بيِّنات
حوارات فكرية في شؤون الدين والإنسان والحياة
سماحة آية الله العظمى
السيّد محمّد حسين فضل الله
إعداد وتنسيق: شفيق محمد الموسوي
الجزء الأوّل
جميع الحقوق محفوظة للناشر
الطبعة الأولى
1420 هــ ـــ 1999 م
دار الملاك للطباعة والنشر والتوزيع ش.م.م
بسم الله الرحمن الرحيم
الإهداء
إلى سرّ الصفاء في عليائه المرحوم المقدّس السيّد عبد الرؤوف فضل الله وإلى طيبة الطهر في جنان ربّه المرحوم المقدّس السيّد محمد سعيد فضل الله
أهدي ثواب هذا العمل، راجياً من الله القبول
شفيق الموسوي
تصدير
الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى
وبعد، فإنّ هذا الكتاب "بيِّنات" يمثّل مجموعة من الأفكار والملاحظات والمداخلات المنفتحة على أكثر من أُفق ثقافيٍّ وواقعٍ حركيّ وانفتاح روحيٍّ، وصراع فكري، وساحة سياسية ممّا كانت تنشره نشرة "البيّنات" التي كانت تصدر صباح كلّ جمعة في مدى عام، جواباً عن سؤال وتعليقاً على قضية، وردّاً على شبهة في القضايا الإسلامية العامة كوسيلة من وسائل التوعية الثقافية للمسلمين، انطلاقاً من الإيمان بالمسؤولية الرسالية في مواجهة كلّ علامات الاستفهام الصادرة من جيل الشباب المتطلّع إلى المستقبل، الذي يعيش القلق الفكري أمام الأفكار الجديدة في حركة الصراع، الأمر الذي يجعله يسأل ويسأل ليعرف ويعرف حتى تكون المعرفة زاده إلى الإيمان الحقّ بالإسلام.
وقد قام الأستاذ الفاضل السيّد شفيق الموسوي حفظه الله هذه الكلمات البيّنات وتحقيقها وتوثيقها بشكلٍ دقيق حتى أصبحت كتاباً جامعاً وافياً بالأفكار الإسلامية التي أرجو أن ينتفع بها المؤمنون بما تثيره من قضايا وتطلُّعات وأسئلة جديدة، وإنّي إذ أشكر السيّد الموسوي على جهده وأسأل الله المزيد من الموفقية إنّه وليّ التوفيق وهو حسبنا ونِعْمَ الوكيل.
محمد حسين فضل الله
18 جمادى الثانية ـــ 1420 هـــ
المقدّمة
على مدى خمسين من الأعوام "موكَلٌ بالإسلام يتبعه".. تعب القلب، ولكن بقيت الروح متجدّدة، أُنهك الجسد، ولم تهنِ عزيمة أو تضعف إرادة.
أراد الإسلام بحجم العالَم، منحازاً إلى الناس في إنسانيّتهم وقضاياهم.
في مجال الدعوة إلى الله زار الجميع في مواقعهم ومساجدهم وجامعاتهم ومعاهدهم، وربّى كلّ هذا الجيل على عِشْق الإسلام.. بين الأضلاع حَمَلَ همومَ الشباب وتطلُّعاتهم، وأرادهم أن يكونوا صنَّاع حركة الإبداع في الأُمّة.
لم يرد للإنسان أن يختنق في خوفه وقلقه وضياعه، وحفَّز داخله لأن يعيش الوعي أُفقاً منفتحاً على مساحة الحياة.
تعب القلب، ولم تتعب الروح، صرخة من الأعماق يطلقها: "إنَّ العالم اليوم منفتحٌ على الإسلام، وإنَّ علينا أن نعرف كيف نقدّم الإسلام له.. فكِّروا بروح العصر، وتعلَّموا لغة العصر، وافهموا إسلامكم جيّداً" هذا الجيل من أقصى الأرض إلى أقصى الأرض، وفي لحظة خوف عابرة، أبدلتها الإرادة الإلهيّة بلطفها اطمئناناً، عبَّر عن أسمى الوفاء، فكان "للسيّد" موقع القلب في كلِّ القلوب.
وبعين الله ورعايته أشرف سماحته (دام ظلّه الشريف) على هذا الأثر الطيّب "بيّنات" الذي صبَّ فيه من عقله، وبعفو الخاطر، أغزر الفِكرَ، فكانت نتاجاً ثقافياً متميِّزاً، يدلُّ على أصالةٍ في المنهج، وعمقٍ في الرؤى، ومسؤولية في التصدّي لكلِّ الأسئلة القلقة الحائرة التي تبحث عن رؤية واضحة.
فكلُّ القلوب فدىً لقلبك يا صاحب القلب الكبير.
وإنّني أمل أن يوضح هذا الكتاب معالم الطريق لشبابنا وفتياتنا في الحركة الإسلامية العالميّة، سائلاً المولى التوفيق والتسديد.
وفي الختام أشكر للأُخوة الأعزّاء الذين ساندوني ووقفوا معي طوال فترة إعداد الكتاب، إن من خلال وضع الأسئلة، وتوفير المصادر والمراجع والمتابعة والتنسيق، ولا سيّما سماحة الشيخ محمد أديب القبيسي، ومدير المكتب الإعلامي لسماحة السيّد الأستاذ هاني عبد الله، ومساعده الشيخ حسن بشير، متمنِّياً لهم ولكلّ العاملين في خطّ الإسلام كلّ نجاح.
شفيق محمد الموسوي
20 جمادى الثانية 1420 هــ
29 أيلول 1999 م
الإسلام الحركي
واقع وتحدّيات
الإسلام الحركي: معنى ودلالة
دائماً ما تطلقون تعبير "الإسلام الحركي"(1) ما دلالة هذا التعبير، وهل هو في مقابل الإسلام السياسي والإسلام التقليدي؟
عندما نقول الإسلام الحركي، فإنّنا نقصد به الإسلام الذي يتطلّع إلى الحياة كلّها، ليحرّك طاقاتها وليبدع فيها، ولينطلق الإنسان متحمّلاً مسؤولياته عن إعمار الحياة من الناحية الماديّة والأخلاقية والروحية.
إنّ معنى الإسلام الحركيّ، هو الإسلام الذي يجعل المؤمنين به طاقات متحرّكة تتحمّل مسؤولياتها في كلّ القضايا العامة المتّصلة بالإنسان وبالحياة في مقابل الفهم الخاطئ للإسلام، هذا الفهم الذي يدفع الإنسان لأن ينعزل عن الحياة ويجمّد طاقاته، ويعيش في حالة نفسيّة ضيّقة ينتظر فيها الموت من دون أن يعمل على إغناء إنسانيّته، وبعضنا يعيش إسلامه ويمارسه بطريقة جامدة، ولا يمارسه بطريقة متحرِّكة يغني بها حياته وحياة مَن حوله.
إنَّ الله تعالى حمّلنا مسؤولية الأرض التي نعيش عليها، ومسؤولية الحياة التي نحياها، بأن يبذل كلّ إنسان فيها من عقله عقلاً، ومن روحه روحاً، ومن طاقته طاقة، فيعيش مرحلته قوّةّ وثباتاً، حتى إذا ما قطع هذه المرحلة، كانت الحياة من خلال نشاطه وطاقاته أفضل، فلا يمرّ عندها في مرحلة حياته هذه ليأخذ منها من دون أن يعطيها شيئاً جديداً: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال : 24].
الإسلام الحركي هو الذي يتطلّع إلى الحياة كلّها ليحرّك طاقاتها وليبدع فيها.
بين الإنفتاح والإنغلاق
إستعرضتم في كتابكم "الحركة الإسلامية"(1) فكرين ينطلق بهما التيّار الإسلامي، فَمنْ مؤيّد لخيار الإنغلاق السياسي، ومن معارض للإنغلاق مؤيّد لخيار الانفتاح، وفي المقابل، لكلٍّ دلالاته ومرتكزاته، وقد بدوتم من ذوي الرأي الثاني بشكلٍ مطلق، ألاَ تعتقدون أنَّ الفئة الأولى قد آزرت هذا الخيار من منطلق وقائع وأحداث عانتها وعانى منها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مع بعض المضلِّلين، ممّا أوجب نزول الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ(2) خَبَالاً}(3) [آل عمران : 118].
هذا السؤال فيه خلطٌ بين حالتين، تارةً نقول: إنّ علينا أن ننفتح على الآخرين، بمعنى أن نحاورهم، ونتعاون معهم في القضايا المشتركة، ونتعايش معهم على أساس القواسم المشتركة، انطلاقاً من قول الله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ} [آل عمران : 64]، وفي السيرة أيضاً أنَّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عندما وصل إلى المدينة عقد مع اليهود معاهدة، وخاطب المشركين بالدعوة إلى الحوار والكلمة السّواء، وكما كان (صلّى الله عليه وآله وسلّم) منفتحاً على اليهود(4) كان منفتحاً على النصارى، وهذا ما نقرأه في السيرة الشريفة حيث أجلسهم في المسجد وناقشهم وحاورهم.
وتارّةً أخرى، نقول: هناك فرق بين أن نحاورهم على أساس القضايا المشتركة، وبين أن نتّخذهم بطانة، وأن نجعلهم محلَّ أسرارنا وندخلهم في خصوصياتنا، وليس هم الذين لا نُدخلهم فقط، حتى أنَّ بعض المسلمين غير المُؤْتَمَنين على قضايانا ومصالحنا، لا يمكن أن نشاركهم في همومنا وتطلُّعاتنا.
وعلى هذا، فالانفتاح هو أن نتحرّك مع الآخرين في الحالات السياسيّة المشتركة التي نحتاج فيها أن نتعاون معهم، لذلك، لا مانع عندنا في التعاون مع كلّ الناس في حرب إسرائيل، ومواجهة الاستكبار الأميركي إذا كانوا هم مخلصين في هذا التعاون.. وأمّا أن نجعلهم بطَانةً، كما هي "البطانة" داخل الثوب، فهذا شيء آخر.. والسائل ربّما اشتبه عليه الأمر.
الانفتاح هو التحرّك مع الآخرين في الحالات السياسية المشتركة التي يُحتاج فيها التعاون معهم.
العنف والعنف المضادّ
يردُّ البعض إخفاق الإسلاميّين في كثير من المواقع إلى أسلوب استخدام العنف والتحوّل من الإطار الفكري النظري إلى أسلوب العمل العسكري والعنفي، ويضرب هؤلاء المثل عن التجربة الإسلامية في الجزائر، حيث بدأ التراجع لمصلحة النظام منذ أن دخل الإسلاميون دائرة العَسْكَرَة، هل تعتبرون أنَّ ذلك بات يستدعي نبذ العنف والعودة إلى أسلوب الرفق السياسي لامتلاك زمام المبادرة واحتضان الجماهير؟
الواقع أنَّ دين الإسلام هو دين الرفق الذي يريد للنّاس أن يأخذوا به {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل : 125] ويقول سبحانه أيضاً: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت : 34]. وهكذا، فإنَّ الله لا يريد للنّاس أن يأخذوا بأسباب العنف إلاَّ إذا بادرهم الآخرون بالعنف {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة : 190] وفي آيةٍ أخرى {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ} [النساء : 75] فمسألة القتال إنَّما انطلقت كحالة دفاعية، بمعنى أنَّ الآخرين إذا فرضوا عليكم القتال وأرادوا إلغاءكم، وإلغاء حريَّتكم وإنسانيّتكم عن طريق العنف، فإنَّ عليكم أن تردّوا العنفَ بمثله {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة : 194].
إذاً الخطّ الإسلامي الأساس في هذه المسألة هو الرفق أوّلاً، أمّا العنف فهو كالعملية الجراحية التي يلجأ إليها الإنسان إذا ما تعرّضت حياته للخطر. لذلك نقول إنَّ الإسلاميّين لم يبدأوا العنف، وإذا كان السؤال قد ذكر الجزائر، فإنَّ الإسلاميين في الجزائر قد نجحوا بدايةً في الانتخابات البلدية وحصلوا على الأكثرية، وعندما طُرِحت مسألة الانتخابات النيابية، دخل الإسلاميون في هذه الانتخابات بالطريقة السلميّة والرفق وحصلوا على الأكثرية في الدورة الأولى، وكان من الممكن أن يحصلوا على الأكثرية في الدورة الثانية لولا أن تَدَخّل الجيش وألغى نتائج الانتخابات(1) خوفاً من أن يتحوّل الحكم في الجزائر إلى حكم إسلاميّ حتى ولو جرى ذلك بالطريقة الديمقراطية، وانطلق النظام الذي يقوده الجيش والذي تربّى في أحضان الفرنسيّين إلى مواجهة الإسلاميين بالعنف، فألغى جهازهم السياسي ورمى بهم في السجون، فما كان من هؤلاء الإسلاميين إلى أن يأخذوا بالدفاع عن أنفسهم.
وعلى ضوء هذا، نفهم أنّ الحركة الإسلامية في الجزائر لم تؤمن بالعنف كخيار أوَّلي ووحيد.. وقد اختلطت الأمور في الجزائر عندما ارتبكت الأوضاع وتحوّلت إلى فوضى تُشبه الفوضى التي كانت سائدةً عندنا في لبنان، وقد دخل البعض على خطّ الإسلام فأصبحوا يذبحون ويقتلون الصحفيّين والمثقّفين، ونحن لا نستطيع أن نصدِّق النظام في الجزائر بأنَّ الإسلاميين يقفون وراء هذه المسائل، لأنَّ المعلومات في ذلك تأتي من قِبَل النظام، ولذلك لا نستطيع تصديقها وقد استنكرنا نحن هذه الأعمال جملةً وتفصيلاً، حتى ولو قام بها الإسلاميون، واعتبرنا أنّ ذلك خطأ كبير إذا قام الإسلاميون ببعض ذلك، لأنّه أمرٌ غير مبرّر شرعاً، ولأنّه يشوّه صورة الإسلام في العالم وفي المجتمع الذي يتحرّكون فيه.
وإنَّنا نجد أنّ بعض الأنظمة عملت على أن تمنع الإسلاميين من أن يمارسوا حقَّهم في المواطنية، أو أن يعملوا سياسياً باسم الإسلام، لذلك حاصرتهم واضطهدتهم ومارست العنف ضدَّهم، فما كان من المجاهدين إلاّ أن تصدّوا لهذا العنف.
إنَّ العنف يصبح مبرَّراً حضارياً لدى كلّ الشعوب وخاضعاً لمنطق حضاريّ إذا ما كان رفع السلاح من أجل تحرير أرض من المحتل. وأخيراً نقول: إنّ الإسلاميين ينفتحون على الرفق كما انفتح النبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) على الرفق بالدعوة إلى الله، من خلال الحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، ولكن عندما فُرضَت الحرب على النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) واجهها بأسلوبه الدفاعي، وعندما تُفرض الحرب على الإسلاميّين، فمن الطبيعي أن يواجهوها بالأسلوب الدفاعي. وعلى هذا، فإنَّ العنف في الإسلام دفاعيٌّ وليس هجومياً.
بعض الأنظمة عملت على أن تمنع الإسلاميّين من أن يمارسوا حقّهم في المواطنية، لذلك حاصرتهم ومارست العنف ضدَّهم، فما كان من المجاهدين إلاّ أن تصدّوا لهذا العنف.
الإسلام والسلطة
يطرح البعض ـــ وبصفتهم الدينية ـــ أنَّ الإسلام ليس مشروع سلطة، في محاولة لإبعاد الإسلاميّين عن التعاطي في الشأن السياسيّ العام، وكأنّنا نفهم أنَّ الإسلام حالة طقسيّة لا علاقة لها بشؤون السياسة والحياة والتحدِّيات، ما رأي سماحتكم بذلك؟
مشكلة هؤلاء الذين يطرحون هذا الكلام أنَّهم يقولون أيضاً، إنّه من حقِّ الإسلام أن يكون له رأيٌ في السياسة والتشريع، وهم بصفتهم الدينية يمارسون العمل السياسي باسم الإسلام، ويحاولون أن ينظّروا للأوضاع الموجودة في الساحة تنظيراً إسلامياً. هؤلاء الذين يقولون إنَّ الإسلام ليس مشروع سلطة، وعليه أن يبتعد عن التخطيط للوصول إلى السلطة، إنَّنا نسألهم إذا كانوا من الفقهاء، كيف يمكن أن نطبّق الفقه الإسلاميّ السياسيّ على الناس من دون سلطة، وكيف يمكن تطبيق العدل من دون سلطة؟
إنَّ كلّ الاتجاهات الفكرية، علمانية أو اشتراكية أو ديمقراطية أو غيرها، تعمل من أجل الوصول إلى السلطة، فلماذا لا يكون من حقِّ الإسلاميّين أن يعملوا للوصول إلى السلطة؟ إنَّ هذه الطروحات لا تمثّل الدقّة في المفردات التي تطرحها. فإذا كان الإسلام يمثّل ثروةً وبرنامجاً قانونياً يتّسع لكلِّ جوانب الحياة، وإذا كان الإسلام يمثِّل خطّاً في السياسة والاجتماع والحكم، فكيف يمكن أن نفكِّر أنَّ على الإسلاميين الابتعاد عن السلطة؟ وإنَّ الحديث عن ضرورة أن يتبع الإسلاميون الأسلوب الحكيم والطرق المعقولة وألاّ يكون العنف هو الأساس، فهذا الكلام مقبول، ويمكن أن تُوضع له خطّة وتُناقش تفاصيله. أمّا أن يُقال إنّ الإسلام ليس مشروع سلطة، فمعنى ذلك أنَّ على المسلمين العمل على أن يكونوا دائماً تحت تأثير السلطات الكافرة، ومعنى ذلك أيضاً أن نعطي السلطات الكافرة شرعية حكم المسلمين، ولا نعطي المسلمين شرعية حكم أنفسهم؟!
لماذا يكون للنّاس الذين يملكون اتّجاهات علمانية الحقّ في حكم المسلمين، ولا يجوز للمسلمين ذلك؟ سؤالٌ يبحث عن جواب، ولا جواب فيما نراه يرتكز على الأُسس الإسلامية الفقهيّة.
كلُّ الاتجاهات الفكرية تعمل من أجل الوصول إلى السلطة، فلماذا لا يكون من حقِّ الإسلاميّين أن يعملوا للوصول إلى السلطة؟
حكم الإسلاميين.. والنموذج التركي
كنتم من أوائل القادة الإسلاميّين الذين شجَّعوا على دخول الحركة الإسلامية في نطاق الحكم في البلدان الإسلامية وبالطريقة التي تسمح بها الظروف، ألا تجدون في هذه الأيام أنَّ ثمّة مأزقاً كبيراً يمثّله النموذج التركي ووصول "حزب الرّفاه" إلى السلطة واستمراره في توقيع اتفاقات عسكرية مع إسرائيل(1)، تحت وطأة الضغوط الداخلية والخارجية؟ ألَا ترون أنَّ ثمّة بوناً شاسعاً يفرضه مأزق الدخول في السلطة، بين ما هو النظرية والتطبيق؟
إنَّ للإسلاميين الحقّ في أن يتحرَّكوا من أجل الوصول إلى الحكم، لسبب بسيط جدّاً، وهو أنَّ الإسلام في وعينا الثقافي الإسلامي ليس ديناً مقتصراً على العبادة والأخلاقيات، بل هو دينٌ يشتمل على الجانب العقيدي والعبادي والمدني، بمعنى أنّه يشرِّع للمدنية الإنسانية، حيث أنَّ الله سبحانه جعل لكلِّ واقعة حكماً شرعياً وقانوناً إسلامياً يصيبه مَن يُصيبه ويخطئه مَنْ يخطئه، لذلك فإنَّ هدف الإسلام والمسلمين وهدف الحركة الإسلاميّة هو تغيير ذهنية الناس ليتقبّلوا الإسلام بكلّ عقائده وشرائعه ومفاهيمه وخططه وبرامجه، ليصلوا من خلال هذه التعبئة الثقافية بالإسلام إلى الهدف الكبير {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ} [الأنعام : 57] ومن الطبيعي أنَّ الوصول إلى هذا الهدف يحمل أخطاراً ومشاكل كثيرة، فالاستكبار العالمي من جهة والكفر العالمي من جهة أخرى، متحالفان ويعملان على ألاّ تقوم للإسلام قائمة، وألاّ يُطَبَّق في الواقع القانوني للإنسان، لذلك نشروا كلَّ قوّاتهم، وعملوا بكلّ أساليبهم ووسائلهم من أجل عدم السماح للإسلام بأن يصل إلى هذه النتائج، وقد وظَّفوا في بلاد المسلمين حكّاماً وأجهزة مرتبطة بالاستكبار العالمي من أجل الضغط على المسلمين وإفساد حياتهم، أخلاقياً واجتماعياً وسياسياً.
ونحن نعرف أنَّ الوصول إلى أهدافنا يكلّفنا كثيراً، ولكن من خلال مسؤوليّتنا عن هذا الإسلام، لا بدّ لنا أن نواصل المسيرة. ومن الطبيعي أنّنا لا ندعو إلى الفوضى في العمل الإسلامي، ولا ندعو إلى العنف كقاعدة أساس للحركة الإسلامية، وإنّما ندعو إلى سبيل ربّنا بالحكمة والموعظة الحسنة، محاولين الاستفادة من كلِّ الظروف والفرص للوصول إلى أهدافنا، بالرغم من كلّ الضغوط والأوضاع القاسية التي تحيط بنا.
ونحن نستغرب من بعض علماء المسلمين وقوفهم موقفاً سلبياً قاسياً، أكثر ممّا يقفه أيّ إنسان غير إسلامي، وذلك عندما يرفضون الدولة الإسلامية أو الدولة الدينية.. ولذا، لا أدري ما هي الفكرة التي ينطلقون منها في هذا الأساس، وكيف يمكن أن يتحدّثوا عن ضرورة العمل الثقافي للإسلام، في الوقت الذي نعرف أنّ أيّة ثقافة لا بدّ أن تصل إلى النتائج الحاسمة لما تشتمل عليه من فكر عقيدي وقانوني وسياسي وما إلى ذلك، وهم في الوقت عينه يرفضون الوصول إلى هذه النتائج الحاسمة!
وهناك أكثر من تجربة وصل إليها الحكم الإسلامي، والتجربة الرائدة في هذا المجال، هي الثورة الإسلامية في إيران التي استطاعت إنتاج الجمهورية الإسلامية التي لا تزال بقيادتها الإسلامية الحكيمة سائرة على خطّ الإسلام، ولا تزال أمينة لكلِّ شعاراتها وخططها وبرامجها، بالرغم من كلّ الضغوط الهائلة التي تواجهها، حيث يعمل الاستكبار العالمي عبر إعلامه بتشويه صورتها، ويقوم بمحاصرتها اقتصادياً وسياسياً من خلال قوّته، ومع ذلك، فهي لا تزال سائرة في الخطّ لتحقيق الأهداف الإسلامية، مع عدم إدّعائها العصمة لنفسها.
وهناك تجربة الحكم الإسلامي في السودان(1)، وهي تجربة جيّدة، قد تحمل بعض السلبيات، ولكنّها تحاول أن تؤصِّل خطَّها الإسلامي وتثبّته، وتعلن للعالم أنّها لن تتراجع عنه بالرغم من كلّ الضغوط، ولذلك فهي تتلقّى ضغوط الاستكبار العالمي وحلفائه، وضغوط الكفر العالمي وجماعته، وما تزال متمسّكة بأهدافها.
وهناك التجربة التي خاضها الإسلاميون في تركيا، وقد نصحناهم قبل أن يصلوا إلى الحكم ألاّ يدخلوا إلى الحكم في المرحلة الحاضرة، لأنّهم لا يملكون الأكثرية الساحقة في البرلمان التركي بالمستوى الذي يستطيعون فيه أن يؤلّفوا حكومة إسلامية مئة بالمئة، ولذلك اضطروا إلى تأليف حكومة ائتلافية من العلمانيين والإسلاميين. مع الإشارة إلى أنَّ الظروف الضاغطة في تركيا، إنْ من خلال سيطرة الجيش في المطلق، حيث تركيا تُحكم عسكرياً تحت ستار ديموقراطي، وإنْ من خلال اعتبار تركيا عضواً في الحلف الأطلسي، وهي تُعتبر أوروبية أكثر ممّا هي إسلامية، وخاضعة للاستكبار الأميركي بكلِّ قوّة.
ومن هنا، فإنَّ الإسلاميين في تركيا، تسلَّموا الحكم في ظروف لا تسمح لهم بتطبيق برنامجهم وتحقيق أهدافهم، ولذلك هم غير قادرين على إنهاء العلاقات بين تركيا وإسرائيل، وإلغاء وجود القواعد العسكرية الأميركية والغربية في تركيا. فهناك أوضاعٌ حديدية تحمي مثل هذه العلاقات والأوضاع.
ولكنّنا نجد أنَّ هناك إيجابية كبيرة في وصول الإسلاميين إلى الحكم في تركيا، حيث استطاعوا اختراق الحواجز التي وُضعت أمام الإسلام من خلال الفكر العلماني الذي عمل على إبعاد الإسلام عن أيِّ دور في الحياة والحكم، وحصر دوره في المسجد وحسب، وصاروا يمثّلون التحدّي لكلِّ الدول العربية والإسلامية التي ترفض أن تعطي الإسلاميين أيّ رخصة في العمل على أساس الإسلام.
إنَّنا لا ندعو إلى الفوضى في العمل الإسلاميّ، ولا ندعو إلى العنف كقاعدة أساس للحركة الإسلامية، وإنّما ندعو إلى سبيل ربِّنا بالحكمة والموعظة الحسنة، محاولين الاستفادة من كلِّ الظروف والفرص للوصول إلى أهدافنا.
المشروع الإسلامي ومحاولات الإسقاط
يقول البعض إنَّ المشروع الإسلامي بات يعيش أجواء الإحباط، سواء على مستوى النكسات التي تعرّض لها في الجزائر ومصر وفلسطين، أو على مستوى حالة الصراع الداخلي الذاتي في الحركة الإسلاميّة التي تتحسَّس أخطاراً داخلية فيما بين فصائلها، في الوقت الذي تغفل فيه عن أخطار المشروع الاستكباري العالمي الذي يحاصرها، هل توافقون على مقولة تراجع المشروع الإسلامي، أم أنّه تراجعٌ واقعيٌّ ميدانيّ، وليس تراجعاً فكرياً؟
في تصوّري أنّنا إذا أردنا أن نعرف حجم قوّة المشروع الإسلامي في الحركة الإسلامية العالمية المتنوّعة في فصائلها وواقعها وأساليبها، فإنَّ علينا أن ندرس حجم الحرب التي يثيرها الاستكبار العالمي من جهة، والكفر العالميّ من جهة أخرى ضدّ الإسلاميّين الحركيّين في العالم، وضدَّ الإسلام بالذّات، وحتى على مستوى الإسلام الذي يُطلق عليه الإسلام التقليدي. ولذا، فلو لم يكن الإسلام كلُّه خطراً على مصالح الاستكبار العالمي في امتيازاته الاقتصادية والسياسية والأمنية في العالم الثالث عموماً، وفي العالم الإسلامي بالذّات، لما كانت هناك ضرورة لأن يشنّ هذا الاستكبار، وفي مقدّمته الاستكبار الأميركي مثل هذه الحرب الشاملة على الحركة الإسلاميّة وعلى الإسلام، تارّة تحت عنوان الحرب على "الأصولية"، وأخرى بعنوان الحرب على "الإرهاب"، وثالثة بعنوان الحرب على "التشدُّد والتطرّف.." ومع كلِّ هذه الحرب نعتقد أنّ الحركة الإسلامية لا تزال قويّة، وعلينا أن نكون واقعيّين ومنصفين، فليس معنى أن ينطلق المشروع الإسلامي اليوم ليحصل على النتائج غداً. نحن نعرف أنَّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عندما انطلق في مشروعه الإسلامي من خلال رسالة الله كان فرداً، ثمّ بدأ تَكوُّنُ الجماعة المسلمة من الاثنين والثلاثة والأربعة، وحدث الاضطهاد ضدّ المسلمين الذين هاجروا مرتين إلى الحبشة وإلى المدينة بعد ذلك ليتخفَّفوا من الاضطهاد، ثمّ شنَّ الاستكبار المشرك الحرب على الإسلام وعلى المسلمين، فكان المسلمون لا ينتهون من حرب حتى يواجهوا حرباً أخرى حتى جاء نصر الله والفتح، ودخل الناس في دين الله أفواجاً.
ومن هنا، فإنَّ الحركة الإسلامية عندمابدأت في مواجهة الكفر والاستكبار السياسيّ والاقتصادي والأمني والثقافي، فإنَّها دخلت في حروب مريرة على المستوى المحلّي في حركة كلِّ مشروع إسلامي في داخل المنطقة التي يعيش فيها أو البلد الذي يتحرّك فيه، أو على المستوى العالمي في التحدِّيات الخارجية التي وقفت الحركة الإسلامية فيها ضدّ مشاريع الاستكبار في مناطق كثيرة من العالم الثالث والإسلامي.
إنَّ من الطبيعي، ونتيجة لهذه الظروف والأوضاع القاسية، أن يصيب الحركة الإسلامية بعض الضعف بسبب حالة الحصار السياسيّ والاقتصادي والأمني في هذا الموقع أو ذاك، وأن تخسر في أرض لتتقدّم في أرض أخرى، وهذا الأمر ليس من خصوصيّة المشروع الإسلامي وحده، بل من خصوصيّة أيِّ مشروع يدخل الصراع على مستوى العالم، ولكنَّ عظمة المشروع الإسلامي أنّه لم يضعف أمام ضربات الاستكبار العالمي بالرغم من عدم وجود أيِّ توازن في ميزان القوى.
نحن لا ننكر وجود نقاط ضعف داخل الحركة الإسلامية، ثقافية كانت أو سياسية، أو على مستوى عدم تكامل الحركات الإسلامية بعضها مع بعض، أو فيما تعيشه من مشاكل التخلّف في بعض الساحات. لكنّنا نقول: إنَّ الحركة الإسلامية لم تسقط تحت تأثير الإحباط ولم تتراجع وما تزال في الميدان تحارب لتتقدّم تارّة، وتتأخّر على أساس تحسين مواقعها تارّة أخرى، ولن يخذل الله رسالته {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص : 5] وعلى كلّ حال، فإنَّ علينا أن نعمل بكلّ ما عندنا من قوّة في سبيل أن نقوى بالله سبحانه ونعتزَّ به، وأن نعمل على الإيحاء لأنفسنا بالقوّة والأمل الكبير، وبالابتعاد عن اليأس {وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف : 87].
عظمة المشروع الإسلاميّ أنّه لم يضعف أمام ضربات الاستكبار العالمي بالرغم من عدم وجود توازنٍ في ميزان القوى.
إيران: احتواءٌ للقوميّات في إطار الإسلام
يقول الصادق المهدي رئيس وزراء السودان السابق(1): "ففي إيران كان النموذج الأصولي أنموذج القرن في التعبئة الشعبية والإطاحة بالنظام الفاسد. والبديل الذي أقامه النظام الثوري في إيران فيه استصحاب للقومية الفارسيّة، ولكثير من مؤسّسات الدولة الحديثة، وبعض ممارسات الديموقراطية، ولكنّه مع ذلك ما زال محبوساً في قفص ذهبيّ وما زال مقيَّداً بأثقال ماضويّة تعطي ميزة لرجل الدين على حساب سائر المواطنين.. الثورة الإيرانية كأنموذج للبلاغ والاحتجاج قمّة في التفوّق، ولكنَّ النظام البديل الذي أقامته لا يصلح أنموذجاً للحلِّ الإسلاميّ".. ما رأيكم بذلك؟
في تصورّي أنَّ الصادق المهدي يتحدّث عن إيران من بعيد، ومن خلال الإعلام الغربي الذي يصوّر إيران كما لو كانت دولة فارسية تعيش القوميّة الفارسيّة، وتحجب عن الشعب الإيراني كلّ الفرص في تحمّل المسؤوليات لتجمعها في يد علماء الدين، وكما لو كانت دولة شيعيّة متعصّبة. ولكنّنا عندما ندرس التجربة الإسلامية في إيران، فإنَّنا نجد أنّها التجربة التي انفتحت على كلِّ القوميّات الموجودة في داخلها، فجمعت العرب والأكراد والأتراك والفرص والبلوش تحت عنوان الإسلام الذي يعطي لكلِّ قومية حقّها في خصائصها، معتبرةً أنَّ المسؤولية مشتركة بين الجميع على أساس توحيد الله ورسالة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وعلى أساس النتائج التي يعيش فيها الإنسان إنسانيّته بعيداً عن قوميّته. ولعلَّ بعض المشاكل الناشئة من التنوّع القومي، هي بسبب التدخّلات الخارجية والمخابرات المركزية الأميركية التي لا تريد لإيران الإسلام أن تنجح في تجربتها في احتواء كلّ القوميّات في إطار الإسلام.
أمّا مقولته بأنَّ إيران "هي دولة رجال الدين، وليس للشعب الإيراني دورٌ في تحمّل مسؤوليّاته"، فهذا أمرٌ لا واقع له. صحيحٌ أنَّ علماء الدين دخلوا الساحة السياسيّة، ووصلوا إلى كثير من المواقع، ولكنَّ الصحيح أيضاً أنّ غيرهم من المواطنين الإيرانيين يتحرّكون في مواقع المسؤولية بشكلٍ مكثَّف جدّاً، وهذا مجلس الشورى يضمّ علماء دين وغيرهم، كما نجد أنَّ كثيراً من مؤسّسات الدولة لا يمثّل فيها علماء الدين رقماً كبيراً. وقد تتميَّز إيران عن بقية الدول، بأنَّ علماء الدين يملكون مواقع متقدّمة، ولكن ليس هذا على أساس الطبقيّة، بل على أساس الكفاءة التي يتحمّلونها ويعطيهم الشعب ثقته على أساسها.. وأمّا أنَّ إيران تعيش في قفص ذهبيّ، فمن الطبيعي أنَّ الغالبية من الشعب الإيراني تدين بالمذهب الشيعي، ولكن لم تضطهد مذاهب أهل السُنّة، بل أنّها أسَّست جامعة "سيد قطب"(1) التي يُدرّس فيها مذهب أهل السُنّة، حتى أنّها أعطت للديانات الأخرى حقوقها بحجم وجودها، فهناك في مجلس الشورى أعضاء يهود ونصارى.
وأمَّا بعض المشاكل المتبقّية حتى اليوم في إيران، فإنَّها بسبب ما خلَّفه العهد البائد زمن الشاه(2) من صعاب، ثمّ إنَّ الحرب التي فُرضت على إيران من قِبَل دول العالم ووكيلها حاكم العراق(3)، استطاعت أن تسبّب الأذى للبُنى التحتية والاقتصادية، ولكنَّ السياسة الاقتصادية التي انطلقت بها الجمهورية الإسلاميّة بعد الحرب، تشبه المعجزات فيما حقّقته من نتائج كبيرة.
نحن نعتقد أنَّ هذا الرجل يعيش عقدة من الخطِّ الإسلاميّ، لأنّه يعارض الاتجاه الإسلاميّ في دولة السودان، ويعمل للبحث عن سلبيات تشوّه صورته في نظر الناس.
عندما ندرس التجربة الإسلامية في إيران، فإنّنا نجد أنّها التجربة التي انفتحت على كلِّ القوميات، معتبرة أنَّ المسؤولية مشتركة بين الجميع.
هل هي مؤامرة؟
ولو أنَّ كلمة "مؤامرة" استُهْلِكَت، هل ترون أنَّ هناك مؤامرة على الإسلام؟
نحن نشعر بأنَّ أميركا والمتحالفين معها يقودون حملة ضدّ الإسلام، ونحن نقرأ في تصريحات المسؤولين الأميركيين وبعض الأوروبيّين أنَّ الإسلام أصبح يمثّل الخطر الجديد على الغرب، تماماً كما كانت الشيوعية تمثّل الخطر عليه.. إنَّهم صنعوا من الإسلام خطراً على الغرب(1)، ولكن نريد أن نقول لكلِّ الرأي العام الغربي، إنَّ الإسلام ليس ضدّ الغرب، بدليل أنَّ بعض المسلمين يعيشون هناك من دون رفض له، وهم يستفيدون من حرّياته ومن فرص العمل فيه.
نحن نرغب أن ندخل في حوار بين مفاهيم الإسلام ومفاهيم الغرب، ونتعاون في القضايا الإنسانية المشتركة، ولكن نريد من الغرب أن يتعامل معنا تعاملاً إنسانياً على أساس الاحترام المتبادل والمصالح المتبادلة.
نريد من الغرب أن يتعامل معنا تعاملاً إنسانياً على أساس الاحترام المتبادل.
الخوف من الرأي
إنَّنا من الشعوب التي حُرِمت ـــ قهراً ـــ من ممارسة عملية الاستفتاء العام فيما يخصُّ قضايانا الأساسية، وخصوصاً السياسيّة منها، ممّا أوجد أجيالاً لا تعرف أهميّة هذا العمل وتأثيراته في حركة الشعوب، ألَا تعتقدون أنَّ هذا الإبعاد السياسي للفرد في العالَم العربي والإسلاميّ هو من أخطر الحروب التي تُشَنُّ على شعوبنا؟
هناك سياسةٌ في العالم الثالث غالباً، وفي العالم العربي بالذّات، تعمل على إلغاء دور الشعب في أن يخطّط ويفكّر ويعطي رأيه بصراحة وبقوّة في القضايا السياسيّة والاقتصادية والأمنية والاجتماعية، ولذلك فإنَّ الحاكمين يخافون من الاستفتاء الشعبي، ولو فرضنا بأنَّهم أقرُّوا بذلك، فإنَّهم يعملون على تزوير نتائج الاستفتاء، كما يزوّرون الانتخابات.
والمعادون لشعوبهم يتَّهمون إيران بتضييقها على الحريات، مع أنَّ إيران هي الدولة الوحيدة في المنطقة التي أعلن فيها الإمام الخميني (قدِّس سرّه) عن ضرورة العمل بالاستفتاء الشعبي في كلّ شيء، فكان الاستفتاء على الدستور، وعلى اختيار رئيس الجمهورية، وعلى كافة القضايا الحيويّة.
ونحن دَعَوْنا وما زلنا إلى أن يكون انتخاب رئيس الجمهورية من الشعب، وإلى أخذ رأيه في القضايا المصيرية.. ولكنَّ الذين يسيطرون على الأوضاع العامة لا يريدون ذلك، لأنَّهم يخافون من الشعب ومن رأيه.
دَعَوْنا إلى انتخاب رئيس الجمهورية من الشعب.. ولكنّ المسيطرين على الأوضاع العامّة يخافون من الشعب ومِنْ رأيه.
ولاية الفقيه وقيمة رأي الشعب
بمقارنة بين الحكم الإسلامي والأنواع الأخرى من الأنظمة يتّهم البعض الإسلام بأنّه الأكثر ديكتاتورية لوجود ولاية الفقيه، ويتَّهم هذا البعض العلماء بأنّهم يدعون إلى محاسبة القيادة، ويُفتون في الوقت نفسه بولاية الفقيه.. ما ردّكم على هذا الرأي؟
أمّا الكلام على أنّ الإسلام عندما يحكم يتحوّل إلى ديكتاتوريّة، فردّه الواقعي هو الجمهورية الإسلامية في إيران والتي بدأت منذ أن انطلقت الثورة الإسلامية من خلال وعي الإمام الخميني (رضوان الله عليه) تعيد القيمة لرأي الشعب في كلّ قضاياه.. فقد أعطى الإمام الخميني التوجيه الأساس، وهو استفتاء الشعب في كلّ القضايا الحيويّة في إيران، فنحن نجد عندما وُضع الدستور الإسلامي الإيراني، أنّ الإمام (قدّس سرّه) طلب من الشعب أن يعطي رأيه بهذا الدستور، الذي هو الإسلام في مضامينه، وهكذا في انتخابات رئاسة الجمهورية ومجلس الشورى ومجلس الخبراء الذي ينتخب الوليّ الفقيه، فإنّ الشعب كان يعطي رأيه في كلِّ هذه المواقع.
والإمام الخميني كان يشيد دائماً بالشعب، ويقول بأنّ كلّ ما عندنا من الله، ثمّ ثانياً من الشعب والأُمّة.. واستمرّت الجمهورية الإسلامية حتى الآن بإعطاء الشعب حريّة الرأي والتصويت على كلّ القضايا التي تتّصل بالأمور الأساسية في إيران، وهكذا نلاحظ أنّ رئيس الجمهورية ينجح أحياناً بنسبة 60%، ويمكن أن ينجح آخر بعد ذلك بنسبة أخرى أقل أو أكثر، وأفضل دليل على وجود الحرية في إيران، هو انتخابات رئاسة الجمهورية مؤخّراً(1)، حيث من الممكن جدّاً أنّ النظام كان يفضّل وصول الشخصية(2) الأخرى المنافسة للسيّد خاتمي، ولكن عندما صوّت الشعب على اختيار رئيس الجمهورية الجديد، أمضى الوليّ الفقيه نتائج الانتخابات.
إذاً، ولاية الفقيه لا تمثّل ديكتاتورية، لأنّ الفقيه وفيما يتّصل بالقضايا الأساسية التي تهمّ البلد، فإنّه يتحرّك من خلال الشورى، واستشارة أهل الخبرة فيما لهم خبرة فيه في القضايا الحيويّة.
ولا أعتقد أنّ هناك دولة في العالم الثالث وربّما في العالم الآخر الذي يُسمّى متقدّماً يملك فيها الشعب هذه الحرية في إعطاء رأيه، بحيث تنطلق القيادة العليا، لتوافق الشعب على ذلك.. ولتقرّر ما قرَّره الشعب.. ليس هناك دولة تملك ما تملكه الجمهورية الإسلامية من إعطاء هذه القيمة لشعبها. ولذا، نقول: ليست ولاية الفقيه ديكتاتورية، ولكنّها قيادة تخضع للقانون الإسلامي، ولرأي أهل الخبرة، وللرأي الشعبي، ثمّ تعطي قرارها بعد ذلك.
انطلقت الثورة الإسلامية من خلال وعي الإمام الخميني (قدِّس سرّه) لتعيد القيمة لرأي الشعب في كلِّ قضاياه.
الانتخابات الرئاسية في إيران: دلالات على الحريّة
كيف لنا أن نرسم صورة الحرية من خلال انتخابات الرئاسة الإيرانية(1)، وكيف تقيِّمون المشاركة الكثيفة للشباب والنساء في ذلك؟
حريّة الشباب في اتّخاذ القرار
النقطة الأساسية التي نستوحيها من الانتخابات الإيرانية أنّ الإسلام عندما يحكم فإنَّه يمنح الأُمّة أو الشعب كلّ الحرية في التعبير عن رأيه ولا يتدخّل في قرارات الشعب حتى ولو كانت القرارات على خلاف رأي الجهات الحاكمة، ما يعني خطأ الفكرة التي تتحدّث عن أنّ الإسلام يقمع الحريّات ويحاصر الشعب داخل كهف سياسي أو ثقافي مظلم، وأنّه يعمل على فرض سيطرة رجال الدين على الشعب.. إنّ هذه الفكرة السلبيّة عن الإسلام ليست حقيقيّة، لأنَّ تجربة الجمهورية الإسلاميّة دلَّلت على أنّ نظامها في أسلوب الاستفتاء الشعبي الشامل هو النظام الأفضل في المنطقة وفي العالم الثالث وحتى في العالم المتقدّم كما يسمّونه.. فالنظام الإسلامي يستنطق الشعب في كلّ شيء وهذا ما بدأه الإمام الخميني (قدّس سرّه) عندما انتصرت الثورة(1)، حيث أعطى للشعب الحريّة في أن يعطي رأيه بالدستور، مع أنّ الدستور يمثّل أحكام القواعد الإسلامية للقانون، وهي أمورٌ لا يُستفتى فيها الشعب من ناحية شرعيّة، ولكن مع ذلك أراد أن يثبت للعالم بأنّ الإسلام يشاور الناس حتى فيما لا يحتاج فيه إلى الشورة تأسِّياً بالنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فيما قال الله تعالى له: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران : 159] والنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لا يحتاج إلى مشورة، وهكذا رأينا كيف انطلق الاستفتاء الشعبي في مسألة انتخاب مجلس الشورى ورئيس الجمهورية ومجلس الخبراء.. ونحن لا نعرف استفتاءً شعبياً حتى في أميركا والديموقراطيات الغربيّة كالاستفتاء الشعبي الشامل الذي يجري في إيران.. لذلك نحن نعتقد أنّ تجربة الجمهورية الإسلاميّة التي انطلقت من وعي قيادتها للأحكام الإسلاميّة في مسألة الحريّات، أثبتت أنَّ هذه الانتخابات والانتخابات السابقة تعطي للشعب حريّته، وأنَّ الشعب مارس هذه الحريّة في اتّخاذ القرار الذي قد يكون الكثيرون من رجال الدولة بعيدين عنه، ولكنّهم واحتراماً لحريّة الناس رحّبوا بانتخاب الرئيس الجديد معلنين عن تأييدهم له.
وهذه النقطة يجب أن تُقرأ لا من خلال خصوصية إيرانية، بل من خلال الخصوصية الإسلاميّة، لأنّ الإمام الخميني (قدّس سرّه) عندما تحرّك في ذلك، فلأنّه فقيهٌ مجتهد أراد أن يركّز منهج الحكم والدولة في خطّ الإسلام.
الذهنية الشبابيّة وصناعة المرحلة
والنقطة الثانية التي نستطيع أن نستهديها في هذا المجال، هي أنَّ على كلّ دولة وقيادة أن تنفتح على الشباب وتفهمهم وتواكب تطلُّعاتهم وتسمع تساؤلاتهم وتصغي إلى اعتراضهم ونقدهم، لأنّ الشباب هم المستقبل.. فالجيل الذي تمثّله القيادات والفعاليات اليوم هو جيل الماضي الذي استمرّ إلى الحاضر وله فضله وقيمته، ولكن لا يجوز للجيل القديم أن يستغرق في ذهنيّته وخطوطه الفكريّة وفيما ينظر إليه من الواقع، بل عليه أن يسمع إلى صوت الشباب، ولذلك فإنّ هذه الانتخابات مثّلت صرخة الشباب الذين يريدون أن تسمع الدولة صوتهم بعد أن استغرقتها التعقيدات السياسية والاقتصادية والأمنيّة، وبعد أن اندفع الكثيرون في أطرهم الثقافية بحيث أنّهم لم يخاطبوا الشباب بالشكل الأفضل. ومن هنا، لا بدّ للقيادة في أيِّ موقع أن تصغي إلى الشباب وتتعرّف مشاكلهم، لأنّ أيّة قيادة لا تصغي إلى صوت شبابها لا تستطيع أن تنهض، لأنَّ على القيادة أن تفهم الناس وتدرس عقولهم وتطلُّعاتهم، وللشباب ذهنيّته التي تصنعها مرحلته والتي قد تختلف عن مرحلةٍ سابقة. وقد تحدّث أمير المؤمنين عليٌّ (عليه السلام) عن بعض هذا الجانب عندما قال: "لا تخلّقوا أولادكم بأخلاقكم فإنَّهم خُلِقوا لزمانٍ غير زمانكم".
لذلك أعتقد أنّ القيادة الحكيمة بجميع مواقعها في الجمهورية الإسلاميّة والتي رحّبت بهذه المشاركة الساحقة للشباب والنساء، ستدرس من جديد مع الرئيس الجديد، الكثير من الخطط الجديدة لتحتوي كلّ تطلُّعات الشباب وحاجاتهم، ولتدخل معهم في حوار ينقد السلبيات ويركّز الإيجابيات. وهذا أمرٌ نحتاجه في كلّ موقعٍ من المواقع لنسمع صوت الشباب وكيف يتمثّلون العقيدة والشريعة والقضايا السياسية والاجتماعية لنفهمهم جيّداً ونعالج كلّ قضاياهم ومشاكلهم.. إنَّ الذين يجلسون في الأبراج العاجية ويقرأون الكتب ولا ينزلون إلى واقع الناس لم يستطيعوا أن يؤكّدوا الدعوة بين الناس أو يغيّروا واقعهم، لأنّ الذي لا يعيش مع الناس لا يستطيع أن يفهمهم، وإذا كان لا يفهم الناس جيّداً وخصوصاً الشباب، فإنّه لا يستطيع أن يتحدّث معهم بالأسلوب الذي يدخل إلى عقولهم.
حاجة المرأة لإبراز إبداعها الفكري والاجتماعي
كما أنَّ مشاركة الناس بهذا الحجم الكبير في عملية الانتخاب والإعلان عن رأيها، يدلُّ على أنّها تحتاج إلى شخصية تنفتح على شخصيّتها وعلى قضاياها وتطلُّعاتها وعلى إنتاج فكرها، وعلى توجيهها نحو الإبداع الفكري والاجتماعي والسياسيّ، وعلى الاستماع لرأيها وكيف تفكّر وتعاني، وكيف تطمح لأن تؤكّد إنسانيّتها التي وهبها الله إيّاها، والله تعالى كما حمّل الرجل عبء ومسؤولية تغيير الواقع، حمّل المرأة المسؤولية نفسها {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [التوبة : 71] ونحن نعرف أنّ الإسلام كرَّم المرأة وأعطاها الكثير من الحريّات في نطاق المسؤوليات الأخلاقية كما الرجل تماماً، ولكنَّ التخلّف فرض نفسه على واقع المجتمعات الإسلاميّة، فأبعد المرأة عن ساحة الحركة والمسؤولية والصراع. وقد انطلقت الثورة الإسلامية بقيادة الإمام الخميني (رضوان الله عليه) لتعطي للمرأة دوراً، خصوصاً وأنّها واجهت بقوّة الطاغية والحكم البائد والاستكبار، واستُشهدت وتظاهرت كما الرجل، وقد خطّطت الثورة الإسلامية لهذا الدور ونعتقد أنّها ستزيد تخطيطها.
ميزات الرئيس الجديد
أمّا الرئيس الجديد (السيد خاتمي) فإنّنا نعرف أنّه رجلٌ يملك فكراً إسلامياً حوزوياً ولكنّه يملك حسَّ المعاصرة ويعرف ذهنية العصر، ويحاول أن يوائم بين الفكر الإسلامي والقِيَم الإسلامية وبين أسلوب العصر وذهنيّته، ونحن نحتاج إلى المزيد من العلماء الذين يستفيدون من الماضي، ولكنّهم يعيشون عصرهم وواقعهم على الأساس الذي انطلق فيه القرآن الذي يريد لكلّ أُمّة في كلّ جيل أن تتحمّل مسؤوليّتها {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة : 134].
ذهنية الوعي
إنَّ آية الله السيد علي خامنئي يشترك معكم في الانفتاح والاهتمام بمشاكل الشباب والأسرة، والاهتمام بالتحرّك الإسلاميّ، ما هو برأيكم أساس هذه الذهنيّة؟
إنَّ آية الله السيّد الخامنئي (حفظه الله) هو من رجال الثورة الإسلامية، حيث عاش شبابه في الثورة، وكان من الإسلاميين الأُوَل الذين انفتحوا على قضايا الإسلام في العصر، والتقى بالحركية الإسلامية التي كانت تتحرّك في العالم العربي والإسلامي، ولذلك، فإنّه يملك ذهنية معاصرة في قضايا الإسلام والإنسان.. إنّه لم يكن جديداً على هذا الأُفق الواسع، بل كان من الذين عاشوا معه.
