآية واردة في مقام إعطاء الفكرة، بأنّ الذين يضطهدون الأنبياء وأتباعهم لا يحصلون على الامتداد في الزمن في عملية ممارسة القوّة والغلبة، لأنَّ رسالات الله سوف تتقدّم وتفرض نفسها على الساحة إنْ عاجلاً أو آجلاً، على أساس سنّة الله في خلقه، من أنَّ الحقّ لا بدَّ من أن يفرض نفسه في نهاية المطاف؛ والله العالِم بحقائق آياته.

                           *****

الله الحَكَم العدل:

وتلك هي قصّة الصراع بين الكفر والإيمان، وبين الحقّ والعدل في حساب الدنيا؛ أمّا إذا رجع الناس إلى الله ووقفوا بين يديه ليحكم بينهم، فهناك الحكم العدل الذي يضع الحقّ في ميزانه الصحيح، ويظهر الباطل في حجّته الضعيفة التي لا تثبت أمام النقد، {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} وهذه الّلفتة القرآنية تنقل الناس من أجواء الحياة الدنيا التي يتخبَّط فيها الناس في الضلال من خلال ما يخوضونه من صراع الحقّ والباطل، إلى أجواء الآخرة التي يسود فيها العدل في حسابات الصراع الفكري والعملي. فلا مجال إلاَّ للحقّ الذي يقف فيه المحقّ رافع الرأس عالياً، لأنّه لا يخاف من الاضطهاد الذي يمارسه ضدّه أهل الباطل في خنق صوت الحقّ في الحياة؛ ويقف فيه المبطل مهزوماً ذليلاً، لأنّه لا يملك في ذلك الموقف الوسائل الكفيلة بإعطاء الباطل صورة الحقّ من خلال ما يحشده من الألوان المزيّفة، والأساليب المضلّلة المستندة إلى القوّة الغاشمة. وربّما كانت القيمة في هذه الّلفتة أنّها توحي للمحقّ بالقوّة في موقفه، لأنّها تبعد عنه كلّ المشاعر السلبية التي قد يخضع لها الإنسان تحت ضغط الاضطهاد الذي قد يقوده إلى اليأس؛ كما توحي للمبطل بأنّه مهما استطاع أن يصنع القوّة المبطلة لمواقفه، فإنّه لا يستطيع ذلك إلى نهاية الشوط، فإنّ النهاية ستكون في موقف الجميع عند الله، ليكون هو الحكم في ما يختلفون فيه، وهنالك يخسر المبطلون.

32 ـــ روح القوّة في شخصية الرسل:

{وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءهَا الْمُرْسَلُونَ*إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ*قَالُوا مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمن مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ*قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ*وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ*قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ*قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِن ذُكِّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} [يس: 13 ـــ 19].

                           *****

معاني المفردات:

{فَعَزَّزْنَا}: أمددنا، قوّينا.

{تَطَيَّرْنَا}: تشاءمنا.

{طَائِرُكُمْ}: شؤمكم.

                           *****

ينقلنا القرآن إلى التاريخ،حيث واجه المرسلون الدّعاة إلى الله المواقف الصعبة التي تتحدّاهم فيها قوى الكفر بكلّ أساليب التمرّد والجحود، فلا تستمع إليهم، ولا توافق على الدخول في حوار معهم، ولكنّهم لا يتراجعون، بل يستمرون في الدعوة وإعلان الموقف، لأنّ كلمة الرسالة لا بدّ من أن تُقال وتتحرّك مع الآذان الصمّاء والمواقف الرافضة، لتفرض نفسها على الجوّ، أو لتنفذ من خلال ثغرةٍ طارئةٍ من هنا، ونافذةٍ مفتوحةٍ على القلب من هناك، لتبدأ الطريق من الموقع الصغير، فالتراجع في البداية أمام تحدّيات الآخرين، يفرض أن لا تبدأ الرسالة، باعتبار أنّ القوى المضادّة تقف أمام البدايات لتهزمها حتى لا تفرض نفسها على الساحة بعد ذلك.

وهكذا يريد القرآن أن يحدّثنا عن تاريخ الحركة الرسالية، من دون دخولٍ في التفاصيل، لنستلهم من ذلك صلابة الموقف أمام التحدّي، وطبيعة الذهنية الكافرة المتحجّرة التي لا تنفتح للحقّ ولا للحوار.

{وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءهَا الْمُرْسَلُونَ} الذين أغفل الله ذكر ملامحهم الشخصية في أسمائهم وصفاتهم، كما أغفل ذكر اسم القرية وموقعها، لأنّ القصة ليست لتفصيل التاريخ، بل لأخذ العبرة. وتحدَّث المفسّرون عن أنّ هؤلاء المرسلين من حواريي عيسى (عليه السلام)، ولكنّهم ذكروا تفاصيل القصّة بما لا يتّفق مع أجواء هذه الآيات ممّا لا جدوى في تحقيقه والجدل فيه.

{إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا} وقيل: إنّهم ضربوهما وعذّبوهما وكادوا يقتلونهما، {فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} وقيل: إنّه شمعون وصي عيسى الذي أرسله ليخلّصهما، {فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ} لندعوكم إلى توحيد الله وعبادته والسير على نهجه القويم وصراطه المستقيم، ولكنّ القوم من أهل القرية كانوا خاضعين لفكرةٍ خاطئةٍ في تصوّر شخصية الرسول الذي ينبغي أن يكون ملاكاً بنظرهم ولا يمتّ إلى البشر بصلة، وعلى ضوء ذلك، فلا يمكن أن يكون هؤلاء رسلاً لأنّهم بشر كبقيّة البشر؛ فــ {قَالُوا مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمن مِن شَيْءٍ} ممّا تدّعونه من الوحي الذي تحملونه وتريدون أن تبلّغونا إيّاه، {إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ} لتحصلوا على مكانةٍ اجتماعيةٍ مميّزةٍ بيننا من خلال القداسة التي تصفون بها موقعكم.

{قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} فليست القضية موضع تردّدٍ لدينا، بل هي الحقيقة الواضحة، ولذلك فلن يجعلنا هذا الأسلوب الرافض للرسالة في موقع التراجع، لأنّنا نملك شهادة الله التي هي فوق كلّ شهادةٍ، فهو الذي أرسلنا، وهو الذي يعلم صفتنا الرسالية، فلا قيمة لتكذيب أيّ مكذبٍ أو تشكيك أيّ مشكّكٍ، وستظهر الحقيقة في نهاية المطاف، وسنتابع السير على هذا الأساس، {وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ} فتلك هي مهمّتنا التي نقوم بها في ساحتكم، لتقوم الحُجّة عليكم من الله الذي سوف يحاسبكم على كلّ ما تقومون به من جحود وكفران.

{قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ} أي تشاءمنا بوجودكم بيننا، لأنّكم تمثّلون الاتجاه الذي يريد أن يثير المشاكل في داخلنا، فيفرِّق بيننا، ويفصلنا عن مقدّساتنا، ويبعدنا عن الجوّ الهادئ المستقرّ الذي يخيّم علينا، ما يجعل وجودكم شؤماً كلّه، ولذلك فإنّنا نطلب منكم أن تغيِّروا طريقتكم، وأن تكفّوا عن كلّ هذا الحديث، ودعونا نتابع السير وفق عاداتنا وتقاليدنا بكلّ راحةٍ واطمئنان، و{لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا} عن ذلك {لَنَرْجُمَنَّكُمْ} بالحجارة حتى ندميكم أو نقتلكم، {وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} بأساليب ووسائل أخرى ممّا يسبّب لكم الآلام الشديدة، ويعرّفكم نتائج مواجهتكم لمقدّسات الآخرين.

وذلك هو نهج الطغاة الذين لا يستطيعون الردّ الفكري على طروحات الإيمان والصلاح، فيعمدون إلى إثارة الأجواء الانفعالية الإرهابية المضادّة التي تشوّه صورة المؤمنين والمصلحين من جهةٍ، وتهدّد وجودهم وسلامتهم من جهةٍ أخرى، لتضغط عليهم نفسياّ وجسدياً حتى يتراجعوا عن دعوتهم الإيمانية وخطّتهم الإصلاحية.

ويبقى للمؤمنين والمصلحين، الذين يتحمّلون مسؤولية الدعوة إلى الله في دائرة الإيمان والصلاح، أن يثبتوا ويتماسكوا ويواجهوا الكلمة بكلمةٍ أقوى منها، والموقف بموقفٍ أشدّ منه، والقوّة بعزمٍ أكثر صلابة، وأشدّ حسماً. وهكذا وقف هؤلاء الرسل الدّعاة الثلاثة، فلم ينهزموا ولم يسقطوا أمام التهويل الكلامي والعملي الذي حاول الكافرون إثارته في وجوههم، بل {قَالُوا طَائِرُكُمْ} الذي تعتبرونه رمزاً للتشاؤم، وقد كان يغلب عليهم التشاؤم بالطيب فغلب الاسم على الفكرة {مَعَكُمْ} فإنّ الشؤم الذي تتحسَّبون له وتخافون منه وتعملون على طرده من ساحتكم، هو في عمق هذه الساحة، وسببه ما تحمله أفكاركم من الكفر والشرك، وما تعيشه مشاعركم من الحقد والبغضاء، وما تتحرّك به أوضاعكم من الانحراف والكذب والرياء، فهذه الصفات هي التي تربك حياتكم وتمنعها من الهدوء والصفاء وتبعدها عن خطّ الاستقامة والرحمة والمحبة والوداعة والسلام، وتجعلكم في غفلةٍ عن الحقيقة الإلهية التي تفتح الحقيقة الإنسانية على الأفق الرحب الذي يشرق فيه الخير والحقّ والعدل والأمان.

{أَئِن ذُكِّرْتُم} بالحقّ المتمثّل بوجود الله وتوحيده ومنهجه السليم في الحياة، أعرضتم عنه وبقيتم تتردّدون في أجواء الغفلة المطبقة المستولية على عقولكم ومشاعركم ومواقفكم في الحياة، {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} لا تعيشون في خطّ التوازن الذي يحسب حساب الأشياء بدقّة، ويحاكمها بعمق، ويتحرّك في اتّجاهها باستقامة، بل تتجاوزون ـــ بفعل شرككم وضلالكم ـــ الحدود المعقولة التي وضعها الله أمام الإنسان لتكون حاجزاً بينه وبين الهلاك الروحي والعملي، فتمتدّون في معصية الله والتمرّد عليه من دون رجوعٍ إلى العقل والوجدان.

                           *****

ونلاحظ من خلال هذا السجال، روح القوّة في شخصية هؤلاء الرسل الذين لم يشعروا بالضعف عندما شعروا بقلّة عددهم أمام الجماهير الكبيرة التي يمثّلها هؤلاء الطغاة المترفون من وجهاء الناس وقادتهم، فقوّتهم مستمدّة من إيمانهم وعلاقتهم بربّهم وشعورهم بأنّ هؤلاء لا يتحرّكون فعلياً من مواقع قوّة، بل من مواقع ضعفٍ، وسبب ضعفهم يعود إلى تخوّفهم من أن تقتنع الجماهير الطيّبة البسيطة بالحقيقة من أقرب طريق، بعيداً عن كلّ عوامل التعقيد والتكلُّف، ولهذا فإنّهم لا يريدون للدّعاة أن يذكّروا لأنّهم يخافون على الناس أن يتذكّروا، بل ربّما تصل المسألة إلى المستوى الأخطر عندما يشعرون باهتزاز قناعاتهم في داخل أنفسهم من خلال ما يسمعونه من كلمات الحقّ، ولهذا فإنّهم يريدون تفادي سقوطهم أمام أنفسهم التي قد تستجيب للرسل من حيث لا يشعرون.

وهذا ما ينبغي للدّعاة أن يستوحوه من هذه القصة ـــ الموقف، ليدرسوا في كلّ ساحات الصراع التي تخوضها حركة الدعوة، نقاط الضعف البارزة والخفيّة لدى القوى المضادّة كما يدرسون نقاط القوّة الكامنة في داخل أنفسهم، وفي مواقعهم الفكرية والعملية، ليتوازن عندهم الموقف، ما يسهّل اندفاعهم بقوّة في خطّ المواجهة بالكلمة القويّة والأسلوب الحاسم، والفكرة الفاعلة الثابتة، وليس غير هذا السبيل يوصل إلى عملية صنع القوّة.

                            *****

33 ـــ العمق الإنساني في شخصية المؤمن:

{وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ*اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُم مُّهْتَدُونَ*وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ*أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلاَ يُنقِذُونِ*إِنِّي إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ*إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ*قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ*بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس: 20 ـــ 27].

                           *****

معاني المفردات:

{أَقْصَى}: أبعد.

{الْقُرُونِ}: جمع قرن، وهم القوم المقترنون في زمنٍ واحد.

                           *****

هذا رجل ـــ نموذج، يمثّل الإنسان الذي يخرج من قلب مجتمعه، ليدخل في مواجهة معه، انطلاقاً من موقف الحقّ أمام الباطل الذي يتبنّاه المجتمع كلّه، ومن موقف المساندة للمجموعة الرسالية الصغيرة الداعية إلى الله، في مقابل الجماهير الغفيرة المشركة به أو المنكرة له.

ومن خلال دراستنا لشخصيّته، ولروح القوّة التي تعيش في داخل عقله وشعوره، ولإشراقة الإيمان التي تشرق في روحه منيرةً كلّ المواقع، نستطيع أن نخلُص إلى الفكرة التي لا تعتبر فساد البيئة التي يعيش فيها الفرد أساساً حتميّاً لفساده الذاتي، بحيث تمثّل الضغط الذي لا يستطيع أن يواجهه أو يثبت معه، بل يمكن له أن يتمرّد على واقع البيئة الفكري والعملي، عندما يملك عقله ووجدانه، ويحمي شعوره من الاهتزاز العاطفي والانفعالي بما حوله، أو بمن حوله، ويجلس مع نفسه جلسةً هادئةً، في أجواء الهدوء والحياد الفكري، ليكتشف في المسألة الفكرية شيئاً غير ما يفكّر به الآخرون، ويجد في المسألة العملية خطّاً غير الخطّ الذي يتحرّك بانسجام مع البيئة المنحرفة الضاغطة.

وعلى المستوى الواقعي، لا بدّ من الاعتراف بصعوبة الوقوف أمام ضغط البيئة في انحرافها الفكري والعملي، لكن تحدّي هذا الضغط ليس شيئاً مستحيلاً، ما يجعل القضية خاضعةً للضغط المضادّ الذي يستنفر فيه الإنسان طاقاته الروحية والفكرية والعملية، ما يسمح بالمواجهة بطريقةٍ متوازنةٍ حاسمةٍ، لا سيّما حين يتمّ إبراز النماذج الواقعية المتحرّكة في أكثر من موقعٍ من مواقع ساحات الصراع، كما في مثل هذا الرجل النموذج، الذي برز فجأةً من بين القوم ليرفع صوته بنداءٍ قويٍّ حاسمٍ.

{وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى} ويسرع في المشي ليعلن موقفه الذي كان يخفيه عن قومه، أو كان لا يجد ضرورةً لإعلانه، انتظاراً لما قد يحدث من إيمان قومه بهؤلاء الرسل، ولكنّه الآن يجد المسألة قد بلغت حدّاً كبيراً من الخطورة، فلم يرتفع من بينهم أيُّ صوتٍ مؤمنٍ ما يدلّ على سيطرة الكفر على الموقف كلّه، بحيث لو كان مؤمنٌ في الخفاء، فإنّه قد يخاف أمام هذه السيطرة أن يعلن موقفه، ولذا رأى من واجبه أن يقول كلمة الإيمان مقابل كلمات الكفر، ليؤكّد للإيمان موقفه، وليفسح المجال للمتردّدين أن يحسموا أمرهم إلى جانب الرسل، وليخرق الإجماع الكافر ولو بصوتٍ واحدٍ.

{قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} الذين يدعونكم إلى توحيد الله وعبادته والسير على خطّ هداه، {اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً} فقد قدَّموا إليكم النصح والهداية، وعملوا بكلّ جهدهم في سبيل الله، لترجعوا إليه، من دون أن يطلبوا منكم أيّ أجر في مقابل ذلك، فهم ليسوا من المرتزقة الذين يتوصّلون إلى تحصيل المال من خلال الشعارات الجذّابة التي يرفعونها، أو تحصيل الجاه من خلال المواقع التي يضعون أنفسهم فيها، بل هم من الرساليّين الذين عاشوا الهداية فكراً وروحاً وعملاً، {وَهُم مُّهْتَدُونَ} فأرادوا أن يبلّغوها للنّاس، ليهتدوا بها، كما اهتدوا هم بها، لأنّهم يحبّون للناس ما يحبُّون لأنفسهم. ولذلك فلا بدّ لكم من دراسة العمق الرساليّ في شخصيّاتهم، والروح المخلصة في موقفهم، والبعد عن كلّ منفعةٍ في طروحاتهم، لتعرفوا أنّ دعوتهم دعوة حقٍ وخيرٍ وصلاح، وليست دعوة باطلٍ وشرٍّ وفسادٍ، لأنّ دعاة الحقّ هم الذين يغريهم الحقّ بالتضحية في سبيله من خلال ارتباطه بالله، أمّا دعاة الباطل، فإنّهم لا يجدون أساساً للتضحية لأجله، بل همّهم ما يكسبونه من مالٍ أو شهوةٍ أو جاهٍ.

وهكذا أعلن لقومه القاعدة التي ترتكز عليها دعوته لهم لاتّباع الرسل، ثمّ أراد أن ينقلهم إلى جوٍّ جديدٍ، ليحدّثهم عن تجربته الإيمانية الذاتية، وعن خلفيّتها الفكرية من جهة الإيمان بالله وإنكاره للشركاء المزعومين، والهدف أن يقطع عليهم طريق الدخول في جدلٍ معه حول الخصوصيات التي تحيط بمسألة اتِّباع الرسل، فتتّخذ المسألة بعداً جدليّاً شخصياً، يبعد القضية عن المعنى الإيماني في مضمونه الفكري، وكأنّه يريد أن يُعلن لقومه ما أعلنه الرسل من خصوصية الإيمان أو ما أراد الرسل أن يمتدّوا في بيانه، فمنعهم القوم من ذلك.

{وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} فهو الذي خلقني من العدم، فكان وحده المستحقّ للعبادة، من موقع ألوهيّته المطلقة في كلّ صفاته، فليس لغيره من القدرة إلاّ ممّا هو منحةٌ له، وعطيّةٌ منه، فهم المخلوقون له من الموقع الذي أنا مخلوق له، فما الذي يميّزهم عنّي حتّى أعبدهم من دونه، وإذا كان موقعي من الله هو موقع المملوك من المالك، والمألوه من الإله، فكيف لا أعبده، لأقوم بشكر نعمته عليَّ، ولأواجه مسؤوليتي أمامه عندما أرجع إليه، وإذا كان من اللازم عليّ أن أعبده لأنّي مخلوقٌ له فلا بدّ من أن أُواجه موقفي في خطّ العبودية، ولا بدّ لكم يا قوم من أن تعبدوه ـــ على هذا الأساس ـــ وتواجهوا الحقيقة النهائية عندما تقفون بين يديه، {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} فيحاسبكم على أعمالكم في دائرة الإيمان والطاعة، أو في دائرة الكفر والمعصية. {أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً} ممّن تعبدون، أو ممّا تعبدون منها، وهي لا تملك أيّة ميزةٍ في ساحة القدرة، فلا تستطيع أن تدافع عن الذين يؤمنون أو يرتبطون بها، {إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ} ممّا ينزله على عباده من بلائه، أو ممّا يوقعه بهم من عقابه {لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً} في ما يعتقده الناس بهم من الدرجة الرفيعة عند الله من حيث إنّهم الآلهة الوسطاء الشفعاء الذين يعبدهم الناس ليقرّبوهم إلى الله زلفى، ولكنّها عقيدةٌ خاطئةٌ، فهؤلاء لا يمثّلون شيئاً من الامتيازات الذاتية التي تميّزهم عن الناس الآخرين، فلم يمنحهم الله شيئاً من القرب إليه من مواقع العنصر الذاتي، لأنّ الله لا يقرّب أحداً إلاّ بعمله، إذ الناس كلّهم سواءٌ لديه في الخلق، فليس أحدٌ أقرب إليه من أحد، ولا قيمة لشفاعتهم إذا شفعوا، فهم يعرفون موقعهم إذا كانوا من ذوي العقل والحياة والشعور، وهم لا يملكون الإحساس إذا كانوا من المخلوقات الجامدة، لذا لا معنى للشفاعة منهم، فكيف تغني الشفاعة شيئاً لي أو لغيري من الناس، {وَلاَ يُنقِذُونِ} في مبادرة الإنقاذ الذاتي من موقع القوّة المستقلّة القادرة على الإنقاذ، فيمن يريد الله أن يضرّه أو يعذّبه، فكيف يكونون آلهة، وهم لا يملكون من صفاتها وقدرتها شيئاً؟

{إِنِّي إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} وأيّ ضلالٍ أوضح من عبادة شيء لا يضرّ ولا ينفع، وترك عبادة من يملك الإنسان كلّه، ومن يملك الوجود كلّه؟

{إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ} الذي تحسّون بربوبيّته بفطرتكم، وتنكرونه بألسنتكم، فقد استجبت لنداء الفطرة، وتحرّكت في خطّ الاستقامة، واستجبت لنداء الرسل، وها أنذا أعلن الحقيقة التي تفصلني عنكم وتميّز موقفي عن موقفكم {فَاسْمَعُونِ} وقيل إنّ النداء هو للرسل، لا للقوم، لأنّهم لا يؤمنون بأنّ الله هو ربّهم، ويُردّ هذا الكلام بأنّ هذا التعبير جارٍ على ما هو الحقيقة التي قامت الحُجّة عليها، في ما تفرضه فطرتهم التي تمرَّدوا عليها.

{قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ} عندما انتهت حياته، بشكلٍ طبيعي، أو بالقتل، كما قيل. وهكذا ينقلنا الله فجأة من ساحة الحوار بينه وبين قومه، ومن التأكيد على ثبات الموقف وشجاعته ممّا قربّه من الله، وحبَّبه إليه، ومنحه رضوانه، وأدخله جنّته، إلى يوم القيامة عندما يدعوه الملائكة لدخول الجنّة. وهنا تنفتح الروح الإيمانية على المعنى الإنساني الرحيم الذي يجعله بعيداً عن العقدة العدوانية التي تتشفّى وتنتقم، فنرى هذا الإنسان المؤمن الذي قد يكون عاش الاضطهاد من قومه، وقد يكون عاش الوحدة بينهم، وهو يتطلّع إلى الجنّة ونعيمها، يتمنّى وهو في رحاب النعيم، أن يكون قومه معه، لو أنّهم علموا هذا المصير الرائع الذي ينتهي إليه المؤمنون.

{قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ*بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي} من السنوات التي مضت من عمري في خطّ الكفر والمعصية {وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} عندما اطّلع على إخلاصي في إيماني، وصلابتي في موقفي.

وهكذا انتهى هذا الموقف الذي نستلهم منه العبرة في النتائج الإيجابية التي يحصل عليها المؤمنون، وفي الروح المنفتحة على الخير في حياة الناس كلّهم من دون تعقيد، فنتعلَّم أن لا يعيش الإنسان الحاجز النفسي من موقع العقدة الذاتية الفئوية التي تفصله عن الآخرين، بل يبقى في أجواء التفكير التي توحي إليه بأنّ عليه أن يتمنّى للآخرين الحصول على ما حصل عليه من المواقع التي انطلق منها، في ما يهديهم الله إليها، ويقرّبهم منها.

 

 

 

 

 

 

النصر

النصر من عند الله ـــ انتصار الكافرين وهمي مؤقّت ـــ انتصار كلمة الله ـــ النصر والهزيمة بين الأسباب المادية والغيبيّة.

 

 

 

 

 

 

 

 

1 ـــ النصر من عند الله:

{إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران : 160].

                           *****

{إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ} بتأييده ورعايته ولطفه من خلال ما يوفّره لكم من الأسباب الخفيّة، بالإضافة إلى الأسباب التي تأخذون بها ممّا يرتبط بالنتائج الطبيعية للنصر في نطاق النظام الكوني والإنساني في سنن الله في الحياة، فإنَّ الله إذا رأى عباده المؤمنين منفتحين على مواقع محبّته ورضاه، آخذين بمواقع إرادته في حركة سننه لديهم، فلا بدّ له من أن يمنحهم نصره بطريقةٍ أو بأخرى، فلا مجال لأيّة هزيمة في ساحتهم، فإذا انطلقتم في هذا الاتجاه {فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ} لأنَّ الله لا يُغلب في إرادته مهما كانت الأمور والأوضاع.

{وَإِن يَخْذُلْكُمْ} لأنّكم ابتعدتم عن الطاعة لأوامره ونواهيه وفقدتم الإحساس بالوحدة الإيمانية بينكم، ورفضتم السير على وفق حركة الأسباب في وجودكم {فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ} من كلّ هؤلاء الذين يملكون القوّة ممّن يستعين بهم الناس على تحقيق الانتصار في ساحة الحرب أو الوصول إلى الأهداف في مواقع التحدّي، فهو وحده الذي لا بدّ للمؤمنين من أن يلجأوا إليه ويستعينوا به ويتوكّلوا عليه، ليحصلوا على النتائج الكبرى، فلا ملجأ إلاَّ إليه، ولا استعانة إلاَّ به، ولا توكّل إلاَّ عليه، {وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ} فهو نعم الوكيل ونِعْمَ المولى ونعم النصير.

                           *****

 

 

قوّة إلهية مطلقة مهيمنة:

تقرّر هذه الآية للمؤمنين الحقيقة الإيمانيّة التي ينبغي لهم أن يتمثّلوها في أعماقهم في كلّ معركة من معاركهم، وهي أنَّ الله هو القوّة المطلقة المهيمنة على الحياة في كلّ ما تشتمل عليه من انتصارات وهزائم، فهو من وراء ذلك كلّه، فإذا شاءت إرادته لهم النصر فلن تستطيع كلّ قوى الأرض أن تغلبهم وتهزمهم، لأنّه الذي يملك الأسباب العادية وغير العادية للأشياء، فإذا تحرّكت أسباب النصر من خلاله، فكيف يمكن للآخرين أن ينتصروا من دون سبب؟! وإذا شاءت إرادته الخذلان لهم، لأنّهم انحرفوا عن الخطّ المستقيم الذي يسير بهم نحو النصر واعتمدوا على أنفسهم وعلى الآخرين بعيداً عن الله، فأدّى ذلك إلى أن يفقدوا لطف الله ورحمته ورعايته، فمن هذا الذي يملك أسباب النصر من بعد الله ليحقّقوه من خلاله، وهو لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرّاً إلاَّ بإذن الله، فكيف يملكه للآخرين؟!

وفي هذا الجوّ الإيماني المتحرّك في خطّ الواقع في ما يريده الله للإنسان من خلال سنّته في الكون، تنطلق الدعوة للتوكّل على الله في حياة المؤمنين ليستمدّوا منه القوّة، وليشعروا بالثقة من عنده، فإنّه لا مجال للقوّة إلاَّ منه، ولا للثقة إلاَّ به.

                           *****

2 ـــ انتصار الكافرين وهمي مؤقّت:

{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَاء مَا يَحْكُمُونَ} [العنكبوت : 4].

                           *****

معاني المفردات:

{حَسِبَ}: الحسبان: الظنّ.

                           *****

{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} من المشركين الذين كانوا يمارسون الضغوط على المؤمنين ليفتنوهم عن دينهم، ومن الضالين الذين يتحرّكون في طريق الله، في ما يخيَّل إليهم من قوّة الموقع، وعمق الحيلة، وبما يدبّرونه من مكائد في مواجهة الإسلام والمسلمين {أَن يَسْبِقُونَا} في ما يمثّله السبق من الغلبة، على أساس ما يحقّقونه من نجاحً في إضلال المؤمنين، وما يثيرونه من غبار في وجه الدعوة إلى الله، ممّا يوحي لهم بالانتصار على الله وعلى رسله، عندما تتقدّم مواقعهم في الشرك على مواقع الإيمان.

{سَاء مَا يَحْكُمُونَ} فهذه النظرة لا تنطلق من عمق الدقّة في الحكم على الأشياء، لأنّ الله قد يسهّل للكافرين بعض الوسائل، ويهيّئ بعض الظروف، للوصول إلى بعض غاياتهم، في فترةٍ معينةٍ، ولكنّ المسألة لن تأخذ الكثير من ذلك في امتداد الزمن، لأنّ الله يريد للصراع أن يأخذ مداه، في ما أودعه الله للحياة من السنن الاجتماعية، في ما تخضع له حياة الناس من سنن في دائرة النظام الشامل للكون. ثمّ تنطلق الدعوة للإيمان من مواقع الصراع قويّةً صلبةً في أجواء المعاناة، بعد أن تكون قد اكتسبت الكثير من خصائص النجاح وعناصر القوّة، وفتحت أكثر من ثغرة في جدار الكفر، ليسقط الكفر على أساس تحطيمه في النفوس في دائرة الصراع، قبل تحطيمه في ساحة الواقع.

إنّ الكثيرين من الناس قد يتخيّلون أنّ مسألة التقدّم والتأخُّر في حركة الرسالات والمبادئ الأخرى، تمثّل الانطلاقة الأولى في الحركة، ما يجعل هؤلاء أو بعضهم يسقطون أمام أيّة انتكاسةٍ للإيمان على يدي قوى الكفر، أو أيّة هزيمةٍ للمسلمين تحت ضغط الكافرين، ويفكّرون أنّ الله قد خذلهم في ما يريدون، وما يؤمنون به. ولكنّ هؤلاء يخطئون في ذلك، فإنّ الله لا يريد لدينه أن ينطلق في الساحة العامة للحياة، من قاعدة المعجزة التي تختصر كلّ الأسباب التي ترتبط بها النتائج في المواقع، بل يريد له أن يبدأ في حركته في نطاق عملية النموّ الطبيعيّ الذي تتكامل به الموجودات في وجودها التكويني أو العملي، لأنّ ذلك هو السبيل الذي يعمّق الفكرة في العقول والقلوب، ويصنع للإنسان تجاربه المتنوّعة في مواجهة التحدّيات، ويحقّق له القوّة في وجوده. فإنّ الصراع كلّما اشتدّ في ضغطه، كانت النتائج الإيجابية لمصلحة الإيمان، والنتائج السلبية ضدّ الكفر، أكثر تأثيراً، في ما يعنيه ذلك من أنّ الله يريد للإنسان أن يحقّق إرادة الله باختياره، بحيث يعطي الرسالة شيئاً من فكره وجهده في ما يؤمن، وفي ما يحقّق للآخرين من فرص الإيمان.

ولهذا، فإنّ الله قد يمهل الإنسان في غيّه وكفره، ولكنّه لا يهمله، بل يهيّئ لعباده الصالحين أكثر من فرصةٍ داخليةٍ وخارجيةٍ للانتصار على الكافرين ولو بعد حين.

ثمّ قد تحقّق المسألة لهؤلاء في بعض المواقع انتصاراً في الدنيا، ولكن ماذا بعد الموت، فهل يسبقون إرادة الله في ذلك؟ ومن الذي يحميهم من الله؟ ولكن، كيف يفكّر هؤلاء، وبماذا يحكمون، هل ينطلقون من قاعدة، أو يتحرّكون من فراغ؟ ساء ما يحكمون.

هوية الذين يعملون السيّئات:

وقد اختلف المفسّرون في تحديد هوية هؤلاء الذين يعملون السيّئات، فقيل: إنّهم المشركون الذين كانوا يفتنون عن دينهم، وقيل: إنّهم المؤمنون العصاة في ما يقترفونه من عصيان أمر الله ونهيه في تفاصيل الحياة. وقيل: إنّ المراد بعمل السيّئات أعمّ من الشرك وعمل المعاصي، ما يجعل الآية عامّة لكلّ من يمارس السيّئة على مستوى العقيدة وعلى مستوى العمل.

وقد اختار صاحب الميزان الوجه الأول، رفض الوجهين الأخيرين على أساس مخالفة السياق الذي انطلقت فيه بداية السورة في الحديث عن الفتنة في نطاق مسألة الإيمان والكفر، ما يجعل الآية في دائرة المشركين الذين كانوا يتحرّكون في اتجاه إيجاد أجواء الفتنة للمؤمنين، في ما يقدّمونه من إغراءات، وما يثيرونه من ضغوط، وما يحرّكونه من أوضاع. ثمّ استدرك بعد ذلك، أنّ الآية لو كانت مستقلةً في نزولها، بعيداً عن السياق، لكان مقتضاها العموم، لأنّه لا موجب لتخصيصها بخصوص الشرك، أو بخصوص سائر المعاصي دون الشرك(1).

ونحن نلاحظ على ذلك، أنّ بداية السورة لم تقتصر على الفتنة في العقيدة ولكنّها قد تشمل الفتنة في العمل، في ما يرتبط به الإيمان في صدقه وكذبه، بالعمل على أساس الشريعة التي يفرضها الإيمان في الانسجام معها، والابتعاد عنها، ما يجعل العموم هو طبيعة هذه الآية، كما هو طبيعة ما قبلها.

                           *****

3 ـــ انتصار كلمة الله:

{إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة : 40].

                           *****

تأتي هذه الآية لتثير التفكير بالمعنى الإيماني العميق الذي يوحيه الإيمان بالله، في ما ينصر به رسله، ويدعم به رسالاته، فالله لا يحتاج إلى أيّ عبدٍ من عباده في تحقيق إرادته بالنصر، لأنّه وليّ القوّة في الحياة كلّها، فلا قوّة لأحدٍ إلاّ بإرادته، ولا سبب للقوّة إلاّ منه. وقد يكون السبب متّصلاً بالنواميس الطبيعية التي أودعها في الأشياء، وقد يكون مرتبطاً بالأوضاع غير المألوفة في حركة الأسباب. وبذلك، فلا مجال لأحدٍ أن يتصوّر، من موقع وعي الإيمان، أنّ الناس إذا ابتعدوا عن نصرة النبيّ، فإنّه يفقد مبرّرات النصر، ليبقى في جميع الظروف تحت رحمة الناس، فيستطيعون من خلال ذلك ممارسة كلّ ألوان الضغط المادي والمعنوي عليه في ما يريدون منه، وما لا يريدون، فإنّ الله قادرٌ على أن يحقّق القوّة من أكثر من سببٍ غير مألوف، لأنّه هو الذي أعطى للأسباب المألوفة سببيّتها. وهذا هو ما أكّده في كثير من المواقف التي نصر الله بها نبيّه في ساعات الشدّة، في الوقت الذي كانت كلّ الظروف العادية منطلقةً في أجواء الهزيمة. وهذا ما تثيره الآية في حديثها عن موقف النبيّ في ليلة الهجرة، فقد حاصرته قريش من كلّ جانب، وسدَّت عليه كلّ نوافذ الخروج من بيته بعيداً عن رقابتهم من أجل أن تقضي عليه، ولكنّ الله أنقذه منهم بطريقةٍ غير عادية، عندما خرج من بيته، تاركاً ابن عمّه عليّاً يبيت في فراشه، ليوهمهم أنّه لا يزال هناك، فأغلق الله أبصارهم عنه، عندما رمى التراب فوق رؤوسهم وقرأ عليهم الآية {وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} [يس : 9] ومرَّ من بينهم فلم يبصره أحد. وسار بعد ذلك حتى دخل الغار ـــ غار ثور ـــ في الطريق إلى المدينة، ومعه أبو بكر وتراجع القوم عن ذلك، وردَّهم الله على أعقابهم خاسرين، من خلال ما دبّره الله من أسباب غير مألوفةٍ.

                           *****

نصرة الله للرسول:

{إِلاَّ تَنصُرُوهُ} إن امتنعتم عن نصره فإنّ الله لا يعجز عن نصره، كما فعل في ليلة الهجرة {فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ} وخلَّصه من أيدي قريش التي أطبقت على بيته وانتظرت الصباح لتهجم عليه {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ} من موطنه { ثَانِيَ اثْنَيْنِ}، فقد كان معه أبو بكر الذي تواعد وإيّاه على الخروج معاً حتى دخلا الغار، وأقبلت قريش حتى وقفت على بابه، وبدأ الحوار فيما بينهم، بين قائل يحثّهم على الدخول، وبين قائلٍ يدفعهم إلى الرجوع.