هل من فرق في الخطاب؟
يقول الدكتور علي حرب(1): "أنا عندما أُقارن بين خطاب الإمام الخميني والسيّد الخامنئي من جهة، وبين خطاب السيّد محمّد حسين فضل الله أرى فرقاً بين الفريقين هو كالفرق بين الفرس والعرب، أو بالأحرى كالفرق بين لبنان وإيران. فخطابات الإسلاميين الإيرانيين تبدو وحيدة الجانب، آحادية الدلالة مع النزوع إلى الانغلاق والاستبعاد، في حين أنّ خطابات الإسلاميين اللبنانيين تتّسم بالمرونة والانفتاح، وتنطوي على هامشٍ واسع من المناورة". ما رأيكم في هذا الطرح؟
في تصوّري أنّ هذا الطرح ليس دقيقاً جدّاً، لأنّ خطاب الإمام الخميني (قدّس سرّه) والسيد الخامنئي (حفظه الله) ينطلق من خلال معنى الثورة في مواجهة التحدّيات الهائلة التي أُريد لها أن تنطلق من أجل مواجهة كلّ الواقع المستكبر في العالم. فالإمام الخميني أراد أن يصدم الواقع، وأن يُفرغ عقل الإنسان من كلّ شعورٍ بالخوف أو الهيبة من الاستكبار العالمي، ولذلك كانت المرحلة آنذاك تفرض أن يكون الصوت واحداً قوياً لأنّه يحدّد الهدف في اتجاه الاستكبار العالمي من أجل إسقاطه من نفوس المسلمين والمستضعفين، ومن أجل إضعافه في الواقع. وأعتقد أنّ خطابنا في تلك المرحلة كان يتحرّك مع هذا الخطاب، وكنّا في ذلك الوقت نطلق الصوت عالياً وقوياً، وربّما رأى فيه بعض الناس البعد عن المرونة، وكانت المرحلة تفرض ذلك، أمّا المرحلة التي نعيشها الآن، فهي حماية الثورة وحماية الدولة، ومن الطبيعي أنّ حماية الثورة والدولة تحتاج إلى دراسة الواقع وإبقاء الروح حيّة في مواجهة الاستكبار، ومع دراسة نزع الألغام التي يزرعها الاستكبار في الطريق.
ولذلك فإنّني أعتقد أنّ خطابي وخطاب السيّد الخامنئي (حفظه الله) يلتقيان في رفد المرحلة بالقوّة في مواجهة الاستكبار عندما يلتقيان بالاستراتيجية في خطاب الإمام الخميني (قدّس سرّه) لحماية المسيرة والمقاومة. فالقضية ليست قضية فرسٍ وعرب، أو إيرانيين ولبنانيين، ولكنّها قضية مرحلة تفرض خطاباً معيّناً ينسف الجسور كلّها من أجل أن يبني جسراً جديداً وخطاباً جديداً ينطلق من الجسر الذي أقامه الإمام (رضوان الله عليه).
وإذا كان من اختلاف فإنّه الاختلاف في الأسلوب وفي طريقة إثارة القضايا، ومواكبة المعاصرة في طرح المواقف ممّا قد يخضع للموقع هنا في خصوصيّاته الواقعية وظروفه الموضوعية وللموقع هناك في نوعية المسؤوليات والتحدّيات وطبيعة الأوضاع المختلفة.
إنّه للقاء بالقضية الكبرى وهي حركية الإسلام في الدعوة والمنهج والحركة وساحات الصراع، مع التنوّع في الأساليب والإضاءات الحركية والفكرية.
خطابي وخطاب السيّد الخامنئي يلتقيان في رفد المرحلة بالقوّة عندما يلتقيان بالاستراتيجيّة في خطاب الإمام الخميني.
مجزرة بئر العبد
مرَّت ذكرى مجزرة بئر العبد في 8 آذار 1997م(1) بصمت، من دون أن يصدر أيُّ موقف إسلامي، ناهيك عن الرسمي، برأيكم، هل تلاشت الظروف السياسية التي رافقت المجزرة، أم أنّنا بانتظار مجازر أمنيّة وسياسية لاحقة تستهدف الوضع الإسلامي العام، وتستهدفكم كرمزٍ أساسيّ لهذا الواقع الإسلامي؟
إنّني أتصوّر أنّ مجزرة بئر العبد، كانت عنواناً لسياسة أميركية لا تزال تفرض نفسها على الواقع السياسيّ في البلد، ولكن بطريقة أخرى. فالمجزرة الأميركية التي حصدت ثمانين شهيداً ما بين جنين وطفل ورضيع وامرأة وشاب وشيخ، وما يقارب من مئتي معاق، كانت تنطلق من خلال الفكرة التي تقول، "لا يمكن لأيّ شخص أو جهة أن تنال من الموقع الأميركي في أيّ بلد إلاّ أن تلاقي جزاءها لمعارضتها السياسية الأميركية".
إنّني أتصوّر أنّ مجزرة بئر العبد، تحوّلت لتتمثّل في مجزرة لبنان الذي لا تزال أميركا تفرض عليه مجازرها السياسية والاقتصادية وربّما الأمنية، من أجل أن تثأر من اللبنانيين الذين وقفوا ضدّ سياسة أميركا في لبنان والمنطقة بمختلف الوسائل، ما تزال أميركا تتذكّر المخطوفين والكثير من الصدمات التي واجهتها في سياستها، ولا تزال تجد أنّ اللبنانيين المجاهدين ولا سيّما الإسلاميين منهم يقفون في مواجهة الاحتلال الصهيوني بكلّ قوّة، وكانت قد وجدت أنّ اللبنانيين بجميع فئاتهم وقفوا في حملة عناقيد الغضب في نيسان 1996 مع المجاهدين ضدّ إسرائيل.
لذلك، إنّ أميركا لا تزال تعمل على إنتاج أكثر من مجزرة سياسية أو اقتصادية بطريقة وبأخرى من أجل إرباك الحياة السياسيّة اللبنانية، أو من أجل إعادة إنتاج الواقع السياسيّ اللبناني لمصلحتها، حتى لا يبقى في لبنان إلاّ أميركا، لأنّها تعمل على أساس احتواء المنطقة كلّها على حساب أوروبا وغيرها من الدول الكبرى التي تملك مصالح حيويّة في المنطقة، فهي تقف ضدّ الإسلاميّين بكلّ رموزهم، ولكن بأساليب مختلفة تبعاً للظروف المتغيّرة بين وقتٍ وآخر.
أميركا لا تزال تعمل على إنتاج أكثر من مجزرة سياسية واقتصادية بطريقة وبأخرى من أجل إنتاج الواقع السياسي اللبناني لمصلحتها.
بين الفتح والاحتلال
تسعى أميركا وغيرها من الدول الكبرى إلى أن يكون لها في كلِّ مكان موطئ قدم تنطلق منه لتنفِّذ مشاريعها وسياستها، وتحرص على أن تكون الأقوى في هذا العالم. لماذا نُنكر عليها ذلك ونسمح لأنفسنا بالقول بأنّه يجب أن نُطبق أيدينا على كلِّ هذا العالم، لتكون لنا الغلبة في خضوع جميع الناس لحكم الإسلام، ولماذا نسمّي احتلالنا لأرض الغير فتحاً، واحتلالهم لأرضنا غزواً؟ ألَا ترون تناقضاً في نظرتنا هذه، أم عند سماحتكم كلامٌ آخر؟
ليس هناك تناقض، لأنّنا عندما ننطلق كمسلمين ونريد للإسلام أن يحكم العالم، لا لنستعبد الشعوب والأمم، ولا لنصادر ثرواتها وإرادتها، وقد قال سبحانه: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة : 193]، حتى لا يُضغط على الناس ويُفْتَنُوا في دينهم {وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ} [البقرة : 193]، وتكون الأرض كلّها لله، ويكون الناس عبادَ الله، لأنَّ الله تعالى يريد لعباده أن يلتزموا دينه ليوحّدوه ويعبدوه ويطيعوه ولا يُشركوا به شيئاً. لذلك فنحن عندما ننطلق إلى العالم، لا نريد أن نفقره لنغنى أو نذلّه لنُعَزّ نحن. إنّنا نريد للنّاس أن يتحرَّروا من سلطة المستكبرين فيوحدّوا الله في حياتهم السياسية فلا يتّخذوا أيّة قوّة ربّاً من دون الله، وفي حياتهم الاقتصادية فلا يتحرّكوا بعيداً عن شرع الله. نحن نقول ما قاله أمير المؤمنين عليٌّ (عليه السلام) لقومه: "ليس أمري وأمركم واحداً، إنّني أُريدكم لله وأنتم تريدونني لأنفسكم"(1) فالمسلمون يدعون الناس لله بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، والدفع بالتي هي أحسن، وتحويل شعوب العالم من أعداء إلى أصدقاء، ونحن عندما نقرُّ بشرعية الحرب، فلأنّ هناك حرباً تُشنَ علينا وظلماً يقع علينا وعلى كافّة الشعوب المستضعفة في العالم {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ} [النساء : 75].
وعلى هذا، فالفرق بيننا وبين أميركا أنّها تعمل لتسيطر على العالم وتستعبده لحساب الشعب الأميركي، وتعمل على إفقار شعوب العالم الثالث من أجل رخاء الشعب الأميركي، وتقمع إرادة العالم الثالث لتؤكّد إرادة الشعب الأميركي. وهذا هو الفرق بيننا وبين أميركا، وقد قال أحد مفكّري الغرب وهو "غوستاف لوبون"(2): "ما عرف التاريخ فاتحاً أرحم من العرب، ويقصد بذلك المسلمين.
ونحن عندما ندعو إلى أسلمة العالم، فإنَّما ذلك بإرادة العالم واختياره وبالحكمة والموعظة الحسنة، وبفتح القلوب على الإنسان، من خلال فتح القلوب على الله. أمّا أميركا، فإنّها تريد أن تسيطر على العالم بقوّتها العسكرية والاقتصادية لتلغيّ للعالم حريّته في تقرير مصيره، وإنْ كانت تتحدّث عن الحريات في العالم كلّه، فما هي إلاّ شعارات من دون أيّ مضمون.
عندما ندعو إلى أسلمة العالم، فإنّما ذلك بالحكمة والموعظة الحسنة وبفتح القلوب على الإنسان، من خلال فتح القلوب على الله.
هل من انسجام بين الإسلام والعلمنة؟
يقول المفكّر السوري صادق جلال العظم(1): "إنَّه من الناحية العقائدية لا يمكن للإسلام أن يكون علمانياً، ولكن من الناحية التاريخيّة يُمكنه ذلك"، ويوضح: "الإسلام لا يتناغم إلاّ مع نفسه إذا اعتبرناه مجموعة مبادئ ثابتة وصحيحة، وفي المقابل إذا نظرنا إليه كنظام إيماني، يتطوّر ديناميكياً متأقلماً بسرعة مع الظروف التاريخيّة، توصّلنا إلى حقيقة أنّه ينسجم مع أيّ نظام اجتماعي اقتصادي وسياسي ينطلق من الملكية إلى الجمهورية.. ومن المدن العتيقة إلى الأُمّة الحديثة.. وفي ضوء ذلك لا يمكن القول: إنّ الإسلام لا ينسجم مع العلممنة". هل توافقون على هذا القول، وهل تؤمنون بإمكانية التعايش والانسجام بين الإسلام والعلمنة؟
عندما يتحدّث هذا الرجل عن الواقع التاريخي الذي عاشه المسلمون مع مختلف الأنظمة سواء في داخل البلاد الإسلاميّة أو في خارجها، فإنّه يتحدّث عن واقع حقيقي.. إنّ المسلمين عاشوا مع الأنظمة الملكية والجمهورية والعلمانية، ولكن ليس معنى ذلك أنّهم كانوا مرتاحين أو منسجمين مع هذه الأنظمة.. إنّ المسلم عندما يعيش في أيّة دولة لا يحكمها الإسلام، فإنّه كأيّ إنسان مبدئي، يشعر أنّ هناك نقصاً في نظام حياته، لأنّه يمارس إسلامه بطريقة فردية ولا يمارس إسلامه بالطريقة الجماعية الدستورية والسياسية، ومع ذلك يعيش المرونة في حياته مع الآخر والانفتاح عليه، ولكن هذا لا يعني استسلامه للآخر، أو انسجامه الفكري معه تحت ضغطه.
ولعلَّ هذا الرجل كان دقيقاً في تصويره للمسألة من أنّ الإسلام لا يكون إلاّ نفسه، وبذلك، فإنّ المسلم لا يكون إلاّ نفسه حتى عندما يعيش مع الأنظمة الأخرى، لأنّه يرتّب أموره الإسلامية بالطريقة التي لا تهدم واقعه ولا تُبعده عن إسلامه، على أساس الشعار الذي طرحناه: إنّنا نتعايش مع الباطل ولا نعترف بشرعيّته.
إنّ المسلم لا يكون إلاّ نفسه حتى عندما يعيش مع الأنظمة الأخرى، لأنّه يرتّب أموره بالطريقة التي لا تهدم واقعه ولا تبعده عن إسلامه.
المرونة والحركيّة
في مقالة لكم تحت عنوان (ظاهرة الهجرة في الواقع الإسلامي المعاصر) تقولون: "إنّ المرونة السياسية تعني حركيّة الأسلوب في نطاق الصراع أو التحالف أو التوازن السياسيّ، ولا تعني الابتعاد عن الأصالة الإسلامية في مضمونها الفكري السياسي في ملامحه الأصيلة المنطلقة من الجذور".. كيف نعيش هذه المرونة في هذا الواقع الذي يحمل الكثير من التعقيدات؟
إنّني أقصد بالمرونة السياسيّة أن نتحرّك من خلال قواعدنا الفكريّة السياسيّة، ومن خلال أصالتنا الإسلاميّة مع الآخرين، الذين قد نختلف معهم في بعض القواعد العقيديّة، أو في بعض الخطوط الشرعية والسياسيّة، مع العمل على الاحتفاظ بالاستراتيخيّة في عملية الأصالة للفكرة التي نؤمن بها، ولكن على أن نعطي لأنفسنا الحريّة في التكتيك على مستوى الكلمة والأسلوب، وعلى مستوى العلاقات مع الآخرين بالطريقة التي لا تسيء فيها حركيّة التكتيك ومرونته إلى الاستراتيجيّة. ومن الطبيعي أنّنا لا نستطيع الدخول في التفاصيل في الحديث عن طبيعة التكتيك مقارناً بخطّة الاستراتيجيّة، لأنّ هذا الأمر يتحرّك من خلال طبيعة الواقع، وطبيعة القضايا السياسيّة والاجتماعيّة التي نحرّكها. وهذا ممّا يتحمّل مسؤوليّته أهل الخبرة والقيادة في العمل الإسلامي، حيث تحدّد القيادة للعاملين معالم الخطّ التكتيكي، وذلك بالطريقة التي لا تتنافى ولا تسيء إلى الاستراتيجية.
المرونة السياسيّة تعني ان نتحرّك من خلال قواعدنا وأصالتنا مع الآخرين مع الاحتفاظ بالاستراتيجيّة في عمليّة الأصالة للفكرة التي نؤمن بها.
بين العقلانية والحماس
يرى البعض أنّ خطابكم السياسي الفكري أقرب إلى العقلانية منه إلى الثورة، وهذا ما ينعكس على الحركة الإسلامية في لبنان حيث يتّجه الوضع إلى تقديم مزيد من التنازلات منذ مجزرة 13 أيلول(1)، لذا يرى هذا البعض أنّه من الضروري أن ندخل الساحة ونحن متطرِّفون حتى إذا جاءت الهزّات نكون معتدلين، ما تعليق سماحتكم على ذلك؟
كثيرون هم الذين يرون أنّ الثورة حماس وانفعال وفوضى، وأنّها عملية تفجير غيظ وتنفيس عقدة. إنّنا نرى أنّ الثورة عقل قبل أن تكون انفعالاً، فالإنفعال ضعف، والذي يعيش هذه الحالة لا يستطيع أن يركّز وعيه في الواقع العملي، أو أن يخطّط ويدرس الظروف الموضوعية لهذا الواقع. والإمام عليّ (عليه السلام) يقول لابن عباس: "فلا يكن أفضل ما نلت في نفسك من دنياك بلوغ لذّة أو شفاء غيظ، ولكن إطفاء باطل وإحياء حقّ"(2)، لذلك كلّما كان الإنسان عقلانياً أكثر كلّما كان ثورياً أكثر، فقد يكون هادئاً في التكتيك وقوياً في الاستراتيجيّة، وليست القضية أن يكون ثائراً في التكتيك وخائفاً في الاستراتيجيّة. والعقلانيين الذين ينطلقون من الاستراتيجيّة المدروسة، حتى ولو دَعُوا الناس إلى الانفعال فإنّهم يعتبرون هذا الانفعال جزءاً من الخطّة المحسوبة، بحيث يعرفون متى يحرِّكون الانفعال، ومتى يخمدونه. وفي الثورة، للإنسان أن يتحمَّس، ولكن بشرط أن يكون الحماس محكوماً لحساب، ينطلق بحساب ويقف بحساب، وللثورة جنونها، ولكنّ الفرق بين جنون الثورة وجنون الواقع، هو أنّ جنون الثورة جنونٌ عاقل، ينطلق من عقل.
أمّا الحديث عن أنّ عقلانية الخطاب دفعت بالواقع الإسلامي إلى المزيد من التنازلات، فهو غير صحيح، لأنّ الحركة الإسلامية بما تملك من عقلانية ووعي وواقعية، دفعها ذلك لأن تنفتح على الآخرين، لأنّها تشعر أنّها لا تستطيع وحدها أن تصل إلى أهدافها المرحلية إلاّ من خلال اللقاء مع الآخرين الذين يلتقون معها في المرحلة. وهكذا في مجزرة 13 أيلول، فلو أنّ الإسلاميين ردّوا على الجيش حينها، لكان لذي حصل أنّ الكثيرين كانوا سيقفون ضدّ الإسلاميين بحُجّة أنّهم يُسيئون إلى السِّلم الأهلي، وأنّهم السبب في العودة إلى الفتنة من جديد، لذا كان الإسلاميون في موقفهم ثوريّين بأعلى درجة الثورة في صبرهم، لأنّ صبرهم كان منطلقاً من خطّة لم تفسح للآخرين المجال لضربهم.
صحيح أنّ الآخرين يعلنون حرباً علينا بأسلحتهم وإعلامهم وبما يملكون من وسائل سياسية عسكرية، لكن علينا أن نواجه حربهم لا بالصياح والصراخ، بل بالتخطيط وإنّني أعتقد أنّ الإسلاميين يتحرّكون من خلال رشد سياسي وثوريّة عالية تتجلّى في صبر المجاهدين وثبات الواعين. والمرحلة اليوم وفي المستقبل تحتاج إلى عقل عميق واسع منفتح على الله تعالى وعلى الواقع، لذا ربُّوا عقولكم وأنفسكم على الصبر: {وَالْعَصْرِ*إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ*إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 1 ـــ 3] وهذه هي عناصر الفلاح في الدنيا والآخرة.
الإسلاميون يتحرّكون من خلال رشد سياسي وثوريةّ عالية تتجلّى في صبر المجاهدين وثبات الواعين.
الحركات الإسلامية وضرورة المراجعة الذاتية
يتصاعد الحديث في هذه الأيام عن مراجعة ذاتية ونقدية داخل الحركات الإسلامية، ففي الجزائر عودة لتقويم الدور بعد إطلاق سراح (عباس مدني)(1)، وفي مصر إشاراتٌ إلى سعي قادة "الجهاد" و"الجماعة الإسلامية" لوقف العنف، وفي تركيا تمَّ إقصاء حزب "الرفاه" عن الحكم بعد أقلّ من سنة على وجوده في الحكم(2).. هل ترون أنّ الوقت قد حان فعلاً لمراجعة كهذه، أو أنّ على الحركات الإسلامية أن تظلّ في مراجهة دائمة لنفسها حيث تتغيَّر الظروف السياسية الدولية والإقليميّة؟
لا بدّ للإنسان فرداً كان أو جماعة في حياته الشخصية أو في خطوطه السياسية والثقافية والاجتماعية، أن يقوم بمراجعة لكلّ أعماله لتقويم كلّ حساباته من خلال النتائج التي يُقبل عليها. ولا بدّ للحركات الإسلامية التي انطلقت من خلال الصحوة الإسلامية في صراع عنيف فرضه عليها الآخرون من المستكبرين، أو فرضته على نفسها من خلال بعض الأخطاء الصغيرة والكبيرة التي وقعت فيها باختيارها أو من خلال ما فرضه الآخرون عليها من أخطاء، لا بدَّ للحركة الإسلامية أيّاً كانت ألاّ تنتظر المتغيّرات السياسية الدولية والإقليمية لتراجع حساباتها، لأنّ الكثير من الحسابات، لا بدّ أن تنطلق من وعي الحركة الإسلامية لنقاط الضعف في داخلها، قبل أن تفكّر في الأوضاع الصعبة التي تتحدّاها من الخارج... ولعلّ مشكلة الكثير من الحركات الإسلامية أنّها ضخَّمت لنفسها إحساسها بنفسها، ففقدت وضوح الرؤية للأشياء، أو أنّها عاشت عبودية الشخصية في قياداتها، فتحوّلت إلى وضع يُقدَّس فيه خطأ الشخص أو القيادة.. لذلك نتصوّر أنّ على كلّ الحركات الإسلامية سواءً في لبنان أو في العراق أو في الجزائر أو في مصر أو في تونس أو في إيران أو في تركيا، ألاّ تُصاب بمرض تقديس نفسها، لأنّها ليست معصومة في قراراتها.
إنّ مشكلنا في كثير من الحركات الإسلامية أنّها تُصاب بوثنية الشخص أو الحزب أو الحركة، بحيث تمنع من الحوار الموضوعي أو النقد الموضوعي في داخلها، حتى يصبح القياديّون، سواء في أعلى الهرم أو في المواقع المتدرّجة، يصبحون عند أنفسهم وأتباعهم فوق النقد، وهذا مرض خطير مميت، قتل الكثير من القيادات قبل أن تموت، وقتل الكثير من الأحزاب.
ومن هنا، فنحن ننظر بتقدير للحركات الإسلامية عندما تعيد النظر في أساليبها، ولا سيّما الحركة الإسلامية في الجزائر التي لا نصدّق الكثير ممّا يُنسب إليها من أعمال عنف.. وهكذا، بالنسبة إلى الحركة الإسلامية في بعض مواقعها في مصر التي لم تدرس جيّداً الواقع السياسي وطبيعة ما هو الرفق أو العنف.. وهكذا بالنسبة لحزب "الرفاه" التركي الذي كنّا ننصح في أحاديثنا الصحفية ألاّ يدخل "اربكان"(1) إلى الحكم، إلاّ بعد أن يأتي في الانتخابات القادمة بالأغلبية المطلقة والقويّة حتى يستطيع من خلالها استلام الحكم، وإن كنّا ننظر إلى بعض الإيجابيات في تجربته، ولذلك على الأخوة في حزب "الرفاه" أن يعيدوا النظر في هذه التجربة ويدرسوها، ويدرسوا الواقع الضاغط ضدّ الإسلام في تركيا ونحن لا نعتقد أنّ النظام العلماني في تركيا ووجود الجيش المستبدّ الذي ألغى الديموقراطية في تركيا، وأخرج حزب الرفاه من الحكم، قادر على إخراج هذا الحزب من الواقع الشعبي الذي قد يزداد فيه قوّة.
إنّنا ندعو كلّ الحركات الإسلامية في كلّ البلدان إلى الدخول في نقد ذاتي موضوعي، تستطيع من خلاله أن تعرف أخطاءها، وتتعرّف على مواقع الضعف والقوّة فيها على أساس الواقع الداخلي أوّلاً، وعلى أساس المتغيّرات السياسية الدولية والإقليمية، ففي الحديث: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا"(1).
ندعو الحركات الإسلامية إلى الدخول في نقد ذاتي موضوعي تستطيع من خلاله أن تعرف أخطاءها وتتعرَّف على مواقع الضعف والقوّة فيها.
استبدادية النظام التركي دليل خوف وضعف
تتركَّز الحملة ضدّ الإسلاميين في المنطقة ـــ هذه الأيام(2) ـــ في الساحة التركية، حيث تمنع الحكومة التركية العلمانية إطلاق اللّحى لدى الشباب، تمنع الفتيات من ارتداء الحجاب في الجامعات، وأيضاً تمنع مناقشة القضايا الدينية، بالإضافة إلى القانون الذي أقرّه البرلمان التركي مؤخّراً، والذي سيؤدّي إلى إغلاق 600 مدرسة دينية، تضم أكثر من 400 ألف تلميذ.. برأيكم، هل باتت تركيا المحطّة الرئيسية للهجوم الغربي ضدّ الإسلام، هل هو الخوف من إيران ثانية، وهل تتوقّعون فوضى أو عدم استقرار في الشارع التركي؟
إنّ هذا دليل الضعف، من دولة بحجم تركيا تخاف من الّلحى التي يطلقها الناس المؤمنون، في الوقت الذي نرى فيه الكثيرين من الغربيين الذين اهتدى بهم النظام التركي يُطلقون لحاهم من دون أن يوجدوا هناك مشكلة للنظام.. وهكذا، فإنّ خوف النظام التركي من الحجاب، في الوقت الذي نرى فيه المحجّبات المسلمات، يمارسن حريّتهنّ في لبس الحجاب في طول البلاد الغربية وعرضها من دون أن يعرض أحدٌ لهنّ بسوء.. إنّ النظام التركي يريد أن يقدّم العلمانية كنظام يخاف حتى من الشكليات التي يمارسها الناس في أزيائهم، أو في طريقتهم فيما لديهم من شعر في الوجه أو الرأس.
إنّ العلمانية في تركيا تتشدّق بمنع الشعب من ممارسة حريّته في قضاياه الخاصة، لذلك، إنّ نظاماً يخاف من اللحية يطلقها الشباب، أو من الحجاب تلبسه المؤمنات، هو نظام وصل إلى أدنى مستوى من الضعف، لأنّه لا يملك قوّة الحُجّة التي يُقنع بها هؤلاء الناس.
وإذا كان النظام التركي يعمل على محاصرة المدارس الدينية، فإنّ في كلّ مسجد مدرسة تنمّي وعي هؤلاء الشباب، ولذلك، فإنّ النظام لن ينتصر في معركته هذه، وسينتصر الإسلام، لأنّ الإسلام قد انطلق في تركيا بكلّ قوّة في شبابها وشيوخها ونسائها ورجالها وأطفالها، ولن يعود إلى القمقم.. ومن هنا، فإنّ تركيا بنظامها العلماني تخاف من النظام الإسلامي في إيران الذي يضغط بشكلٍ غير مباشر على كلّ الواقع عندما يقدّم للمسلمين نظاماً منفتحاً على كلّ قضايا العصر، من دون أن يبتعد عن عقيدة الإسلام. إنّ تركيا تمارس العلمانية أو الديموقراطية بطريقة استبدادية، ونحن نعرف أنّ الدول الاستبدادية، سوف لن تعمّر طويلاً، مهما اشتدّت في استبدادها وقسوتها.
إنَّ نظاماً يخاف من اللّحية يطلقها الشباب، أو من الحجاب تلبسه المؤمنات، هو نظام وصل إلى أدنى مستوى من الضعف.
السياسة: بين فن الممكن ونظرية القرب من الصلاح والبعيد عن الفساد
يقول فهمي هويدي(1): "فالدين والسياسة لهما مرجعيّة واحدة في المفهوم الإسلامي، ويتعذّر الفصل بينهما، ثمّ إنّ تعريف السياسة في المفهوم الإسلامي يختلف عنه في الخطاب الغربي الذي يعتبر السياسة "فن الممكن" بينما هي عند علماء المسلمين "كلّ ما كان به الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد". السؤال: نرى أنّ التعريف الغربي أخذ مجاله في التطبيق، أمّا التعريف الإسلامي، فما زال غائباً.. هل ترون أنّ غيابه عن الواقع يشكِّل تغييباً لفكرة العدل في الحياة؟
إنّ السياسة الإسلامية تستهدف إقامة العدل بين الناس، ويقول الله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد : 25]، ولذلك، فإنّ السياسة في الإسلام كما ورد في السؤال هي "كلّ ما كان به الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد" لأنّ السياسة الإسلامية تستهدف إيصال الناس إلى ما يصلح أمورهم ويُبعدهم عن الفساد، ولكنّ ذلك، إنّما يكون بالوسائل الممكنة التي يملك فيها الناس الوصول إلى هذه النتائج، فقد نستطيع أن نحقّق العدل في موضع معيّن، أو نحقّق بعض الإصلاحات بشكل جزئي، وهذا من "فن الممكن" فيما يحقّق الصلاح ويُبعد عن الفساد.. إنَّ غياب السياسة الإسلامية عن الواقع ليس شيئاً مطلقاً كما يفرض السؤال، لأنّنا نجد أنّ بعض الدول الإسلامية وفي مقدّمتها الجمهورية الإسلامية في إيران، وبعض الحركات الإسلامية تتحرّك في الواقع السياسي بالوسائل الممكنة لتحقيق العدل، وبما يضمن بعض النتائج الإيجابية لمصلحة الإصلاح في أمور الناس. فالمسألة تتّسع وتضيق حسب ما يملك الإسلام من مواقع في الواقع السياسي هنا وهناك.
إنّ السياسة الإسلامية تستهدف إيصال الناس إلى ما يصلح أمورهم ويُبعدهم عن الفساد.
مستقبل الحركات الإسلاميّة
ثمّة من يعتبر بأنّ الحركات الإسلامية باتت تعاني من عجز في إيصال مشروعها إلى برِّ النجاة، نظراً للعلاقات غير الطبيعيّة التي نربطها ببعضها، فتمنع مشروع المصالحة الداخلي بما يؤثّر على مشروع انتشار الإسلام، بالإضافة إلى عدم اعتراف الأنظمة بها.. كيف تنظرون إلى مستقبل الحركات الإسلامية إزاء الضغط الخارجي عليها، وما تعانيه من إرباكات داخلية، وهل يستدعي الوضع القائم مصالحة مع الآخرين أم مع الذّات؟
إنّ مشكلة الحركات الإسلامية أنّها جاءت إلى الساحة متأخّرة، بعد أن استكملت ساحات الكفر والاستكبار بناء قواعدها وتقوية مواقعها وامتداد أفكارها وثقافتها وسياستها واقتصادها جاءت والساحة مملوءةً بكلّ الألغام التي وضعها الآخرون، فكان التخلّف، وكان دخول الاستكبار العالمي الذي سيطر على الأُمّة.. لذلك، عندما دخلت الحركات الإسلامية الساحة، بدأت في الصراع الثقافي والسياسي والاجتماعي، والذي تحوّل في مكان هنا ومكان هناك إلى صراع أمني عسكريّ. ومن الطبيعي أنّ الحركة التي تُولد في قلب الصراع والتحدّيات، وفي واقع يحيط بها الأعداء من كلِّ جانب، لا بدّ لها أن تعيش بعض الصعوبات في بناء ذاتها وتركيز قواعدها، وإنّ الواقع الذي قاطعته هذه الحركة يعيش الفوضى في أفكاره والكثير من الأوضاع الثقافية التي تقتحم عليه قلبه وعقله وحياته. وهذا الأمر أدّى إلى أن تعيش كلّ حركة إسلامية مشاكلها الخاصة وتنتج لنفسها مفاهيمها الخاصة.
ونحن لا ننكر بأنَّ هناك الكثير من الحركات الإسلامية في العالم تلتقي على مفاهيم وخطوط عامّة كثيرة، ولكنّ الحركة الإسلامية في العالم وما زالت تعيش الخلافات فيما بينها، وربّما كان للأوضاع السياسية والمذهبية بعض الأدوار في ذلك.
وإذا لاحظنا هذه الحركات من الداخل، فإنّنا نرى أنّها لم تستكمل بعدُ نضوجها، ولم تستكمل بنيانها الثقافي. ولهذا، فإنّها قد تكون في موقع متقدّم سياسياً، ولكنّها في موقع متخلّف ثقافياً واجتماعياً. وقد نجد بعض الحركات الإسلامية تعيش نوعاً من التخلّف في فهم النصّ الشرعي، بحيث يحمل الكثير من أفرادها الشعارات الإسلامية، ولكنّهم لا يطبّقون الإسلام في علاقاتهم مع بعضهم ومع الآخرين. لذلك، نحن ندعو الحركات الإسلامية بالرغم من الصعوبات الداخلية والخارجيّة التي تواجهها إلى أن تعطي وقتاً من أجل البنيان الداخلي وتصحيح المسار، وتعميق المفاهيم وتقويمها، حتى تكون حركة واعية في الجانب الثقافي والسياسي والاجتماعي والجهادي، هذا من جهة. ومن جهةٍ ثانية لا بدّ لهذه الحركات الإسلامية من أن تدخل في حوال مع بعضها البعض من أجل التمهيد لخطّة تصل بها إلى نوع من الوحدة، أو على الأقل من التنسيق فيما بينها، بحيث تتوازن في علاقاتها مع بعضها وتتكامل وينصر بعضها بعضاً.
وأمّا علاقات هذه الحركات مع الأنظمة، فإنّ المشكلة هي أنَّ الأنظمة ترفض أيّ تحرّك سياسيّ إسلاميّ، لأنَّ الأنظمة التي صنعتها أميركا وتشرف عليها في الوقت نفسه، وظّفتها لتحارب الإسلاميين في بلادهم، وقد طرحت هذه الأنظمة شعاراً مفاده بأنّه لا مجال لدخول الدين في السياسة.. وعلى ضوء هذا، فإنّهم يمنعون إعطاء الرخصة لأيّ حزب إسلامي أو حركة إسلامية. ومن هنا، فإنّ المشكلة ليست مشكلة الحركة الإسلامية، بل مشكلة الأنظمة التي تضطهد الحركات الإسلامية وتمنعها من ممارسة دورها الطبيعي والشرعي في العمل السياسي، كما هم الآخرون الذين يعملون على أساس ممارسة دورهم في العمل السياسي.
إنّ هذه المشكلة سوف تبقى مع الأنظمة، سواء اعتدل الإسلاميون أم تطرَّفوا، لأنّ القضية هي أنّهم يعتبرون أنّ في طرح الإسلام، ليكون قاعدة للفكر والعاطفة والحياة، تطرّفاً وتعصُّباً وما إلى ذلك. ومع ذلك نعتقد أنّ الإسلام الحركي قد خرج من القمقم، ولن يستطيع أن يعيده إلى القمقم لا رجال الأنظمة ولا وعّاظ السلاطين الذين يعملون دائماً من أجل أن يبرّروا لأنظمة الظلم ظلمها، ولمواقع الاستكبار استكباره.
نعتقد أنّ الإسلام الحركي قد خرج من القمقم ولن يستطيع أن يعيده إلى القمقم لا رجال الأنظمة ولا وعّاظ السلاطين.
إحباط أم عدم دراسة عميقة للواقع؟
يقول أحد الكتّاب: "ما نحتاج إليه ليس الدعم الإيديولوجي، بل النهوض من سباتنا العقائدي، بنقد نماذجنا في الرؤية والتقييم أو موالاتنا في العمل والتدبير، فالأهم عندي مثلاً هو وقف العنف في الجزائر، أو منع تلك المحاكمات التي تقضي بفصل كاتب(1) عن زوجته لأنّه يمارس التفكير النقدي، والأولى هو أن نقبل بعضنا البعض، بدلاً من ممارسة الاستبعاد والتبادل والاختلاف الوحشي"، برأيكم هل يحمل هذا الكلام إحباطاً وعدم أمل بالخروج من الواقع الذي نعيشه؟
مشكلة بعض الكتّاب أنّهم ينظرون إلى المشكلة من زاوية واحدة، ولا ينظرون إليها من بقية الزوايا.. الكاتب هنا أثار مسألة العنف في الجزائر، ونحن نسأله، هل يملك تحقيقاً دقيقاً عن خلفيّات هذا العنف وعن الذين يقومون به. وهل صحيحٌ أنّ الإسلاميين هم الذين يقومون بهذا العنف، أم أنّ الأجهزة هي التي تشارك في هذا العنف، وتقود بعض المتخلّفين ممّن يُحسَبون على الإسلاميّين إلى القيام بذلك لتشويه صورة الإسلام، وهل أنّ مشكلة الجزائر هي هذا العنف الذي يطفو على السطح؟ أم أنّ مشكلتها هي هذا الصراع الدولي الذي تحاول دولة كبرى (أميركا) أن تطرد دولة كبرى أخرى (فرنسا)؟
إنّ المسألة تُدرس من خلال العمق لا من خلال السطح، ولا من خلال العناوين الظاهرة، بل من خلال العناوين الخفيّة التي تختبئ في ظلّ ذلك. إنّ علينا ألاّ يكون حُكمنا على الأشياء وموقفنا منها منطلقاً من حالة غيظ وردّة فعل، بل يكون منطلقاً من دراسة عقلانية وتفكير عميق، وبحث مستفيض يستقرئ كلّ الساحات.
أمّا مسألة ألاَّ يُحاكم إنسانٌ لأنّه ينقد الإسلام، فإنّها ليست بهذه البساطة، بل لا بدّ لهؤلاء الذين ينقدون أن يدرسوا طبيعة الأرض التي يتحدّثون فيها، وأن يطرحوا المسائل بطريقة لا تخلق مشكلة.. نحن لا نوافق على بعض المحاكمات وبعض المواقف، والمشكلة أكبر من محاكمة، إنّها تتّصل بالواقع الثقافي كلّه والسياسي كلّه، ولا يمكن أن ندرس الواقع من خلال مفردة سلبيّة هنا وأخرى هناك.
علينا ألاّ نطلق الأحكام من حالة غيظ وردّة فعل، بل أن تكون منطلقة من دراسة عقلانية وتفكير عميق.
علمانيّات
يميل بعض المفكّرين إلى الاعتقاد بأنّ ثمّة أنواعاً من العلمانية، فهناك العلمانية المهادنة للدين كما في انكلترا، وهنك علمانية عازلة للدين كما في فرنسا، وهناك العلمانية المتساهلة مع الدين كما في أميركا، وهناك العلمانية المخاصمة للدين كما في تركيات التي تمنع حتى إطلاق الّلحى وارتداء الحجاب.. كيف تنظرون إلى عدائية العلمانية للدين، وخصوصاً العلمانية التركية؟
تنطلق العلمانية من فكرة عزل الدين عن حركة الدولة وعن نظام الناس، فالدولة عندما تقنّن لنفسها نظامها، فإنّها تُبعد الدين عن أيّة مادة من مواد هذا النظام، وبعبارة أخرى، فإنّ العلمانية ترفض للدين ان يكون له دورٌ في الدولة والسياسة والواقع الاجتماعي العام، لأنّ الدين ـــ بزعمها ـــ هو علاقةٌ بين الإنسان وربّه، وحالةً في الضمير وليست حالة في الواقع. وهنا يختلف العلمانيون حول تحديد العلاقة بالدين، فمن العلمانيين مَنْ يرفض الدين جملةً وتفصيلاً، ويحاربه في عقيدته، وهم الماركسيون. وهناك علمانية تنفتح على الدين في العنوان العام، ولكن لا تحرّكه في الواقع كما هو موجود في النظام الملكي في انكلترا، وهكذا نرى أنّ فرنسا تعزل الدين عن الواقع، ولكنّها لا تعلن الحرب عليه، وقد لاحظنا كيف أنّ البابا عندما زار فرنسا (آب 1997) استطاع أن يقيم قدّاساً بحضور مئات الألوف من الفرنسيين، وهكذا في أميركا وغيرها. ونجد أنّ كلّ هذه البلدان لا تمنع ارتداء الحجاب ولا إطلاق الّلحى ولا إقامة الشعائر الدينيّة، ولذلك، فهذه العلمانية الغربيّة تحمل في داخلها معنى حريّة الإنسان في داخل مجتمعاتها، رغم عدم إقرارها بأيِّ دور للدين على مستوى تشريع القوانين.. فالإنسان في أميركا وفرنسا وبريطانيا لا بدَّ له أن يطيع ويلتزم قوانين الدولة التي ينتمي إليها، وله الحريّة على المستوى الشخصي بما لا يتعارض مع هذه القوانين، لذلك، نرى أنَّ المحجّبات في الغرب يرتدين الزيّ الإسلامي حتى في الجامعات، من دون ممانعة الدولة في ذلك، وقد حاولت فرنسا أن تمنع المسلمات من ارتداء الحجاب في المدارس(1)، ولكنّها تراجعت في أكثر من قرار من قراراتها، ولا تمنع الحكومات في الغرب الإنسان من أن يُطلق لحيته، لأنّ الواقع هناك يعتبر أنّ ذلك من قضايا الحرية الفردية، لأنّ لكلّ إنسانٍ الحرية في أن يعيش حريَّته بطريقته الخاصة.
ولكنَّ العلمانية في بلادنا تحوّلت إلى حالة اضطهاد، كما نجد في تركيا التي تحوّلت من دولة إسلامية تحكمها الخلافة العثمانية إلى دولة علمانية على يد "كمال أتاتورك"(2) الذي أراد لبلاده أن تتنكّر للدين.. ولذا، فإنّنا نجد النظام هناك يمنع من ارتداء الحجاب(3) وإطلاق الّلحى، ويضيّق على المدارس الإسلامية والاتجاهات والحركات الإسلامية، ويعمل الآن على إيجاد الوسائل القانونية لإلغاء "حزب الرفاه الإسلامي"، لأنّ هذا الحزب يرفض العلمانية ويواجهها بالإسلام.
ومن هنا، نقول: نحن إسلاميون لا نؤمن بالعلمانية، لأنّنا نرى أنّ الإسلام يتّسع لنظام الحياة كلّها، ويمكن له ان يحلّ كافة المشاكل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، تماماً كما يحلّ مشاكل الإنسان الخاصة.. وللإسلام نظرة معيّنة للحريّة، لا تبتعد عن إنسانية الإنسان. ومن هنا، فإنّنا نرفض العلمانية، وقد انفتح العلمانيون في الشرق على علمانية الغرب من خلال تصوّرهم للدين المتمثّل بالشكل الكنسي في أوروبا، هذا الشكل الذي رفض الحريّة وحاربها، فبادر العلمانيون بعد استلامهم السلطة لإقصاء الدين عن واقع الحياة، وهذا ما يريده علمانيو الشرق. ولكنّ الإسلام دينٌ ودولة، وهو قاعدة للفكر والعاطفة والحياة، وليس ديناً تنحصر مسؤوليّاته في أماكن العبادة فقط، بل تشمل الحياة كلّها.
وبالعودة إلى تركيا، فإنّنا نقول: إنّها ليست دولة علمانية على الطريقة الغربيّة، بل هي دولة دكتاتورية على الطريقة الشرقية، وقد جعلت العلمانية مجرّد واجهة.. أنا لا أفهم أن يتدخّل نظام في حلق الّلحى أو إطلاقها، لأنّ هذه المسألة من خصوصيّات الإنسان، كما في حلق الشعر وعدم حلقه. لذلك، فإنَّ تركيا نظام علماني متخلّف، فهي ليست دولة إسلامية، كما هي الدول الإسلامية، وليست دولة غربية كما هي الدول الغربيّة، وإنّما هي كمثل الغراب الذي أراد أن يقلّد الحجل في مشيّته، فلم يستطع أن يقلّده ونسي مشيته الأساسية. ونلاحظ أيضاً أنّ لجان حقوق الإنسان في الاتحاد الأوروبي وحتى في أميركا التي تحاول تركيا أن تعيش في أحضانها، لا تزال هذه اللّجان تسجّل النقاط الكثيرة على تركيا في انتهاكها لحقوق الإنسان وحريّته(1).
الإسلام دينٌ ودولة، وهو قاعدة للفكر والعاطفة والحياة، وليس ديناً تنحصر مسؤوليّاته في أماكن العبادة فقط.
نظرة واقعيّة
في كلمةٍ له في مؤتمر "الإسلام والغرب" الذي عُقِد في بريطانيا أواخر أيلول 1997م، قال وزير الدولة البريطاني في وزارة الخارجية: "إنّ الإسلام أصبح مصدراً مهمّاً للهوية الثقافية لجيل جديد في بريطانيا ودول الغرب"، ودعا إلى تصحيح الاعتقاد في أنّ الإسلام يساوي الإرهاب متسائلاً: "هل قرأنا أحداً يدين الإرهاب الكاثوليكي بعد تفجيرات الجيش الجمهوري الإيرلندي"(1)، كما دعا إلى تصحيح الأخطاء "كفكرة التهديد الإسلامي أو صدام الحضارات".. كيف تنظرون إلى هذا الخطاب؟
نحن نرحّب بمثل هذا الاتجاه في النظرة إلى الإسلام، وفي رفض التهمة التي يلصقها الاستكبار الأميركي وبعض دول أوروبا بالإسلام بأنّه دين القتل والإرهاب. فالرجل كان واقعياً، لأنّه يعتبر أنّ قيام بعض المسلمين ببعض أعمال العنف نتيجة وضع سياسيّ معيّن قد يكون وطنيّاً أو دفاعياً، لا يعني أنّ الدين الذي ينتمون إليه يمثّل حركة هذا العنف.. ونحن دَعَوْنا شعوب الغرب مراراً إلى أن ندخل معهم في حوار ثقافي حول حضارتهم وحضارتنا ليعرفوا ما في الإسلام من العناصر الحضاريّة التي يمكن أن تأخذ بالإنسان إلى أجواء السعادة والخير إذا ما أخذ بها.. إنّنا ندعو دائماً إلى هذا الحور بين الإسلام والغرب بالرغم من وجود خطط استكبارية سياسيّة لدى الإدارات الغربية ضدّ الإسلام والمسلمين. ونحن نفرّق بين الإدارات الغربية الحاكمة التي تنطلق من حسابات سياسية استكبارية، وبين الشعوب الغربيّة المثقّفة والواعية والتي يمكن أن يكون هذا الوزير من جملتها.
نحن نفرّق بين الإدارات الغربية الحاكمة وبين الشعوب الغربية المثقّفة.
الفتوى والحاجة للوعي السياسيّ
قال أحد المسؤولين الدينيّين(1) في مصر ردّاً على سؤال، بأنّ "الإسلام يميِّز بين العمليات الاستشهادية التي يقوم بها المجاهدون ضدّ العدوّ الصهيوني الذي يحاربنا ويحتلّ أرضنا وبين العمليات الانتحارية التي تطال المدنيّين".. فما تعليقكم على ذلك، وهل العمليات ضدّ المدنيّين الإسرائيليّين حرام؟
إنّ بعض الذين يطلقون الفتوى يحتاجون إلى وعي سياسي.. فالحرب بيننا وبين اليهود مفتوحةٌ في كلّ الساحات.. فاليهود الذين يحتلّون فلسطين يقتلون المدنيّين في الضفّة وغزّة وجنوب لبنان.. ونحن نعتبر أنْ ليس هناك يهودي بريء، لأنّه ما من يهودي إلاّ وهو جندي احتياط في الجيش الإسرائيلي.
فاليهودي الذي يأخذ بيتك ويصادر أرضك وإن كان مدنيّاً فإنّه محاربٌ لك وليس مسالماً(2) فلذلك قد يحصل بالصدفة وأنتَ تحارب هؤلاء اليهود، قتلُ المدنيّين، وهذه هي طبيعة الحرب. وعندما تكون هناك حالة حرب، فإنّها بوسائلها ومواقعها قد تفرض نوعاً من أنواع قتل المدنيّين. ومن هنا، فنحن نقول: إنَّ المجاهدين إذا سقطوا في ساحة المواجهة هم شهداء، سواء كانت عمليّاتهم عمليات استشهادية، أم كانت عمليّاتهم في المواقع المدنيّة التي تفرضها الخطّة العسكريّة.
المجاهدون إذا سقطوا في ساحة المواجهة هم شهداء سواء كانت عملياتهم استشهادية أو كانت في المواقع المدنيّة.
تقليص المسافة بين الشعار والتطبيق
يعزو أحد المتابعين الفشل الذي تعانيه بعض الحركات الإسلامية في ميادين سياسية وفكرية وثقافية إلى هذه الحركات نفسها، لا من جهة الطرح، ولا من جهة عدم اعتراف الأنظمة بها، فهي من حيث تقدّمت في الطرح تفاقمت المسافة بين الشعار والتطبيق.. وهي عندما بدأت الأنظمة تعترف بها كواقع سياسي أو ككيانات دينيّة، أو كواقع بشريّ له حضوره بدأت تتنكَّر لذاتها، ولا تعترف هي ببعضها البعض، أو تسلك مسلكاً سلفيّاً في الجانب الفكري يناقض انفتاحها السياسي.. هل توافقون على ذلك؟
من الطبيعي لكلّ حركة إسلامية سياسية أو أيّة مؤسّسة دينية تلتزم القاعدة الإسلاميّة، أو أيّ مجتمع من المجتمعات يبني وجوده على أساس الإيمان والإسلام، أن يتحرّك في كلّ أساليبه وخطواته وعلاقاته ومواقفه من خلال الإسلام، فلا يكون هناك مسافةٌ بين الشعار والتطبيق، أو مسافةً بين القول والعمل، فقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ*كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف : 2 ـــ 3].
إنّن عندما نكون حركة إسلامية، أو مؤسّسة إسلامية أو مجتمعاً إسلامياً، علينا أن نطبّق الإسلام فكرياً وأخلاقياً واجتماعياً وسياسياً في كلّ مفاصل الواقع الإسلامي على صعيد المؤسّسة أو الحركة أو المجتمع، حتى نكون منسجمين مع أنفسنا وانتمائنا. وقد نلاحظ أنَّ بعض الحركات الإسلامية تنسى شعاراتها عندما تحصل على بعض النجاحات في الواقع، أو أنّها تصاب بنوع من أنواع انتفاخ الشخصية، سواء على مستوى الأشخاص الذين يكونون في مواقع متقدّمة، أو على مستوى الحركات أو المؤسّسات، بحيث يدفعها هذا الانتفاخ في الشخصية إلى الكثير من التعقيدات في علاقاتها بالآخرين من الذين يسيرون في الخطّ نفسه، أو يتحرّكون في الساحة نفسها.
ولذلك، ينبغي لأيّة حركة أو مؤسّسة أو شخصية إسلامية تعمل في الحقل العام، أن تمارس عملية النقد الذاتي، فتلاحق نقاط الضعف التي يمكن أن تزحف من خلال بعض التطوّرات أو المتغيّرات أو الظروف الموضوعية، أو بعض الأوضاع الداخلية من أجل أن تصحّح ما يفسد، وأن تصوّب ما يقع فيه الخطأ. فالإنسان عندما يمتدّ في غفلته عن نقاط ضعفه، فإنّه قد يتحوّل إلى مشكلة لما يمثّل ولمن يمثّل بدلاً من أن يكون حلاًّ للمشكلة. ولهذا، كان جهاد النفس هو الجهاد الأكبر، وقد قال الله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر : 19].
يجب أن نذكر الله على الدوام في حركتنا في أنفسنا، وفي حركتنا مع الآخرين، وفي حركتنا مع أهدافنا ومع كلِّ غاياتنا. فالإنسان عندما يذكر الله يذكر نفسه ويفهم مسؤوليّته في كلّ المجالات العمليّة. إنَّ نقاط الضعف التي يعيشها الكثيرون من الإسلاميين في العالم الإسلامي بدأت تأكل روحية الحركة الإسلامية من الداخل قبل أن تأكلها التحدّيات الكبرى من الخارج.
الإنسان عندما يمتدّ في غفلته عن نقاط ضعفه، فإنَّه قد يتحوّل إلى مشكلة لِما يمثّل ولمن يمثِل.
الشمولية في فهم الإسلام
يرى أحد الكتّاب أنّ النظرية القائلة "بأنّ باب الاجتهاد في الإسلام ما زال مفتوحاً" تستلزم وجود نظريات إسلامية متكاملة حول الاقتصاد والاجتماع والقوانين الدولية، وتستلزم ولوجاً كبيراً في التفاصيل والجزئيات، ومثل هذه التفاصيل تكاد تكون غائبة، ويستشهد الكاتب بمطالبتكم الدائمة بضرورة وجود ديناميكيّة جديدة للاجتهاد، ويستشهد أيضاً بكلام للشهيد السيّد محمّد باقر الصدر (قدّس سرّه) يقول فيه: إنّ مناطق الفراغ في الفكر الإسلامي أكثر من أن تُحصى. كما وينقل رأياً يرى أنّ الاجتهاد الموجود عند مدرسة إسلامية متحرّكة في خطّ الاجتهاد ليس اجتهاداً، بل هو تكرارٌ لفتاوى قديمة، ما تعليقكم على ذلك؟
من الطبيعي أنّ الاجتهاد في الإسلام قد يتحرّك في مسألة تأصيل العقيدة الإسلامية، أو تأصيل المفاهيم الإسلامية، وقد يتحرّك في استنباط الشريعة الإسلامية، لذا، لا بدّ للمجتهد أن يملك شمولية في فهم الإسلام، ولا سيّما في معرفة القرآن والسُنّة الشريفة، ومعرفة الواقع الفكري والثقافي المتحرّك، حتى يستطيع أن يفهم الإسلام في حركة المصادر الأصيلة، لكي يستطيع أن يقنّن ويشرّع للواقع حتى يعالج كافّة مشاكله. والمجتهد الذي يملك هذا الوعي الواسع للواقع من خلال معرفته بأمور الناس والحياة كلّها، فإنّه سيواجه حتماً مناطق الفراغ، منطلقاً في ذلك من اجتهاده، كما لو لم يكن هناك مجتهدون قبله، بمعنى أنّه ليس من الضروري أن يخضع لاجتهاد المجتهدين، وإن كان يجب عليه أن يدرس اجتهاداتهم، ليقارن بين ما وصلوا إليه، وما وصل هو إليه.
وإنّنا نتصوّر أنّه لا بدّ للاجتهاد من أن يتجدّد بوسائله، وأن يتجدّد بوعي المجتهد للإسلام، وللواقع كلّه، حتى يتحرّك الاجتهاد في حاجات الناس، فلا يبتعد عن حلّ مشاكلهم في حاجاتهم، ولا يبتعد عن الأصول الأساسية للإسلام، وذلك يحتاج إلى دراسة واسعة وتفصيلات أوسع(1).
لا بدّ للمجتهد أن يملك شمولية في فهم الإسلام ومعرفة الواقع الفكري والثقافي.
صناعة مفاهيم المجتمع
يرى دعاة نظرية العقد الاجتماعي أنّ المجتمع من صنع البشر وليس من صُنع المؤسّسات الدينيّة، وعندما يتحرّر العقل من سيطرة المؤسّسة الدينيّة تحدث النهضة، ثمّ التنوير، ما تعليقكم على ذلك؟
المجتمع في طبيعته الواقعية الإنسانية حالةٌ بشريّة، لأنّ المجتمع يمثّل هؤلاء الناس الذين تربطهم ببعضهم علاقات وأوضاع وعقائد ومفاهيم معيّنة. والذي يصنع للمجتمع فكره وخطوطه الاجتماعية التي يتحرّك بها، هي المؤثّرات التي تأتيه من الخارج، ولذا، فإنَّ المجتمع قد يخضع لسيطرة فكر آخر قادمٍ من مجتمعٍ ما، فيتأثّر به، وهو بذلك لا يكون قد صنع فكره بنفسه، وإنَّما فُرِضَ عليه هذا الفكر بفعل ظروف وأوضاع محدّدة.
والدين هو إحدى الاتجاهات الفكرية والروحية التي تركت تأثيرها في المجتمع من خلال دعوة الأنبياء الذين استطاعوا أن يركّزوا في هذا المجتمع أو ذاك الكثير من أفكارهم التي آمن بها بعض المجتمع نتيجة ما تأثّر به من طريقة النبيّ في الدعوة، أو من الأجواء المحيطة به، ولذلك فالدين استطاع أن يترك تأثيره في المجتمع، فصنع لنفسه مفاهيمه وعاداته وشرائعه. وعلى هذا، فالإنسان لا يصنع مفاهيمه من خلال ذاته، بل من خلال المؤثّرات الداخلية والخارجية التي تصنع له فكره.
أمّا الحديث عن أنّ المجتمع إذا تحرّر من الدين، فإنّه يستطيع أن يتحرّك في خطّ النهضة والتنوير، فهذا كلامٌ استهلاكي، لأنَّ بعض المؤسّسات الدينية شيء، والدين شيءٌ آخر، فالمؤسّسات الدينية قد يتخلّف المشرفون عليها، وقد يكون فهمهم للدين فهماً سيّئاً، أمّا الدين فإنّه يفجِّر طاقات الإنسان نحو الخير والإبداع والحقّ، وهو سببٌ رئيسي في تنوير المجتمع ونهضته. أمّا التخلّف الاجتماعي فقد يخضع لحالات غير دينية تمنع من النهضة والتطوّر. ويبقى أن نقول لهؤلاء: إفهموا الدين جيّداً ثمّ تحدّثوا عن دور الدين في التخلّف أو النهضة.
إنَّ الدين سببٌ رئيسي في تنوير المجتمع ونهضته.
"الإندماج" وتبرير الظلم
تعاني بعض المجتمعات والدول المُسمّاة إسلامية من مشاكل على المستوى السياسي والفكري والأخلاقي والاقتصادي، وهذا ما يدفع بعض المسلمين الشيعة في هذه البلدان والمجتمعات إلى مناقضة ورفض هذا الواقع، وإنَّ هذا الموقف يكلّفهم أثماناً على المستويات كافّةً، ممّا يدفع البعض لإلقاء الّلوم على هؤلاء المسلمين الشيعة تحت عنوان عدم الاندماج في مجتمعاتهم، فهل توافقون على هذا الطرح؟
إنّنا لا نوافق على هذا الطرح، لماذا؟ لأنَّ الشيعة في كلّ موقعٍ من المواقع التي تحرَّكوا فيها، لم يتحرّكوا وحدهم وإنّما تحرَّكوا مع الآخرين من هذا الشعب أو ذاك احتجاجاً على المظالم التي يقوم بها هذا الحاكم أو ذاك، واحتجاجاً على السياسة المنحرفة التي تؤدّي ببلدان المسلمين إلى أن تقع تحت تأثير الاستكبار العالمي من خلال وجود القواعد العسكرية للاستكبار وخصوصاً الاستكبار الأميركي.
والشيعة في كلّ مجتمع هم جزءٌ من هذا المجتمع ولم ينفصلوا عن مجتمعاتهم أبداً، وهم يعارضون السياسة المنحرفة لأيِّ نظام كما يعارض غيرهم. لذلك إنَّ هذا المنطق الذي يبرِّر للأنظمة المنحرفة أعمالها ضدّ المسلمين الشيعة تحت عنوان بأنَّ الشيعة لا ينسجمون ولا يندمجون مع مجتمعاتهم، مع التشهير بالشيعة في العالم من قِبَل أشخاص يتحمّلون مسؤولية الشيعة من ناحية رسميّة هو أمرٌ مرفوض جملةً وتفصيلاً. فالشيعة هم كبقية الجماعات الأخرى يعيشون مع مجتمعاتهم بكلِّ تعاون وانفتاح، ويعارضون ما يعارضه الآخرون، ويقبلون ما يقبله الآخرون. إنّ الشيعة لم ينفصلوا عن مجتمعاتهم في أيّ موقع من المواقع، فلماذا تريدون أن تتحدّثوا عنهم، كما لو كانوا مجرّد جماعة معزولة عن المجتمع تشاغب على النظام أو تربك الواقع. هذا كلامٌ لا يقوله أعداء الشيعة الواعون، فكيف يقوله جماعةٌ من الشيعة أنفسهم؟
الشيعة كبقيّة الجماعات الأخرى يعيشون مع مجتمعاتهم بكلِّ تعاون وانفتاح، ويعارضون ما يعارضه الآخرون.
الدور والمسؤولية
هل تعتقدون فعلاً أنَّ دور رجال الدين بات يصنع مشكلة في الواقع اللبناني على المستويين الرسميّ والشعبي، وما هو ردُّكم على طلب المحاسبة لرجال الدين كغيرهم من المواطنين(1)؟
نحن نعتقد أنَّ علماء الدين وهذا هو المصطلح الذي نختاره بدلاً من كلمة رجال الدين، لأنَّ كلَّ متديّن هو رجل دين.. فليس عندنا رجال دين ونساء دين، لأنّه ليس في الإسلام كهنوت، نعم عندنا علماء دين، وكلّ مسلم رجل دين، أي أنّه ينتمي إلى الدين. ونحن نقول، إنَّ علماء الدين يخطئون ويُصيبون سواء تحدَّثوا في السياسة أو الاجتماع أو في القضايا الثقافية أو في الدين نفسه، وكونهم يصيبون ويخطئون، فمن حقّ الناس على الذي يُخطئ ويُصيب، ومن حقِّ الحقيقة عليه أن يقبل مناقشة الآخرين وحوارهم معه حول ما يرى وحول ما يراه الناس. ونحن نلاحظ أنَّ القرآن الكريم فتح بابَ الحوار مع الناس الآخرين، فقال سبحانه: {قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة : 111]، وقال أيضاً: {هَاأَنتُمْ هَؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ} [آل عمران : 66] إذاً، القرآن الكريم لا يرفض الحوار والجدال والمناقشة، ونحن نقول بالصوت العالي، إنَّنا مستعدّون لأن نسمع بكلِّ احترام ومحبّة كلَّ رأي ينتقد ما نطلقه من آراء، سواء في السياسة أو في الدين أو في الثقافة العامة، أو في حركة الواقع الاجتماعي للحياة.
أمّا القول بأنَّ دور رجال الدين ـــ كما يُعبَّر ـــ بات يصنع مشكلةً على المستويين الرسمي والشعبي، فإنّنا نردُّ على ذلك، بأنَّ تعاطي الإنسان في السياسة، لا يحتاج إلى إصدار مرسوم بذلك، بل كلّ الناس من علماء دين وغيرهم ممّن يتحرّكون في الواقع السياسيّ ويعطون رأيهم في القضايا السياسية، وينفتحون على الواقع السياسيّ كلّه هم يعملون بالسياسة.. وقد يختلف هؤلاء بين مَنْ يعتبرون السياسة لعبة، وبين مَنْ يعتبرونها رسالة، فعلماء الدين الذين يشاركون في القضايا السياسية، إنْ من خلال الرأي أو المواقف أو الحركة هم سياسيّون، ولكن بمعنى السياسة التي تتّصل بمصير الناس، وترتفع بمستواهم، ولهذا، فهم ربّما يمثّلون مشكلةً للواقع السياسيّ المنحرف الذي يعتبر السياسة مهنةً يعيش منها بعض الناس، أو يعتبر السياسة لعبةً يلعب فيها البعض بمصائر الناس، فهم يمثّلون مشكلة للذين يتعاملون مع العدوّ، ومشكلةً لكلِّ مَنْ يظلم الناس، ومشكلةً لكلِّ مَنْ يستكبرون على الناس بغير حقّ.. وهم ليسوا مشكلةً للواقع السياسيّ الشعبي، بل هم يتحرّكون مع الشعب من خلال حلِّ مشكاكله وخدمة قضاياه وتأصيل موقعه واستقامة طريقه. ولكن، ربّما نجد أنَّ هناك بعض علماء الدين من الذين يسيرون في ركاب السلطة الظالمة، والذين يسمّيهم بعض المثقّفين وعّاظ السلاطين الذين يحاولون أن يبرِّروا للسلاطين ظلمهم وانحرافهم ـــ وأن يحرقوا لهم البخور ـــ ويؤيِّدونهم، طبعاً، هؤلاء علماء دين، ولكنّهم لا يتحرّكون من خلال قِيَم الدين، بل من خلال قيَمهم الذاتية. إذاً، نحن نتحدّث عن علماء الدين الرساليّين الذين ينفتحون على كلِّ مواقفهم ومواقعهم من خلال الرسالة التي تستوحي خطّ الله سبحانه لتتحرّك فيه، وتستوحي مصلحة ومنفعة الناس في البرامج التي تحرّكها في الواقع.
ربّما يشكّل علماء الدين مشكلةً للواقع السياسي المنحرف الذي يعتبر السياسة مهنة، أو لعبةً يلعب فيها البعض بمصائر الناس.
ليس عالم الدين إنساناً فوق النقد
هناك مَنْ يعترض على عمل رجال الدين بالسياسة، فما هو ردّكم على هذا الاعتراض؟
لنطرح السؤال ما هي السياسة؟ وبجواب طبيعي جدّاً، إنَّ السياسة هي لإدارة أمور الناس في قضاياهم العامّة والخاصّة، بحيث لا يطغى إنسانٌ على إنسان، ولا جماعة على جماعة، ولا يُؤكَل حقُّ إنسان ولا حقُّ مجتمع. معنى ذلك أنَّ السياسة هي من أجل إقامة العدل بين الناس. نأتي إلى القرآن الكريم، ونحن نتحدّث عن الإسلام، والإسلام لا يتحدّث في هذه الآية عن مرحلة، بل يتحدّث عن كلّ مراحل الرسالات، وذلك في سورة الحديد: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد : 25] إذاً، كلُّ الرسالات، كلّ الكتب، من التوراة إلى الإنجيل، إلى القرآن، كلّ الموازين التي تمثّل الميزان الفاصل بين الحقّ والباطل، هي من أجل أن يقوم الناس بالقسط، والقسط هو العدل. إذاً، معنى ذلك أنّ كلّ الدين تختصره كلمة العدل. أن تعدل مع ربِّك فتعطي ربَّك حقّه، أن تعدل مع نفسك فتعطي نفسك حقّها، أن تعدل مع الناس، مع الحيوان، مع الحياة، مع البيئة.
عندما يكون الدين انطلاقة عدل وحركة عدل، فكيف يمكن أن نحرّك العدل في الواقع؟ لا بدَّ من إدارة العدل من خلال الشخصيات التي تتولّى إدارة أمور الناس والشخصيات التي تراقب الذين يتولون إدارة الناس، والشخصيات التي تراقب الساحة التي يتحرّك فيها هؤلاء وأولئك. هل هذا، إلاّ الحركة السياسية في الواقع؟ لا سيّما إذا عرفنا أنّ هناك عدلاً في الأمن، وعدلاً في القانون، وعدلاً في الحكم، وعدلاً في السياسة. أمّا إذا أردنا من السياسة، اللعبة الشيطانية التي تُسمّى اللّعب على الحبال، والالتواء والانحراف. فهذه السياسة لا يرفضها الدين وحسب، ولكن ترفضها كلّ الاتجاهات الحضارية التي تريد للإنسان أن ينفتح على قضايا الإنسان بالطريقة التي تبني للإنسان إنسانيّته. بدلاً من أن تُسقط إنسانيّته باللعبة السياسيّة.
ثمّ عن السؤال الآخر، بقطع النظر عن مفهوم الدين واختزانه السياسية أو مفهوم السياسة ورقضها للدين، فإنّنا نجيب بالقول: إنّ علماء الدين مواطنون كبقية المواطنين، فلماذا نعطي بقية المواطنين الحقّ في أن يتحدّثوا بالسياسة، ونلغي هذا الحقّ عن علماء الدين؟ قد يقول قائل: إنَّ علماء الدين قد يستغلّون موقعهم الديني لمصلحة موقفهم السياسي، فيسيئون بذلك إلى الواقع، لأنّهم يُدْخلون موقعهم الديني الذي لا علاقة له بهذا الموقف، فيفرضونه على الموقف ممّا يُوجب إرباكاً في العمل السياسي.
إنَّ السؤال الذي يفرض نفسه، هو أنّ هناك أناساً يتعاطون السياسة، ممّن يملكون الموقع الاقتصادي الكبير جدّاً، وهناك من يتعاطون السياسة ممّن يملكون الموقع الاجتماعي الكبير جدّاً، وهكذا ممّن يملكون الموقع العسكري الكبير جدّاً. إذا كانت المسألة أنّ مَنْ يملك موقعاً كبيراً لا يُسمح له بتعاطي السياسة خشيةً من استغلال موقعه، فينبغي أن نمنع كلَّ الذين يملكون مواقع سياسيّة واقتصادية واجتماعية وعسكرية من العمل في السياسة.
القضية، هي أن نمنع الذي يستغلّ موقعه، وأن نقول لعلماء الدين كما نقول لغيرهم، إنّ عليكم إذا أردتم أن تُطلقوا مواقفكم في الساحة العامة أن تتحمّلوا مسؤولية حركة الصراع في المواقف، بأن تقبلوا النقد الذي يُوجّه إليكم، ولا تحاولوا أن تُثيروا الجدل حول الذين ينتقدونكم بأنّهم اخترقوا المقدّسات أو أساؤوا إلى الاحترام أو ما إلى ذلك.
إنّ وجهة نظرنا، ونظري بالذّات، هي أنّ عالم الدين إنسان كبقية الناس، يملك موقعه من خلال عمله، ولكن عليه ألاّ يتقدّم إلى الناس بالهالة الدينية التي تخفي أخطاءه والتي تجعله إنساناً مقدّساً فوق النقد، لأنّه ليس معصوماً. وقد قال الإمام عليّ (عليه السلام): "رَحِمَ الله امرءاً أهدى إليَّ عيوبي"(1) وعليٌّ (عليه السلام) فوق العيب، ولكنّه يريد أن يقول: إنّ من ينبّهك على عيبك، فقد قدّم لك هدية، لأنّه يريد إصلاحك أو يعينك على إصلاح نفسك.
إنّ عالم الدين إنسانٌ كبقيّة الناس، يملك موقعه من خلال عمله، ولكن عليه ألاَّ يتقدّم إلى الناس بالهالة الدينية التي تخفي أخطاءه، والتي تجعله إنساناً فوق النقد.
"طالبان" والتخلّف
جرى في أفغانستان مؤخراً المزيد من العقوبات، ضدّ الذين يخالفون "فتاوى" حركة طالبان(2) في رفض عمل المرأة وتعليمها، وفي التصوير الفوتوغرافي وما إلى ذلك، ويقدّم الإعلام العالمي هذه الصورة كنمط ما يسميّه بالأصوليّة الإسلاميّة، ليقارنه بأصوليات أخرى في إيران ومصر وتركيا والسودان.. ألا توافقون الرأي أنَّ في العالم الإسلامي حركاتٍ تطبّق الإسلام بشكلٍ متخلّف؟
منذ أن انطلقت هذه الحركة (طالبان) في أفغانستان شعرنا أنّها حركةٌ غارقةٌ في القرون الوسطى وكهوفه المظلمة ومغاراته الموحشة، وأنَّ هؤلاء الذين ينتمون إليها لم يفهموا الإسلام القرآني، الذي يجعل دور المرأة جنباً إلى جنب دور الرجل، ويحمّل المرأة مسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويدفع بها لأن تكون النموذج في العقل الذي يتمثّله النساء والرجال معاً، والنموذج في الثبات في الموقف والصلابة في الإيمان، لأنَّ الإسلام تحدّث عن المرأة بالأسلوب نفسه الذي تحدّث به عن الرجل، وإذا كان أراد للرجل أن يتعلَّم، باعتبار أنّ العلم هو القيمة الكبرى، فإنَّه أراد للمرأة أن تتعلَّم أيضاً كما الرجل. وإذا كان الإسلام لا يشجّع الاختلاط بغير ضوابطه، فإنّه لا يمنع الاختلاط مع الضوابط والروابط والحدود الشرعية، وهذا ما نلاحظه في صلاة الجماعة المشتركة للرجال والنساء، وهكذا في أعمال الحجّ وأداء مناسكه المشتركة، وفي غير ذلك.
وهكذ، نجد أنّ مسألة التصوير ليست مسألة محرَّمةً، لا سيّما التصوير الفوتوغرافي، وإنَّ مَنْ حرّم التصوير باليد أو النحت، لم يحرّم التصوير الفوتوغرافي. ولذا، فإنَّ هذه العناوين التي طرحها هؤلاء، تدلُّ على تخلّف في الفهم الفقهي وفي الثقافة والمفاهيم الإسلاميّة.
لقد رفعنا الصوت عالياً منذ البداية، ونرفعه الآن عالياً، ونقول، لا يكفي لأيّة حركة إسلامية أن ترفع شعارات الإسلام، وتتحدّث عن حكم الإسلام، بل لا بدّ من أن تفهم الإسلام جيّداً، وتطرح للمسلمين قبل غيرهم ما هو مفهوم هذا الحكم الإسلامي أو مفهوم هذا التشريع، وما هي تصوّرات المفاهيم الإسلاميّة، لأنّنا إذا لم نعِ الإسلام في المواقع التي يستطيع أن يحلَّ فيها مشكلة الإنسان كلّ الإنسان، فقد نقدّم للنّاس تخلّفاً باسم الإسلام، وجهلاً باسم الإسلام، وانحرافاً باسم الاستقامة.
إنَّ مثل هؤلاء (طالبان) لا يمثّلون الأصولية الإسلامية، إذا كانت الأصولية، تعني الرجوع إلى الأصول، لأنَّ هؤلاء لم يرجعوا إلى أصول الفكر الإسلامي من خلال ما نزل على قلب النبيّ محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) من القرآن الكريم، وما تحدّث (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) به في سنّته، لأنَّ ما نزل عليه وما تحدّث به، يخلق للإنسان وعياً للحقيقة كلّها، حيث فيها مصلحة الإنسان في كلِّ زمانٍ ومكان.
منذ أن انطلقت حركة (طالبان) في أفغانستان شعرنا أنّها حركةٌ متخلّفةٌ غارقةٌ في القرون الوسطى وكهوفه المظلمة ومغاراته الموحشة.
الأساليب المثيرة
جاء في كتابكم (خطوات على طريق الإسلام)(1): "إنَّنا نؤكّد على الحذر الشديد أمام الحالات الشعوريّة والعاطفية التي تولَدها الأساليب المثيرة المنحرفة من قِبَل أعداء الإسلام، سواء في ذلك الأساليب المرتبطة بالجانب العقيدي أو بالجانب التشريعي أو بالجانب السياسيّ الذي ترتبط به الممارسات العمليّة للناس في خطِّ هذا التيّار أو في خطّ التيّار الآخر" كيف نفهم هذه الحالات والأساليب؟
لا بدّ للإنسان المسلم الذي يرتبط بعقيدة وشريعة الإسلام أن يكون مخلصاً للخطّ العقيدي والخطّ التشريعي في أصالتهما.. ونحن نؤمن بتوحيد الله وأنبيائه وبشريعته من خلال ما جاء في القرآن الكريم، وهناك من غير المسلمين من لا يؤمن بما نؤمن به، ويمارس بعض طقوسه في الجوّ العاطفي الذي يتغاير مع عقيدة المسلمين، كصنع التماثيل والانحناء أمامها، أو الاحتفال برأس السنة الميلاديّة في جوٍّ محموم بالشهوات، وما إلى ذلك. ولذا، على المسلم ألاَّ يحاكي الآخرين في أسلوبهم بالتعامل مع عقيدتهم، باعتبار أنَّ الأجواء العاطفية والشعوريّة تأخذ بقلب الإنسان ومشاعره، وهكذا في البُعد عن عادات الذين يخالفون القضايا الشرعية عندما يأخذون ببعض أسباب المعاصي والمحرّمات، حتى لا نعيش في أجوائهم، وننجرف عاطفياً معهم، وننسى ما أمرنا الله تعالى به.
علينا أن نبقى واعين للأدوار والمسؤوليات المرسومة لنا من قِبَل الله تعالى، ومن قِبَل رسوله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) في عقيدتنا وشريعتنا، حتى لا ننحرف مع الآخرين عندما نحاكي حالاتهم الشعورية والعاطفية التي تجعلنا نتخطّى الحدود التي أمر الله تعالى أن نقف عندها.
علينا أن نبقى واعين للأدوار والمسؤوليات المرسومة لنا من الله، حتى لا ننحرف مع الآخرين.
الطاقات الخيّرة
تقولون في كتابكم (خطوات على طريق الإسلام): "إنّنا نعتقد أنَّ تجميد أيّة طاقة إسلامية يؤدّي إلى إضعاف قوّة الإسلام في معركته المصيرية التي تحوّلت إلى معركة حياة أو موت، ممّا يجعل المتردّدين والمنعزلين والخائفين يلتقون في صعيد واحد مع قوى الكفر والضلال والانحراف" ألَا ترون أنَّ تجميد الطاقات، هو تجميد العمل من أجل القضايا الكبرى التي بدأ يحترق بعضها، والإلتهاء بالقضايا الصغرى، ممّا يجعل من ساحتنا ساحةً واسعة للحرتقات، والعدوّ واقفٌ على الأبواب ينتظر إشارة الدخول؟
إنَّ الله سبحانه وتعالى جعل طاقاتنا التي وهبنا إيّاها، سواءً كانت طاقات علم أو خبرة أو قوّة في إطار مسؤولياتنا، فالله سيحاسبنا غداً في يوم القيامة عن طاقاتنا كيف حرَّكناها وما أنتجنا من خلالها، وما صنعنا بها من أجل القيام بمسؤولياتنا. فالله سبحانه جعل هذه الطاقات حُجّة علينا يوم القيامة. وقد قال الإمام الصادق (عليه السلام): "إنَّ الله لم ينعم على عبد نعمةً إلاّ وقد ألزمه فيها الحُجّة من الله، فمَنْ مَنَّ الله عليه فجعله قوياً، عليه القيام بما كلّفه واحتمال مَنْ هو دونه ممّن هو أضعف منه"(1) يعني أنّ الله يقول لك: لقد أعطيتك قوّةً بدنية، وكنت قادراً على أن تقوم بالتكاليف الشرعيّة، فلماذا لم تقم بها، وكنت قادراً على أن تدعم الضعيف في ماله بقوّتك، فلماذا لم تدعمه؟ "وَمَنْ مَنَّ الله عليه فجعله مُوسَعاً عليه فحُجّته عليه مالُه، ثمّ تعاهده الفقراء بفرائضه ونوافله"(2) الله يقول لك: لقد أعطيتك المال، فهل أخرجت حقَّه منه، وصرفته في طاعة الله، وفيما أحلّه سبحانه، وهل أعنت به المحرومين والمستضعفين من عباد الله؟ "ومَنْ مَنَّ الله عليه فجعله شريفاً في بيته، جميلاً في صورته، فحُجّته عليه أن يحمد الله تعالى على ذلك، وألاّ يتطاول على غيره فيمنع حقوق الضعفاء لحال شرفه وجماله"(3)، إذاً طاقاتنا، هي حُجّة الله علينا التي سوف يحاسبنا عليها، كيف حرَّكناها هنا ووظَّفناها في مجال المسؤولية. والإنسان الذي يحجب طاقته عن الحقّ، هو إنسانٌ يقف مع العدوّ على صعيد واحد. وإنّك كلّما حجبت عن الحقّ قوّةً، كلّما أضعفت الحقّ، لأنَّك سلبته قوّتك، وبذلك، فإنَّك تقوّي العدوّ بطريقة سلبيّة. ولو فرضنا أنَّ العدوّ يملك مئة ألفٍ ونحن نملك مئة ألفٍ، ووقف منّا تسعون بالمئة حياديين واعتزلوا الواقع تحت عنوان، مالنا وللدخول بين السلاطين، فإذا تغلّب علينا العدوّ، فإنّه يتغلّب علينا بواسطة هؤلاء الحياديّين، لأنّهم حجبوا أنفسهم عن دعم الحقّ، وبذلك أعطوا الباطل قوّة إضافية، وأضعفوا الحقّ. وفي مستوى هؤلاء أيضاً، الذين يسخّرون طاقاتهم لإرباك المجتمع وإشغاله بالقضايا الهامشية والجزئيّة، وإدخاله في المنازعات، فهؤلاء يُضعفون المجتمع من خلال إشغاله بما لا فائدة منه، وبما يجلب الضرر والضعف لواقعنا، وذلك ما نراه في كلِّ هذه الأوضاع التي تحيط بالساحة الإسلاميّة، حيث ينشغل المؤمنون في كثير من بلاد العالم عن القضايا الأساسيّة التي تواجههم، إنْ من خلال الدعوة إلى الله، أو من خلال الذين يكيدون لدين الله ويستكبرون في الأرض بغير حقّ، فيظلمون الناس ويعملون على إسقاط حريَّتهم وعزّتهم وكرامتهم. هؤلاء مع العدوّ في خندقٍ واحد، لأنّهم يضعفون الساحة، ممّا يمكّن العدوّ من السيطرة على الساحة. وقد قال الله تعالى: {وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ} [الأنفال : 46].
الذين يسخّرون طاقاتهم لإرباك المجتمع وإشغاله بالقضايا الهامشيّة والجزئّة، وإدخاله في المنازعات، هؤلاء يُضعفون المجتمع من خلال إشغاله بما لا فائدة منه.
ادّعاء
نرى البعض يتدخّل في شؤون الناس الدينية على قاعدة أنّه المرجعية الصالحة في تحديد الانتماء الصحيح للدين، في وقت يُجَيِّر فيه كلّ مواقفه السياسية لخدمة بعض الأوضاع، ويشنّ الحملات العنيفة ضدّ الحركات الإسلامية من دون مراعاة لدماء شهدائها ولجهادها في مواجهة الاستكبار.. ما نظرة سماحتهكم لهذا الأمر؟
نريد لكلّ الناس الذين يكونون في مواقع المسؤولية، سواء كانت مسؤوليات دينية أو اجتماعية أو سياسيّة أن يفهموا الواقع جيّداً، ويفهموا أنفسهم جيّداً، لأنَّ مشكلة بعض الناس أنّهم يشعرون ببعض الانتفاخ في أوضاعهم، ممّا قد يتزلَّف إليهم المتزلّفون ويمدحهم المادحون.. ونحن نعتقد أنَّ على أيِّ إنسان ألاَّ يعتبر نفسه أنّه يملك الحقيقة المطلقة، والموقع المطلق.. إنَّ التجربة الواقعية أثبتت أنّ كلَّ إنسان يعيش ضخامة الشخصية بهذا الحجم، فإنَّه لن يستطيع أن يفتح قلوب الناس عليه، لأنَّ قلوب الناس لا تنفتح إلاّ بالمحبّة والخير والتواضع.
الإنسان الذي يعيش ضخامة الشخصيّة لن يستطيعه أن يفتح قلوب الناس عليه.
حقوق الإنسان
تقولون في كتابكم (حوارات في الفكر والسياسة والاجتماع)(1): "نتصوّر أنَّ حقوق الإنسان ليست شيئاً مطلقاً معلّقاً في الهواء، ونحن لا نعتقد أنّ الثورة الفرنسية أو هيئة الأمم المتحدة هي التي تقرّر حقوق الإنسان، فللإسلام نظرية معيّنة في حقوق الإنسان" هل ترون أنَّ هذه النظرية تأخذ طريقها إلى التطبيق أم ما زال الأمر في عالم النظرية؟
خطّط الإسلام للحقوق الإنسانية، حيث جعل لكلّ إنسان حقّاً على الإنسان الآخر، وجعل واجباً معيّناً عليه.. ولكنّ المشكلة أنَّ الواقع الذي نعيش فيه، ليس واقعاً إسلامياً على مستوى حقوق الإنسان.. فعندما ندرس علاقة الحاكم بالرعيّة والناس، فإنّنا نرى هذا الحاكم الذي أراد الله له أن ينشر العدل ويعطي للناس حريّاتهم بالطريقة المسؤولة، وأن يكون أميناً على أموال الناس ودمائهم وأعراضهم، فإنّنا نراه وفي أغلب العالم الإسلامي، يمثّل الإنسان المستبدّ الذي جيء به ليصادر كلّ حقوق مواطنيه، بدل أن يرعاها. كما أنّنا نجد أيضاً بعض الشعوب التي قد يكون لها حكَّام جيّدون لا تقوم بحقّ الحاكم في مساعدته على نشر العدل وتنظيم الأمور، وفي صبرها على الخطط التي يُراد لها أن تبني المجتمع وتدفع به إلى الرخاء في المستقبل على أساس تضحيات الحاضر.. وهكذا نجد أنَّ الله جعل للمرأة حقوقاً وللرجل حقوقاً وقال سبحانه: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة : 228] فلم يُجز لرجل أن يصادر إنسانية زوجته، بل إنَّ عليه أن ينظر إليها كإنسان يملك كامل الحقوق في الإنسانية، كما هو إنسانٌ له كامل الحقوق في الإنسانية، وإنّ ما يُقيّد كلَّ واحد منهما، هو الحقوق التي فرضها الله بمقتضى التعاقد بينهما.. أمّا في خارج نطاق التعاقد الذي التزمت به المرأة على نفسها من حقٍّ للزوج، والتزمه الزوج من حقّ للمرأة عليه، فالمرأة حرّةٌ والرجل حرٌّ في خارج هذا النطاق.. إنَّ الزواج لا يستعبد المرأة للرجل، كما لا يستعبد الرجل للمرأة، بل هناك حقوقٌ لهذا، وحقوق لتلك. وقد ميَّز الله الرجل بالقوامة التي لا تعطي إلاَّ حجماً محدوداً للرجل من أجل استقامة النظام الأُسري.. لكنّنا نرى أنّ بعض الرجال يضطهدون المرأة، كما لو كانت بعض أثاث البيت، فيعنّفونها ويضربونها ويسبّونها ويُخرجونها من بينتهم بغير حقّ. كما نرى أنَّ بعض النساء يعملن على اضطهاد أزواجهنَّ، إذا كُنَّ يملكنّ بعض القوّة.. وهكذا بالنسبة إلى علاقة الناس بعضهم ببعض، فكان للمعلّم حقٌّ على التلاميذ، وللتلاميذ حقٌّ على المعلّم، وللأقرباء حقٌّ على بعضهم البعض، وللمؤمن حقٌّ على المؤمن، وللناس الذي يتبايعون ويشترون حقٌّ على بعضهم البعض. ولكنّنا نرى أنّ بعض مجتمعنا يعيش الجاهلية في أخلاقه، وربّما نجد أنَّ هذه الجاهلية الأخلاقية الثقافية الإنسانية قد دخلت إلى بعض الأجواء، حيث نتربّى على الصلاة في أجزائها وشرائطها وشكوكها، ولكنّنا لا نتربّى على احترام بعضنا البعض.. وهناك مَن يصرف من وقته ساعة أو ساعتين ليتأكّد هل وصل الماء إلى كلّ جسمه أثناء الغسل الواجب، ولكنّه لا يخاف الله عندما يغتاب الناس من الصباح إلى اللّيل، أو يكذب على هذا ويتّهم ذاك.. ويكفي أن تكون بينك وبين واحد من هؤلاء مشكلة حتى يأخذ حريّته في أن يتكلّم عنك بكلِّ شيء، فتصبح الغيبة والبهتان والنميمة حلالاً وكذلك الكذب.
نحن لا نعيش أخلاقية حقوق الإنسان في الإسلام، وقد قال ذلك الألماني عندما اطّلع على واقع الإسلام والمسلمين، قال: الإسلام شيء والمسلمون شيء آخر.
نتربّى على الصلاة في أجزائها وشرائطها وشكوكها، ولكنّنا لا نتربّى على احترام بعضنا البعض.
المشروع الإسلامي بين الجوانب العبادية والجوانب الحياتيّة
يأخذ بعض المفكّرين على فقهاء المسلمين، وتالياً على الحركة الإسلامية اهتمامهم بالجوانب العبادية والمثالية على حساب الجوانب الحياتية والمعيشيّة، ويرون أنَّ هذا السبب هو من الأسباب الرئيسة التي جعلت المشروع الإسلامي يتأخّر في أكثر من دولة، لأنّه اشتغل بالعموميات والمثاليات وترك ساحة التفاصيل للآخرين.. هل توافقون هؤلاء رأيهم؟
لا أعتقد أنَّ المسألة بهذه السلبيّة، فهناك الكثير من الفقهاء الذين عالجوا أمور العلاقات كما العبادات. والاهتمام بالعبادات يركّز عمق الشخصية الإسلامية في التزامها بخطّ الله تعالى، وانفتاحها عليه وخضوعها له. ونحن بحاجة إلى المعاملات لتركيز الشخصية الإسلامية التي تملك الخوف من الله والمحبّة له والالتزام بنهجه تعالى، ومن الطبيعي أنّ للعبادات دوراً في ذلك، ولهذا رأينا أنَّ القرآن يتحدّث عن الصلاة بأنّها تنهى عن الفحشاء والمنكر، ويتحدّث عن الصوم بأنّه أسلوب من أساليب تحصيل التقوى، وعن الحجّ باعتبار أنّه يعمّق للإنسان إحساسه بالله وبمسؤوليّته أمامه، ممّا يجعل طوافه وسعيه في الحياة في طريق الله. فالاهتمام بالعبادات ناشئ من حيث أنّها تمثّل القاعدة الشخصية الإسلامية في شدّة علاقتها بالله، فكلّما مارس الإنسان صلاته وصومه وحجّه ودعاءه بوعي أكثر، كلّما انفتح على الله وشعر بمسؤوليته أمامه سبحانه أكثر. ونحن نؤكّد على ضرورة أن نعطي الإسلام كلّه للناس، فنقدّم الإسلام بخطوطه العامة والتفصيلية على مستوى العبادات والمعاملات والعلاقات والسياسات، ونواكب حركة الإنسان في تجربته في كلّ هذه الأمور، بحيث لا يشعر الجيل المسلم بأيّ فراغ إسلامي في كلِّ ممارساته وما يواجهه من تحدِّيات، وما يعيشه من تطلُّعات. نحن نعتقد أنَّ البعض منّا يستغرق في جانب واحد ويهمل بقيّة الجوانب، ممّا يجعل لأعداء الله سبيلاً على المسلمين في استغلال ذلك الفراغ الذي يبحث فيه المسلمون عن رأي فلا يجدونه، وعن موقف فلا يعثرون عليه.
نحن نؤكّد على ضرورة أن نعطي الإسلام كلّه للناس، لنواكب حركة الإنسان في تجربته حتى لا يشعر بأيّ فراغ إسلامي في كلّ ممارساته.
الحريّة المسؤولة
في بحث للسيّد الخاتمي ينتقد قمع الحريات باسم الإسلام، ويحمل على أولئك الذين صنعوا الواقع متعارضاً مع الحريّة، ثمّ يدافع عن ضرورة أن تتقدّم الحريّة على التنمية، لأنّ الحرية هي من أهمّ شروط التنمية، ما رأيكم بهذا الموقف؟
إنّني أعتقد أنّ السيّد الخاتمي يقصد الحريّة المسؤولة، لا الحرية الفوضويّة، لأنّ الحرية الفوضية الخالية من الضوابط لا يمكن أن تحدث أيّ توازن وانتظام. ونحن نقول إنّ الشعب كلمّا كان حرّاً أكثر ضمن الضوابط الشرعية للحريّة، فإنّه يمكن أن يغتني بالفكر وبالموقف أكثر، ويمكن أن يمنع أيّ حاكم من أن يتحوّل إلى قوّة استبدادية يخنق أصوات الناس عن النقد، وعقولهم عن التفكير.. فحريّة الشعب المحكومة للضوابط الشرعية تفجّر طاقاته في خطّ التنمية، ولذلك نحن نتّفق معه في هذا الرأي.
المشروع الديمقراطي والحكم باسم الدين
يرى أحد الكتّاب أنّ بناء المشروع الديمقراطي للثورة الثقافية الشاملة يقوم على أساس العلمانية الجديدة التي تأخذ بتحرير الدين من قيود الدولة على أن تأخذ أيضاً بتحرير المجتمع من أيّة سلطة أخرى تحكمه باسم الدين، ما تعليقكم على ذلك؟
الواقع أنّ هذا الكلام غير دقيق بقطع النظر عن إيماننا بالإسلام أنّه دينٌ ودولة، وأنّه الحلُّ الذي وضعه الله سبحانه وتعالى للبشرية، وإذا أردنا مناقشة المسألة التي يطرحها الكاتب.. وهي "تحرير" الدين من قيود الدولة، و"تحرير" المجتمع من سلطة الدين، نقول: إنّ علينا أيضاً أن نحرِّر الجانب الفكري والثقافي وحتى الديمقراطية من سلطة الدولة.
إنَّ الدين هو خطٌّ فكريّ، إلى جانب الخطّ الغيبي والإنساني، فالجانب الغيبي فيه ينفتح على الله سبحانه، والجانب الإنساني ينظّم علاقة الإنسان بالإنسان الآخر، وهذا يمتدُّ إلى الكثير من القوانين التي يمكن أن تنشيء دولة.
هذا الكاتب يريد أن ينشيء دولة انطلاقاً من فلسفة معيّنة يؤمن بها، وهي بعيدة عن الدين، والسؤال: ما الذي يجعل نظرته إلى هذه الدولة نظرة حقيقية ومبرّرة، ولماذا يعتبر النظرة إلى الدولة القائمة على الدين نظرة غير مبرّرة؟
ولذا، فإنّه عندما يعتبر أنّ الدين ليس حقيقة، يمكن لنا أن نعتبر أنّ قاعدته الفكرية التي ينطلق منها ليست حقيقية، فالديمقراطية والاشتراكية والعلمانية ليست قواعد فكرية حقيقيّة.
والإسلام بمناهجه القرآنية يحلُّ مشكلة السلطة من الناحية الفكرية، حيث يعتبر الجميع عباداً لله تعالى، وهم لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضرّاً إلاّ ما شاء سبحانه وتعالى، وعلى هذا، فالدين هو الذي يحكم كونه يملك الشرعية من الله تعالى.
الجانب الغيبي في الإسلام ينفتح على الله، والجانب الإنساني ينظّم علاقة الإنسان بالإنسان.
في وجه التحدّيات
تقولون في أحد أبحاثكم: "لعلَّ الدور الأساس الذي يجب أن يعيشه كلُّ مسلم في الوقت الحاضر، هو العمل على توفير كلّ الظروف الملائمة في تعميق هذه الصحوة الإسلامية وامتدادها بالحياة العامة للمسلمين، بحيث يتحوّل الواقع عندنا إلى ما يشبه حالة الطوارئ" نرجو توضيح معالم هذه الحالة الطوارئيّة؟
ما أقصده هو أنّ الكفر في العالم بدأ يغزو كلّ المواقع الإسلامية وغير الإسلامية، وأنّ الضلال والفسق والفجور مفرداتٌ صارت تتحرّك في بيوتنا من خلال أجهزة التلفزيون والصحافة الصفراء وأجواء الخلاعة في أماكن اللهو والعبث والانحراف. إنّ هناك حملة أخلاقية سلبية تعمل من أجل إسقاط الواقع الإسلامي في ثقافته وأخلاقه وإنسانه، ولذلك فإنّ على كلّ مسلم ومسلمة أن يجعل من نفسه جندياً يواجه كلّ هذه المخطّطات من خلال الدعوة إلى الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن يعمل من أجل تهيئة الظروف الموضوعية لاتساع الساحة الإسلاميّة، وأن يتحرّك في ذلك كما تحرّك رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم).
لا بدَّ لكلِّ شاب وشابة، لكلّ رجل وامرأة من أن يعتبر الإسلام في ثقافته وعقيدته وشريعته وأخلاقه وقيمه، همَّه الكبير، كما هو همُّه في معيشته وتجارته، كما هو همُّه في بيته، بحيث إذا رأى نقصاً في الواقع الإسلامي بادر إلى إكماله، وإذا رأى ثغرةً في الحياة الإسلامية بادر إلى سدِّها بحيث نتحرّك على أساس أن نستجيب لدعوة الله سبحانه وتعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران : 104] أن نكون الدّعاة إلى الله، الأدلّاء على سبيله، العاملين في خطِّه ونهجه، المجتمعين حول قرآنه، وحول سنّة رسوله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، وأن نتحرّك كما لو كنّا في حالة طوارئ بكلّ عقلنا وحركتنا في الواقع حتى تكون كلمة الله هي العليا وكلمة الشيطان هي السفلى.
على كلّ مسلم ومسلمة أن يجعل من نفسه جندياً يواجه كلّ هذه المخطّطات من خلال الدعوة إلى الله.
نقد وردّ
يقول نصر حامد أبو زيد في كتابه (مفهوم النص)(1): يذهب البعض ـــ ويقصد الإسلاميين ـــ إلى أنّ خلاصنا الحقيقي يتمثّل في العودة إلى الإسلام بتطبيق أحكامه وتحكيمه في حياتنا كلّها الاقتصادية والاجتماعية والسياسيّة انتهاءً إلى أصغر التفاصيل في حياة الفرد والجماعة، وأصحاب هذا الاتجاه ـــ كما يقول أبو زيد ـــ لا يكادون يقدِّمون لنا مفاهيم كليّة أو تصوّرات في التغيير الاقتصادي والاجتماعي والسياسي. ما ردُّ سماحتكم على ذلك؟
إنّنا نتصوّر أنّ هذا الرجل لم يواكب حركة التجارب الثقافية الفكرية الإسلامية في المسألة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في أبحاث الإسلاميين، لأنَّ الإسلاميين استطاعوا أن يقدِّموا تجارب كثيرةً في المسألة الاقتصادية في الخطوط العامة للاقتصاد الإسلامي مقارنةً بالخطوط الرأسمالية والاشتراكية، واستطاعوا أن يقدِّموا بعض التجارب الفكرية من جهة، وأن يحرِّكوا بعض التجارب الواقعية من جهةٍ أخرى، كما في الجمهورية الإسلامية في إيران، وأن ينطلقوا ببعض التجارب السياسيّة كما في لبنان وغيره، ولكنّ هذا الرجل لم يطّلع اطّلاعاً واسعاً على ذلك، وربّما اطّلع على بعض التجارب التي لم تشبع تفكيره ولم تُرضِ طموحاته. هذا من جانب. ومن جانبٍ آخر فإنّ هناك الكثير من القضايا التي تتّصل بواقع التغيير الاجتماعي والسياسي والاقتصادي لا بدّ لها من الحركة في الواقع الخارجي، أي أنّ هناك خطوطاً عامّة تُرسم، أمّا حركة هذه الخطوط في الواقع، فإنّها تحتاج إلى قوّة واقعية للسيطرة على مفردة الواقع، والإسلاميون لم يستطيعوا إلى اليوم استلام الساحات الواقعية الواسعة ما عدا إيران التي تتحرّك الآن في تجربة الحكم الإسلاميّ، وتغيير الواقع السياسيّ والاجتماعي والاقتصاديّ في ظلّ حرب عالمية إعلامية وسياسيّة تُشَنّ ضدّها في محاولة لإرباك الكثير من خطواتها، وهذا ما نجده أيضاً في السودان.
إنّ هناك فرقاً بين النظرية والتطبيق، وللإسلام نظرية في مسألة التغيير، ولكنّ حركة النظرية في التطبيق تحتاج إلى ظروف واقعية تمكِّن الإسلاميين من تحويل الخطّ النظريّ إلى خطٍّ واقعيّ، ومن الطبيعي أنّ هذا يحتاج إلى حالة من الهدوء يعمل الاستكبار والكفر العالميان على أن لا يسمحا بها خشية من أن ينجح الإسلام في إعطاء تجربته الرائدة للإنسان، ليقول له، هذه تجربتي على مستوى الواقع بعد أن قدّمتها على مستوى النظريّة.
حركة النظريّة في التطبيق تحتاج إلى ظروف واقعيّة تمكّن الإسلاميين من تحويل الخطّ النظري إلى خطٍّ واقعي.
في محاولة لتبديل صورة الظالمين
تَرِدُ على لسان بعض مَنْ هم في مواقع دينيّة تعابير تُثني وتمدح مَنْ تلطّخت أيديهم بدماء المسلمين الرساليّين، وهذه التعابير قد تبدّل صورة هؤلاء الظالمين، فيصبحون في نظر البعض أمناء على قضايا الأُمّة.. هل ترون في مواقف هؤلاء ما يبدّل حقيقة وواقع الظالمين، وما هي القاعدة الشرعية التي ينطلقون منها؟
ليست هذه الأساليب جديدة في تاريخنا الإسلامي، فنحن نقرأ في هذا التاريخ، أنّ الكثيرين ممّن يملكون بعض المواقع المتقدّمة على المستوى الديني أو غير الديني، يجدون من مهمّتهم أن يتصالحوا مع الأنظمة، ويدعون الناس للتصالح مع هذه الأنظمة، ويرفضون المواقف المعارضة لها. إنَّ هؤلاء يرجمون المظلومين الذين يطالبون بحقوقهم واستعادة كرامتهم، ويحملون على الإسلاميين المجاهدين الذين يطالبون للأُمّة بحقوقها، والذين يعملون على استعادة الإسلام ليحكم الواقع، كي لا يعيش المسلمون الازدواجيّة بين ما هو الإسلام في خطِّ الشريعة، وبين ما هو القانون في خطّ العلمانية.
إنّ مشكلة مَنْ هم في هذه المواقع أنّهم ينظرون إلى الإسلاميين نظرة سوداء، فيتحدّثون عن تطرّفهم وتعصّبهم، ليرجموهم بالحجارة، لأنّهم خرجوا عن إرادة السلطة، وابتعدوا عن طاعة الحاكم. وإذا كان هؤلاء يتحدّثون بأنّ علينا أن ننصح الحاكم وألّا نثور عليه، فإنّهم يعرفون جيّداً أنّ الحكّام يملكون آذاناً صمّاء لا يسمعون فيها أيّة نصيحة.. فأيُّ معنىً لأن نبرّر للحاكم ظلمه، أو أن نقف موقفاً سلبياً ضدّ كلّ هذه الدماء التي سالت أنهاراً من الذين {قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت : 30].
أنا لا أفهم ما هو الفرق بين المنطق الذي يقول للإسلاميين إنزلوا على حكم الأنظمة ولا تثوروا ضدّها، لأنّهم لا يريدون بكم إلاّ خيراً، وبين المنطق الذي قال للحسين (عليه السلام): إنزل على حكم بني عمِّك، فإنّهم لا يريدون بك إلاّ خيراً. وهؤلاء قد لا يقبلون قول الحسين (عليه السلام) الآن: "لا والله لا أعطيكم بيدي إعطاءَ الذليل ولا أقرُّ إقرار العبيد"(1) فالمطلوب برأي هؤلاء أن نعطي بأيدينا إعطاء الذليل، ونقرّ إقرار العبيد، لتبقى الأنظمة وأصدقاء الأنظمة محافظين على امتيازاتهم ومكاسبهم.
أنا لا أفهم ما هو الفرق بين المنطق الذي يقول للإسلاميين انزلوا على حكم الأنظمة ولا تثوروا ضدّها، وبين المنطق الذي قال للحسين (عليه السلام) انزل على حكم بني عمِّك، فإنّهم لا يريدون بك إلاّ خيراً.