ثقة النبيّ بالله:

واشتدّ الضغط على مشاعر أبي بكر الذي كان يخشى من الموقف على نفسه وعلى النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) {إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} يتحاوران، فيتحدّث أبو بكر عن أجواء الخوف المدمّر، ولكنّ النبيّ كان يعيش آفاق النصرة التي وعده الله بها، والله لا يخلف وعده، فكان يشجّع أبا بكر على الثبات في الموقف، وعلى الاطمئنان لنصر الله {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا} فلو كان الناس بأجمعهم مع الإنسان وكان الله ضدّه، لم ينفعه ذلك شيئاً، ولو كان الله معه وكان الناس ضدّه لم يضرّه ذلك شيئاً، لأنّ الله هو الذي يملك القوّة كلّها، فلا قوّة لأحد إلاّ من خلال ما أعطاه، فهو الذي يملك من الإنسان ما لا يملكه الإنسان من نفسه، فإذا أراد رعاية عبدٍ من عباده، برحمته وقوّته ولطفه، فإنّه يأخذ بكلّ أسباب القوّة من خلال الله، وتلك هي الأجواء الروحيّة التي تطوف بالإنسان في ملكوت الله عندما تشتدّ عليه الأهوال، وتضيق عليه السبل، وتكثر حوله التحدّيات، ويهجم عليه أهل البغي والطغيان، فإذا أحسّ من نفسه ضعفاً أمام ذلك كلّه، وشعر بالحزن يزحف إلى قلبه، وبالخوف يسيطر على روحه، رجع إلى الله في روحية العبد الخاشع، وذهنيّة الإنسان الملتجئ إليه المعتصم بهن فعاش معه في ابتهالاته ودعواته وروحية الصلاة في ضميره، فإذا بالضعف يتبدَّل إلى القوّة، وبالخوف يتحوّل إلى شعورٍ بالأمن، وبالحزن ينطلق إلى الفرح الروحي، ليوحي لنفسه بأنَّ الله معه، ليثبت أمام الزلزال، وليقول لإخوانه الذين يعيشون الاهتزاز الروحي والفكري والعملي أمام عواصف المحنة والبلاء: لا تحزنوا إنَّ الله معنا.

وهذا هو الشعار الذي ينبغي لنا أن نثيره في وعينا وحياتنا ومسيرتنا في إحساس عميق بحضور الله في كلّ وجودنا، بالمستوى الذي تتمثّل لنا في عناصر القوّة كأروع ما تكون، في تحرّكاتنا ومنطلقاتا، انطلاقاً من وعي الرسالة في الرسول، وقوّة الإيمان في النبيّ، وحركة القوّة في الموقف النبويّ المتجسّد روحاً وشعوراً وحياةً في أجواء الرسول العظيم.

نزول السكينة على النبيّ:

{فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} في ما تمثّله من طمأنينة روحيّةٍ، وسكونٍ نفسي، وهدوءٍ شعوريّ، فلا اهتزاز ولا خوف ولا ضياع، بل هو الثبات والأمن والهدى الواضح. إنّها سكينة الإيمان الواثق بالله من موقع الإحساس بالحضور الإلهي في كلّ زمان ومكان كما لو كان يحسّه ويراه. ويتقلّب في ألطافه ورضوانه {وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا} بسبب ما أرسله إليه من ملائكته أو من القوى الخفيّة التي تدعمه وتقوّيه وتحميه، ممّا لم نعلمه من خلال ما نملك من أدوات المعرفة الحسيّة، ولكنّ الله يعلمه من خلال قدرته التي لا يعجزها شيء وإن عظم.

وتمَّت كلمة ربّك صدقاً وعدلاً، وانتصر الرسول في مسيرته، ووصل إلى شاطئ النجاة في رحلته، وأحبط كلّ كيد الكافرين، وحطَّم كلّ مكائدهم {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى} لأنّهم لا يملكون أيّة وسيلةٍ يرتفعون بها إلى الأعلى أمام إرادة الله في ما يريده من النزول بها إلى الأسفل، إذ ليس ثمّة كلمةٌ أخرى تعلو كلمته، مهما حاول الكافرون وتآمر المتآمرون {وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا} في مضمونها ومدلولها وآفاقها وحركتها وسموّها، لأنّها تحمل في داخلها كلّ المعاني الكبيرة التي أراد الله للحياة أن تنطلق بها وتعيش معها، في سماوات الوحي والإبداع التي تحلّق بالإنسان إلى الأعلى فتنقذه من وهدة السقوط ومن وحل الانحطاط، ليعيش مع الله في رحابه الواسعة وآفاقه العليا، {وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} فإذا أراد شيئاً أوجده وخلقه، وإذا أراد شيئاً فإنّه يصنعه بحكمته على خير ما يمكن أن يكون الوجود وبأفضل ما تنطلق الحياة، سبحانه وتعالى عمّا يشركون.

                           *****

 

 

4 ـــ النصر والهزيمة بين الأسباب المادية والغيبيّة:

{لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ* ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ*ثُمَّ يَتُوبُ اللّهُ مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 25 ـــ 27].

                           *****

معاني المفردات:

{مَوَاطِنَ}: الموطن: الموضع الذي يقيم فيه صاحبه.

{حُنَيْنٍ}: اسم وادٍ بين مكّة والطائف.

{سَكِينَتَهُ}: السكينة: الطمأنينة.

                           *****

في الآيات حديث عن أجواء القتال، ولكنّ الله يريد للنبيّ وللمؤمنين، أن تظلَّ عيونهم محدّقةً بالجانب الغيبيّ من ألطافه، وقلوبهم متّصلة بالقوّة المستمدّة منه، فللإنسان دوره في الحياة في ما يملك من وسائل الحركة وعناصر القوّة وآفاق الفكر، فقد ينتصر تارّةً، وقد ينهزم أخرى، ولكنّ الدور الأساس في كلّ شيء، هو لما يفيضه الله عليه من أسباب النصر، أو لما يبتليه به من عوامل الهزيمة، فلا يجوز له أن يستسلم للجانب الماديّ بعيداً عن الجانب الغيبيّ، لأنّه هو الذي يمنحه حيويّته، ويحقّق له الامتداد في مداه، حتى يبلغ غايته، ويحوّله من عنصرٍ جامدٍ محدود إلى عنصر متحرّكٍ منطلقٍ مفتوحٍ. فالله هو مع كلّ شيء ووراء كلّ شيء، فله الأمر كلّه، وبيده الوجود كلّه وهذا هو معنى الإيمان المنفتح عندما يحلّ في فكر الإنسان وقلبه وضميره، فيوحي له بالارتباط العميق بالله، فيلجأ إليه في حالة الرخاء كما يلجأ إليه في حالة الشدّة، ويرجع إليه في مواطن القوّة كما يرجع إليه في مواطن الضعف، لأنّه فوق ذلك كلّه، وذلك هو سرّ الفتح الكبير في روح المؤمن الذي يتحوّل إلى الفتح الكبير في حياته، في وعيه لعظمة الله ورحمته وقدرته في حركة الحياة.

                           *****

الكثرة لا توجب النصر:

{لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ} وهي المعارك التي خاضها المسلمون ضدّ المشركين وأهل الكتاب من اليهود، وقالوا إنّها ثمانون، وكان المسلمون يعانون من ضعف العدد والعدّة، وكان النصر من الله، من خلال ما كانوا يحصلون عليه من الإمدادات الغيبيّة وغيرها ممّا يساهم في عملية النصر، {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ} عندما هاجم المسلمون ـــ بقيادة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ـــ هوازن وثقيف في وادي حنين {إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} فقد كانوا في ما تقوله بعض الروايات، اثني عشر ألفاً أو أقل من ذلك، حتى قال بعضهم حين رأى هذا الجمع الغفير من الناس، لن نغلب اليوم عن قلّة، فاستسلموا لهذه القوّة العدديّة، وأغفلوا الجوانب الأخرى من القوّة، بما تفرضه الحرب من طبيعة الدقّة في الاستعداد والتخطيط والحركة، وفي ما يوحي به الإيمان من الاعتماد على الله في قضية النصر، فكانت الهزيمة بعد ساعة ـــ في ما قيل ـــ عندما خرجت عليهم كتائب هوازن من كلّ ناحية، وانهزمت بنو سليم وكانوا في المقدّمة، وانهزم من وراءهم، وخلّى الله بينهم وبين عدوّهم لإعجابهم بكثرتهم {فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً} ولم تنفعكم في أيّ نصر {وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} فلم تجدوا أمام الهزيمة المنكرة مكاناً تلجأون إليه، لأنّ القوم لاحقوكم في كلّ مكان {ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ} منهزمين.

ولكنّ الله أرادها درساً للعبرة، ولم يردها هزيمةً نهائيةً، فقد ذكر أهل التفسير، أنّ عليّاً (عليه السلام) بقي ومعه الراية يقاتلهم في نفر قليل، ومرّ المنهزمون برسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) لا يلوون على شيء، ولمّا رأى هزيمة القوم عنه، قال للعبّاس بن عبد المطّلب وكان جهورياً صيّتاً: اصعد هذا الظرب "وهو التلّ الصغير" فنادِ: يا معشر المهاجرين والأنصار، يا أصحاب سورة البقرة، يا أهل بيعة الشجرة، إلى أين تفرّون، هذا رسول الله، فلمّا سمع المسلمون صوت العبّاس تراجعوا وقالوا لبّيك وتبادر الأنصار خاصة، وقاتلوا المشركين حتى قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): الآن حمي الوطيس ونزل النصر من عند الله وانهزمت هوازن هزيمةً قبيحةً، فمرّوا في كلّ وجهٍ ولم يزل المسلمون في آثارهم.

{ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ} وهي رحمته التي تجلب الطمأنينة والسكون والهدوء إلى النفس، حتى تشعر بالراحة والاستقرار {عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} بعد حالة الخوف والفزع، فرجعوا إليهم وقاتلوهم، بما عاشوه من القوّة الروحيّة الجديدة التي وهبها الله لهم، فتحوّلت إلى قوّةٍ في الموقف {وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا} من الملائكة، وهو ما ذكرته كتب التفسير، وما توحي به أجواء الآية {وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} وذلك بما عانوه من القتل والأسر وسبي الأولاد والنساء {وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ} المتمرّدين على الله ورسوله {ثُمَّ يَتُوبُ اللّهُ مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَن يَشَاءُ}، ممّن يرجع إلى الإيمان بعد الكفر، وإلى الطاعة بعد المعصية، وإلى الاستقامة بعد الانحراف، لأنّ الله قد فتح للناس باب التوبة والإنابة ليرجعوا إليه بعد المعصية، في عملية تقويمٍ للموقف وتصحيح للفكر، وعودةٍ للإيمان، وانتصار على الضعف، وهو العالِم بالذين يستحقّون المغفرة والرحمة، لأنّه المطّلع على دواخلهم وتاريخهم العملي {وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.

 

 

 

 

النفاق

المنافقون في ملامحهم العامّة ـــ حقيقة المنافقين ووظيفتهم ـــ من ملامح المنافقين ـــ نموذج منافق ـــ النموذج المنافق في قبال النموذج الرسالي ـــ المنافق مذبذب ـــ المنافقون اشتروا الضلالة بالهدى ـــ النفاق ونقض العهد ـــ استهزاء المنافقين بالقرآن ـــ تآمر المنافقين على المسلمين ـــ موالاة المنافقين للكفّار ـــ تفوق خطورة المنافقين على خطورة الكفّار ـــ لعب المنافقين على المواقف ـــ توسّل المنافقين بإنفاق المال لخداع المسلمين ـــ من صور كبرياء المنافقين ـــ الموقف من اعتذار المنافقين ـــ استهزاء المنافقين بالكافرين يكشف كفرهم.

 

 

 

 

1 ـــ المنافقون في ملامحهم العامّة:

{إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ*اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ*ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ*وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المنافقون: 1 ـــ 4].

                           *****

معاني المفردات:

{الْمُنَافِقُونَ}: المنافق اسم فاعل من النفاق وهو في عرف القرآن إظهار الإيمان وإبطان الكفر.

{أَيْمَانَهُمْ}: الأيمان جمع يمين بمعنى القسم.

{جُنَّةً}: والجنّة الترس، والمراد بها ما يتّقى به من باب الاستعارة.

{فَصَدُّوا}: الصد يجيء بمعنى الإعراص.

{خُشُبٌ}: جمع خشبة.

{مُّسَنَّدَةٌ}: التسنّد نصب الشيء معتمداً على شيء آخر كحائط ونحوه.

{يُؤْفَكُونَ}: يصرفون عن الحقّ.

هذه السورة من السور المدنيّة التي نزلت لتتحدّث عن المنافقين كوجودٍ حركيٍّ مضادٍّ في داخل المجتمع الإسلامي. فقد كانوا يمثّلون الجماعة التي تكيد للإسلام في  العمق، لأنّها لا تؤمن به في صميم العقيدة، ولكنّها تعلن إسلامها في الظاهر ليكون ذلك غطاءً لها في تحرّكاتها التي تريد من خلالها أن تنفذ إلى مواقع العصبية العائلية التي تحميها، وإلى مكامن العلاقات المتنوّعة التي تحتضنها، لأنّ هناك فرقاً بين الكيد الذي يتحرّك في عناوين الكفر وبين الكيد الذي يتحرّك تحت عنوان الإسلام، فقد لا يسمح الإسلام للكافرين أن يتصرّفوا ضدّ الإسلام بحريّةٍ، لأنّ الحاجز الديني الداخلي يدفع إلى الرفض السريع بطريقةٍ لا شعوريةٍ، لأنّ الجوّ العام هو جوّ الصراع مع الكفر. أمّا الذين يعلنون الإسلام في الظاهر، فإنّهم يملكون حقّ المسلم في حماية المجتمع له، ما يجعل من تصرّفاته التي يقوم بها، أو الخلافات التي يثيرها، تصرّفات فردية تدخل في نطاق المشاكل الداخلية الصغيرة بين السملمين التي لا تترك أيّة خطورةٍ على الواقع الإسلامي العام.

وهذا ما نواجهه في الكثير من تجاربنا الاجتماعية أو السياسية في داخل الحركة الإسلامية العامة، في مواقفها الصلبة ضدّ الاستكبار العالمي المتّصل بقواعد الكفر، فقد نجد الكثيرين ممّن يحملون العنوان الإسلامي بطريقةٍ وبأخرى، يقفون وقفة النفاق التي تفتح أكثر من نافذةٍ على الاستكبار، لتنطلق من خلال خططه نحو الإضرار بالإسلام والمسلمين في مواقع الصراع الذي يخوضه ضدّ الكفر والاستكبار، في الوقت الذي ينطلقون في داخل المجتمع بعناوين إسلاميةٍ تمنحهم حرية الحركة، من خلال ما يملكونه من صفاتٍ رسميةٍ أو اجتماعيةٍ أو اقتصاديةٍ، ممّا يجعلهم فريسةً سهلةً لأجهزة المخابرات الدولية التي تحرّكهم كأدواتٍ تخريبية ضدّ سلامة الاتجاه الإسلامي السليم.

وقد جاءت هذه السورة لتتحدّث عن بعض ملامحهم العامة، ليتعرّف المسلمون إليهم من خلالها، سواء أكان النفاق نفاقاً عاماً يتّصل بالخطط العامة للكافرين في ما هو الكفر والإسلام، أم كان النفاق نفاقاً خاصاً محدوداً ببعض الخطط السياسية المضادة في ما هو الإسلام والاستكبار، لأنّ المسألة في الأسلوب القرآني أن يفتح للإنسان النافذة الإسلامية الواسعة على الواقع في زواياه الخفيّة، من أجل أن يتعرّف على الناس في الساحات العامة والخاصة، ليحترز من كيدهم ومكرهم في ما يمكن أن يحرّكوه من وسائل الكيد والمكر، ليكون الإنسان المسلم هو الإنسان الواعي الذي يعرف كيف يواجه المشاكل الصعبة بعقلٍ ذكيٍ مثير، يتغذّى من النظرة واللّمسة والملاحظة والقراءة، بما يحقّق له الكثير من عناصر الحماية على جميع المستويات.

ولم تكن هذه السورة السورة الأولى والأخيرة التي تحدّثت عن المنافقين، فهناك أكثر من سورةٍ تعرّضت لأوضاعهم العامة والخاصة، ولكن هذه السورة أخذت عنوان "المنافقون"، لأنّ بدايتها كانت تطرح الاسم بشكلٍ صارخ بارز، ما يجعل الحديث عنهم عنواناً لهذه الجماعة وللسورة.

هذه السورة تلفت النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) إلى الانتباه والاستعداد لمواجهة المنافقين الذين يخفون نواياهم الحقيقية وراء إعلانهم الظاهري للإسلام، وتطلب إليه مواجهتهم بالمنطق القرآني الذي يكشف زيف أساليبهم.

{إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ}، الذين يعيشون دائماً القلق الداخلي الذي يتحرّك من خلال الازدواجية العملية المتمثّلة في سلوكهم المتأرجح بين الكفر والإيمان، والذي يضعهم في دائرة الشكّ من قِبَل الآخرين، كون طبيعتهم الذاتية تفسح المجال لذلك، {قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} في ما توحي به كلمة الشهادة من تطابق القول مع العقيدة، ليؤكّدوا للنبيّ وللمسلمين من حوله أنّهم يؤمنون بالإسلام القائم على التوحيد ورسالة النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، كما يؤمن المسلمون الآخرون، ويؤكّدون إيمانهم بهذه الشهادة الصارخة، {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} فليست رسالتك موضع الشكّ، فإنّ الله الذي أرسلك هو الذي يعلم هذه الحقيقة ويؤكّدها، ولكنّ ذلك شيءٌ، ومسألة صدق هؤلاء المنافقين في شهادتهم شيءٌ آخر، {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} في دعواهم الشهادة لك بأنّك رسول الله، لأنّ قيمة الشهادة بالكلمة أن تكون منفتحةً على الشهادة بالقلب، ولكنّ الله يعلم أنّ هؤلاء ينكرون رسالتك في إيمانهم العقلي والروحي، ما يجعل من إعلانهم لهذه الشهادة نوعاً من الخديعة والاستغفال والسعي إلى أن يأخذوا شرعية الإسلام لتغطية جرائمهم النفاقية.

{اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} ووقايةً يحتمون وراءها كلّما شعروا بأنّ عيون المسلمين تحدّق بهم تحديقة شكٍّ وتساؤلٍ، وتثير الشبهات حولهم من خلال بعض الأعمال التي يقومون بها، أو الكلمات التي يتكلّمون بها، فيطلقون الأيمان المغلظة ليطردوا شكوك الآخرين، وليؤكّدوا الثقة بإسلامهم ولينالوا ثقة المجتمع الإسلامي بهم. واستمرّوا في هذا الاتجاه {فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ} بألاعيبهم الخفيّة وأضاليلهم المدسوسة، وضلّلوا الكثيرين من الأبرياء، وانحرفوا بهم عن الصراط السوي، بأسلوب العاطفة في صداقاتهم وقراباتهم، {إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ممّا كانوا يسعون إليه لإزهاق الحقّ، وإقامة الباطل، وخلخلجة المسيرة الإسلامية في ساحة الصراع.

{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا} في بدايات أمرهم، بشكلٍ هادئٍ ساذجٍ قد ينفذ إلى العمق قليلاً، في ما قد يكون في داخلهم من بعض مواقع الصدق والخير، وقد لا يكون له عمق في الداخل، بل كان الإيمان إيمان المصلحة لا إيمان القلب. {ثُمَّ كَفَرُوا} فساروا في خطّ الكفر، والتزموا مفاهيمه، {فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ} بحيث كان الكفر حالةً إراديةً عميقةً في العقل، رافضةً لكلّ روحٍ إيمانية في ما هو الفكر والشعور، فأغلقوا قلوبهم عن الله، فأغلقت عقولهم ومشاعرهم من خلال ذلك، {فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ} في ما قد يخاطبهم الرسول أو الدّعاة إلى الله بآيات الله، فلا يفهمون منها شيئاً، لأنّ الإنسان يفهم بعقله النَيِّر المنفتح على الفكر الحقّ، فإذا كان عقله مغلقاً، فكيف تنفذ الحقيقة إليه. وتلك هي مشكلة الكثيرين من المنافقين والكافرين، فهم لا يفقدون قابلية المعرفة بل يفقدون إرادتها التي هي سرّ حركتها في العقل والشعور.

{وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ} فهم يتحرّكون بأجسام منتفخة توحي بالعظمة وبالامتلاء وبالقوّة، بحيث يشعر الناس أمامها بأنّ هؤلاء يمثّلون الطبقة العالية من القوم.

{وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} لأنّهم من الناس الذين يعطون الإيحاء بأنّهم من عقلاء القوم وممّن يتمتّعون بالحكمة والتجربة، كما قد يكونون من الأشخاص الذين يستخدمون في منطقهم الكلمات المعسولة والأساليب الخادعة.

{كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ} في جمود الروح وبرودة الحيوية، حتّى كأنّ جلوسهم إلى الجدار في الشكل الجامد، كما لو كانوا خشباً مرمياً على الجدار من دون معنى ولا حركةٍ ولا حياةٍ ولا نفع، لأنّ قيمة الخشب في الانتفاع به أن يكون جزءاً من السقف أو من الباب أو الجدار، لا أن يكون خشباً مرمياً على الجدار، وقيل: إنّه شبَّههم بخشب نخرةٍ متآكلةٍ لا خير فيها، ويحسب من رآها أنّها صحيحة سليمةٌ من حيث إنّ ظاهرها يروق وباطنها لا يفيد، فكذلك المنافق ظاهره معجبٌ رائعٌ وباطنه عن الخير زائغ.

{يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} فهم يعيشون القلق الداخلي، والاهتزاز النفسي، انطلاقاً من الازدواجية بين موقفهم الظاهري وحقيقتهم الباطنية، ويبقى الهاجس الدائم لديهم أن يكشف المسلمون أمرهم على طريقة "كاد المريب أن يقول خذوني"، ما يجعلهم يتحسّبون لكلّ حركةٍ تصدر من الآخرين كما لو كانت موجهّةً ضدّهم، ولكلّ صيحةٍ مثيرةٍ كأنّها تثير الناس عليهم، خوفاً وجبناً. {هُمُ الْعَدُوُّ} الداخلي الذي ينفذ إلى الأُمّة ليثير المشاكل المتنوّعة بين أفرادها، وليحرّك الأحقاد التاريخية في داخل صفوفها، وليخطّط الخطط العدوانية للتآمر على سلامتها، من خلال الشعارات البرّاقة التي يحرّكها انطلاقاً من النوازع الذاتية أو الجماعية المتحكّمة في أوضاعها، فيبدو الأمر في النزاع والخلاف، كما لو كان شيئاً طبيعيّاً منطلقاً من الواقع الطبيعي في الحياة الاجتماعية العامة، ولهذا فلا بدّ من التعامل معهم على طريقة التعامل مع العدّو، لأنّهم إذا كانوا الأصدقاء في الظاهر، فهم الأعداء في الباطن.

{فَاحْذَرْهُمْ} في أسلوب العمل، في ما يمكن أن تحرّكه من أسرار قد ينقلونها إلى العدو، وفي ما تثيره من قضايا مصيرية قد يتدخّلون فيها فيفسدونها من خلال علاقاتهم الخاصة والعامة بالمجتمع. {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ} أي أخزاهم ولعنهم، وربّما كان ذلك دعاءً عليهم بالهلاك، لأنّ من قاتله الله فهو مقتول، ومن غالبه فهو مغلوب. {أَنَّى يُؤْفَكُونَ} ويصرفون عن الحقّ، ويبتعدون عنه، مع ظهور أمره في كثرة الدلالات عليه.

                           *****

2 ـــ حقيقة المنافقين ووظيفتهم:

{الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ*وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ*كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُواْ أُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الُّدنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ*أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وِأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [التوبة: 67 ـــ 70].

                           *****

معاني المفردات:

{وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ}: أي يمسكون أموالهم عن إنفاقها في طاعة الله.

{مُّقِيمٌ}: دائم.

{بِخَلاَقِكُمْ}: الخلاق: النصيب والحظّ.

{حَبِطَتْ}: فسدت.

{وَالْمُؤْتَفِكَاتِ}: جمع مؤتفكة. ائتفكت بهم الأرض أيّ انقلبت.

                           *****

هذه جولةٌ في أجواء المنافقين والمنافقات في خصائصهم البارزة التي تحكم كلّ أوضاعهم السلبيّة في ما يفعلون أو يتركون، في مقابلةٍ بينهم وبين المؤمنين، لتتّضح الصورة لدينا من موقع التمايز البارز في الأقوال والأفعال والمواقف، ثمّ ليعرف الناس نهاياتهم في ما ينتظرهم عند الله من شؤون الثواب والعقاب.

{الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ} في عملية ارتباط عضويّ، من خلال ما يمثّله مجتمع النفاق من ارتباط بين أفراده في الأفكار والمشاعر والأعمال، {يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ} في مواجهةٍ حادّةٍ للخطّ الإيماني الذي جاءت به الرسالات في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأنّ ذلك هو ما يمثّله دورهم الشيطانيّ في تخريب الأُسس الروحيّة والأخلاقيّة الاجتماعية، بسبب ما يثيرون من عوامل الريب والتشكيك والتضليل التي تغيّر صورة الأشياء، فتقلب الحقّ باطلاً والباطل حقّاً، كوسيلةٍ من وسائل تعطيل المسيرة الإيمانيّة في اتجاه الرسالات الإلهيّة.

{وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ} عن الخير والعطاء في سبيل الله، لأنّهم يعيشون أنانيّاتهم الذاتية التي تجعلهم لا يتصوّرون إلاّ الآفاق الداخليّة لشخصياتهم المحدودة المهزوزة، فلا يشعرون بأيّة مسؤوليّةٍ تجاه الآخرين الذين يعيشون مشاكل الجوع والحرمان، لأنّ المشاعر الخيّرة التي تنساب في أعماق الروح، لا بدّ لها من دوافع روحيّةٍ عميقةٍ تتّصل بالإيمان بالله، في ما يوحيه للإنسان من أخلاقية التضحية وروحيّة العطاء، ما يدفعه إلى المزيد من وعي المسؤولية في حركة الإيثار، بعيداً عن العوض الماديّ الذي يحوّل المسألة إلى عمليّة تجاريّةٍ، لأنّ قصّته في معنى الإيمان، هي قصة السموّ الروحي الذي يعيش معه الأمل الكبير بالحصول على الرضا من الله، فذلك هو الربح الكبير عنده، والعوض العظيم لديه. أمّا الذين لا يعيشون الإيمان، فما هي الدوافع التي تثير فيهم روح العطاء، إنّهم يفقدون كلّ شيءٍ يوحي بالخير، لأنّهم يفقدون هذا الجوّ الحميم الذي يرتفع بأرواحهم إلى آفاق الله.

{نَسُواْ اللّهَ} في ما يفكّرون، فكان فكرهم شيطنةً ومكراً، وفي ما يشعرون، فكان شعورهم حقداً وبغضاءً، وفي ما يعملون، فكان عملهم تمرّداً وعصياناً وانحرافاً عن الخطّ المستقيم، لأنّهم عندما فقدوا الله في فكرهم وشعورهم وحياتهم، التقوا بالشيطان من أقرب طريق، لأنّ أيّة منطقة تخلو من الله، لا بدّ من أن يدخلها الشيطان، {فَنَسِيَهُمْ} بحرمانهم من لطفه ورضوانه ورحمته، إذ لا معنى لنسيان الله للناس، إلاّ إهماله لهم، واعتبارهم مجرّد كميّاتٍ مهملةٍ لا تعني شيئاً ولا تمثّل شيئاً في ما يفيضه من رحمته ورضوانه وعفوه وغفرانه {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} الذين يجسّدون الفسق واقعاً حيّاً يشير إلى المفهوم العملي للفسق بأوضح صورة، في ما يمثّله سلوكهم، وتتكشَّف عنه نفسيّاتهم، من خبثٍ وتعقيد وانحرافٍ عن طريق الله {وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا} فذلك هو جزاؤهم على كلّ ما فكّروا فيه من الشرّ، وأثاروه من الفساد، ونفّذوه من خطط الهدم والتخريب لقواعد الإيمان في المجتمع كلّه، تمرّداً على الله، وعصياناً لرسالاته، وإيذاءً لرسوله، {هِيَ حَسْبُهُمْ} في ما تمثّله من العقوبة الكافية الوافية على أعمالهم، {وَلَعَنَهُمُ اللّهُ} بإبعادهم عن رحمته، وذلك هو غاية الخسران، لأنّ فقدان الإنسان لرحمة الله، وإبعاده عن ساحة لطفه ورضوانه، لا يعني فقدان الأمل في كلّ إشراقةٍ للروح في حياته، أو انطلاقةٍ للخير في مصيره. {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} لا زوال له ولا انقطاع.

                           *****

نتيجة النفاق... عذاب مقيم:

وتلك هي مسيرة النفاق في الحاضر التي ترتبط بمسيرته في التاريخ، في المقدّمات والنتائج، {كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ} ونصيبهم من الدنيا وسارت بهم الحياة كما يشتهون، {فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلاَقِكُمْ} ونصيبكم من الدنيا في ما تشتمل عليه من لذائذ وشهوات {كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُواْ} من الكفر والنفاق والاستهزاء بالرسل والرسالات والإمعان في الباطل قولاً وعملاً، فماذا كانت نتائجهم في حساب الأرباح والخسائر؟ ليس هناك شيءٌ على مستوى الأرباح في الدنيا والآخرة، فلم يحصلوا على شيءٍ مقابل كلّ ما عانوه وما خاضوا فيه، {أُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الُّدنْيَا وَالآخِرَةِ} فلم يبقَ منها شيء، بطلت في كلّ نتائجها، لأنّ الكفر يهدم كلّ عمل من أعمال الخير السابقة لو كان لهم شيء من ذلك، فلا يستحقّون عليه ثواباً في الآخرة، ولا يحصلون منها على نتيجةٍ مرضيةٍ في الدنيا، في ما يحصل منه الناس من نتائج معنوية أو ماديّة على ما يقدّمونه من عمل أو يبذلونه من جهدٍ {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} الذين خسروا أنفسهم وفقدوا مصيرهم، فإذا كان مصير أولئك هو ذلك، فهل يكون مصيركم أفضل من مصيرهم، وأنتم تسيرون على الخطّ نفسه الذي ساروا عليه، وتسعون إلى نفس الأهداف التي استهدفوها، وتخوضون في الباطل الذي خاضوه، وتتمرّدون على الله في كلّ شيء؟!

                           *****

الاعتبار بمن مضى من الكفّار:

{أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وِأَصْحَابِ مَدْيَنَ} قوم شعيب {وَالْمُؤْتَفِكَاتِ} وهي القرى التي انقلبت بأهلها، وهم قوم لوط، {أَتَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ} التي توضّح لهم السبيل وتدلّهم على  مواقع الهدى، فجحدوا وكفروا وتمرّدوا، فعذّبهم الله بذنوبهم، بمختلف ألوان العذاب، وأهلكهم، {فَمَا كَانَ اللّهُ لِيَظْلِمَهُمْ} وهو الغني عن ظلم عباده لأنّه القوي الذي لا يحتاج أحداً، إنّما يحتاج الظلم الضعيف، والله قادر على أن يصل إلى ما يريد، بما يريد، {وَلَـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} بما عصوا به الله وانحرفوا عن طريقه، بعد أن أقام عليهم الحُجّة من جميع الجهات. إنّ ذلك التاريخ الذي يمثّل سيرة هؤلاء، من خلال ما يمثّله من النتائج السلبية لكلّ هذا الخطّ المنحرف المتمرّد، هو الصورة التي يجب أن تتمثّلوا فيها النتائج الوخيمة لكلّ ما تقبلون عليه في مستقبل حياتكم، ولذلك فإنّ عليكم أن تتراجعوا عن خطّ الانحراف لئلا تقعوا في ما وقعوا فيه، وتنتهوا إلى ما انتهوا إليه، لأنّ الله يعامل الآخرين بما عامل به الأوّلين من موقع عدله الذي لا يعجزه أحد، في أيّ زمانٍ ومكان.

                           *****

3 ـــ من ملامح المنافقين:

{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ*يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ*فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ*وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ*أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ*وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَـكِن لاَّ يَعْلَمُونَ*وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ*اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة: 8 ـــ 15].

                           *****

معاني المفردات:

{يُخَادِعُونَ}: الخداع: أن يوهم صاحبه خلاف ما يريد به من المكروه، وأصله الإخفاء والإبهام. {يُخَادِعُونَ اللّهَ}: أي: يعملون عمل المخادع الذي يريد أن يصل إلى أغراضه بطريقة خفيّة، فيما الله تعالى لا يصحّ أن يخادعه مَن يعرفه ويعلم أنّه لا تخفى عليه خافية.

{يَشْعُرُونَ}: الشعور: أصله الإحساس بالشيء من جهةٍ تدقّ وتخفى، والمقصود بكلمة {يَشْعُرُونَ}: يعلمون وذلك على نحو الاستعارة.

{مَّرَضٌ}: المرض: العلّة في البدن التي يخرج بها على حدّ الاعتدال، وقد يكون في البدن كالأعراض التي تصيبه فتؤلمه أو تضعفه أو تعطّل وظائفه، وقد يكون في القلب كالنفاق والشكّ ونحوهما.

{لاَ تُفْسِدُواْ}: إحداث الفساد: هو كلّ ما تغيّر عن استقامة الحال، والصلاح: نقيض الفساد.

{السُّفَهَاء}: جمع سفيه، والسفه: خفّة في البدن، واستعمل في خفّة النفس لنقصان العقل، والسفيه: الضعيف الرأي، الجاهل، القليل المعرفة بمواضع المنافع والمضارّ.

{شَيَاطِينِهِمْ}: الشيطان: كلّ متمرّد من الجنّ والإنس، ومنه قوله تعالى: {شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ} [الأنعام: 112] وأصله من شطَنَ أي: تباعد، فالشيطان: هو البعيد من الخير، المبعد عن رحمة الله.

{مُسْتَهْزِئُونَ}: الاستهزاء: ارتياد الهزء أو تعاطيه، وهو السخرية والاستخفاف، والهزء أيضاً: هو القتل السريع. وناقته تهزأ به: أي تسرع وتخف.

{اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ}: أن ينزل الهوان والحقارة بهم، لأنَّ المستهزئ يستهدف إلحاق الخفّة والزراية بمن يهزأ به، وقد يُراد منه أنّه يجازيهم جزاء الهزء من خلال إمهالهم مدّةً استدراجاً واغتراراً. وقد رُوي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنّه قال في معنى الاستدراج: إذا أحدث العبد ذنباً جدَّد له نعمة(1).

{وَيَمُدُّهُمْ}: مدّ الجيش وأمدّه، أي: زاده وألحق به ما يقوّيه ويكثره. ومدّه الشيطان في الغيّ وأمدّه: إذا واصله بالوساوس حتى يتلاحق غيّه ويزداد انهماكاً فيه.

{طُغْيَانِهِمْ}: الطغيان: تجاوز الحدّ في العصيان، وطغى الماء: إذا تجاوز الحدّ، ومنه قوله تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاء} [الحاقة : 11]. والطاغية: هو الجبّار العنيد.

{يَعْمَهُونَ}: العمه: هو التردّد في الأمر، من التحيّر، وهو قريب من العمى الذي يُقال في افتقاد البصر، إلاَّ أنَّ العمه يكون في البصيرة.

                           *****

نموذج من نماذج الناس في مواقفهم الفكرية والعملية أمام قضية الإيمان والكفر. وقد عايش الإسلام هذا النموذج في عصره الأوّل، وعانى الكثير من دسّه وتضليله ولفّه ودورانه، ممّا كان يربك الحياة الإسلامية في حركة المجتمع الإسلامي الداخلية والخارجية.

وقد نلاحظ ـــ ونحن نواجه هذه الآيات الكريمة التي تحدّثت عن المنافقين ـــ أنَّ الحديث عنهم يأخذ مساحة واسعة في تحليل شخصيّاتهم، وإبراز ملامحهم، أكثر من المساحة التي أخذها الحديث عن الكافرين، ولعلّ السبب في ذلك، أنَّ قضية الكفر كقضية الإيمان، تمثّل موقفاً حاسماً في حياة الإنسان، باعتبارها تحديداً واضحاً للموقف إزاء ما يطرح من قضايا العقيدة والحياة، فلا تعقيد في مواجهة الواقع، ولا التواء في التعبير عنه. وبذلك يسهل التعرّف على المؤمنين والكافرين من خلال حركتهم في الحياة، لكلّ من يعرف طبيعة الإيمان والكفر.

أمّا المنافقون، فهم الذين يعيشون ازدواجية الموقف بين ما يضمرونه في داخل أنفسهم وما يظهرونه أمام الناس، ما يجعل من اكتشافهم ومعرفتهم عملية معقّدة، لأنّها تحتاج إلى رصدٍ دقيقٍ لأقوالهم وأفعالهم لمواجهة العوامل القلقة التي تتحرّك في سلوكهم الحياتي العام والخاص.

وقد يكون هذا هو السبب الذي جعل القرآن الكريم يواجه هذا النموذج القلق بعدّة آيات تلاحق مظاهر النفاق في كلماتهم التي يواجهون بها الناس، وشعاراتهم التي يطرحونها، ومواقفهم الاجتماعية العملية والحياتية، ليسهل على الناس كشف واقعهم من أجل التخلُّص من ضررهم في الحاضر والمستقبل.

                           *****

القرآن دليلنا:

ونحن عندما نريد أن نواجه هذه النماذج من الناس من خلال الآيات القرآنية، نشعر بالحاجة إلى ملاحقة أمثالها في حياتنا العامة، في صراعنا المرير في قضية الكفر والإيمان، لأنَّ قيمة القراءة القرآنية وطبيعة الوعي القرآني، لا تتمثّل في الفهم الحرفي والتاريخي لآياته فقط، بل في معرفتنا للجانب التطبيقي الذي يمثّل حركة الوعي القرآني في حياة الناس المستقبليّة التي تتنوّع مظاهرها وأشكالها ونماذجها في إطار وحدة القضايا الأساسية التي تبقى وتعيش في جميع المراحل، لأنّنا نريد أن نتحرّك مع القرآن، والقرآن يتحرّك مع الحياة في اتجاه الأهداف الكبيرة التي أراد الله من الإنسان بلوغها وتحقيقها. وهذا ما يجب أن يحكم قراءتنا للقرآن وفهمنا له، ليكون القرآن هو المرآة الصافية التي نكتشف فيها أنفسنا وحياتنا، انطلاقاً من آياته التي نعتبرها نوراً ورحمةً للعالمين، ومن الأحاديث الشريفة المأثورة عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، عندما قالوا ـــ في أكثر من حديث ـــ: إنَّ القرآن حيّ لم يمت، وإنّه يجري كما يجري الليل والنهار، وكما يجري الشمس والقمر(1). فإنَّ الحياة تتجدّد، ولكنّ الليل والنهار يبقيان فيحكمان حركة الحياة. كما أنَّ الكون يتجدّد، ولكنّ الشمس والقمر يظلّان في مدد دائم للحياة بالنور والإشعاع والدفء.