يقلّدون ولا يُبدعون
في محاولة للنيل من الإسلاميّين يقول أحدُ الكتّاب: "يعتقد أصحاب الفكر المثالي والقوّة الظلامية (يقصد القوّة الإسلامية) بأنَّهم قاب قوسين أو أدنى من إحكام السيطرة على العالم معتبرين بأنّه لا خيار للنجاة وتحقيق العدل إلاّ بالعقيدة الإسلامية التي تُجيب عن كلّ الأسئلة، ولديها الأجوبة الجاهزة من دون تعب أو عناء عبر ما سقط علينا من السماء وما جاء. هكذا وبكلِّ بساطة يتوهّم أصحاب الدعوة الطالعة من اليأس والتخلّف الفكري في مجتمع تبعيّ متخلّف أنّهم سينتصرون" ما ردُّكم على ذلك؟
مشكلة بعض الكتّاب أنّهم لا يقرأون الفكر الإسلامي في قواعده الثقافية وحركته الفكرية والعمليّة، ولذلك يعتبرون أنّ هذا الفكر فكر مثالي، وليس واقعياً، بل هو فكرٌ معلّقٌ في الهواء لا يمكن أن يطبّق في الواقع، ويعتبرون أنّ العقيدة الإسلامية عقيدة وُلدت في الماضي، والماضي انتهى بكلِّ ما فيه فلا يصلح للحاضر، ويرون أنَّ الإسلاميّين يعيشون أحلاماً خيالية، كما هو فكرهم الخيالي، فيُخيَّل إليهم أنّهم سينتصرون بالعقيدة من دون أيّة وسائل واقعيّة. هكذا يختصر الكاتب رأيه حيث يشتم أكثر ممّا يفكِّر، لأنّه يعتبر القوى الإسلامية، قوى ظلامية تمثِّل اليأس والتخلّف.
ومع ذلك، نقول: إنَّ الإسلام دينٌ يعتقد أتباعه بأنّه نزل من السماء، وهو أعطى الخطوط العامة للإنسان، ولذا لم يتجمّد المسلمون داخل النص، وإنّما فهموا النصّ النازل من السماء فهماً متحرِّكاً منفتحاً على كلّ قضايا الواقع الحضاري، فاستطاعوا أن يصنعوا حضارة، ويتفاعلوا مع الحضارات الأخرى بما لا يتنافى مع أصالتهم الفكريّة، لأنّ التفكير الإسلامي ليس تفكيراً مثالياً، بل هو تفكيرٌ واقعيٌّ، لم يخطّط للإنسان أن يعيش في الفضاء، فحرّك عنوان العدل، وقضية العدل، قضية الإنسان في كلّ زمانٍ ومكان، وحرَّك مسألة الإحسان الذي يمثّل حالة التفاعل الإنساني في علاقة الناس مع بعضهم البعض، وشرّع للناس التشريعات التي تنظّم لهم حياتهم الخاصة والعامة. ونحن نعرف أنَّ الفقه الإسلامي الذي استنبط الفقهاء أحكامه من القرآن والسُنّة يمثّل أعظم ثروة حضارية قانونية باعتراف رجال القانون الغربيّين الذين يرون في الفقه الإسلامي قيمة حضارية قانونية مميّزة، لأنّها وضعت القواعد الكثيرة للمعاملات وللعلاقات الإنسانية في قضايا السلم والحرب والمجتمع والدولة والحياة.
وأمّا مسألة أنّ المجتمع الإسلامي مجتمع تبعي، فإنّنا نقول: بأنَّ المجتمع الإسلامي يملك الأصالة لا التبعيّة، لأنّه مجتمع يعيش التوحيد المنفتح على الله سبحانه وتعالى، ويُنكر خضوع الإنسان لأيِّ إنسان آخر، وقد استطاع هذا المجتمع أن يسيطر على قسم كبير من العالم بالعقيدة من خلال الوسائل الطبيعية، واستطاع معالجة مشاكل الإنسان في الماضي وهو قادرٌ على معالجتها في الحاضر. أمّا مسألة أنّه مجتمع متخلّف فإنّنا نحبّ أن نسأل الكاتب ما هي عناصر التخلّف في مفهومه، لأنّنا لا نعتبر التقدّم في التأكيد على حيوانيّة الغريزة، بل على إنسانية الإنسان في حركة أصالته في معنى الحريّة وحقوقه في معنى العدالة وعقله المفكّر في معنى التفكير الحرّ المنفتح على حقائق الحياة، وقلبه النابض في معنى الحبّ لله وللناس وللحياة، وتوازن حركته في البعد الروحي والمادي وفي الجانب الفردي والاجتماعي.. وهذا كلّه هو ما يؤكّد عليه الإسلام في مجتمعه، فهل هذا هو التخلّف؟ إذاً أين يكون التقدّم يا حضرة الكاتب؟
إنَّ مشكلة بعض الكتّاب المستغربين أنّهم لا يقرأون الإسلام بشكلٍ مفصّل واعٍ، وهذه على الدوام مشكلة الذين يقلّدون ولا يُبدعون.
هل من تنازلات؟
حول التعايش مع الباطل، تطرحون مقولتكم: "نتعايش مع الباطل ولا نعترف بشرعيّته" ربّما يفرض هذا التعايش بعض التنازلات، ما ردُ سماحتكم؟
إنّنا أطلقنا هذا القول في مقابل ما طرحه البعض في إعطائهم للباطل شرعية، محاولين أن ينظِّروا له ويدعو إليه. ولهذا، قلنا: إنّنا قد نعيش في مجتمع يحكمه الباطل الذي يملك القوّة والإمكانات، ومضطرّون أن نعيش فيه، ولا نستطيع أن ننعزل عنه، فنحن نتعايش معه، كما يتعايش المؤمن مع الكافر، ولكنّنا لا نعطيه الشرعيّة، تماماً كما يتعايش الإنسان مع المرض الذي لا يستطيع التخلّص منه، كمرض السّكري مثلاً، فالإنسان يتعايش مع هذا المرض، ولكن لا يقول عنه بأنّه عافية، كذلك نحن نتعايش مع الباطل، ولكنّنا لا نقول، إنّ الباطل حقٌّ، فالحكم الظالم لا نقول عنه بأنّه عادل. وفيما يختصُّ بتقديم التنازلات، فتارةً تُفرض علينا بحيث أنّ الباطل قد يستعمل قوّته في سبيل فرض بعض الأوضاع التي لا نملك على مستوى المرحلة الخلاصَ أو التحرّر منها، كما في الآية المباركة {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة : 173]، أمّا إذا لم يكن هناك اضطرار فلا نقدّمها، وأمّا إذا كانت هذه التنازلات، التي هي ليست من عمق العقيدة أو الشريعة، وكانت المصلحة الإسلامية العليا تفرض ذلك، بحيث إذا تنازلنا، فإنّنا نحقّق مصالح كبرى للإسلام والمسلمين، فلا مشكلة في ذلك، وعلى كلِّ حال، نحن لا نقدّم التنازلات الاستراتيجيّة أو غيرها إذا استطعنا عدم تقديمها.
نتعايش مع الباطل، ولكنّنا لا نعطيه الشرعية، تماماً كما يتعايش الإنسان مع المرض الذي لا يستطيع التخلّص منه.
المشاركة والاعتراف
كيف تنظرون إلى المشاركة النيابية والسياسية مع الحكم الجائر؟
عندما نعيش في أيّ بلد، فنحن جزءٌ منه، فلنا قضايانا التي نشترك فيها مع الآخرين، أو نتميّز فيها، ولنا أفكارنا في سياسة البلد، لذلك، كتبت ومنذ أكثر من خمس عشر سنة(1) وفي بعض المداخلات الفكرية أنّ هناك فرقاً بين أن تعترف بالنظام الجائر وتقول إنّه عادل، وبين أن تعمل على أن تحقّق بعض العدالة في موقعك في المجلس النيابي أو الوزارة، أو موقعك في أيّ جانب، مع اعترافك برأيك، فيما هو النظام الشرعي، وأعتقد أنّ هذا موجود في كلّ أنظمة العالم، فهناك الكثيرون ممّن يملكون خطّاً فكرياً مختلفاً عن الخطّ الفكري لدولتهم يشاركون في هذه المعارضة أو ذاك الحكم، أنا لا أعتبر المشاركة اعترافاً بالنظام، ولكنّها مشاركة للناس في قضاياهم الحيوية.
هناك الكثيرون ممّن يملكون خطّاً فكرياً مختلفاً عن الخطّ الفكري لدولتهم يشاركون في هذه المعارضة أو ذاك الحكم.
السياسة والأخلاق والبُعد عن التجريد
يطرح البعض إشكالية أمام الحركة الإسلامية في لبنان فيما هي أساليبها المعتمدة في الجانب الأخلاقي، وفيما هو تكيُّفها مع الّلعبة السياسية اللبنانية، كيف تقيمون هذه المسألة؟
من الطبيعي أنّه لا بدّ للحركة الإسلامية أن تنطلق من قاعدة الأخلاق في الإسلام، لأنّها حركة تقوى في سلوك الإنسان مع نفسه ومع ربِّه ومع الناس، على أساس القِيَم التي أراد الله للناس أن يأخذوا بها في الخطوط الروحية والأخلاقية في حياة الفرد والجماعة على حدٍّ سواء. فالأخلاق في الإسلام ليست أخلاقاً مثالية مجرّدة معلّقة في الهواء، بل هي أخلاق واقعية. لذلك قد يكون مسموحاً لك أن تنفتح على الذين يختلفون معك في الدين أو الرأي انطلاقاً من القواسم المشتركة التي تمثِّ الكلمة السواء، ومن هنا، فإنّني أعتقد أنّ الإسلاميين عندما يتحالفون مع جهة، أو يختلفون مع جهةٍ أخرى، لا يبتعدون عن المسألة الأخلاقية. وقد تكون هناك بعض الخطوط الأخلاقية الواقعية التي تبرز في عالم تزاحم الأهم والمهم، التي قد تفرض الظروف وجودها. لكنّني أحبّ لكلِّ إخواني من الإسلاميين، من الرجال والنساء، من المسؤولين الكبار والصغار، أن يعيشوا الأخلاق الإسلامية في تعاملهم مع بعضهم، وأن يقفوا عند حدود الله، وألّا تقسو قلوبهم على بعضهم، وألّا يكون اختلافنا في الرأي مبرّراً لنا لاضطهاد من يختلف معنا، أو للتضييق عليه، فنبيح لأنفسنا التحدّث عنه بالكلام غير المسؤول {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً} [الحجرات : 12] وهكذا نأخذ من أخلاق الله في علاقاتنا مع بعضنا التي يجب أن ترتكز على تقوى الله، وأن نأخذ من أخلاق رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب : 21].
أحبّ لكلِّ إخواني من الإسلاميين أن يعيشوا الأخلاق الإسلامية، في تعاملهم مع بعضهم، وأن يقفوا عند حدود الله، وألاَّ تقسو قلوبهم على بعضهم.
انفتاح الحركة الإسلامية في لبنان
كيف تقارنون بين الحركات الإسلامية في العالم، والحركة الإسلامية اللبنانية، وما مدى تأثير الاحتلال الإسرائيلي على نموّ هذه الحركة؟
تتميَّز الحركة الإسلامية اللبنانية بانفتاح قد لا نجدخ عند الكثيرة من الحركات الإسلامية في العالم، وإن كنّا نجد في بعض الخطوط الفكرية لبعض الحركات الإسلامية في العالم شيئاً من هذا الانفتاح. وقد استفادت الحركة الإسلامية اللبنانية من واقع الحرية الموجودة في لنبان، إن من جهة الحرية السياسية أو الثقافية أو الحرية في مواجهة العدوّ الصهيوني، وذلك بفعل الظروف المحيطة بلبنان والتي لا يملكها أيُّ بلد آخر في العالم. ومن هنا لم تُصَب الحركة الإسلامية في لبنان بما أصيبت به الحركات الإسلامية الأخرى من الصراع في الداخل، ومن المشاكل الموجودة بينها وبين الأظمة.
ولا شكّ بأنّ المقاومة دورها الكبير في نمو الحركة الإسلامية في لبنان، وفي بقائها وقوّتها في الواقع السياسي.
تتميَّز الحركة الإسلامية اللبنانية بانفتاح قد لا نجده عند الكثير من الحركات الإسلاميّة في العالم.
الاختلاف والمخاطر
تقولون في كتابكم (تأمّلات في الفكر السياسي الإسلامي)(1): "وهكذا انفصل المسلمون عن بعضهم، ليكفِّر بعضهم بعضاً، وليلعن هذا الفريق ذاك الفريق باسم الإسلام، وتحوّل الحوار بينهم إلى جَدَل عقيم يستهدف تسجيل النقاط لا الوصول إلى الحقيقة".. هل ترون أنَّ ذلك يعود في أسبابه إلى عدم فهمهم للإسلام، أم للعُقَد الذاتية والثأرية، أم لأسباب أخرى؟
لعلَّ مشكلة الإسلام في حركة المسلمين أنّهم عاشوا الكثير من التعقيدات والخلافات الصعبة قبل أن يستقرّ الإسلام ويتركّز وتتعمّق مفاهيمه في نفوس المسلمين، فرسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وقد كان يقوم في الناس ليلاً ونهاراً ليبلّغهم رسالة الله ويتلو عليهم آياته، وليعلّمهم الكتاب والحكمة، وكان (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) يتابع رسالته في حالة الحرب والسلم، فإذا انطلقت هناك حربٌ أنزل الله آياته ليبيِّن للمسلمين نقاط الضعف ونقاط القوّة في سلوكهم في هذه الحرب أو تلك، وليبيِّن لهم أيضاً ألطاف الله سبحانه بما يفيض عليهم من النّصر ومن كثير من الإيجابيات، ولكنَّ ذلك لم يكن كافياً لتعميق الإسلام في فكره ومفاهيمه وقضاياه في نفوس البعض من المسلمين. وكانت حياة النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) في مكّة قبل الهجرة حياة اضطهادٍ وتشريد، وتحمّل (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ومعه المسلمون الأوائل وفي مقدّمهم أمير المؤمنين عليٌّ (عليه السلام) الكثير من الضغط والمصاعب.. وبعد الهجرة انشغل (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) في حروب الدفاع عن الإسلام في المدينة، وسقط فيها شهداء كثيرون من الصحابة، وانتقل رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) إلى جوار ربِّه، فظهرت نقاط ضعف كثيرة، أبرزها مسألة الخلافة وإبلعاد أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) عن موقعه، حيث كان (عليه السلام) يمثّل رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) في عقله وقلبه وروحه وتقواه.. وقيمة عليٌّ (عليه السلام) أنَّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) أعدَّه إعداداً قيادياً ليستلم مسؤولية الأُمّة من بعده، وأفاض الله عليه من لطفه بحيث يملك أن يقود المسيرة الإسلامية على المحجّة البيضاء من دون أيِّ خطأ، وكان (عليه السلام) يقول: "علَّمني رسولُ الله ألفَ باب من العلم يُفتح لي من كلِّ باب ألفُ باب"(2) وعلى هذا، فإنّه (عليه السلام) كان يعرف كلّ آية من القرآن فيمن نزلت ومتى نزلت وأين نزلت.. ولذلك، فإنَّ ابتعاد عليٍّ (عليه السلام) عن الحقّ في موقع القيادة، جعل المسيرة الإسلامية تتّجه اتجاهاً آخر، وتحوّلت الخلافة إلى مُلْكٍ عضوض على يد معاوية، حيث بدأ الواقع الإسلامي يعيش لوناً من ألوان التخلّف، وبدأت الحروب بين المسلمين والخلافات الداخلية والمشاكل الفكريّة بحيث انفصمت عرى الوحدة الإسلاميّة، فأصبح هذا المسلم يكفِّر ذاك المسلم، وبدأت التراكمات التاريخية تفرض نفسها على الواقع. وفي العصر الحديث تدخّلت الدول الاستكباريّة بأجهزة مخابراتها الثقافية والأمنية والسياسيّة لتفرض نفسها على الواقع الإسلامي لتزيد في تخلّفه ولتوظِّف الكثيرين ممّن يتلبّسون لباس الإسلام أو يحكمون باسم الإسلام ليحرسوا الفُرْقَةَ بين المسلمين وليتعسّفوا في تفسيق المسلمين ولعنهم وتكفيرهم.. إضافة إلى ذلك، وجود الذهنية الضيّقة والمتخلّفة عند بعض المسلمين، والصراع على النفوذ والسلطة في بلاد المسلمين.
وإنّنا لو درسنا مسألة تكفير المسلمين لبعضهم، فإنَّها بدأت منذ تمرّج الخوارج على عليٍّ (عليه السلام) و"تكفيره"، وقد غذّاها معاوية وبنو أُميّة من بعده، وهذا ما لم يكن موجوداً قبل ذلك، مع أنَّ مسألة الخلافة كانت تمثّل الواقع الفاصل بين المسلمين.
لذلك، نحن نعتبر أنَّ المشكلة في الواقع الإسلامي، كانت مشكلة ثقافية وسلطوية أوجدها الذين أرادوا أن يحرفوا الإسلام عن خطِّه، وتحوّلت إلى مشكلة استكبارية، يعمل الاستكبار على منع الوحدة بين المسلمين، هذه الوحدة التي لا تعني أن يتنازل هذا الفريق من المسلمين لذاك الفريق، ولكنّها تعني أن يلتقوا على ما اتّفقوا عليه، وأن يحاور بعضهم بعضاً فيما اختلفوا فيه..
وهذا ما يدفعنا بإصرار لأن نعمل من أجل الوحدة الإسلامية الواقعية الموضوعية في القضايا الثقافية والسياسيّة والأمنية، وإذا كان الله تعالى يأمر نبيّه (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) بأن يقول لأهل الكتاب {تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء} [آل عمران : 64]، فكيف لا ندعو أهلَ القرآن إلى كلمةٍ سواء؟
نحن نعتبر أنَّ المشكلة في الواقع الإسلامي، كانت مشكلةً ثقافية وسلطوية أوجدها الذين أرادوا أن يحرفوا الإسلام عن خطّه.
التدرّج في الوصول إلى الأهداف
تقولون في كتابكم (خطوات على طريق الإسلام): "من المفيد لنا ونحن نستعرض خطوات الداعية التي يجب أن نخطوها في طريق العمل، أن نستفيد من تدرّج الدعوة الإسلاميّة في التبليغ، لنجعل منها قاعدة للعمل، كيف لنا أن نفهم هذه النظريّة؟
عندما نواجه الحياة، فإنّنا نعرف أنّها تمثّل عدّة أبعاد ومراحل، وإنّنا لا نستطيع أن نجمع أبعاد الحياة في بُعد واحد، أو أن نجمع مراحلها في مرحلة واحدة، لأنّه لا بدّ من التدرّج، والله سبحانه أجرى حركة الإنسان في وجوده على أساس التدرّج، نطفةً ثمّ علقة ثم مُضغة ثمّ عظاماً {فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ} [المؤمنون : 14] ثمّ تأتي بعد ذلك مرحلة الطفولة والشباب والشيخوخة والكهولة، فالإنسان في حركة وجوده يقطع عدّة مراحل، وحتى في مسؤوليّاته، لأنّه من الصعب أن يجمع المسؤوليات دفعة واحدة. وهكذا نرى التدرّج في الدعوة، فالقرآن نزل تدريجياً، وقد حدّثنا الله عن المشركين أنّهم اعترضوا على ذلك {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} [الفرقان : 32] فتدرّج النزول كان بحسب الحاجات المتدرّجة، ومن هنا نلاحظ ذلك في تشريعات الإسلام، ففي البداية كان يقول لهم رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): قولوا لا إله إلاّ الله محمّد رسول الله، ثمّ كانت تشريعات الصلاة والزكاة وما إلى ذلك حتى اسْتُكمل نزول الإسلام على مدى ثلاثة وعشرين عاماً، ونزلت الآية الكريمة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً} [المائدة : 3].
ونحن عندما ندعو إلى الله تعالى، فإنّنا نتلمَّس خطوات رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) في ذلك، فندعو الواحد من الناس إلى أن يصبح مسلماً، ثمّ نعطيه جرعات محدّدة من مفاهيم الإسلام حتى يقوى إسلامه ويلتزم بكلّ عقائده ومفاهيمه. وهكذا إذا أردنا أن نصل إلى أهدافنا العملية في الحياة في تغيير الواقع، فنحن لا نستطيع أن نغيّر الواقع دفعة واحدة، بل إنّ ذلك خاضعٌ للتدرّج كي يتأقلم الناس مع الخطّ الإسلامي في البداية، ثمّ تأتي المرحلة الثانية والثالثة ليعيشوا جوّ الإسلام ويؤمنوا به. ولعلّ التدرُّج في الدعوة، وفي الوصول إلى الأهداف، هو الطريق الأسلم الذي نخفّف فيه من المشاكل والصعاب التي تعترض طريق الدّعاة، مع التخطيط الواعي لمتابعة كلّ مرحلة وتجنيد العناصر التي تتحرّك فيها، لنصل إلى ما نصبو ونهدف إليه.
التدرُّج في الدعوة وفي الوصول إلى الأهداف، هو الطريق الأسلم الذي نخفّف فيه من المشاكل والمصاعب التي تعترض طريق الدُّعاة.
المعين الحضاري
في محاضرة ألقاها في لندن يقول الأمير تشارلز ولي عهد بريطانيا: "إنّ الحضارة الإسلامية في حقيقتها لها رسالةٌ هامّة تقدّمها للغرب، وذلك بنظرتها المتكاملة والمتّحدة لقدسيّة العالم" داعياً "إلى احترام التقاليد الإسلامية وإلى إعادة النظر والتفكير في تحكّمنا المادي بالإنسان والبيئة" مشيراً إلى "حاجة الغرب لرؤية عالمنا المعاصر رؤية روحية ودينية.. وإلى قصور العالم في إطاره العصري والمادي من تفسير كلِّ شيء. فالخالق هو أكبر الخبراء في الرياضيات وغيرها من العلوم" ما تعليقكم على ذلك وخصوصاً دعوته الغرب للأخذ من المعين الحضاري والروحي للإسلام، في الوقت الذي يبتعد فيه المسلمون عن ذلك؟
يريد أن يقول، إنّ الحضارة الإسلامية تحمل في داخلها إلى جانب البُعد المادي، البعد الروحي الذي يمنحها نوعاً من أنواع القداسة لارتباطها بالمقدّس من خلال ارتباطها بالله سبحانه، وبالمعنى الروحي الذي يُوحي به الإيمان بالله، مع دعوته إلى احترام عبادات المسلمين من صوم وصلاة والتزام بالحجاب، وما إلى ذلك، وهو عندما يدعو إلى إعادة النظر والتفكير بالتحكّم المادي بالإنسان والبيئة، فلأنّ الإنسان الغربي أصبح يعيش وثنيّة المادة، فسمّم الهواء بكلِّ دخان المصانع، وسمَّم البحار والصحارى بكلِّ ما دفنه في داخلها من نفايات نووية، وهو بذلك يعمل على تدمير الحياة.
ونحن نلاحظ أنّ الغرب وتحت وطأة ثقل المادة، أصبح يعيش نوعاً من أناع الرِّدة للروح، وذلك من خلال الذين يفدون إلى الغرب من الهند وغيرها، فيقدِّمون بعض "الصرعات" والألاعيب التي يعطونها عنواناً أو بُعداً روحياً، فنرى الغربيّين يُقبلون على ذلك بكلّ ما عندهم من قوّة، إضافة إلى ذلك نرى كبار الناجحين في الغرب يذهبون إلى الهند وإلى مناطق التيبت في الصين ليعيشوا شيئاً من الروح، وإن كان روحاً مزيّفاً وغير متوازن، وذلك ليشعروا بالرِّي بدل هذا الظمأ المحرق الذي فقدوا فيه السكينة والطمأنينة، وعاشوا فيه القلق والضياع بالرغم من كل ما تعطيه المادة من قوّة.
والمسلمون ـــ مع الأسف ـــ عندما عاشوا الانبهار بالحضارة الغربية من الخارج، وقارنوا بينها وبين ضعفهم العلمي، خُيِّل إليهم أنّ الروحانية التي عاشت في تاريخهم وتراثهم هي المسؤولة عن هذا التخلّف الذي يعيشون فيه، وما عرفوا أنّهم هم المسؤولون عن هذا التخلّف لأنّهم لم ينفتحوا على الروح من موقعها المتوازن، ولم يدركوا أنّ الإسلام يريد للإنسان أن يعيش في الحياة ليكون خليفة الله في الأرض، ليعطي الحياة شيئاً من طاقته المادية وطاقته الحيوية حتى تتوازن وتُبعد عن واقعها حالة التخلّف.
إنّنا نخشى أن نتراجع عن هذا الطريق أكثر، لنصل إلى ما وصل إليه الغرب من بؤس نضيفه إلى كثير من بؤس الجهل والتخلّف.
إنّنا نتصوّر أنّ الإنسان عندما يدرس عمق الحضارة الغربية بعقله وبصيرته وإنسانيّته، فإنّه سوف يكتشف داخل هذه الحضارة بؤساً إنسانياً رغم كلّ هذا التفوّق المادي والتكنولوجي. فالإنسان الغربي الذي استطاع أن يحصل على أعلى ما وصل إليه الإنسان من اكتشاف أسرار الطبيعة والكون بما يُسِّرَ له من ذلك، عندما يرجع إلى نفسه فإنّه يجدها خالية من الروح، وليس لها أيُّ قُرب من الله، حيث لا يجد ينبوعاً صافياً من الروح يتكامل مع ما وصل إليه من العلم والمعرفة، لأنّ العلم إذا لم ينفتح على الروح، فإنّه سيبقى جامداً جمود المادة.
عندما ندرس الحضارة الغربية سوف نكتشف بؤساً إنسانياً رغم كلّ هذا التفوّق المادي والتكنولوجي.
الإنتاج الحضاري
نجد بأنَّ الغرب قد سيطر على كلِّ الواقع السياسيّ والاقتصادي والإعلامي في العالم.. وما زلنا نحن نعيش ذهنية الانغلاق على الذات، ألَا ترون بأنّ هذه الذهنية تساهم في استعبادنا أكثر وتخلّفنا أكثر، من دون أن نُنتج شيئاً على مستوى الفعل الحضاري؟
نحن نقول بأنّ الإسلام هو دين الانفتاح، لأنّه هو الدين الذي أطلق الحوار مع كلّ الناس، وأراد لأتباعه أن يحاوروا العالم جميعاً في القضايا العقيدية والقانونية والسياسية والاقتصادية.. فالإسلام هو دين الحوار والجدال بالتي هي أحسن، والدفع بالتي هي أحسن، والكلمة السّواء.. ومن هنا، فإنّ الإنسان المسلم من خلال تركيبته الثقافية والروحية الإسلامية، لا يملك أن ينغلق على ذاته، فالله تعالى حمّلنا مسؤولية دعوة الناس إلى الإسلام، ومحاولة جعل الإسلام دين العالم ودين الحياة، ولن يتحقّق ذلك، إلاّ إذا انفتحنا على الشعوب كلّها، من خلال ما تفكّر فيه وما تعيشه، ومن خلال ما تتحرّك فيه وما تتّخذه من مواقف سلبية أو إيجابية، ومن خلال ما توجّهه من تحدّيات للإسلام والمسلمين في البُعد الفكري والعملي والسياسيّ، حتى نستطيع أن نحرّك الفعل الحضاري في حركتنا نحو العالم ليجد العالم فينا المعاني الإسلامية الحضاريّة التي تضيء له الطريق، وليرى في عقولنا وقلوبنا نوراً، وفي حركتنا في كلِّ الدروب نوراً يدفعه لأن ينفتح علينا، ليكون الإسلام هو المنتصر في النهاية.
علينا أن ننفتح على الشعوب كلّها حتى نستطيع أن نحرّك الفعل الحضاريّ في حركتنا نحو العالم ليجد العالم فينا المعاني الإسلامية الحضارية التي تضيء له الطريق.
نجاح التجربة
في كتابكم (الحركة الإسلامية: همومٌ وقضايا) تقولون: "إنّ المسألة التي تحكم الحركة السياسيّة للإسلاميين، هي إيمانهم بأنَّ نجاح تجربة إسلامية يعني إمكانات نجاحها في موقع آخر" لقد تأخّرت النجاحات بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران.. ما زلتم تراهنون على الزمن والظروف، أم ماذا؟
الواقع أنّ هناك قاعدة فلسفية تقول: إنّ حكم الأمثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد، فالأمور المتماثلة إذا كان بعضها ممكناً، فإنّ بعضها الآخر ممكن، وإذا كان بعضها مستحيلاً، تكون هي مستحيلة. فنجاح تجربة المقاومة الإسلامية في لبنان، تفرض نجاح المقاومة في فلسطين، أو في أيِّ مكان آخر، لأنّ الظروف الموجودة هنا إذا تحقّقت في مكان آخر، فمن الطبيعي أن تتحقّق لنتائج نفسها.. فالمقاومة في لبنان انطلقت من ظروف موضوعيّة تتعلّق بالأشخاص والواقع السياسيّ المحليّ والإقليميّ والدوليّ، وهذه الظروف إذا تحقّقت في أيّ مكانٍ آخر، معنى ذلك، أنّها يمكن أن تُنتج مقاومة في هذا المكان الآخر.
وهكذا في نجاح التجربة الإسلاميّة في إيران، فإنّنا عندما ندرسها بحجم ظروفها، تقتضي أن تنشأ دولةٌ إسلاميّة في مكان آخر.. وهذا هو الذي تحقّق في السودان، مع ملاحظة الفوارق بين التجربة الإسلامية في إيران، والتجربة الإسلامية في السودان.
وأمّا بالنسبة لتأخّر نجاحات التجارب الإسلاميّة الأخرى، فإنّ الاستكبار العالمي، انتبه للظروف الموضوعية التي أفسحت المجال لنجاح التجربة الإسلاميّة، حيث عمل على تطويق هذه الظروف والضغط عليها. فأصبحت هذه التجربة بحاجةٍ إلى ظروف أخرى أقوى وأشمل، لأنّ المستكبرين عملوا على احتواء الظروف الأولى، فوضعوا الحواجز والمصاعب والعراقيل والتعقيدات في وجه أيّة تجربة إسلامية جديدة.
ومن هنا، صار من الضروري أن نلاحق التجربة الجديدة من خلال الواقع الجديد والمتغيّرات الجديدة، لأنّه من الممكن كما قلنا أن تنطلق دولة إسلاميّة عندما تتهيّأ الظروف الموضوعية لقيامها وليس معنى ذلك أن تقوم هذه السنة، فقد نحتاج إلى عشر سنوات أو عشرين سنة أو أكثر.. فاليهود خطَّطوا على مدى خمسين سنة للاستيلاء على فلسطين، فيمكن أن نصبر هذه المدّة أو أقلّ، حتى نستطيع أن نصنع تجربة إسلامية جديدة في أكثر من منطقة.
إنَّ الاستكبار العالمي انتبه للظروف الموضوعية التي أفسحت المجال لنجاح التجربة الإسلاميّة حيث عمل على تطويق هذه الظروف والضغط عليها.
أمام التحدّي
في كلمة لكم تقولون: "إنَّ العالم العربي سيعاني من مشاكل اقتصادية وأمنية لا حدَّ لها إذا تمَّت التسوية، لأنَّ أطماع العدوّ الصهيوني لا حدَّ لها" فكيف ترون معاناته الثقافية والفكريّة والأخلاقية؟
إنّ إسرائيل زُرعت في قلب الوطن العربي، وفي قلب المنطقة الإسلامية، من أجل إعاقة هذه المنطقة عن التقدّم، ومن أجل إثارة الاهتزازات فيها، سواءً الثقافية والأخلاقية والفكريةّ، لأنَّ المطلوب أن تسيطر إسرائيل وبتحالفها الاستراتيجي مع أميركا على كامل المنطقة لتمنعها من التقدّم والنموّ من جهة، ولتمنعها من أن تتحرّك بأصالتها الفكريّة والأخلاقية والثقافية من جهة أخرى، لأنَّ العالم العربي، ومعه العالم الإسلاميّ إذا سار في أخلاقياته وثقافته وفكره، فإنّه سوف يعود إلى تاريخه وشخصيته وهويّته، وإذا عاد إلى ذلك، فإنّه لن يقبل بوجود إسرائيل في المنطقة، ولن يقبل بسيطرة الاستكبار العالمي، وفي مقدّمته الأميركي على المنطقة، وهذا ممّا يُربك الخطط الإسرائيلية والأميركية، التي تعمل اليوم لإيجاد حالة ضياع وتمزّق أخلاقيّ وفكري، تماماً كما فعل الاستعمار الغربي الأوروبي عندما دخل محتلاً العالم العربي والإسلامي، فحوَّله إلى ما يشبه الفوضى في كلّ هذه المجالات.
إنَّ العالم العربي ومعه العالم الإسلامي، إذا سار في أخلاقياته وثقافته وفكره، فإنّه لن يقبل بوجود إسرائيل في المنطقة.
قيادة الحوزات
في كلمة له أثناء افتتاح مؤتمر عن جمال الدين الأفغاني في طهران(1)، حمل رئيس الجمهورية الإسلامية السابق الشيخ رفسنجاني على مَنْ أسماهم "المتعصّبين في الحوزات الدينيّة" وأشاد بمن أسماهم أصحاب "العقول المنفتحة" بمنظّري "التغيير الواقعي". كيف تنظرون إلى هذه الرؤية، وأين هي التحدّيات الحقيقيّة التي تواجه الحوزات الدينيّة وحركة العلماء عموماً؟
إنّني ألتقي مع هذا الطرح الذي يدرس رسالة الحوزات الدينية دراسة واقعية ميدانية رسالية بحجم الرسالة الموكلة إلى هذه الحوزات في الانفتاح على العالم بالإسلام.
إنَّ هناك عقليات لا تزال تعيش قبل مئات السنين في أساليبها وفي نظرتها إلى الأمور من خلال الزوايا المغلقة التي تتحرّك فيها، والأجواء التجريديّة التي تغرق فيها بعيداً عن الواقع. إنَّ هناك الكثيرين من هؤلاء الذين يعيشون خارج نطاق التاريخ، ويفرضون أنفسهم على مواقع الوعي في الأُمّة، وعلى حركة القرار في الأُمّة، فيؤدّي بالأُمّة إلى أن تفقد توازنها وتضيع في متاهات التجريد بعيداً عن حركيّة الواقع، إنَّ مثل هؤلاء لا يصلحون لأن يكونوا في مواقع القرار، لأنَّ القرار، سواءً كان فقهيّاً أو سياسيّاً أو اجتماعياً أو ثقافياً يمثّل حركة الأُمّة نحو المستقبل، ولا يمكن للأُمّة أن تتحرّك نحو المستقبل من خلال كهوف الماضي التي تحمل الكثير من الظلام ومن عناصر التخلّف.
إنّنا نلتقي مع الشيخ رفسنجاني في الانفتاح على أصحاب العقول المنفتحة، هؤلاء الذين عاشوا الإسلام وعياً رسالياً وعمقاً علميّاً ونشاطاً حركياً، وتمكّنوا من أن يدخلوا العصر، لا ليسقطوا تحت تأثير طروحاته غير الإسلاميّة، بل ليواجهوا طروحاته بالعلم والوعي وبالانفتاح، وليدخلوا العصر من الباب الواسع، حتى يدخل الإسلام العصر بكلِّ طروحاته، وحتى يدخل الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، كما لو كان رسول هذا العصر، وكي يدخل القادة التاريخيّون من الأئمّة (عليهم السلام) واقع العصر، كما لو كانوا يحدِّثوننا عن عصرنا، لأنَّ طروحاتهم هي طروحات الحياة.
إنّنا بحاجة لأن نفهم الإسلام فهماً متقدّماً، فلا نُخضع الإسلام لطروحات العصر، بل أن يندفع الإلام بطروحاته ليغيّر العصر على صورته بطريقة عصريّة.
هؤلاء، هم الذين نريدهم أن يقودوا الحوزات، وهم الذين نريدهم أن يكونوا أصحابَ القرار المرجعيّ والفقهي والثقافي والسياسي، لأنّ ذلك هو الذي يمكن أن يفتح للأُمّة طريق المستقبل، ويفتح الطريق للإسلام ليدخل إلى العالم كلّه.
إنّنا بحاجة لأن نفهم الإسلام فهماً متقدّماً، فلا نُخضع الإسلام لطروحات العصر، بل أن يندفع الإسلام بطروحاته ليغيّر العصر على صورته بطريقة عصريّة.
المسلمون داخل العصر أم خارجه؟
يقول الدكتور (محمد سليم العوا)(1): "لكي يعيش المسلمون داخل العصر يجب أن ينشغلوا بقضاياه، وقضايا العصر ليست قضايا فقهية وعقيدية ولا قضايا تاريخيّة، إنَّ الفقه والعقيدة والتاريخ أمورٌ في غاية الأهمية، لكنَّ هذه الأشياء ليست هي مقوّمات الحياة، بل هي من شروط كمالها واستمرارها وجمالها" ما تعليقكم على هذا القول؟
هذا القول غير صحيح، والسبب أنَّ الفقه تماماً كما هو القانون، غاية ما هناك أنَّ الفقه قانونٌ إسلاميّ، وأنَّ القوانين الموجودة الآن هي قوانين مدنيّة، وعلى هذا، هل يمكن القول بأنَّ وجود القانون في أيّ شعب من الشعوب قضية ليست من مقومّات الحياة؟ وهل يمكن أن يكون الواقع واقعاً فوضويّاً لا يحكمه قانون يحدّد للناس حقوقهم وواجباتهم ويعرّفهم كيف يتحرّكون في حياتهم؟ فإذا لم يكن القانون موجوداً، فإنّ الحياة تتحوّل إلى فوضى.
وأمّا الفقه فهو القانون الإلهي الذي يحدّد للناس الخطوط العامة والتفصيلية والأحكام الشرعيّة التي تحكمهم في علاقاتهم الخاصة والعامة وتحدّد لهم طريقتهم فيما يفعلون ويتركون وهكذا، فالعقيدة تمثّل نظرة الإنسان إلى الكون والحياة. وهنك فرقٌ بين أن نتحرّك في الحياة على أساس الاعتقاد بالله وبرسله واليوم الآخر فنبني حياتنا في توجّهاتها وتطلّعاتها من خلال هذا الخطّ، وبين أن نتحرّك في الحياة دون الاعتقاد بالله، وعندها ينطلق الإنسان مع غرائزه وشهواته بعيداً عن كلّ الضوابط التي يشعر فيها بوحدة الكون من خلال وحدانية الله.. وهكذا بالنسبة إلى التاريخ، فنحن لا نريد أن نعيش في التاريخ، ولكنّ اهتمامنا بالتاريخ ينطلق من خلال ما نقرأه فيه من تجارب الأمم السابقة التي قد تتحوّل إلى دروس لنا في المستقبل في كلِّ واقع الحياة والناس.
وعلى هذا، فالعقيدة والفقه والتاريخ هي من المقوّمات الحيويّة لحركة الحياة، لأنّها تعطينا صورة الحياة في عقولنا وقلوبنا وعلاقاتنا ببعضنا، وإذا تحرّكنا في الحياة من دون صورة في العمق وفي الشكل والامتداد، فإنّنا نسير على غير هدى، ومَنْ يَسر على غير هدى فإنَّ طريقه هو الضياع، وإنَّ الذي يعيش في أجواء الضياع لا بدّ أن ينتهي به الأمر إلى الهلاك.
العقيدة والفقه والتاريخ هي من المقوّمات الحيويّة لحركة الحياة، لأنّها تعطينا صورة الحياة في عقولنا وقلوبنا وعلاقاتنا ببعضنا.
قطع التواصل بالغرب
في إطار المشاريع العربية المضادّة للغزو الثقافي، يدعو بعض الكتّاب العرب إلى قطع العلاقات بالغرب، ووقف الحوار مع أوروبا وأميركا، ومنهم منْ يؤكّد جازماً بأنّنا لسنا بحاجة لاستيراد أيّة أفكار ومذاهب ونظريات من الحضارة الغربية، من حيث أنَّ شعار المسلم، كما يقول الشيخ يوسف القرضاوي(1) إزاء ما يُعرض عليه من مبادئ وأفكار ومذاهب، هو هذه الكلمة الموجزة: "إنْ كان فيها ـــ الحضارة الغربية ـــ ما في الإسلام فقد أغناها الله بالإسلام، وإن كان فيها ما يخالف الإسلام، فنحن لا نبيع ديننا بملك المشرق والمغرب.." إلى أيِّ مدى ينطبق هذا الكلام على الحقيقة؟
نحن مع هذا الكلام في النتائج، بمعنى أنّنا نقف لنقول لكلِّ الناس: عندنا الإسلام، فنحن مع الإسلام في كلّ شيء، ونحن ضدّ ما يخالفه في كثير أو قليل.. هذا هو المبدأ، ولكن نحن نختلف مع هذا القول في المقدّمات، لأنّنا بحاجة لأن نفهم العرب، وليس كلّ ما عنده خطأ وباطل، فعنده بعض المناهج والعلوم والتقنيات التي نحتاجها، ونحن بحاجة أيضاً لأن يفهمنا الغرب، ويفهم مبادئنا وتراثنا، لذلك نعتقد بضرورة الانفتاح على الغرب ثقافياً، ولكن بشرط ألاّ نسقط ونخضع لسياسة مفاهيمه وقيَنه. ونخن لا نوافق على الدعوات التي تنادي بالعزلة عن العالم، لأنّه ينبغي أن نكون جزءاً من هذا العالم، حتى نتفهّم روحه وحركته لنؤثّر فيه ونجعله إسلامياً. لقد قلت لبعض الصحفيين الأميركيين، عندما قالوا لي: إنّكم تدعون إلى أَسْلَمَة العالم، ولكن إذا احتجتم إلى إبرة، فأنتم بحاجة إلينا للحصول عليها، فما هي قوّتكم وقدرتكم؟ قلت له: إنّنا نملك تجربة سابقة وقد نجحنا فيها، وهي أنّه عندما سيطر التتار على البلاد الإسلامية كلّها وأسقطوا عاصمة الخلافة العباسيّة في بغداد باستثناء مصر، واعْتُبِر حينها أنّ الإسلام قد انتهى، فكّر علماء المسلمين بطريقة للخروج من هذا المأزق، وهم لا يملكون قوّة، فعملوا على إقناع ابن زعيم التتار بالإسلام، فأسلم(1)، وبعد أن مات أبوه، صارت قوّة التتار قوّة إسلامية، ونحن سنقنع الشعب الأميركي بالإسلام، وعندما نقنعه تصبح أميركا إسلامية، ونستطيع حينها أن نستفيد من كلِّ قوّة أميركا.
نعتقد بضرورة الانفتاح على الغرب ثقافياً، ولكن بشرط ألاّ نسقط ونخضع لسياسة مفاهيمه وقيمه.
هل هو "العدوّ" القادم؟
النظرية السائدة في الغرب اليوم هي أنّ الإسلام هو العدوّ القادم الذي يهدّد حضارة الغرب وثروته وعلومه وتقدّمه.. هل ترون أنَّ هذه النظرية الصحيحة في ظلِّ التداعيات الفكريّة والثقافية والسياسية التي تتحكّم بالواقع العربي والإسلامي؟
نحن لا نريد أن نستعمل هذه الكلمة بأنّ الإسلام هو العدوّ للغرب، فهم يستعملونها لإثارة شعوبهم ضدّ الإسلام(2)، وبأنّه يريد إسقاط حضارتهم وتقدّمهم ليعود الغرب إلى عهد التخلُّف والجهل والانحطاط.. والغربيون يحاولون أن يصوّروا المسلمين والواقع الإسلامي في جميع البلدان الإسلامية بصورة التخلّف.. لذلك، فإنَّ هذه المقولة ترمي إلى تأليب الرأي العام ضدّ الإسلام والمسلمين.. ولكنّ الواقع الحقيقي أنّ الإسلام بدأ يفرض نفسه على الغرب من خلال المبلّغين والدُّعاة والمفكّرين، وبدأ هذا الواقع يتعاظم في الغرب، حيث بدأ الكثيرون من الغربيّين ينفتحون على بعض العناصر الحضارية في الإسلام، وهو ما دفع بعضاً منهم للدخول في الإسلام، أمثال المفكّر الفرنسي (روجيه غارودي)(1) وغيره.. وهذا ما سوف يجعل للإسلام إمكانات كبيرة متقدّمة ليكون قوّة مستقبليّة هناك.. وهذا ما تنبّأ به الأديب الانكليزي (برنارد شو)(2) عندما اعتبر في مقولة له أنّ المستقبل هو للإسلام، وهذا ما يحمّل العلماء من المسلمين مسؤولية الانفتاح على الوعي في تفكيرهم، وأن يعرفوا كيف يقدّمون الإسلام إلى الإنسان المعاصر، لأنّ الإسلام قادرٌ على حلّ كلّ مشاكل الإنسان بكفاءة وحضاريّة.
على العلماء مسؤولية الانفتاح على الوعي في تفكيرهم وأن يعرفوا كيف يقدّمون الإسلام إلى الإنسان المعاصر.
المهاجرون إلى الغرب ومسؤوليّاتهم الشرعية
في دراسة للباحث (محمود الصاوي) عن المسلمين في بلاد المهجر، يرى أنّ بعض المسلمين المهاجرين في الخارج هم المسؤولون عن تشويه صورة الإسلام، مشيراً إلى فشلهم في تقديم الصورة الصحيحة عن الإسلام، إلى جانب تقاعسهم عن بذل جهدٍ فكريّ حقيقيّ لفهم الحضارة الغربية.. هل توافقون على هذه النظرة؟
ربّما كان الحديث عن المسلمين في بلاد المهجر بهذه الطريقة السلبية بنحو شمولي، حديثاً غير منصف وغير عادل، لأنّنا نعرف أنّ هناك جماعات إسلامية متعدّدة وأفراداً مسلمين متنوّعين في الغرب، استطاعوا أن يعطو صورة مشرقةً عن الإسلام في سلوكهم والتزامهم ووعيهم للواقع الذي يعيشون فيه، ولكنّنا لا ننكر أنّ الكثيرين من المسلمين هناك، قد يتحرّكون من دون ضوابط إسلامية، فيبيحون لأنفسهم التعدّي على أموال الناس وأوضاعهم، ويعيشون عاداتهم المتخلّفة في بلدانهم هناك. إنّنا نوافقه على أنّ الكثيرين من المسلمين يقدّمون صورة مشوّهة عن الإسلام هناك(1)، كما أنّ الكثيرين أيضاً من المسلمين، من الحكّام وغيرهم في بلاد الإسلام يعطون صورة سيّئة من خلال جهلهم وتخلّفهم وظلمهم وإهدارهم لحقوق الإنسان.
هناك جماعات إسلامية وأفراد مسلمون استطاعوا أن يعطوا صورة مشرّفة عن الإسلام.
حوارٌ مع أنفسنا ومع الآخر
هناك دعواتٌ للحوار مع الغرب، وتُعقد بين الفينة والأخرى مؤتمرات حول هذا الموضوع، وكأنَّ ذلك أولوية المشروع الإسلامي، في وقت أحوج ما تكون الساحة فيه بحاجة للحوار فيما بينها لردم الفجوات التي تتآكلها.. فلماذا لا يُصار إلى ترتيب الساحة الإسلامية الداخلية عبر الحوار بين المسلمين، ويكون هذا التحصين للساحة الداخليّة هو المقدّمة والمنطلق للحوار مع الغرب؟
كأنَّ السؤال يتلخّص في أنّ الأولوية هي للحوار بين المسلمين فيما اختلفوا فيه، وليس للحوار مع الغرب.. لكنّنا نتصوّر أنّ هذه المسألة ـــ الحوار مع الغرب ـــ تمثّل ضرورة هنا وهناك، لأنّنا في الوقت الذي نعتقد فيه أنّ على المسلمين أن يتحاوروا فيما اختلفوا فيه من شؤون العقيدة والشريعة والتاريخ أو الخطوط السياسية ومناهج العمل، لإفساح المجال لإيجاد وحدة إسلامية منفتحة على كلّ قضايا المسلمين وعلى مواقع التحدّيات التي يواجهونها من خلال المستكبرين على امتداد الأرض، في الوقت نفسه لا بدّ لنا أن نحاور الغرب.. والغرب غَربان، غرب الإدارات التي تحكم، كالإدارة الأميركية والإدارة الأوروبيّة، والغرب الآخر، هو غرب الناس الذين يعيشون هناك من المثقّفين ورجال الفكر والناس الذين يتحرّكون في المواقع الشعبيّة.
ومن هنا، علينا أن ندرك واقع الغرب، فالغرب الرسمي يخطّط ويتحرّك دائماً من أجل أن يسيطر على كلّ مواقع المسلمين في ثرواتهم واقتصادهم وسياساتهم وأمنهم، لأنّه يجد في كلّ الساحات الإسلامية الثروة الطبيعيّة التي تعتبر أساساً لرخائه. ولذلك، فعلاقة الغرب بالعالم الإسلامي هي علاقة القوي بالضعيف، والمستكبر بالمستضعف، حتى أنّه عندما يدخل في حوار سياسيّ أو اقتصاديّ أو أمني بينه وبين هذه الدولة أو تلك في العالم الإسلاميّ، فإنّه يحاول أن يعطي سيطرته شرعية قانونية بعقده للمعاهدات مع هذه الدولة أو تلك. ونحن نعرف أنّ معاهدة القويّ مع الضعيف تمثّل وسيلة من وسائل سيطرة القويّ على الضعيف، وهذا ما لاحظناه في كلّ تاريخ الغرب مع العالميْن العربي والإسلامي، حيث لا نجد في هذه المعاهدات والمواثيق إلاّ الشروط التي تفرض على هذه البلدان الكثير ممّا يصادر حريّاتها ويهدر ثرواتها ويسيء إلى أمنها.. فالغرب لا يمكن أن يدافع عن بلد مسلم من أجل قضاياه الحيوية، بل يعمل على أساس الدفاع عن مصالحه في هذا البلد أو ذاك، وهذا ما لاحظناه في حرب الخليج التي خاضها الاستكبار العالمي ليحمي مصادر البترول، هذه الثروة التي يعتبرها مصدر رخائه، كما أنّه حشد الكثير من قوّاته العسكريّة هناك ليجعل من منطقة الخليج قاعدة عسكرية استراتيجيّة له، ليبتزّ تلك المنطقة وليؤدي بها إلى الفقر.
فالغرب الرسميّ لا يمكن محاورته سياسياً واقتصادياً وأمنياً، إلاّ إذا كان العالم الإسلامي في موقع القوّة، حتى يكون هناك توازن في الحوار. أمّا الغرب الشعبي، سواء من المثقّفين والمفكّرين وعلماء الدين، غير المحكوم ـــ الغرب ـــ بفكرة القوي والضعيف، فإنّنا نشعر بضرورة محاورته، لنقدّم له الحقيقة الأصيلة فيما هو الإسلام، وأنَّ الإسلام ليس دين عنف وإرهاب وتخلّف، وأنّه لا يمارس القوّة، إلاّ كما تمارسها شعوب العالم الأخرى وقائياً أو دفاعياً، لأنَّ الرفق هو الأصل عنده، وهذا ما أكّده القرآن الكريم والسُنّة النبويّة الشريفة.
إنّ علينا أن ندخل في حوار مع تلك الشعوب من أجل أن تعرف جيّداً كيف تنطلق إداراتها الرسميّة من أجل اضطهاد شعوب العالم وإسقاط حقوق الإنسان، لأنّ هناك في الغرب من يملك الفكر الموضوعي الذي يتقبّل الكلمة الطيّبة المنفتحة. ولهذا، ينبغي الدخول في حوار مع كلّ الشرائح الشعبيّة في الغرب، وعلينا أن نصبر على هذا الحوار، لأنّ هذه الشعوب قد اختزنت في داخل شخصيّاتها الكثير من الأفكار السلبيّة حول الإسلام والمسلمين بفعل الإعلام المضادّ، وبفعل الواقع المتخلّف الذي تعيشه بعض البلدان الإسلامية، وبفعل الواقع الظالم الذي يُضطهد فيه الناس من قبل بعض الأنظمة.
علينا أن ننفتح على الغرب في حوار عقلانيّ موضوعيّ إنساني يحترم إنسانية الآخر ويعترف بالآخر، ويدير معه الحوار على الأسس المنطقيّة والواقعية، لأنّ ذلك هو رسالتنا في الانطلاق إلى العالَم كلّه، لندعوه إلى الإسلام بالوسائل التي تنفتح على عقول هؤلاء الناس، لأنَّ الدعوة إلى الله تفرض علينا أن نشرح للنّاس كلّ حقائق الإسلام في عقائده وشريعته وواقعه.
نريد أن نحاور هذا الغرب حوار فكر بكلّ محبّة وخير، وقد رأينا كيف أنَّ بعض الغربيّين من مفكّرين ومن رجال ونساء، قد دخلوا في الإسلام وانفتحوا عليه، عندما انطلق الدُّعاة إلى الله في تبيان حقوق الإسلام بالحكمة والموعظة الحَسَنة.. ولذا، فنحن بحاجة إلى دعاة مثقّفين مخلصين واعين منفتحين على العصر في كلِّ قضاياه تماماً كما هم منفتحون على التراث الإسلامي في أصالته وقوّته.
لا يمكن للغرب أن يدافع عن بلد مسلم من أجل قضاياه الحيويّة، بل يعمل على أساس الدفاع عن مصالحه في هذا البلد أو ذاك.
الخوف من الإسلام وهمٌ تحكمه السياسة
يقول أحد الكتّاب: إنَّ كلمة الإسلاموفوبيا(1) ـــ وترجمتها الخوف من الإسلام ـــ شاعت في الغرب منذ احتجاز الرهائن في السفارة الأميركية بطهران(2)، ومع حملة التفجيرات في فرنسا، بالإضافة إلى فتوى الإمام الخميني (رضي الله عنه) ضدّ سلمان رشدي(3).. ويدعو الكاتب الحركات الإسلامية لنبذ العنف، ثمّ الرجوع عن فتوى سلمان رشدي كبديل لإعادة صورة الإسلام المشرقة في الغرب. هل ترون إمكانية لرواج الفكر الإسلامي في الغرب من خلال التخلّي عن بعض الفتاوى، أو أنّ الموقف من الإسلام هو موقفٌ سياسيّ تعصبيّ في الأصل؟
الواقع أنَّ في الغرب اتّجاهات ثقافية فكريّة تختلف من حيث المبدأ عن الاتجاه الإسلامي في مواجهة القضايا. ففي الغرب، هناك من يؤمن بالحرية المطلقة للإنسان حتى في أن يدمّر أو يضرّ نفسه.. بينما الإسلام يمنع الإنسان من أن يضرّ نفسه أو يؤذي الآخرين، أمّا المسائل التي يتحدّث عنها السؤال، كمسألة الهجوم على السفارة الأميركية في طهران، فإنّها تتحرّك من خلال الواقع السياسي في كلّ مكان، ولكن لماذا لا يتحدّث هؤلاء عن المسيحيّة من خلال ما يقوم به بعض المسيحيّين في الغرب من أعمال إرهابيّة، أو عن بعض المجموعات التي تدين بهذا الدين أو ذاك عندما يهاجمون سفارة أميركية أو بريطانية؟ وهذا أمرٌ لم يختصّ بالمسلمين فقط. أمّا مسألة سلمان رشدي، فهي مسألة تنطلق من أنّ الإسلام يبني دولته ومجتمعه على أساس العقيدة لا على أساس الأرض. ولذلك، فإنّنا نعرف لو أنّ إنساناً قام بالخيانة العظمى ضدّ وطنه، فإنّه يُحكم عليه بالإعدام، ومن هنا، فإنّنا نعتبر أنّ الخيانة العظمى ضدّ مقدّسات المسلمين أعظم من الخيانة العظمى ضدّ الأرض. وعلى هذا، فإنَّ هذه الأمور ليس لها دخلٌ في مسألة صورة الإسلام، لأنَّ القضايا المتّصلة بالجانب السياسي تَحْدُثُ عند المسلمين وعند غيرهم ضدّ أميركا وغيرها. والسؤال، لماذا لا يتحدّثون عن اليهودية كدين في مجازر "دير ياسين"(1) في فلسطين و"حولا" في جنوب لبنان. إنّها مسألة سياسيّة ضدّ الإسلام، فلو أنَّ كاتباً في الغرب أصدر كتاباً عن مجازر اليهود ووحشيَّتهم في الماضي والحاضر، فإنّ الكتاب يُصادر في اليوم التالي ويُحال كاتبه إلى المحاكمة(2). ولكن عندما تصدر الكتب ضدّ الإسلام، فإنَّه يُرحّب بصدورها، ويُعتبر إصدارُها ونشرها وتأليفها وجهاً من وجوه الحرية الفكرية.
نحن نعتقد أنّ الغرب ليس مع الحريّة إذا كانت ضدّ اليهود، ولكنّه مع الحريّة إذا كانت تتناول مقدّسات المسلمين. وفي الوقت ذاته، نحن لا نعتبر أنَّ العنف وسيلة وحيدة للتعبير، لأنَّ العنف في الإسلام، هو عنفٌ وقائي لحماية النفس من الآخرين، ودفاعي عندما يواجه الآخرون الإسلام والمسلمين بالظلم والتعدّي، وليس عنفاً عدوانياً. وعندما نلاحظ ما تقوم به الحركات الإسلامية من عنف نتحفَّظ على بعضه، ولكنّنا نقول إنّه ردُّ فعل على عنف النظام والدولة، وليس خياراً مستقلاًّ.
الخيانة العظمى ضدّ مقدّسات المسلمين أعظم من الخيانة العظمى ضدّ الأرض.
الدعوة إلى الإسلام والسلام مع الذّات ومع الآخر
في غمرة التجاذبات والتباين في الرأي والمواقف، وفي ظلّ دعوات الانفتاح على الآخر، والبُعد عن الذّات، يرى البعض أنّ الدعوة إلى الإسلام صارت صرخة في واد، لأنّ مَن يستلم مهمّة الدعوة يعيش المنازعات الحادّة مع ذاته وأبناء جلدته، وبالتالي لن يستمع الآخر إلينا، فما فائدة أن ندعو ونقوم بالمهمّة التبليغيّة، كيف تنظرون إلى هذا الموقف؟
وكأنّ السؤال يقول إنّه يمكن لنا أن ندعو إلى الإسلام ويستمع الآخرون إلينا عندما نكون في مصالحة مع الذّات، وعندما نعيش التوازن في علاقتنا مع بعضنا البعض. أمّا عندما لا نكون في سلام مع الذّات ولا مع بعضنا البعض، فكيف يستمع الآخرون إلينا، لا سيّما إذا كان الذين يبلّغون الإسلام لا يعيشونه، بل يراهم الناس وهم يقولون ما لا يفعلون.
نحن نقول إنّ الصورة ليست قاتمة بهذا الشكل، فهناك الذين يعيشون مسؤولية التبليغ بكلّ إخلاص ووعي وثبات واستمرار، وهم موجودون في كثير من المواقع، لذلك علينا أن نفسح المجال للدعوة إلى الله سبحانه، وأن نساعد كلّ مَنْ يدعو إلى الله، وفي الوقت نفسه نعمل على ترشيد المبلِّغين إلى الله. ونحن نجد فائدة كبرى في مسألة الدعوة إلى الله سبحانه، فهذا الجيل من الشباب في طول البلاد الإسلامية وعرضها الذي أخذ بخطّ الإسلام ويجاهد في سبيله سبحانه، دليلٌ على أنّ الدعوة بخير، وأنّ الذين يدعون إلى الله يمكن أن يصلوا إلى نتيجة بجذب الناس إلى الإسلام.
إنّ المسألة، هي أنّ علينا أن نعيش مهمّة الدعوة بكلّ إخلاص ووعي ومسؤولية، وألّا نعيش اليأس على الإطلاق. ومن الطبيعي أنّ على المبلِّغين أن يؤدّبوا أنفسهم "مَنْ نصّبَ نفسه للنّاس إماماً فعليه أن يبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه، ومعلّم نفسه ومؤدّبها أحقّ بالإجلال من معلّم الناس ومؤدّبهم"(1) لذلك، على الإنسان قبل أن يدعو غيره، عليه أن يدعو نفسه.
هناك الكثيرون الذين يعيشون مسؤولية التبليغ بكلّ إخلاص ووعي وثبات واستمرار، وهم موجودون في كثير من المواقع.
تفاعل مع الآخر مع التمسُّك بثوابتنا
هل تقبلون بالعلاقة مع الغرب على أساس التلاقي الفكري والثقافي، أو تقتصر على المصالح السياسية والاقتصادية؟
نحن لا نتعقَّد من أيِّ شعب من الشعوب، لأنّنا تعلّمنا من الإسلام أن نكون أصدقاء الإنسان كلّه، ولعلّ هذا ما توحي به الآية الكريمة التي تتحدّث عن أسلوب تعاملك مع الآخرين في كلِّ المشاكل التي تعيشها معهم لتختار الأسلوب الذي يحوِّل أعداءَك إلى أصدقاء {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت : 34]، ثمّ يؤكّد القرآن الكريم على أنّ الوصول إلى هذا الهدف بحاجة إلى أُفق واسع وإلى أعصاب قويّة هادئة {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت : 35]، نحن نريد أن نكون أصدقاء العالم، لا سيّما وأنّ رسالتنا الإسلامية عالمية، تماماً كما هي رسالات الأنبياء والرسل، فنحن نؤمن بضرورة محاورة الإنسان الآخر والانفتاح عليه ليتعرّف على ما عندنا، ونتعرّف على ما عنده، لنتفاعل معه بما لا يصطدم بثوابتنا.. لذلك، لا عقدة لنا في الحوار مع الغرب والتعامل معه في كلّ القضايا. فليس معنى أن تتعامل مع الآخر أن تسقط أمامه، أو يتعامل معك ليسقط أمامك، بل معنى ذلك أن تتعامل معه لتفهمه وتحاوره وتُقنعه. لهذا نحن لا نعتبر أنّ علاقتنا مع الغرب محدّدة بالمصالح المتبادلة، ولكن بالمعرفة المتبادلة والثقافة المتبادلة والحياة المتبادلة.
نؤمن بضرورة محاورة الإنسان الآخر والانفتاح عليه ليتعرّف على ما عندنا ونتعرّف على ما عنده.
خاتمي والخطاب الثقافي
يضع أحد المفكّرين السياسيين جملة من الملاحظات على الخطاب الطري ـــ كما يعبّر ـــ للرئيس الإيراني السيد خاتمي الذي وجّهه للأميركيين(1)، ومن هذه الملاحظات أنّ إيران ليست في هذه المرحلة على استعداد لحوار مع الأميركيين الذين اعترفوا بفشل العقوبات الاقتصادية ضدّها والملاحظة الثانية أنّ الحضارة الأميركية التي امتدحها خاتمي هي التي أبادت الهنود الحمر وأسَّست لعبودية السود، والملاحظة الثالثة أنّ الحضارة الغربية لها جانبٌ فكريّ، فإذا كان للانفتاح السياسي عليها له ما يبرّرها، فالانفتاح الفكري له مشكلة، ما رأيكم؟
إنّني لا أتّفق مع هؤلاء على هذه الملاحظات، أوّلاً، لم يُطرح الحوار مع أميركا الدولة، وإنّما مع الشعب والمثقّفين، ونحن نعرف أنّ مشكلتنا ليست مع الشعب، بل مع الإدارة الأميركية، ولذلك كان الطرح أنّ الوقت ليس وقت إعادة العلاقات مع أميركا، وهذا طرح مهمٌ جدّاً، والسبب أنّ الإدارة الأميركية تحاول تشويه صورة القيادة الإسلامية في إيران، وتصوّر النظام الإسلامي بأنّه نظام إرهابي يدعم أعمال العنف والإرهاب في العالم، ويعمل على تدمير الشعب الأميركي.. لذلك، عندما ينطلق الخطاب ليعلن للأميركيين بأنّنا لسنا ضدّكم، فتعالوا لنتحاور شعباً مع شعب، أو بين القيادة الإسلامية وبين الشعب الأميركي، يمكن أن تتطوّر الأمور ويضغط الشعب على الإدارة الأميركية من خلال هذا الحوار فتتخلّى عندها عن سياستها العدوانية. فإيران كدولة تحمل رسالة الإسلام، لا بدّ لها أن تخاطب كلّ الشعوب ومن بينهم الأميركيون الذين نعرف أنّهم يملكون بساطة في التفكير، وليسوا معقّدين حضارياً كالشعوب الأوروبية. ولو كنّا على مستوى من الدعوة والتبليغ وقوّة الحُجّة لاستطعنا أن نُدخل الكثيرين من الأميركيين في الإسلام، والدليل على ذلك أنّ كثيراً منهم عندما عرفوا الإسلام على حقيقته آمنوا به.. لذلك، نحن مع حوار فكري واقتصادي وسياسي مع الشعب الأميركي.
أمّا الملاحظة الثانية، وهي أنّ الحضارة الأمركية أبادت الهنود الحمر، وهيَّأت لسياسة استعباد السود، فالواقع أنّ هناك جانبين للحضارة الأميركية، هناك الجانب العلمي، حيث لا ننكر أنّ أميركا استطاعت أن تصل إلى نتائج كبيرة على مستوى التطوّر العلمي والصناعي والتكنولوجي، فللحضارة في هذا المجال مظاهر إيجابية تتّصل بالثقافة وبالاكتشافات، وهناك جانب سلبي، وهو ما يتّصل باضطهاد الشعوب والسيطرة عليها. وليس معنى أن تُعجب بحضارة من خلال عناصرها الأساسية أنّك توافق على كلّ حركة هذه الحضارة.
أمّا الملاحظة الثالثة، فلا إشكال أنّ الحضارة الغربية لها جانبٌ فكري قد نختلف معه، لأنّ هذه الحضارة مبنيّة على أساس مادي، بينما حضارتنا الإسلامية مبنيّة على أساس تمازج المادة والروح، ونحن عندما ندعو إلى الحوار مع الغرب، ليس معناه أن نوافق على كلّ حضارة الغرب.
هناك مظاهر حضارية قد نتّفق فيها مع الغرب، نحن مع حركة العلم في الغرب، باعتبار أنّ الإسلام يدعو إلى العلم ومعرفة أسرار الكون، وأنا لا أعتقد أنّ هناك سلبية في هذا المجال، لأنّ انفتاحنا على الغرب لا يعني أن نخضع له، وأن نجعل حضارتنا على هامش حضارته.
إنَّ انفتاحنا على الغرب لا يعني أن نخضع له، وأن نجعل حضارتنا على هامش حضارته.
إرادة الحريّة
تطالبون بعلاقة حضاريّة مع الغرب المتقدّم علمياً، كيف برأيكم السبيل للوصول إلى علاقة كهذه مع واقعنا الضعيف نسبيّاً؟
المهم أن نملك ذهنية إرادتنا المستقلّة في معنى إنسانيّتنا، لأنَّ القضية هي قضية الإنسان. فالظروف التي يعيشها الإنسان تترك تأثيرها عليه، ويبقى له وعيه لإنسانيّته، حيث تضغط عليه بعض الظروف لتحوّل حياته إلى ما يُشبه الزنزانة، ولكنَّ وعيه يجعله حرّاً حتى داخل زنزانته، بينما نجد الإنسان الذي لا يعيش إرادة الحريّة في داخل نفسه حتى لو تركته في الصحراء، فإنَّه يبقى عبداً.
القضية هي، هل نعي معنى أن نعيش إنسانيّتنا في هذا العالم إلى جانب الشعوب الذين يعيشون إنسانيّتهم؟ ليس من الضروري لكي نثق بإنسانيّتنا أن نكون أقوياء على المستوى المادي، بل إنَّ الوعي الإنساني هو الذي يحرّكنا نحو القوّة، فإذا كنّا نتعامل مع القوي مع وعي إنسانيّتنا، فلن يستطيع القوي أن يحوّلنا إلى هامش من هوامش إنسانيّته، قد يضغط علينا، قد يحاصرنا، ولكن تبقى إنسانيّتنا تتحدّاه تحاوره ريثما تستكمل شروطها العملية.. المهم أن تبقى فينا إرادة الحريّة، لأنَّ الحرية لا تصدر بمرسوم، وإنّما تنطلق من عمق إرادة الإنسان.
المهم أن تبقى فينا إرادة الحريّة، لأنّ الحريّة لا تصدر بمرسوم، وإنَّما تنطلق من عمق وإرادة الإنسان.
الفرق بين الإدارات الحاكمة وبين الشعوب
نفهم من ذلك أنّ فكرتكم عن الغرب لا تنطلق من أنّ أميركا هي الشيطان الأكبر؟
هناك فرقٌ بين الغرب الإدارة، وبين غرب الإنسان، أنا لا أقول عن الغرب الإنسان إنّه شيطان، وإذا اختلف معي في سياسته وفكره، فقد يكون خلافه ناشئاً من ظروف فرضت عليه أن يلتزم هذا الفكر، كما فرضت عليّ الظروف الموضوعية الداخلية والخارجية الالتزام بهذه السياسة أو تلك.. لكنَّ المسألة محكومةٌ بالإدارات التي تسيّر شؤون الغرب. فعندما أقف ضدّ هذه الإدارات وخصوصاً الإدارة الأميركية بالذّات، فلأنّ الصهيونية تسيطر عليها، وعندما أعارضها سياسياً، فلأنّها تحاول أن تصادر قراري السياسي، أو عندما أعارضها اقتصادياً فبسبب محاولة سيطرتها على اقتصادي.. وعندما أُعارض الواقع الغربي، فإنّني أيضاً أُعارض الواقع العربي السياسي المحكوم للغرب، الذي يريد مصادرة حريّة الأُمّة، لحساب شخص أو حزب أو جماعة.
لذلك، عندما نقول عن الغرب إنّه الشيطان، أو عن أميركا إنّها الشيطان الأكبر، فلا نقصد الشعب الأميركي، وإنّما نقصد الإدارات التي تستغلّ ما تملكه من قوّة بالضغط على الشعوب لإسقاط حريّتها وتدمير اقتصادها وسياستها وما إلى ذلك.
عندما نقول عن أميركا إنّها الشيطان الأكبر لا نقصد الشعب الأميركي، وإنّما نقصد الإدارات التي تستغلّ ما تملكه من قوّة للضغط على الشعوب.
الشعوب الغربية والأسلوب الحضاري في مخاطبتها
برأيكم ما هي الطريقة التي نستهديها لإعلام الشعب الغربي بالدين الإسلامي؟
إنَّ علينا أن ندرس ذهنية الإنسان الغربي وثقافته والقضايا الحيويّة التي يهتم بها لنتحدّث عن الإسلام في إنسانيّته وعقلانيّته وقيمه الروحية والأخلاقية واحترامه للإنسان في تشريعه وتأكيده على حلّ القضايا الفكرية والسياسية والاجتماعية بالحوار والوصول بالأسلوب الأحسن إلى تحويل الأعداء إلى أصدقاء، والانفتاح على مواجهة الآخرين بالرفق لا بالعنف.. ولا بدّ لنا من الحديث معه عن الله في العقيدة المتميّزة بالبساطة الروحية البعيدة عن التعقيد التي تدخل وجدان الإنسان العقيدية بطريقة وجدانية، وعن الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) في كلّ إنسانيّته واخلاقيّته وروحيّته.. كلّ ذلك بالتي هي أحسن. وهكذا ينفتح عقل هذا الإنسان على الإسلام في صفائه ونقائه. ومن الطبيعي أن يكون المتحدّث مع شعوب الغرب إنساناً مثقّفاً بالإسلام، واعياً لكلّ قضاياه بالمستوى الجيّد.
لا بدّ للمتحدّث مع شعوب الغرب أن يكون إنساناً مثقّفاً بالإسلام واعياً لكلّ قضاياه بالمستوى الجيّد.
محاكمة غارودي والتجييش اليهودي
ما رأيكم بالمحاكمة التي يخضع لها (روجيه غارودي) بسبب كتابه "الأساطير المؤسّسة للسياسة الإسرائيليّة"(1) حيث يُنكر فيه المبالغات اليهودية حول المجازر، علماً أنّ محاكمته تتمُّ بسبب معارضته وإدانته للسياسة العدوانية الصهيونية؟
مشكلة الغربيّين أنّ إسرائيل استطاعت أن تشكِّل عندهم عقدة ذنب في مسألة ما جرى على اليهود مِن قِبَل هتلر مع تضخيم أخبار المحرقة التي تعرَّضوا له، وقد ذكروا أنّ الرقم تجاوز 6 ملايين يهودي، وقد قام عددٌ من المفكّرين والباحثين الغربيين بتكذيب هذه المعلومات. وقد استطاعت إسرائيل أن تضمّن نصوص القوانين الغربية أنّ معاداة السامية جريمة يعاقب عليها القانون، ومن هنا، فإنّ إسرائيل اعتبرت أنّ كتاب غارودي الذي يفضح فيه أكاذيب اليهود يشكّل معاداة للسامية، وعلى هذا الأساس قُدّم للمحاكمة في فرنسا تحت عنوان أنّ هذا الكتاب يمثّل جريمة قانونية.
ونحن نقول للغربيّين: إنّكم تتشدّقون بالحرية، وقد احتضنتم سلمان رشدي وجعلتم منه بطلاً لحريّة الفكر بعد أن أظهر عداءه لرسول الإسلام (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ولمقدّسات المسلمين، واعتبرتم أنّ الإفتاء بقتله يُعتبر اضطهاداً لحريّة الفكر.. وعلى هذا الأساس إذا كنتم تؤمنون بحرية الفكر، وأنّ من حقّ الإنسان أن ينقد ويكتب كما يشاء، فلماذا يكون الانتقاد للإعلام اليهودي الذي ارتكزت عليه إسرائيل في تسويق كذبتها جريمة، ولا يكون الاعتداء على نبيّ المسلمين جريمة؟
إنّ معنى هذا أنّ الغرب يخضع لليهود، ولذلك، فإنّه لا يوافق على صدور أيّ كتاب ينقد السلوك السياسي اليهودي، في الوقت الذي لا يمانع من أن تصدر آلاف الكتب لتنقد الإسلام ومقدّساته بطريقة غير مسؤولة.. إنّ هناك كذبة اسمها الحريّة في الغرب، على الأقل فيما يتّصل بمسألة الذين يختلفون مع اليهود، أو الذين ينكرون على اليهود أكاذيبهم. إنّنا نحتجّ على محاكمة روجيه غاروي المسلم ونعارض ذلك، ونقول، إنّ هذا لا يتناسب مع قانون الحريات الذي جاءت به الثورة الفرنسية.
لماذا يكون الانتقاد للإعلام اليهودي الذي ارتكزت عليه إسرائيل في تسويق كذبتها جريمة، ولا يكون الاعتداء من خلال كتابات سلمان رشدي على نبيّ المسلمين جريمة؟
محاكمة غارودي و"تبرئة" رشدي
في الوقت الذي تتواصل فيه محاكمة روجيه غاروي في فرنسا، كانت بريطانيا تعدُّ هجوماً مرسوماً ضدّ الفتوى التي أطلقها الإمام الخميني (قدّس سرّه) ضدّ سلمان رشدي، حيث دعاه رئيس الوزراء البريطاني للقاء (شباط 1998م) وأعلن وزير خارجيّته أنَّ إلغاء الفتوى بقتل سلمان رشدي جزء أساسي من سياسة بريطانيا تجاه إيران، كيف تنظرون إلى هذا التوقيت بين القضيّتين، وهل ثمّة أزمة دبلوماسيّة قادمة بين أوروبا وإيران من جديد، وكيف تفسّرون الموقف الأوروبي العام من قضايا كهذه يستوي فيها الشتاء والصيف على سقف واحد؟
أنا لا أتصوّر أنّه ستحدث مشكلةٌ جديدة بين أوروبا وبين إيران بسبب مسألة سلمان رشدي، وأعتقد أنّ المصالح الاقتصادية الأوروبية(1) في إيران هي أكبر من سلمان رشدي وغير سلمان رشدي، فلذلك، نحن لاحظنا كيف رضخت أوروبا عندما وقفت إيران أمام ما قامت به أوروبا من مقاطعة السفراء لإيران بعد الإساءة إلى كرامة القيادة الإسلامية في إيران(2).. لذلك، لا نتصوّر أن تحدث مشكلة بين بريطانيا وأوروبا وبين إيران بسبب سلمان رشدي بلحاظ ما قلناه، لا سيّما إذا عرفنا أنّ الدول الكبرى تتحدّث عن الحريات وحقوق الإنسان، على الأقل من خلال مصالحها، لا من خلال الحقيقة، والدليل على ذلك، محاكمة روجيه غارودي الذي لم يفعل شيئاً سوى أنّه فضح أكذوبة اليهود في مسألة حجم المحرقة التي تُنسب إلى هتلر، وأنّه فضح الكثير من الكذبة الإسرائيليّة حول مسألة معاداة السامية(1)، وما إلى ذلك، وكان يتكلّم بلغة علمية أكاديمية بحتة، فلماذا يُقدّم الآن إلى المحاكمة في فرنسا، وفرنسا كما تدّعي أنّها أمُّ الحريات. وفي الوقت نفسه يُقدّس سلمان رشدي في فرنسا وبريطانيا، لأنّه تحدّث بسوء عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، وعن الإسلام بلغة بعيدة عن الفكر والثقافة، ولغته هذه أقرب إلى الشتائم منها إلى البحث الفكري.
مشكلة روجيه غارودي أنّه "تجاوز" الخطوط الحمراء، صار مسلماً، وانطلقت العقدة الأوروبية "الحضارية" ضدّ الإسلام، لتحاكم إسلام غارودي، وثانياً، إنّ اليهود يسيطرون على الإعلام الأوروبي، فــ 95% من الإعلام بيد اليهود، ومن الطبيعي أن تكون الحريات الإعلامية في أوروبا، وفي كثير من بلاد الغرب، هي بحجم حريّة اليهود، في أن تبقى مقدّسةً كلُّ أساطيرهم وخرافاتهم وأكاذيبهم.
مشكلة روجيه غارودي أنّه "تجاوز" الخطوط الحمراء، صار مسلماً، وانطلقت العقدة الأوروبية ضدّ الإسلام لتحاكم إسلام غارودي.
"الحلف" الإسلامي
ورد في صحيفة الأهرام المصرية لأحد المفكّرين في معرض حديث له عن ضرورة إقامة علاقات ثقافية وتبادل الثقافة مع الأمم الأوروبية ما يلي: "وليس معنى هذا أن نخاصم الأمم غير الإسلامية، بل ينبغي أن ندعم علاقتنا بها ونمنحها من الامتيازات ما تمنحنا مثله، لكن دون أن نتورّط في ملف طائفي لم يعد يناسب الزمن كالحلف الذي تدعو إليه إيران"، هل باعتقادكم أنّ الحلف الإسلامي لم يعد يناسب الزمن؟
أتصوّر أنّ مشكلة بعض الناس أنّهم يخلطون بين الطائفية وبين الخطّ الفكريّ، فإذا ما دُعِيَ إلى مؤتمر إسلامي، فإنّهم يعتبرون هذه الدعوة دعوة إلى مؤتمر طائفيّ، لكنّ القضية ليست كذلك، لأنّه من الواقعيّ لأيّ جماعة من الناس تملك خطّاً فكريّاً دينياً أو غير ديني أن يتحوّل هذا الخطّ الذي تملكه إلى مصالح اقتصاديّة وسياسيّة وأمنيّة بحجم حركة هذه الجماعة من الناس في التزامها بهذا الخطّ، ولذلك، فإنّها في عملها لا تمثّل حالة عدوانية، لأنّها تعمل على إيجاد نوع من الرابطة بين بعضها لتحميَ مصالحها ووجودَها.. وإلاّ كيف ينشأ اتحاد أوروبي، فهل هو يمثّل اتّحاداً عدوانياً في مقابل أميركا أو اليابان، أو في مقابل الشرق؟
وهناك تجمّعات على المستوى الثقافي والسياسي والاجتماعي يُراد من خلالها تأصيل الخطّ الذي تلتزم به هذه الجماعات وحمايته بكلّ ما يتّصل به من مصالح ومواقع وحركات من الآخرين.
لذلك، فإنَّ المؤتمر الإسلامي(1) ليس موجّهاً ضدّ الآخرين أو ضدّ المسيحيّين، بدليل أنّ هذا المؤتمر الذي انعقد في طهران احتضن في داخله رئيس جمهورية لبنان المسيحي(1) من دون أيّ عقدة في ذلك، مع إشارتنا إلى تحفّظنا السياسي في قضية تأسيسه سابقاً وخلفياته الغربية، وغير ذلك.
فواقع المؤتمر الإسلامي اليوم أنّه يعمل على دراسة كلّ المشاكل التي تعيشها بلدان المسلمين، والتي يجمعها الدين في المسألة الثقافية والسياسية والاقتصادية وما إلى ذلك، والإسلام دينٌ منفتحٌ على الآخرين، ولذلك، هو لم يتحرّك عدوانياً {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران : 64]، ويقول تعالى أيضاً: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى} [المائدة : 82]، ولم يذكر اليهود باعتبار أنَّ اليهود إنَّما انطلقوا من خلال العداوة الواقعية للمسلمين. ومن هنا، فإنّ هذا الكاتب لم يفهم جيّداً الفرق بين العنوان الإسلامي الذي يجمع الأمم الإسلامية وبين الطائفية، لأنّ الطائفية حالةٌ عشائرية، وأمّا العنوان الإسلامي فإنّه حالةٌ فكرية وسياسية وحضارية.
الطائفيّة حالةٌ عشائرية، وأمّا العنوان الإسلامي فإنّه حالةٌ فكرية وسياسيّة وحضاريّة.
ربط الإرهاب بالإسلام
لماذا هناك إصرارٌ عالمي على ربط الإسلام بالإرهاب(1)؟
إنّني أتصوّر أنّ السياسة الأميركية بشكل خاص والاستكبارية بشكلٍ عام والتي تعمل للسيطرة على مقدّرات العالم الثالث وفي مقدّمته العالم الإسلامي، لا تريد أن تنطلق أيّة دعوة إلى الاستقلال السياسي والأمني والاقتصادي، لتحمي وجودها واقتصادها وثرواتها، بل عملت هذه السياسة الاستكبارية على منع الاكتفاء الذاتي عن هذا العالم الثالث والإسلامي، ومنعته من الإنتاج والتصنيع الوطني وأثقلته بالهزائم والسلبيات وبكلّ ألوان التخلّف. وهكذا، لاحظنا موقف هذه الدول الاستكبارية في وجه الدول الاشتراكية الذي كان حاسماً وقاسياً، ولاحظنا أيضاً موقفها السلبي من القضية العربية وخصوصاً الفلسطينية، وهكذا نرى موقفها اليوم من الإسلام الذي انطلق كحركة من أجل الحريّة والعدالة. وما يهمّ الغرب اليوم هو أن تبقى الدول الإسلامية تحت وطأة التخلّف وروح الهزيمة ليبقى مسيطراً على هذا العالم، لأنَّ هذا العالم لو دخل مرحلة التصنيع فإنّه يلغي السوق الاستهلاكيّة لأكثر من بلد غربي، ولو استثمر هذا العالم ثرواته الطبيعيّة، فإنّه لن يكون وسيلة من وسائل الرخاء للعالم الآخر. لذلك، نحن نتصوّر أنَّ هذه الحملة على الإسلام كانت منطلقة من أنَّ هناك إسلاماً يدعو إلى الحرية والعدالة ويرفض أن يسبح مع تيّار الذين يضيّقون على شعوبهم. ومن هنا، رأينا مارغريت تاتشر رئيسة وزراء بريطانيا السابقة تقف في أحد اجتماعات الحلف الأطلسي لتعلن أنَّ العدوّ الجديد هو الإسلام. إنّني أعتقد أنَّ إطلاق صفة الإرهاب على الإسلام تتّصل بالمصالح الاستكباريّة في المنطقة سواء كانت غربية، أو ممّن يعيشون على هامش هذه المصالح.
ومن الطبيعي أنّ الضعف العربي الذي لا يُرادُ له أن يتحوّل إلى قوّة، والتخلّف الإسلامي والثالثي يعزّز واقع هذه السياسة الاستكبارية. والمسألة عندهم هي أن نبقى متخلّفين، ونأخذ من الحضارة الغربية جانب السطح، ولا يُسمح لنا أن ننزل إلى العمق.
ما يهمّ الغرب اليوم أن تبقى الدول الإسلامية تحت وطأة التخلّف وروح الهزيمة ليبقى مسيطراً على هذا العالم.
العالم الإسلامي والقرن المقبل
لمن سيكون القرن المقبل، هل يمكن أن يكون إسلامياً؟ البعض يرشِّح اليابان، والبعض يقول أوروبا الموحّدة، والبعض يُبقي أميركا. أين واقع العالَم الإسلامي في القرن المقبل؟
لمن يكون المستقبل؟ قضية تنطلق من سُنّة الله في الكون، وبقدر ما تبني المستقبل في فكرك ونشاطك وحركتك ووعيك بقدر ما تُمسك بمفاصل المستقبل. والإسلام مُهيّأ ليقود المستقبل، ولكنّ المشكلة، هي مشكلة المسلمين الذين يعيشون بعيداً عن صنع الحاضر والمستقبل، حيث يغرقون في هوامش الأشياء وجزئيّاتها، وفي كثير من حالات التخلُّف.
لذلك نحتاج لأن يعيش المسلمون الإسلام ويتحمّلوا مسؤوليّته، وأن يحملوا دعوته، ويفكِّروا في العصر من خلال الآفاق التي يفتحها العصر لهم، وعند ذلك يمكن لهم أن يأخذوا بأسباب التقدّم ويمسكوا بزمام المستقبل.
عصرنة الإسلام أم أسلمة العصر
يكثر الحديث عن ضرورة انفتاح الإسلام على العصر، هل المقصود "عصرنة" الإسلام، أم "أسْلَمَة العصر"؟
نحن نعمل على أسْلَمَة العالم، لأنّ الله سبحانه أرسل رسوله بذلك {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} [سبأ : 28] فالدعوة الإسلامية دعوة عالمية، ولا بدّ للداعية إلى الله أن يعيَ ذهنية الناس الذين يدعوهم إلى الله، وأن يكون مطّلعاً على ثقافتهم وعقليّتهم وروحيّتهم فيما يعيشونه في كلّ أوضاعهم وعلاقاتهم، لأنَّ الداعية عندما لا يفهم روح الآخر ولا يدرك حدود ثقافته فكيف يمكن أن يخاطبه؟ وقد ورد عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): "إنّا معاشر الأنبياء أُمِرْنا أن نُخاطب النّاسَ على قَدْر عقولهم"(1) فإذام لم نفهم حجم عقولهم، فكيف نستطيع أن نتكلّم معهم على قدر عقولهم؟ نحن نعيش في عصر يشتمل على كثير من التقدّم في العلم، والتنوّع في الأفكار، وعلى أسلوب في الحياة يتنوّع هنا وهناك. لذلك، يقتضي أن نفهم روح العصر لنعرف كيف نحرّك الإسلام في داخله. ونحن لا يمكن أن نوافق على خضوع الإسلام لذهنية العصر، لأنّنا نؤمن بأنَّ الإسلام يجب أن يقتحم ذهنية العصر من خلال فهم روحية الإنسان المعاصر وذهنيّته وكلّ ما ينفتح عليه وينغلق عنه.
يقتضي أن نفهم روح العصر لنعرف كيف نحرّك الإسلام في داخله.
الأُمّة والدولة
جاء في محاضرة لأحد العلماء: "الدين لإسلامي في عهوده ومراحله المختلفة أنتج دولة، إنَّما أنا ضدّ فكرة إعطاء سلطة تشريع لحاكم، لأنّ المشروع السياسي هو مشروع الأُمّة الإسلاميّة، وعندما يتعارض مشروع الأُمّة، مع مشروع الدولة، تكون الأولويّة لمشروع الأُمّة، لأنّه في المدى الضيّق، ليس من مهمّات الإسلام، إنشاء حكم، إنّما مشروع الإسلام، هو مشروع الأُمّة، لأنَّ ليس من مهمّاته الأولى أن ينتج دولة" ما تعليقكم على ذلك؟
أنا لا أفهم معنىً لهذا القول، وهذا ما لا يقوله حتى الشيوعيّون الذين يعملون من أجل أن تكون لديهم دولة شيوعيّة، لا يقولون إنَّ الشيوعية من مهمّات الأُمّة، لا من مهمّات الدولة. فنحن عندما نتحدّث عن الأُمّة نقول ما هي الدولة التي تحكم الأُمّة، هل هي دولة الإسلام، أم دولة الكفر(1)؟ وما قيمة أُمّة يُفرض عليها الكفر والظلم ولا تلتزم بالإسلام؟ إنَّ الإسلام جاء لكي يعيش الناس على أساس دين الله في الحكم وفي العلاقات والعبادات والمعاملات. لذلك، عندما يحكم الكافرون الأُمّة، كيف يمكن للأُمّة أن تحافظ على إسلامها؟ وعندما يكون القانون الذي يطبّق على الأُمّة هو قانون الكفر، فكيف يمكن لأفراد الأُمّة أن يجمعوا بين التزامهم بالقانون الوضعي وبين التزامهم بالأحكام الشرعيّة؟ وذلك عندما يتعارض هذا القانون مع أحكام الشريعة. إنّنا نقول: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ} [آل عمران : 19] ويقول تعالى أيضاً: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة : 44]، {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة : 45]، {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة : 47].
ولهذا، فإنّ القضية أن يعمل المسلمون جميعاً من أجل إقامة حكم الله في الأرض، وهذا ما عبّر عنه أمير المؤمنين عليٌّ (عليه السلام) عندما ابتهل إلى الله: "اللَّهمَّ إنّه لم يكن الذي كان منّا منافسةً في سلطان، ولا التماسَ شيء من فضول الحطام، ولكن لنرد المعالم من دينك ونظهر الإصلاح في بلادك وتقام المعطّلةُ من حدودك، ويأمن المظلومون من عبادك"(2) لذلك كان عليٌّ (عليه السلام) يرى في الحكم إقامةً للحقّ وإسقاطاً للباطل، وكان الأئمّة من أهل البيت (عليهم السلام) يرون ذلك، وإن لم يستطيعوا استلام الحكم بفعل الضغوط والأوضاع التي أحاطت بحركتهم ومسيرتهم الرساليّة.
ومن هنا، فإنَّ التفريق بين الأُمّة وبين الدولة أمرٌ لا معنى له، لأنَّ الأُمّة تكون أُمّة بالإسلام، وإنّما تستطيع أن تحافظ على إسلامها إذا لم يكن هناك ازدواجيةٌ بين واقعها الإسلامي بين الواقع القانوني الذي يسيطر عليها.. إنّها لا نفهم ما يقول هؤلاء الذين يريدون أن يهادنوا الحكّام، وهم يسوّقون لمقولة الحكّام، بأنَّ الذين يريدون تطبيق الشريعة الإسلاميّة يفرّقون الأُمّة، وبذلك يعطون للحكّام الظالمين والجائرين والكافرين المبرّرات للضغط على كلّ مَنْ يرفع صوته بالإسلام، ويعمل من أجل إقامة حكم الإسلام.
التفريق بين الأُمّة وبين الدولة أمرٌ لا معنى له، لأنَّ الأُمّة تكون أُمّة بالإسلام.
اجتهاد السابق واجتهاد اللاحق
يرى الدكتور (حسن حنفي)(1) "أنّ إجماع العصر السابق على مسألة ما عند الفقهاء ليس بالضرورة ملزِماً لإجماع العصر اللاحق نظراً لتغيير الظروف والأحوال، وكلّ عصر أدرى باحتياجاته وبمصالحه، وهذا هو السبب في نقد القرآن للتقليد والمقلّدين {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} [الزخرف : 23] فالتقليد ليس مصدراً للعلم" أين نتّفق مع هذا القول وأين نختلف؟
نحن مع هذا الرأي إذا كان المقصود منه إجماع العلماء من خلال اجتهاداتهم التي اجتهدوها، لا من خلال رواياتهم التي رووها أو من خلال المصادر التي اعتمدوها.. وإنّ اجتهاد المجتهدين في السابق لا يُلزم المجتهدين في اللاحق، لأنَّ للمجتهدين السابقين اجتهادهم الذي انطلق من خلال ثقافتهم، ومن خلال الظروف الموضوعيّة التي أحاطت بطريقتهم في التفكير، أو بالوسائل التي اعتمدوها في الاجتهاد. ومن الممكن للمجتهدين في العصر اللاحق أن يكتشفوا الكثير من الأخطاء في العصر السابق، كما اكتشف المجتهدون في العصر السابق أخطاء مَنْ كان قبلهم. طبعاً نحن لا نقلّد المجتهدين، المجتهد لا يقلّد المجتهد، نعم، العاميّ يقلّد المجتهد فيما لا خبرة له فيه.. وإنَّ العمل بقول أهل الخبرة فيما لهم خبرة فيه هو أمرٌ عالميٌّ وحضاري، سواءً كان بالنسبة إلى الماضين أو الحاضرين، وحتى في التقليد لا يُفرض على الإنسان البقاء على تقليد المجتهد السابق، بل يجوز له أن يرجع إلى تقليد المجتهد اللاحق.
للمجتهدين السابقين اجتهادهم الذي انطلق من خلال ثقافتهم ومن خلال الظروف التي أحاطت بطريقتهم في التفكير.
التحجّر والجمود
يقول السيّد خامي(1) وهو يستعرض واقع التخلُّف الذي نعيشه: "كلّنا مبتلون بمن يحملون التحجُّر والجمود في عقولهم" هل توافقون السيّد خاتمي على ذلك؟
إنّني أوافقه على أكثر من ذلك، لأنَّ عقبات كثيرة تقف في وجه الذين يعملون من أجل إدخال الإسلام إلى العصر، ومواجهة التحدّيات المعاصرة، ليقدّموا الإسلام إلى العالم من خلال ما يختزنه من حلول واقعية لمشاكل الإنسان المعاصر.. فالعلماء من هذا الجيل والمثقّفون الواعون تحرَّكوا من أجل إنقاذ الواقع الإسلامي الذي يعيش الكثيرون من رموزه في دائرة التخلّف والجمود، حتى صار التخلّف مقدّساً، والجمود ديناً يُدان به. وكما قال السيّد خاتمي فنحن مبتلون بالكثير من العقليّات الجامدة التي تريد أن تحبس الدين في قمقم، وتحبس المجتمع الإسلامي في أضيق المواقع، حيث لا تحاول أن تفتح الفكر الإسلاميّ على الهواء الطلق وعلى إشراقة الشمس. ولكنّنا نعتقد أنّه مهما تحرّك المتخلّفون والجامدون في أُفقهم الضيّق، فإنّ الوعي سوف يفرض نفسه عاجلاً أم آجلاً.. وإنَّ الذين يحرّكون الوعي الثقافي والسياسي والاجتماعي في الأُمّة لن يتراجعوا عمَّا يتحرّكون فيه، ولن ينهزموا، ولن يبعدهم عن خطّهم كلُّ الكلمات اللامسؤولة والاتهامات الكاذبة.
إنَّ الذين يحرّكون الوعي في الأُمّة لن يتراجعوا وينهزموا، ولن يبعدهم عن خطّهم كلّ الكلمات اللامسؤولة والاتّهامات الكاذبة.
الحكم الخاطئ
في مقالة للكاتب منير فارس(1) يتناول فيها الإسلاميّين وبأنّهم غير قادرين على نقل الإنسان إلى معايشة العصر بكلّ إنتاجاته، فيقول: "فالأصولية الجديدة لا ترعوي عن المباهاة بجميلها، وبأنّها مسؤولة عن قلب الإنسان وعن عقله وعواطفه وأحاسيسه، إنّهم كفرعون يشيعون لغة "أنا ربُّكم الأعلى"، يهملون الجوهر ويتمسّكون بالقشور، فتتحوّل الأزمة حتى تصل إلى باب الحمّام وكيف يمكن دخوله بالرِجْل اليمنى أم باليسرى، ويكثر اللّغط والاجتهاد وتنقسم مسألة البتّ في القضايا إلى مجموعات: هذه تناصر الفتوى وأخرى تناصر تلك، وتدور الدوّامة نفسها في فراغ قاتل يحمل البشر وينقلهم من الحركة إلى السكون، ومن النور إلى الظلام"، ما تعليقكم على ذلك؟
إنّ مثل هؤلاء العلمانيّين كأنّهم يقولون نحن الحقيقة، ونحن الذين نملك الحكم على الأفكار وعلى الاتجاهات وعلى الواقع.. إنّنا نقول لهم إذا كنتم تتحدّثون عن الإسلاميّين كيف يختلفون في بعض الخطوط العامة التي قد يتنوّع فيها الاجتهاد، أو في بعض الخطوط التفصيليّة التي تختلف فيها وجهات النظر، أو في بعض الجزئيّات في تنظيم حياة الإنسان في تفاصيل الواقع الذي يعيش فيه، فإنَّ العلمانيّين أيضاً يختلفون في الخطوط العامة والتفصيليّة، فهناك أكثر من خطٍّ علماني تتنوّع فيه الاتجاهات، وأكثر من خطّ علماني في جزئيات الواقع السياسي في هذا الموقع أو ذاك، أو في اتجاه هذا الحزب أو ذاك، ونجد أنَّ أيّ واحد من العلمانيّين يتنوّع في الخصوصيات في حركته في بيته وأهله ومجتمعه.. لذلك، أن يحدّد الإسلام للإنسان كيف يقدّم الرِجْل اليمنى على اليسرى، فهذه أمورٌ طبيعية ولها موقعٌ في حياة الإنسان بطريقة أو بأخرى، إنّنا نقول لمثل هؤلاء العلمانيّين، إنَّ الإسلاميين لا يطرحون أنفسهم على طريقة فرعون "أنا ربّكم الأعلى"، بل إنّهم متواضعون، وهم عندما يقدّمون الإسلام، فإنّهم يقدّمونه باعتبار أنّه دين الله الذي أوحى به إلى نبيّه (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، وأنّ الله سبحانه يعلم ما خلق ومَن خلق، وما يصلح الإنسان وما يفسده، ولذلك، فإنَّ الله قد أكمل دينه وأتمَّ نعمته ورضيَ الإسلام ديناً للناس. وهم أيضاً ينطلقون من فكرةٍ شاملة للحياة على أساس شموليّة الإسلام للحياة، وهم مستعدّون لأن يحاوروا الآخرين في علاقة الإسلام بكلّ الواقع السياسيّ والاقتصادي والاجتماعي، أو بالواقع الفردي للإنسان، إنّهم مستعدّون لأن يناقشوا الآخرين في ذلك، ولكنّنا نعتقد أنّ هؤلاء العلمانيّين هم الذين قد يُخيّل إليهم أنّهم يمثّلون "الربَّ" الذي يفرض فكره، ويعتبرون أنفسهم أنّهم أصحاب الوعي والتقدّم وحدهم(1)، أمّا الإسلاميون فهم ليسوا كذلك.. ونقول قليلاً من التواضع حتى تعرفوا كيف تحكمون على الناس وكيف تتحدّثون معهم.
عندما يقدّم الإسلاميون الإسلام، فإنَّهم ينطلقون من فكرة شاملة للحياة على أساس شموليّة الإسلام للحياة.
القلم الشيعي
يقول أحد الكتّاب: "إنّ الشيعة غارقةٌ بالفكر المجرّد، أي القلم الشيعي حادّ، مشحونٌ متفرّد، في حين نحتاج في هذه الأيام إلى القلم المنبسط العريض، بمقدار ما يجيد الفكر الشيعي دليل الإمامة والعصمة، تجده فقيراً مُعْدَماً على صعي الفكر العملي.. مشاكلنا وحلولها، المخاطر التي تهدّد هذا الكيان، كيف نواجه المصير، كلُّ هذه القضايا الكبيرة غائبةٌ في طيّات فكرنا" هل ترون في هذا الكلام تحاملاً أم توصيفاً للواقع؟
أظنّ أنَّ هذا الكلام ليس دقيقاً، لأنّ التراث الشيعي في الماضي والحاضر هو تراثٌ متنوّع ومتعدّد الأبعاد، وكما يعالج القضايا الكلامية في الإمامة والعصمة، كذلك يعالج القضايا الفكرية الأخرى، وقضايا الحاكم والمحكوم، وقضايا الناس بين بعضهم، ويواجه الواقع بأكثر من حلّ.. أظنّ أيضاً أنّ صاحب هذا الكلام لم يقرأ كتب السيّد محمّد باقر الصدر(2)، وكتب الشهيد مطهّري(3)، وكتب الكثير من العلماء والمفكّرين والمثقّفين الذين أغنوا المكتبة الإسلامية في تحليل مشاكل وقضايا الواقع، حيث الشيعة قرأوا كتاب الواقع ففهموه، واستطاعوا من خلال الإمام الخميني (قدّس سرّه) أن يواجهوا كلّ العالم المستكبر شرقياً كان أو غربياً، ووقفوا ليكونوا الطليعة في مقاومة إسرائيل والاستكبار العالمي.
نحن لا نريد أن نتحدّث عن شيعة وسُنّة، ولكنَّ المسلمين الشيعة لا يزالون حتى الآن مشكلة الظالمين والمستكبرين وكلّ الفئات المنحرفة، لأنّهم لا يزالون يتحمّلون مسؤولية الواقع، في أن يكون هناك عدلٌ في الأرض.. إنَّ الدماء الإسلامية الشيعيّة لا تزال أنهاراً غزيرة في كلّ صراعات الحريّة والعدالة. وإنَّ الشيعة يعيشون في ثقافة إمامهم المنتظر (عجّل الله فرجه) الذي ينتظرونه ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلئت ظلماً وجوراً.. فالعدل هو أساس الإمامة، والعدل في العصمة، والعصمة هي القاعدة التي تضمن للإمامة فاعليتها في الخطّ الذي يحبّه الله ويرضاه.
المسلمون الشيعة لا يزالون حتى الآن مشكلة الظالمين والمستكبرين وكلّ الفئات المنحرفة.