                           *****

 

نماذج على المشرحة:

{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ}. هذه هي إحدى صفات المنافقين، فهم يعلنون كلمة الإيمان وشعاره أمام الناس، فيسجّلون على أنفسهم الاعتراف به والالتزام بأحكامه، ليحصلوا على ثقة الناس بهم، فيثق الناس بمنطلقاتهم، ويحسّون بالأمن إزاءهم، ما يفسح لهم المجال الواسع للتحرّك بحريّة كبيرة في مجالات الدسّ والتضليل، ولكنّهم لا يلتزمون بالإيمان في قناعاتهم الفكرية من خلال مؤثّراتهم الذاتية المعقّدة، فهم يعيشون ازدواجية الموقف بين الظاهر المؤمن الذي يتحرّك في دائرة العلاقات الاجتماعية بين المؤمنين، والباطن الكافر الذي يعيش في داخل الذّات وفي المجتمع الكافر.

وقد نواجه مثل هؤلاء في بعض أتباع المبادئ الكافرة، الذين يرفعون شعار الإيمان والإسلام في كلماتهم، مع أنَّ مبادئهم ترتكز على قاعدة الكفر والإلحاد، بشكلٍ مباشر أو غير مباشر، ليحسّ المجتمع المؤمن بالأمن من ناحيتهم، فيسهل عليهم النفاذ إلى حياته.

{يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ} أي: يعملون عمل المخادع الذي يريد أن يصل إلى أغراضه بطريقةٍ خفيّة لا يشعر بها المخدوع، يحاولون أن يظهروا بغير ما هم فيه ليحصلوا على الثقة والاطمئنان بإيمانهم وصلاحهم. ولكنّ جهودهم تذهب هباءً، فإنّهم لا يخدعون إلاَّ أنفسهم عندما يوحون إليها أنّهم ينجحون في هذه الأساليب الملتوية، ولا يلتفتون إلى أنَّ الله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وأنّه يكشف واقعهم للمؤمنين ليحذروا منهم.

وذلك هو شأن الضالّ الباحث عن أطماعه وشهواته عندما تتحكّم به الفكرة المنحرفة، وتتعمّق في داخله، فتصرفه عن الالتفات إلى حقائق الأمور، وطبيعة المواقف، فينطلق بأصحابه إلى المواقع التي يظنّون أنّهم ينجحون فيها، من دون شعور بالنتائج السيّئة التي تترتّب على السير في هذا السبيل، وذلك كهؤلاء المنافقين الذين لا يشعرون بأنّهم مكشوفون للمؤمنين، فيخيّل لهم أنّ مواقفهم تعيش خلف الضباب، ولكن شمس الإيمان تشرق على أوضاعهم الداخلية والخارجية فتكشفهم من حيث لا يشعرون.

                           *****

ظاهرة النفاق: عللها وأسبابها:

{فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} في هذه الفقرة محاولة لتفسير ظاهرة النفاق وتعليل أسبابها، بكونها عقدةً تتحكّم في داخل الإنسان ومرضاً نفسياً أو روحياً يعاني منه؛ ذلك أنّ الإنسان إمّا أن يؤمن بالشيء وإمّا أن لا يؤمن به. وعلى كلتا الحالتين، فإنَّ الوضع الطبيعي الصحّي، هو أن يسير على ما يوحي به موقفه، فإذا كان مؤمناً، انطلقت سيرته في خطّ إيمانه، وتحرّكت حياته في هذا الاتجاه. أمّا إذا كان كافراً، فإنَّ الكفر يفرض عليه أن يحدّد لحياته الخطوط التي لا تلتقي بالإيمان من قريب أو من بعيد، سواء في ذلك مشاعره الداخلية أو خطواته العملية، لكن أن يرفض الإنسان الإيمان ويعمل عمل المؤمن، فهذا موقف غير طبيعي في حياته، لأنَّ الموقف الطبيعي هو أن ينبع عمله من إيمانه وتفكيره.

وقد لا نحتاج إلى الكثير من الجهد لنعرف أنَّ أيّة حالة غير طبيعية تعتبر ظاهرة مرضية في حياة الإنسان، سواء أكانت موجودة في جسده، أم في روحه، أم في تفكيره. ولهذا اعتبر الله النفاق مرضاً ينطلق من عقدة نفسية، تحمل في داخلها طبيعة الشخصية المزدوجة التي تتمثّل في الداخل بصورة وحركة تختلفان عن الصورة والحركة الموجودتين في الخارج.

وقد لا تكون هذه العقدة، أو هذا المرض، من الأشياء الأصيلة في ذات الإنسان، بل قد ينشأ ذلك من حالة الخوف من مواجهة المجتمع بما يخالف تفكيره وأوضاعه. وقد تنشأ من حالة الطمع الذي يمنع الإنسان من الوقوف في المواقع الحاسمة التي لا تنسجم مع مصادر الطمع وموارده. وقد تنشأ من حالة نفسية قلقة يعيش الإنسان معها طبيعة الحَيْرة والتردُّد في كلّ موقف من مواقف الحياة، وقد يتبيَّن لنا ممّا يأتي من الآيات القرآنية، ما يوحي بطبيعة "العقدة النفاقية" في ما يعيشه المنافقون في واقع الإسلام منذ بدايات عهد الدعوة الإسلامية حتى اليوم.

النفاق في سياق قانون السببيّة:

{فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً} قد يتساءل المرء عن هذه الزيادة التي ينسبها الله إلى نفسه، فهل أراد الله لهذا المرض أن يزيد بشكلٍ مباشر؟ وكيف تتعلّق إرادة الله بتعاظم النفاق في داخل هؤلاء المنافقين، في الوقت الذي يلعن فيه الله النفاق والمنافقين؟ وقد يكون الجواب في هذا المجال، أنَّ هذا التعبير ينسجم مع التعابير القرآنية الكثيرة التي ينسب فيها الفعل إلى الله، باعتبار أنَّ القوانين الطبيعية التي تقتضيها طبيعة الأشياء، في ما أودعه فيها من علاقة السببيّة، تستتبع هذا الفعل، وتقتضيه، ممّا يبرز نسبته إلى الله باعتباره مسبِّب الأسباب، ومكوِّن القوانين التي تحكم الأشياء، من دون أن ينافي ذلك نسبته إلى الإنسان، باعتباره الأداة المحرّكة للفعل بشكلٍ مباشر، من خلال الإرادة المنطلقة من حركة العقل والفكر. وعلى ضوء هذا نفهم الآيات؛ فإنّ هذه العقدة انطلقت في حياة المنافقين على أساسٍ لا يبتعد عن حالة الإرادة والاختيار، واستمرّت معهم بدون علاج، بل كان الأمر بالعكس؛ زيادةً في ممارسة النفاق، وإمعاناً في تأكيد طبيعته في الداخل والخارج، ما أوجب تعقيداً في المرض، واتّساعاً لدوائره، تماماً كالمريض الذي يهمل مرضه، فلا يعالجه، بل يبقى ـــ زيادة على ذلك ـــ في تعامل مستمرّ مع أسبابه، ما يوجب تطوّره إلى الأسوأ، من خلال السنن الطبيعية التي أودعها الله في الكون، في مسائل الصحّة والمرض، سواء أكانت جسدية أم روحية.

{وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} فهم يتحمّلون المسؤولية الكاملة عن هذا الوضع الذي يعيشونه ويمارسون فيه الكذب كلمةً، وموقفاً، وعملاً، عن عمد وسبق إصرار. ومهما كانت الظاهرة مرضية، فإنّها لا تبرّر ما يؤدّونه من أعمال، لأنّ المرض اختياري في بداياته، وقد كانوا قادرين على أن لا يقعوا في نهاياته، لأنّهم يستطيعون أن يتخلّصوا منه إذا شاؤوا.

المنافقون والإفساد عن طريق التظاهر بالإصلاح:

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ}. قد توحي هذه الآية الكريمة بأنَّ المنافقين كانوا يقومون ببعض الأعمال، أو يطرحون بعض الشعارات، في داخل الحياة الإسلامية، ممّا كان يسيء إلى خطّ الإيمان، ويفسح في المجال لحركة فسادٍ في العقيدة والسلوك والعلاقات، وقد يتمثّل ذلك بعمل المعاصي، وصدّ الناس عن الإيمان بالأساليب الملتوية ـــ على ما روي عن ابن عباس ـــ أو بممالأة الكفّار، فإنَّ فيه توهين الإسلام، على ما قاله أبو علي، أو بتغيير الملّة وتحريف الكتاب على ما قاله الضحّاك(1). وقد يتمثّل في غير ذلك ممّا ذكره المفسّرون. والظاهر أنَّ مثل هذه التفسيرات لم تنطلق من نص ديني مأثور عن النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، ولكنّها ارتكزت على ملاحقة بعض الآيات التي تتحدّث عن المنافقين في سلوكهم العملي تجاه النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، ممّا لا يبرّر لنا حصره في نطاق خاص، لأنّه لا يحاول حصر هذه الحالات به، بل يحاول عرض بعض ملامحها المتعلّقة بالأفكار الإسلامية العامة.

وعلى ضوء ذلك، يمكن لهذه الآية أن تتحرّك في كلّ مجال من مجالات حركة النفاق في داخل المجتمع، ممّا قد يوحي ظاهره بالصلاح، ولكنّه يحمل الفساد في أهدافه ووسائله ودوافعه. ولعلّنا نواجه مثل هذه الحالات في سلوك الكثيرين من حملة الأفكار التي تتحرّك في اتجاه إثارة الفوضى والدمار في المجتمع باسم الإصلاح الذي يستهدف تغيير الواقع من خلال نسف جذوره، كما نواجه ذلك في كلمات البعض ممّن يفسحون المجال في المجتمع للدعوات والأعمال التي يطلقها أصحاب الهوى والفجور والانحلال، حيث يحاولون تبرير ذلك بأنّه ثورة على الجمود، وتحرير للإرادة الإنسانية من عوالم الكبت الداخلي، وتحطيم للعقد النفسية المَرَضيّة التي تؤدّي إلى ما يشبه الشلل في حركة الفرد والمجتمع، كما نلاحظ ذلك في الدعوات التي تبرّر الأزياء الفاضحة أو العري المنحلّ، بأنّه يمنح الإنسان صحّة نفسية يتعافى بها من كلّ العقد الداخلية.

ومن الطريف أن نجد في بعض التحليلات النفسية لحركة التحرّر في الأزياء التي تعمل على تقصير الثياب إلى أبعد مدى، أنّ القضية قضية تحطيم للحواجز النفسية الداخلية للمرأة إزاء حركة الحياة في تفكيرها وسلوكها، وليست مجرّد تقصير للثياب، فكلّما استطعنا تمزيق أي نوع من الحجاب، أو أي مقدار من الثياب، استطعنا أن نمزّق حاجزاً نفسياً، وحاجباً روحياً للمرأة، ما يجعل من قضية الانحلال الداخلي قضية ترتبط بقضايا الحرية في العالم، من دون مراعاة للأُسس الروحية والأخلاقية والاجتماعية التي ترتكز عليها هذه القِيَم التي يدعو إليها الدِّين ويرعاها في مفاهيمه وشريعته. وعلى هذا الأساس، نقف مع الآية وقفة استيحاء، فقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ}، أي إذا نهوا عن الفساد البيّن، فهم يحاولون فلسفته وإعطاءه الصفات التي تجعله واجهة من واجهات الإصلاح، ويمنحون أنفسهم، من خلال ذلك، صفة المصلحين الذين يريدون أن يغيِّروا القِيَم التقليدية في العالَم.

وتحاول الآية الكريمة أن تعطينا ـــ من خلال أسلوبها ـــ انطباعاً، بأنّهم غير مقتنعين بما يطرحونه، ولكنّهم يريدون تنفيذ مآربهم، وبهذا لا تمثّل القضية موقفاً حقيقياً لهم، لأنّهم لا يتعاملون مع المواقف الحقيقية الحاسمة في الحياة، بل تمثّل محاولةً للفّ والدوران في سبيل تحطيم الركائز الأساسية للمجتمع، كسبيل من سبل تحطيم الرسالة الشاملة التي تنطلق من هذه الركائز.

ويأتي القرآن لحسم الموقف على أساس كشف الواقع الفكري لهؤلاء، وقيمته في حساب الإصلاح، {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ} في ما تفرزه أعمالهم وشعاراتهم من آثار سلبية في حياة الأفراد والمجتمعات، {وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ} لأنّهم لا يعيشون الأجواء النظيفة التي ترتبط بالقِيَم، ولذلك، لا يشعرون بالنتائج السيّئة المرتبطة بأعمالهم، على أساس المقاييس الواقعية للأشياء، بل يظلّون في ارتباطٍ مجنونٍ بالأطماع والشهوات، ما يجعل الموازين تتحرّك في اتجاه القِيَم الشرّيرة في تقييم الواقع وتحليله.

                           *****

المنافقون والشعور بالاستعلاء:

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء} هذه إحدى الملامح البارزة للمنافقين، وهي مواجهة الرأي العام بمشاعر الكبرياء والعظمة التي تدفعهم إلى احتقار الناس في مستوى تفكيرهم وطبيعة إيمانهم وطريقة حياتهم، لأنّهم يجدون في أنفسهم المستوى الفكري والعقلي الذي يرفعهم عن مستوى الآخرين، ولا سيّما إذا كانوا مزوّدين بالثقافة التي تتيح لهم أن يجادلوا ويناقشوا، ويحرّكوا ألسنتهم بتحليل الأمور وتفسيرها ومحاكمتها، على أساس المصطلحات العلمية التي تعطي لكلماتهم مدلولاً علمياً، كما نرى ذلك في بعض المتعلّمين الذين لا يناقشون القضايا العامة التي يتبنّاها الناس من خلال طبيعتها الأساسية، بل من خلال طبيعة المستوى الذي يمثّله هؤلاء الناس المرتبطون بالفكرة أو بالعقيدة. فإذا حاولت أن تربطهم بالحقائق الدينية أو الكونية التي تربطهم بالله وتقودهم إلى الإيمان، قالوا لك: إنَّ هذا كلام غير علمي، وإنَّ هذه الأفكار التي تطرحها علينا هي أفكار العامة من الناس الذين يعيشون سذاجة الفكر والعقيدة، وليست أفكار المتعلّمين الذين يحملون شهادات العلم والفلسفة.

ولعلّ هذا هو الذي كان يسيطر على أجواء المنافقين الذين كانوا يُدْعَون إلى الإيمان الخالص الذي ينطلق من الفطرة بعفوية وبساطة، باعتبار أنّ طبيعة الأُسس التي يرتكز عليها لا تستند إلى فكر معقَّد، بل إلى الوجدان الذي يتحرّك في إطار الفكرة بهدوء وصفاء. فكانوا يجيبون: إنّنا لا نؤمن بمثل هذا الإيمان البسيط، لأنّه إيمان السفهاء الذين لا يعرفون طبيعة الأسس التي يستندون إليها في حركة الحياة. وقد توحي الآية الكريمة بأنّهم كانوا يركّزون على نوعية الإيمان لا على أصله، لأنَّ المفروض ـــ في أجواء هذه الآيات ـــ قبولهم بمبدأ الإيمان ظاهراً، ولكنّ الله، سبحانه، يكشف طبيعة هذا التعاظم الأجوف والكبرياء الكاذب، ويؤكّد، من خلال أوضاعهم ومنطلقاتهم وحركاتهم، أنّهم يرمون الناس بصفةٍ هي أقرب إلى واقعهم الفكري والعملي من واقع الناس الآخرين.

                           *****

المنافقون هم السفهاء:

{أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَـكِن لاَّ يَعْلَمُونَ} لأنَّ السفيه يعبّر ـــ في مفهومه ـــ عن ضعيف الرأي، الجاهل، القليل المعرفة بمواضع المنافع والمضارّ، والذي يتحوّل إلى إنسان ضائع متخبّط لا يملك إدارة شؤونه بنفسه من خلال فقدانه وضوح الرؤية للأشياء، ما يبعده عن الاستقامة في عالم التطبيق العملي. وفي مقابله الرشيد الذي يملك وعي المعرفة للأشياء على مستوى التصوّر، وعلى صعيد الواقع، بحيث يملك إدارة حركة النظرية في الوجدان، وحركة التطبيق في الواقع، الأمر الذي يؤدّي إلى التوازن في مواجهة القضايا، والاستفادة من كلّ الفرص النافعة الموجودة لديه.

وهذا ما يؤكّده التزامهم الداخلي بالكفر الذي يجسّد الضعف الفكري والجهل بالأسس المتينة التي ترتكز عليها عقيدة الإيمان، وحركتهم العملية التي تؤدّي بهم إلى الهلاك في الدنيا والآخرة، ولا سيّما في هذا الموقف المتأرجح الذي يعيش معه الإنسان في عذاب داخليّ مستمرّ من خلال خوفه من انكشاف موقفه الداخلي الذي يغطّيه بنفاقه العملي. فــ {هُمُ السُّفَهَاء} في أفكارهم وأفعالهم، {وَلَـكِن لاَّ يَعْلَمُونَ}، لأنّهم لا ينفتحون على الآفاق الرحبة للمعرفة ليصلوا إلى النتائج الحقيقية للأمور، وليعرفوا أنَّ قيمة العلم في التقائه بالحقيقة تكمن في ارتكاز نتائجه على الفكرة السليمة، والوجدان السليم، في نهاية المطاف، لأنَّ أيّة نتيجة برهانية لا ترجع إلى أساس وجداني، لا تمثّل أيّة قيمة حقيقية في مجال المعرفة. وبهذا كان الإيمان الفطري يمثّل العقيدة الصافية المنطلقة من أساس صحيح ثابت، أكثر من الإيمان الذي لا يلتقي بالفطرة إلاَّ من بعيد، ما يجعلنا نحترم إيمان الفطرتين من حيث ما يمثّل الإيمان من صفاء ونقاء، وإن لم يعرفوا طريق الجدال والنقاش العلمي.

                           *****

بين الإفساد والسّفه:

قد يواجهنا سؤال في هذه الآية، وفي الآية السابقة عليها، وهي قوله تعالى: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ}.

لماذا قيل هناك: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ} فنفى عنهم الشعور بصفة الإفساد، وقيل هنا: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ}، فنفى عنهم العلم بالسفه، لماذا لم يستعمل العكس، أو يوحدّ بين الآيتين في طبيعة الكلمة؟ والجواب: لعلّ الفرق بينهما أنّ قضية اكتشاف الفساد ليست قضية فكرية، بل هي من القضايا التي تواجه الإحساس والشعور عندما تفرض نفسها في الحياة تماماً كالألم واللّذة في مواجهة مصادر الألم واللّذة، لأنّ الفساد يمثّل اختلال مسيرة الحياة العملية في أوضاعها العامة والخاصة، فلا يحتاج اكتشافه إلاَّ إلى الوعي الشعوري بالموضوع، أمّا الذين تبلّدت أحاسيسهم، وغرقوا في أجواء الفساد، فإنّهم لا يشعرون بذلك، تماماً كما هو الإنسان الذي لا يعيش الإحساس بالألم عندما تتجمّد مواطن الحسّ في جسده.

أمّا قضية السفه، فهي من القضايا المرتبطة بوعينا الفكري بطبيعة المصلحة والمفسدة في ما نواجه من قضايا أو نمارس من معاملات أو علاقات. فلا بدّ لاكتشافها من المعرفة للآفاق العلمية التي تتحرّك فيها حياة الناس في موازينها المستقيمة. أمّا الذين يجهلون طبيعة التوازن في ذلك، فإنّهم يجهلون ـــ بطبيعة الحال ـــ موقعهم من ذلك كلّه.

المنافقون والتظاهر بالتديُّن:

{وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} إنّهم يظهرون الإيمان ويعملون عمل المؤمنين في صلاتهم وصومهم وغير ذلك، ليحصلوا على الثقة الاجتماعية التي ينفذون من خلالها إلى أهدافهم، ثمّ يذهبون إلى جماعاتهم الشيطانية، في الخلوات التي يعقدونها، ليؤكّدوا لهم مواقفهم الأساسية الثابتة، وليبعدوا عن أنفسهم الشكوك التي قد تحدث من جرّاء سلوكهم مع المؤمنين، وليبرّروا سلوكهم ذلك بأنّه كان استهزاءً بالمؤمنين، واستغلالاً لبساطتهم وسذاجتهم، التي تجعلهم يتقبّلون ظواهر الأمور من دون أن ينفذوا إلى بواطنها، ما يسهّل نجاح كلّ الحيل التي يدبّرها لهم أعداؤهم.

وربّما يقال: إنَّ خطابهم للذين آمنوا بالجملة الفعلية {آمَنَّا} لإعلان المبدأ في دائرة الحدوث، بينما كان خطابهم لشياطينهم بالجملة الاسميّة {إِنَّا مَعَكْمْ} لإفادتها الثبات والاستمرار، لتأكيد البقاء في الخطّ الفكري والعملي المتمثّل في دينهم في داخل مجتمعهم الكافر.

وقد روي عن ابن عباس، أنَّ المراد بشياطينهم رؤساؤهم من الكفّار وقيل: هم اليهود الذين أمروهم بالتكذيب، وروي عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) أنّهم كهّانهم(1).

وقد نجد أمثال هذه النماذج في الكثيرين من الأشخاص الذين ينطلقون مع التيّارات السياسية وغير السياسية في عملية ارتباط وانتماء، ولكنّهم ـــ في الوقت نفسه ـــ يمثّلون أدوار الإيمان عندما يلتقون بالمؤمنين البسطاء ليخدعوهم، ولينفذوا إلى حياتهم العامة والخاصة، من أجل تحقيق الأهداف الشرّيرة التي لا تلتقي بمصلحة الإيمان والمؤمنين من قريب أو من بعيد. فإذا ذهبوا إلى مجالسهم الخاصة، أطلقوا الضحكات الفاجرة، وأظهروا السخرية والاستهزاء بالمؤمنين، وبعباداتهم، وبأقوالهم، بمختلف الأساليب التي تثير الاستهزاء والاشمئزاز.

وهكذا يقدّم لنا القرآن هذه النماذج الحيّة، التي كانت تعيش في العصور الأولى للإسلام، ليبعث فينا روح الوعي للمجتمعات التي نعايشها، وليفتح أعيننا على هذه النماذج في حركة المجتمع، لئلا ننطلق في التعامل مع الآخرين بسذاجة، بل نحاول اعتماد أسلوب الحذر، الذي لا يحكم على الناس بغير علم، ولكنّه لا يستسلم إليهم بدون أساس للثقة والاطمئنان، من دون فرق في ذلك بين أساليب التعامل والقيادة والدخول في قلب المجتمع. فلا بدّ لنا، في ذلك كلّه، من محاولة فهم خلفيات هؤلاء الأشخاص الذين يحتلّون مركزاً مميّزاً في التعامل والقيادة والدخول في خصوصيات حياتنا الاجتماعية، واكتشاف منطلقاتهم الفكرية والسياسية.

إنّنا لا نريد أن نتحوّل إلى أشخاص معقّدين ضدّ الأفراد الذين نعيش معهم، ولكنّنا نريد أن نجعل من أنفسنا الأُمّة الواعية التي تفهم الواقع فهماً جيّداً لنحدّد موقفنا على أساس ذلك، ما يجعلنا لا ندخل في طريق إلاّ بعد أن نكتشف بداياته ونهاياته، ولا نعطي قيادنا لأحد، ولا نمنحه أسرارنا ـــ إذا كان لنا أسرار ـــ إلاّ بعد أن نحصل من سلوكه الداخلي على ما يبرّر هذه الثقة العملية، لتظلَّ أوضاعنا منطلقة من قاعدة صلبة لا مجال فيها للانحراف والاستغلال والاهتزاز.

                           *****

الله يستهزئ بهم:

{اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} فيخيّل لهم أنَّ حيلتهم قد انطلت على المؤمنين، وأنّ شخصيّتهم المزدوجة لم تنكشف لهم. {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} فلا يعاجلهم بالعذاب ما يشعرهم بالامتداد الآمن، ويعيشون مطمئنين في ما يخطّطون ويدبّرون، ويبقون على هذا التردّد والتخبّط بين الشخصية الداخلية والشخصية الخارجية، الأمر الذي يوحي بالضحك والاستهزاء. وأيّ موقف أدعى للهزء والسخرية من موقف المنافق الذي يتحرّك في المجتمع كحركة الفأر المذعور الذي يخاف من أيّة حركة يسمعها، أو أي شيء يشاهده، حذراً من الخطر؟! والمنافق حاله حال هذا الفأر، حيث يخاف من انكشاف حقيقة موقفه للآخرين، فيقف موقف الخائف من نتائجه ومترتِّباته.

وربّما يطرح سؤال: إنّ الآية نسبت الاستهزاء إلى الله، وهو من المعاني التي لا تتناسب مع عظمته تعالى، لأنَّ الاستهزاء يمثّل لوناً من ألوان الخداع، لأنّك تظهر في حديثك بمظهر الجدّ، ثمّ تعطيه بعض اللّمحات والإشارات التي توحي بالسخرية؟

والجواب: إنَّ التعبير يتّجه اتجاه المحاكاة لتعبير الآخرين من دون أن يكون حاملاً لمعناه، كما في قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة : 194]، فإنّ ردّ الاعتداء بمثله لا يعتبر عدواناً على المعتدي، لأنَّ مفهوم العدوان يعني الممارسة التي لا تملك فيها جانب الحقّ. ولكنّ المشكلة في التعبير للإيحاء بأنَّ هذا الفعل من نوع ذلك الفعل، من حيث طبيعته العنيفة وإيلامه للنفس. وربّما كانت القضية في كلمة الاستهزاء كذلك، باعتبار ما تمثّله كلمة الاستهزاء من الاحتقار وعدم المبالاة، فكأنَّ الله يستهزئ بهم في ما يظهر لهم من الإمداد بطغيانهم، كالذي يتكلّم مع الشخص بأسلوب الاحترام وهو يقصد السخرية.

وقد يكون المراد من استهزاء الله بهم، مجازاته لهم على استهزائهم، على هدى قوله تعالى: {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى : 40]، ويحتمل أن يكون معناها، تخطئته إيّاهم، وتجهيله لهم في إقامتهم على الكفر وإصرارهم على الضلال، ويمكن أن يكون المراد منه استدراجهم وإهلاكهم من حيث لا يعلمون، كما جاء في معنى الاستدراج أنّهم كلّما أحدثوا خطيئة جدَّد الله لهم نعمة، وهكذا تتنوَّع الاحتمالات لتلتقي عند الواقع العملي الذي يجريه الله عليهم.

وقد يلفت نظرنا نسبة الإمداد بالطغيان لله عزّ وجلّ، ولكن لهذا التعبير جانبين في مظهرين: سلبي وإيجابي، فقد يتمثّل الإمداد بالطغيان في تشجيع الشخص على الإمعان فيه بالأساليب التي ترغّبه فيه وتدفعه إليه بطريقةٍ إيجابية، وقد يتمثّل في الامتناع عن ممارسة الضغوط القوية ضدّه من أجل منعه من العمل وشلّ قدرته على المضيّ فيه. ولعلّ هذا هو المقصود بالآية، فقد كان الله قادراً على أن يعطّل قدرتهم على الامتداد بالموت أو بغيره من وسائل التعطيل، ولكنّه لم يفعل ذلك، بل تركهم وأنفسهم ليمارسوا عملية المواجهة للواقع من موقع الحريّة والاختيار، فكان من نتائج ذلك، أنّهم امتدّوا في طغيانهم من خلال الوسائل الموجودة لديهم، وهذا لا يتنافى مع إيماننا بحريّة الإنسان في كفره وإيمانه وضلاله وهداه.

                            *****

4 ـــ نموذج منافق:

{وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ*الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران: 167 ـــ 168].  

                           *****

معاني المفردات:

{ادْفَعُواْ}: ساهموا في الدفاع عن أنفسكم وأعراضكم وأموالكم ووطنكم، فيكون المعنى: إذا لم تقاتلوا في سبيل الله، فادفعوا العدوّ عن أنفسكم وأموالكم، وقيل: قاتلوا دفاعاً عن الحقّ والدِّين لا للحمية والغنيمة.

وقيل: كثّروا فإنّكم إذا كثرتم دفعتم القوم بكثرتكم.

{فَادْرَؤُوا}: أي: ادفعوا وامنعوا.

                           *****

هذا نموذج من النماذج التي كانت تتحرّك في المجتمع الإسلامي لتثير فيه الفتنة والخوف والتردّد، وتشوّه له وجه الصورة الحقيقيّة للأشياء، وتعطّل كثيراً من طاقاته وخطواته العمليّة السائرة نحو الهدف. وقد جاء القرآن ليكشف لنا عن هؤلاء في ما يذكره لنا من كلماتهم ومواقفهم، لنتعرّف من ذلك على ملامحهم، لنرصد تحرّكاتهم في ما نعيش الآن من حركة الحاضر، وما نريد أن نعايشه من أوضاع المستقبل، لأنَّ أسلوب القرآن من خلال ما يقدّمه إلينا من نماذج، يثير أمامنا التجربة في الماضي، لنتعلَّم من وحيها كيف نتجاوز سلبيّاتها ونحتوي إيجابياتها في ما نستقبل من تجارب الحياة المماثلة.

لقد عاش هؤلاء المنافقون مع المسلمين كمسلمين من حيث الجانب الشكلي للإسلام، فقد أظهروا الإيمان، في ما أظهروه من كلماته، ولكنّهم أبطنوا الكفر، وكانت خطّتهم أن يفسدوا على المسلمين إسلامهم وحياتهم، ليفجّروا الإسلام من الداخل عندما تدبّ في داخله عوامل التفجير المتنوّعة. أمّا في ما يتعلّق بسلوكهم وما يواجهونه من تحدِّيات المسؤولية التي تمتحن إيمان الإنسان من خلال الالتزام وعدمه، فقد كانوا يتهرّبون من ذلك بإثارة التبريرات والأعذار التي يبرّرون بها قعودهم وتراجعهم، ويعملون على إغراء الآخرين بالسير على طريقهم في ذلك. وهذا ما حدث لهم عندما كان النبيّ يدعو المسلمين إلى الخروج إلى المعركة في أحد، فقد حاولوا الإيحاء باهتمامهم بالجهاد في سبيل الله في كلّ موقفٍ من المواقف التي تتحرّك فيها المعركة للقتال، فإذا حصلت لهم القناعة بذلك، فإنّهم يبادرون إلى القتال في الصفوف الأولى للمعركة. وبهذا واجهوا الدعوة إلى الخروج للقتال في سبيل الله والدفاع عن المؤمنين، فقد قالوا: إنَّهم يعتقدون بأنَّ الموقف ليس موقف قتال، ولذلك فلا يشعرون بأيّة ضرورة للخروج، ولو اعتقدوا ذلك لخرجوا. وقد أرادوا من هذا الأسلوب أن يحقِّقوا نقطتين: إحداهما: تبرير قعودهم عن الخروج، والأخرى: الإيحاء للمسلمين باتخاذ الموقف نفسه، بتبريد الحماس الإيماني الذي يجيش في نفوسهم ويدفعهم إلى السير نحو المعركة.

ولكنَّ الله يحدّثنا عن طبيعة الموقف، ليكشف زيف الواقع الذي ينطوون عليه، فهم للكفر أقرب منهم للإيمان، لأنَّ الإيمان ليس كلمة تمثِّل معنى التقوى والإيمان، بل هو موقف للتقوى يدفع الإنسان إلى أن يقف عند حدود الله، فيتحرّك حيث يريد منه أن يتحرّك، ويتوقّف حيث يريده أن يتوقّف. ولعلّ من أوضح مواقف التقوى أن يطبع الله ورسوله في ما يتوجّه إليه من أوامر ونواهٍ، فلا معنى للإيمان والتّقوى إذا كان الإنسان يتهرّب من الاستجابة لله ورسوله في دعوة الجهاد، ويبرّر ذلك بما يعلم الله أنّه غير صادق فيه، في ما يعلمه الله من داخله. وذلك هو معنى الكفر كموقف، فإنَّ المظهر العملي للكفر هو الانحراف عن طاعة الله. ولهذا وردت كثير من الآيات التي تعتبر الانحراف العملي كفراً، لأنّه يلتقي مع الكفر في مظاهره. وربّما كان من هذه الآيات قوله تعالى: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران : 97]، حيث اعتبر عدم القيام بالحجّ كفراً، ويؤكّد هذا التفسير للآية الحديث الوارد عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام): "من مات ولم يحجّ حجّة الإسلام، ولم يمنعه من ذلك حاجة تجحف به، أو مرض لا يطيق الحجّ من أجله، أو سلطان يمنعه، فليمت إنْ شاء يهودياً أو نصرانياً"(1).

                           *****

 

 

تعرية الواقع المنافق:

{وَلِيَعْلَمَ} الله {الَّذِينَ نَافَقُوا} وأبطنوا الكفر وأظهروا الإيمان فكانوا جزءاً من المجتمع الإسلامي، فهم يتحرّكون في داخله كأنّهم جماعة إسلامية مؤمنة في اهتماماتها بالواقع الإسلامي، وفي حديثها المتنوّع عن إيجابيات حركة المسلمين وسلبياتها، في الحرب والسلم، كما لو كانت المسألة لديهم مسألة الغيرة على الإسلام والمسلمين، وربّما كان حديثهم حول المصلحة الإسلامية أكثر حماساً وانفعالاً من المسلمين الآخرين، للتدليل على إخلاصهم، فيخدعون البسطاء الطيّبين من المسلمين عندما يمنحونهم الثقة، فيستمعون إليهم، ويأخذون بآرائهم وأفكارهم، فيؤدّي ذلك إلى اهتزاز المجتمع الإسلامي بفعل خططهم الخبيثة التي تختفي وراءها أحقادهم الثقافية، فيخيّل للمؤمنين أنّها صادرة عن غيرة على الإسلام وإخلاص للمسلمين.

فكانت هذه الآية من أجل تعرية الواقع الذي يختزنونه في داخلهم، وفضح مخطّطاتهم في أساليبهم الخادعة من أجل أن يظهروا على حقيقتهم، فيعلم الناس من أمرهم ما كانوا يخفونه، وبذلك تسقط كلّ خططهم في الإضرار بالمسلمين. أمّا نسبة العلم إلى  الله بصفات المخلوقين، باعتبار أنّ للمعرفة وسائلها الواقعية التي إذا توفّرت أعطت الصورة الحقيقية للأشياء، كهؤلاء المنافقين الذين انفتح المسلمون عليهم في حركة المعركة، {وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ} كما يُقاتل المسلمون من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا، ويكون الدِّين كلّه لله فتكون الغلبة للمسلمين على الكافرين من خلال حشد كلّ القوى المسلمة المقاتلة في ساحة الحرب، ليحقِّقوا التوازن في موازين القوى في المعركة. {أَوِ ادْفَعُوا} العدوّ عن ساحة المسلمين بحشد القوّة التي ترهبه وتخفيه وتهزم روحه المعنوية وتكسر شوكته، فإنَّ الهدف الأساس في ساحة التحدّيات هي هزيمة العدوّ نفسياً أو عسكرياً، كوسيلة من وسائل إضعافه وإسقاط معنوياته، لتنطلق المسيرة بقوّةٍ بعيداً عن مواقع الخطر. وهذا هو الذي توحي به كلمة {ادْفَعُوا} التي تتضمّن معنى الدفع النفسي والعملي بالوسائل المتنوّعة التي قد تتفادى القتال لتحقّق النتائج بدونه.

وقد جاء في تفسير الكشّاف، عن سهل بن سعد، الساعدي ـــ وقد كفّ بصره ـــ أنّه قال: "لو أمكنني لبعت داري ولحقت بثغر من ثغور المسلمين، فكنت بينهم وبين عدوّهم، قيل: وكيف قد ذهب بصرك؟ قال: لقوله: {أَوِ ادْفَعُوا} أراد كثروا سوادهم"(1).

وهكذا نرى أنَّ هذا الصحابي الجليل قد فهم آفاق الآية بطريقةٍ واقعية على أساس تنوّع الوسائل في الصراع، ليكون من بينها ـــ بالإضافة إلى القتال ـــ حشد القوّة الجماهيرية العددية للمسلمين أمام العدوّ، ليشعر بثقل القوّة في ميدان المواجهة، فيمنعه ذلك من الهجوم أو يدفعه إلى التقهقر. وهذا ما يمكن لنا استيحاؤه في إطلاق شعارات الوحدة بين المسلمين أمام التحدِّيات الكبرى للكفر والاستكبار، لتكون مظهر صلابة وقوّة في الساحة.

{قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ} وهذا هو المنطق التبريري الذي يحاول أن يجد عذراً ـــ في موقع العذر ـــ فهم يتحدّثون عن تصوّرهم بأنَّ المعركة سوف تنتهي سلميّاً بالطريقة الحاسمة التي لا تنفتح على قتال، ما لا يجعل هناك حاجة لوجودنا معكم، فليست القضية قضية انفصال عن مسؤولية المسيرة الإسلامية، بل هي قضية فقدان الضرورة الواقعية لكثرة المقاتلين، فلا يكون البُعد عن المعركة خطيئة أو مشكلة سلبية. وربَّما فسَّر البعض كلام المنافقين أنَّهم قالوا: لو أنّنا كنّا نعتبر أنّ المسألة مسألة قتال بينكم وبين العدوّ بحيث يمكن لكن أن تحقِّقوا النصر عليه، مع احتمال أن يحقّق النصر عليكم لاتبعناكم، ولكنّنا في دراساتنا للواقع نجد أنَّ حركتكم حركة انتحارية، لأنَّ موازين القوى وشروط المعركة لم تتوفّر لديكم، بل كنتم كمن يلقي نفسه إلى التهلكة، فليست المسألة عقلائية يتحرّك بها منطق العقل، فإنَّ المسلمين قد وقفوا في موقع غير مناسب لحركة المعركة ونقطةٍ غير ملائمة.

ومهما كان المعنى، فقد كان موقفهم موقف الاعتذار والتعلُّل بالأعذار الواهية التي تبرّر تخلّفهم حتى لا ينكشف أمرهم في نفاقهم الداخلي، فلم تكن المسألة كما تصوّروها أو شرحوها، بل كانت حرباً حقيقيّة انتصر المسلمون في بداياتها من خلال أخذهم بأسباب النصر، ما يوحي بأنَّ توازن القوى كان لمصلحة المسلمين، فلم ينهزموا من قلّة عدد أو من عدم توازن الموقف والموقع، بل كانت هزيمتهم من مخالفتهم للخطّة الموضوعة، واندفاعهم في الطمع الدنيوي الذي دفعهم إلى التخلّي عن مراكزهم الحيوية. {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ} إذ ظهرت حقيقتهم في ارتباطهم بواقع الكفر، وذلك من خلال موقفهم وكلامهم التبريري الذي يفصح عن عقيدتهم المنحرفة، لأنّه لا ينطلق من حُجّة مقبولة وواقع معقول، فكانوا ـــ مع الكافرين ـــ في الموقع والموقف، بينما كانوا ـــ في الماضي ـــ أقرب إلى المؤمنين في مواقف الإيمان التي كانوا يتظاهرون بها خداعاً ونفاقاً، {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} فهم يتكلّمون كلام المؤمنين، ويعتقدون عقيدة الكافرين، فلا يتجاوز إيممانهم مخارج الحروف في أفواههم، فليس للقلوب حُصّة منه، وذلك هو شأن المنافقين الذين يظهرون غير ما يبطنون، أمّا المؤمنون فهم الذين تلتقي الكلمة عندهم في اللّسان بالإيمان في الجنان، والقرآن في ذلك يؤكّد هويّتهم الحقيقية. فليست القضية لديهم قضية الانحراف العملي، بل هي الانحراف في العقيدة، لأنّ كلمات الإيمان وأساليب التبرير التي يبرّرون بها مواقفهم لا تمثّل الواقع الداخلي عندهم، فهي مجرّد كلمات لا تعبّر عمّا في النفس من قريب ولا من بعيد، فإنَّ الله يعلم ما يكتمون في قلوبهم من كفر ونفاق. {وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ} لأنّه المطّلع على أسرار خلقه، فلا يخفى عليه شيء ممّا يبطن هؤلاء المنافقون في قلوبهم ويكتمونه عن الناس.

ويتابع هؤلاء المنافقون عملية الإيحاء بالأفكار السلبيّة التي تملأ نفوس المؤمنين حسرةً وألماً وتُبعدهم عن خطّ الإيمان في تصوّراتهم الحياتية، ويصوّر لنا القرآن هذه العملية: {الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ} الذين قتلوا في المعركة {وَقَعَدُواْ} فلم يخرجوا معهم ليقاتلوا المشركين {لَوْ أَطَاعُونَا} في البقاء في بيوتهم والقعود عن القتال وهو ما أمرناهم به {مَا قُتِلُوا} فهم قد عرَّضوا أنفسهم للقتل، أمّا نحن فقد استطعنا أن نحفظ حياتنا بقعودنا عن الخروج، وذلك بحصولنا على السلامة من الموت. {قُلْ} يا محمّد {فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ} أي فادفعوا {الْمَوْتَ} إذا كنتم تملكون أسباب الحياة والموت وتعرفون مصادر الموت وموارده، فإذا كانت مسألة الحياة هي القعود عن القتال والبقاء في البيوت، وكانت مسألة الموت هي الاندفاع إلى الحرب والمشاركة فيها، فهل تستطيعون الحصول على الخلود وأنتم باقون في بيوتكم أو بعيدون عن ساحة الحرب؟! فإنَّ قضية الموت والحياة ليست خاضعة للفرص التي يوفّرها الإنسان لنفسه أو يختارها في بعض مجالاته، بل هي بيد الله {فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف : 34]؛ {قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} [آل عمران : 154]؛ وهكذا أراد الله، من خلال هذا التحدّي للمفاهيم التي طرحوها في الساحة، أن يكشف كذبهم وزيف واقعهم، لأنّهم لا يستطيعون مواجهة هذا التحدّي في قليلٍ أو كثير.

{إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} فهل يُبعدكم البُعد عن ساحة الجهاد عن الموت في ما تستقبلونه من الزمان؟ إنَّ ذلك لن يعفيكم من القضاء المحتوم الذي يجري على سُنّة الله في الإنسان، فكلّ إنسان يموت بأجله، فلا يهرب من الحرب الجهادية ليسلم؛ فقد يلتقي بالموت وهو في راحةٍ ودعةٍ وأمان.

                           *****

5 ـــ النموذج المنافق في قبال النموذج الرسالي:

{وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ*وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ*وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ*وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة: 204 ـــ 207].

                           *****

 

 

معاني المفردات:

{أَلَدُّ}: شديد عنيد في خصومته وجدله.

{الْخِصَامِ}: المخاصمة.

{الْحَرْثَ}: إلقاء البذر في الأرض وتهيّؤها للزرع، ويطلق على نفس الزرع قائماً كان او حصيداً.

{وَالنَّسْلَ}: الأولاد.

{الْعِزَّةُ}: القوّة التي يمتنع بها عن الذلّة، وقيل في معنى {الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ} قولان: أحدهما: حملته العزّة والحميّة الجاهلية على فعل الإثم ودعته إليها، كما يُقال: أخذته بكذا أي ألزمته. والثاني: أخذته العزّة من أجل الإثم الذي في قلبه.

{الْمِهَادُ}: الوطاء من كلّ شيء. وكلّ شيء وطئته فقد مهّدته. والأرض مهاد لأجل توطئته للنوم والقيام.

{يَشْرِي}: يبيع، أخذ الثمن ودفع المثمن.

                           *****

في هذه الآيات صورة معبّرة عن نموذجين من الناس، لا يخلو منهما زمان ولا مكان أمام مواقف الحقّ والعدل والإيمان، فهناك النموذج المنافق الذي يحاول أن يستغلّ طيبة الناس وبساطتهم وصدقهم، حيث يوحي إليهم بأنّ الذي يعايشونه طيّب وصادق ونظيف، فيستسلمون لكلماته الحلوة، وأساليبه الناعمة، ومواثيقه المؤكّدة التي يحاول من خلالها أن يوحي للناس بأنّه يحمل في قلبه كلّ النوايا الخالصة والأفكار الخيّرة التي تبني للنّاس حياتهم وتوجّهها إلى الطريق الحقّ والسعادة الكبيرة: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} في دلالته على إخلاصه وأمانته وتخطيطه للعمل الصالح الذي يتّصل بحياة الناس في قضاياهم العامة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والروحية، {وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ} بالأيمان المغلظة والتأكيدات الحاسمة، ليخضع الناس له من باب قداسة الشهادة وعظمة الميثاق.

ويكمل القرآن الصورة من جانبها الآخر عندما ينفذ بنا إلى حياته الداخلية: {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ}، أي: شديد الجدال والعداوة للمسلمين وللحقّ. ذلك هو واقعه في منطلقاته الفكرية والروحية الذي لن يتعرّف الناس عليه إلاّ من خلال التجربة المرّة التي تظهر كلّ ما يحمله من المعاني السيّئة الشرّيرة التي تختبئ خلف قناع الوجه الذي يمثّل الصدق والوداعة، أو الكلمة التي تمثّل الحقّ والبراءة، ليتوصّل من خلال ذلك إلى ما يريده من جاهٍ ومال وشهوة، حتى إذا استقام له الأمر، وانفصل عن جوّ التمثيل، انطلق بعيداً عن كلّ ما كان يقوله ويؤكّده ويظهر به، ليتحرّك في الأجواء الحاقدة الطاغية الباغية التي يهلك فيها الحرث والنسل.

{وَإِذَا تَوَلَّى} ووصل إلى الموقع القيادي الذي يطمح إليه من أجل الحصول على النتائج المعنوية والمادية لحساباته الخاصة، واكتسب ثقة الناس به وتأييدهم له، فأصبح رمزاً دينياً أو سياسياً أو اجتماعياً يُشار إليه بالبنان، ويجري الناس من خلفه تابعين له، {سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} بما يثيره في المجتمع من المشاكل والمنازعات والوسائل المدمّرة التي تحطّم كلّ ما في الحياة من ثروة، ومن بشر. وينطلق في المجالات التي تفسد واقع الناس الأخلاقي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي، ويمتدّ في طغيانه بعيداً عن رضا الله ومحبّته.

وقد اختلف المفسّرون في كلمة {وَإِذَا تَوَلَّى} فقال بعضهم: إنّها الإعراض والإدبار في مقابل إقباله على الناس بكلامه المعسول، وقال بعضهم: إنّها الولاية، أي: إذا كان والياً فعل ما يفعله ولاة السوء من الفساد في الأرض بإهلاك الحرث والنسل، كما يقول صاحب الكشّاف(1). ولعلّه الأقرب، لأنّ تلك الصفات توحي بالسلطة الكبيرة التي تمكنه من ذلك، وتبرّر له الاستعلاء على الوعظ والنقد والأمر بالتقوى. والله العالِم بأسرار آياته.

{وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ} فإنّه سبحانه يريد للحياة أن تعيش في أجواء الخير والصلاح التي تنمّي خيراتها، وتطوّر مجتمعاتها، وترتفع فيها بالإنسان إلى الدرجات العلى في عقله وروحه وحركته. ولذلك أرسل رسله بالرسالات المتنوّعة التي تخطّط للحياة الإنسانية، لتسير في الاتجاه الصحيح الذي ينسجم مع عناصر الحياة المودعة في شخصية الإنسان، وفي حركة السنن الكونية في الحياة. وربّما كان هذا ما استوحى منه الإمام الصادق (عليه السلام) ـــ في ما روي عنه ـــ أنّ المراد بالحرث هنا الدِّين، وبالنسل الإنسان؛ باعتبار أنَّ الله زرع الدِّين في نظام الإنسان في الحياة، تماماً كما هو الزرع في نظام الأرض؛ الأمر الذي جعل من هذا النموذج الذي يتولّى المسؤوليات العامة في المجتمع، مشكلة للناس في منع انطلاقة الدِّين في خطّ الاستقامة الذي يؤدّي إلى الصلاح، وذلك هو هلاك الحرث الاجتماعي في نظام الحياة، على سبيل الاستيحاء لا على سبيل المعنى. والله العالِم.

وقد تكون كلمة {وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} واردة على نحو الكناية، لأنّ الطغاة المنافقين الذين يتولّون أمور الأُمّة يعملون على إبادة حضارتها الأخلاقية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأمنية، بحيث لا تبقى هناك أيّة قوّة لأيّ وجود، ولا أيّة ثروة لأيّة جماعة؛ فكأنّه يهلك الحرث والنسل، لأنّه يهلك الواقع السليم كلّه. وهذه عبارة تتكرّر في الأساليب الأدبية في مقام التعبير عن الإنسان الذي يخرّب الواقع كلّه.

{وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ} ووقف أمامه الناصحون والناقدون لينصحوه، ويُبيِّنوا له خطأ السبيل التي يسير فيها، وليعظوه، ويوجّهوه إلى خطّ التقوى الذي يدفعه إلى مراقبة الله في كلّ شؤون الحكم والحياة {أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ}، فتمسك به والتزمه اعتزازاً له، فلم يستمع للنصائح، ولم يأخذ بالمواعظ؛ بل امتدّ في طغيانه واستعلى واستكبر في عملية إيحاء كاذب بأنّه فوق مستوى النقد والشبهات، فهو الذي يعطي للآخرين برنامج العمل ويحدّد لهم مسيرة الحياة، فلا يجوز لأحد أن يحدّد له برنامجه ومسيرة حكمه.

وتختم الآية الصورة بالمصير الذي ينتظر مثل هذا الإنسان {فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ} يعذّب فيها أشدّ العذاب، { وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} الذي مهّده لنفسه بعمله وجريمته.

تلك هي صورة هذا النموذج الذي يتمثّل بشخصية المنافق الذي يتحرّك في حقول الدِّين والسياسة والاجتماع في كلّ زمان ومكان، هذا الذي يبيع نفسه للشيطان في كلّ ما يمثّله من التواء وانحراف وإغراء وإغواء، من أجل أن يؤدّي بنا إلى الانهيار والدمار من حيث لا نشعر ولا نريد.

وهناك صورة أخرى لنموذج جديد مشرق في داخل الحياة وخارجها، تتمثّل بالإنسان الذي شرى نفسه لله من أجل الحصول على رضاه(1).

{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ} الأمر الذي يجعله يشعر أنّه لا يملك نفسه ولا يرى لها حريّة مطلقة بعيداً عن إرادة الله وطاعته. ولذلك فهو يعيش الإحساس العميق بأنَّ عليه أن يبذل كلّ طاقاته الفكرية والروحية والجسدية في سبيل الله، فلا مجال للترف الفكري في الأجواء التي تتحرّك فيها التحدّيات الفكرية ضدّ الفكر الحقّ، ولا موقع للخيال أمام حاجة الواقع إلى التعامل مع الظروف الموضوعة المطروحة في الساحة، ولا وقت للفراغ في المجالات التي يشعر فيها الإنسان بالزمن يضيق عن المطامح الكبرى للقضايا الأساسية الحيّة في واقع الإنسان والحياة. وهكذا تنطلق حياته لتتحرّك من موقع الحقّ المتحرّك في أكثر من اتجاه ضدّ خطوات الباطل التي تطلق التحدّي في أكثر من مجال.

إنّه نموذج الرساليّين الذين يعيشون رسالتهم في كلّ مظهر لحركة الحياة من حولهم، ويعيشون حياتهم من أجل رسالتهم في الخطّ المستقيم؛ فلا ينحرفون أمام كلّ محاولات الإغراء ولا يستسلمون لكلّ عوامل الضغط؛ بل يظلّون في الموقع الصلب، في ساحات التحدّي الصعب، ليشهدوا الله على أنّهم صدقوا العهد وأكّدوا الميثاق بجهادهم وتضحياتهم في سبيله، ولم تأخذهم فيه لومة لائم.

{وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} فهو الذي يتقبّل منهم هذه النفوس المجاهدة التي تستقبل الموت بكلّ رضى واطمئنان، انطلاقاً من خطّ الواجب الذي تلتقي فيه الرسالة بالشهادة والشهادة بالنصر، ويجزل لها الثواب في مستقرّ رحمته ورضوانه، وهو الذي يجازيهم الثواب الكثير بالعمل القليل.

وقد يمكن لنا استيحاء الصورة في مجالها المتجسّد في صورة الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) في ما يذكره الرازي في تفسيره ـــ في ما نقله عنه صاحب تفسير الكاشف ـــ قال: جاء في سبب نزولها ثلاث روايات، منها أنّها "نزلت في عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) بات على فراش رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ليلة خروجه إلى الغار، ويروى أنّه لمّا نام على فراشه، قام جبريل (عليه السلام) عند رأسه، وميكائيل عند رجليه، وجبريل ينادي: بخٍ بخٍ مَن مثلك يا بن أبي طالب يباهي الله بك الملائكة"(1).

وقد جاء في التفاسير أنّ النبيّ  (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) لمّا أراد الهجرة إلى المدينة، خلف عليّ بن أبي طالب بمكّة لقضاء ديونه وأداء الودائع التي كانت عنده، وأمره ليلة خروجه إلى الغار، وقد أحاط به المشركون بالدار، أن ينام على فراشه، وقال له: اتّشح ببردي الحضرمي الأخضر ونم على فراشي، فإنّه لا يصل منهم إليك مكروه إن شاء الله تعالى. ففعل ذلك عليّ، ويروي الثعلبي في تفسيره ـــ كما ينقلها البحراني ـــ هذه الرواية ثمّ يقول "فأوحى الله تعالى إلى جبرائيل وميكائيل: إنّي آخيت بينكما وجعلت عمر أحدكما أطول من عمر صاحبه، فأيّكما يؤثّر أخاه؟ فكلاكما آثر نفسه على صاحبه: ألَا كنتما مثل وليّي عليّ ابن أبي طالب (عليه السلام)؛ آخيت بينه وبين محمّد نبيي، فآثره بالحياة على نفسه، ثمّ رقده على فراشه، يقيه بمهجته. اهبطا إلى الأرض جميعاً واحفظاه من عدوّه.

فهبط جبرائيل فجلس عند رأسه وميكائيل عند رجليه، وجعل جبرائيل يقول: بخٍ بخٍ، من مثلك يابن أبي طالب؟ والله يباهي بك الملائكة، فأنزل الله {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ} الآية(2).

ولم تركّز الآية على شخصية عليّ (عليه السلام)، بل أطلقت التعبير {وَمِنَ النَّاسِ} لأنَّ القضية هي أنّ الله يريد للنموذج ـــ الفكرة أن ينطلق ليكون عاماً في حياة الناس، وذلك من خلال النموذج الأمثل في مقابل النموذج السيّئ الذي لا يفكّر إلاّ بذاته وشخصه.

إنّنا نجد في حياة الإمام عليّ (عليه السلام) حركة الصورة في الحياة في ما يمثّله هذا الإمام العظيم من طاقات رائعة في الفكر والتقوى والشجاعة والإبداع، حيث فجّرها بأجمعها في خدمة الإسلام والمسلمين، بعيداً عن كلّ مصلحة ذاتية، حتى قال: "ما ترك الحقّ لي صديقاً". ولم يبدّد أيّ واحدة منها في الترف أو الفراغ أو خدمة الذّات.

                           *****

ماذا نستوحي من هذين النموذجين؟

أمّا ما نستوحيه من هذه الآيات فهو عدّة أمور:

1 ـــ أن نتعلَّم كيف نمنح الآخرين الثقة والتأييد والدعم، من خلال المواقف لا من خلال الكلمات والمظاهر، لأنَّ الكلمات قد تخدع، والمظاهر قد تغشّ، ولكن المواقف التي تتحرّك من خلال التجربة المريرة الصعبة لا تنطلق إلاّ من قاعدة الحقّ والإخلاص. ويبقى للآيات إيحاؤها العميق الذي يريد أن يعطي الفكرة من خلال عرض الصورتين المتقابلتين، ليشعر الإنسان بأنَّ للحياة أكثر من وجه وأنَّ ظاهر الصورة قد لا يعبّر عن واقعها في كثير من الحالات.

2 ـــ أن نلاحق هذين النموذجين في حركة الواقع، من أجل أن نتابع الأول بالرفض والمواجهة من أجل إزاحته من واجهة الصورة في الحياة، لتخليص الناس من فساده وبغيه وطغيانه واستكباره، أمّا النموذج الثاني فنحاول متابعته بالتأييد والدعم والرعاية من أجل تقويته وتثبيته وتشجيع الإنسان على أن يحتذيه ويقتدي به في كلّ مواقفه ومنطلقاته، لإفساح المجال أمام القِيَم التي يحملها والمواقف التي يمثّلها أن تتحرّك على الساحة بالخير والإصلاح والمحبّة والإنسانية الوديّة الذكية.

3 ـــ أن نتمثّل في وعينا المبادئ السلبية من الإفساد في الأرض، وإهلاك الحرث والنسل، لنجعل منها أساساً للتعامل السلبي مع كلّ البرامج السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية، لنجابهها في ما نملكه من مواقع المجابهة كما نتمثّل المبادئ الإيجابية التي تتلخّص في أن يبيع الإنسان نفسه لله ابتغاء مرضاته، لنؤكّد الخطّ الإيجابي في الحياة السائر على هذا النهج في عملية تقوية وتأييد وتنمية، مهما كانت الصعوبات التي تتحدّانا، والمشاكل التي تحتوينا، فإنَّ ذلك هو الذي يحقّق لنا معنى الالتقاء برضى الله في ما يحبّه، والابتعاد عن سخطه في ما يكرهه؛ حتى نفهم من معنى الحبّ وعدم الحبّ، الجانب العملي الإيجابي والسلبي من خطّ العمل، لا الجانب الوجداني الداخلي الذي لا يلتقي إلاّ بالعاطفة الذاتية الواقعة في خطّ الانفعال.

                           *****

 

6 ـــ المنافق مذبذب:

{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً*مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَـؤُلاء وَلاَ إِلَى هَـؤُلاء وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} [النساء: 142 ـــ 143].

                           *****

معاني المفردات:

{يُخَادِعُونَ}: يعملون عمل المخادع، فيظهرون الإيمان ويبطنون الكفر للحصول على ثقة المؤمنين بصدق إيمانهم وللوصول إلى أهدافهم.

{كُسَالَى}: جمع كسلان، متثاقلين عمّا لا ينبغي التثاقل عنه، من غير وعي ولا قوّة ولا اندفاع، لأنّهم لا يريدون إلاّ الرياء.

{مُّذَبْذَبِينَ}: قلقين متردّدين مضطربين، كحركة الشيء المعلّق، يتردّد يميناً ويساراً، وقيل: إنّما سمّوا مذبذبين وليس متذبذبين، لأنّ القهر الإلهي هو الذي يجرّ لهم هذا النوع من التحريك الذي لا ينتهي إلى غايةٍ ثابتةٍ مطمئنّة.

                           *****

هذه صفةٌ تحدّد بعض ملامح المنافقين، فهم يحاولون في مظهرهم الإيماني وأسلوبهم في الاندماج بمجتمع المؤمنين، أن يحصلوا على الثقة بصدق إيمانهم من قبل النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) والمؤمنين معهم، ظنّاً منهم بأنّ حيلتهم تنجح وتنطلي على المجتمع الإيماني، كمن يقوم بعملية الخداع في سبيل الوصول إلى هدفه؛ ولكنّهم لم يلتفتوا إلى أنّهم لا يخادعون المؤمنين، بل حاولوا خداع الله؛ لأنّ المؤمنين لا يمثّلون أنفسهم، بما يثيرونه من قضايا، أو يقفونه من مواقف، أو يواجهونه من مؤامرات وتحدّيات، أو يقيمونه من علاقات؛ بل يمثّلون خطّ الله، وهو خادعهم، عندما يتركهم لأوهامهم في نجاح الخطّة، وامتداد الخدعة. ثمّ يملي لهم في الحياة وما تحفل به من النِّعم والملذّات، حتى يظنّوا أنّ الله قد رضي عنهم؛ ولكنّ الله يواجههم بالموقف الذي يكشف به كلّ خفاياهم الشرّيرة، بعد أن يستسلموا للشعور بالأمن والطمأنينة. جاء في "العيون" بإسناده عن الحسن بن فضال قال: سألت عليّ بن موسى الرضا (عليه السلام) عن قوله: {يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} فقال: الله ـــ تبارك وتعالى ـــ لا يخادع، ولكنّه يجازيهم جزاء الخديعة(1).

وفي تفسير العياشي عن مسعدة بن زياد عن جعفر بن محمّد عن أبيه: إنّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) سُئل فيمَ النجاة غداً؟ فقال: النجاة أن لا تخادعوا الله فيخدعكم، فإنّ من يخادع الله يخدعه ويخلع منه الإيمان، ونفسه يخدع ولا يشعر. فقيل: فكيف يخادع الله؟ قال: يعمل بما أمر الله ثمّ يريد به غيره، فاتّقوا الرئاء، فإنّه شرك بالله، إنّ المرائي يدعى يوم القيامة بأربعة أسماء: يا كافر، يا فاجر، يا غادر، يا خاسر، حبط عملك، وبطل أجرك، ولا خلاق لك اليوم، فالتمس أجرك ممّن كنت تعمل له(1).

ثمّ تكشف الآية بعض الألوان القلقة في أعمالهم؛ فهم قد يصلّون، ولكنّهم لا يملكون روحية الصلاة التي تبعث في أجسادهم النشاط والحيوية والانقطاع إلى الله، بحيث تتحوّل في وقفتهم هذه أمام الله إلى حركةٍ روحيةٍ مليئة بالقوّة والثبات والامتداد، بل يعيشون بدلاً من ذلك الكسل الذي يبعث في أجسادهم الخدر، وفي عيونهم الشعور بالضياع، وفي حركاتهم الشلل أو ما يشبه ذلك. {وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى} من غير وعيٍ ولا قوّةٍ ولا إيمان، لأنّهم لا يريدون من الصلاة إلاّ الرياء، ليراهم الناس على حالة الصلاة، ليأخذوا بعضاً من الثقة بذلك، ولا يذكرون الله الذي يذكره المؤمنون بشكلٍ دائم مستمرّ في وعي كبير لعظمته وامتداده، لأنّهم لا يحيون في أعماقهم روح الإيمان به، إلاّ بما يشبه الشبح؛ ولذلك فإنّهم لا يذكرونه إلاّ قليلاً من موقع انتهاز الفرصة لا من موقع الإيمان.

وقد جاء في الكافي بإسناده عن أبي المغرا الخصاف رفعه قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): من ذكر الله ـــ عزّ وجلّ ـــ في السرّ، فقد ذكر الله كثيراً، إنّ المنافقين كانوا يذكرون الله علانيةً ولا يذكرونه في السرّ فقال الله عزّ وجلّ: {يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً}(2).

وأخرج مسلم وأبو داود البيهقي عن أنس قال: قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلّم): تلك صلاة المنافق، يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان(3) قام فنقر أربعاً لا يذكر الله فيها إلاّ قليلاً(4).

وجاء عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام): للمرائي ثلاث علامات: يكسل إذا كان وحده، وينشط إذا كان الناس عنده، ويتعرّض في كلّ أمر للمحمدة(1).

وفي ضوء ذلك، نفهم أنّ الرياء يتمثّل في العمل للناس من أجل أن يحصل على المكانة عندهم والحظوة لديهم والثقة به في الموقع المميّز فيهم، من دون أن يكون العنوان الذي يظهر به ممثّلاً لحقيقته، فيريد أن يعتقد الناس فيه الإيمان والصلاح والتقوى والإخلاص من خلال مظهره الكاذب الذي يقدّمه إليهم من دون أن يتّصف بهذه الصفات في الواقع.

وليس من الرياء مداراة الناس في تعامله معهم ومجاملته لهم انطلاقاً من حسن الأخلاق وكرم السجايا، انسجاماً مع العلاقات الإنسانية العامة التي تفرض على الإنسان في الدائرة الاجتماعية أن يبتسم لإنسان ليس بينه وبينه مودّة، أو يحترم من لا يملك موقع الاحترام، انطلاقاً من الأوضاع الاجتماعية العامة. وقد ورد في الحديث المأثور: "أمرني ربّي بمداراة الناس كما أمرني بأداء الفرائض"(2). وهكذا نرى أنّ المرائين هم الذين يتظاهرون أمام الناس بما ليس فيهم لينالوا المكانة المميّزة لديهم من دون أن يكون لهم واقع يتناسب مع هذا الظاهر.

ليس لهم موقف ثابت ينطلقون منه أو يرتكزون عليه، فهم مذبذبون متردّدون بين جانبين من غير ارتباط بأحدهما؛ وذلك هو الضياع الذي لا يجد معه الإنسان طريقاً واضحاً يسير عليه ويهتدي به للوصول إلى غايته، لأنّهم ابتعدوا عن طريق الله فتركهم الله لضلالهم، وأضلّهم من خلال اختيارهم السيّء؛ ومن يضلل الله، يغلق قلبه عن النور وفكره عن الهدى، ويتركه للتيه والظلام، فلا يمنحه رحمته بسبب تمرّده ونفاقه، {فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} إذ لا سبيل في الحياة غير السبيل الذي يفتحه الله للإنسان برحمته لعباده الصالحين.

                           *****     

7 ـــ المنافقون اشتروا الضلالة بالهدى:

{أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ*مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ*صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ*أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ*يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 16 ـــ 20].

 

ربّما كانت هذه الآيات إيحاءً بطبيعة عمل المنافقين، وذلك كإشارة إيحائية للإنسان بالابتعاد عنهم، وعن خطّهم العملي في الحياة، على أساس النتائج السيّئة الناتجة عنه.

{أُوْلَـئِكَ} المنافقون {الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى}، وذلك من خلال اختيارهم الضلال، الذي أصرّوا عليه وساروا فيه، على الهدى الذي قدَّمه لهم الرسول، ووعاه العقل من خلال الحقّ الكامن فيه والخير المنفتح عليه. إنّهم "اشتروا الضلالة" في سلوكهم وخططهم النفاقية، فتاهوا في منعطفات الطرق، ومتاهات الرمال المتحرّكة التي تضيع عندها الخطوط وتتلاشى فيها العلامات، وتركوا الهدى الذي يحدّد للإنسان بداية الطريق التي تشير إلى نهايته في خطّ مستقيم ثابت لا التواء فيه ولا انحراف.

{فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ} ممّا يوحي به هذا النوع من المواقف القائم على أسلوب التبادل التجاري وما يستهدف من تحقيق الربح المادي، في الوقت الذي تنطلق فيه النتائج الحاسمة على خلاف ذلك خسراناً وسقوطاً وضياعاً، { وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} في اختيارهم العملي، لأنّهم واجهوا متاهات الأوضاع القلقة على مستوى المصير.

                           *****

مفهوم الشّراء كمقوّم لكلّ عمل إنساني:

ونلاحظ ـــ في هذا المجال ـــ أنّ القرآن الكريم يركّز في هذه الآية وفي غيرها من الآيات، على كلمة "الشراء" في كلّ عمل يقوم به الإنسان في حياته، على أساس النتائج السيِّئة والحسنة التي تنتج عنه، ما يجعل من مجموعة الأعمال الإنسانية في الحياة عملاً تجارياً يخضع للربح والخسارة في طبيعته العامّة والخاصة، فهناك عوض ومعوَّض في كلّ حركة يتحرّكها، وفي كلّ كلمة يتكلّمها، فقد تشتري ببعض الأعمال نفسك ومصيرك وحياتك عندما يكون للعمل نتائج إيجابية على قضية الحياة والمصير، سواء في ذلك على المستوى المادي أو المستوى المعنوي، حتى في مجال التضحية بالنفس أو بالمال ممّا يدخل في عملية العطاء بلا مقابل، فإنَّ القضية لا تخلو من العوض، ولكنّه العوض الأخروي للمؤمنين، والعوض النفسي بشكلٍ عام.

ونواجه في هذا الجوّ بعض الآيات الكريمة كمثال على ذلك، كقوله تعالى:

{إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة : 111]، وقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة : 207]، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ*تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الصف: 10 ـــ 11].

وهكذا تكون الحياة في كلّ مجالاتها وصراعاتها، عملية بيع وشراء مع الله أو مع الشيطان، فلا تعطي شيئاً، إلاّ لتأخذ شيئاً مقابلاً له، وهي في ذلك، قد تربح إذا كانت النتائج جيّدة في مصلحة البائع والمشتري، وقد تخسر إذا لم تكن النتائج في مصلحتهما، وعلى ضوء ذلك، نعرف طبيعة تجارة هؤلاء المنافقين، فهم قد أخذوا الشيء أو الموقف الذي يخسرون به مصيرهم في الدنيا والآخرة، والذي يضعهم في تيهٍ لا نهاية له من الحَيْرة والتمزّق، وتركوا في مقابل ذلك الهدى الذي يعطيهم القوّة والفلاح والسلام الروحي في الدنيا والآخرة، وبذلك كانت تجارتهم غير رابحة من خلال ما كانوا يأملونه من الأرباح، في الوقت الذي خسروا فيه هدى الطريق، ما جعلهم في ضياعٍ دائم وتخبّط مستمرّ، وظلام داخلي يحجب عنهم رؤية النور الذي يتفجّر من أعماق القلوب المؤمنة السابحة أبداً في ينابيع الضياء الروحي المنهمر من رَوْحِ الله.

                           *****

ما ينبغي للدُّعاة استيحاؤه:

من هنا، ينبغي للدّعاة إلى الله أن يتوفّروا على استيحاء هذا الأسلوب القرآني في مجال عملهم الدعوتي إلى الله، فقد يلتقون بالأشخاص الذين يعيشون قضايا الحياة من خلال حسابات الربح والخسارة، فيحتاجون إلى إثارة هذه القضايا في حياتهم في انسجامهم مع خطّ الله أو ابتعادهم عنه، ودراسة سلبيات الضلال وإيجابية الهدى في الحياة العملية في الدنيا، ثمَّ الاتجاه بهم إلى قضية الدار الآخرة، كمجال حيوي من المجالات التي تتحرّك فيها حسابات الربح والخسارة، والتركيز على اعتبارها النقطة الحاسمة في ذلك، كما حدَّثنا الله عن ذلك في بعض آياته الكريمة، عند الحديث عن جانب الخسارة:

1 ـــ {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الزمر : 15]

2 ـــ {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ*لِيَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الأنفال: 36 ـــ 37].

وقد حدّثنا الله عن الفوز في الآخرة كمقياس للفوز في قوله تعالى:

{كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185].

{وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 72].

ولا بدّ للداعية من أن يتوفّر على إيجاد الأجواء النفسية التي تهيّئ للالتقاء بالفكرة القرآنية التي تريد للإنسان أن يعيش الشعور بالربح والخسارة في الآخرة بالقوّة نفسها التي يستشعر فيها القضية في الدنيا إن لم يكن بنحو أقوى وأشدّ. وربّما كان هذا الأسلوب من أكثر الأساليب ارتباطاً بالهدف القرآني الذي يعمل له العاملون، وهو أن يعيش الناس أجواء الدار الآخرة في جميع مجالات الحياة الدنيا، ليكون السلوك العملي للإنسان خاضعاً للتأثيرات الروحية التي يعيشها من خلال فيوضات العيش في رحاب الله تعالى.

                           *****

حالة المنافقين في مثلين:

ثمّ انتقلت الآيات إلى تجسيد صورة المنافقين، وما يعانونه من حَيْرة وتمزّق وخيبة آمال، من خلال عرض الحسيّة المماثلة لصورتهم الداخلية، ولكن في إطار حركة الطبيعة ضمن نماذجها الواقعية المتحرّكة في الحياة، وذلك بأسلوب ضرب المثل، وهو من الأساليب البلاغية الرائعة التي استخدمها القرآن، في أكثر من مجال، من أجل إعطاء فكرة واضحة حيّة عن القضايا المعنوية بمقارنتها بالأشياء الحسيّة، التي تتجسّد فيها الصورة في هزَّة حركية مثيرة للنظر والوجدان والشعور، تماماً كوسائل الإيضاح التي تحاول تعميق الفكرة في النفس وتقريبها إلى الوجدان عبر إبراز عناصرها بالوسائل الحسيّة، لأنَّ تأثير الحسّ في النفس أشدّ عمقاً وأكثر تأثيراً من الجوانب المعنوية، ولذا كانت هي الطريقة المفصّلة لتربية الأطفال الذين لا يستطعيون إدراك الجوانب المعنوية، إلاّ بأسلوب التجسيد الحسّي الذي يربط الطفل بمرئيّاته وملموساته. وقد تكون قيمتها في تقريب الفكرة التي يوحيها المثل إلى ذهن الإنسان وروحه، ما يجعل مقارنتها بالفكرة التي يُراد عرضها للفكر أمراً عملياً مثيراً.

ولعلَّ السرّ في محاولة القرآن الكريم إبراز ملامحهم الداخلية من خلال الصورة الحسيّة المتمثّلة في واقع الطبيعة الملموس، هو أنَّ الله يريد إبعاد الناس عن هذا الاتجاه المنحرف في موقف الإنسان من قضايا الحقّ والباطل، الأمر الذي يفرض على الأسلوب أن يلتمس كلّ العناصر المنفِّرة التي تشارك في حشد الصورة بأكبر قدر ممكن من الأجواء المظلمة القاسية المغرقة في الضياع.

وقد صوّر الله لنا حالة المنافقين في مثلين محسوسين من صورة الطبيعة:

المثل الأول في قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ*صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ}.

فالمنافقون {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً} ليستعين بضوئها على معرفة الأوضاع المحيطة به، والطريق الذي يسير فيه، والغاية التي يسعى إليها. {فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ}، ورأى من خلالها ما يريد رؤيته، وحصل منها على ما يستفيده من الدفء والحرارة، واستراح لذلك، واطمأنَّ به، وفكَّر في قضاء ليلةٍ سعيدة مشرقة، جاءته الريح العاصفة فأطفأت ناره و{ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ} ما حولهم، ومن حولهم، ولا يهتدون طريقهم.