احتواء العصر
توقّع (صموئيل هينتغتون)(1) في كتابه "صدام الحضارات" حصول صدام بين الإسلام والحضارات الأخرى المعاصرة وغير المعاصرة. هل تشعرون بأنّ الإسلام في صدام مع العصر ومع مقتضيات الحياة المعاصرة؟
إنّ الإسلام يدخل في صراع مع الحضارات الأخرى من خلال أنّ القاعدة التي ينطلق منها الإسلام تختلف عن القاعدة الفكرية التي تنطلق منها الحضارات الأخرى تماماً كأيّة حضارة شرقية أو غربيّة، وعندما نقول ذلك، فليس معناه أنّ الإسلام يصطدم بالعصر، لأنّ العصر ليس شيئاً معزولاً عن الفكر الإنساني. ونحن نعرف أنّ كلّ عصر يحمل ظروفاً موضوعية تغلّب فكراً على فكر، ممّا يجعل الفكر الغالب يضطهد الفكر المغلوب أو يحاصره. لذلك أقول: إنّ الإسلام يختلف مع الحضارة الأوروبية أو مع كلِّ حضارة مادية، باعتبار أنّه ينطلق من قاعدةٍ غير ماديّة. إنّنا نعتقد عندما نواجه الواقع، فإنّ الفكر الآخر يملك مواقع قوّة أكثر ممّا يملكها الفكر الإسلامي، ولكن ليس معنى ذلك أنّ الإسلام يصطدم بالعصر. إنّ الإسلام يعمل كما يعمل الفكر الآخر في أن يحتوي العصر، ويجعل العصر صورة لفكره.
إنّ الإسلام يعمل كما يعمل الفكر الآخر في أن يحتوي العصر ويجعل العصر صورة لفكره.
تنافي الحركة الإسلامية وصدام الحضارات
يرى أحد المفكّرين الغربيّين أنّ "التنامي المذهل" للحركات الإسلامية يأتي في الاتجاه المعاكس لمنطق التاريخ الذي يتَّسم بقطيعة مع التقليد الديني، وبتأكيد على قِيَم العلمنة والدنيوية، وخصوصاً في الفترة الزمنية الأخيرة. ويبني هذا المفكّر وغيره على هذه الفكرة مؤكّداً أنّ وجود هذه الحركات يفضي إلى صدام الحضارات وإلى تعقيد العلاقات الدولية.. هل ترون واقعية لهذا التفكير خصوصاً وأنّ أصحابه يرون الفصل بين السياسة والدين؟
كأنَّ هؤلاء يريدون أن يقولوا إنّ التاريخ يتحرّك على أساس إلغاء الدين من حساب حركة الإنسان في الحياة في قضاياه الحيوية وحاجاته المادية، وإنّ العلمنة التي تعني إلغاء الدين من حساب القانون والسياسة والحكم، هي التي يتطوّر الزمن في نطاقها. ولذلك، فإنَّ تقدّم الحركات الإسلامية التي تدعو إلى أن يحكم الإسلامُ العالم، تمثّل مشكلة لحركة التطوّر التاريخي، وهم يعتبرون أنّ ذلك سوف يؤدّي إلى صدام الحضارات، لأنّ الحضارة الدينية عندما تقوى، فإنّها ستصطدم بالحضارة المادية، ومن الطبيعي أن تصدم هذه الحضارة تلك الحضارة، لأنّهما متناقضتان في قواعدهما الفكرية، وهذا برأيهم سيربك العلاقات الدولية، لأنّه سوف يؤدّي إلى مشاكل بين الدول التي تتبنّى الدين والدول التي ترفضه، وهم يعتبرون أنّ الإسلام فرَّق أو الدين بشكل عام فرّق بين السياسة والدين.
إنّ المسألة في تصوّرنا ليست كذلك، فالزعم بأنّ الدين ضدّ حركة التاريخ، وأنّ التاريخ يحتضن العلمنة، هو أمرٌ غير حقيقي، لأنّ الإنسان متديّن بطبعه من حيث أنّ فطرته الصافية الكامنة في سرّ وجوده تختزن الإحساس بالدين والإيمان بالله تعالى. لذلك نجد أنّه كلّما ضعف الدين بين فترة وأخرى في حركة الإنسان في الحياة، كلّما جاءت الصحوة الدينية لتطلق الدين من عقاله، وتجعله يتحرّك بالطريقة التي يُثري بها الحياة، لتتّجه إليه، من دون فرق بين دينٍ وآخر.
فنحن نلاحظ أنّ هناك صحوة إسلامية استطاعت أن تحتوي الواقع العالمي، ورأينا ردّ فعل ذلك في حركة مسيحيّة تمثّلت برحلات البابا إلى أكثر من مكان في العالم ليمنع تأثير الصحوة الإسلامية في صفوف الغربيّين وغيرهم، على أساس أن ينقذ الواقع المسيحي الذي تحوّل إلى معاد للدين، وفقد الإنسان اهتمامه به، ولذا، فإنّ حركة الدين تنطلق في الاتجاه الطبيعي لحركة التاريخ.
والإسلام ليس مجرّد دين يعيش في الوجدان، ولكنّه يتحرّك في الحياة من خلال أنّه دين حكم وقانون وسياسة، باعتبار أنّ الإسلام يمثّل الجانب الإلهي في مسألة العقيدة، والجانب التنظيمي في مسألة الشريعة.
لذلك، فإنّ انفتاح العالم على الإسلام من خلال الحركات الإسلامية هو انفتاح على الخطّ الأصيل الذي يمكن أن يغني تجربة الحياة ويحلّ مشاكلها. أمّا الحديث عن أنّ الحركات الإسلامية تؤدّي إلى صدام الحضارات، فإنّنا نعتقد أنّ الحضارات كانت ولا تزال تعيش الصراع فيما بينها، تماماً كأيّ خطَّيْن مختلفين عندما يتحرّكان في موقع واحد، الغلبة فيه للأقوى.. وأمّا تأثير وجود الحركات الإسلامية وبأنّها تعمل على تعقيد العلاقات الدولية، فإنّنا نعتقد أنّ العلاقات الدولة تعيش حالة من السلبيّة من خلال طبيعة الواقع الاستكباري الذي يريد السيطرة على مقدّرات المستضعفين في العالم، حيث تريد كلّ دولة أن تسجّل أرباحاً لمصلحتها على حساب الدولة الأخرى.. فالواقع الاقتصادي والأمني والسياسي الاستكباري هو الذي يعقّد العلاقات بين الدول وبين الشعوب، وليس الإسلام.
انفتاح العالم على الإسلام هو انفتاح على الخطّ الأصيل الذي يمكن أن يغني تجربة الحياة.
ترابط بين السياسي والديني
نلاحظ اقتران الخطاب الديني بالمادة السياسية، ممّا يجعل منه مشكلة، ونلاحظ أيضاً قصور بعض هذا الخطاب عن مجاراة الأساليب العلمية المتبعة، هل يعود السبب في ذلك إلى ثقافة مَنْ يُطلقون هذا الخطاب؟
بالنسبة إلى ارتباط الخطاب الديني بالمسألة السياسيّة، فهو ليس بِدَعاً من ألوان الخطاب، وذلك لأنّ أيّ خطاب ثقافي، يمثّل مضموناً ثقافياً يتّصل بالحياة وبالتحدّيات التي تواجه الإنسان في الحياة، في قضايا الحقّ والباطل، والعدل والظلم، وما إلى هنالك، لا بدّ أن يُطلق خطابه الحركي الذي يُراد من خلاله تحشيد الناس حول فكرته في عملية التغيير.. فكلُّ خطاب تغييريّ ينطلق من قواعد ثقافية حياتية إنسانية، لا بدّ له من أن يأخذ ببعض الأساليب السياسية والأجواء السياسيّة، عندما تتّصل قضية السياسة بقضية المصير الإنساني.
ولذلك، فإنّ الدين الذي يرتكز في كلّ حركته على أساس العدل، عدل الإنسان مع نفسه وربّه ومع الإنسان الآخر ومع الحياة، لا بدّ له من أن يتحدّث عن الظلم الذي يفترس الإنسان، ويتحدّث عن الاستكبار الذي يضغط على إنسانيّته، ويتحدّث عن العدل الذي يرتفع بالإنسان وبالحياة، ليجعل الحياة منفتحة على كلّ ما يدفع الإنسان إلى التقدّم والنموّ والرقيّ، لذلك، فإنّ الإسلام يرى أنّ العدل أساس الرسالات، وهذا ما عبّرت عنه الآية الكريمة: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد : 25] فقيام الناس بالقسط ـــ العدل ـــ هو أساس كلّ الرسالات. ونحن نعرف أنْ لا عدل من دون سياسة.
لهذا، فالسياسة تمثّل الوسيلة الواقعية لتأكيد العناوين الكبيرة الإنسانية في الحياة، وهي ليست في المعنى الحضاري لعبة يلعبها الآخرون، أو استهلاكاً من دون معنى، إنّها منهجٌ للحياة فيما تحقّقه من أهداف الحياة. ومن هنا، كان الخطاب الإسلامي يتّصل بالسياسة من جهة اتّصال الدين بالحياة وبالقِيَم الكبرى التي لا يمكن تحقيقها إلاّ من خلال السياسة.
ومن الطبيعي أنّنا لا نتحدّث عن السياسة ـــ اللعبة ـــ وعن السياسة الاستهلاك، ولكنّنا نتحدّث عن السياسة التي تتّصل بقضايا الإنسان السلبية والإيجابية.
أمّا الحديث عن جمود الخطاب الديني عند البعض، فهو تماماً كجمود الخطاب السياسي والاجتماعي.. فهو يتبع ثقافة الذي يطلق هذا الخطاب، فإذا كان يملك الثقافة الواسعة المنفتحة التي تعيش آفاق العصر في قضاياه، وتتحسَّس الواقع وتعيش فيه، فمن الطبيعي أن يكون الخطاب حيّاً متحرّكاً نابضاً بالحياة، منفتحاً على كلّ واقع الإنسان. وعندما يعيش الإنسان أُفقاً ضيّقاً تقليدياً، فإنّه يجعل خطابه في دائرة حجم ثقافته الضيّقة.
الخطاب الإسلامي يتّصل بالسياسة من جهة اتصال الدين بالحياة وبالقيم الكبرى.
الأُميَّة الدينيّة
في ردٍّ على سؤال بأنَّ عالمنا الإسلامي يعاني من أُميّة دينية واضحة، يقول مفتي الديار المصرية الشيخ نصر فريد واصل: "المحزن، وعلى الرغم من انتشار الهيئات والمؤسّسات الإسلامية، وانتشار الكتاب الإسلامي، أن تكون الأُميّة الدينية في شعب عربي مسلم أكثر من 80%" ويعيد السبب في ذلك إلى سيطرة وسائل الإعلام، وعدم اهتمام المدرسة والجامعة بالتعليم الديني، وانتشار أفكار التطرّف.. فهل توافقون على هذه النظرة؟
نحن نوافقه على أنّه هناك أُميّةٌ دينية، والأميّة الدينية تعني أنْ ليس هناك ثقافة دينية حتى عند الكثيرين من أفراد مجتمع الحالة الإسلامية، وإنّنا نتساءل ماذا يعرف الشباب والفتيات بشكلٍ تفصيلي عن مسائل العقيدة والفقه وتفسير القرآن، أو عن المفاهيم الإسلامية العامة. وليست الأُمّة الدينية منتشرة لأنّ الجامعة والمدرسة لا تدرّسان المفاهيم الدينية، أو أنّ أفكار التطرّف منتشرة، إنّما المسألة تنطلق من حالتين، الأولى: أنّ الكثيرين ممّن يتحمّلون مسؤولية التبليغ ليسوا في حالة طوارئ تبليغيّة، بمعنى أن ينطلقوا إلى الناس في بيوتهم ليعلّموهم، وإلى المساجد ليملؤوها بالتوجيه والوعي، والثانية: أنّ الناس لا تهتمّ بتحصيل الثقافة الإسلامية أو بحضور جلسات تفسير القرآن. والقرآن هو الأساس الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فنلاحظ أنّ بعض شبابنا لا يهتمون بدروس تفسير القرآن أو بدروس الفقه.. فالثقافة الإسلامية ثقافة قرآنية فقهية.. ونحن قلنا مراراً، لا بدّ أن يكون للمسلمين وعي سياسيّ، لكنّ المسلم لا يستطيع أن يتحرّك في السياسة الإسلامية إلاّ إذا فهم الإسلام ليميِّز بين الخطّ المنحرف والخطّ المستقيم، حتى أنّه عندما يتحرّك في خطّ الجهاد، لا بدّ أن يملك ثقافة الأحكام الشرعيّة الجهاديّة. فالثقافة الإسلامية هي أساس السياسة وأساس الجهاد، فهي تصنع من المسلم إنساناً يعيش الإسلام في قلبه وروحه وفكره.. ولعلّ سيطرة الضلال والفسق والفجور على شبابنا وفتياتنا وكبارنا وأطفالنا ناشئة من أنّ الإسلام يعيش في سطح عقولنا وقلوبنا وحياتنا.
ومن هنا، فإنّنا نقول، نعم هناك أميّة ثقافية عند الكثيرين ممّن يعيشون الاهتمامات الإسلامية، وقد قال الإمام الخميني (قدّس سرّه) وما أقلّ مَن يتبع الإمام في آفاقه "مساجدكم متاريسكم" عندما تركنا المتراس، وهو المسجد، ضعفنا وتمزّقنا واستطاع الشيطان أن يلعب بنا ويسيطر على مجتمعاتنا ويسلب عنّا وعي الساحة، فبتنا لا ننتبه إلى ما يدبّره الشيطان الأكبر وعملاؤه في تفكيك وتمزيق الساحة.
إضافةً إلى كلِّ ذلك هناك خلافاتنا حول بعض القضايا الإسلامية، فنحن لا ندير الخلاف بروح الموضوعية والحوار، فتكون ممارستنا لخلافاتنا على طريقة التشهير والاتهامات وإيجاد العداوة والحقد والتشكيك في العاملين، بدل أن تكون مصدر حوار وتفاهم وتعاون للوصول إلى الفكرة الحقيقيّة.
نحن نحتاج إلى وعي ثقافي عقيدي فقهي إسلام يجعل من كلِّ مسلم داعية إلى الله. وما أكرّره دائماً أنّ مشكلتنا في لبنان وفي هذا الشرق، هو هذا التخلُّف الذي يجعل كلّ واحد منّا يفكّر كيف يسجّل نقطة على الآخر. فالأساليب التي أدخلها الشيطان في حياتنا هي أساليب الحرتقات والنكرزات وتسجيل النقاط واغتياب الناس، ولا سيّما اغتياب العلماء، والقول بغير علم.. وهذه كلّها لا تخدم إسلامنا ولا مواقعنا في مواجهة الاستكبار العالمي.
الأساليب التي أدخلها الشيطان في حياتنا هي أساليب الحرتقات والنكرزات واغتياب الناس.
المشروع الإسلامي
برأيكم أين أصبح المشروع الإسلامي خصوصاً بعد الانتكاسات التي أصابت هذا المشروع في الجزائر ومصر وتركيا، فهل أُحبطت إمكانية تمدّده، وجعلت من طرح عنوان الحكم مأزقاً للحركات الإسلامية لا حلّاً؟
إذا كنّا نريد أن نتحدّث عن المشروع الإسلامي من حيث أن يصل الإسلام إلى الحكم، فقد نوافق أنّه انتكس في بعض المواقع ولا سيّما في مصر والجزائر وتركيا، في الوقت الذي نرى فيه أنّه انتصر إلى حدٍّ كبير في إيران، وإلى حدٍّ ما في السودان.. ولكنّنا عندما ندرس المشروع الإسلامي، نجد أنّه انطلق من أجل أن يوضح للإنسان في العالم أنّ الإسلام ليس مجرّد دين يعيش داخل المسجد، ويتحرّك من خلال بعض الأخلاقيات الضبابيّة، بل هو مشروعٌ للحياة يعارض ويمانع ويجاهد ويحرّر ويحاور ويتحدّى، ولذا، فإنّ المشروع الإسلامي قد نجح ولا يزال قويّاً بكلّ ما للقوّة من معنى، لأنّه ما يزال العنوان الذي يشغل العالم، وقد خرج من القمقم، حيث استطاع أن يخترق كلّ الحواجز الثقافية والسياسية التي حاولت أن تحتجزه في دائرة ضيّقة. أمّا هذه الخدوش التي أصابت الجسد الإسلامي، فإنّنا نتصوّر أنّها لم تكن فعلاً، وإنّما كانت ردّ فعلٍ لواقع يحاول أن يحاصر الإسلام في الدائرة التقليديّة.
فالإسلاميون طلبوا في بعض المواقع بأن يكون لهم حركتهم السياسية وحريّتهم في العمل السياسي حسب اقتناعاتهم تماماً كما هم القوميون أو الاشتراكيون يطالبون أو يمارسون حركتهم وحريّتهم السياسية، ولكن مُنعوا من ذلك بحُجّة أنّ الإسلام لا يمكن أن يكون تيّاراً سياسياً، لأنّه سوف يقسّم البلد ما بين مسلمين وغيرهم، في الوقت الذي نعرف فيه أنّ الإسلاميين لم يُخرجوا مَن لا ينتمي إليهم عن الإسلام. ولو كانت هذه المقولة صحيحة، لكان من المفروض ألاّ يكون هناك أحزابٌ وطنية، لأنّ مَن لم ينتمِ إليها ليس وطنياً. وقد بدأت بعض الدول بممارسة العنف ضدّ الإسلاميين الذين كان موقفهم موقف الدفاع بقطع النظر إن كانت الوسائل صحيحة أو غير صحيحة.. وهكذا نلتقي في الجزائر، فالإسلاميون الذين قد تكون لديهم تحفُّظات حول الديمقراطية، مارسوا الديمقراطية في الانتخابات النيابية والبلدية، وكادوا أن ينجحوا، ولكنّ الانقلاب(1) عليهم من خلال النظام أبعدهم، ثمّ بدأ العنف ضدّهم، وقد كانوا ضحيّة للعنف. ولم يكونوا هم مَن اختاروه، ثمّ اختلطت الأوراق في الجزائر، وتدخّل أكثر من طرف، ودخلت الجزائر في نفق الصراع الدولي بين أميركا وفرنسا، وتنوّعت الزوايا الجزائرية لهذا الحزب وذاك حتى لم نعد نعرف من يقتل مَنْ، مع معرفتنا بأنَّ هناك بعض مَن ينتمون إلى الحركة الإسلامية في الجزائر متخلّفون ثقافياً وسياسياً، ولكن ليس كلّ الحركة الإسلامية هناك كذلك.
وإنَّ هذه الوحشية التي يتقزَّز منها الإنسان ويعيش أقسى أنواع الألم أمامها في قتل الأطفال والنساء والشيوخ، نرفضها بالمطلق من أيّة جهة كانت، وليس من المؤكّد أن يكون الإسلاميون حتى المتخلّفون منهم هم الذين يقومون بكلّ ذلك، لأنّ للنظام دوراً في ذلك(1).
ولكن ما مصلحة النظام في ذلك؟
إنَّ المصلحة في ذلك هي القضاء على كلّ ما يملكه المسلمون من مشاريع إيجابية، وليست المسألة مسألة اتّهام النظام، ولكنّنا نعرف أنّ الصحف الفرنسية والبريطانية تتحدّث عن كثير من المذابح التي تقع في مناطق الإسلاميّين أو قرب الثكنات العسكرية الجزائرية، إنّنا لا نريد أن نعطي حكماً شاملاً في هذا الموضوع، لكنّنا نقول بأنّه ليست هناك جهة محايدة يمكن للإنسان أن يأخذ الحقيقة منها.
وبالعودة إلى السؤال حول تركيا، فإنّنا نعتقد أنّ الإسلاميّين في تركيا انتصروا، رغم عدائية العلمانية هناك للدين والإسلام. إنَّ تركيا اليوم تعيش في حالة صحوة إسلامية واسعة جدّاً في المدن والقرى والأرياف، والدليل على ذلك، هو هذه الأصوات التي أعطيت لحزب الرفاه الإسلامي في الانتخابات(2)، وإذا كان حزب الرفاه استقال من الحكم، فإنَّ ذلك لم يكن تحت تأثير ضغط شعبي ومعارضة شعبيّة، بل كان ذلك تحت تأثير إرهابيّ علماني عسكري(1)، لذلك، نحن نعتبر أنَّ المشروع الإسلامي لم يسقط، وإنّما أصيب ببعض الخدوش ووقع في بعض السلبيّات، لأنّه يلتزم الإسلام كرسالة تلتقي مع قضايا الإنسان وحريّته وعدالته ولا يزال قويّاً في الساحة.
ولكن ما معنى الذي حصل في مصر من خلال قتل السيّاح(2)؟
نحن قلنا في تصريحات سابقة، إنّه حتى لو كان الإسلاميون وراء ذلك، ونحن نشكّ أنّهم مَن قاموا بالهجوم على السيّاح، لأنّه قد يكون هناك بعض الأجهزة التي تعمل على اختراق واقعهم، فإنّنا ندين ونرفض مثل هذه الأعمال، لأنّه لا يجوز تحت أيّ اعتبار قتل السيّاح، لأنّهم بحماية البلد الذي يزورونه، كما أنّنا نعتبر أنَّ الإساءة إلى الاقتصاد المصري هو إساءة للمسلمين جميعاً. صحيح أنّنا قد نختلف مع الإدارة المصرية في بعض جوانب الحكم وممارساته وسياسته، لكنّنا لا نقبل أن تضعف مصر، أو أن يقع الشعب المصري تحت تأثير مشكلة اقتصاديّة، لأنّنا نعرف أنَّ إسرائيل رغم مصالحة مصر لها، ما تزال تتربَّص بها، ولا تريد لها أن تكون قوّة إقليميّة كبرى بحسب حجمها العربي والإسلاميّ والإفريقي، كما أنَّ أميركا لا تريد لمصر أن تأخذ دوراً إقليمياً دولياً. لهذا، نريد لمصر حتى لو اختلفنا مع بعض خطوطها السياسية، أن تكون قويّة، ولا نريد لأيّة جهة أن تُضعف الشعب المصري.
المشروع الإسلامي مشروع للحياة يعارض ويمانع ويجاهد ويحرّر ويحاور ويتحدَّى.
التجربة الإسلامية
ثمّة مَن يعتقد أنَّ المحاكمة القريبة لحزب "الرفاه" الإسلامي التركي ستكون محاكمة للأحزاب الإسلامية عموماً في الدول الإسلامية، لتقدّم إلى الواجهة صورة الحزب الذي يتحوّل من السلطة إلى المعارضة، إلى الحظر في غضون ستة أشهر فقط.. هل توافقون هذا الرأي، وهل تعتقدون أنّ التجربة الإسلامية السياسية تميل إلى الانحسار، علماً أنَّ البعض يعتقد بأنّ أسلوب التطرّف السياسي يعطي القوّة ثمّ يفرض الشرعية والاعتراف به، بينما أنّ أسلوب الاعتدال يؤدّي إلى الضعف، ثمّ إلى الحظر؟
الواقع أنّ الإسلام الحركي سواءً تمثّل في حزب أو حركة أو في أيّ مجتمع، يعيش في هذه المرحلة من عمر الإسلام صراعاً عنيفاً مركّزاً مع قوى الاستكبار العالمي. ولذلك، فإنّنا نجد أنَّ هناك حرباً عالمية تقودها أميركا وفي حلف غير مقدّس مع الدول الأوروبيّة وغيرها من الدول بما فيها الدول الآسيويّة والعربية وما يسمّى بالدول الإسلامية، حتى لا يكون للإسلام موقعٌ متقدّمٌ في حياة الناس سياسيّاً واقتصاديّاً واجتماعيّاً. وقد أصبح من "الجرائم" الخطرة حتى في البلدان الإسلامية أن يطالب الإنسان المسلم بتطبيق الشريعة الإسلامية في هذه البلدان. لذلك فإنّنا نعتقد أنّ مظاهر الصراع تختلف حسب اختلاف البلدان، فقد تتمثّل حركة الصراع في الأساليب العنيفة التي يقودها هذا النظام أو ذاك ضدّ هذه الحركة الإسلامية أو تلك، لتكون ردّة الفعل بأن تنطلق الحركة الإسلامية لتواجه هذا النظام بطريقة العنف، كما نلاحظ ذلك في مصر والجزائر ودول أخرى. وقد يتمثّل هذا الصراع بطريقة بعيدة عن العنف إلى حدٍّ ما، كما لاحظناه في تركيا التي أراد الغرب بعد إسقاط الخلافة العثمانية أن يحوّلها من الإسلام إلى العلمانية حتى لا يفكّر أحدٌ بعودة الإسلام إلى الحكم، وقد بقيت تركيا تعيش داخل هذا الطوق الحديدي الممسك بالعلمانية بضغط داخلي وخارجي، حتى انبعثت الصحوة الإسلامية، فانطلق الشعب التركي المسلم للعودة إلى الإسلام. وقد استطاع حزب الرفاه الإسلامي الذي لم يطرح نفسه كحزب إسلامي في قانونه، وإن كان إسلامياً في مضمونه وتوجّهاته وقاعدته الشعبية المؤيّدة له، بأن يصل إلى الحكم، ولكنّه حُوصِر من قِبَل الجيش والعلمانيّين بحيث أفشلوا تجربته في الحكم، وبعد أن خرج من الحكم إلى صف المعارضة حاولوا بأن يُلصقوا بها تهماً، من قبيل الوقوف ضدّ دستور البلاد وما شاكل ذلك، وربّما يؤدّي ذلك إلىسحب وإلغاء الرخصة له بالعمل السياسي(1).
إنّنا لا نتصوّر أنّ الاعتدال أفضى إلى ذلك، لأنّ ما يسمّى بالتطرّف أيضاً في بلدان أخرى أفضى إلى حظر عمل كثير من الحركات الإسلامية. إنّ المسألة مسألة صراع قوى بين الإسلام الحركي الذي لا يريد أن يعود مجرّد إسلام ضعيف متهالك يسبّح بحمد الملوك والأمراء والرؤساء المفروضين على الأُمّة من دون إرادتها، وبين هذه القوى التي لا تريد للإسلام أن يأخذ دوره في الحياة على مستوى السياسة والحكم والاقتصاد والاجتماع.
وإنّني أتصوّر أنّ الإسلام خرج من القمقم وأصبح قوّة تتحرّك في أكثر من أسلوب ومن موقع، وإذا كانت قوى الاستكبار مع كلِّ حلفائها وعملائها تعمل من أجل إضعافه فتصيبه بعض الجراحات وتحاصره في بعض المواقع، ولكنّها لن تستطيع أن تُلغي الإسلام والصحوة الإسلامية.
أصبح الإسلام قوّة تتحرّك في أكثر من أسلوب ومن موقع وإذا كانت قوى الاستكبار تعمل من أجل إضعافه مع كلّ حلفائها، لكنّها لن تستطيع أن تلغي الإسلام والصحوة الإسلاميّة.
العولمة: ثقافياً وإنسانيّاً
كيف تنظرون إلى العولمة الثقافية والإنسانيّة؟
إذا أردنا أن نتحدّث عن العولمة(1) في المطلق، فنحن نعتقد أنَّ الإنسانية واحدة، وإن كانت هناك خصوصيّات لموقع إنسانيّ هنا أو هناك، والإسلام لا يتنكَّر للخصوصيّات الإنسانية بل يعتبرها مصدر ثراء للإنسان في العناصر الغنيّة التي تتحوّل إلى لقاء إنسانيّ فيما يحتاجه الإنسان من الآخر من العناصر الناقصة عنده، وهذا ما قاله القرآن الكريم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات : 13]، فنحن لا نلغي الخاص أمام العام، بل نرى أنَّ العام يتغذّى من الخاص، ولذلك، فنحن نفهم العولمة لو استطعنا أن نحرّكها ونديرها، أن يتحرّك الإنسان في العام مع الاستفادة من غنى الخاص، لتكون هناك وحدةٌ عالمية إنسانية في التنوّع.
ولكنّ المشكلة أنَّ العولمة وُلدت في دائرة أميركية استكباريّة، ونحن نعرف أنّ الدول السبع الكبار هي التي تمسك باقتصاد العالم وسياسته وأمنه، ولذلك، فالمطلوب في خلفيّة مشروع العولمة أن تخضع الخصوصيات القومية والإقليميّة والدينية لهذه الدول. ومن هنا، فإنَّ القوّة التي تملكها هذه الدول تُعتبر وسيلة من وسائل السيطرة لتتجاوز كلّ حدودنا الوطنية والإقليمية والقومية والدينية، ويُصبح ذلك وسيلة من وسائل السيطرة باسم العولمة. ونحن لا نستطيع أن نجعل اقتصادنا محصوراً في دوائرنا، ولكنّنا نريد أن نحرّك اقتصادنا مع الاقتصاد العالمي بحيث تبقى له عناصره الحقيقيّة التي تمثّل هويّتنا.
وفي هذا المقام نريد أن نؤكّد على نقطة معيّنة، وهي أنَّ الأميركيّين ليسوا مستعدّين أن يفقدوا عناصرهم وخصائصهم القوميّة إن كانت هناك حالة قوميّة في أميركا لمصلحة العالم الثالث. إنّنا نرغب في التكامل مع العالم والتفاعل معه، ولكن ليس على حساب أن يُلغي خصوصيّاتنا الثقافية والاقتصادية.
نرغب في التكامل مع العالم والتفاعل معه، ولكن ليس على حساب أن يُلغي خصوصيّاتنا الثقافية والاقتصادية.
إسلاميو تركيا: تنازل أم مواجهة؟
بعد قرار المحكمة الدستورية التركية بحلّ حزب "الرفاه" الإسلامي، يرى البعض أنّ الإسلاميين في تركيا باتوا أمام خيارين: إمّا التنازل أكثر لمصلحة النظام العلماني مع ما يعنيه ذلك من فقدان لروح التحرّك الإسلامي، وإمّا المواجهة التي يترتّب عليها تغيير أساليب الصراع.. هل ترون أنّ الوضع وصل إلى هذا المستوى من الخطورة، وهل تعتقدون أنّ قرار المحكمة جاء بناءً للرغبات الأميركية الإسرائيليّة، وكيف تنظرون إلى مستقبل الحركة الإسلامية في تركيا؟
إنّني لا أتصوّر أنّ الأمور وصلت في الساحة الإسلامية التركية إلى مستوى الصراع العنيف الذي يستعمل القوّة بحيث يتحوّل الواقع الأميركي إلى ما يشبه الواقع الجزائري، لأنّ الحركة الإسلامية في تركيا واعية لطبيعة المجتمع الذي تتحرّك فيه ولطبيعة الظروف الموضوعية والضغوط القاسية التي تحيط بها. لذلك، فإنّني أتصوّر أنّ حلّ حزب الرفاه(1) لم يُضعف الحركة الإسلامية، بل زادها قوّة، لأنّ من الممكن أن يكون تسلّم حزب الرفاه للحكم ضمن حكومة ائتلافية قد أضعف بعض شعبيّته، أمّا الآن وبعد قرار المحكمة بحلّه استطاع حزب الرفاه أن يُظهر الجهة العسكرية في تركيا على حقيقها، وأنّ حديثها عن الديمقراطية ليس حديثاً جديّاً، بل إنّها عملت على إلغاء حزب يحظى بتأييد 6 ملايين صوت في الساحة التركية، وهي الملايين التي صوّت لحزب الرفاه في الانتخابات العامة، حيث استطاع أن يمتلك أكبر نسبة تمثيل في المجلس النيابي، ممّا يعني أنّ هذا القرار الذي أقدم عليه النظام العلماني في تركيا يصبّ ضدّ مصلحة النظام نفسه، لأنّه يُظهر حقيقة ما يتشدّقون به من الديمقراطية والعلمانية.
ونحن نعرف أنّ الدول الغربيّة العلمانيّة التي حاولت تركيا في بداية انحرافها عن الإسلام(1) أن تقتدي بنهجها في العلمانية لا تُقدم على ما أقدمت عليه، ولا يمكن أن تلغي حزباً بهذا الحكم والمستوى من التأييد الشعبي. وإنّ هذا القرار يدلّ على خوف النظام التركي من الحركة الإسلامية بحيث يخشى أن تصل إلى مستوى من التعاظم في التأييد الشعبي، يمكنها في المستقبل من تحويل النظام من علماني إلى إسلامي، وهذا ما صرّح به أربكان، بأنّ من الممكن جدّاً أن يُنشِئ حزباً جديداً سوف يستطيع أن يستلم الحكم في المستقبل بشكل مستقلّ من دون الحاجة إلى الائتلاف مع أحد من الأحزاب الأخرى، وهذا يدلّ على الثقة بتعاظم المدّ الإسلامي في تركيا.
وبسبب ما أقدم عليه النظام التركي، فقد صدرت مواقف من كثير من الدول الغربية والاتحاد الأوروبي تستنكر ما أقدم عليه النظام من تنكّر للديمقراطية ولحقوق الإنسان. ويبقى أنّ قرار المحكمة التركية ليس قراراً قانونياً أو دستورياً، بل هو قرار النظام العسكري الذي يسيطر على المحاكم وعلى كلّ أجهزة الحكم. وهذا القرار أعطى صورة سلبيّة لدى الغرب عن النظام التركي، وسيعقَد دخوله إلى الاتحاد الأوروبي الذي تطالب تركيا أن تكون عضواً فيه باعتبار أنّها تتنكَّر لحقوق الإنسان.
وأتصوّر أنّ المسألة إسرائيليّة أكثر ممّا هي أميركية، أو هي أميركية ـــ إسرائيليّة في الخفاء باعتبار أنّهم يخشون من تنامي المدّ الإسلامي، الذي سيربك مصالح أميركا وإسرائيل معاً، وسيعقّد حركة التحالف التركي الإسرائيلي الأميركي(1).
إنّنا ننتظر من الإسلاميين أن يحصلوا على قوّة أكثر، لأنّهم يتحرّكون بعقلانية أكثر وبتخطيط وصمود أكثر.
قرار المحكمة التركية بحلّ حزب الرفاه أظهر الجهة العسكرية في تركيا على حقيقتها، وإنّ حديثها عن الديمقراطية ليس جديّاً.
المصالحة مع الذّات
نتحدّث دائماً عن المشروع الإسلامي بأهدافه السامية، ومنها مسألة الحوار مع الآخر، ولكن هل نتحلّى بهذه الصفة داخل حالتنا الإسلامية التي تشهد تقديساً لفلان وتكفيراً لفلان؟
من الطبيعي جدّاً أنّ هناك نقاط ضعف في المجتمع، ولكن علينا ألّا نحدّق دائماً في النقاط السلبيّة أو في نقاط الضعف، لأنّ هناك نقاط قوّة ونقاطاً إيجابية، وهناك نماذج من الناس تنفتح على بعضها البعض وتحاور بعضها بعضاً وتقدّس بحساب وتأخذ موقفاً معيّناً بحساب وتحاور بحساب، لذلك، علينا ألاّ ننظر إلى الجانب المظلم من الصورة، بل علينا العمل ونحن ننظر إلى الجانب المظلم أن ننظر إلى الجانب المضيء، لعلّنا نستطيع أن نغلّب هذا الجابن على الجانب المظلم ليعطيه شيئاً من النور والضوء. يقال إنَّ السيّد المسيح (عليه السلام) مرَّ مع الحواريّين على كلب قد أُنْتنَت رائحته، قال الحواريون: ما أشدّ نتن رائحته، فقال عيسى (عليه السلام): ما أشدّ بياضَ أسنانه.. من الضروري أن تنظر إلى الجانب المشرق من الصورة، فلعلّه يعينك على أن تتوازن وأنت تنظر إلى الجانب المظلم فيها.
من الضروري أن تنظر إلى الجانب المشرق من الصورة فلعلّه يعينك على أن تتوازن وأنت تنظر إلى الجانب المظلم فيها.
العولمة: الهالة والسطوة
العولمة إصطلاح جديد تمكّن بسرعة أن ينتزع لنفسه هالةً وسطوةً كيف تنظرون إلى هذا المصطلح؟
لعلَّ مشكلة الكثير من العناوين التي تُطرح في العالم، أنَّها تُطْبَخ أوّلاً في مطابخ السياسة والإعلام الاستكباري ولا سيّما الأميركي، فنحن نجد أنّ أميركا طرحت النظام العالمي الجديد(1)، في الوقت الذي لا نجد هناك مصداقاً للنظام العالمي الجديد.. بل هناك واقعٌ عالميٌّ جديد يتحرّك في كلّ مرحلة عندما تسقط قوّة وترتفع قوّةً أخرى {وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران : 140]، كما صرّح القرآن الكريم في هذا المجال. لكن أرادوا أن يُوحوا للشعوب المستضعفة، لشعوب العالم الثالث أنَّ هناك نظاماً عالمياً جديداً يطبّق على العالم، فعلى الجميع أن يُسلموا له.
وهكذا انطلقت فكرة العولمة من أنّه ليس هناك اقتصاد إقليمي أو وطني أو قومي أو ما إلى ذلك، ولكن هناك اقتصادٌ عالمي تتجمّع فيه كلُّ مفردات الاقتصاد في العالم تخضع له، ممّا يجعل من المسألة، مسألة القوى التي تسيطر على الاقتصاد العالمين فتمنع أيّ اقتصاد من أن يدير نفسه بنفسه، وأن تكون له مفرداته الخاصة به.
ومن الجانب الاقتصادي إلى الجانب الأمني، فليس هناك أمنٌ ذاتي لأيّة دولة، بل إنَّ الأمن ينطلق من خلال الأمن العالمي الذي تسيطر عليه القوى الكبرى التي تمثّل حركة العولمة في تحريك الواقع الأمني "لتحمي" دولة من دولة، وبمعنى آخر لتشعل حرباً أو لتطفئ حرباً، بحيث تتسلَّح الدول لا لتمارس حربها بنفسها إلاّ في الدوائر الصغيرة الخاضعة للخطوط العالمية الدولية، ولتكون هذه الأسلحة والقواعد العسكرية في خدمة الدول الكبرى كما يحدث في الخليج. وهكذا أرادوا للثقافة أن تخضع للعولمة، فليس هناك من ثقافة إسلامية أو وطنيّة أو قوميّة، بل هناك ثقافة عالميةٌ تحدّد لكلّ مفردة من مفردات الثقافة دورها وحركتها.
ومن هنا، فإنّنا نقول: إنَّ الإسلام دينٌ عالميّ، وهو عالميٌّ في ثقافته، ولكن لا يمنع الشعوب من أن تكون لها ثقافتها الخاصة بشرط أن ترتبط في الخطّ العام بالثقافة الإسلاميّة، ومن الممكن جدّاً للإسلام أن يتبنّى العولمة، ولكن على طريقته ومبادئه الخاصة.
إنّ العولمة التي انطلقت حديثاً، يُراد لها إفساح المجال لأميركا لأن تسيطر على العالم، ولا أعتقد أنَّها ستنجح، لأنّ علاقة الشعوب بخصوصيّاتها ووعيها للخطّة الاستكبارية بفعل حركات الوعي التي تفتح عقول الشعوب على النتائج الخطيرة السلبيّة، ستضع العصيَّ في دواليب هذه العولمة.
العولمة التي انطلقت حديثاً يُراد لها إفساح المجال لأميركا لأن تسيطر على العالم، ولا أعتقد أنّها ستنجح.
العولمة والصهيونية
في كتاب (بروتوكولات حكماء صهيون)(1) هنالك حديثٌ عن الدولة العالميمة التي يسعى اليهود لإنشائها وعاصمتها القدس، هل تعتقدون أنّ الحديث عن العولمة والعالم الجديد، مقدّمات يضعها اليهود من أجل إقامة دولتهم "إسرائيل" العالمية؟
من الممكن أن يخطّط اليهود لذلك من خلال إمساكهم بالاقتصاد والسياسة والإعلام في العالم، ومن الممكن أيضاً أن يؤسّسوا دولة عالمية ليس من الضروري أن تكون دولة يهوديّة موحّدة، ولكن أن يسيطروا على كلّ الواقع العالمي، وربّما نجد بعض ملامح ذلك في بعض مواقعهم في العالم، ولكنّني أتصوّر أنَّ هذا حلمٌ لن يتحقّق بهذه السهولة.
إنسان الكون
العولمة بما هي سمة العصر الفاقعة اليوم، هل ترون ونحن نستعدّ لاستقبال القرن المقبل أنّنا جاهزون لفكرة الإنسان الكوني، وبالتالي للخروج من خصوصيّات الثقافة والجغرافيا وحتى التاريخ؟
نحن نعتبر أنَّ كلّ ثقافة، حتى ولو كانت ثقافة خاصة هي ثقافة كونيّة عندما تحمل نبْضاً إنسانياً. فليس هناك تاريخٌ إنسانيٌّ واحد في كلّ العصور، لأنّ التاريخ الكوني هو مجموعة النقاط المشتركة بين كلّ ألوان التاريخ. لذلك عندما نعيش خصوصيّتنا في بُعدها الإنساني التي تفكّر للإنسان كلّه وللكون كلّه، فإنّنا نستطيع أن نحصل على انتماء كونيّ حتى لو لم يقبلنا الكون. كن كونياً في فكرك، فلا تعلّب فكرك، كن كونياً في إنسانيّتك، فلا تخنق إنسانيّتك، وعند ذلك يمكن أن تكون إنسانَ الكون. بعض الناس قد يكون كونيّاً في موقعه، ولكنّه ليس إنساناً كونياً، لأنّه يفكّر بحجم بلده فقط وبحجم دائرته الخاصة، ونحن نعتبر أنَّ الإسلام إنسانيٌّ وليس خاصاً {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات : 13].
كن كونياً في فكرك فلا تعلِّب فكرك، كن كونياً في إنسانيّتك، فلا تخنق إنسانيّتك، وعند ذلك يمكن أن تكون إنسان الكون.
في محاولة للتطبيع: لقاء شيخ الأزهر مع حاخام يهودي
أُعلن في القاهرة في الفترة الماضية (ك1، 1997م) أنّ شيخ الجامع الأزهر محمد سيّد طنطاوي اجتمع مع حاخام إسرائيل الأكبر (مئيرلاد)(1). وجاء ذلك بعد محادثات لهذا الحاخام مع الرئيس المصري وقوله: "حضرت إلى مصر لأعلن تأييد الدين اليهودي لعملية السلام، وآمل أن تكون هناك استجابة من علماء الدين الإسلامي". كيف تنظرون إلى هذا اللقاء، وهل تجدون مبرّراً شرعيّاً لاستقباله من قِبَل شيخ الأزهر، وهل يقبل الإسلام بالسلام وفق معايير التسوية، وهل لذلك دخلٌ في مسألة الحوار مع اليهود؟
لو كان الّلقاء مع حاخام يهودي ليست له صفةٌ رسمية سياسية، لقلنا لا مشكلة في ذلك، لأنّ القرآن دعانا إلى أن ندعو أهل الكتاب إلى كلمة سواء، ودعانا إلى أن نجادلهم بالتي هي أحسن، وأهل الكتاب هم اليهود والنصارى بالقدر المتيقّن، ولكنّ المشكلة أنّ هذا الحاخام يمثّل موقعاً رسميّاً في الدولة المغتصبة التي هي الدولة اللاشرعية من الناحية الإسلامية. لذلك فإنّ استقبال شيخ الجامع الأزهر الذي يمثّل من خلال الرمز موقعاً إسلامياً مميّزاً ومتقدّماً، يعني الاعتراف بالموقع الرسمي لهذا الحاخام، وبالتالي الاعتراف بالكيان الإسرائيلي من الناحية الواقعية. وإذا كانت الحكومة المصريّة قد صالحت إسرائيل وهي تتصرّف لا على أساس إسلامي، بل على أساس علماني، لا يجوز لشيخ الجامع الأزهر أن يستقبل هذا الرجل، لأنّ استقباله يمثّل اعترافاً بالكيان الصهيوني، وهذا أمرٌ يرفضه الإسلام جملةً وتفصيلاً، لأنّ الإسلام يرفض اغتصاب أراضي الغير لا سيّما المسلمين، ولكنَّ المشكلة أنّ الكثيرين من علماء الدين في مختلف البلدان الإسلامية، أصبحوا شبه موظّفين عند الحاكم، ولذلك، فإنّهم يتحرّكون حسب تعليماته أو حسب ما يرضى به مزاجُه، وإن كنّا نقدّر سابقاً ما كان لمشيخة الأزهر من مواقف مستقلّة عن الحاكم، حيث كانت تملك المواقف الممتازة جداً على مستوى حماية الإسلام والمسلمين، ولكنّ الأمور وللأسف الشديد تغيّرت عمّا كانت عليه.
أمّا مسألة أن يقبل الإسلام السلام وفق معايير التسوية، فقد قلنا مراراً لا شرعية لإسرائيل، ولا يجوز لأيّ مسلم أن يوقّع على أيّة وثيقة تعطي إسرائيل عنواناً شرعياً قانونياً في سيطرتها على بلاد المسلمين، أو على مقدّراتهم السياسية والأمنية والاقتصادية. ولذلك، لو أنّ العالم كلّه اعترف بإسرائيل، فإنّ المسلم الذي يتّقي الله ويخافه ويتحرّك من خلال إسلامه في هذه المسألة وغيرها لا يمكن أن يعترف بإسرائيل. أمّا علاقة ذلك بالحوار مع اليهود، فإنّ الحوار مع اليهود لا مشكلة فيه، ولكنّ هذه المسألة لا دخل لها في الموضوع، لأنّ الحوار مع اليهود يكون مقبولاً إسلاميّاً عندما لا يكون لهم صفة سياسية تجعل من الحوار معهم اعترافاً بهذه الصفة السياسية.
أمّا قول هذا الحاخام بأنّ زيارته لشيخ الأزهر تعني تأييد الدين اليهودي لعملية السلام، فإنّنا لا نولي أيّ اهتمام لهذا الكلام، لأنَّ السلام يكون بإرجاع كلّ الفلسطينيّين إلى أرضهم، وإعطائهم الحريّة في اختيار دولتهم وتحديد مصيرهم، ونحن نعرف أنَّ اليهود لا يوافقون على ذلك، بل إنَّ الدين اليهودي حسب ما يفهمه اليهود، يعتبر بأنَّ فلسطين هي أرضٌ لليهود وليست أرضاً للمسلمين أو للمسيحيّين. ومن هنا، فإنّ سلامهم يعني أن يعيش قسمٌ من المسلمين والمسيحيّين في فلسطين، ولكن تحت السلطة اليهودية.
ومن هنا، فإنّ ذلك لن يجد استجابة من علماء الدين الإسلامي، إذا كانوا من علماء الدين حقّاً، لا من علماء البلاط الملكي أو الرئاسي أو ممّن يجلسون على موائد السلطان.
لا شرعية لإسرائيل، ولا يجوز لأيّ مسلم أن يوقع على أيّة وثيقة تعطي إسرائيل عنواناً شرعياً قانونياً في سيطرتها على بلاد المسلمين.
الفكر الإسلامي والدور القيادي
يرى البعض أنّ عودة الفكر الإسلامي ليأخذ دوره القيادي لا يتمُّ بالتمنّيات والمواعظ، بل يحتاج ذلك إلى عملية تربويّة تستدعي جهداً كبيراً، هل ترون أنّ آليّة التطبيق متوفّرة في ظلّ جملة من التعقيدات التي أوجدتها بعض الخطوط والأفكار؟
في الواقع لا بدّ من تربية جماعية وفردية، وذلك بتقديم المواعظ النافعة والحلول العميقة للمشاكل الإسلامية، وللإطلالة بالإسلام على العصر، والعمل على تربية الجيل الإسلامي بمختلف وسائل التربية في المدرسة والنادي، وفي الّلقاءات العامة والخاصة. وما أخشاه أن يكون الناس قد انشغلوا بالمسألة السياسية عن المسألة التربوية، فإذا صنعنا جيلاً يعيش الوعي السياسي، ولكنّه فارغٌ من الوعي الثقافي الإسلامي ومن الخطّ التربوي الإسلامي، فإنّه لن يكون أميناً على السياسة الإسلامية، لأنّ فقدان القاعدة الثقافية والروحية تجعله قابلاً للانحراف من الناحية الفكرية، وإذا انحرف الإنسان بالفكر، فلا بدَّ أن ينحرف في كلّ مجالات حياته.
إذا صنعنا جيلاً يعيش الوعي السياسي، ولكنّه فارغٌ من الوعي الثقافي الإسلامي، فإنّه لن يكون أميناً على السياسة الإسلامية.
الزمن ونهايات القرن العشرين
يبقى من هذا القرن الحالي حوالي 700 يوم، ونُطِلُّ على قرنٍ آخر جديد. بداية القرن العشرين مختلفة تماماً عن نهايته، البداية كانت ثورات وفلسفة وعقائد وفكراً سياسياً، أين هي اليوم في نهاية هذا القرن؟ ويُقال أيضاً إنّ القرن المقبل هو دخولٌ إلى عصر الأديان، كيف تتّفق الأديان؛ كيف لا تتصادم، وكيف يتصوّر سماحة السيّد القرن المقبل؟
إنّني من الذين لا يركّزون على بدايات القرون، كما لا يركّزون على ما يسمّى باليوبيل الفضّي أو الذهبي أو الماسي. الزمن هو الزمن، ويبقى الإنسان هو معنى الزمن الذي يملأه. لذلك، فإنّ حركة الصراعات الدامية والقلقة والفوضويّة والقاسية في هذا القرن، هي نتيجة الظروف التي عاشها الإنسان في بعض المناطق، والتي صنعها في مناطق أخرى. وإنّنا سنبقى نستخدم المصطلح القرآني في أنّ مشكلة الإنسان، هي مشكلة استضعاف واستكبار، استكبار يريد أن يفرض سلطته في قوّته وغناه.
وهكذا، نلاحظ أنّ الذين كانوا يملكون القوّة في بدايات هذا القرن، حاولوا أن يستخدموا هذه القوّة في عملية تقاسم الجبنة بينهم، من خلال تقاسم النفوذ في مناطق الشعوب المستضعفة. ومن هنا، لم تكن حركة هذا القرن مجرّد حركة إيديولوجيات تريد أن تفرض نفسها، وإن كان هذا من التوجّهات البارزة في تجربة الاتحاد السوفياتي السابق، ولكنّها في عمق المسألة، كانت مسألة سلطات تريد أن تركّز مواقعها. وهكذا بالنسبة لأميركا، فكانت سياستها تتلخَّص في الاستيلاء على خطّ البترول ومنذ العشرينات من هذا القرن، حيث تعاظمت رغبة الاستيلاء هذه مع نهاية هذا القرن.
فالمسألة، هي مسألة صراع بين الشرق والغرب في عملية تقاسم النفوذ، التي كانت تتحرّك في الخطوط والساحات العامة، وفي الخطوط التفصيليّة التي تسمّى انقلاباً هنا، أو ثورة هناك.
أمّا ما نعيشه الآن، فإنّني أتصوّر أنّنا نعيش فترة انتقال عالمية، فالعالم الذي كانت تحكمه الحرب الباردة بين الشرق والغرب، قد تحوّل بعد سقوط الاتحاد السوفياتي إلى قوّة آحادية الجانب في المسألة السياسية والعسكريّة، وإن كانت قوّة متعدّدة الجوانب في المسألة السياسية والعسكريّة، وفي المسألة الاقتصادية. ونحن نلاحظ أنّ هناك نوعاً من الذهول في العالم، لأنّ الذين كانوا متحالفين، أصبحت مصالحهم تتنافر، ويفكّرون بحسابات دقيقة، وهي بحاجة إلى الكثير من الدراسة للوصول إلى النتائج الحاسمة في مسألة تجاذب القوّة، فنحن نعرف أنّ أوروبا لا تزال تتحرّك في نطاق التفاهم مع أميركا، ولكنّنا في الوقت نفسه نجد أنّ أوروبا تعمل من أجل أن تحقّق شخصيّتها ووجودها من خلال مشاريع الاتحاد الأوروبي في مقابل المشاريع الأميركية(1)، ونعرف أيضاً أنّ أميركا تخشى من هذا المارد الذي يملك خلفية حضارية وإمكانات هائلة، ويسعى لأن يكون قوّة كبرى إلى جانب القوّة الأميركية، كما نعرف كذلك أنّ هناك المارد الآسيوي المتمثّل في اليابان والصين.
ونستطيع أن نقول أمام رسم هذه الصورة العالمية إنّ هناك تململاً وتحفُّظاً لدى كافة القوى التي تمتلك الكثير من عناصر القوّة، والتي تشعر بضغوطٍ تحبسها في دائرة معيّنة.
والسؤال: متى ينطلق الصراع من جديد؟ إنّ هناك حرباً باردة اقتصادية تتحرّك الآن، ويمكن أن نصل إلى ما يشبه الحرب الباردة السياسية عندما يعيش الاقتصاد حصاراً من جانب ضدّ جانب آخر. وبالنسبة للأديان، فإنّها ستبقى في الساحة لأنّها تنطلق من فطرة الإنسان، وإنّني أتصوّر أنّ التجربة التي عاشتها الأديان في نهاية هذا القرن، وواجهت فيها الحرب الإلحادية والعلمانية، جعلتها تشعر بأنّ عليها أن تخفّف الكثير من صراعاتها، وممّا يدور في داخلها من أحقاد وعداوات وبغضاء تاريخيّة، وأنّ عليها أن تبدأ الحوار، حتى وإن لم يصل هذا الحوار إلى نتيجة إيجابية، ولكنّ هناك مناخاً جديداً لا سيّما بين الإسلام والنصرانية، ويمكن أن يمتدّ خارج هذين الدينين إلى اليهودية، ولكن تبقى إسرائيل حاجزاً بين حوار الإسلام وحوار اليهود، لأنّ اليهود يعتبرون أنّ إسرائيل أساس وجودهم وقوّتهم. لذلك، لن يكون هناك حوارٌ يهوديّ إسلامي، لأنّ إسرائيل سوف تكون في واجهة هذا الحوار، ونحن لا نؤمن بأنّ لإسرائيل شرعية في وجودها كدولة، لنحاورها من هذا الجانب.
الزمن هو الزمن، ويبقى الإنسان هو معنى الزمن الذي يملأه
وسائل الاتصال والخوف على الحضارات
ألَا ترون أنّ هناك خوفاً على الحضارات من وسائل الاتصال الجديدة والمخيفة في آن، فالانترنت اليوم يحاول أن يلغي حتى الأشياء الحميمة بين الجنس البشري، هل أنتم خائفون على الحضارات من وسائل الاتصال، خصوصاً وأنّ العالم اليوم أصبح قرية كونيّة صغيرة؟
إنّني أشعر بالكثير من الأمل والتفاؤل في هذا النوع من ثورة الاتصالات، لسببٍ بسيط جدّاً، وهو أنّني كإنسان يحمل فكراً قد لا أجد الفرصة لأن أفتح عقول العالم على ما أُفكّر به من خلال التعقيدات التي تحول بيني وبين الاتصال بالعالم، ولكن إذا انفتحت أمامي وسائل الاتصال بحيث أستطيع أن أُحرّكها بكلّ حريّة، فإنّ القضية تبقى قضيّتي، لأنّني بما أملك من قوّة أستطيع من خلالها أن أطرح فكري.. وقضية أن أستقبل في مقابل ما أطرحه من فكر، أن أستقبل فكراً آخر، يمكن أن يبعث الانحلال في المجتمع، أو يمكن أن يبعث ما يُعبّر عنه دينياً بالضلال أو الانحراف في المجتمع، فإنّني أعتقد أنّ مسألة الصراع لا تلغيك إذا لم تُلْغِ نفسك أنت، كنْ طاقتك، كنْ طموحاتك، كنْ حركتك، كنْ إنسانيّتك، كنْ الإنسان الذي يتحدّى، قد تسقط في الساحة ولكنّك لن تموت، لأنّك قد تتغلّب وتنتصر في ساحة الصراع.
إنّ الذين يخافون من الفكر الآخر هم الذين يعيشون الضعف في انتمائهم الفكري، فبمقدار ما تكون قويّاً في اقتناعك الفكري، بمقدار ما تملك أن تواجه الآخر، وأن تواجه وتعترف بوجود الآخر.
لذلك، إنّ وسائل الاتصال تمثّل بالنسبة لي الفرصة الجديدة الواسعة التي أستطيع فيها أن أعيش مع كلّ هذه القرية الكونيّة، لأكون صديقاً ومحاوراً لهم وإن لم ألتقِ بهم ويلتقوا بي.
أمّا الإشارة إلى الانترنت وأنّه يمكن أن يُلغي اللّقاءات الحميميّة داخل الأسرة والأهل والمجتمع، فأنا أعتقد أنّ الإنسان يظلّ بحاجة للشعور إلى هذا الجوّ الحميم، فالكثيرون من الناس كانوا يتصوّرون أنّ التلفزيون يمكن أن يمنع الأسرة والمجتمع من التلاقي، وبعد أن صمت الجميع وتجمّدوا أمام التلفزيون، وبعد أن استهلكوه رجع الإنسان إلى إنسانيّته، وإلى علاقاته الحميمة، فالناس يزورون بعضهم ويسهرون أمام التلفزيون، هو يتحدّث، ولكنّهم هم أيضاً يتحدّثون في شؤونهم وقضاياهم.
وتبقى إنسانية الإنسان موجودة، ولا يمكن أن يلغيها أيّ جهاز جديد، أو أيّة وسائل اتصال جديدة.
إنَّ الذين يخافون من الفكر الآخر هم الذين يعيشون الضعف في انتمائهم الفكري، فبمقدار ما تكون قويّاً في اقتناعك الفكري بمقدار ما تملك أن تواجه الآخر.
اتحاد إسلامي في مواجهة تحالفات الاستكبار
تجري الآن في أوروبا تحرّكات واسعة من أجل اتّحاد شبه كامل بين الدول الأوروبيّة، وعلى ذلك فمع حلول القرن الحادي والعشرين، من الممكن أن تصبح هناك ثلاثة محاور عالمية بالإضافة إلى المحور الأميركي وحلفائه، فهل تتوقّعون قيام اتحاد إسلامي فيما بين الدول الإسلامية لمواجهة أيّة أخطار مستقبليّة تنشأ من مثل تحالفات كهذه؟
في تصوّري أنّ الاتحاد الأوروبي لم ينشأ من شعار، وإنّما نشأ من دراسات مكثّفة في المسألة الثقافية والسياسية والاقتصادية والأمنية، ولا يزال الجدل دائراً في أكثر من مفردة من مفردات الاتحاد الأوروبي، ولا سيّما في مفردة الاتحاد النقدي الذي تعارضه أكثر من دولة أوروبية ولا سيّما بريطانيا. لذلك نحن نعتبر أنَّ من الممكن جدّاً لأي شعوب تلتقي تحت عنوان معيّن سواء كان قومياً أو دينياً أن تتوحَّد، ولكن بشرط أن تدرس كلّ المشاكل الداخلية التي تمنع من الوحدة، ومن هنا، لو بقيت مشكلة واحدة بين الدول الأوروبيّة لكان من الصعب أن يُسرعوا في الوحدة، ولذلك، فإنَّ هذا التأخّر في إعلان الوحدة، كان ناشئاً من خلال دراسة المشاكل الأوروبيّة.
أمّا مشكلتنا نحن، فإنّنا عندما نطرح الوحدة، نطرحها على أساس كلّ التناقضات الموجودة التي يمكن أن تفجّر الوحدة قبل أن تُولَد، لأنّها وحدةٌ غير طبيعيّة. ولذا، لا بدَّ أن نعالج المشاكل الداخلية عندما نريد لأي بلد أن يتوحّد مع أيّ بلدٍ آخر، وهذا ما لم تتوفّر ظروفه الملائمة في الوقت الحاضر.
مشكلتنا عندما نطرح الوحدة، أنّنا نطرحها على أساس كلّ التناقضات الموجودة التي يمكن أن تفجّر الوحدة قبل أن تُولَد.
تباين أم توافق
في إطار الحديث عن القرن الحادي والعشرين، ألَا ترون أنّ هناك تبايناً بين الإسلام وبين العلم في مفردات كالزواج المدني والتشريح والاستنساخ؟
نحن لا نعتبر أنّ هذه المفردات تمثّل الصراع بين الدين والعلم، لأنّ مسألة العلم، هي مسألة الاكتشافات في فهم أسرار الكون والجسد الإنساني وما إلى ذلك، أمّا بعض القضايا، مثل الزواج المدني وما أشبه ذلك، فهي وجهات نظر لا دخل للعلم بها.. وهناك فرقٌ بين العلم الذي يمثّل الحقيقة وبين العلم الذي يمثّل الحدس والتخمين والنظرية. فالدين ليس ضدّ العلم الذي ينطلق من حقيقة علمية، ولكنّه قد يناقش العلم الذي يتحرّك في خطّ النظرية، لأنّ النظرية قد تصدق وقد تكذب.
هناك فرق بين العلم الذي يمثّل الحقيقة وبين العلم الذي يمثّل الحدس والتخمين.
مفكّرو الإسلام
هل تعتقدون أنّ المفكّرين المسلمين هم بمستوى الصراع الفكري على مستوى العالم؟
إنّني أتصوّر أنّ هناك من المفكّرين المسلمين مَنْ يملكون مثل هذا الانفتاح الفكري الذي يستطيعون من خلاله أن يُنتجوا شيئاً عالمياً، أو يقدّموا الإسلام بطريقة يمكن أن يفهمها العالم أو ينفتح بها على حقائق الإسلام ومفاهيمه.
المسيحيّة والحروب الصليبيّة
هل تفرّقون بين المسيحية وبين الإرث الذي تحمله من الحروب الصليبيّة، وبالتالي ليكون الظلم مشتركاً بين اليهودية والمسيحيّة؟
الحروب الصليبيّة تماماً كالحروب الغربيّة اليوم، فليست المسألة مسألة المسيحية والإسلام، ولكنَّ المسألة مسألة السيطرة باسم المسيحيّة على البلاد الإسلامية. ونحن نعتقد بأنّ للمسيحية اليوم ذهنية منفتحة على الواقع الإسلامي، ولا سيّما من خلال بعض الدعوات التي تنطلق للحوار مع المسلمين.. أمّا اليهود، فإنّهم يحملون حالةً عنصرية، لأنّهم يعتبرون أنفسهم أنّهم شعب الله المختار، فهم يحتقرون العالم، ولا يحترمون المسيحية ولا الإسلام ولا يحترمون أيّ معتقد ديني آخر، لذلك، فاليهودية بمعناها السياسي الصهيوني، أو بمعناها الديني المعاصر، تمثّل حالة عدوانية ضدّ الشعوب، بينما النصرانية لا تمثّل ذلك.
اليهود يحملون حالة عنصريّة، فهم يحتقرون العالم ولا يحترمون المسيحيّة ولا الإسلام.
مقارنة
تقولون في حوار لكم: "إنَّ التحدّي هو أن يتحرّك الإسلام في خطابه السياسي والثقافي والاقتصادي والاجتماعي من أجل أن يواجه المشاكل التي يعيشها الإنسان في كلِّ هذه الدوائر، ليشعر هذا الإنسان أنّ الإسلام، كما يفتح أبواب السماء له إذا كان تقيّاً، فإنّه يفتح أبوابها له أيضاً من أجل أن يعيش في جنّة مصغّرة كمدخل للحياة في الجنّة الكبرى في الآخرة"، فهل ترون تناقضاً بين كلام سماحتكم، وبين الحديث الذي يقول: "الدنيا سجن المؤمن"؟
إنَّ الله تعالى أعطانا في الدنيا صورة الجنّة في الآخرة وعرَّفنا كيف ينعم أهل الجنّة بالجنّة، من أجل أن نعمل لنتأدّب بأخلاق أهل الجنّة، فنعيش في الحياة روحيّتها لنصل إلى رضوان الله.. ولا بدّ لنا أن نعيش حياتنا لنقوم بمسؤوليّتنا في إغناء تجربة الإنسان الثقافية والاجتماعية والسياسيّة والاقتصادية على ضوء منهج الله تعالى وما يريده للحياة، وأن نعمل أيضاً على أن تكون علاقاتنا ببعضنا علاقات يرضى الله عنها، لنكون في جنّة مصغّرة على الأرض، بحيث نمارس أخلاق أهل الجنّة {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ} [الحجر : 47]، وهذا لا ينافي أن تكون الدنيا سجن المؤمن، لأنَّ طموح المؤمن يكمن في الآخرة {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص : 77]، فالإنسان يعمل في الدنيا ليعيش الأجواء التي تقرّبه من الله، ليهنأ بسعادة الروح في الانفتاح على ما أراده الله منه.. وأمّا "أنَّ الدنيا سجن المؤمن"، لأنّ المؤمن الذي يتطلَّع إلى ما أعدَّ الله له في الجنّة "ممّا لا عينٌ رأت ولا خطر على قلب بشر" ومهما نال من سعادة الدنيا، فإنّه يرى أنّها تمثّل له سجناً، في مقابل ما ينتظره من سعادة الآخرة في الجنّة.
لا بدّ لنا أن نعيش حياتنا لنقوم بمسؤوليّتنا في إغناء تجربة الإنسان الثقافية والاجتماعية والسياسيّة والاقتصادية على ضوء ما يريده الله تعالى.
هل من انكماش سياسي إسلامي؟
في دراسة "للمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجيّة" يرى الباحث المصري إبراهيم كروان "أنّ الإسلام لم ينتهِ ولكنّه يواجه طريقاً مسدوداً" وأنّ الإسلاميين لا يمثّلون قوّة المستقبل في السياسة العربية إلاَّ "أنّ الثورة الإسلامية في إيران لا تزال فريدة منذ فوزها عام 1979، وفشلت إيران في إشعال شرارة عدوى ثورية، والنظامان الإيراني والسوداني ليسا في وضع يسمح لهما بتصدير الثورة"، هل توافقون على هذا القول، وبرأيكم هل بدأت حركة الانكماش السياسي تقبض على إمكانية انتشار الإسلام واتّساع نطاقه الاجتماعي والفكري؟
نحن لا نوافقه على هذا القول بالطريقة التي تحدّث بها، صحيحٌ أنَّ هناك مشاكل في حركة الإسلام السياسي، ولكنَّ هذه المشاكل لم توصله إلى الطريق المسدود، وإن كانت عطَّلت أو حاصرت بعض مواقعه.. فالإسلام الحركيّ لا يزال يشغل العالم، والدليل على ذلك، هو أنَّ الغرب وعملاءه يشنّون عليه حرباً عالمية تحت عناوين مكافحة الإرهاب والتعصّب والتشدّد، وما زال هذا الإسلام يتحرّك في كثير من المواقع رغم هذه الحرب، ونحن نجد أنَّه إذا كان هناك حريةٌ للشعوب في الاستفتاء الحرّ، لوجدنا أنّ الإسلاميّين وفي أكثر من بلد إسلاميّ سيختارهم الشعب ممثّلين له بسبب انتمائهم للإسلام الحركي.
نحن نعتقد أنّ الإسلام يخوض صراعاً صعباً ومركّزاً، ولكنّه لم يصل إلى الآفاق المسدودة أمامه، ولم ينتهِ كما قال هذا الباحث.
أمّا بالنسبة لإيران والسودان وأنّهما لم يستطيعا تصدير الثورة، فربّما لم يكن تصدير الثورة مطروحاً منذ البداية، ولكنّ المطروح هو تصدير الوعي للفكر الإسلامي، وأعتقد أنّ إيران نجحت نجاحاً كبيراً في هذا المجال، حيث استطاعت أن تصنع صحوة إسلامية وحركة إسلامية في وعي المسلمين في العالم حتى ولو لم ينفتحوا على الصراعات القائمة اليوم. إنّنا نعتبر أنَّ الجمهورية الإسلامية في إيران، والسودان، وكافة الحركات الإسلامية، استطاعوا جميعاً تحقيق الكثير من الوعي السياسي الإسلامي الذي يُخرج الإسلام من الدوائر الضيّقة التي يسجنه فيها التقليديون إلى دائرة واسعة تشمل الحياة كلّها.. وهكذا، فإنّ الإسلام ينتشر ويتّسع لا سيّما في النطاق الاجتماعي والفكري، بالرغم من وجود الكثير من المشاكل والحرب الاستكباريّة المعلنة ضدّه.
لا يزال الإسلام الحركيّ يشغل العالم والدليل على ذلك هو أنَّ الغرب وعملاءه يشنّون عليه حرباً عالميّة تحت عناوين مكافحة الإرهاب والتعصّب.
آفاق الخطاب الإسلامي
يرى (برهان غليون) أنّ الحركات الإسلامية "تجترُّ" في خطابها، الخطابات السياسية الأخرى كالحركات القومية والماركسية وغيرها، وهي تستهدف طلب الحكم كغيرها ولا تستهدف بالضرورة تعميم الفكر الإسلامي، وهي في الأساس لا تمتلك مشروعاً سياسياً وفكريّاً متكاملاً، ما هو ردُّكم؟
إنَّ الخطاب الإسلامي السياسي(1) قد يلتقي مع أيّ خطاب سياسي آخر، في مواجهة الاستكبار والظلم وفي مسألة تحرير الإنسان من سلطة المستكبرين. ومن هنا، فنحن نعتبر أنَّ الخطاب السياسيّ الإسلامي في رفض الاستكبار بكلّ مواقعه، سواءً كان استكباراً سياسيّاً أو أمنياً أو اقتصادياً، هو خطابٌ قرآني. وقد حذَّر الله الضعفاء من أن يستضعفوا أنفسهم أمام المستكبرين، ممّا يوحي أنّ على الضعفاء أن يواجهوا استكبار المستكبرين لإسقاطهم، وقد حذّر الله المؤمنين جميعاً من الركون إلى الظالم، والرضا به أو التعاون معه، أو حتى الوقوف موقف الحياد فيما بين الظالم والمظلوم {وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود : 113] ممّا يعني أنّ الخطاب الإسلامي موجّهٌ لرفض واقع الظالمين ونهب ثروات الشعوب المستضعفة، وقد جاء الخطاب الماركسي أو القومي ليلتقيا مع الخطاب الإسلامي في هذه القضايا، لا ليلتقي هو معهما. هذه نقطة.. أمّا النقطة الثانية وهي أنّ الحركات الإسلامية، تستهدف طلب الحكم كغيرها، ولا تستهدف بالضرورة تعميم الفكر، فإنّنا نقول: إنّ مسألة الحكم في الإسلام، مسألةٌ أساسيةٌ جدّاً في التفكير والتشريع الإسلامي، لأنَّ الله سبحانه وتعالى حدَّثنا عن دور الرُّسل والرسالات {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد : 25] فالدور هو للقيام بالعدل بين الناس والمجتمعات والدول، ونحن نعرف أنّنا لا نستطيع أن نحقّق العدل في العالم إلاّ بحكم قوانين العدل التي شرّعها الإسلام، ويفرض سلطته ليمنع الظالمين من الظلم، ويعطي لكلِّ ذي حقٍّ حقّه. ولا بدّ لحركة العدل من سياسة تواجه كلّ التحدّيات الأخرى، ومن شريعة تنظّم للناس أوضاعهم وحقوقهم، ولذلك، فإنّ مسألة ارتكاز الإسلام على العدل، تفرض أن تكون هناك سلطة وحكومة ودولة تعمل على إقامة العدل بين الناس بالطريقة التي تحفظ شؤون المجتمع وقضاياه، فقضية الحكم في الإسلام ليست قضية طارئة على التفكير الإسلامي، بل إنّها قصّة أساسيّة، والله تعالى يقول: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة : 44]، {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة : 45]، {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة : 47].
وعلى هذا الأساس، فالحكم في الإسلام قضيةٌ يتوقّف عليها نظام الإنسان، لأنّه لا نظام للإنسان، يملك فيه هذا الإنسان أن يعيش في راحة وتوازن إلاّ من خلال الحكم. ومن الطبيعي أن يطالب المسلمون بحكم الإسلام لا بحكم غيره. أمّا قوله، بأنّ الحركات الإسلامية لا تعمل على نشر وتعميم الفكر الإسلامي، فهذا غير صحيح، لأنّنا نجد أنّ الحركات الإسلامية التي وُلدت في إيران ومصر والعراق ولبنان وغيرها من البلدان، هي التي استطاعت أن تعمّم الفكر الإسلامي وتمنحه صورة معاصرة، بحيث يستطيع القارئ المثقّف، عندما يقرأ خطاب الحركة الإسلامية، أن يرى بأنّ الإسلام قادرٌ على أن يحلَّ مشاكل الإنسان المعاصر.
وأمّا قوله بأنّ الحركات الإسلامية لا تمتلك مشروعاً سياسياً وفكرياً متكاملاً، فإنّنا نسأل: إذا كان المقصود بذلك المشروع التفصيلي الذي يضع القانون بكلّ تفاصيله وجزئياته، فأين هو المشروع التفصيلي للحركات الماركسية والقوميّة؟
أمّا الخطوط العامة في الإسلام التي تتحرّك عندما يُمسك الإسلام بالسلطة لتقنّن التفاصيل، فهي موجودة، لذلك، رأينا أنّ الجمهورية الإسلامية في إيران وبعد نجاح الثورة هناك، وضعت الدستور، ثمّ وضعت القانون على هدي الإسلام، ولا تزال في خطواتها في هذا المجال على طريق التكامل.
حذّر الله المؤمنين جميعاً من الركون إلى الظالم والرضا به، أو الوقوف موقف الحياد فيما بين الظالم والمظلوم.
واقعيّة وليس تراجعاً
يُلاحظ أنّ الاندفاع الإسلامي الذي عُرِف مع انتصار الثورة في إيران قد تراجع وغلبت عليه البراغماتية(1) ما هو تعليقكم لهذا الأمر؟
لا أعتقد بمقولة التراجع، فلكلّ حركة حالةٌ انفعالية، ولا يقتصر الأمر على الحركة الإنسانية فقط. إنّ شعارات الجمهورية الإسلامية في إيران عشية انتصارها كانت مثالية، وقد رأينا شيئاً من ذلك في الثورة الصينية وفي تشبيه ماوتسي تونغ لأميركا بأنّها نمرٌ من ورق. إنّ الثورة لا تستطيع أن تجمع جمهورها حولها بالعقلانية فقط.. أمّا عندما تتحوّل إلى دولة، فعليها أن تراقب الظروف حولها. إنّ الواقعية ليست حالة تراجع، بل بداية التخطيط لتحويل مفاهيم الثورة إلى واقع، نعم من الممكن أنّ بعض الحركات الإسلامية دخلت في تصوّر غير واقعي، ثمّ اصطدمت بالواقع، لكنّ إيران ليست كذلك، لأنّ الإمام الخميني (قدّس سرّه) واجه واقعية التجربة في حياته، وما بعده هو استمرارٌ لهذه الواقعية من خلال إدراك الظروف الموضوعية.
الواقعية ليست حالة تراجع، بل بداية التخطيط لتحويل مفاهيم الثورة إلى واقع.
طردٌ أم إزالة للوجود
المقاومة ضدّ إسرائيل، هل هي بالنسبة إليكم قتالٌ لطرد المحتلّ أم أنَّ تصوّركم النهائي لها هو إزالة "دولة" إسرائيل؟
إنّنا لا نؤمن بشرعية دولة إسرائيل، لقد قامت هذه الدولة على طرد شعب آخر، ولم تقم من خلال الشروط الشعبية لولادة الدولة، نحن لا نوافق على وجودها، كما لا يوافق الفرنسيون ـــ على سبيل المثال ـــ إذا أخرجهم أحدٌ ما من أرضهم وأقام دولة عليها.. نحن نقاتل إسرائيل لإزالة الاحتلال، لأنّ هذا ما نستطيعه، أمّا إزالة الدولة، فهو أمرٌ لا نملك القوّة فيه ولا الظروف الموضوعيّة في الوقت الحاضر على الأقلّ تستطيع تحقيقه الآن، لكن لو توفّرت هذه الظروف لقيام حركة عربية أو إسلامية شاملة سنكون جزءاً من هذه الحركة. وعلينا أن نعمل في حركة المستقبل على التخطيط وتوفير الأسباب والظروف الموضوعية لتحقيق ذلك، وهو طرد "إسرائيل" من فلسطين.
إنَّنا لا نؤمن بشرعية إسرائيل ولا نوافق على وجودها، وعلينا أن نعمل في حركة المستقبل لطرد "إسرائيل" من فلسطين.
الخطاب الإسلامي: حيويّة الرمز والقضية
يعزو (عبد العزيز بلقزيز) السبب في تقدّم الحركات الإسلامية إلى خطابها السياسي وقوّته الدعوية، لأنّه يُتقن إنجاز كيمياء ناجعة يمتزج فيها الاجتماعي بالأخلاقي والسياسي بالمقدّس، ويرتفع عنها أيُّ استفهام من قِبَل الجمهور، ويعتبر ذلك احتكاراً بسبب انقطاع الصلة بين سائر الخطابات السياسية، وبين مجال الرمز الديني، ثمّ إنّه يؤكّد بأنّه خطابٌ غير متجدّد يحمل المرادفات التاريخية الإسلامية ذاتها، وهو ليس خطاباً في العقيدة، بل في السياسة، وليس فقهاً ولا كلاماً، بل تجوز تسميته بعلم الكلام السياسي.. ما ردّكم على ذلك؟
من الطبيعي لكلّ خطاب سياسي أن ينطلق من قاعدة فكريّة، قد تكون قاعدة دينية أو فلسفية، وهذا ما أنتهجه الفكر الشيوعي عندما كان يطلق خطابه السياسي حيث كان يطعّمه بمفردات الفكر الماركسي على قاعدة صراع الطبقات وما إلى ذلك، فالمادية الديالكتيكية أو المادية التاريخية أطلقت خطابها السياسي من خلال قاعدتها الفلسفيّة التي أرادت أن تركّزها داخل جمهورها، حتى ينسجم الخطاب السياسي مع الخطاب الثقافي. وهذا خطٌّ عام في حركة أيّ خطاب سياسي.. والإسلاميون عندما يحرّكون السياسة، فانطلاقاً من الدعوة إلى الإسلام، فلماذا يحقُّ لغيرهم أن يحرّكوا السياسة من خلال ثوابتهم الفكرية ولا يحقُّ لهم ذلك؟ ولذلك، فالدعوة إلى الإسلام قد تكون من طريق السياسة أو الجهاد أو الاجتماع أو من طريق الأدب، فمسألة أن تقدّم الفكرة أن تنطلق من دراستك للإنسان الذي تقدّم إليه الفكرة في نقاط ضعفه وقوّته حتى تقنعه بفكرتك. وعلى هذا، كان طبيعيّاً للإسلاميين أن ينطلق خطابهم السياسي من القاعدة الإسلامية سواء على مستوى مفردات العقيدة، أو امتدادات الشريعة، أو على مستوى المنهج، وهذا شيءٌ طبيعي جداً كما قلنا، ولا سيّما أنّ الجمهور الذي يتلقّى الخطاب السياسي في ساحاته، هو جمهورٌ إسلامي يختزن هذه المفردات. وعندما أُخاطب جمهوراً يؤمن بالله، فلا بدَّ أن أربط السياسة بالله، ليعرف هذا الجمهور أنّ حركته السياسية، ليست مجرّد لعبة نتلهّى بها، بل هي تنطلق من عمق إيمانه وعقيدته وعندما أريد أن أُطلق الخطاب السياسيّ، ينبغي أن أُطلقه من خلال المسؤوليات الشرعية التي تحكم هذا الجمهور، فيعتبر أنَّ حركته السياسية في هذا الخطّ هي صلاةٌ وصومٌ وعبادة، باعتبار أنّ الصلاة والصوم من أمر الله، وهذا الخطاب هو أمر الله.
أمّا حديثه عن أنَّ الخطاب الإسلامي خطابٌ غير متجدّد، فمفردات أيّ خطاب في العالم الحديث اليوم، عن الظلم والعدل، عن الحرية والعبودية، عن الاستعمار والاستكبار والاستقلال، أيُّ تجدّد فيها؟ هي مفردات واحدة عبر التاريخ، لأنّها مفردات حركة الإنسان في مسألة العدل والظلم والاستكبار والاستضعاف. لذلك، نحن نقول: إنَّ الخطاب الإسلامي في التجارب الإسلامية لا يختلف عن أيّ خطاب يدعو إلى محاربة الظلم والاستكبار وترسيخ العدالة، وإن كان المنهج الإسلامي في خطابه السياسيّ يختلف عن المنهج السياسي للخطاب العلماني، ومن هنا، فليس الخطاب السياسي علم كلام سياسيّاً، ليس فقهاً، ولكنّه يرتكز على الفقه، وليس علم كلام، ولكنّه يفتح نظريات علم الكلام على واقع الناس، فالخطاب الإسلامي السياسي، خطاب ذكيٌّ حركيٌّ متنوّع، مع ملاحظة أمرٍ وهو، أنْ ليس كلّ خطاب إسلامي يحمل هذه المفردات، لأنَّ هناك من المسلمين من يُطلق خطاباً متخلّفاً على مستوى الفكر، فبعضٌ من هؤلاء المسلمين يعيشون في قبضة الخرافة والتخلّف.. ونحن عندما نتحدّث عن الخطاب السياسي للحركة الإسلامية، فإنّنا نقصد الحركة الطليعيّة التي تعيش العصر بكلّ همومه وقضاياه، كما تعيش الإسلام وعياً وحركة في كلِّ مفاهيمه وخطوطه.
أمّا الاستفادة من الرمز الديني الذي تفتقده الخطابات السياسية الأخرى فإنّه يمثّل العنصر الحيوي للخطاب الديني السياسي الذي ينفتح على الوجدان الإسلامي للجماهير بحيث تشعر بأنّه خطابها الذاتي الذي يتحدّث عن عمق الإيمان عندها في الرمز والقضية والحركة والامتداد، لا سيّما إذا كان هذا الرمز شخصاً عظيماً تتجسّد فيه القِيَم الإسلامية في بُعدها الإنساني، وانفتاحها الروحي وامتدادها الحركي، ممّا يجعل القضية متجسّدة في حركة الواقع بدلاً من أن تبقى فكرة في الوجدان.
عندما نتحدّث عن الخطاب السياسي للحركة الإسلاميّة فإنّن نقصد الحركة الطليعيّة التي تعيش العصر بكلّ همومه وقضاياه.
الإسلام: سبيل تقدّم أم تأخّر؟
يُقْرِنُ البعض التخلُّف بالدين، ويعتبر أنّ البلاد الإسلامية يسودها التخلّف والانحطاط، بينما البلاد الغربية متطوّرة ومتقدّمة جداً ولا تطبّق الدين، فكيف نواجه هذا؟
لا نستطيع أن نقول: إنَّ التخلّف ينطلق من التزام الشعوب والبلدان الإسلامية بالإسلام، لأنَّ التخلّف ينطلق من الجهل ومن الظروف الموضوعية، ومن القوى التي تعطّل النموَّ الثقافي والعلمي والصناعي والزراعي لأيّ بلد من البلدان. وإذا كان السؤال يتحدّث عن الغرب المتقدّم البعيد عن الدين، فإنّنا نجد أنَّ هذا الغرب ليس كلّه متقدّماً، فما رأيه بأميركا اللاتينية ومجاهل البرازيل واستراليا وحتى داخل أميركا نفسها في المناطق التي لا تجرؤ الشرطة على دخولها؟ هناك بعض البلدان الغربية التي أخذت بأسباب المدنية بطريقة وبأخرى استطاعت أن تصل إلى مستوى كبير من التقدّم العلمي، ولكنّها في الوقت نفسه تعاني تخلّفاً على مستوى واقع الشعوب في طريقة حياتها وتعاملها مع بعضها البعض. وهكذا، فالتخلّف يمكن أن يتمثّل في كثير من أساليب العلاقات الإنسانية بين جهةٍ وأخرى، ونحن إذا اعتبرنا أنّ الغرب متقدّم علمياً في بعض مواقعه، ولكنّنا نجده متخلّفاً في العلاقات الإنسانية، فليس هناك علاقات إنسانية حقيقيّة، ولذلك، تمكّن الكثيرون الذين يأتون من الهند وغيرها، أن يصنعوا في أميركا لكلّ مرحلة ديناً جديداً.
لذلك، علينا أن ندرس الإسلام، هل هو سبيل تقدّم أو سبيل تأخّر وتخلّف؟ علينا أن ندرس المفاهيم والخطوط الإسلامية والشريعة الإسلامية، وندرس مشاكل الإنسان، لكي نرى كيف يمكن للإسلام لو طُبّق أن يعطي للواقع وللإنسان والحياة كلّ الحلول والأبعاد الحضاريّة. مشكلة الكثيرين أنّهم لم يدرسوا الإسلام جيّداً، ونحن نعيش في عالم لا يُطبَّق الإسلام فيه، بل إنّه فرض تخلّفه على فهمه للإسلام، ولذا، كان المسلمون شيئاً والإسلام شيئاً آخر.
التخلّف ينطلق من الجهل، ومن القوى التي تعطّل النموّ الثقافي والعلمي والصناعي والزراعي.
الثقافة "الأصولية"
يرى أحد الباحثين أنّ "هناك ثقافة أصولية تؤجّج للتعصّب والكراهية لدى الشباب اليائس من المستقبل تروّجها على أوسع نطاق كتابات المودودي(1) وسيّد قطب والإمام الخميني" ما تعليق سماحتكم على هذا القول؟
نحن لا نتصوّر أنّ هذه الشخصيات الإسلامية الثلاث مع ما بينها من فروق تدعو إلى البغض والعداوة، ولكنّها تؤكّد على الالتزام بالخطّ، وإلاّ فنستطيع أن نقول إنّ الثقافة اليساريّة التحرّرية تدعو إلى العداوة والبغضاء، لأنّها تؤكّد على الالتزام بالحرية والاستقلال والعدالة.
إنّ الإسلاميين يدعون إلى الالتزام بخطّ الله وبدينه وبكلّ المفاهيم الإسلامية الأخلاقية والسياسية والاجتماعية في الحياة، ويدعون إلى رفض عبادة الطاغوت.. وإذا كان رفض الظلم والطاغوت يمثّل ثقافة "حاقدة" تعيش البغضاء للانحراف، فهذا أمرٌ بشرّف أصحابه ولا يمثّل حالة سلبية، ولا أعتقد أنّ هذا مختصٌ بالمسلمين وحدهم، بل يتعدّاهم إلى كلِّ الذين يعملون ضدّ الطاغوت والاستكبار من أجل حرّة الشعوب وكرامة الإنسان.
إذا كان رفض الظلم يمثّل ثقافة "حاقدة" تعيش البغضاء للانحراف، فهذا أمرٌ يشرّف أصحابه.
الأصولية: توضيح للمصطلح وتصحيح للفكرة
من دون تحديد مفهوم واضح للأصولية، يقول الدكتور غسان سلامة، إنّ الأصولية بشكلها المتطرّف، صارت جزءاً من الماضي، صارت وراءنا، صرنا في مرحلة ما بعد الأصولية، لكنّ الأمر لن يكون بالضرورة لمصلحة فريق معيّن، هناك مناخ جديد لا يثق بالأنظمة القائمة، لكنّه في الوقت نفسه لا يبدي ارتباطاً بالماضي العاطفي، كيف تنظرون إلى هذا التقييم؟ وهل تعتبرون أنَّ الحركات الإسلامية مشمولة به؟
بعض الباحثين لا يحدّدون المصطلح بدقّة، فالأصولية التي يتداولها الناس على ألسنتهم، تتحرّك من خلال مصطلح غربي، عاش الغربيون تاريخه كمشكلة، وهو الأصولية المسيحيّة التي برزت في القرون الوسطى وما بعدها، وهي تتمثّل في خطّين: إلغاء الآخر، أي أنَّ اتباع هذه الأصولية لا يسمحون لأيّ فكرٍ آخر أن يتعايش معهم، أو يعبّر عن نفسه، والخطّ الثاني، أنّهم يرون أنّ العنف هو السبيل الأمثل لحلّ كلّ المشاكل. وعلى ضوء هذا حاول هؤلاء الباحثون أن يأتوا بكلّ هذا التاريخ الغربي الذي يختزن هذا المصطلح ليسقطوه ويعمّموه على الحركات الإسلامية، وبهذا أطلقوا عليه اسم الأصولية. ونحن نعرف أنّ الحركات الإسلامية على قسمين: هناك حركات إسلامية متخلّفة في فهمها للإسلام، ولكن هناك حركاتٌ إسلامية تفهم الإسلام بوعي، وترى أنَّ الإسلام لم يلغِ الآخر، وأنَّ العنف ليس هو الأساس في حركتها، فيقول تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء ـــ إلى أرض مشتركة ـــ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران : 64]، وقال سبحانه أيضاً: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [العنكبوت : 46]، وقال سبحانه أيضاً: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت : 34].
ومعنى كلّ ذلك أنَّ الأمر إذا دار بين الرّفق والعنف، وكنت قادراً على أن تحلَّ المشكلة بالرفق، فعليك ألّا تلجأ إلى العنف، وقد ورد في الحديث عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): "إنّ الله رفيقٌ يحبُّ الرّفق ويعطي على الرّفق ما لا يعطيه على العنف"(1)، وهذا يرمي إلى أنّ الإسلام لا يتبنَّى العنف كأساس، بل يتبنَّى العنف في مقام ردّ العنف، إمّا وقائياً أو دفاعياً، وفي الوقت نفسه، فإنَّ الإسلام لا يلغي الآخر، بل يتعايش معه على أساس كلمة السّواء والأرض المشتركة.
وأمام هذا السؤال، الكاتب يقول: إنّ الأصولية أصبحت من الماضي، الواقع ليس كذلك، لأنّ هناك حركات إسلامية موجودة في أكثر من بلد إسلامي، في لبنان وإيران والسودان، وفي فلسطين وفي مصر في بعض مواقعها الأساسية، وفي غيرها، وهذه حركات لا تعتبر أنَّ العنف هو الطريق الوحيد، بل تأخذ بالعنف في قضايا التحرير، كقضية المقاومة ضدّ الاحتلال والاستكبار، وهذا يمثّل عنفاً حضارياً تعترف به كلُّ الشعوب والديانات لأنّها تعترف بممارسة العنف ضدّ من يعمل على فرض وجوده بالقوّة والاحتلال.
وهكذا نجد أنَّ الحركات الإسلامية تعترف بالآخر، حتى أنَّجبهة الإنقاذ الإسلامية دخلت في حوار مع العلمانيّين في لقاء الثمانية الذي عُقد في روما(2)، وكانت مستعدّة أن تتعاون مع كلّ الاتجاهات اليسارية والعلمانية الأخرى.
لذلك، نحن نقول: إذا كان يُقصد بالأصولية الحركات الإسلامية، فالحركات الإسلامية ليست أصولية بالمعنى التاريخي الغربي، نعم، هي أصولية باعتبار أنَّها باعتبار أنَّها ترتبط بالتراث، والتراث ليس ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، فهو تراث الحقيقة، لأنّه وحي الله سبحانه وتعالى.
أمّا مسألة الحديث عن الفئات الأخرى، وأنّها لا تعترف بالأنظمة وتثور عليها، وهي لا ترتبط بماضٍ عاطفي، فصحيحٌ أنَّ هناك الكثيرين من اليساريّين والقوميّين من غير الإسلاميين، يقفون موقفاً سلبياً من كثير من الأنظمة الاستبداديّة، ولكنّهم لا يزالون مرتبطين بالماضي عاطفياً، لأنَّ الرواسب التي تشدّ الإنسان إلى ماضيه، لا يمكن أن تزول في مدى مئة سنة أو ألف سنة، بل تبقى تفرض نفسها على الإنسان. وهذا ما نلاحظه عندما ينطلق ملحدون إلى ساحة الكفاح والمقاومة.. وهنا نسأل هؤلاء: على أيِّ أساس تقاومون؟ يقولون لك: من أجل أن يحيا الوطن، لو كنّا ماديّين ما معنى أن نموت ليحيا الآخرون. فمفهوم (أموت ليحيا الآخرون) نحن نعتقد أنّ هذا مفهوم ديني، لأنّه ما معنى أن يموت الإنسان ليحيا غيره، إذا لم يكن هناك تعويض معنوي، له ارتباط روحي بمسألة الموت؟ وعلى هذا، فحتّى العلمانيون يرتبطون بالمسألة العاطفية عند الموت. فالبشرية إذا بلغت حدّاً، بحيث أنّها كانت مادية بكلِّ جوانبها، وجفَّت فيها كلُّ رواسب الروح، فلا يمكن أن يضحّي إنسانٌ في سبيل إنسانٍ آخر. ومن هنا، فإنَّ رواسب الماضي لا تزال مستحكمة بعواطف الكثيرين من الناس.
المقاومة ضدّ الاحتلال والاستكبار تمثّل عنفاً حضارياً تعترف به كلّ الشعوب والديانات.
استثمار الفرص طريق لإثبات الوجود
ينكبّ اليهود على دراسة جينات العقل اليهودي إثباتاً لمقولة إنّه العقل "المبدع"(1). السؤال: بعد أن استولى اليهود على حركة المال والسلطة، نرى واقعنا يحرق كلّ القضايا الكبيرة.. ألَا ترون في ذلك تهديداً لكلِّ هذا الواقع؟
إنَّ علينا أن ندرس ظروف الذين استفادوا من الفرص المتاحة لهم في عملية التقدّم في المواقع الاقتصادية أو السياسية أو العلمية أو الإعلامية، ونحن عندما ندرس تجربتهم لا على أساس أن نسقط أمام هذه التجربة لنتصوّر أنّهم المبدعون وأنّنا المتخلّفون، وأنّهم يملكون العقل الذي لا نملكه. علينا ألاّ يكون ذلك على طريقة بعض الملوك العرب الذي قال: "لا بدّ لنا من أن نزاوج بين العقل اليهودي والمال العربي، لأنَّ العقل اليهودي بلا مال، والمال العربي بلا عقل، فيجب أن نعطي المال لمن يملك العقل، وأن نعطي العقل لمن يملك المال". والواقع أنّ هذا سقوطٌ أمام الإعلام اليهودي الذي انضمّ إليه الإعلام الأميركي. ونحن نعرف أنَّ اليهود يسيطرون على مفاصل الإعلام في العالم وينشرون بأنّهم العقل المبدع، أمّا بقيّة الشعوب فإنّهم لا يملكون هذا المستوى من العقل.. لكنّنا عندما ندرس المسألة نراها أنّها بعيدة عن ما يُسمّى العقل المبدع، كلّ ما في الأمر أنّ اليهود أخذوا بأسباب الفرص الموجودة لديهم، فهم يخطّطون للسيطرة على العالم. أمّا نحن، فمشكلتنا بمصادرة الغرب للعقول الكبرى التي لدينا، فاشترى هذه العقول ووظّفها في أكثر الأجهزة العلمية، سواء في أجهزة الفضاء أو الذرّة أو في مجالات أخرى.
فإذاً، إنّ مسألة العقول الموجودة في أميركا أو غيرها من العرب والمسلمين الذين تعلَّموا وأصبحوا أميركيّين أو أوروبيّين تعني أنّ العقل العربي والإسلامي قادرٌ أن يبدع على مستوى التقدّم العلمي. وعندما ندرس كثيراً من النجاحات الاقتصادية لدى التجّار والاقتصاديّين العرب نجد أنَّ هناك تفوّقاً في كثير من المواقع على الاقتصاد اليهودي، ومعنى ذلك أنّنا نملك عقولاً وإمكانات إبداع، ولكنّ المشكلة أنّ الأنظمة الحاكمة في واقعنا تعمل على إسقاط هذه العقول وعلى عدم الاستفادة منها.. فالعالم عندما يأتي ليعمل فإنّه لا يجد وظيفةً في العالم العربي، بل يجد نوعاً من أنواع الاضطهاد والحصار. ونحن نعرف أنّه في بعض البلدان العربيّة إذا استلم الأميركي وظيفة علمية، فإنّهم يعطونه راتباً عالياً، وإذا استلم الأميركي من أصل عربي الوظيفة نفسها، فإنّهم لا يعطونه الراتب نفسه.
لذلك، نقول: إنَّ اليهود وصلوا إليه من خلال أنّهم خطَّطوا وعملوا على توزيع الأدوار لينفذوا إلى مفاصل الواقع الاقتصادي والسياسي والإعلامي في العالم، ونحن قادرون على ذلك، والفرص متاحةٌ أمامنا.. لكنّ المهم أن نؤمن بأنّنا شعبٌ يمكن له أن يقف في صفّ الشعوب الأخرى المتمدّنة والمتقدّمة، وأن يتفوَّق عليها. والقضية هي، أن نثق بالله ونثق بأنفسنا وألاّ نُسقط رموزنا العلمية والتقنيّة، لأنَّ الأُمّة التي تقتل عقولها ورموزها، هي أُمّة تعيش على هامش التاريخ.
الأُمّة التي تقتل عقولها ورموزها هي أُمّةٌ تعيش على هامش التاريخ.
اختلافنا واختلافهم
في الذكرى الثالثة لمقتل إسحاق رابين(1) كتبت صحيفة "معاريف" الصهيونية: "الاختلاف بالرأي يشكّل جزءاً شرعياً من العملية الديمقراطية، ولكن يجب أن نتذكَّر أنّ أحد الأهداف من مقتل رابين هو توسيع الشرخ في الأُمّة اليهودية" ألَا تجدون أنّ أزمة المجتمع الصهيوني الداخلية تشابه أزمتنا في صراع اليمين واليسار هناك.. ثمّ هناك من يبرّر الانقسام ليقول إنذ الانقسام أصبح سمة العالم.. فهل ثمّة انقسامٌ يُجدي وانقسام يُودي؟
إنّ اليهود منقسمون ذاتياً بين اليهود الشرقيّين والغربيّين، ومنقسمون سياسياً بين حزْبَيْ "العمل" و"الليكود" وأحزاب أخرى، ولكنّ المسألة هي أنّ هذا الانقسام اليهودي مهما توسّع، فإنَّه لا يصل إلى الحدّ الذي يخون فيه اليهودي يهوديّته، أو يترك فيه خطراً على الوجود اليهودي في فلسطين.. فهم ومن أجل "إسرائيل" يتَّحدون بكلّ عمق الاتحاد وامتداده في مواجهة العرب وكلّ العالم، وهم قد يختلفون في الوسائل، إن كان لناحية إسقاط العرب، أو لناحية تأكيد القوّة اليهودية في المنطقة والعالم.. فكلٌّ من حزبي "العمل" و"الليكود" يستعمل يداً من حديد، إنّما الفرق أنَّ هناك من يلبس قفّازاً من حديد، وهناك من لا يلبس هذا القفّاز.
ومن هنا، فإنّ انقسام اليهود لن يفيدنا شيئاً، لأنَّ انقسامهم يتمحور حول إضعافنا فقط، فهناك مَن يريد إضعافنا بنسبة 70% وهناك من يريد إضعافنا 100%، وليس هناك يهوديّ يحمل أيّ حبّ أو ودّ لعربي أو مسلم.. وأمّا نحن، فإنّنا إذا اختلفنا نتمزّق، ونكون كما كان اليهود في عصر النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) {بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر : 14].. نحن نتصوّر أنَّ العالم عندما ينقسم، فإنّه يملك الكثير من الضوابط التي تمنع أن يؤدّي هذا الانقسام إلى خطر على المصير والوجود وعلى القضايا الحيويّة، أمّا نحن فإنّ الانقسام عندنا يؤدّي إلى الخطر على القِيَم والمصير. وهذا ما نلاحظه في أنَّ كثيراً من العرب يضغطون على العرب الآخرين لحساب إسرائيل، من خلال ضغط بعض الدول العربيّة على الذين يقاومون العدّو والذين لا يزالون في خطّ المواجهة والانتفاضة.
انقسام اليهود لن يفيدنا شيئاً، لأنَّ انقسامهم يتمحور حول إضعافنا وليس هناك يهودي يحمل أيّ حبّ أو ودّ لعربي أو مسلم.
"مباركة" لدولة العودّ
ما هو تعليقكم على استقبال البابا لرئيس وزراء العدو (نتنياهو)(1) وقوله له: "ليبارك الله إسرائيل"، وردّ نتنياهو بالإشادة بدور البابا في عمله لتخطّي الهوّة بين المسيحيّة واليهوديّة، علماً بأنَّ الفاتيكان أعلن عن إمكانية قيام البابا بزيارة لبنان في أيار القادم 1997م(2)؟
لقد قلنا للبابا وللكثيرين ممّن يمثّلونه، لو كان السيّد المسيح (عليه السلام) موجوداً الآن، ورأى اليهود يحتلّون فلسطين ويشرّدون أهلها من المسيحيّين والمسلمين، ويعيثون فيها فساداً ويضطهدون المستضعفين، ويمنعون الباقين من الفلسطينيّين في أرضهم من حريّتهم والعيش الحرّ الكريم، هل كان قبل بذلك؟ لو كان السيّد المسيح (عليه السلام) موجوداً، وهو الذي طرد اللّصوص من ساحة الهيكل، هل يقبل بهؤلاء الّلصوص الذين سرقوا الوطن من أهله والسلطة من أهلها، وحوَّلوا الواقع في المنطقة إلى واقع حروب ودمار واستغلال؟
إنّنا نريد للبابا أن يكون مع المستضعفين، كما كان السيّد المسيح (عليه السلام) مع المستضعفين، إنّنا كنّا نريده مع العدل، والعدل هو أن يخرج اليهود من فلسطين، والذين أتوا إليها من أقاصي الأرض، وأن يبقى في فلسطين اليهود الذين كانوا سابقاً، والمسلمون والمسيحيّون، لأنَّ العدل يقضي ألاَّ يُطرد الإنسان من بيته ليأتي إنسان آخر من بلدٍ آخر ليسكن مكانه. إنّنا كنّا نريده أن يكون مع قضية الحريّة، ليكون للفلسطينيّين الحرية في تقرير مصيرهم، ولكنَّ مشكلة البابا أنَّه أصبح يتحرّك كرئيس دولة، ولا يتحرّك كرئيس رسالة، ولهذا قلنا إنَّ البابا لم يكن مسيحيّاً باعترافه بإسرائيل، ولم يكن مسيحيّاً في مباركته لإسرائيل.. لذلك نريد للبابا أن يستهديَ القِيَم التي جاء بها السيّد المسيح (عليه السلام) في تعامله مع الأوضاع السياسية والاجتماعية، وفي تعامله مع الأمم والشعوب في العالم.
نريد للبابا أن يستهديَ القِيَم التي جاء بها السيّد المسيح (عليه السلام) في تعامله مع الأوضاع السياسية في العالم.
حريّة النشر
ما رأيكم بقرار منع قراءة ونشر كتاب "مكان تحت الشمس"(1) لرئيس وزراء العدوّ الصهيوني(2) الذي يصرّح بما يفكِّر فيه تجاه العرب والمسلمين؟
لا بدّ لنا أن نقرأ عدوّنا كما نقرأ صديقنا، لنفهم أفكاره وخططه حتى نستطيع الاستعداد لها في ساحة الصراع.. ويُنقل عن "موشي دايان" الذي قاد الجيش الصهيوني في حرب سنة 67 ضدّ العرب، والذي نشر قبل هذه الحرب كتاباً يتحدّث فيه عن خطّته التي نفّذها لاحقاً في الحرب، إنّه قِيل له: أمّا تخاف أن يكتشف العرب خطّتك بعد قراءتهم للكتاب؟ قال: إنّي لا أخشى ذلك، لأنَّ العرب شعبٌ لا يقرأ.