{صُمٌّ} لم يركّزوا أسماعهم لاستماع الحقّ، فكأنّهم لا يسمعون، لأنَّ وجود السمع كعدمه بالنسبة إليهم، من حيث النتيجة. {بُكْمٌ} لم يقرّروا بالله ورسوله ورسالاته، فكأنّهم لا ينطقون، لأنّهم لم يستفيدوا من لسانه في ما يُراد له من النطق بالحقّ. {عُمْيٌ} لم ينظروا في ملكوت الله في السماوات والأرض، ليعرفوا سرّ عظمة الله من خلال ذلك، فكأنّهم لا يبصرون لانعدام الفائدة المطلوبة من وجود البصر. {فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} إلى الحقّ لينطلقوا منه نحو سعادة الدنيا والآخرة، بل يبقون في متاهات الضلال التي تقودهم إلى الضياع.

فهم تماماً كما لو كنّا في صحراء مظلمة ليس فيها بصيص نور، لا قمر تشعّ أنواره الشفّافة الوديعة في الأجواء الممتدة التي تنسكب على الرمال بوداعة وهدوء، ولا كواكب تلمع من بعيد، فتوشي حواشي الظلام بلمعات من النور الأبيض القادم من بعيد في خجل واستحياء، فتفتح أمام الخطى بعض مسالك الطريق. ليس هناك إلاّ ظلمات متراكمة بعضها فوق بعض، ثمّ استطعنا فجأة أن نوقد بعض النار، وتصاعد اللّهب الذي يكشف لنا الجوّ والموقع والطريق. ثمّ جاءت ريح فأطفأت هذه النار، أو حاولت أن تعبث بها فأطفأتها في حركة عاصفة شديدة. فلنتصوّر الحالة النفسية التي سنكون عليها، والتي تتجسّد فيها خيبة الأمل واليأس من الوصول إلى الهدف المنشود، فهل ثمّة حالة أقسى من مثل هذه الحالة التي ينفتح لنا فيها النور بعد يأس، ثمّ يذهب فجأة وينطفئ بدون انتظار في أشدّ حالات الحاجة إليه؟

إنّها، تماماً، حالة المنافق الذي كان يعيش في ظلام دامس من الشكّ والحَيْرة والتمزُّق والضياع، ككلّ الناس الذين يعيشون الكفر والجحود والنكران، فيأتي النور الذي أرسله الله على رسوله ليدلّهم على الطريق وليحدّد لهم الهدف، ولينقذهم من الحَيْرة والتمزّق والضياع، فيقودهم إلى حيث الطمأنينة والوضوح في الرؤية والاستقامة في التفكير، وكان بإمكانهم أن يلتقوا به على درب الإيمان ليخرجهم من الظلمات إلى النور، ولكن العقدة المتأصّلة التي تحوّلت إلى عقدة مرضية مستعصية حالت بينهم وبين الالتقاء بالنور والانطلاق مع الهدى، فعاشوا مع هذه العقدة التي زيَّنت لهم أساليب التلاعب الشيطانية، وأوحت إليهم أنَّ ذلك هو السبيل الذي يستطيعون من خلاله أن يحرزوا النتائج المضمونة من كلا الفريقين: فريق الكفر، وفريق الإيمان، بأسلوب اللّف والدوران، فعادوا إلى الظلمة من جديد، بعد أن {ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ} بفعل إرادتهم المجنونة التي لا تعرف ما تريد وكيف تريد، الأمر الذي جعل اختيارهم يتحرّك في مصلحة الظلام لا في مصلحة النور، فخذلهم الله وأوكلهم إلى أنفسهم {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ}.

وجاءت الآية الثانية لتعطينا الفكرة الواضحة عن الأسباب التي دفعتهم إلى هذا الاتجاه المنحرف، ولتعرّفنا أنّهم لم يستخدموا الوسائل التي خلقها الله لهم ليحصلوا على المعرفة الشاملة، بل حاولوا أن يجمّدوها، فقد خلق الله لهم السمع ليصغوا من خلاله إلى الكلمات الحقّة من الآيات البيّنات التي تثير في داخلهم التفكير والتأمُّل، وخلق لهم اللّسان ليسألوا به عن كلّ الأمور التي يجهلونها أو يشكّون فيها ليصلوا إلى المعرفة الحقّة، وخلق لهم البصر ليتطلَّعوا به إلى آياته الكونية التي أودع فيها كلّ الدلائل والأسرار التي تقودنا إلى الشعور بعظمته والإيمان بوحدانيّته، لقد خلق لهم كلّ هذه الوسائل ليستخدموها كأدوات للمعرفة، ولكنَّهم أهملوها، فكانوا أشبه بالذين يفقدون هذه القوى، لأنَّ قيمة الحواس الإنسانية لا تكمن في وجودها الجامد، بل في وجودها الحيّ المتحرّك في كلّ اتجاه يمنح المعرفة وينمّ الحسّ بالحياة، ويضيء للقلب طريق التفكير، وبذلك يفقد العاملون الأمل في رجوعهم إلى الحقّ والصواب، لأنَّ شرطه الإحساس بالمعرفة من خلال الشعور بالحاجة إلى استخدام وسائلها الطبيعيّة.

المثل الثاني في قوله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ*يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.

حاول بعض المفسّرين اعتبار التشبيه في المثل خاضعاً لمفردات الظواهر الموجودة في الصورة، وذلك بتشبيه الإسلام وما فيه من نور يهدي السائرين إلى الطريق الحقّ، بالبرق الذي يهدي الناس في دياجير الظلام، وبتشبيه الظلمات بشبهات الكفر والضلال التي توقع الإنسان حائراً في خطوات الطريق المظلم.. أمّا الرعد والصواعق، فقد شبّه بهما الإنذار بالعذاب والهول الذي يوجّهه القرآن للضالّين والمنحرفين عن الصراط المستقيم.

وهكذا يكون المثل من تشبيه مفردات صورة بمفردات صورة أخرى، فلا تكون الصورة هي مركز التشبيه هنا، وقد يكون مثل هذا القول وارداً من خلال طبيعة التركيب اللّفظي، ولكنَّ الجوّ العام للموقف، يوحي بانطلاق التشبيه في حركة الصورة بعيداً عن المفردات، لأنَّ القضية هي قضية الحالة الداخلية لشخصية المنافق الذي ييعش الازدواجية الداخلية في الفكر والشعور، التي تفرض عليه الجوّ القلق الحائر، حيث تتأرجح مشاعره بين لمعات الطهر ونزوات الخبث، وتضطرب أفكاره بين أفكار الخير وأفكار الشرّ، وتختلط في عينيه مواقع النور وكهوف الظلام، وتزدحم في سمعه صرخات العذاب وهدهدات النعيم، وقد تؤكّد لنا هذه الصورة، أنّنا نعتبر ازدواجية المنافق في حياته العملية نابعة من ازدواجيّته الداخلية في فكره وشعوره، ولعلّنا نلمس الروعة في التشبيه في هذا الإطار الذي تهتزّ فيه الصورة بالحركة وتموج بالحياة، لأنّه يصبح أكثر انسجاماً مع طبيعة الفكرة التي يوحي بها المثل المنطلق من تجسيد الصورة في الواقع كأسلوب من أساليب وضعها في الواجهة من وعي الإنسان وتفكيره.

وقد نجد أنَّ لكلّ واحد من هذين المثلين مهمّة في إعطاء الفكرة عن شخصية المنافق تختلف عن الآخر، ففي المثل الأوّل تصوير لحالة المنافق وهو يواجه الدعوة التي تشير إلى الطريق المستقيم من خلال النور الذي يضيء الروح والقلب والفكر، فيبادر إلى الطريق الملتوي الغارق بالظلمة التي تعمي قلبه، وتغشي بصره، وتصمّ سمعه.

وفي المثل الثاني تصويرٌ لحالته وهو يعيش حياته في أجواء النفاق واهتزازات المواقف بين الظلمة والنور والرعد والبرق، فتجعله في حَيْرة مدمّرة تأكل قلبه وتمزّق روحه؛ والله العالِم بأسرار آياته.

{أَوْ كَصَيِّبٍ} مَثَلُ هؤلاء المنافقين في حَيْرتهم الذهنية وقلقهم النفسي، مَثَلُ الناس الذين يتحرّكون في أجواء الصيّب، وهو المطر الغزير الهاطل من السماء، {مِّنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ} فهو يحتوي في حركته كلّها الظلمات المتمثّلة بالسحاب الأسود، والضباب الكثيف، والليل المدلهم، والرعد الذي يدوّي فيصمّ الأسماع، ويثير المخاوف، ويهزّ الأفق، والبرق الذي يظهر بين لحظةٍ وأخرى بكلّ قوّة فيثير الفزع من تأثيراته في العيون بقدر ما يثير من النور الساطع الذي يشقّ الظلام بسرعة، فيحرّك ذلك الجوّ المتنوّع في مخاوفه الإحساس بالخطر، فتراهم {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم} ليتفادوا ضغط الرعد على أسماعهم، وليتخفَّفوا من خطر الصواعق القاصفة المحرقة، تماماً كما لو كان الهروب من الإحساس بصوتها سبيلاً للهروب من أخطارها، {حَذَرَ الْمَوْتِ} الذي قد يأتيهم من خلالها {واللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ}، فلا عاصم من أمر الله، لأنَّ الأجل يأتيهم من كلّ مكان، وبأكثر من سبب، فلا يحميهم من أمر الله، لأنَّ الأجل يأتيهم من كلّ مكان، وبأكثر من سبب، فلا يحميهم منه شيء، ولا هناك من يستجيرون به.

{يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} ويستلبها لشدّة لمعانه، ولكنّهم ينطلقون ليهتدوا به في الظلام الكثيف الدامس، {كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ}، وتحرّكوا، من خلاله، إلى غاياتهم، {وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ} ووقفوا في حيرتهم القاسية أمام الظلام الذي لا يبصرون فيه طريقهم. وهكذا يبقون في قلق روحي مدمّر بين النور الخاطف والظلمة الكثيفة، فلا ينفتحون على الدرب، ولا يستقرّون في الظلام. إنّها حركة المنافق بين الضوء القادم من القرآن، والظلام المندفع من الكفر، {وَلَوْ شَاء اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ} فلا يسمعون شيئاً، {وَأَبْصَارِهِمْ} فلا يبصرون شيئاً، {إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فهو القادر على أن يسلبهم كلّ شيء، ويدمّر عليهم كلّ أوضاعهم في جميع المجالات، ولكنّ الله يمهلهم، ويُملي لهم، ويمدّ لهم الحبل، حتى يقيم عليهم الحُجّة، ثمّ يأخذهم أخذ عزيز مقتدر.

                           *****

 

 

8 ـــ النفاق ونقض العهد:

{وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ*فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ*فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ*أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ} [التوبة: 75 ـــ 78].

                           *****

معاني المفردات:

{عَاهَدَ}: المعاهدة هي أن تقول: عليَّ عهد الله لأفعلنَّ كذا، فإنّه يكون بذلك قد عقد على نفسه وجوب ما ذكره.

{وَنَجْوَاهُمْ}: النجوى: الكلام الخفي.

                           *****

هذا نموذجٌ من نماذج الملامح الاستعراضية الإيمانية ا لتي كان المنافقون يحاولون ـــ من خلالها ـــ الإيحاء للمؤمنين بإخلاصهم لله، وجدّيتهم في الوقوف عند أمره ونهيه، في ما يفرضه عليهم من العطاء في سبيله، والتضحية بالمال من أجله، ولكنّهم يتراجعون عن ذلك كلّه أمام التجربة الحيّة، ليتبيّن للناس أنّهم كانوا يواجهون الموقف بالكلام الكاذب الذي لا يحمل في مستقبله الواعد أيّ معنى حقيقي على صعيد الواقع، ما يؤكّد حقيقة النفاق الكامنة في نفوسهم، التي تتحرّك من مواقع الوعد الكاذب لله ولعباده، الذي يثير الحياة في هذه الفجوة العميقة بين ما هو القول، وما هو الفعل.

                           *****

نقض العهد نتيجة عدم التقوى:

{وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ} فهم يعتذرون عن عدم قيامهم بواجب الصدقة بالعجز المالي، ولولاه لما تأخّروا عنه في أيّ حال من الأحوال، فلو أنّ الله رزقهم من واسع فضله، لقاموا بالصدقة على أحسن حال، ولساروا على خطّ الصلاح، في ما يواجه به الصالحون الموقف في العمل على تحقيق القضايا العملية التي توحي برضا الله، {وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ} في ما يوحي به العطاء والبذل في سبيل الله من معنى الصلاح {فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ} لأنّ العهد لم يكن منطلقاً من حالة تقوى وموقف إيمان، بل من حالةٍ استعراضيّةٍ تمنحهم فرصة الهروب من الموقف الصعب آنذاك من جهة، وتهيّئ لهم الظهور بمظهر التقوى والصلاح من جهةٍ أخرى، فإذا جاءت التجربة الحيّة التي تتحدّى فيهم صدق الموقف، سقطوا امامها، وامتنعوا عن الوفاء بما عاهدوا الله عليه، وبخلوا بالمال الذي رزقهم الله إيّاه {وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ} عن كلّ ما قالوه، وعن كلّ ما التزموا به.

                           *****

نقض العهد يعقبه نفاق في القلب:

{فَأَعْقَبَهُمْ} ذلك {نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ} ممتدّاً في امتداد الحياة بهم {إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} يوم القيامة عندما يلاقون الله غداً، فيكشف ما أضمروه من زيف، وما عاشوه من نفاق، ممّا قد خفي أمره على الناس في الدنيا، {بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ} لأنّ القضية لم تكن مجرّد حالةٍ طارئةٍ في فعل معيّن، بل كانت منطلقةٍ من عُقدةٍ مرضيّةٍ كامنةٍ في النفس، باعثة على إخلاف الوعد عن سابق قصد وتصوُّر وتصميم، {وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ} باعتبار أنّ الكذب يمنحهم فرصة الهروب من المواقف الحاسمة التي تتحدّى فيهم حركة الإيمان في حركة الإنسان في الواقع. وهكذا يهربون من موقعٍ إلى موقعٍ، في عملية اختباء واختفاءٍ وتراجع عن الكلمات والعهود والمواقف، في غفلةٍ عن انكشاف أمرهم عند الله. {أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} في ما يفكّرون به في داخل ضمائرهم، ويتناجون به ـــ بطريقةٍ سريّةٍ ـــ فيما بينهم، في ما يحاولونه من الّلعب على المواقف والكلمات، فيكف يغفلون عن هذه الحقيقة، ويتصرّفون في الحياة بعيداً عنها، فإذا كانوا يملكون إخفاء أمرهم عن الناس في ما يملكون غطاءه، فكيف يملكون إخفاء ذلك عن الله الذي يعلم سرّهم ونجواهم {وَأَنَّ اللّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ} فلا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء من شؤون خلقه في كلّ أمورهم الظاهرة والخفيّة.

                           *****

9 ـــ استهزاء المنافقين بالقرآن:

{وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ*وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ*أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ*وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُم مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصَرَفُواْ صَرَفَ اللّهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُون} [التوبة: 124 ـــ 127].

                           *****

معاني المفردات:

{يُفْتَنُونَ}: يمتحنون.

{لاَّ يَفْقَهُون}: لا يعلمون.

 

هذا هو أحد الأساليب التي كان يمارسها المنافقون في التهوين من شأن ا لقرآن وإبطال أثره في نفوس الناس، ومحاولة الإيحاء لهم بأنّه لا يمثّل شيئاً في موضوع التنمية الروحية والتوعية الإيمانية، لأنّه كلامٌ عاديٌّ، تماماً كأيّ كلام آخر من كلام المخلوقين، وذلك من أجل إقناعهم بأنّه ليس وحياً إلهيّاً في ما يعنيه الوحي من أسرار خارقةٍ للعادة من خلال ما يقتضيه من نتائج غير طبيعية على مستوى التغيير والتأثير.

                           *****

السورة تزيد المؤمنين إيماناً:

{وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ} على النبيّ على ملأٍ من الناس، وقفوا أمامها واجتمعوا عليها في عمليّة استعراضيةٍ للتشكيك، ليطرحوا السؤال على بعضهم البعض أمام الناس كما لو كان شيئاً عفويّاً يحصل لهم بكلّ بساطةٍ، {فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـذِهِ إِيمَاناً} وهو يعرف الجواب مقدَّماً بأنّه لم يحصل شيءٌ من ذلك، أو أنّه يطرح السؤال بلهجة الإنكار والاستهزاء، وربّما كان هذا التساؤل وارداً في مجال التعليق على الآية الكريمة {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال : 2].

ويجيب القرآن على هذا السؤال أو التساؤل، {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ} لأنّ المؤمنين يعيشون وعي الكلمة بطريقة مسؤولة، وبذلك ينفذون إلى عمق المعنى في حركته وامتداده، ويستلهمونه في أجواء إيحائيّةٍ لينطلقوا مع مفاهيمه في الهواء الطلق ليجسِّدوها واقعاً حيّاً في حياة الأفراد والجماعات، فيتفاعل ذلك مع الأفكار والمشاعر والمواقف، لتتحوّل إلى زيادةٍ نوعيّةٍ وكميّةٍ في حجم الإيمان في الداخل. {وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} في ما يمثّله الإيمان من الداخل، من حركة الشخصية في أكثر من مجال، على أساس هذا الفرح الروحي الذي يطوّقهم من جميع الجهات، فيشعرون بالواقع كما لو كان بشارةً كبيرة في حجم هذا السؤال.

                           *****

السورة تزيد المنافقين رجساً:

{وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} في ما يعانونه من حالة النفاق الذي يجعلهم يعيشون الاهتزاز النفسي والجمود الروحي، فلا ينفتحون على الإشراق في معاني الآيات القرآنية، ولا ينسجمون مع مفاهيمها وأحكامها، بل يعتقدون ـــ بدلاً من ذلك ـــ ويواجهونها بالسخرية والاستهزاء والجحود والنكران، أمّا هؤلاء {فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ} لأنّهم عندما يواجهونها من مواقع العقدة المستأصلة، فستتآكل نفوسهم في الداخل منها، وتعيش الحقد والعداوة والبغضاء من جديد، وبذلك تزيد حالة الخبث والقذارة الروحية، بالإضافة إلى ما لديهم من خبثٍ وقذارةٍ واستمرار على ذلك، لأنّهم ليسوا في أجواء التفكير والتغيير، {وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ} بالله وبرسوله وبآياته {أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ} ويُختبرون {فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ} وذلك من خلال التجربة الصعبة التي تواجههم، في ما ينزل عليهم من البلاء، فيسقطون أمامها، ويتضاءلون في مواقع التحدّيات، وينحرفون عن الخطّ الذي كانوا يحملون مسؤولية السير على هداه {ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ} من هذه الذنوب والأخطاء الكبيرة التي يقترفونها {وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ} في ما يوحي به الناس من أنّ المؤمنين في المنطقة لا يمثّلون مركز قوّة، ولا يجدون موقعاً متقدّماً، {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ} في حيرةٍ وتساؤل أو سخرية واستهزاءٍ {هَلْ يَرَاكُم مِّنْ أَحَدٍ} فكأنّهم يخافون اكتشاف نفاقهم من قِبَل الناس من حولهم، من خلال سماعهم لبعض كلماتهم، أو مشاهدة بعض حركاتهم، وبعد أن أحسُّوا بالأمن والطمأنينة {ثُمَّ انصَرَفُواْ} وتفرَّقا وذهب كلّ منهم إلى ناحية {صَرَفَ اللّهُ قُلُوبَهُم} عن الحقّ، فلم يوفّقهم إليه، بعد أن أعرضوا عنه من دون حُجّةٍ ولا دليل ولا وعي {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُون} وذلك هو سبب ضلالهم، فلو أنّهم كانوا واعين لما يواجههم من دعوة الحقّ ورسالة الله، في موقف فهمٍ للفكرة وللأسلوب، وللساحة وللهدف، لَعَرَفوا ما فيها من هدىً وحقّ وإيمان.

                           *****

10 ـــ تآمر المنافقين على المسلمين:

{هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ*يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [المنافقون: 7 ـــ 8].

                           *****

هذه صورة من صور التآمر العلني الذي كان يحرّكه المنافقون في مجالسهم العائلية أو في الحالات التي يشعرون فيها باليأس من وصولهم إلى غاياتهم النفاقية، فينفّسون ببعض الكلمات الحادّة عن العقدة الخبيثة الكامنة في نفوسهم.

{هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا} وهذا لونٌ من ألوان الحرب الاقتصادية التي كان المنافقون يعملون على التخطيط لها لإبعاد المؤمنين المحيطين بالرسول عنه، وذلك بالإيعاز إلى الأغنياء الذين ينفقون على المهاجرين أو غيرهم من المسلمين المستضعفين ليمتنعوا عن الإنفاق عليهم، ولكنّ الله سبحانه يردّ على هؤلاء بأنّ الله لم يجعل مصادر الرزق الذي يمدّ به عباده المؤمنين محصورةً في موردٍ خاص، أو في جماعاتٍ معيّنةٍ، ليعيشوا المشكلة القاتلة في حياتهم العامة عندما يغلق عنهم هذا الباب أو ذاك.

{وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} التي تتّسع للخلائق كلّهم، فلا تضيق عن أحدٍ، ولا تنفذ مواردها مهما امتدّت في موارد الحياة كلّها، وتلك هي الحقيقة الإيمانية التي تفرضها الألوهية المطلقة المهيمنة على الأمر كلّه، وعلى الخلق كلّهم. {وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ} لاستغراقهم في عقدة النفاق التي تحجب عنهم حقائق العقيدة والحياة، فلا يملكون الانفتاح على الله في آفاق غناه وقدرته المطلقة.

وقد نستوحي هذا الموقف في جميع المواقع التي يهدّد فيها الكثيرون من الكافرين والظالمين، العاملين والمجاهدين بالضغط الاقتصادي، كعقوبةٍ على بعض المواقف الإسلامية والجهادية التي يقفونها في ساحات العمل والجهاد، فقد ينبغي للمؤمنين الواعين أن يستلهموا من العقيدة هذا الموقف الإيماني الحاسم، ليواجهوا كلّ الضغوط وكل التهاويل المحيطة بهم، بالارتفاع إلى مستوى الثقة بالله الذي تكفّل لعباده بالرزق من حيث لا يحتسبون، من خزائن رزقه التي لا تنفد ولا تضيق عن سؤال أحدٍ ولا حاجة أحد.

                           *****

المدينة.. واستكبار المنافقين:

{يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} وتلك مقالة شيخ المنافقين عبد الله بن أبيّ الذي كان يعبّر بها عن جمهور المنافقين الذين يتبعونه، على أساس أنّه هو الأعزّ الذي يملك الامتداد العشائري في المدينة، بينما لا يملك ذلك رسول الله الذي اعتبره الأذلّ، وذلك باعتبار أنّه غريبٌ فيها وهو ليس من أهلها، ولا عشيرة له فيها.

وقصّة هذه الآية في سبب نزولها، أنّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) بلغه أنّ بني المصطلق يجتمعون لحربه، وقائدهم الحارث بن أبي ضرار أبو جويرية زوج النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم). فلمّا سمع بهم رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، خرج إليهم حتى لقيهم على ماءٍ من مياههم يقال له المريسيع من ناحية قديد إلى الساحل، فتزاحف الناس واقتتلوا، فهزم الله بني المصطلق وقتل منهم من قتل، ونقل رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) أبناءهم ونساءهم وأموالهم، فبينا الناس على ذلك الماء إذ وردت واردة الناس، ومع عمر بن الخطاب أجير له من بني غفار يقال له جهجاه بن سعيد، يقود له فرسه، فازدحم جهجاه وسنان الجهني من بني عوف بن خزرج على الماء فاقتتلا، فصرخ الجهني يا معشر الأنصار، وصرخ الغفاري: يا معشر المهاجرين، فأعان الغفاري رجلٌ من المهاجرين يقال له جعلا وكان فقيراً، فقال عبد الله بن أبيّ لجعال: إنّك لهتاك، فقال: وما يمنعني أن أفعل ذلك، واشتدّ لسان جعال على عبد الله، فقال عبد الله: والذي يحلف به لآزرنك ويهمّك غير هذا. وغضب ابن أبيّ وعنده رهطٌ من قومه فيهم زيد ابن أرقم حديث السنّ فقال ابن أبيّ: قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا، والله ما مثلنا ومثلهم إلاّ كما قال القائل: سمِّن كلبك يأكلك، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ، يعني بالأعزّ نفسه، وبالأذلّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، ثمّ أقبل على من حضره من قومه فقال: هذا ما جعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عن جعال وذويه فضل الطعام لم يركبوا رقابكم ولأوشكوا أن يتحوّلوا من بلادكم ويلحقوا بعشائرهم ومواليهم. فقال زيد بن أرقم: أنت والله الذليل القليل المبغض في قومك، ومحمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) في عزّ من الرحمن ومودّةٍ من المسلمين، والله لا أحبّك بعد كلامك هذا، فقال عبد الله: اسكت، فإنّما كنت ألعب. فمشى زيد بن أرقم إلى رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وذلك بعد فراغه من الغزو فأخبره الخبر، فأمر رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) بالرحيل، وأرسل إلى عبد الله فأتاه فقال: ما هذا الذي بلغني عنك؟ فقال عبد الله: والذي أنزل عليك الكتاب ما قلت شيئاً من ذلك قط، وإنّ زيداً لكاذب، وقال من حضر من الأنصار: يا رسول الله، شيخنا وكبيرها لا نصدق عليه بكلام غلامٍ من غلمان الأنصار، عسى أن يكون هذا الغلام وهم في حديثه، فعذره رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وفشت الملامة من الأنصار لزيد.

ولمّا استقل رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) فسار، لقيه أسيد بن الحضير، فحيّاه بتحيّة النبوّة ثمّ قال: يا رسول الله لقد رحت في ساعةٍ منكرةٍ ما كنت تروح فيها، فقال له رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): أوما بلغك ما قال صاحبكم، زعم أنّه إن رجع إلى المدينة أخرج الأعزّ منها الأذل، فقال أسيد: فأنت والله يا رسول الله تخرجه إن شئت، هو والله الذليل وأنت العزيز، ثمّ قال: يا رسول الله ارفق به، فوالله لقد جاء الله بك وإنّ قومه لينظمون له الخرز ليتوِّجوه، وإنّه ليرى أنّك قد استلبته ملكاً. وبلغ عبد الله بن عبد الله بن أبيّ ما كان من أمر أبيه، فأتى رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) فقال: يا رسول الله، إنّه قد بلغني أنّك تريد قتل أبي، فإن كنت لا بدّ فاعلاً فمرني به، فأنا أحمل إليك رأسه، فوالله لقد علمت الخزرج ما كان بها رجل أبرّ بوالديه منّي، وإنّي أخشى أن تأمر به غيري فيقتله فلا تدعني نفسي أن أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبي أن يمشي في الناس فأقتله، فأقتل مؤمناً بكافرٍ، فأدخل النار، فقال (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): بل ترفق به وتحسن صحبته ما بقي معنا.

قالوا: وسار رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) بالناس يومهم ذلك حتّى أمسى، وليلتهم حتى أصبح، وصدر يومهم ذلك حتى آذتهم الشمس، ثمّ نزل بالناس، فلم يكن إلاّ أن وجدوا مسّ الأرض وقعوا نياماً، إنّما فعل ذلك ليشغل الناس عن الحديث الذي خرج من عبد الله بن أبيّ، ثمّ راح بالناس حتى نزل على ماءٍ بالحجاز فويق البقيع يقال له بقعاء، فهاجت ريح شديدة آذتهم وتخوّفوها، وضلَّت ناقة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وذلك ليلاً، فقال: مات اليوم منافق عظيم النفاق بالمدينة، قيل: مَنْ هو؟ قال: رفاعة، فقال رجل من المنافقين: كيف يزعم أنّه يعلم الغيب ولا يعلم مكان ناقته، ألا يخبره الذي يأتيه بالوحي؟ فأتاه جبريل فأخبره بقول المنافق وبمكان الناقة، وأخبر رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) بذلك أصحابه وقال: ما أزعم أنّي أعلم الغيب وما أعلمه، ولكنّ الله تعالى أخبرني قول المنافق وبمكان ناقتي، هي في الشعب، فإذا هي كما قال، فجاؤوا بها وآمن ذلك المنافق، فلمّا قدموا المدينة وجدوا رفاعة بن زيد في التابوت.

قال زيد بن أرقم: فلمّا وافى رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) المدينة، جلست في البيت لما بي من الهمّ والحياء، فنزلت سورة "المنافقون" في تصديق زيد وتكذيب عبد الله بن أبيّ، ثمّ أخذ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) بأذن زيد فرفعه عن الرحل ثمّ قال: يا غلام صدق فوك ووعت أذناك ووعى قلبك، وقد أنزل الله في ما قلت قرآناً. وكان عبد الله بن أبي بقرب المدينة، فلمّا أراد أن يدخلها جاءه ابنه عبد الله بن عبد الله بن أبيّ حتى أناخ على مجامع طرق المدينة فقال: ما لك ويلك؟ فقال: والله لا تدخلها إلاّ بإذن رسول الله ولتعلمنّ اليوم من الأعزّ ومن الأذلّ، فشكا عبد الله ابنه إلى رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، فأرسل إليه أن خلَّ عنه يدخل فقال: أما إذا جاء رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) فنعم، فدخل، فلم يلبت إلاّ أيّاماً قلائل حتى اشتكى ومات.

فلمّا نزلت هذه الآيات وبان كذب عبد الله قيل له: نزلت فيك آيٌ شداد فاذهب إلى رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) يستغفر لك، فلوى رأسه ثمّ قال: أمرتموني أن أؤمن فقد آمنت، وأمرتموني أن أعطي زكاة مالي فقد أعطيت، فما بقي إلاّ أن أسجد لمحمّد فنزل: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ} إلى قوله: {لاَ يَعْلَمُونَ}(1).

                           *****

الرسول يعالج المشكلات بالأسلوب الإسلامي:

وقد نلاحظ في هذه القصّة صلابة الأنصار الذين كانوا مع رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، في رفضهم الخضوع للإثارة العاطفية التي حاول عبد الله بن أبي أن يثيرهم بها، في تحريك العصبية ضدّ المسلمين من المهاجرين، كوسيلةٍ من وسائل إيجاد خللٍ عميق في المجتمع الإسلامي، كما نلاحظ موقف زيد بن أرقم الشاب في شجاعته الأدبية أمام هذا المنافق الكبير بالرغم من تفاوت السنّ بينهما، في دلالة ذلك على روح التمرّد الإيمانية التي تتجاوز كلّ الأعراف في الوقوف ضدّ الأساليب النفاقية.

وهكذا نقف بكلّ تفديرٍ وإعجابٍ أمام موقف ولده عبد الله الذي استعدّ ليقتل والده بأمر رسول الله، إذا كان له أمرٌ بذلك، لئلا يقتله مسلم آخر، فيتعقَّد ضدّه بفعل النوازع النفسية العاطفية الطارئة التي يمكن أن تحدث له، بفعل عوامل الإثارة، ثمّ تأكيده الحاسم على منع أبيه دخول المدينة إلاّ بإذنٍ من رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، ليثبت له وللنّاس أنّ رسول الله وحده الذي يملك الأمر كلّه، فلا يملكه أحدٌ غيره ممّن قد تسوِّل له نفسه أن يجد في نفسه موقعاً للقوّة، أو يرى في موقعه موقعاً للعزّة المميزة على الرسول وعلى المسلمين.

ثمّ نلاحظ في أجواء الأسلوب الرسالي الذي عالَجَ به النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) المسألة كيف أثار القضية معه ليدفعه إلى تكذيب نفسه أمام الجماهير، وليستثير احتجاج المسلمين الآخرين، لإبعاد المسألة عن تأثيراتها المحتملة في داخل المجتمع بفعل العصبية الطارئة، ثمّ كان موقفه العفو العملي عنه، وتوجيه ولده بأن يحسن صحبته وأن يرفق به ما دام عضواً في المجتمع الإسلامي من موقع الانتماء الشكلي، لأنّ المرحلة كانت تفرض ذلك، لئلا يكون التصرّف العنيف سبباً في إثارة بعض المواقع الضعيفة تحت تأثيرردود الفعل العصبية المحتملة، لأنّ البعض كان لا يزال جديد عهدٍ بالإسلام، ما يجعله غير قادر على خوض التجربة الصعبة في الداخل.

ولا بدّ لنا ـــ كإسلاميين يخوضون الحركة الإسلامية في المجتمع الذي تتحرّك فيه بعض نماذج النفاق ـــ من أن ندرس التجربة الرسولية في هذا المجال، في تعامله مع المنافقين بالطريقة التي يمكننا من خلالها أن نحفظ سلامة الحركة في دائرة النظرية والتطبيق.

                           *****

 

 

ولله العزّة ولرسوله وللمؤمنين:

{وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} فإنّ العزّة تنطلق من مواقع القوّة التي تمنح صاحبها القدرة على إخضاع كلّ القوى له، والوقوف أمامها لمنعها من التحرّك في الاتجاه الذي يؤكّد قوّتها في مقابل قوّته. والله هو القاهر فوق عباده، والمهيمن على الأمر كلّه، وليس لعباده معه شيء، فهم الفقراء إليه في كلّ شيء، وهو الغني عنهم في كلّ شيء، ما يجعل العزّة له جميعاً، كما أكّد ذلك في كتابه العزيز، {وَلِرَسُولِهِ} الذي يستمدّ عزّته من الله، لأنّه يستمدّ قوّته منه، فينصره على الكافرين والمشركين، ويظهر دينه على الدِّين كلّه، {وَلِلْمُؤْمِنِينَ} في ما يعيشونه في داخل أنفسهم من الشعور بالقوّة من خلال اعتمادهم على الله وتوكّلهم عليه، ما يجعلهم في الموقع القويّ الذاتي المتحرّك في إرادتهم الصلبة الرافضة لأي ذلّ.

فالمؤمن لا يعيش الضعف الداخلي أمام كلّ التهاويل والضغوط التي يوجّهها إليه الكافرون والمشركون والظالمون، ما دام واعياً لإيمانه ولموقعه من ربّه وموقع ربّه منه، وذلك في ما عبَّر عنه الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) لصاحبه {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا} [التوبة : 40]، وفي ما حدَّثنا الله عن موقف المؤمنين {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً} [آل عمران : 173]، وفي ما يواجه به المؤمنون الكافرين في ساحة القتال {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} [التوبة : 52]، ما يوحي بأنّ المؤمن لا يخاف الموت، فلا يضعف أمام كلّ التهاويل التي تخوّفه بالموت.

                           *****

الإمام الصادق (عليه السلام) يستوحي الآية:

وقد استوحى الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) من الآية عمق العزّة في شخصية المؤمن، من خلال عمق إرادة العزّة في حركة إيمانه، فقد جاء في الكافي بإسناده إلى سماعة عن أبي عبد الله جعفر الصادق (عليه السلام) قال: إنّ الله تبارك وتعالى فوَّض إلى المؤمن أموره كلّها، ولم يفوّض إليه أن يذلّ نفسه، ألم ترَ قول الله سبحانه وتعالى ههنا {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} والمؤمن ينبغي أن يكون عزيزاً ولا يكون ذليلاً(1).

                           *****

العزّة في أجواء خطّ الحريّة:

وهكذا نستطيع أن نؤكّد خطّ العزّة الذي يلتقي بخطّ الحرية كخطّ مستقيم في الواقع الإسلامي، بحيث لا يملك المسلمون جماعات وأفراداً أن ينحرفوا عه إلى خطّ الذلّ، لأنّ المسألة تتّصل بأصالة الإنسان المسلم في شخصيّته وفي حركيّته وموقع الإسلام في الحياة. وفي ضوء ذلك، لا بدّ من أن يرسم المعنيون بحركة السياسة الإسلامية ومواقع التحدّي في ساحة الصراع، السياسية الإسلامية، على أساس انفتاح خطوطها على معنى العزّة، وانطلاق حركة الصراع في هذا الاتجاه، فيكون الخطّ الذي يبتعد عن ذلك خطّاً غير شرعي من جهةٍ، وخائناً لأمانة الإسلام والمسلمين من جهةٍ أخرى، مهما حشد له أصحابه، من التأييد الشعبي، لأنّ الشعب لا يملك أن يذلّ نفسه، كما أنّ القيادة لا تملك الحرية في أن تفرض ذلك على الواقع وعلى الناس، انطلاقاً من وعي هذه القيمة الروحية والسياسية التي تفرض العزّة لله ولرسوله وللمؤمنين، بالرغم من تهويلات المنافقين والكافرين، {وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} لأنّهم لا يعرفون عمق القوّة والحرية والعزّة في العقيدة الإسلامية، والعمق الروحي في شخصية المسلم، ما يجعلهم ينظرون إلى الواقع من خلال الضغوط المادية على المسلمين، ولا ينظرون إلى الإرادة الإسلامية الصلبة في ما هو التصميم والموقف الحاسم في مواجهة التحدّيات.

                           *****

11 ـــ موالاة المنافقين للكفّار:

{بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً*الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً} [النساء: 138 ـــ 139].

                           *****

معاني المفردات:

{بَشِّرِ}: أصل البشارة الخبر السارّ الذي يظهر به السرور في بشرة الوجه، فإذا قال شخص لآخر: بشارة، أو أبشرك، دون أن يذكر شيئاً فهم منه على سبيل الإجمال أنّ هناك شيئاً محبوباً، ولا يستعمل في المكروه إلاّ مع القرينة، كما في هذه الآية {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً}.

{العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً}: أصل العزّة الشدّة، ومنه قيل للأرض الصلبة الشديدة عزاز، ومنه قيل: عزّ عليَّ أن يكون كذا، أي شدّ عليّ، وعزّ الشيء، إذا صعب وجوده واشتدّ حصوله، واعتزّ فلان بفلان إذا اشتدّ ظهره به والعزيز القوي المنيع بخلاف الذليل.

                           *****

هذه جولة قرآنية حول المنافقين، تحاصرهم بالتهديد بالمصير الأسود الذي ينتظرهم عند الله وتبيّن ملامحهم الحقيقية في مواقفهم الذاتية في أنفسهم وفي الآخرين، ليكتشفهم الناس على حقيقتهم؛ فلا يخفى عليهم شيء من أمرهم، من خلال ما يتظاهرون به من خير وصلاح وإيمان. وهذا ما بدأته الآية الأولى بالبشارة بالعذاب الأليم؛ {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} وربّما كان استخدام هذه الكلمة "البشارة" للإمعان بالسخرية بهم، في ما كانوا يأملونه من نتائج ظواهر أعمالهم، وما يواجههم من مصير يخالف ذلك كلّه. أمّا ملامحهم، فقد يكون في مقدّمتها موالاتهم وموادتهم القلبية والعملية للكافرين، وابتعادهم عن المؤمنين، في المشاعر والأفكار والمواقف، فهم يألفون الكافرين ويرتاحون إليهم ويتعاونون معهم، انطلاقاً من وحدة الموقف {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} بينما لا يتحرّكون في مثل هذه الأجواء مع المؤمنين.

وهذه صفة أساسية في الحدّ الفاصل بين شخصية المؤمن وبين شخصية المنافق، لأنّ قضية الإيمان ليست مجرّد فكرة تطوف في الخيال، كما تطوف كثير من الأفكار التجريدية التي لا تمسّ الحياة الشخصية للإنسان في قليل أو كثير، بل هي فكرة للفكر وللشعور وللموقف، حيث تحدّد له علاقاته بالناس وبالأشياء وبالحياة، من خلال الخطّ الذي ترسمه، والجوّ الذي تخلقه، والأهداف التي تحدّدها. فإذا كنت مؤمناً، فإنّ معنى ذلك، هو أن تحوّل الإيمان إلى حركة للحياة في نفسك وفيمن حولك وما حولك، فتخضع كلّ خطواتك وأعمالك وعلاقاتك لما يتّصل به من قريب أو من بعيد، فتوالي من يوالي الله، وتعادي مَن يعادي الله، لأنّ ذلك هو السبيل الوحيد للحركة إلى الأمام، بينما يمثّل العكس خطّاً تراجيعاً إلى الوراء؛ فإذا واليت أعداء الله وعاديت أولياء الله، كنت سائراً في النهج الذي يضعف من موقف الإيمان، لأنّ مثل هذه العلاقة الشعورية والعملية تحقّق للكفر قوّة من خلال قوّتك وتُفقد الإيمان بعض قوّته؛ وذلك أمر لا يلتقي بالإخلاص لله ولرسوله وللمؤمنين، الذي يفرض عليك أن تتحرّك من خلال مزاج الإيمان، من خلال ما يفرضه من أجواء ومشاعر ومواقف، ولا تتحرّك من خلال مزاجك الخاص الذي يخضع للنوازع الشخصية البعيدة عن حركة الرسالة في النفس.

ثمّ يطرح الآية سؤالاً في معرض الإنكار: {أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ} لماذا يفعل هؤلاء ذلك؟ وما هو الهدف من ورائه؟ لأنّ موقف الموالاة لإنسان ما لا بدّ أن يخضع لرغبة أو رهبة أو تصوّر معيّن. فما هو هذا الهدف؟ هل يبتغون العزّة عندهم، لأنّهم يجدون لديهم بعض مظاهر القوّة، بما يملكونه من مال أو سلاح أو عدد؟ ولكن هذا يدلّ على جهد بحقيقة الإيمان، وما يوحيه من الشعور بعظمة الله المطلقة التي لا حدود لها إزاء ضعف الإنسان المطلق في جميع أموره وقضاياه. وما قيمة هذه المظاهر المحدودة للقوّة؟ وما أهمية هذه العزّة المستندة إلى هذه الأمور؟ لو فكّر هؤلاء فيها، لرأوا أنّها لا تمثّل إلاّ حالةً محدودة طارئة لا تلبث أن تذهب وتتحوّل إلى هباء لدى أقلّ عاصفة تمرّ في حياتهم؛ فكيف يستسلم هؤلاء الناس لمثل ذلك؟ وكيف يبنون عزّتهم وقوّتهم على هذا الأساس المنهار؟ {فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً}، فهو القوي الذي لا حدّ لقوّته، وهو الغني عن كلّ شيء الذي يفتقر إليه كلّ شيء في وجوده وفي استمراره، وكلّ شيء خاضع له، وكلّ شيء محتاج إليه، فمن أراد العزّة فعليه أن يرتبط به ويرجع إليه، ولا يتنازل عن أيّ موقف من مواقفه لمصلحة أيّ عبد من عباده، إنّها الحقيقة الواضحة الممتدة التي تلتقي بالآفاق الواسعة للشخصية الإيمانية، في عملية تحديد للخطوط البارزة للفكر وللعاطفة وللحياة.

                           *****

12 ـــ تفوّق خطورة المنافقين على خطورة الكفّار:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً*إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً*إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً*مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللّهُ شَاكِراً عَلِيماً} [النساء: 144 ـــ 147].

                           *****

 

معاني المفردات:

{سُلْطَاناً مُّبِيناً}: حجّة ظاهرة واضحة.

{الدَّرْكِ}: عبارة عن الطبقة أو الدرجة من الجانب الأسفل من الشيء.

{شَاكِراً}: يجازي على الشكر.

                           *****

في هذه الآيات لفتاتٌ ودعوة إلى المؤمنين بالابتعاد عن أساليب المنافقين وأعمالهم، وذلك بأن يشعروا بأنّ أولياءهم هم المؤمنون، أمّا الكافرون، فهم أعداء العقيدة والحياة، فلا يتّخذوا منهم أولياء بعيداً عن المؤمنين، لأنّ ذلك هو النفاق بعينه. والالتزام بالعقيدة يفرض الالتزام بنتائجها التي تقف في مقدّمتها الموالاة لأولياء الله والمعاداة لأعداء الله، في ما يختزنه الإنسان من مشاعر ومواقف. ويتصاعد الأسلوب القرآني في الآية، ليضع المؤمنين في أجواء التهديد بأنّ هذا الاتجاه في السلوك يجعل لله عليهم الحُجّة التي يعاقبهم على أساسها؛ وذلك بطريقة إثارة السؤال أمامهم في إيحاءٍ تهديد: {أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً}؟ وكأنّه يقول: وهل يستطيع الإنسان الضعيف أن يتماسك أمام هذا الموقف ا لصعب بين يديّ الله، ليفكّر المؤمنون بخطواتهم قبل أن يبدأوا طريق الانحراف.

ويضع القرآن المسألة في نصابها الصحيح حول مصير المنافقين، فهم في الدرجة السفلى من النار، ممّا يوحي بأنّ الكافرين قد يمتازون عنهم في ذلك، عندما لا يكونون في أعماق النار، حيث الحقارة والمهانة والعذاب الشديد والمصير المهلك الذي لا يجد معه نصيراً. ومن يخذل الله فهل له من نصير؟

ولعلّ في هذا التأكيد على موقع المنافقين في الدرك الأسفل من النار، إيحاءً بأنّ واقع النفاق الذي يمثّل الكفر في الباطن والإيمان في الظاهر، أكثر خطورةً من الكفر الظاهر، لأنّ هذا النوع من الاستخفاء بالإيمان الظاهري يمكِّن هؤلاء من الدخول إلى قلب المجتمع المسلم للاطّلاع على الثغرات الكامنة فيه، ممّا يفسح لهم المجال للكيد والدسّ والتخريب بأساليبهم الملتوية التي قد يغفل عنها المسلمون، لأنّهم يتحرّكون بينهم كجزء من مجتمعهم بحيث لا يشعر المسلمون بالحاجة إلى الحذر منهم، فيهيّئ لهم ذلك الفرصة الذهبية لإرباك المجتمع الإسلامي في العمق بالفتنة والانحراف والإفساد باسم الإصلاح، ولذلك كانت خطورتهم تتحرّك في خطّين، بينما تتحرّك خطورة الكافرين المعلنين للكفر في خطٍّ واحد، هذا بالإضافة إلى ما يدلّ عليه النفاق من انحطاط الشخصية، وسقوط الأخلاق، والنفسية المعقّدة.

ولكنّ الله يفتح للمنحرفين المنافقين باب التوبة والرجوع إليه والتخلُّص من المصير المحتوم؛ فإذا {تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ}، فغيّروا حياتهم على النهج الذي يحبّه الله ويرضاه، {وَاعْتَصَمُواْ بِاللّهِ}، ولم يلجأوا إلى ركن غيره، واعتبروا الارتباط بالله القاعدة التي تحدّد لهم علاقاتهم وسلوكهم ومواقعهم في الحياة، {وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ}، فلم يحوّلوا الدّين إلى سلعةٍ في المزاد؛ فإنّ الله سيحشرهم مع المؤمنين الذين يتحرّكون في طريق الإيمان من موقع الإصلاح في العمل، والاعتصام بالله في جميع الأمور، وإخلاص الدّين له في كلّ المواقف والتطلُّعات، وسيجدون هناك مع المؤمنين الأجر العظيم الذي يؤتيهم الله إيّاه برحمته ورضاه.

ثمّ يطرح أمامهم الحقيقة التي توحي بأنّ قضية عذاب الله للمنافقين ليست حاجةً منه تعالى إلى ذلك، فإنّه ليس بحاجةٍ إلى شيء، من موقع غناه المطلق عن كلّ خلقه؛ ولكنّها الحكمة التي تنظّم للخلق أمور معاشهم ومعادهم للحفاظ على توازنهم وتوازن الحياة من خلالهم؛ فإذا آمنوا بالله من أعماقهم، وشكروه بمشاعرهم وأعمالهم، وانسجموا مع إرادته في ذلك كلّه، فليس هو بمعذّبهم، إذ لا موجب لذلك؛ {وَكَانَ اللّهُ شَاكِراً} لمن يشكره ويؤمن به، {عَلِيماً} بما يصلح الخلق وما يفسدهم في جميع مراحل حياتهم من الناحية الفكرية والعملية.

                           *****

13 ـــ لعب المنافقين على المواقف:

{الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللّهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُواْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء: 141].

                           *****

معاني المفردات:

{يَتَرَبَّصُونَ}: ينتظرون. وقد مرَّ سابقاً.

{نَسْتَحْوِذْ}: نغلب ونستولي. والاستحواذ: الغلبة والاستيلاء، يقال: حاذ الحمار أتُنَهُ، إذا استولى عليها وجمعها، وكذلك حازها.

                           *****

هذه صفة من صفات النفاق، وهي صفة الانتهازيّ الذي يلعب على نتائج المواقف ويتّخذ لنفسه الموقع الذي يلتمس الربح على مستوى الدنيا من غير اعتبارٍ لآخرة؛ فهم يظلّون في حالة انتظارٍ وتربُّصٍ بالمؤمنين، فلا يحدّدون موقفهم بشكلٍ حاسم، بل ينتظرون البوادر التي تحدّد النتائج. فإن كان هناك فتح للمؤمنين، جاؤوا إليهم ليقولوا لهم في عملية تأكيد للموقف الذي يستحقّ الحصول على بعض غنائم النصر: ألم نكن معكم؟ ويقيمون كلّ الدلائل على ذلك. أمّا إذا كان للكافرين نصيب من الانتصار في المعركة، جاؤوا إليهم ليؤكّدوا لهم أنّهم هم الذين ساعدوا على الوصول إلى هذه النتائج ونصروهم على المؤمنين، بعد أن ملكوا أمر السلطة عليهم، فلم يمكنوا المؤمنين من الوصول إليهم والتغلّب عليهم. وقد أراد الله أن يوحي لهؤلاء بالشعور بهول الموقف الذي ينتظرهم. فإذا كانوا قد استطاعوا الّلعب على الألفاظ والمواقف في الحياة الدنيا، فكيف يكون موقفهم يوم القيامة، عندما يقفون غداً مع المؤمنين، ليكون الله هو الحاكم الذي يحكم بينهم؛ فأيّ جواب، وأيّ دفاع في ما لا جواب له ولا دفاع عنه؟! {وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} وحُجّة، لأنّهم لا يملكون الحُجّة على مواقفهم المنحرفة التي يواجهون بها خطّ الإيمان.

وتلك هي قضية المواقف المرتكزة على قناعاتٍ ثابتة أصيلة، والمواقف المبنية على الهوى والشبهة من دون أساس، من حيث النتائج الآخروية في موقف الحكم أمام الله، أو من حيث النتائج الدنيويّة في حركة الواقع في حياة الناس. وقد جاء في كتاب "عيون أخبار الرضا" للصدوق، بإسناده عن أبي الصلت الهروي عن الرضا (عليه السلام)، في قول الله جلَّ جلاله: {وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} قال: فإنّه يقول: ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين حُجّة، ولقد أخبر تعالى عن كفّار قتلوا نبيّهم بغير الحقّ، ومع قتلهم إيّاهم لم يجعل الله لهم على أنبيائه سبيلاً(1).

وفي الدرّ المنثور: أخرج ابن جرير عن عليّ (عليه السلام)، {وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً}، قال: في الآخرة(1).

وهذا هو ما يقتضيه سياق الآية عن حكم الله بينهم وبين المؤمنين في يوم القيامة.

وقد حاول الفقهاء أن يتجاوزوا هذا الجوّ الذي يوحيه سياق الآية إلى أبعد من ذلك، فاعتبروا الآية دليلاً على إلغاء كلّ الالتزامات المفروضة على المسلم للكافر، أو الأوضاع القانونية التي تمثّل لوناً من ألوان السلطة للكافر على المسلم. وتعدّى البعض ذلك إلى عدم جواز بيع المصحف للكافر، لأنّ منع سلطة الإنسان الكافر على المسلم يقتضي منع سلطته على القرآن بطريق أولى. وربّما ناقش بعض الفقهاء في بعض ذلك ولا سيّما بما يتعلّق بالقرآن الذي أراد الله الناس من الكفّار والمؤمنين أن يقرأوه أو يسمعوه لأنّه يضيء عقولهم بالحقّ، فلا بدّ من العمل على تسهيل وصوله إليهم بأيّة وسيلة ليطّلعوا عليه حتى مع وجود بعض السلبيات الناشئة عن ذلك بما يتّصل بما بطريقة احترامه، فهو كتاب للهداية لا للتجميد في نطاق معيّن من شكليات نترك الاحترام ممّا نترك تفصيله لأبحاث الفقه.

وقد نستوحي من ذلك، الموقف السياسي والاجتماعي الذي ينبغي أن يتّخذه المسلمون من سلطة الكافرين التي تحاول أن تحتويهم وتسيطر عليهم وتمنعهم من الوصول إلى أهدافهم الكبيرة في إقامة سلطة حكم الله على الأرض، وتعمل على إذلالهم وتدمير روحهم المعنوية، وتمزيق وحدتهم، وإهدار ثروتهم، ونهب مواردهم، وتعطيل دورهم الفاعل في قيادة الحياة، وخنق حريّتهم ومنعها من الامتداد في خطّ الدعوة إلى الله والعمل في سبيله؛ فإذا كان الله لن يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلاً، فإنّ المقتضى العملي لهذه الآية هو أن يعمل المسلمون على عدم إعطاء الكفرة السبيل عليهم وعلى أرضهم وأموالهم. ومن هنا كان من الضروري لهم أن يقفوا في مواقع المواجهة الحادّة ضدّ كلّ هذه الأعمال، من أجل أن يعطّلوا الخطّة ويمنعوا عملية الاحتواء والإذلال.

                           *****

14 ـــ توسُّل المنافقين بإنفاق المال لخداع المسلمين:

{قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ*وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ*فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ*وَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَـكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ*لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ} [التوبة: 53 ـــ 57].

                           *****

معاني المفردات:

{طَوْعاً}: الطوع: الانقياد بإرادة لم يحمل عليها.

{كَرْهاً}: الكرْه: المشقّة التي تنال الإنسان من خارجٍ في ما تحمل عليه بإكراه.

{وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ}: أي تهلك وتذهب بالموت.

{يَفْرَقُونَ}: فَرِقَ فَرَقاً: جزع واشتدّ خوفه.

{مَلْجَأً}: موضعاً يتحصَّن فيه.

{مَغَارَاتٍ}: جمع "مغارة" من غار الشي في الشيء، يغور إذا دخل منه في موضع يستره.

{يَجْمَحُونَ}: يسرعون.

                           *****

يحاول المنافقون أن يؤكّدوا مواقفهم التي توحي للآخرين من المسلمين بالثقة بهم، وذلك بإنفاق المال في الموارد التي تمثّل الصدقة والإنفاق في سبيل الله، ولكنّ الله يرفض ذلك منهم، ويؤكّد لهم وللمسلمين، بأنّ مثل هذا الإنقا غير مقبول لديه. ولذا فإنّه لا يحقّق لهم أيّة نتيجة إيجابية في مواقع القيمة الإيمانية لدى الله أو لدى المسلمين، لأنّ للإنفاق شروطاً تنطلق من داخل الروح التي تعيش في شخصية المنفق، في إيمانه بالله وإخلاصه لرسالته ولعباده المؤمنين، وهذا ما لم يتحقّق في أمثال هؤلاء.

لا تقبل نفقة من دون إيمان:

{قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً} فلا جدوى من ذلك ولا أثر له، ولا فرق بين أن ينطلق من موقع الاختيار والرخاء أو من موقع الكراهة {لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ} ولن تؤجروا عليه عند الله، ولن تحصلوا على رضاه، {إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ} في أعمالكم وأوضاعكم وعلاقاتكم النمحرفة {وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَبِرَسُولِهِ} فلم يؤمنوا من قاعدة الإخلاص والقناعة والجديّة، بل كان الأمر بالنسبة إليهم تمثيلاً في تمثيل، {وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى} لأنّها لا تتحرّك من حالةٍ روحيّةٍ منفتحةٍ على الله، في ما تمثّله من معراج المؤمن بروحه إلى الله في صلاته، بل كانت تتحرّك من أداء الدور التمثيلي الذي يخدع البسطاء ليخيّل إليهم أنّهم سائرون في خطّ الإيمان، ما يؤدّي إلى أن تكون حركتهم في الصلاة حركة الإنسان الكسول الذي ينطلق بتثاقلٍ وجهدٍ كبيرٍ، لأنّه يفقد الواقع الحقيقي الذي يحقّق له العمق والنشاط والامتداد، {وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ} فلا مجال للحديث عن إنفاقٍ طوعيٍّ، إلاّ من خلال الفرضية التي لا تخضع للواقع لأنّهم يفقدون الدوافع الإيمانيّة للإنفاق، فلا يتحرّك فيهم إلاّ لتحقيق الأغراض المشبوهة التي تصوّرهم بصورة الإيمان من موقع الخداع والحيلة، ولكن دون جدوى.

                           *****

الأموال والأولاد... مظاهر خادعة:

{فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ} مهما أعطتهم من ضخامة الموقع لدى الناس، أو جمال الصورة لدى أنفسهم، فإنّ الأموال لا تمثّل قيمةً كبيرةً، كما أنّ الأولاد لا يمثّلون امتيازاً وتشريعاً، لأنّ القيمة تتمثّل من خلال ما يقوم به الإنسان من جهةٍ مفيد على مستوى الحياة يرفع مستواه بإرادته واختياره. أمّا الامتياز الذي يحصل عليه، فهو ناشئ من قيمة المعرفة لديه وحركة العمل في نفسه، وهما مفقودان لدى هؤلاء، {إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}، في ما يواجههم من مشاكل ومصائب وبلايا، في جمع المال وتربية الأولاد، وتعقيد الأوضاع والعلاقات المتعلّقة بهما، ما يجعل من ذلك مصدر عذابٍ حقيقيٍّ، يفقد معه الإنسان لذّة امتلاكه لهما، ويمتدّ الأمر بهم في الاشتغال بمشاكل الأولاد والأموال، في حالات الفرح والحزن والّلذّة والألم، حتى يبتعدوا بذلك عن الله، ويعرضوا عن ذكره، ويغفلوا عن النتائج السلبيّة التي تنتظرهم في الآخرة عذاباً وعقاباً، ويفقدوا كلّ فرصةٍ للإيمان، حتى يأتيهم الموت، وهم غافلون {وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} بالله واليوم الآخر، جاحدون لتعاليمه وشرائعه، فيلاقيهم العذاب من حيث لا  يشعرون.

                           *****

الحلف بالله لتغطية حقيقة الكفر:

{وَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ} عندما يشعرون بعلامات الاستفهام تحاصرهم من كلّ جانب، في لفتات العيون، وهمسات الظنون، أو يواجهون الحذر الذي يتمثّل في علاقات المؤمنين بهم، حيث يحذّر كلّ واحدٍ منهم أخاه، من هؤلاء المنافقين الذين لا يوحون بالثقة، من أجل الابتعاد عنهم، والإعراض عنهم، ومواجهتهم بالشكّ والريبة والحذر، فيحاولون أن يقدّموا أيمانهم أمامهم ليؤكّدوا انسجامهم مع المجتمع في خطّ الإيمان ليكونوا جزءاً منه، ولكنّ الله يؤكّد خلاف ذلك، {وَمَا هُم مِّنكُمْ} لأنّ صفة المجتمع المؤمن هو الشجاعة في مواجهة العدوّ، والقوّة في الوقوف أمام التحدّيات، وليس ذلك موجوداً لديهم، {وَلَـكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} ويخافون من لقاء العدوّ، في أيّ حالٍ من الأحوال {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً} يلجأون إليه عندما يهاجمهم العدوّ ويتبعهم، {أَوْ مَغَارَاتٍ} يختفون في داخلها في عملية اختباء واختفاء {أَوْ مُدَّخَلاً} يدخلون فيه ممّا ينطلقون فيه من سُبُل النجاة {لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ} وانصرفوا نحوه {وَهُمْ يَجْمَحُونَ} أي يسرعون إليه لا يصرفهم عنه شيء، لأنّهم لا يجدون في أنفسهم أيّ أساس للشعور بالقوّة والثبات على الموقف، لأنّهم لا يتعلّقون من لقاء الله ورضوانه بشيء، ولا يجدون في داخل ذواتهم الانطلاقة الحقيقيّة للقوّة، فكيف يمكن أن يعيشوا روح هذا الثبات من قريبٍ أو من بعيد؟!

                           *****

15 ـــ من صور كبرياء المنافقين:

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ*سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [المنافقون: 5 ــ 6].

                           *****

معاني المفردات:

{لَوَّوْا}: التلوية تفعيل من لوى يلوي ليّاً بمعنى مال.

هذه صورةٌ من صور التكبّر والاعتداء العدواني التي يتمثّل فيها موقف المنافقين الاستعراضي إزاء شخصية الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) من خلال العقدة النفسية الطاغية المتأصّلة في شخصياتهم التي قد تتنفَّس في سلوكهم من حيث لا يشعرون.

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ} في ما يمكن أن يكون الناس من أهلهم وأصحابهم قد اطّلعوا عليه من نفاقهم الخفي، فيقدِّمون لهم النصح بأن يتوبوا ويشهدوا الرسول على توبتهم، ويؤكّدوا ذلك بالطلب إليه أن يستغفر لهم ربّه ليغفر لهم، فينالوا بذلك الرضوان من الله ورسوله، {لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ} استهزاءً بهذه الدعوة، أو إعراضاً عن خطّ الاستقامة، لأنّهم لا يؤمنون بالله ورسوله في عمق كيانهم، فلا يرون هناك خطأ يحتاج إلى تصحيح، ولا ذنباً يحتاج إلى استغفار.

{وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ} عن الحقّ، في ما هو الإسلام والإخلاص لله، {وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ} في ما يعيشون فيه من الإحساس بالكبرياء الذي قد يجدون أنفسهم فيه في الموقع الأعلى الذي لا يصل إليه الرسول، ولا غيره، من خلال موقعهم الطبقي أو المالي، أو من خلال العظمة الذاتية الفارغة التي يوحون بها لأنفسهم، أو يوحي بها إليهم غيرهم ممّن يتزلّفون للنفاق وأهله.

{سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} لأنّ المسألة في استغفارك لأيِّ إنسان في ما قد تفرضه عليك ضغوط المجاملة والمداراة التي قد يخيّل للبعض أنّك تخضع لها حرصاً على بعض التوازنات الاجتماعية في علاقتك بالمجتمع من حولك لمصلحة حركة الرسالة، ليست مسألة ذاتية الاستغفار في صدوره عنك، بل المسألة مسألة قابليّتهم لغفران الله لهم، لأنّ المغفرة بيده، وليس لك أن تستغفر إلاّ لمن كان يعيش هذه القابلية وهم المؤمنون العصاة، أمّا الكافرون الذين لا يؤمنون بالله، والمشركون الذين يشركون بعبادته غيره، فليس لهم طريق إلى رحمة الله ورضوانه، وبالتالي فليس لهم مجال في عفو الله وغفرانه، لأنّهم لا يتعلّقون من رحمة الله بشيء، ولا يجدون أنفسهم بحاجةٍ إلى رحمة الله، ما يجعل الفسق عندهم خطّاً يؤكّدون إرادتهم فيه، ويرفضون غيره، {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} لأنّ الله قد فتح لهم باب الهداية، فأغلقوها على أنفسهم، فلا يفتحها الله لهم من جديد مع بقاء إراداتهم الرافضة على حالها.

                           *****

16 ـــ الموقف من اعتذار المنافقين عن القتال:

{يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ*سَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ*يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 94 ـــ 96].

                           *****

معاني المفردات:

{نَبَّأَنَا}: أخبرنا.

{انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ}: رجعتم إليهم.

{رِجْسٌ}: نجس.

                           *****

يرجع النبيّ والمسلمون من المعركة ـــ وقد تكون معركة تبوك ـــ ويشعر المنافقون بالحرج الكبير أمامهم، فكيف يفسّرون تخلّفهم، وكيف يبرّرون موقفهم، وها هم المسلمون يرجعون من دون أن يصيبهم أذىً؟ ويبدأون بالاعتذار والتبريرات من أجل الحصول على الثقة المفقودة من جديد.

{يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ} ليبرّروا مواقفهم {قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ} لأنّ المسألة عندنا في ما يتعلّق بكلّ الخلفيات التي تكمن في داخل الموقف، واضحةً بيّنة لا تحتمل الشكّ حتى تسعوا إلى تحصيل القناعة من خلال مواقف الاعتذار والتبرير، {لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ} لأنّنا نعرف زيف كلّ كلامكم {قَدْ نَبَّأَنَا اللّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ} بكلّ ما تحدّثتم فيه وما اتّفقتم عليه من الكيد للإسلام والمسلمين، ممّا كنتم تظنّون أنّ السرّ لا يتجاوز أفرادكم {وَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} فيما ينطوي وراءه من خلفيّات، وفيما يتحرّك معه من أوضاعٍ وعلاقات {ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} حيث تواجهون الموقف الحاسم أمام الله، هناك في عالم الغيب الذي لا تحسّونه الآن، ولكنّه يمثّل الحضور الواضح الحقيقيّ في عالم الحسّ الذي يفرض نفسه على الإنسان، بعيداً عن كلّ ضبابيّة الأفكار وغموض المواقف. إنّه العالم الذي ينكشف فيه كلّ شيء أمام خالق كلّ شيء {فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} وستصدمكم المفاجأة غداً، في ما كنتم غافلين عنه من حقيقة الألوهيّة في هيمنتها على كلّ خفايا الناس وكلّ أسرارها، فسترون أنّكم مكشوفون لله في كلّ شيء، من أصغر الأشياء إلى أكبرها ومن أضعفها إلى أقواها.

ولن يهدأ قلقهم أمام الحساب العسير الذي ينتظرهم من قِبَل المسلمين، على ما انحرفوا عنه من خطّ الجهاد، فيحاولون أن يواجهوا الموقف بالحلف بالله، ليؤكّدوا سلامة موقفهم {سَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ} أي لتسكتوا عنهم، فلا تواجهوهم بالعتاب والتأنيب والمحاسبة الدقيقة على أعمالهم، فهم لا يطمعون ـــ في البداية ـــ أن تجدوا لهم العذر الملائم، بل قد يكتفون بالسكوت عن الحديث عن الموضوع من ناحية المبدأ. ويريد الله أن يوجّه المسلمين إلى أنّ ذلك لا يمثّل عقدةً مستعصية، لأنّ الله لا يريد لنا أن نجعل الموضوع شغلنا الشاغل الذي نثيره بمختلف الوسائل، لأنّ ذلك قد يمنحهم أهميّةً لا يستحقّونها. وقد تكون  المصلحة أن يكون الموقف منهم موقف اللّامبالاة إمعاناً في تحقيرهم وفي إلغاء دورهم المميَّز في المجتمع {إِنَّهُمْ رِجْسٌ} في ما تمثّله الكلمة من معنى القذارة المعنويّة المتّصلة بقذارة الفكر والروح والضمير، ما يوحي بأنَّ على الناس أن يواجهوهم من هذا الموقع وبهذه النظرة، تماماً كما هو الموقف أمام القذارة الحسيّة التي تفرض الابتعاد عنها بكلّ نفورٍ واشمئزاز {وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} انطلاقاً من خطّ العدل الذي يحاسب الناس على أعمالهم، إن خيراً فخير وإن شرّاً فشرّ.

{يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ} وهذه هي المرحلة الثانية التي يفكّرون في الوصول إليها، فإذا لم يذكرهم المسلمون بسوء، كان ذلك ضمانةً لهم ليدخلوا إلى عواطفهم من أقرب طريق ليحصلوا على الرضا عنهم، ولكنّ الله يقول للمسلمين إنّهم إذا أرادوا تحريك عواطفهم في خطّ رضاه، فينبغي أن لا يرضوا إلاّ عمَّن يرضى الله عنه، فإذا ابتعدوا عن ذلك، فلا يغيِّرون شيئاً من الموضوع {فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} الذين لم يقف بهم الفسق عند حدود الجانب العملي من الخطيئة، بل تعدّى ذلك إلى الجانب الفكري في خطّ العقيدة، حيث تحوّل إلى كفرٍ بالله ورسوله واليوم الآخر، فكيف يمكن أن يحصلوا على رضا اله في هذا الجوّ... وكيف يمكن للمسلمين أن يفكّروا بالرضا عنهم، في الخطّ الذي لا يرضى به الله عنهم في حساب الدنيا والآخرة؟!

                           *****

17 ـــ استهزاء المنافقين بالكافرين يكشف كفرهم:

{يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِئُواْ إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ*وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ*لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ} [التوبة: 64 ـــ 66].

                           *****

معاني المفردات:

{يَحْذَرُ}: الحذر: التحرّز ومجانية الشيء خوفاً منه.

{نَخُوضُ}: الخوض: دخول القدم في ما كان مائعاً من الماء والطين، ثمّ كثر حتى استعمل في غيره.

                           *****

ينطلق المنافقون بأسلوب الاستهزاء يحاولون من خلاله الإساءة إلى الإسلام والمسلمين بطريقة نفسية تهزم الروح القوية التي تنطلق بها المسيرة في خطّ المواجهة في طريق المستقبل، ولكنّهم يحاولون أن يتحقّق ذلك بطريقةٍ خفيّةٍ، لا تكشف نفاقهم، ليتمّ لهم الّلعب بحريّة في داخل المجتمع، ليعيثوا فيه فساداً من حيث لا يشعر بهم أحد. وكانت تجاربهم السابقة تملأ قلوبهم بالخوف من كشف أمرهم، في ما ينزل به القرآن في كلّ وقت ليحدّث المسلمين عن خفاياهم وأساليبهم الشيطانية في الكيد للإسلام والمسلمين. ولذا فإنّهم يعملون ما يعملون بروحٍ قلقةٍ حذرة، وبذهنيّةٍ خائفةٍ مرتكبةٍ، وذلك هو شأن المنافقين في كلّ زمان ومكان، في ما يريدون أن يحصلوا عليه من الثقة بهم، مع الحفاظ على مكاسبهم في اتجاه خطّ التآمر والكيد.

                           *****

حذر المنافقين من كشف القرآن لهم:

{يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم} من النوايا الخفيّة السيّئة التي تفضحهم في ما يريدون أن يفعلوا أو يتركوا في اتجاه الهدم والإضلال {قُلِ اسْتَهْزِئُواْ} ما امتدّ بكم المجال من أساليب السخرية والاستهزاء بالإسلام والمسلمين، فسيكشف الله لنا ذلك كلّه لنواجهه بالأساليب المناسبة التي تبطل مفعوله وتعطّل نتائجه {إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ} من خلال ما يظهره ويكشفه للناس.

وقد فسّر البعض من المفسّرين الحذر بأنّه وارد على سبيل السخرية، ولكنّه خلاف الظاهر، ويحاولون أن يبرّروا ذلك كلّه، بأنّ الأمر لا يمثّل حالةً جديّةً في مواجهة المجتمع المسلم في دينه وعقيدته، بل كلّ ما هناك أنّهم يحاولون الخوض في الحديث في ما يخوض به الخائضون من أفانين الكلام من دون أيّة عقدةٍ داخليّةٍ مضادّة، وأنّهم كانوا يلعبون كما يلعب الناس، فلا ينبغي محاسبتهم على ذلك، كما لو كان الأمر يمثّل خطّةً بعيدة المدى.

                           *****

عذر أقبح من ذنب:

{وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ}، ولكن هذا عذرٌ أقبح من ذنب، فهل يمكن أن تكون قضية الرسالة والوحي والرسول والجهاد في سبيل الله، من القضايا التي يخوض الناس فيهاكما يخوضون في أحاديث الباطل، أو يتلاعب بها اللاعبون كما لو كانت شيئاً من الهزل الذي لا يمثّل قيمةً حقيقيّةً في حياة الناس، إنّه العذر الذي يؤكّد حقيقة الجريمة، بسبب ما يمثّله من روحيّةٍ سلبيّةٍ ضدّ الله والرسول {قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} من خلال ما يمثّله الخوض والّلعب من عدم احترام واستهزاءٍ بطريقة غير مباشرة.

                           *****

اعتذار المنافقين غير مقبول:

{لاَ تَعْتَذِرُواْ} لأنّكم لا تملكون القاعدة التي تجعل من هذه الأعذار شيئاً حقيقياً يبرّر أفعالكم وأقوالكم بطريقةٍ حقيقيّةٍ، {قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} فقد أعلنتم الإيمان وأظهرتموه وعاملناكم بما يعامل به المسلمون أخوانهم من المسلمين، ولكنّكم كشفتم ما كنتم تبطّنونه من الكفر الداخلي، وبذلك كان هذا الموقف منكم كفراً بعد إيمان. {إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ} ربّما كانوا من التابعين المستضعفين الذين خضعوا لتأثير الكبار منهم، فقد يكون ذلك مبرّراً للعفو عنهم، {نُعَذِّبْ طَآئِفَةً} من هؤلاء المتمرّدين الذين انطلق النفاق من خلال تفكيرهم وتخطيطهم وتنفيذهم لكلّ الأعمال الإجراميّة ضدّ الإسلام والمسلمين، ولذلك فإنّهم يتحمّلون مسؤولية النتائج السلبيّة جُملةً وتفصيلاً {بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ} فيستحقّون كلّ عقاب الجريمة، في ما تؤدّي إليه من دمارٍ وتضليلٍ وخراب، وربّما فسّرت الفقرة، بالعفو عن التائبين منهم، والعذاب للمصرّين على العصيان والنفاق.

                           *****

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الهجرة    

فلسفة الهجرة في الإسلام ـــ دوافع الهجرة.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

1 ـــ أسباب عدم تشريع القتال في بدء الدعوة:

{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً*إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً*فَأُوْلَـئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوّاً غَفُوراً*وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} [النساء: 97 ـــ 100].

                           *****

معاني المفردات:

{تَوَفَّاهُمُ}: تتوفّاهم، حُذفت إحدى التائين تخفيفاً، والتوفي هو أخذ الشيء وافياً تامّاً، إمّا من عالم الحياة، وإمّا من علم اليقظة، وإمّا من عالم الأرض؛ كتوفي المسيح وأخذه، والتوفي في الآية هو المعنى الأول.

{ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ}: بخسوا أنفسهم حقّها ولم ينصفوها، وعرّضوها للهلاك في ما ساروا في طريق الانحراف في العقيدة والعمل، فأوردوها الخسارة والعقاب.

{فِيمَ كُنتُمْ}: في أيّ شيء كنتم من دينكم، وهو سؤال تقريري توبيخي عن الحال التي كانوا يعيشون فيها من الالتزام الديني.

{مَأْوَاهُمْ}: المأوى المرجع من أوى إلى منزله يأوي أوياً إذا رجع إلى منزله.

{حِيلَةً}: الحِذق في تدبير الأمور، فهي ما يتوسّل به إلى الحيلولة بين شيء وشيء، أو للحصول على شيءٍ آخر أو حال آخر. وغلب استعمالها في ما يكون خفيّةً، وفي الأمور المذمومة.

{مُرَاغَماً}: مواضعاً للهرب تُرغَمُ فيها الصعوبات والعقبات وتذلّ ويُرغَمُ فيها أنف القوى الطاغية، "والمراغم المضطرب في البلاد والمذهب، وأصله من الرغام وهو التراب".

                           *****

{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} فقد جاءتهم الملائكة لتتوفّاهم بأمر الله الذي أوكل إليهم أمر الموت، وكانوا في حالة الظلم لأنفسهم لأنّهم انحرفوا في العقيدة والعمل. وهذا ـــ أعني ظلم النفس وهو تعبير قرآني مميّز عن الكفر والضلال الذي يؤدّي بالإنسان إلى الهلاك، ممّا يجعل السير في طريقه ظلماً للنفس وتعريضاً لها للعذاب الأليم. ولم يترك الملائكة هذه الحالة بدون حساب، فقد أوكل الله إليهم أمر التحقيق في أعمال الناس الذين يتوفّونهم؛ وبدأت عملية التحقيق {قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ} ما هي الأجواء التي كنتم تتحرّكون في داخلها؟ وما هي الأسباب التي أدّت بكم إلى هذا السلوك؟ وما هي مبرّراتكم التي تقدّمونها بين أيديكم لتدافعوا بها عن أنفسكم؟ {قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ}، فلم تكن لنا قدرة على مواجهة هؤلاء الناس الذين يفرضون علينا العقيدة الباطلة والسلوك المنحرف، ولا يسمحون لنا بالتعرّف على العقيدة الحقّة، لأنّهم يغلقون عنّا سبل المعرفة من جميع الجهات، فلا نجد أمامنا إلاّ الباطل الذي يحيط بنا من بين أيدينا ومن خلفنا وعن يميننا وعن شمالنا، ولا نملك ـــ في الوقت ذاته ـــ حرية الحركة، في ما نريد أن نقوم به من عمل في نطاق الحقّ والهدى، لأنّهم يحدّدون لنا الساحة التي نتحرّك فيها ويحيطونها بأسلاك شائكة، تمنع النفاذ منها إلى ساحات أخرى.

{قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا}؟ ولم يقتنع الملائكة بالجواب، بل حاولوا التوسُّع في التحقيق، لتحديد الحالة التي تخضع لحساب المسؤولية في واقعهم الفكري والعملي؛ فسألوهم عن إمكانيات الفرص البديلة للواقع الذي عاشوه، وعمّا إذا كانت هناك أرض أخرى حرّة، لا يسيطر عليها المستكبرون؛ بل تنطلق فيها الحرية الفكرية والعملية بأوسع مداها، ممّا يتيح لها مجال المعرفة الحرّة والسلوك الحرّ، وكان السكوت هو الردّ الذي قابلوا به هذا السؤال، لأنّهم لا يملكون الإنكار أمام الحقيقة الحاسمة التي كانت تتمثّل في حياتهم؛ فقد كانت لهم مجالات للهجرة إلى المواقع الجديدة التي يخرجون بها من حالة الاستضعاف هذه، ولكنّهم استسسلموا لحالات الاسترخاء والكسل والخشية من المتاعب الجسدية والمالية ونحوها، وعاشوا في خدمة المستكبرين؛ وبذلك حقَّت عليهم كلمة الله، وقامت عليهم الحُجّة {فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً}.

أمّا إذا كان هذا الإنسان لا يملك الفرصة للهجرة ليتحرّر من ضغط القوى المستكبرة عليه، كما في الكثير من النماذج البشرية المسحوقة التي لا تملك الوسائل المتحرّكة لاستعمال الحيلة في الخروج من المأزق، ولا تهتدي السبيل للهجرة، لعجز في الطاقة الجسدية، أو لضعف في الإمكانات المادية والمعنوية؛ فهؤلاء قد يجدون بعض العذر عند الله، وهذا ما عبّرت عنه هذه الآية بأسلوب الاستثناء من القاعدة السابقة.

{إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً*فَأُوْلَـئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوّاً غَفُوراً} مراعاةً لظروفهم الصعبة، وربّما كان التعبير بكلمة {عَسَى} التي لا توحي بالجزم، ليظلّ الإنسان في حالة استنفارٍ دائمٍ لقدراته وإمكاناته، فلا يسترخي أمام حالة العجز بشكلٍ سريع. {وَكَانَ اللّهُ عَفُوّاً غَفُوراً} فقد سبقت رحمته غضبه، في ما ينحرف به الناس عن الخطّ نتيجة هفوة أو ضعف أو عجز. فإنّه لا يكلّف نفساً إلاّ وسعها، وهو خير الغافرين.

                           *****

ولا بدّ لن من إيضاح ما أشرنا إليه ضمن حديثنا هذا، وهو أنّ الاستضعاف قد يكون في العقيدة؛ وذلك في الحالات التي لا يملك فيها الإنسان وسائل المعرفة للانفتاح على ما هناك من أفكار وأديان وشرائع، وقد يكون الاستضعاف في العمل والسلوك، وذلك في المجالات التي تكون فيها إرادته مسحوقة تحت ضغط إرادة أخرى قاهرة؛ وفي كلا الحالين يتحدّد العذر بإمكانات التخلّص من الطوق المضروب حول الإنسان بالهجرة إلى أماكن أخرى، أو بالانتظار إلى وقتٍ آخر، أو بغير ذلك من الوسائل العملية للخروج من المأزق، فمع توفّرها لا عذر للإنسان بالبقاء في حالة الضعف، أمّا مع عدم توفّرها، فإنّ الله هو العفو الغفور.

                           *****

{وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً} هذه هي الحقيقة التي يؤكّدها القرآن في هذه الفقرة من الآية، وخلاصة فكرتها أنَّ قضية القوّة والضعف لا يمكن أن تخضع للحدود الجغرافية التي تحيط الإنسان وتضغد على حركته، بل يمكن للإنسان أن يمتدّ إلى أماكن أخرى من الأرض، ليجد فيها السعة التي لا تضيق نشاطه، والفرص التي يستطيع ـــ من خلالها ـــ أن يرغم أنفق القوى الطاغية الكافرة. وتلك هي قصّة كلّ الدعوات الخيّرة والرسالات الكبيرة، التي لم تستطع أن تتقدّم إلى أهدافها في المحيط الذي انطلقت منه، ولكنّها استطاعت أن تمتدّ إلى أبعد مدى في الأرض، فتفسح لخطواتها المجال الذي تسير فيه بسرعة فائقة، بعيداً عن كلّ الضغوط والتحدّيات؛ وبذلك انطلق الإسلام إلى خارج مكّة، بالهجرة التي كانت الحدّ الفاصل بين عهدين للإسلام، عاش أحدهما الاضطهاد والضغط والتنكيل إلى ما يشبه الاختناق وتحرّك في ثانيهما من يثرب حتى انتشر في الآفاق الواسعة من العالَم.

إنّ الإسلام يريد أن يثير في نفوس العاملين أنّ اضطهاد الدعوة، في أحد مواقع العمل، لا يعني استحالة الحركة، لأنّ هناك مواقع أخرى للحرية يمكن الانتقال إليها من أجل التحرّك بالإسلام إلى آفاق جديدة وانتصارات كبيرة. إنّ العاملين لا يعيشون ضيق الأُفق في النطاق الإقليمي الذي يتحرّك فيه عملهم الرسالي، بل يعتبرون ساحتهم بحجم ساحة الرسالة، وذلك هو حجم العالم كلّه بكلّ مجالاته ووسائله وآفاقه. فليس للإنسان أن يتجمّد عند فرصته، وليس له أن يختنق في زاوية، وليس لخطواته أن تتبعثر في أيّة ساحة؛ فمن حقّه أن يدخل كلّ بلد، ومن واجبه أن يكتشف كلّ أُفق، لينطلق فيه إلى البعيد البعيد من أهداف الإسلام. وفي ضوء ذلك، لا بدّ له من أن يحرّك طاقاته وينمّيها بالمستوى الذي يستطيع من خلالها أن يستوعب الحركة في حجم العالم ما أمكنه ذلك.

{وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ} والهجرة إلى الله ورسوله تتمثّل في كلّ رحلةٍ يقوم بها الإنسان في خدمة الإسلام والمسلمين، وفي القيام بواجب شرعي من عبادةٍ ونحوها، وفي إنقاذ أيّة فئة محرومة أو مضطهدة من الفئات التي أوجب الله علينا إنقاذها. فمن خرج ليطلب العلم من أجل أن يرفع مستوى المعرفة لدى الناس، من خلال ما يقرّبهم من الله ويبعدهم عن الشيطان، وينمّي لديهم القدرات العلمية التي تفتح آفاقهم على العزّة والحرية والكرامة التي يحبّها الله لعباده المؤمنين، فقد خرج مهاجراً إلى الله ورسوله؛ ومَن خرج ليجاهد في سبيل الله، أو ليقضي حاجة مؤمن، أو ليغيث ملهوفاً، أو ليقوّي مستضعفاً، أو ليهدي ضالاًّ، أو ليقوم بعملية إصلاح بين الناس، أو ليدخل السرور على الناس، أو ليشارك في حكم عدل، أو ليقوم بأيّ عمل من الأعمال التي يحبّها الله ورسوله، أو ليحجّ بيت الله ونحو ذلك. فهو من المهاجرين إلى الله ورسوله. وهكذا تكون حياة الإنسان في سبيل كلّ الأهداف الرسالية الكبيرة هجرة إلى الله ورسوله، حتى ولو كان واقفاً في مكانه، لأنّ الهجرة ليست فكرة تخضع لحركة الإقدام من موقعٍ إلى آخر، بل تشمل حركة العمل التي تنقل المجتمع والحياة من مرحلةٍ متأخّرةٍ إلى مرحلةٍ متقدّمةٍ، ومن حالةٍ شريرةٍ أو كافرةٍ، إلى حالةٍ خيّرة أو مهتدية، لأنّ القضية مرتبطة بالمضمون والهدف لا بالشكل والموقع. وإذا تحقّق للإنسان مثل هذه الهجرة، بجميع أسبابها، كانت حياته سائرة في خدمة الله، لأنّه لا يعمل من أجل مطامحه الذاتية، بل من أج رسالة الله العامّة. فإذا أدركه الموت وهو في الطريق، كان موته في خطّ العمل، وبذلك كان أجره على الله. وهذا ما عبَّرت عنه الآية في قوله تعالى: {ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رَّحِيماً}.

وجوب الهجرة من كلّ بلد يضعف فيه الإنسان دينيّاً:

وربّما تحدّث المتحدّثون ـــ ولا سيّما الفقهاء منهم ـــ عن وجوب الهجرة من كلّ بلدٍ يضعف فيه الإنسان دينياً ممّا قد يؤدّي به ـــ في نهاية المطاف ـــ إلى الخروج من الدين ـــ وذلك من خلال الاستيحاء من الآية، لأنّ مسألة ضغط المستكبرين لا خصوصية له إلاّ من حيث النتيجة السلبية التي قد تترتّب على البقاء في مواقع سلطتهم، فإذا عاش الإنسان في بلد تنطلق فيه قوّة الكفر في امتداد فكره وسيطرة قيمه وأخلاقه وعاداته بالمستوى الذي يضغط فيه على المؤمن وعلى أهله ويحاصره في أوضاعه الخاصة والعامة بحيث لا يملك التخلُّص من التأثّر به ـــ ولو بشكلٍ لا شعوري ـــ ممّا قد يؤدّي ــ في نهاية المطاف ـــ إلى ما يشبه الكفر إذا لم يؤدّ به إلى الكفر المباشر، وذلك في استسلامه الثقافي لثقافة الكفر وضعفه الروحي امام روحيّته، وانحرافه الأخلاقي أمام أخلاقه، وإذا كان يمكن أن يحفظ نفسه بعض الشيء من سيطرة الواقع الكافر على شخصيّته، فإنّه لا يملك أن يحفظ أولاده وأهله من ذلك، لأنّهم لا يملكون أيّة مناعةٍ ذاتية ضدّ السقوط تحت تأثير هذا الواقع الكافر أو الضال، ممّا يجعل من بقائه في هذا البلد أو ذاك سبباً في السقوط الفردي أو العائلي إسلامياً، وانحرافاً عن مدلول الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم : 6].

ولعلَّ هذا هو ما نشاهده في هجرة الكثيرين من المسلمين إلى بلاد الغرب الذي يخضع في حضارته وقيمه وأوضاعه لفكر يختلف كثيراً عن فكر الإسلام، ولعادات وتقاليد ومناهج مضادّة للإسلام في المبدأ والتفاصيل وقد انحرف الكثيرون منهم فكرياً وأخلاقياً وروحياً بحيث عادوا مسلمين من دون إسلام في واقع الآباء الذي بقي الانتماء حيّاً في أشخاصهم بطريقة تقليديّة، أمّا الأبناء، فقد ابتعدوا ابتعاداً تامّاً عن الإسلام حتى لم يبقَ لهم من الإسلام شيء إلاّ ما يردّدونه من بعض الكلمات في دائرتهم العائلية بفعل المجتمع الذي يتحرّكون فيه، والمدارس التي يتعلّمون فيها، والأوضاع التي يعيشون في داخلها ويتأثّرون بتفاصيلها.

ونحن نوافق هؤلاء الفقهاء على هذا الحكم، لأنّ قضية الهجرة الواجبة في مورد الآية لا خصوصية لها إلاّ من خلال الضعف الذي يعيش فيه المستضعفون تحت تأثير المستكبرين بما يؤدّي إلى ضلالهم، فتشمل كلّ حالة مماثلة من حيث العيش في دائرة الاستكبار الثقافي والتربوية والاجتماعي والأخلاقي والسياسي بما لا يملك الإنسان المؤمن الثبات على دينه في ساحاته، وهذا هو الذي أشار إليه الحديث المأثور: "لا تعرّب بعد الهجرة"(1)، باعتبار أنّ التعرّب يمثّل حالة البعد عن مصادر الثقافة الإسلامية والقوّة الروحية والمجتمع العاصم من الانحراف، فيتحوّل الإنسان ـــ بفعله ـــ إلى شخص يشبه الأعراب الجاهليّين الذين لا يملكون الوعي الإسلامي الثقافي والالتزام الديني والاستقامة الأخلاقية، ممّا تمثّل الهجرة الخروج منه. وربّما كان وجوب الهجرة في صدر الإسلام منطلقاً من التخطيط الإسلامي لبناء الشخصية الإسلامية للمسلمين في دائرة المجتمع النظيف الذي يحميمهم من كلّ قذارات الجاهلية، ليكون نموّهم بين المسلمين نموّاً طبيعياً يتمثّلون فيه فكر الإسلام وقيمه وعاداته وأخلاقيّاته بشكلٍ دقيقٍ، هذا بالإضافة إلى ما يريده الإسلام في تشريعه الهجرة من مكّة إلى المدينة من تقوية المجتمع الإسلامي بتجميع كلّ أفراده وجماعاته في الموقع الإسلامي الجديد لمواجهة التحدّيات الكبرى التي يفرضها الشرك على الإسلام وأهله، وقد جاء عن أمير المؤمنين (عليه السلام) "والهجرة قائمةٌ على حدّها الأوّل"(1)، لأنّ الظروف التي فرضت الهجرة في صدر الإسلام، تفرض الهجرة في المدى الزمني في حياة المسلمين، كما أنّ القضايا التي أُريد تأكيدها وتأصيلها هي نفسها القضايا التي يُراد تركيزها في المراحل الإسلامية في حركة الخطّ الإسلامي في الواقع، وأمّا الحديث الذي روي عن النبيّ محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) "لا هجرة بعد الفتح"(2)، فالظاهر أنّه مخصوص بالهجرة من مكّة، لأنّها تحوّلت إلى بلد إسلامي في مجتمعه وسلطته، فلا مشكلة في البقاء فيه، بل ربّما كان ذلك ضرورةً في واقعه الجديد.

                            *****

المستضعفون وضرورة تحريك الإمكانات المتاحة:

أمّا المستضعفون من هؤلاء المسلمين الذين لا يستطيعون حيلةً ولا يهتدون سبيلاً إلى الهجرة من بلاد الكفر البقاء في بلاد الإسلام يضطرون ـــ بفعل بعض الضغوط الساحقة ـــ البقاء في بلاد الكفر، فيجب عليهم أن يحرِّكوا كلّ إمكاناتهم لتنمية العناصر الإسلامية في مجتمعهم، بإيجاد المؤسّسات الإسلامية كالمساجد والمدارس والنوادي الثقافية والرياضية والاجتماعية التي تحرّك الروح الإسلامية، والتربية الدينية التي تثبّت لهم إيمانهم وتحمي إسلامهم، وتصنع منهم دعاة إلى الإسلام في دار هجرتهم، ليكونوا عناصر قوّة للإسلام بدلاً من أن يكونوا عناصر ضعف له في استسلامهم للكفر.

ولعلّ من الضروري أن يبادر المسلمون من خلال قياداتهم إلى القيام بالمشاريع الإسلامية الثقافية والتربوية ومساجد العبادة وغيرها في بلدان الغرب أو غيره من البلدان غير الإسلامية، لأنّ الحاجة قد أصبحت ملحّةً لسكن المسلمين فيه من خلال حاجاتهم الاقتصادية والثقافية التي تفرض الهجرة إليها، بحيث تحوّل الوجود الإسلامي العددي في بعض البلاد الغربية إلى قوّة من الدرجة الثانية بالنسبة إلى الموقع الديني مقارناً بالدين الآخر. هذا مع ملاحظة أنّ التطوّرات السياسية والاقتصادية والثقافية والأمنية أصبحت تفرض على المسلمين الانفتاح على العالَم كلّه من أجل تجميع عناصر القوّة في كلّ أوضاعهم العامة والخاصة، ممّا يجعل انتقالهم إلى بلدان العالم ضرورة حضارية على جميع المستويات، لأنّ بعض الحالات الضاغطة في مجتمعات الكفر قد تؤدّي إلى عزلة المسلمين عن العالم إذا أرادوا أن يخضعوا لبعض التحفُّظات التي يمكن إزالتها بالتخطيط لإيجاد الأجواء الإسلامية التي تؤكّد حماية الواقع الإسلامي من الانحراف.

                           *****

2 ـــ دوافع الهجرة:   

{وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ*الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [النحل: 41 ـــ 42].

                           *****

هذا نوع من الناس، عاش المعرفة فكراً وإيماناً، وتحمّل مسؤوليّتها جهداً وعناءً وتشرّداً، من أجل أن يحوّلها إلى فكر يشمل الناس كلّهم، وإلى إيمان يحتوي الحياة كلّها من موقع المسؤولية الرسالية التي أراد الله لعباده أن يحملوها إلى أنفسهم وإلى الآخرين، فهو لم يشأ أن ينكمشوا داخل ذواتهم ليكتفوا بما لديهم من المعرفة لحياتهم الخاصة، بل أراد لهم أن يتحمّلوا مسؤولية الدعوة إليها، مهما كلّفهم ذلك من جهد. وهؤلاء هم المهاجرون الذين تمرّدوا على العذاب في سبيل الثبات على إيمانهم بالإسلام، وصمدوا أمام التحدّيات التي واجهتهم بكلّ قوّة، كي لا تنحرف بهم عن خطّ الدعوة إلى الله. وهاجروا من مواقع الضعف التي عاشوا فيها الحصار المادي والمعنوي، إلى المواقع التي يعملون فيها على صنع القوّة، بهدف تركيز قواعد الإسلام في المجتمع الجديد، ثمّ الالتفاف بالقوّة الجديدة على المجتمع القديم.

{وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ}، هؤلاء الذين هاجروا من مكّة إلى المدينة، من أجل أن تكون العبادة لله وحده، ومن أجل أن يكون الدِّين كلّه لله. والهجرة في الله، هي الهجرة في سبيله ومن أجله، على أساس حماية دينه ودعوته من ضغط الضاغطين، وتعسّف المتعسّفين. فقد هاجر هؤلاء، لا طلباً للراحة، ولا هروباً من المسؤولية، كما يفعل بعض الناس، ممّن لا يريدون أن يواجهوا مشاكل التحدّي ونتائجه السلبيّة، بل هاجروا، بعد أن ثبتوا وقتاً طويلاً، وبعد أن ظلموا من قِبَل الكافرين، وتحمّلوا الكثير من العذاب، من موقع الإصرار على الثبات في الإيمان، والاستمرار في الدعوة، حتّى اهتزّت الأرض تحت أقدامهم، فلم يعد لهم مجالٌ للبقاء هناك، أو التأثير في الدعوة، في الوقت الذي كانت فيه الأرض الجديدة تنتظرهم، ليقوموا بمسؤولية الدعوة فيها، وليجاهدوا فيها ضدّ التحدّيات الكافرة التي بدأت تحشد كلّ قوّتها أمام الدعوة الإسلامية الجديدة.

وليست الآية ـــ في مضمونها الرسالي ـــ مختصّةً بالمهاجرين الأوليّين الذين هاجروا من مكّة إلى المدينة، أو إلى الحبشة، بل تشمل كلّ الذين يهاجرون في الله، ممّن تضطهدهم القوى الكافرة أو الطاغية، لأنّهم قالوا ربّنا الله ودعوا إليه وجاهدوا في سبيله، فيتحرّكون إلى مواقع أخرى، من أجل التخلّص من ضغط الحصار على الكلمة والحركة وعلى الدعوة.. ليأخذوا لأنفسهم حرية الحركة في الساحة، من أجل بناء قوّةٍ جديدةٍ، ومجتمع إسلاميّ جديد. إنّ الهجرة تمثّل الخطّ الطويل المستمرّ الذي تتلاحق فيه حركة الأُمّة في أجيالها المتعاقبة، في سبيل أن يكون الدّين كلّه لله، وأن تتحرّك الحياة من خلال وحيه، وأن يلتقي الناس حول منهاجه وشريعته. وبهذا كان وعد الله مستمرّاً للمهاجرين الجُدد، كما كان للمهاجرين القدامى، الذين ظُلِموا {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} بما نكفل لهم من التخلُّص من الضغوط الهائلة التي كانوا يواجهونها، وبما نحقّق لهم من النصر الذي يطمحون إليه، وفي ما نمهّده لهم من الوسائل التي يحتاجون إليها في تحقيق الغايات الكبيرة التي يحملون رسالة تحقيقها في الحياة {وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ} من أجر الدّنيا، لأنّه الخير الذي لا شرّ معه، والفرح الذي لا حزن فيه، والسعادة التي لا شقاء معها، لأنّه يلتقي برضوان الله الذي يتفايض على روح المؤمن بالفرح الروحي الذي لا يستطيع الإنسان أن يعرف مداه، في ما يحقّق له من أحلام ورغبات ممّا لا عين رأت ولا أُذُنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر، فلا تعرف نفس ما أخفى لها من قُرّة أعين.

{لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} ذلك أنّ الإنسان في الدنيا، خاضعٌ في وعيه وتقديره ورغبته لمشاعره الحسيّة، ما يجعل كلّ طموحه، في ما ياخذ به من شؤون العمل، ويتحرّك فيه من خطّ السير، يدور في ذلك الفلك، وبذلك تكون تطلُّعاته في الساحة العملية أقرب إلى آفاق الدنيا منها إلى آفاق الآخرة.. ولذا جاء الوحي القرآني، ليربطهم بالجانب الآخر من الصورة، وهو جانب الآخرة في ملذّاتها ومشتهياتها وآفاقها الروحية، وليعرّفهم ذلك بالفكر والإيمان، لأنّهم لا يستطيعون أن يتعرَّفوا عليه بالحسّ بفرض خلق التوازن لديهم في حساب الأرباح والخسائر، بين ما يحملونه من مسؤولياتٍ، ويتحمّلونه من حرمان قد تفرضه عليهم ساحة العمل، وبين ما سيحصلون عليه من أرباح ومنافع في الآخرة، نتيجة طاعة الله في خطّ الدعوة والجهاد، فيقودهم ذلك إلى المزيد من التحمُّل والصبر والإصرار على تحمّل الآلام في سبيل الله.

{الَّذِينَ صَبَرُواْ} وعاشوا آلام الصبر، في العمق من مشاعرهم، في مواجهة فراق ما كانوا قد اعتادوا عليه من نمط عيش في أوطانهم التي فارقوها، حيث ذكريات الصبا، ومراتع الطفولة، والأجواء الاجتماعية الحميمة في وسط الأقرباء والأصدقاء الذين كانوا يحيطونهم بكلّ حبٍّ وحنانٍ ورعاية.. وقد فقدوا ذلك كلّه، وانتقلوا إلى أرض جديدة، لا تربطهم بها أيّة مشاعر خاصة، بل كلّ ما هناك، أنّها أرض الرسالة، وساحة الجهاد، ومجتمع الإسلام، ما يفرض عليهم الضغط على مشاعرهم الخاصة، واستبدالها بمشاعر عامّة، تحوّل الجانب الشعوري فيهم إلى جانب حيٍّ، يتغذّى بالعلاقات الإيمانية الإنسانية، بدلاً من العلاقات الذاتية. من أجل صنع الإنسان الجديد الذي لا يمثّل الحرمان من أجل الدعوة إلى الله عنده حالةً سلبيةً في ذاته، بل يمثّل لوناً من ألوان الفرح الروحي الذي يعيش الّلذّة في رضا الله، أكثر ممّا يعيشها في إرضاء نوازعه الذاتية. من هنا، فإنّ قيمة الصبر، تكمن في ما يحقّقه للمؤمن من أجواء روحية تعطيه إمكانية التماسك، وامتداد التحرّك، ومواجهة الصعوبات بقوّة، وتحدّي التهاويل باطمئنان، وانتظار المستقبل بثقة، بالرغم من كلّ ما يثيره الآخرون أمامه من تهاويل الخطر، حتى إذا وقف أمام الأشباح المخيفة التي تحملها تهاويل المستقبل الغامض، كان التوكّل على الله هو السبيل للحصول على حالة الهدوء النفسي، والثقة بالنصر، من خلال الثقة بالله. وهذا ما وصف به الله المهاجرين الصابرين {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} بما يعنيه مضمون التوكّل، من إرجاع الأمور كلّها إلى الله، في ما لا يملك الإنسان الوسيلة العملية للتخلّص منه، أو لمواجهته بالإمكانات العاديّة، لأنّ الله هو الذي يملك الأمر كلّه وهو المستعان في كلّ شيء. وبذلك فلن تتوقّف المسيرة بالتوكّل، بل تبقى مستمرّة في خطّ الدعوة إلى الله والجهاد في سبيله، مهما أُثير أمام الدّعاة من عقبات وتحدّيات وتهاويل، غير أنّها تحاول التقاط أنفاسها لتعيد النظر في خططها، وفي ما قطعته من مراحل على الطريق، وفي ما بقي لها منه.. وفي ما تواجهه من حواجز وموانع، لتفكّر في ذلك كلّه، ولتدبّر منه ما تستطيع تدبيره، وتحلّ منه ما يمكن أن تجد له حلاًّ، ثمّ تتوكّل على الله في ما لا تستطيع السيطرة عليه، وتترك الأمر فيه إليه، وهذا ما يجعل من التوكّل مصدر حركةٍ واعيةٍ في الواقع، لا مصدر هروب من مواجهته.

                           *****

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الولاء    

الشريعة الإلهية واجبة الاتباع ـــ التبعيّة هي أساس الحبّ لله ـــ لزوم الاتباع الواعي لا التقليد الأعمى ـــ المفهوم الإسلامي للارتباط بالأرض ـــ لا تتبع الأهواء.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

1 ـــ الشريعة الإلهية واجبة الاتباع:

{ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ*إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيئاً وإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ}  [الجاثية: 18 ـــ 19].

                           *****

معاني المفردات:

{شَرِيعَةٍ}: طريق ورود الماء، وهي هنا طريق الدين.

{الْأَمْرِ}: أمر الدين.

                           *****

{ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ} الإلهي الذي وضع لحياة الإنسان في كلّ جوانبها الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية برنامجاً تشريعياً كاملاً ينظّم كلّ مناحي تلك الحياة العامة والخاصة، في جميع الأوضاع والمواقع، بما لا يترك أيّ فراغٍ يحتاج معه الإنسان للرجوع إلى ما وضعه الآخرون من أصحاب الأفكار الكافرة أو الضالّة، من نظرياتٍ نفسيةٍ أو اجتماعية أو سياسيةٍ أو اقتصادية.

وهو لا يثير أيّة مشكلةٍ على مستوى تحقيق التوازن في حركة الشخصية الإنسانية بين المادة والروح، وبين الذّات والجماعة، وبين الجانب العقلي والجانب الشعوري، ليعيش الإنسان على الصورة التي يرضاها الله، في ما يعلمه من عمق المصالح والمفاسد الكامنة في واقع الحياة، لذا كان الخطاب حاسماً للنبيّ، وللأُمّة، من خلاله، في دعوتها إلى اتّباع هذه الشريعة، على النهج الذي بيَّنه الله في كتابه، وخطّطه الرسول في ما ألهمه الله من ذلك الأمر.

{فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} في ما يضعونه من شرائع، أو يركّزونه من مفاهيم أو يعدّونه من برامج، أو يحرِّكونه من أساليب، أو يثيرونه من أفكار تنطلق من الأهواء المتحرّكة في ساحة الأطماع والشهوات، بعيداً عن عمق المصلحة الإنسانية في دائرة التوازن، على خطّ الاستقامة.

إنّ الله لا يريد للإنسان المسلم أن ينعزل عن ثقافة الآخرين وحضارتهم بالمطلق، ولكنّه يريد له أن يقف على قاعدة صلبة من الشريعة التي يدعوه الإسلام إلى الالتزام بها، ثمّ يواجه ما عند الآخرين بالرفض أو التأييد استناداً إلى المفاهيم الثابتة في قاعدته الفكرية من مواقع القناعة لا من مواقع التعصّب، فالإسلام يؤكّد الثبات في مواجهة الاهتزاز، والحوار الفكري في مقابل التعصّب.

إنّ الآية توجّه المسلم إلى نقاط الضعف التي يحاول الآخرون، ممّن لا يملكون العلم، إثارتها في نفس الداعية، لتبعث فيه الاهتزاز لحمله على الانهيار والوقوع تحت تأثير الأجواء الضاغطة التي تدفعه إلى الانحراف من موقع الخوف، أو الانبهار، لتؤكّد له أن يقف ثابتاً في مواقعه من عمق القوّة الإلهية التي شرّعت هذه الشريعة، وأعطت هذا الفكر، وقادت إلى هذا الخطّ المستقيم.

{ إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيئاً} إذا اتّبعت أهواءهم ورفضت شيعة الله، ووقفت ـــ غداً ـــ أمامه لتواجه الحساب الحاسم في مسؤوليّتك عن ذلك كلّه، فلن يستطيعوا أن يخلّصوك إذا أراد الله أن يعذّبك.

وربّما اشتملت المسألة على أوضاع الدنيا في بلائها وحاجاتها، فإنّ الله ـــ وحده ـــ هو الذي يستطيع دفع البلاء عن الإنسان، أو قضاء حاجاته، أمّا هؤلاء، فإنّهم لا يملكون شيئاً من القدرة كي يستطيعوا أن يحقّقوا له الغنى في قضاياه العامة والخاصة.

                           *****

 

الظالمون بعضهم أولياء بعض:

{وإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} فهناك منطقٌ مشتركٌ يجمعهم وتفكيرٌ واحدٌ ولغةٌ مشتركة يعبّرون بها، وأطماعٌ ومصالح وقيمٌ فاسدةٌ تجمعهم وتربط بعضهم ببعض ارتباطاً عضوياً، ويتولّى بعضهم بعضاً ويدعم بعضهم بعضاً ويقوّي أحدهم الآخر، ويخوضون المعركة مع العدل والحقّ في ساحة الصراع من موقعٍ واحدٍ، ولكنّهم لن يستطيعوا فعل الكثير مع المتّقين الذين يعتمدون على الله ويتولّونه ويخلصون له، ويتطلّعون إلى ولايته الإلهية التي تنصرهم في مواطن الهزيمة، وتقوّيهم في مواضع الضعف، وترعاهم بالرحمة والّلطف في كلّ المواقع التي يتعرّضون فيها للمشاكل المعقدّة في خطّ الإيمان في الحياة {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} الذين اتّقوه في مواقع الاهتزاز والانحراف، ووقفوا على قاعدة ثابتة يتطلّعون من خلالها إلى الله، في كلّ أمورهم وقضاياهم، ليتيقّنوا أنّه ـــ هو ولي الأمر كلّه، لأنّه خالق الكون كلّه.

                           *****

2 ـــ التبعيّة هي أساس الحبّ لله:

{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ*إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ*وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة: 165 ـــ 167].

                           *****

 

معاني المفردات:

{مِن دُونِ اللّهِ}: من غير الله.

{أَندَاداً}: أمثالاً.

{تَبَرَّأَ}: التبرّؤ: التولّي والتباعد للعداوة، وأصله من الانفصال، ومنه: برأ من مرضه.

{الأَسْبَابُ}: والأسباب: الوصلات، واحدها: سبب.

{حَسَرَاتٍ}: ندامات، قال الراغب: "والحسرة: الغم على ما فاته والندم عليه،كأنّه انحسر عنه الجهل الذي حمله على ما ارتكبه، أو انحسر قواه من فرط غم"(1)، وقال الطبرسي: "الحسرة أشدّ الندامة... وأصل الحسر: الكشف"(2).

                           *****

في هذه الآيات، يتحرّك القرآن في واقع الحياة ليقدّم إلينا نموذجاً من نماذج الانحراف العاطفي والعملي في واقع الناس في الحياة، وهو النموذج المتمثّل في أتباع الظَّلَمة وأشياعهم حسب التفسير الوارد عن بعض أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ}، فهم يجمعون بين الإيمان بالله ومحبّته، وبين حبّ الظالمين من أسيادهم وكبرائهم، تماماً كما يحبّ الإنسان شخصين متساويين في جميع الخصائص والصفات. ولعلّ هذا الاتجاه في تصوير حالة التسوية في المشاعر بين الله وبين أئمّة الظلم، كان منطلقاً من الأساس العملي للواقع الذي يعيشونه، فإنَّ الحبّ الذي تتحدّث عنه الآية ليس الحبّ الداخلي الانفعالي الذي يتحرّك في الجانب الشعوري العاطفي للإنسان، لأنَّ الجوّ هنا هو جوُّ الحديث عن الخطوات العملية التي تحكم حياتهم، بل الظاهر أنّ المراد من الحبّ هو الحبّ العملي ـــ إنْ صحَّ التعبير ـــ وهو الذي يتمثّل بالاتِّباع والتأييد والمشاركة والطاعة لما يريدون ولما يخطّطون من دون قيد أو شرط، تماماً كما هي الحال في محبّة الإنسان لله بمعنى طاعته المطلقة، وذلك هو التطبيق العملي للإشراك بالله، لأنَّ مثل هذه الإطاعة التي لا تنبغي إلاّ لله، عندما يقدّمها الإنسان لغيره بالمستوى ذاته، فمعنى ذلك أنّه قد جعل ذلك المطاع ندّاً ونظيراً لله في ما يمثّله ذلك من إخلاص العمل، وهذا هو الشرك الواقعي الذي لا يرتبط بتعدّد الآلهة على مستوى العقيدة الإلهية، بل يتّصل بتعدّدها على مستوى الطاعة، انطلاقاً من العوامل الذاتية المتّصلة بالشهوات والأطماع والمنافع التي يحصلون عليها لدى هؤلاء، أو التي يأملون الحصول عليها منهم.

                           *****

معنى الحبّ لله في القرآن:

وهنا يلتفت القرآن في عملية مقارنة سريعة بين هؤلاء وبين المؤمنين، في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ} فإنَّ معرفة المؤمن بربّه ووعيه لعظمته، تجعلانه ينفتح على الله انفتاحاً يملأ كلّ كيانه في أفكاره ومشاعره، في جوارحه وجوانحه، فلا يبقى هناك مجال لأيّة قوّة، مهما عظمت، أن تحتلّ ولو مساحة صغيرة من نفسه في المستوى الذي يلتقي فيه بالله، فلا ولاء لغيره، ولا طاعة إلاّ له، لأنَّ معنى التوحيد أن يخلص كلّ شيء فيك للإله الواحد، وهذا هو معنى الحبّ لله في القرآن الذي يريد للمؤمين أن يعيشوه ويتمثّلوه في وجدانهم، بعيداً عن الاستغراق في ذاته، أو التغزّل بصفاته، في ما يشبه بعض أساليب المتصوّفة في تعبيرهم عن المحبّة بمظاهر العشق والوله والانجذاب الجسدي والروحي، ما يجعل من حياتهم امتداداً للخطّ الذي أرسل الله به رسوله في طاعة مطلقةٍ، في فكره وإرادته وكلامه.

التبعيّة هي أساس الحبّ:

أمّا كيف نستفيد ذلك ونقرّره، فهذا ما يبدو لنا من جوّ الآية من جهة، ومن طبيعة الرسالة من جهةٍ أخرى، فنحن نلاحظ في الآية أنّها تثير في نهاية المطاف قضية التابعين والمتبوعين وحوارهم في يوم القيامة، ما يوحي بأنَّ الأساس في قضية الحبّ هو التبعية لا العاطفة المجرّدة، كما أنّنا نستوحي ذلك من قوله تعالى في آية أخرى:

{قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [آل عمران : 31] حيث جعل اتّباع النبيّ من علامات الحبّ ونتائجه.

أمّا طبيعة الحبّ من ناحية الرسالة، فنستطيع أن نفهمه من خلال الاطّلاع على تخطيط الله لنا أسلوب التعامل معه في الوقوف بين يديه، وفي ممارستنا للمسؤولية أمامه، وفي الانضباط في الخطّ المستقيم العملي لديه، وفي كيفية العمل من خلال رسالاته في الحياة، ممّا يعني أن يكون التعبير عن الحبّ بالعمل الصالح الذي يحبّه ويرضاه.

وفي ضوء ذلك، نفهم الاتجاه القرآني الذي يدعو الإنسان إلى التفكير في خلق الله وفي صفاته، ونفهم الأحاديث التي تدعو إلى التفكير في خلق الله وتنهى عن التفكير في ذاته، لأنَّ التفكير في ذاته يغرق الإنسان في متاهات واسعة من الفكر التجريدي الذي لا ينتهي إلى نتيجة، ومن المشاعر السلبية التي لا تؤدّي إلى أساس معقول، بينما ينطلق التفكير في خلقه ليقود الإنسان إلى العقيدة المرتكزة على أساس واقعي، يربط العقيدة بالخطّ المعقول والمشاعر الطبيعية الإيجابية التي ترتبط بالله من خلال ما تعيشه من نِعَم وأوضاع، وما تشاهده من ظواهر وآيات، فكأنّها ترى الله في ما تراه وتتعاطف معه من خلال التعاطف مع عظمة الخلق وإبداعه وروعته.

ولعلّ الأحاديث الكريمة التي تدعو إلى أن نتخلَّق بأخلاق الله، تتحرّك في هذا الاتجاه الذي يريد أن يجعل العلاقة خاضعة للخطّ الواقعي العملي في الأخلاق والصفات، ليحبّ الإنسان الله من خلال صفاته التي تتحوّل في حياته إلى عيشٍ وإيمان وحياة، ليبتعد بذلك عن الاستغراق في الأجواء الضبابية التي تعزله عن ذاته وعن مسؤوليّته العملية أمام الله.

                           *****

القرآن ومعالجته لأسباب الحبّ المنحرف:

وقد عالج القرآن هذا الحبّ المنحرف لغير الله بالبحث عن جذوره في نفس الإنسان، فقد يكون من أسبابه شعوره بالقوّة التي يملكها هؤلاء الظالمون والمنحرفون في ما يملكون من شؤون الملك والسلطان في الدنيا، فيخيّل للناظر أنّهم يتمتّعون بالقوّة المطلقة التي تهيمن على كلّ الأمور، ما يخلق في أعماق النفس شعوراً بالإعجاب الذي يتحوّل إلى المحبّة في كثير من الحالات، ثمّ تتحوّل المشاعر إلى رغبة عميقة في الحصول على رضاهم بالعمل بما يريدون في ما يأمرونه به أو ينهونه عنه.

فكانت هذه الآيات التي تكشف ضعفهم الذاتي الذي قد تحجبه مظاهر السلطان في الدنيا، ولكنّه يبدو على حقيقته في الآخرة، {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ}، وذلك عندما يقف الظالمون ليروا العذاب المعدّ لهم من الله، فيعرفون أنَّ كلّ مظاهر القوّة التي يتمتّعون بها أو يتمتّع بها غيرهم من الناس، لا قيمة لها ولا أساس. فها هم يعانون من العذاب الذي يقفون أمامه موقف الذلّة المطلقة، والضعف المطلق، فلا يملكون لأنفسهم معه ضرّاً ولا نفعاً، وتنكشف أمامهم الحقيقة المطلقة، وهي {أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً} فهو الذي يعطي القوّة، وهو الذي يمنعها، أو يسيِّرها، أو يوقفها عند حدودها التي يريد لها أن تقف عندها، وهكذا يتعمّق الشعور وهم أمام الحقيقة الأخرويّة الحاسمة في مصيرهم النهائي، {وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} فالعذاب يقتحم عليهم موقفهم المخذول فيرون الله شديد العذاب للمتمرّدين والعاصين والمنحرفين والكافرين.

ثمَّ يحدّثنا الله عن مصير هؤلاء الذين يتبعون الظالمين فيشعرون بحمايتهم لهم عندما يوحون لهم بأنّهم يتحمّلون مسؤوليّتهم في كلّ ما يتعرّضون له من صعوبات الحياة ومشاكلها، وذلك في ما ينقله لنا من مشاهد القيامة {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ} فالمتبوعون من الظالمين والكبراء يتهرّبون من المسؤولية، فلا يشعرون بأيّة علاقة تربطهم بهم، وذلك عندما رأوا العذاب ماثلاً أمامهم وهو يقتحم الجميع بمستوى واحد من دون تفريق، {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} التي كانت بينهم، في كلّ ما تمثّله من الصلات التي تقوم على أساس المصالح والعواطف والقرابات، لأنّها لم ترتكز على أساس متين من الله، بل كانت خاضعة للأوضاع الطارئة التي تزول لدى أوّل تحدٍّ من تحدّيات المصير التي تواجه المسؤولين بطريقة حاسمة ليس فيها أيّ انحراف أو لفّ أو دوران، أو وساطة في ما تعرف عليه الناس من أساليب الوساطة في الدنيا.

وهنا وقف التابعون ليطلقوا التنهدّات والحسرات على كلّ المواقف الخاضعة الخانعة التي كانوا يقفونها لمصلحة هؤلاء في الدنيا، فيجعلون مصيرهم تبعاً لإرادة الآخرين وشهواتهم وأطماعهم. وانطلقت التمنّيات التي تعبّر عن التمزّق النفسي الداخلي، والحيرة القاتلة، والشعور بالخيبة الكبيرة للآمال التي تعيش في نفوسهم من خلال العلاقة بهم، والحقد العميق الذي يحرق الروح بحثاً عن الثأر. {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا} إنّهم يبحثون عن ردّ الفعل الذي يقابل البراءة ببراءة مماثلة تمسُّ الظالمين في مصالحهم في مواقعهم في الدنيا، فيتمنُّون أن يرجعوا إلى الدنيا كرّةً أخرى، ولكنّها تمنّيات تضيع في الهواء.

{كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ} عندما ترجع بهم الذكرى إلى حياتهم التي كانوا يسيرون فيها في ركاب هؤلاء الظالمين، ليبنوا حياة الظلم والطغيان بسواعدهم وجهودهم في كفاح متواصل طويل.

إنّهم يواجهون الموقف ليروا كلّ تلك الأعمال والجهود تتحوّل في مصيرهم إلى حسرات لا تنفعهم، فقد وقعوا في النار {وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} مهما احتجُّوا ومهما برّروا أو تنهَّدوا، فقد كان لهم مجال كبير في دراسة الواقع ومعرفته من خلال وعي الرسالة والمبدأ، وقامت عليهم الحُجّة من الله في ذلك كلّه.

                           *****

وبناءً على ما تقدّم، نستطيع أن نستوحي من هذه الآيات عدّة نقاط، أهمّها التالي:

                           *****

الالتزام الفكري يقود إلى الالتزام العاطفي:

1 ـــ إنَّ الالتزام بالعقيدة لا يتمثّل في الالتزام الفكري الذي يمثّل الموقف الفكري للإنسان، بل يمتدّ إلى الالتزام العاطفي والروحي مع خطّ الفكر في حركة الحياة إزاء العلاقات الإنسانية الموافقة أو المضادّة، فإنَّ التقاء الجانب العاطفي بالجانب الفكري في شخصية الإنسان المسلم يمثّل وحدة الشخصية، بينما يكون اختلافهما مظهراً من مظاهر ازدواجيّتها وتمزّقها الذاتي، ما يترك آثاراً سلبية على استقامتها على الخطّ الإسلامي المستقيم.

وإذا كانت العواطف غير الإسلامية تنطلق من مفاهيم غير إسلامية، باعتبار أنّ العاطفة هي نتيجة المفهوم الكامن في الذّات، فإنَّ ذلك يؤدّي إلى التناقض بين الالتزام الفكري الذي يوحي بعاطفة إيجابية، والعاطفة السلبية الناتجة عن مفهوم مضادّ، فكيف يمكن اجتماعهما في الذّات في الوقت الذي ينفي فيه أحدهما الآخر؟!

                           *****

الحبّ موقف لا عاطفة مجرّدة:

2 ـــ إنَّ الحبّ في المفهوم القرآني لا يتمثّل في العاطفة المجرّدة ومظاهرها الساذجة، بل يتمثّل في العاطفة التي تتحوّل إلى مواقف عملية في اتجاه خطّ الحبّ، وقد يتطوّر المفهوم في اعتبار المواقف العملية المضادّة دليلاً على ضعف الحبّ أو عدم جديّة العاطفة وصدقها.

                           *****

الدعوة إلى اتشاف ضعف الأقوياء:

3 ـــ إنَّ القرآن يوجّه الإنسان إلى اكتشاف ضعف الأقوياء من الطغاة بالبحث عن نقاط الضعف الكامنة في داخلها، وبالانطلاق في التصوّر الديني بعيداً إلى يوم القيامة، حيث يقف الأقوياء في موقف الضعف والانسحاق أمام عذاب الله وعقابه.

وهكذا ينطلق المنهج التربوي القرآني في عملية إيحائية ترتبط بالسلب من حيث فقدان الطغاة والمستكبرين للقوّة التي تبرّر للنّاس الارتباط بهم في أمورهم الخاصة والعامة وفي قضايا المصير، وترتبط بالإيجاب من خلال الحقيقة التوحيدية التي تؤكّد {أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً} في خطاب الذين يريدون الاعتزاز بغير الله، فقد جاء في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً} [النساء : 139] وقوله تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ} [فاطر : 10] على أساس ملكية الله للقوّة كلّها، والعزّة كلّها، فالله هو مصدر القوّة والعزّة، ما يفرض على الناس أن يطلبوها منه، ويرتبطوا بقوّته وعزّته. هذا هو خطّ الأصيل في التوحيد الحركي للإنسان المسلم في العمل والوجدان.

                           *****

المسؤولية الفردية في الإسلام:

4 ـــ إنَّ الآيات توحي للمؤمنين الضعفاء بأنّ المسؤولية في الإسلام فردية، يتحمّلها الإنسان من خلال عمله، وأنَّ الضغوط الخارجية التي تنطلق من الشعور بسيطرة الأقوياء على الموقف، وحاجة الضعفاء إليهم في ما يملكونه من مالٍ وجاهٍ وسلطةٍ، لا تمثّل أيّ مبرّر شرعي للانحراف عن الخطّ، ثمَّ تُبيّن لهم أنّ الأساليب التي يتبعها هؤلاء الأقوياء في الإيحاء لهم بالحماية في مواقف الشدَّة، ليشعروا بالأمن خلال هذه العلاقة، هي أساليب تضليليّة لا تثبت أمام الواقع الذي يفرض نفسه، وهو أنَّ هؤلاء ليسوا قادرين على حماية أنفسهم، فكيف يقدرون على حماية غيرهم من عذاب الله؟! وسينكشف الواقع المرير عن إعلان براءتهم من كلّ تبعةٍ أو مسؤولية من كلّ هؤلاء عندما يرون العذاب ويواجهون الموقف في الدنيا قبل الآخرة، ليبدأوا ـــ هنا ـــ بالبراءة من هؤلاء المتبوعين، فلا ينفذون مخطّطاتهم الشرّيرة التي لا ترضي الله، ولا يطيعونهم في معصية الله، ليتفادوا الموقف الخاسر هناك، وليحصلوا على ما يتمنّونه من العودة إلى الدنيا ليعلنوا البراءة كردّ فعل لبراءة هؤلاء منهم. إنَّ الآيات التي تتحدّث عن خيبة الضعفاء في الآخرة لا تتحدّث عن القضية كقصّة للإثارة، بل كأسلوب من الأساليب الوقائية التي توجّه الإنسان كي يتفادى الوقوع في هذه المواقف الحرجة هناك، فيكون أكثر وعياً للواقع وللمصير، وبهذا يتحوّل القرآن إلى كتاب يرصد لنا المستقبل من خلال الحديث عن نماذج الماضي التي لا تعيش في إطاره المحدود، بل تعيش في نطاق الحياة كلّها، والله العالِم بأسرار آياته.

3 ـــ لزوم الاتباع الواعي لا التقليد الأعمى:

{وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ*كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [الحج: 3 ـــ 4].

                           *****

معاني المفردات:

{مَّرِيدٍ}: المريد: الخبيث، وقيل: المتجرّد للفساد والمعرّى من الخير.

{تَوَلَّاهُ}: اتّخذه وليّاً.

                           *****

هذا نموذج من الناس الذين يرفضون خطّ التقوى في حياتهم، ويمتنعون عن المواجهة الجادّة للمسألة العقيديّة بالفكر العميق والروح التقيّة، ويتحرّكون من خلال الأهواء في العلاقات والانتماءات، لا يركنون إلى قاعدةٍ من علمٍ، أو إلى انطلاقةٍ للفكر، لأنّهم لا يواجهون الحياة بالمسؤولية الفكرية التي تعتمد على العلم في تحديد النتائج وتكوين القناعات، بل كلّ ما هناك، أنّهم ينتهزون الفرصة السانحة للحصول على المطامع والرغبات، من أيّة جهةٍ كانت، وفي أيّ موقعٍ.

وعند قراءة كيفية تقديم القرآن الكريم لهذا النموذج المنحرف، نلاحظ أنّ هذا النموذج يتميَّز بصفتين؛ الأولى: افتقاده إلى العلم الذي يفتح أمامه أبواب الحقّ. والثانية: اتباعه الشيطان الخبيث الذي يريد للحياة أن تتحرّك في طريق الشرّ وأن تبتعد عن طريق الخير. وفي ضوء ذلك، نفهم أنّ العلم قيمة أساسية في شخصية الإنسان، وفي حركة الواقع الفكري والعملي، والتأكيد عليه يمكن أن يؤدّي إلى إطلاق الخلاف العقيدي والسياسي والاجتماعي، من موقع التنوُّع في الاجتهاد القائم على الدليل الذي قد تختلف الأنظار في فهمه، وبذلك يمكن أن يؤدّي الحوار إلى الّلقاء على أكثر من قضية من قضايا الخلاف، وإلى الانفتاح على الحقّ من أقرب طريق.

من هنا، يجب التأكيد على ضرورة انطلاق القاعدة من مواقع الاقتناع الفكري بالقيادة، لا من مواقع التقليد الأعمى لها، لا سيّما في المسائل التي يمكن للقاعدة أن تأخذ فيها بأسباب المعرفة، أو من قاعدة الأساس الشرعي الذي يعطي الإنسان الحقّ في اتباع قيادة مؤهّلة تملك مواصفات معيّنة يأمن معها من الوقوع في قبضة الضلال، لما تملكه من العصمة أو العلم أو التقوى أو الإيمان، ما يجعله ـــ أيّ الإنسان ـــ بمأمن من الوقوع في قبضة الضلال، بحيث يتحوّل المجتمع إلى ساحةٍ متحرّكة بالعلم والوعي مع القيادات المؤمنة الواعية التي تنفتح على الله وعلى المسؤولية من خلاله.

                           *****

4 ـــ المفهوم الإسلامي للارتباط بالأرض:  

{ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الأنعام : 102].

                           *****

معاني المفردات:

{وَكِيلٌ}: الوكيل على الشيء الحافظ الذي يحوطه ويدفع الضرر عنه، وإنّما وصف سبحانه نفسه بأنّه وكيل مع أنّك مالك الأشياء لأنّه لما كانت منافعها لغيره لاستحالة المنافع عليه والمضار صحَّت هذه الصفة له، وقيل: الوكيل من توكّل إليه الأمور، يقال: وكّلت إليه هذا الأمر أي ولّيته تدبيره، والمؤمن يتوكّل على الله أي يفوّض أمره إليه.

إنّ العبادة ـــ في مفهومها العميق الشامل ـــ تعني الخضوع في كلّ شيءٍ، في ما يمثّله ذلك من استسلام مطلق يطال كلّ المواقف والأوضاع، بحيث لا يتحرّك الإنسان في أيّة كلمة، أو أيّ موقف أو علاقة، إلاّ عندما يربطها بالله سبحانه وتعالى.. أن تكون حياته كلّها لله لأنّ ذلك ما ينسجم مع خطّ العبودية المطلقة.

وفي ضوء ذلك، فإنّ الإخلاص لأيّ رمز من الرموز التي اعتبرها الناس رمزاً لحياتهم ولوحدتهم، لا بدّ من أن يرتبط بالله، ليكون الإخلاص له، من خلال الإخلاص للمعنى الذي يرمز له، ولا فرق في ذلك بين أن يكون هذا الرمز شخصاً أو أرضاً، أو مؤسّسةً أو وطناً أو قوميّةً أو لوناً، فإنّ الإخلاص في هذه الأمور وغيرها يعتبر نوعاً من أنواع الشرك الخفيّ، إذا لم يتحرّك من خطّ المفاهيم المنسجمة مع خطّ الله.

إنّنا نخلص لرسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، من خلال صفة الرسالة فيه، كما نخلص لأولياء الله من خلال صفة الولاية لله في أنفسهم، فلا نخلص لذواتهم، ولا نستغرق في أشخاصهم، ولذلك فإنّ طريقة تعبيرنا عن هذه العلاقة، لا بدّ من أن تكون منسجمة مع أحكام الله وتعاليمه، فلا تدفعنا العاطفة إلى أن نمارس من ذلك ما لا يرضى به الله في قولٍ ولا في فعل، بل يجب أن نقف عند حدوده ـــ سبحانه ـــ لئلاّ تجرّنا العاطفة إلى الغلوّ الذي ينتهي بنا إلى الكفر أو إلى ما يقرب من الكفر.

ونحن عندما نقدِّس أرضاً أو نحترمها، فإنّنا لا نقدّس ترابها وحجارتها، باعتبار أنّها تحتوي على الأسرار الخفيّة القدسية الكامنة فيها، بل نتحرّك في ذلك من الخطّ الشرعيّ الذي تعبَّدنا الله بالسير عليه، في ما تعبَّدنا به من احترام أرض معينة، أو بنيّةٍ معيّنة كما في احترامنا لأرض مكّة، لأنّ الله جعلها حرماً آمناً يأمن فيها الناس على أموالهم ونفوسهم وأعراضهم، وكما في تعظيمنا للكعبة، لأنّها بيت الله الذي تعبَّد خلقه بالطواف حوله والحجّ إليه، واستقباله في كلّ مكان في العالم في الصلاة وفي أمثالها، ممّا أراد الله استقبال القبلة فيه، ولذلك فلا بدّ لنا من الاقتصار على تنفيذ أحكام الله التي شرّعها في ذلك كلّه.

 

ومن ذلك نعرف أنّ الارتباط بالأرض باعتبارها وطناً تعارف الناس على الإخلاص له والدفاع عنه، لا يمثّل شيئاً في مفهوم الإسلام، إلاّ بقدر ما تمثّل الأرض من رمزٍ روحي، كأن تكون أرض المسلمين والمؤمنين، لتصبح المسؤولية عنها مسؤوليةً عن المسلمين والمؤمنين، في ما يمثّله الاعتداء عليها من اعتداء عليهم، والحفاظ عليها من حفاظ على وجودهم وعزّتهم وكرامتهم. أمّا إذا انفصلت عن المعاني والقِيَم الإنسانية الإيمانيّة، وتحوّلت إلى مجرّد رمزٍ جامد يخضع له الناس كقيمةٍ ذاتيّةٍ، فإنّها تتحوّل إلى صنمٍ يُعبد من دون الله، تماماً كأيِّ صنم آخر، لأنّ الصنميّة لا تتمثّل في أشكالٍ معينة، بل تتمثّل في الرموز التي لا تحمل أيَّ معنى يتّصل بالله.

ولهذا، فإنّ علينا ـــ في إخلاصنا لحركة التوحيد في عقيدتنا وحياتنا ـــ أن نناقش كلّ ما يستحدثه الناس من رموزٍ ماديةٍ أو معنويةٍ يريد الناس الخضوع لها، لنجد مدى ارتباطها أو عدم ارتباطها بالله، بشكلٍ مباشر أو غير مباشرٍ، مثل الإنسان، النسب، الأرض، الّلغة، الوطن، النظام، وغيرها ممّا أريد للناس أن يعتبروه أساساً للوحدة والخضوع والطاعة. وبذلك يمكن لنا أن نستوحي من قوله تعالى: {ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ} أنّ هذه الرموز ليست ربّكم، لأنّها مثلكم مخلوقةٌ لله، أو لأنّها مصنوعة من أفكارهم وأوهامكم، وليس لها أيّ امتياز يرفعها إلى هذا المستوى الذي ترفعونها إليه، فلا تجعلوا لله منها أنداداً تحبُّونها كحبّه، لأنّ الحبّ لله وحده، وكلّ حبٍّ لأيّ شيءٍ لا يرتبط به، فهو عبادة لغيره بشكلٍ غير مباشر.

{وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} يرعاه ويحوطه برحمته ولطفه، فهو مشرفٌ على جميع مخلوقاته ومهيمنٌ عليها في كلّ أمور الحياة والموت وقضية المصير.

5 ـــ لا تتَّبع الأهواء:

{وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ*فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ} [الشورى: 14 ـــ 15].

                           *****

{وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ} ممّن جاءوا بعد الذين أوتوا العلم، فلم يكن لديهم أيّ معرفة يستطيعون بها الحصول على وضوح الرؤية الفكرية في هذه المسألة، بل انطلقوا في مواقفهم من حالةٍ وراثيةٍ يقلّد فيها الآخرون الأوّلين على أساس النسب أو البيئة، أو الموقع الديني، {لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ} والريبة فيه هي نتيجة ما يحملونه عنه من تصوّر، أو نتيجة الخلفيات الذاتية المعقّدة التي تكمن وراء ذلك، لأنّهم لا ينطلقون، في موقفهم من الرسالة الجديدة والوحي الجديد، الذي جاء مصدِّقاً لما معهم، من قاعدةٍ فكرية للرفض، بل من عصبيةٍ دينيّة، لا تحمل من الدِّين معناه وروحيّته وحيويّته، بل تحمل منه الانفعالات التي توحي لهم بأنّ الدّين يقف عندهم ليكون خاتمةً لكلّ وحيٍ ورسالةٍ، فلا يسمحون لوضوح الرؤية بأن ينفذ إلى تصوّراتهم من خلال الحجج التي يقدّمها الكتاب الجديد والرسول الجديد.

                           *****

ادعُ واستقم كما أُمرت:

{فَلِذَلِكَ} أي لأنّ الله شرَّع لكم هذا الدين وأراد منكم أن تقيموه على أصوله، وأن تثبتوا عليه وتُثَبِّتوه بالكلمة والممارسة، وأن تجعلوا مفاهيمه أساساً للوحدة، ولا تتفرَّقوا فيه ليأخذ كلّ فريقٍ منكم جانباً منه ممّا ينفعه في ذاتيّته وأنانيته، ويترك الجانب الآخر الذي لا يتوافق مع ما يريده، {فَادْعُ} إلى هذا الدين بكلّ ما تملكه من وسائل الدعوة بما يقيمه في الحياة، ويثبّته في العقول والمشاعر، {وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} في خطّه المستقيم الذي يصل البداية بالنهاية، فيبدأ من الله ويتحرّك في خطّ دينه وشريعته، وينتهي إليه في الإخلاص له، والانطلاق مع رضوانه، فإنّ الاستقامة تعني الوقوف مع كلّ حكمٍ من أحكامه، ومع أيّ مفهومٍ من مفاهيمه بكلّ دقّة واتّزان من دون أن ينحرف عنه ذات اليمين وذات الشمال، وهي تمثّل ـــ إلى جانب ذلك ـــ عمق الالتزام الروحي بالدين والانسجام مع كلّ مفرداته من دون زيادة ولا نقصان. ذلك أنَّ ما يريده الله من الإنسان المسلم الداعية، أن ينطلق في دعوته من موقع التحديد الدقيق للفكرة الإسلامية، فلا يُدخل فيها شيئاً من أفكار الباطل ليقرّبها إلى الناس الذين قد لا يرغبون في الحقّ إذا لم يكن ممزوجاً بالباطل، فيعمد بعض الدّعاة إلى التساهل في المفاهيم، ويفسح المجال أمام الانحراف لأن يزحف إليها، طلباً لرضى الناس من خلال ذلك، وهو ما يحدث غالباً في بعض الأجواء الثقافية المعاصرة التي يشنّ فيها بعض المثقّفين ممّن يحملون فكراً غير إسلاميٍّ، حرباً إعلاميّةً نفسيةً ضدّ المسلمين الملتزمين، فيتّهمونهم بالتطرّف والتعصّب والتعقيد لجرّهم إلى تقديم التنازلات والالتزام ببعض مفاهيم الباطل، بذلك يحصلون على صفات التسامح والاعتدال والواقعية.. التي تقرّبهم من المجتمع وتجعلهم مرضيّين عنده، وهكذا يستمرّ الضغط بهذه الطريقة في كلّ موقع من مواقع الإسلام التي يحتاج فيها الباطل إلى موقف إسلاميٍّ متسامحٍ لحسابه ليقدّم المسلمون التنازلات حتى ينتهي الأمر بهم إلى التنازل عن الإسلام نفسه.

لهذا، فإنّ اعتبار الإسلام هو المقياس الذي نقيس به اتّجاه التطرّف والاعتدال والتسامح والتعصُّب، أمرٌ ضروريٌّ ليستقيم للدّعاة الإسلاميين دينهم الحقّ، ولتتوازن خطواتهم الفكرية والعملية على خطّ الإسلام فكراً وعملاً وحركةً، لأنّ المفهوم الإسلامي يقضي بأن يخضع الواقع للإسلام، ويتغيَّر على أساسه، لا أن يخضع الإسلام للواقع لنغيّر الإسلام من خلاله.

                           *****

 

لا تتّبع الأهواء:

{وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ} فإنّ ما عندهم من عقائد وعادات وأوضاع لم ينبع من دراسةٍ فكريةٍ عميقةٍ للمصالح والمفاسد التي تكمن في داخلها، بل من الأهواء التي تحرّكها الانفعالات والأحاسيس في ما يشتهونه، وما يتحسّسونه، على مستوى الأهواء الفردية التي يلتقي عليها الأفراد، أو على مستوى الأهواء الطبقية، في ما يلتقي عليه أفراد الطبقة المستغلّة المسيطرة على الوضع كلّه، أو على مستوى شخصٍ واحدٍ مهيمنٍ، ممّن يسمّيه الناس ملكاً أو أميراً أو رئيس عشيرة، أو شخصاً صاحب سيفٍ أو مال... ولذلك فإنّها لا تصلح لتكون أساساً للاتباع، لأنّها لا تبني للإنسان حياته على قاعدة قوية ثابتة، لأنّ الأوضاع التي ترتكز على الانفعالات، سوف تسقط أو تتبخَّر عندما ترتبك تلك الانفعالات أو تهتزّ القضايا التي أثارتها وحرَّكتها في داخل الواقع.

وقد نستوحي من هذه الفقرة التي تنهى عن اتّباع الأهواء، أنَّ التوجيه الإلهي لا يريد للإنسان أن يجعل حركته في الحياة تابعةً لهواه، أو لهوى الآخرين، لأنّ ذلك لن يحقّق للحياة الإنسانية عمقاً وامتداداً، بل لا بدّ له من أن يدرس الأشياء بعمقٍ ودقّةٍ كي يستطيع اكتشاف صلاحه في الدنيا والآخرة.

                           *****  

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

      

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 



(1)  الكليني: الكافي، ج 5، ص 63، رواية 1.

(1)  الطبرسي: أبو علي الفضل بن الحسن، مجمع البيان في تفسير القرآن، دار إحياء التراث العربي، طـ: 1412، 1 هـ ـ 1992م، ج 5، ص 10.

(1)  تفسير الميزان: ج 9، ص 245 ـ 246.

(1)  مفردات الراغب، ص 176.

(2)  مجمع البيان: ج 3، ص 258.

(1)  مفردات الراغب: ص 105.

(1)  ابن أبي طالب، علي، نهج البلاغة، دار التعارف للمطبوعات، طـ 1، 1410 هـ، 1990م، خطبة 32، ص 28.

(1)  البحار: م 5، ج 12، ص 6 ـ 7، باب 1، رواية 5.

(1)  البحار: م 34، ج 93، ص 83، باب 14، رواية 52.

(1)  مغنية، محمّد جواد، التفسير الكاشف، دار العلم للملايين، طـ 4، 1990 م، م 4، ص 98 ــ 99.

(1)  البحار: م 25، ج 70، ص 377، باب 233، رواية 6.

(1)  مجمع البيان: ج 2، ص 549.

(1)  مجمع البيان: ج 2، ص 509 ـ 510.

(1)  تفسير الميزان: ج 2، ص 63.

(1)  البحار: م 26، ج 73، ص 793، باب 67، رواية 30.

(1)  المجلسي: محمد باقر، بحار الأنوار، الجامعة لدرر أخبار الأئمّة الأطهار، دار إحياء التراث العربي، بيروت، طـ 1، 1412 هـ ـ 1992م، ج 22، ص 356، باب 37، رواية 117.

(1)  راجع: البحار، م 8، ج 21، ص 80، باب 26، رواية 8.

(1)  مجمع البيان: م 5، ص 417.

(1)  تفسير الميزان: ج 5، ص 16.

(1)  مفردات الراغب، ص 63.

(1)  مجمع البيان، ج 2، ص 823.

(2)  مفردات الراغب، ص 394.

(1)  مفردات الراغب، ص 415.

(2)  نهج البلاغة، قصار الحكم/ 396، ص 411.

(3)  تفسير الميزان، ج 4، ص 29.

(1)  مفردات الراغب، ص 483 ــ 846.

(2)  مفردات الراغب، ص 484.

(3)  مجمع البيان، ج 2، ص 846.

(1)  مجمع البيان، ج 2، ص 844.

(2)  انظر: تفسير الكشاف، ج 1، ص 466.

(1)  انظر: تفسير الميزان، ج 4، ص 30.

(1)  مجمع  البيان، ج 2، ص 861.

(2)  مفردات الراغب، ص 477.

(3)  مجمع البيان، ج 2، ص 861.

(1)  البحار، م 2، ج 5، ص 441، باب 12، رواية 30.

(1)  البحار، م 1، ج 2، ص 242، باب 29، رواية 37.

(1)  يتشحَّط في دمه: يتمرَّغ.

(2)  تفسير الطبري، م 3، ج 4، ص 150.

(3)  (م.ن)، م 3، ج 4، ص 150.

(1)  ابن أبي طالب، الإمام عليّ (عليه السلام)، نهج البلاغة، ضبط نصّه، الدكتور صبحي الصالح، دار الكتاب اللبناني، بيروت ـ لبنان، طـ 2، 1982 م، ص 536، حكمة 350.

 

(1)  تفسير الميزان، ج 20، ص 318.

(2)  في ظلال القرآن، م 8، ج 30، ص 517.

(1)  مجمع البيان، ج 4، ص 450.

(2)  تفسير الكاشف، م 3، ص 260.

(1)  الكافي، ج 4، ص 53 ، رواية 7.

(1)  الدرّ المنثور، ج 1، ص 500.

(2)  الشيرازي، ناصر مكارم، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، مؤسّسة البعثة، بيروت، طـ 1، 1410 هـ ـ 1990 م، ج 2، ص 24 ـ 25.

(1)  مجمع البيان، ج 1، ص 516.

(1)  البحار، م 14، ج 44، ص 637، باب 37، رواية 2.

(2)  م.ن، م 15، ج 45، ص 9، باب 37.

(1)  تفسير الميزان، ج 15، ص 128 ــ 129.

(1)

(1)  مجمع البيان، ج 1، ص 360 ـ 361.

(2)  راجع: الطبري، ابن جرير، جامع البيان، دار الفكر، 1415 هـ/ 1995 م، ج 1، ص 697.

(1)  البحار، م 1، ج 2، باب 15، ص 407، رواية 14.

(2)  راجع: مجمع البيان، ج 1، ص 361.

(1)  البحار، م 6، ج 16، ص 408، باب 9.

(1)  يراجع: مجمع البيان، ج 1، ص 370.

(1)  مجمع البيان، ج 1، ص 372.

(1)  مجمع البيان، ج 1، ص 373.

(1)  يراجع: مجمع البيان، ج 1، ص 374.

(1)  الطبرسي، أبو علي الفضل بن الحسن، مجمع البيان في تفسير القرآن، دار إحياء التراث العربي، طـ 1، 1412 هـ، 1992 م، ج 1، ص 199.

(1)  الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، مؤسّسة الأعلمي للمطبوعات، طـ 1، 1411 هـ ــ 1991 م، ج 2، ص 313 ــ 314.

(1)  الكليني، محمد بن يعقوب بن إسحاق، دار الكتاب الإسلامية، طهران، ج 2، ص 307، رواية 1.

 

(1)  مجمع البيان، ج 2، ص 781 ــ 782.

(1)  مجمع البيان، ج 4، ص 672.

(1)  الأصفهاني، الراغب: معجم مفردات ألفاظ القرآن، دار الفكر، ص 80.

(1)  نقلاً عن: الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، مؤسّسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، طـ 1، 1411 هـ ـ 1991 م، ج 1، ص 281.

(2)  في الكافي عن الصادق (عليه السلام) قال: إنّ الله عزّ وجلّ يقول في كتابه: {طَهِّرا بيتي..} فينبغي للعبد أن لا يدخل مكّة إلاّ وهو طاهر قد غسل عرقه والأذى وتطهّر. والظاهر أنّ هذا من باب الاستيحاء. [الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، دار الكتب الإسلامية، طهران، ج 4، ص 400، رواية 3].

(1)  {وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} ربّما يرد سؤال أنّ إبراهيم وإسماعيل كانا مسلمين عند بناء البيت، فما معنى الدعاء بأن يجعلهما الله مسلمين؟ وأجاب الطبرسي في مجمع البيان بأنّ المقصود: {وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} في مستقبل عمرنا، كما جعلتنا مسلمين في ماضي عمرنا، بأن توفّقنا وتفعل بنا الألطاف التي تدعونا إلى الثبات على الإسلام. [مجمع البيان، ج 1، ص 393]. وذلك تماماً كما هي الحال في قوله تعالى: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء} [إبراهيم : 40]، وقوله تعالى: {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل : 19]، والله أعلم.

 

 

(1)  الصدوق، الفقيه، دار الكتب الإسلامية، طهران، ج 4، ص 369، باب 2، رواية 5762.

(1)  فضل الله، محمد حسين، الحوار في القرآن، دار الملاك، طـ: الخامسة، 1996 م ــ 1417 هـ، ص 310 ــ 311.

(1)  مجمع البيان، ج 2، ص 611.

(1)  مجمع البيان، ج 4، ص 746.

(1)  مجمع البيان، ج 2، ص 757.

(1)  مجمع البيان، ج 2، ص 757.

(1)  الأصفهاني، الراغب، معجم مفردات ألفاظ القرآن، دار الفكر، بيروت ــ لبنان، ص 491.

(2)  الوَهْق: حبل في طرفه عقدة يجعل في عنق الدابة.

(3)  مجمع البيان، ج 2، ص 755.

(1)  تفسير الميزان، ج 3، ص 241.

(1)  (م.س)، ج 3، ص 242.

(2)  (م.س)، ج 3، ص 243.

(1)  الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، مؤسّسة الأعلمي للمطبوعات، ط 1، 1411 هـ ـ 1991 م، ج 16، ص 103، [بتصرّف].

 

(1)  البحار، م 2، ج 5، ص 566، باب 8.

(1)  البحار، م 11، ج 35، ص 648، باب 20، رواية 21.

(1)  مجمع البيان، ج 1، ص 61.

(1)  مجمع البيان، ج 1، ص 63.

(1)  البحار، م 35، ج 96، باب 2، ص 261، رواية 72.

(1)  تفسير الكشاف، ج 1، ص 478.

(1)  مفردات الراغب، ص 267.

(1)  الشراء هنا بمعنى البيع كما في قوله تعالى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} [يوسف : 20]، أي: باعوه.

 

(1)  الفخر الرازي، التفسير الكبير، دار إحياء التراث العربي، بيروت ـ لبنان طـ 3، 1990، م 3، ج 5، ص 204.

(2)  البحراني، هاشم البرهان في تفسير القرآن، دار الهادي، بيروت ـ لبنان، طـ 4، 1412 هـ ـ 1992 م، ج 1، ص 207.

(1)  نقلاً عن تفسير الميزان، ج 5، ص 122.

(1)  نقلاً عن تفسير الميزان، ج 5، ص 123.

(2)  الكافي، ج 2، ص 501، رواية 2.

(3)  المراد بكون الشمس بين قرني الشيطان، دنوّها من أفق الغروب، كأنّه يجعل النهار والّليل قرنين للشيطان، ينطح بهما ابن آدم أو يظهر لابن آدم.

(4)  تفسير الميزان، ج 5، ص 123.

(1)  البحار، م 5، ج 13، ص 519، باب 18، رواية 8.

(2)  (م.ن)، م 5، ج 13، ص 338، باب 4، رواية 43.

(1)  تفسير الميزان، ج 19، ص 295 ـ 296 ـ 297.

(1)  تفسير الميزان، ج 19، ص 299.

(1)  نقلاً عن تفسير الميزان، ج 5، ص 122.

(1)

(1)  البحار، م 4، ج 10، ص 277، باب 7، رواية 1.

(1)  نهج البلاغة، خطبة 189، ص 279.

(2)  البحار، م 4، ج 10، ص 277، باب 7، رواية 1.

(1)  م. س، ص 117.

(2)  انظر: مجمع البيان، ج 1، ص 456.