وكنّا ولسنوات مضت لا نعرف شيئاً مفصَّلاً عن وضع اليهود داخل فلسطين، في الوقت الذي كانوا وما زالوا يدرّسون طلابهم في الجامعات أدبيَّاتنا وفلسفتنا وعقائدنا وخلافاتنا وجميع أوضاعنا الأمنية والاجتماعية، لأنّهم يريدون محاربتنا من موقع معرفتهم لكلِّ نقاط الضعف فينا.
ومن هنا، فإنّي لا أجد من المصلحة منع هذا الكتاب من التداول، لأنّه يشكِّل لنا نوعاً من الوعي فيما يفكِّر فيه العدوّ، وإنَّ منع أيِّ كتاب ومصادرته من السوق الإعلاميّة يروِّجه أكثر ويدفع الناس للبحث عنه.
لا بدّ أن نقرأ عدوِّنا حتى نستطيع الاستعداد له في ساحة الصراع.
مخاطر إلغاء التعليم الديني في المدارس
اتّخذت السلطة السياسية في لبنان في آذار 1997م قراراً يجعل التعليم الديني في المدارس اختيارياً وليس إلزامياً، وهذا ممّا ينسف مشروع التعليم الديني في المدارس..
ما الخطورة التي ترونها في تنفيذ هذه الخطوة؟
إنَّ مثلَ هذا القرار الذي يجعل التعليم الديني اختيارياً، وحصره في عطلة الجمعة والأحد، ليرسل الأهالي المسلمون أولادهم عصر الجمعة، ويرسل الأهالي المسيحيون أولادهم عصر الأحد، إنَّ مثل هذا القرار يمثّل إلغاءً للتعليم الديني في المدارس الرسميّة، وبالتالي سيترك تأثيره السلبيّ على التعليم الديني في المدارس الخاصة.. لهذا، إنّنا نريد للنّاس أن يرفعوا أصواتهم عالياً في هذا المجال، ولا سيّما بالنسبة إلى علماء الدين، الذين لا بدّ لهم أن يقفوا موقفاً صلباً حاسماً في مواجهة ذلك، لأنَّ هذا من أبسط واجباتهم الدينيّة في مسؤولياتهم في توعية وتنشئة الجيل الطالع على القِيَم الدينية.
لقد قلنا مراراً ـــ وما لنا ـــ بأنَّ المشكلة في لبنان ليست من الدين، كما يتحدّث البعض عن الطائفية بأنَّها دين.. إنَّ مشكلة لبنان هي عدم الدين، لأنَّ الطائفية ليست ديناً.. وإذا انطلقنا من الدين في قيَمه الروحيّة والأخلاقية التي تمثّل قِيَماً إنسانية، فإنَّ لبنان سينفتح على الخير الكبير، وعلى التعايش المرتكز على أساس هذه القِيَم.
وإنَّ الدولة، وفي الوقت الذي تعمل على تحويل التدريس الديني في المدارس إلى مسألة هامشيّة، تسمح لتلفزيونها الرسمي وللتفزيونات المرخّص لها بنشر ثقافة العنف والانحراف الجنسي والأخلاقي بين أطفالنا وشبابنا ونسائنا ورجالنا، حيث تثقّفهم بكلِّ المفاهيم التي تحوّل حياة الناس، ولا سيّما الجيل الطالع إلى فوضى وعبث.. إنَّنا نقول، بأنّه لن يُنقذ الناس من مثل هذه الاتجاهات المنحرفة إلاَّ الثقافة الدينية المرتكزة على أساس ما يوحّد الناس على الله تعالى وعلى رسالاته التي تحمل القِيَم النازلة في وحي الله.
إنَّ مشكلة لبنان عدمُ الدين، والطائفية ليست ديناً وإذا انطلقنا من الدين في قيمه الروحيّة والأخلاقيّة فإنَّ لبنان سينفتح على الخير الكبير.
مفاهيم وقضايا
التبليغ والدعوة إلى الله
رأي سماحته في دور علماء وطلّاب الدين في التبليغ والدعوة إلى الله تعالى(1).
مشروع قائد
أحبّ بكلِّ محبّة واعتزاز، وبكلِّ أمل كبير بالمستقبل أن أُرحِّب بكم كطليعةٍ إسلامية واعية ومسؤولة تعمل من أجل أن تتحرّك في خطِّ الدعوة إلى الله، من أجل أن يجعل كلّ واحد منكم من نفسه مشروع قيادة إسلامية سواء كان في المواقع الصغيرة أو الكبيرة. وهذا ما نتوسّل فيه دائماً إلى الله عندما نقرأ في دعاء الافتتاح: "الَّلهمَّ إنَّا نرغبُ إليك في دولةٍ كريمة تُعِزُّ بها الإسلام وأهله وتُذِلُّ بها النفاقَ وأهله، وتجعلنا فيها من الدُّعاة إلى طاعتك والقادة إلى سبيلك" فنحن نعمل على أساس أن نكون من الدّعاة إلى طاعة الله والقادة إلى سبيله.
إنَّ مسألة أن يكون الإنسان قائداً، أن ينطلق في ذلك من ذاته، لا أن يجعله الناس قائداً، فيجعل من نفسه في إمكاناته وكفاءه وإخلاصه وعمله مشروع قائد، وأن يوظّف هذه الإمكانات والكفاءة والإخلاص لخدمة الناس، لأنَّ الناس يستجيبون للذين يمثّلون حاجاتهم، سواءً كانت فكرية أو عملية. لهذا، كلّما استطاع الإنسان أن يُعبِّئ عقله أكثر، كلّما استطاع أن يقوِّم حركته أكثر، وكلّما أحبَّ الناس أكثر، كلَّما أحبَّ الله أكثر.
فإذا لم تستطيعوا أن تزرعوا في أنفسهم حبّ الناس، فمن الصعب أن تستطيعوا الدخول إلى عقولهم وقلوبهم. وفي حديث لأمير المؤمنين عليٍّ (عليه السلام): "احصد الشرَّ من صدر غيرك بقلعه من صدرك"(2). نحن نستوحي من هذه الكلمة ضرورة أن نفتح قلوب الناس علينا بفتح قلوبنا على الناس.
عظمة الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)
وقد كانت عظمة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) في دعوته أنّه كان يحبّ الناس ويعطف عليهم، لذلك قال الله فيه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران : 159]، فكان (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) لين القلب ورقيق الّلسان. ونقرأ أيضاً في كتاب الله: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة : 128]، وهذه كانت من الصفات الإنسانية للرسول الداعية، حيث كان يعزّ عليه وطأة المشقّة التي كانت تطال النّاس في كلِّ أوضاع حياتهم، وهو يحرص بهم حِرْصَ الأم على أولادها حيث يرأف عليهم ويعيش الرحمة لهم. وقد حدّثنا الله تعالى عنه بالصفات التي تتّصل بموقعه كرسول داعية {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم : 4].
وعندما نريد أن نتحرّك في خطِّ الرسالة، علينا أن نعرف أنَّ المسيرة التي بدأها رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، أنَّنا جزءٌ منها، وعلى هذا لا بدَّ أن نقتدي به {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب : 21].
كان مع الناس كأحدهم، رغم أنَّه سيد وُلْد آدم، ولم يجعل لنفسه ولمن معه طبقيّة خاصة، كما أصبحنا نحن نختزن في داخلنا هذه الطبقيّة، وهذا ما يجب أن نحاربه في أنفسنا. إنَّ من الخطأ أن نعيش العقلية التي تعتبر أنّ العلماء وطلاب العلم أرفع من الناس، وأنَّ من واجب الناس أن يحترموهم على قاعدة أنَّ لهم المكانة الكبرى، وأنَّ الناس في الدرجة الثانية.
لم يعش الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) هذه الروحية بل كان يعيش كأيِّ واحدٍ من المؤمنين، صحيحٌ أنّه يمكن أن يكون للإنسان مميّزاتٌ معيّنة، لكن لا أن تشكّل هذه المميّزات مهابة لدى الناس فلا يسألوننا فيما يحتاجونه، أو في الأمور التي تمثّل الحرج، لذلك علينا تعويدهم بالسؤال عن كلِّ شيء، حتى في الأمور المتّصلة بحياتنا الخاصة.
علينا أن نعيش مع الناس نحمل همَّهم ونحرص عليهم، وأن نُحسن الأسلوب الذي ندخل به إلى عقولهم، فبعضٌ من أهل العلم يرى أنّ الناس لا يسمعون لهم، إنَّ علينا في هذه الحالة أن نتعرّف على طبيعة ذهنيّاتهم وذلك من خلال اكتشاف الأسلوب الذي ندخل به إلى تلك الذهنيات لنقوِّمها ونصلحها.
ملاحقة حركة العصر
وعلينا أيضاً أن تكون الثقافة العلمية الفقهية الأصولية همَّنا الكبير بحيثد نصرف جهدنا في تحصيل ذلك، والشهيد الثاني(1) (رحمه الله) يعتبر أنّك إذا أعطيت العلم كلَّك أعطاك بعضه، فكيف إذا أعطيته بعضك، فماذا يعطيك؟ لذا يجب أن نكون علماء مثقّفين، وأُحبّ أن أقول لكم من موقع تجربة شخصية طويلة كادت تبلغ الخمسين سنة في حياتي العلمية من أجل الإسلام: إنَّ مسألة أن يكون الإنسان عالماً دينياً في المجتمع الذي نعيشه وفي المرحلة الراهنة، عليه أن يلاحق حركة العصر وثقافته بأساليبه ومناهجه وأفكاره.
إنَّ الإنسان الذي يعيش الآن محكوماً بذهنية ما قبل 200 أو 300 سنة لن يستطيع أن يخاطب الناس، أو أن يفهموه، لأنَّ الذهنية لغة، ولتفهم لغةً غير لغتك يجب أن تكون مُلِمَّاً بها.
تجديد المناهج
من هنا يجب أن نبقى على إسلامنا ونفهمه جيداً ونلتزم به جيّداً، وذلك بألاّ نتنازل عن شيءٍ من إسلامنا، لأنّ الواقع يريد لنا أن نتنازل، والتطوّرات تريد لنا أن نتنازل، نبقى على إسلامنا كما أنزله الله، لأنَّ الله لم ينزله لزمن معيّن، وإنَّما أنزله للحياة كلّها، ومع التزامنا بإسلامنا ينبغي أن نعيش ذهنية العصر ولغته وأجواءه، لنعرف كيف نُدخِل الإسلام إلى هذا العصر، فقد جاء عن النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): "أُمِرْنا معاشِر الأنبياء أن نُكَلِّمَ الناس على قَدْر عقولهم"(2). لهذا نحن لا ندعو لتجديد الإسلام حتى لو مضى عليه آلاف السنين، ولكنّنا نقول: إنَّ علينا أن نجدِّد مناهجنا في فهم الإسلام، وعلينا أن نُعيد النظر فيما اجتهد به المجتهدون السابقون، لا أن نتكلّم على أساس الاستهانة بهم.. لقد كانوا يختلفون مع بعضهم في الفتاوى، فما المشكلة إذا اختلفنا معهم في النظرة إلى بعض القضايا والأمور؟ كانوا يختلفون مع بعضهم في النظريات الفكرية والفلسفية فلماذا لا يحقُّ لنا أن نختلف معهم في ذلك؟ فكان الشيخ الطوسي يختلف مع الشيخ المفيد، وكان الشيخ المفيد يختلف مع السيد المرتضى، وكان ابن إدريس يختلف مع الشيخ الطوسي، وهكذا كانوا يختلفون في أمور ويتّفقون في أمور، ونحن بدورنا نتّفق معهم في أمور ونختلف في أمور.
المقدّس عندنا النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، هؤلاء يمثّلون القداسة، من حيث أنّهم يمثّلون العصمة في كلِّ ما جاء وصحَّ عنهم، أمّا بالنسبة للعلماء فكما يقول المرحوم السيّد محسن الأمين (قدّس سرّه) هم رجال ونحن رجال، وليس فكرهم من ذهب وفكرنا من فضة، وليست إمكاناتهم أكثر من إمكاناتنا، بل ربّما تكون إمكاناتنا أكثر.
الأمل الكبير
أريد منكم أن تكونوا الطليعة الإسلامية الواعية التي تمثّل الأمل الكبير والحلم الكبير، وأن ينطلق المستقبل بكم لتكونوا دعاةً إلى طاعة الله، وقادةً إلى سبيله، وأن تكونوا الأتقياء الذين يعيشون تقوى الفكر والعاطفة، وتقوى الحركة والحياة، وأن تتحرّكوا من خلال المنهج القرآني في كلِّ ما انطلق فيه القرآن من أخلاق وأساليب ومناهج، وممّا حرَّم الله تعالى وأحلَّ، لعلَّنا نقتدي برسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) الذي "كان خُلُقُه القرآن"(1)، فليكن خُلُقنا فيما نفعل ونترك هو القرآن. لنقرأه قراءة الإنسان المسلم الذي يريد أن ينفتح على الله وعلى الإسلام وعلى الناس، ليبقى شعارنا: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران : 104]، ليبقى هذا الشعار في حركتنا العامة {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة : 105].
وحول المعصية وطهارة الطاعة
دائماً تردِّدون: "علينا أن نرحم ضعف الناس" فهل هذا يشمل الذين يضعفون أمام الشهوات، فلا يراعون أحكام الله؟
جاء في كلمة لأمير المؤمنين عليّ (عليه السلام): "وإنّما ينبغي لأهل العصمة والمصنوع إليهم في السلامة أن يرحموا أهل الذنوب والمعصية"(1) لأنَّ أهل المعاصي عندما يعصون، فإنَّ معصيتهم قد تنطلق من تربية سيّئة عوَّدتهم على المعصية، أو من ثقافة منحرفة وجَّهتهم نحو المعصية، أو من خلال إرادة ضعيفة سقطوا فيها أمام الشهوات. وإنّنا عندما نرحمهم، معناه أن نهيِّئ لهم الأجواء الملائمة التي تنقلهم من وُحول المعصية إلى طهارة الطاعة، وإلى ينابيع الصفاء في الطاعة، وأن نرحمهم، أي أن نهديهم إلى سواء السبيل ونقوِّي نقاط ضعفهم، فليس هناك مَنْ يعصي على أساس تمرّد ثابت في النفس، لأنَّ المعصية تنطلق من لحظة غفلة وضعف، لذلك علينا أن ندعو لأهل المعاصي بالهداية، ونحاورهم وندرس نقاط ضعفهم بالطريقة التي تمكّنهم من السير في خطِّ الهدى والخير، وذلك أفضل من أن نسبَّهم ونشتمهم، ولذا كنت أردِّد دائماً وما زلت: ليس من مشكلة لنا مع الكافر، ولكنّ مشكلتنا مع كفره، فإذا استطعنا أن نُبقي هذا الإنسان ونقتل كفره فهذا أفضل، وهكذا، فلا مشكلة لنا مع الفاسق، ولكنّ مشكلتنا مع فسقه، فإذا استطعنا أن نُسقط فسقه ونبقيه هو، فهذا أحسن.
وَحَوْلَ الغفلات والشهوات التي تضغط على الإنسان فتأخذه نحو المعصية، جاء في دعاء السَّحَر الذي علَّمه الإمام زين العابدين (عليه السلام) لأبي حمزة الثمالي هو يجلس بين يديّ الله ليتحدّث عن دوافع المعصية عند الإنسان: "إلهي لم أعصِك حين عصيتك وأنا بربوبيّتك جاحد ولا بأمرك مستحفّ ولا لعقوبتك متعرّض، ولا لوعيدك متهاون، لكنْ خطيئةٌ عَرَضَتْ وسَوَّلَت لي نفسي وغَلَبَني هواي، وأعانني عليها شقوتي، وغرّني سترُك المُرْخَى عليَّ، فقد عصيتك وخالفتك بجهدي، فالآن من عذابك مَنْ يستنقذني ومن أيدي الخصماء غداً مَنْ يخلّصني وبحبلِ مَنْ أتّصل إنْ أنتَ قطعْتَ حبلَكَ عنّي"(1) فالإمام زين العابدين (عليه السلام) لا ينطق باسمه، لأنّه معصوم من الذنوب كلّها، وما ورد في الدعاء يمثّل حقيقة حال العاصين الذين يعصون الله، لا من خلال جحود الربوبيّة لله أو التعرّض لعقوبته والاستهانة بوعيده، بل بسبب سقوطهم تحت ضغط الشهوات والبيئات والأجواء التي تزيِّنُ للإنسان المعصية.
وعلى ضوء هذا، علينا أن نندفع نحو أهل المعاصي لننبّههم إلى ما هم فيه ولنبعدهم عن الأوضاع السيّئة التي يعيشونها(2)، وقد ورد في وصيّة النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) لعليّ (عليه السلام) عندما أرسله إلى اليمن "يا عليّ لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك ممّا طلعت عليه الشمس"(1) فكيف إذا استطعنا أن نهدي إلى الإيمان إخواننا وأخواتنا وآباءنا وأُمّهاتنا ورفاقنا وأصدقاءنا، إنّنا ننال بذلك خيراً كبيراً في الدنيا والآخرة.
عندما نرحم أهل المعاصي، معناه أن ننقلهم من وحول المعصية إلى ينابيع الصفاء في الطاعة.
التقوى والبُعد الثقافي والتربوي
برأيكم ما معنى التقوى وما البُعد الثقافي والتربوي لتقوى الله؟
التقوى هي الخوف من الله ومراقبته في كلّ ما يفعل الإنسان وما يترك، ولعلَّ هذا المفهوم تختصره الكلمة المأثورة "عظم ربّك أن يراك حيث نهاك أو يفقدك حيث أمرك"(2) في مواقع الأمر تكون موجوداً تفعل ما يأمرك الله به، وفي مواقع النهي لا تكون موجوداً، بأن تترك ما نهاك الله عنه.. والبُعد الثقافي للتقوى هو أن تقوم بعملية دراسة دائمة وتقييم لأعمالك، لأنّك مسؤولٌ عن أعمالك، وعن النيّة التي تنطلق منها هذه الأعمال، ومسؤول عن الخطوط التي تتحرّك فيها، والنتائج التي تصل إليها، وبذلك تعيش في حركة ثقافية دائمة تعيش بعمق ومسؤولية كلّ شؤون حياتك، وأمّا في الجانب التربوي، فإنَّك عندما تعيش التقوى، تتحرّك ضمن خطّ أخلاقي مدروس، وضمن خطٍّ روحي عميق، وخطِّ حركيّ فاعل يعرف من أين يبدأ وإلى أين ينتهي.
عندما تعيش التقوى فإنّك تتحرّك ضمن خطٍّ أخلاقي مدروس وخطٍّ روحي عميق، وخطٍّ حركيّ فاعل.
الروحانية
في غمار الحياة التي نعيشها تضيع الروحانية في زحمة المشاغل والهموم والمسؤوليات، فتقسو القلوب، وتصبح العبادات عادة نمارسها.. فحتى نحافظ على توهّج الروحانية ما نصيحتك في ذلك؟
نصيحتي للشباب المؤمن ما أنصح به نفسي من الإقبال الدائم على الله تعالى، ومن الذكر لله دائماً، الذكر في العقل والقلب واللّسان {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ} [الحشر : 19] وعلينا أن نتأمّل دوماً بعظمة الله في الكون وأنفسنا ومواقع نعمه علينا، وما نُقبل عليه من علاقتنا بالله في خطّ المسؤولية، ووقوفنا غداً بين يديّ الله للحساب، علينا أن نفكّر في ذلك كلّه، بحيث "لا نقدِّم رجلاً ولا نؤخِّر أخرى حتى نعلم أنّ ذلك لله رضى" يجب أن يكون كلُّ همّنا في الحياة رضى الله، رضي الله أم غضبوا، وأن يكون خطُّ الله خطّنا لنتعرّف مواقع رضى الله فيما أحلَّه وأوجبه، ومواقع سخط الله فيما حرَّمه وكرهه.
يجب أن يكون كلُّ همّنا في الحياة رضى الله، رَضِيَ الناس أو غضبوا.
الضابطة الأخلاقية
قد نُسيئ للآخرين بكلماتنا ومواقفنا من دون مبرِّر أو مسوِّغ، برأيكم ما هي الضابطة التي نضبط بها ألسنتنا عن الناس وكراماتهم؟
هناك عنوان للجواب عن هذا السؤال، وهو "عامل الناس كما تحبّ أن يعاملوك" فكما ترفض الكلمات التي يتحدّث بها الناس عنك، فلا تتحدّث بها عن الناس، وكما تنطلق في إنسانيّتك من احترامك لنفسك ورعايتك لموقعك في حسّ الكرامة والقيمة لذاتك، فإنَّ الآخرين أيضاً يفكّرون بالطريقة نفسها التي تفكّر بها، وقد عبَّر أمير المؤمنين عليٌّ (عليه السلام) عن هذه الفكرة بالميزان، وذلك في وصيّته للإمام الحسن (عليه السلام) "يا بنيّ اجعلْ نفسك ميزاناً بينك وبين غيرك فاحببْ لغيرك ما تحبُّ لنفسك، واكْرَه له ما تكره لها"(1) في قولك وفعلك تجاه الآخرين.. وهذا هو الخطُّ العام في التفاصيل من الأمور التي منعنا الإسلام عنها في سلوكنا القولي في الكلام مع الآخرين، فمنعنا عن الغيبة وذكر عيوبهم المستورة، لأنَّ الغيبة كما ورد في الأحاديث طعام أهل النار، وأنَّها أشدُّ من الزنا الذي قد يغفره الله، ولكنَّ الغيبة لا يغفرها الله حتى يغفرها صاحبها. هذا أوّلاً. وثانياً: نهانا الإسلام عن أن نسبَّ الناس لا سيّما إذا كانوا من المؤمنين، وقد ورد عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) "سباب المؤمن فسوق"(2)، وحتى أنّه نهانا عن سبِّ غير المؤمنين حيث السبُّ يولّد عندهم ردّة فعل، فقال سبحانه: {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام : 108] فإذا سببتم مقدّساتهم سيسبّون مقدّساتكم، والسبُّ لا يحلُّ مشكلة.
ونأتي إلى أجوائنا المذهبية فنجد الكثيرين يسبُّون ويشتمون حيث تحرّكهم العصبيات والحساسيّات والانفعالات الذاتية، وهذا أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) الذي يتحرّك بالحقّ، لا بالعصبية، نراه وقد سمع قوماً من أهل العراق من أتباعه وأنصاره، يسبّون أهل الشام (جماعة معاوية)، وقد شارفت الحرب على البدء، فوقف فيهم خطيباً وقال (عليه السلام): "إنّي أكرهُ لكم أن تكونوا سبّابين" أرفض لشيعتي أن يسبُّوا الناس، وهناك طريقةٌ نعبِّر فيها عن رفضنا لانحراف الآخر ولأفكاره، وهي "لو وصفتم أفعالهم وذكرتم حالهم" على ما هم عليه من الانحراف "لكان أصوبَ في القول وأبلغ في العُذر" حتى يجد الناس لكم العذر في مواقفكم، فلا تكون روحكم روحاً عدوانية وتدميريّة ومتعصِّبة ضدَّ الذين تختلفون معهم "وقلتم مكان سبِّكم إيَّاهم، ربَّنا احقُنْ دماءَنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم واهدهم من ضلالتهم" وعندها تكون روحيّتكم روحية الإنسان الذي لا يريد أن يدمّر الآخر، بل يريد تدمير ضلاله وانحرافه "حتى يعرف الحقّ مَنْ جهله، ويرعوي عن الغيِّ والعدوان مَنْ لهِجَ به"(1)، علينا إذاً ألاَّ نسبَّ الناس ومقدّساتهم حتى ولو كنّا ننكر ونرفض مقدّساتهم، لأنَّ السبَّ لا يحلُّ المشكلة بل يعقِّدها.
والنقطة الثالثة في الجواب، وهي أن نبتعد عن الفحش والبذاءة في القول ضدّ الناس، ويُروى عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام): "إنَّ الله حرَّم الجنّة على كلِّ فحَّاشٍ بذيء الّلسان، قليل الحياء، لا يبالي ما قال ولا ما قيل له"(1) هناك مَنْ يختلف مع زوجته فيسبُّها أمام أولاده بالكلام الفاحش البذيء، أو مَن يختلفون مع بعضهم فيطلقون الكلام الذي يحمل الفحش والبذاءة، هؤلاء حرَّم الله عليهم الجنّة، وإنْ كانوا يصومون أو يصلّون أو يحجُّون، لأنَّ الجنّة صفاء وطهارة ونقاء(2).
إذا أردتم أن تدخلوا الجنّة، نظِّفوا ألسنتكم من كلمات الكفر والفحش والسبِّ والشتم، وطهّروها من الكلمات التي تمثّل تخلّفاً في إنسانيّتكم {وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران : 159] يجب ألاَّ نؤذي المسلمين أو نحتقرهم ونغتابهم، وألاَّ نثير الفتنة بينهم، لأنَّ الله حرَّم الجنّة على كلِّ نمَّام، يأخذ كلاماً ويأتي بكلام، ليفرّق بين المرء وزوجته وبين الأخ وأخيه، وبين الصديق وصديقه، وهذه من الكبائر، لأنّها قد تورّث الأحقاد من جيل إلى جيل، فتسيل الدماء، وتحدث المشاكل، وتبقى الفتنة متحرّكة في الأجيال "مَنْ سَنَّ سُنَّةً سيّئةً كان عليه وزرُها ووزرُ مَنْ عمل بها وذلك إذا كان في خلاف ممّا أمر الله به ورسوله"(2). والنقطة الأخيرة، هي أنَّ على الإنسان ألاّ يتكلّم بكلام الزور ويشهد به على الإنسان البريء، لأنّ هناك دعوى يستفيد منها قريبه أو صديقه. وهذه أمور يجب أن نعصم ألسنتنا عنها، وقد ورد في الحديث الشريف: "إنَّما يكبُّ النّاس على مناخرهم في النار يوم القيامة حصائدُ ألسنتهم"(1).
علينا ألاَّ نسبَّ الناس ومقدّساتهم حتى ولو كنّا ننكر ونرفض مقدّساتهم، لأنَّ السبَّ لا يحلُّ المشكلة بل يعقّدها.
الظلم.. فعلاً وقولاً
نعرف أنَّ الظلم متنوّع، ولكن ما رأيكم بمن يظلم إنساناً مؤمناً بقوله من دون وجه حقّ؟
إنَّ الله تعالى يريد للإنسان أن يقتلع بذرة الظلم من داخل نفسه بحيث لا يفكِّر في ظلم أحد.. وفي دعاء للإمام زين العابدين (عليه السلام) يتحدّث عن هذه المسألة على مستوى الشعور والإحساس "الَّلهمَّ فكما كرَّهتَ لي من أن أُظْلَم فقِني من أن أظْلِم"(1).
وفي هذا الاتجاه، لا بدّ للإنسان أن يلاحق نفسه ويحاسبها في كلِّ حركة من حركات إنسانيّته في الواقع، وليبدأ من تفكيره حيث قد يظلم الناس إذا حقَّق في فكره انطباعاً سيّئاً عن إنسان ما دون أن يستجمع لنفسه كلَّ العناصر التي تبرّر له انطباعاته عنه، لأنَّ قضية تكوين الانطباعات عن الآخرين تفرض تكوين العناصر الحقيقيّة التي تؤكّد هذا الانطباع. فعندما نفكّر مثلاً بأنَّ فلاناً شريرٌ أو فاسقٌ أو منحرف، فلنفكّر أيضاً لماذا كوَّنا هذا الانطباع، هل رأينا منه ما يؤكّد فسقه أو شرّه أو انحرافه؟ لقد سمعتَ. ولكن ممّن سمعت، وعلى أيّ أساس سمعت؟ ولقد اختصر الله المسألة كلّها بقوله تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء : 36].
فإذا لم يكن الانطباع صحيحاً، فإنّ القضية تصل إلى مستوى الجريمة، لأنّ ذلك يمثّل تشويه صورة وموقع إنسان "ومَنْ كَسَرَ مؤمناً فعليه جبرُه"(1).
لا بدّ للإنسان أن يلاحق نفسه ويحاسبها في كلِّ حركة من حركات إنسانيّته.
الكلمة الطيّبة
بعضٌ منّا يُغيّب دور الكلمة الطيّبة في أسلوبه العملي في الحياة، وينسحب ذلك على الكثيرين ممّن هم في مواقع المسؤولية، برأيكم ما أهميه الكلمة الطيّبة في تدعيم عُرى التواد والتواصل بين الرساليّين؟
إنّ الله سبحانه وتعالى أراد أن يركّز في وجدان الإنسان فكرةً مُفادها أنّ كلّ حياته تختصرها (الكلمة الطيّبة)، كما أنّ كلّ حياته في دورها السلبيّ تختصرها (الكلمة الخبيثة)، فالإنسان الذي يعيش العقل كما يريد الله، ويعيش العقل كما يحبّ الله، ويعيش الحركة كما يرضى الله، هو (كلمة الله) المتجسّدة في إنسانيّته.
ونحن نستطيع أن نستوحي من القرآن أنّ الله أراد للنّاس أن يتحوّل القرآن في حياتهم إلى أن يغدو كلّ حياتهم، والقمّة في هذا التجسّد القرآني في الإنسان تتمثّل في رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) والأئمّة الهداة من أهل بيته (عليهم السلام)، فقد تحوّلوا إلى كلمة، وتحوّلت الكلمة فيهم إلى عقل وروح وحركة وحياة. وهذا ما يريده الله منّا بأن تتحوّل الكلمة القرآنية عندنا عقلاً نفكّر به في خطِّ القرآن، وقلباً نتحسّسه في عاطفتنا في خطّ القرآن، وحركة نعيشها في حركة القرآن، وألّا تكون حروفاً بل أن تكون إنساناً بكلّ ما تعنيه إنسانيّته التي تتحرّك من خلال معاني الكلمات القرآنية. وهذه هي قمّة هدف التربية في الإسلام، وذلك بأن نحوِّل القرآن إلى مسألة نعيشها ونُحسُّها ونتمثّلها ونتحرّك فيها.
وهذا هو مفهوم الكلمة الطيّبة، والطيّبة ليست محدّدة في جانب معيّن، فهي كلمة طيّبة تغني الحياة وتعطيها حيويّتها وحركيّتها، وهي كلمة تجعل عقل الإنسان طيِّباً ينفتح بكلّ الطيب الذي يتحرّك به الفكر، فنشعر بطيب الفكر في عقله وقلبه، فإذا العقل والقلب ممتلئان بالمحبّة والخير والانفتاح، وهي كلمة طيّبة تجعل الحركة طيّبة فإذا بها تنطلق لتعطي فاكهةً فكريةً هنا، وثمرةً روحية هناك، ومشروعاً للحياة هنالك. فالكلمة الطيّبة تمثّل كلّ إيجابيات الحياة، وكلّ إنسانية الإنسان، لهذا شبّهها الله تعالى في عطائها وحيويّتها وفي امتدادها وعمقها بالشجرة الطيّبة {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ} [إبراهيم : 24] وإذا أردنا أن نعرف الكلمة الطيّبة في واقعنا، فلننظر إلى الشجرة الطيّبة، فإذا بها تمتدُّ جذورها في أعماق الأرض حتى تكاد تنفتح على الأرض بكلِّ عروقها، وإذا بها أيضاً تمتدُّ في السماء حتى تبلغ إلى أبعد ما يمكن أن تبلغه أغصان الشجر.
الكلمة الطيّبة تمثّل كلّ إيجابيات الحياة وكلّ إنسانية الإنسان.
الإزدواجية
هناك مَنْ يعيش الازدواجية في الشخصية، أو ما يُسمّى بالتعبير الإسلامي بالنفاق، ما تحليلكم لهذه الظاهرة؟
النفاق مرض، وهو أن يعيش الإنسان في الحياة بشخصية مزدوجة فشخصيّته المعلنة تمثّل خطّاً، وشخصيّته الخفيّة تمثّل خطّاً آخر {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً} [البقرة : 10] إنّه مرضٌ عقليٌّ ونفسيٌّ وشعوريٌّ وعمليّ. فالله تعالى لا يريد للإنسان أن يعيش ازدواجية الشخصية بين فكر ينطلق مع الحقّ، وقلب يتحرّك مع الباطل، وحركة تنطلق هنا وهناك لتأخذ حقّاً من هنا وباطلاً من هناك، فالله تعالى لا يريد للإنسان أن يكون مجزّاً كأولئك الذين {خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً} [التوبة : 102].
فالمؤمن الحقّ هو الذي ينطلق من قاعدة واحدة ويسير في خطٍّ واحد، ولا يعيش الازدواجيّة بين ما هو فكره وبين ما هو عمله، لا يعيش الازدواجية والاهتزاز بين ما يعلنه للناس وما يعيشه في نفسه. فالمؤمن واحدٌ ينطلق في خطٍّ واحد ويؤمن بإله واحد ويتحرّك في الحياة من خلال وحدة الفكر والقلب والحركة والاتجاه.
لذا، فمسؤولية الإنسان عن نفسه في حياته الفردية أن يصوغها على الإيمان والتقوى، وأن يفتح عقله وقلبه ليفكّر بحريّة ومسؤولية، وهكذا في حياته الاجتماعية، ليشعر بأنّه جزءٌ من مجتمع، لا بدَّ له أن يتحمّل مسؤوليته عن مجتمعه من خلال مسؤوليّة الجزء عن الكلّ، ليحمي مجتمعه من كلّ ما يُسقطه ويُفسده.
المؤمن الحقّ لا يعيش الازدواجية والاهتزاز بين ما يعلنه للنّاس وما يعيشه في نفسه.
التسويف
كثيراً ما نسوّف في أعمالنا إن كان على مستوى الممارسة الحياتية، أو ما هو متعلّق في أعناقنا من أمانة الله تعالى، كيف تحدِّدون سلبيات هذا التسويف؟
يقول الله تبارك وتعالى: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ} [آل عمران : 133] في هذه الآية نداءٌ من الله تعالى باستعجال العمل، وأن يتحرّك الإنسان في حياته العمليّة في خطِّ المسؤولية على أساس أنّ عمره في كلّ يوم هو فرصته التي قد تكون الأخيرة. ومن هنا فإنَّ الله قد فتح له أبواب المغفرة من خلال العمل الصالح، وفتح له أبواب جنّته من خلال الانفتاح على مسؤوليّاته العامة والخاصة.
فإذاً "لا تؤجل عمل اليوم إلى الغد":
لا تقل في غدٍ أتوبُ لعلَّ الــ غدَ يأتي وأنتَ تحت الترابِ
ولذا، فلنسارع إلى الخيرات، ونحاول أن نعيش حركة السباق مع الزمن، معتبرين أنّ عمرنا مسؤوليّتنا، وهو رأس المال الذي نتاجر فيه مع الله تعالى، ولنكن واعين لكلِّ دقيقة وكيفية ملئها بذكر الله والعمل في سبيله.
ولقد جعل الله للجنّة ثمناً، فهي للمجاهدين والصابرين والعاملين في سبيله، وهي لا تُعطى مجاناً، وقد قال أمير المؤمنين عليٌّ (عليه السلام) لبعض أصحابه: "أبِمِثْلِ هذه الأعمال تريدون أن تُجاوروا الله في دار قُدْسه؟ هيهات لا يُخْدَعْ اللهُ عن جنّته"(1).
لذلك، فإنّ المتّقين(2) هم الذين حاسبوا أنفسهم ووقفوا في خطِّ الانضباط أمام أمر الله ونهيه، عاملين بمبدأ التوازن في حياتهم بين مسؤوليات الدنيا ومسؤوليات الآخرة، فلم تلغِ آخرتُهم دنياهم، ولم تلغِ دنياهم آخرتهم، وأطاعوا الله في كلِّ ما أمرهم ونهاهم.
عُمْرُنا مسؤوليّتنا، وهو رأس المال الذي نتاجر فيه مع الله.
الأخلاق السلبيّة
ما هو الموقف الإسلامي من الأنانيّة والحسد والتشاؤم، وهل هي من الأمور المرفوضة إسلامياً ويجب انتزاعها من قلب الإنسان، أم أنَّ درجة خفيفة من الأنانية والحسد والتشاؤم مطلوبة لتحقيق التوازن في حياة الإنسان؟
إنَّ هذه الأخلاق السلبيّة في شخصية الإنسان تُربك حركته الإيمانية التقوائية العمليّة من خلال تأثيراتها السلبيّة في نشاطاته وعلاقاته بالناس الآخرين وبالحياة.. لذلك، نقول، إنَّ القيمة السلبيّة لهذه الأخلاقهي بمقدار ما تُنتج أعمالاً وعلاقات سلبيّة. والله سبحانه يريد للإنسان أن يكون محبّاً للآخرين، فيغبط الآخرين ولا يحسدهم، بحيث يتمنّى أن يعطيه الله ما أعطاه للآخرين دون أن يسلبهم نعمته، وهكذا يجب ألاّ يكون أنانياً، بحيث ينظر إلى الآخرين نظرة بعيدة عن المسؤولية والاحترام.
فلللإنسان أن يحبَّ نفسه ويعمل في سبيل راحتها، ولكن عليه أيضاً أن يفكّر بالآخرين كما يفكّر بنفسه، فالأنانية هي أن يفكّر الإنسان بنفسه دون الآخر. أمّا النظرة الإسلامية في هذه المسألة "إنَّ الله يحبُّ المرءَ المسلم الذي يحبّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه ويكره له ما يكره لنفسه"(1).
أمّا التشاؤم، فإنّه يمثّل نظرةً غير واقعية في الحياة، فالحياة كما أنّها تختزن هواءً عاصفاً، هناك الهواء المعتدل، وكما أنَّ هناك ليلاً، فإنَّ هناك نهاراً، وكما أنَّ الألم موجود، فإنَّ الفرح موجود.. فليست الحياة حالةً واحدة بل هي أكثر من حالة {وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف : 87].
للإنسان أن يحبَّ نفسه ويعمل في سبيل راحتها، ولكن عليه أيضاً أن يفكِّر بالآخرين، كما يفكّر بنفسه.
القلوب والأقفال
تحدَّثتم في دروس سابقة عن الأقفال التي على القلوب.. كيف يمكن التخلّص منها، وهل هناك برامج معيّنة يمكن الرجوع إليها؟
إنَّ الله تعالى يحدّثنا عن أقفال القلوب بقوله تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد : 24]، فالقرآن يشير إلى القلوب المغلقة التي ترفض التفكير والانفتاح والتعمّق في الأمور والتدبّر فيها، لأنّها تتعامل مع ما اعتادته وألفَته من أفكار البيئة التي تأثّرت بها، ومن الأمر الواقع الذي خضعت له، بحيث يصعب عليها أن تنتقل إلى أُفق أوسع وإلى فكرٍ أعمق. ولهذا، فإنَّها تتحرّك بعيداً عن إنسانية العقل وإنسانية الفكر.
أمّا ما هي الوسائل التي يمكن للإنسان أن يتخلَّص بواسطتها من هذه الأقفال؟ إنّني أتصوّر أنّ أوّل شرط للتخلّص من ذلك، هو أن يشعر الإنسان بأنّ إنسانيّته لا بدّ أن تتجدَّد من خلال الفكر والحركة والشعور والإحساس. ولا أريد أن أقول إنَّ التجدُّد هو فريضةٌ دائمة، ولكن لا بدّ للإنسان من أن يواجه كلَّ ما يُقدَّم إليه بطريقة جديدة، كما لو لم يكن قد فكَّر بها سابقاً، فلعلّه يكتشف خطأً في فهمه أو في منهجه أو في طريقته لمواجهة الأمور. ولهذا، فإنّ إحساس الإنسان بعمق إنسانيّته وأصالتها يفرض عليه أن يفتح عقله لكلِّ شيء جديد(1)، من دون خوف من أن يفقد شيئاً ممّا ورثه أو ممّا يحتاج إليه، لأنّه ليس من الضروري أن يكون ما ورثناه واعتدنا عليه، موافقاً للصواب، ولذلك، فمن الضروري أن نفتح عقولنا لنعرف الحقيقة والصواب.
وإنّنا ننطلق من هذه الملاحظة إلى ملاحظة ثانية، وهي أنَّ الله سبحانه سيسألنا عمّا عقلناه واخترناه من خلال وعينا للأشياء، فالله تعالى لا يقبل منّا أن نقول: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} [الزخرف : 23]، ولا يقبل الله منّا أن نقول، إنَّ ما نعيشه ونقبله، هو ما يعيشه الناس من حولنا وما يقبلونه، لأنّ الله أراد للإنسان أن يمارس مسؤوليّته في القضايا الفكريّة من خلال عقله، لا من خلال الناس الآخرين، وليس معنى ذلك أن نرفض ما عند الناس، ولكن أن يكون التزامنا بما عند الناس ناشئاً عن اقتناعنا به، لا عن تقليدنا لهم. ومن الطبيعي أنّ للجانب الروحي دوراً كبيراً في إزالة الرين والغشاء عن القلب والعقل. وهذا الغشاء يصدّ الإنسان عن الانفتاح على الحقيقة من خلال أنّه أغلق قلبه عن الله، وهذا ما نستوحيه من الآية الكريمة: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ} [الحشر : 19]، فالإنسان عندما ينسى ربّه، ينسى مسؤوليّته، وينسى نفسَه في عملية التوازن والاستقامة.
إنَّ إحساس الإنسان بعمق إنسانيّته وأصالتها يفرض عليه أن يفتح عقله لكلِّ شيءٍ جديد من دون خوف.
حتى لا نعيِّرهم بماضيهم
نرى أنَّ بعضاً من أهل الذنوب يتوبون إلى الله ويَحْسُنُ تديُّنهم، ولكن يبقون مُلاحقين بتاريخهم الماضي، حيث يُعَيَّرون به على الدوام، ألَا ترون أنَّ ذلك يتعارض مع روحية الإسلام؟
في الخطّ الإسلامي الذي لا بدّ للإنسان المسلم أن يسير عليه، وفي الروحية الإسلامية التي ينبغي أن يتحلَّى بها، يجب على الإنسان المؤمن أن ينفتح على توبة الإنسان الآخر، وتراجعه عن المعاصي واستقباله لحياة إيمانية صالحة جديدة.. لأنَّ الله تعالى هو صاحب الحقّ في مسألة الطاعة والمعصية، ومسألة الكفر والإيمان يقول تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [الشورى : 25]، وقد ورد في بعض الأحاديث "إنَّ الله يحبّ العبدَ المُفْتَّنَ التوَّاب"(1) فإنَّ الله يحبّ العبد الذي يعيش في قلب التجربة وقلب الفتنة، وفي قلب الاختبار والامتحان إذا تاب عن المعاصي.. وعلى هذا، فإذا كان الله تعالى، الذي هو سبحانه صاحب الحقّ في ذلك كلّه، يعفو عن التائب ويحوِّل صفحته من صفحة سوداء إلى صفحة بيضاء، فما معنى أن نظلّ في موقف نعنّف فيه الذي تاب؟ إنَّ معنى ذلك أنّنا لا نثأر للإسلام الذي انحرف هذا الإنسان عن خطّه سابقاً، ولا نثأر لطاعة الله التي ابتعد عنها في مرحلة من حياته.. لأنّنا نثأر لِعُقدنا النفسيّة.. فالذين يعيِّرون الناسَ بتاريخهم بعد أن يتركوا ذلك التاريخ ويبتعدوا عنه هم الذين يعيشون العقدة الذاتية تجاه هؤلاء الناس.. وقد ذمَّ الله الذين يعيِّرون الناس بعيوبهم الآن، فكيف بالذين يعيِّرون الناس بالعيوب التي تخلَّصوا منها وهجروها.. هؤلاء يعيشون في خطِّ الشيطان ولا يعيشون في خطّ الرحمن.. فعلى الإنسان المؤمن أن يحترم التائب، ويشجّعه على توبته، لا أن يذكّره بتاريخه السلبي حتى يعقّده، وربّما يؤدّي به ذلك إلى أن يتراجع عن خطِّ التوبة.
إذا كان الله صاحب الحقّ في العفو على المذنب فما معنى أن نبقى في الموقف الذي نذكّره فيه بتاريخه الماضي.
التوبة وتحرّر الإنسان من ماضيه
في بحث لكم تقولون: "إنّ الله سبحانه حرّر الإنسان من كلّ ماضيه بحيث يخرج من الذنوب وآثارها حرّاً، وذلك بفتح باب التوبة له بأوسع ممّا بين السماء والأرض.. وإذا كان الله قد رحمه، فلماذا نحن نلاحقه بأخطائه" والسؤال: ما سلبيّة ملاحقة الآخرين بأخطائهم الماضية وخصوصاً بعد توبتهم؟
إنَّ الله سبحانه خلق الإنسان كلّ إنسان ما عدا الأنبياء والأولياء من ضعف. وهذا الضعف يجتذب الكثير من النقاط التي قد تشجّع الإنسان على الخطيئة، وذلك من خلال ما يختزنه الإنسان في وجوده من الغرائز التي قد تأمره بالسوء {إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي} [يوسف : 53] ولكنَّ الله سبحانه أراد لهذا الإنسان الذي قد يقع في الخطأ بفعل انحراف إرادته من خلال سيطرة نقاط الضعف، عليه أن يُدرك أنَّ أمامه فرصاً كثيرة لتغيير نفسه وإصلاح أمره واستقامة دربه. فالله تعالى نصب له جسراً في أيّة مرحلة من مراحل عمره ليتّصل به وليرجع إليه {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ} [الشورى : 25]، ويقول سبحانه وتعالى أيضاً: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر : 53]، وقال سبحانه: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} [النساء : 48].
لذلك فتح الله للإنسان باب التوبة ليصحّح نفسه، ولتكون التوبة عن فكر وعاطفة وحركة. وقد ورد في الحديث: "التائب من الذنب كمن لا ذنب له"(1)، فالله سبحانه يغفر الذنوب للإنسان الذي تاب توبة نصوحاً، لأنّه يحبّ التوّابين. لذلك، فإذا كان الله يُلغي للإنسان كلّ ما ضيه إذا غيَّر الإنسان اتجاه حياته من كلّ وحول الماضي إلى الينابيع الصافية في المستقبل، فكيف نلاحق الإنسان بأخطائه؟ كيف نقول لإنسان أراد التراجع عن خَطَئه وقدّم الاعتذار، بأنّنا لا نقبل عذره ولا توبته. إنّ الله سبحانه رسم لنا المنهج في الخروج من خطايانا معه. والخطيئة مع الله سبحانه كبيرة حتى ولو كانت صغيرة في نفسها لأنّه "إذا وقعت في معصية فلا تنظر إلى صِغَرها ولكن انظر إلى مَنْ عصيت"(2) ولكنّه تعالى فتح باب التوبة للإنسان.
وعلى هذا، فإنّنا عندما نلاحق الإنسان بماضيه، ونحاول دائماً أن ندمّر حاضره باستعادة ماضيه الذي نعيّره به، والذي تركه وأهمله وفتح صفحة جديدة في حياته، فإنَّ ذلك ينمُّ عن خُلُق غير إسلاميّ. ولنا في رسول الله أُسوةٌ حسنةٌ، فهو قد استقبل كلّ الذين آمنوا به بعد أن كانوا مشركين جميعاً، وألغى كلّ تاريخهم الماضي من خلال ما صنعوه من التاريخ الجديد. ولذلك، فلنتعلّم من الله تعالى: "تَخَلَّقوا بأخلاق الله"(1) فهو يلغي كلّ الماضي السيّء للإنسان التائب بالحاضر الحسن والخيّر. وهكذا، علينا أن نعطي الإنسان فرصة ليتراجع وليعود إنساناً جديداً، يعيش مع الناس بكلّ القِيَم التي يرضاها الله سبحانه "عامِل النّاس بمثل ما تحبّ أن يُعاملوك به" فإذا جاءك الشيطان ليقول لك لا تعذر هذا ولا تصدّق توبة ذاك، قل له: ماذا لو كنتُ أنا المخطئ، فهل أرضى بألاَّ يقبل الناس توبتي، وألّا يعذروني إذا اعتذرت لهم؟
علينا أن نعطي الإنسان التائب فرصة ليتراجع وليعود إنساناً جديداً يعيش مع الناس بكلّ القِيَم.
الثقة بالله
أظهرت دراسة أُجريت في اجتماع الأكاديميّة الأميركية لأطباء العائلات أنَّ 99% من الأطباء الذين شملتهم الدراسة يعتقدون أنّ المعتقدات الدينية يمكن أن تساعد في الشفاء، وقالوا: إنَّ الدين يمكن بالفعل أن يجعل النّاس أكثرَ صحّةً، ما رأيكم بذلك؟
قيمة الدين أنّه يمنح الإنسان الطمأنينة والاستقرار ويعطيه الأمل المتجدّد بالثقة بالله {وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف : 87] فالدين يعطي الإنسان إحساساً بأنَّ له رسالة في الحياة، وبأنّه مسؤولٌ عن نفسه وعن الناس، وأنّه ليس مجرّد كمية مهملة تدفعه للضياع والحيرة والتمزّق واللاإنتماء. وهو عندما يعيش هذا الإحساس، فإنَّ ذلك يترك تأثيره الإيجابيّ على واقعه الصحيّ، لأنَّ الكثير من الأوضاع الصحيّة تنشأ من القلق والشعور بالعبثيّة والضياع، وهذا ما لا يتّفق مع الخطّ الإسلامي في إنتاج إنسانية الإنسان، وإنتاج الفرح في روحه بالله الذي يجعله بالناس وبالحياة وبتحمّل المسؤولية، هذا من جهة. ومن جهة ثانية، فإنَّ المؤمن عندما تضغط عليه المشاكل الصحيّة، ويشعر باليأس من الناس، فإنّه ينقطع إلى الله، وبهذا تنطلق مشاعره وأعصابه وأجهزة جسمه في حالة انتفاح على الأمل بالله، وهذا ما يترك تأثيره عضوياً وروحياً عليه، بالإضافة إلى الّلطف الإلهي والرحمة الإلهية التي تشفي مَنْ لا شفاء له وتعطي دواء لمن لا دواء له.
إنَّ المؤمن عندما تضغط عليه المشاكل الصحيّة ويشعر باليأس من الناس، فإنّه ينقطع إلى الله في حالة انفتاح على الأمل به سبحانه.
الثبات والاهتزاز
في حالات القلق والخوف التي تعتري الإنسان المتديّن في بعض الأوقات نراه يضعف ويسقط، ألَا ترون أنَّ حالة التديُّن التي يعيشها حالة مهتزّة وليست ثابتة؟
مشكلة هذا المتديّن، أنَّ التديّن عنده حالة سطحية في مشاعره وأحاسيسه وغير عميقة في داخل كيانه، لأنَّ الإنسان كلّما كان متديِّناً أكثر عَرَفَ الله ووثق به أكثر، وعرف أنَّ القوّة والعزّة لله جميعاً، وأنّه سبحانه ينصر مَنْ ينصره، ولا يخذل عبده السائر على خطِّه ونهجه، وقد قال سبحانه {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ} [الزمر : 36] فعندما يُحسُّ المتديّن بحضور الله، ويدخل في مقارنة بين الله تعالى وبين عباده، فإنّه سيعرف أنَّ عباد الله لا يمثّلون شيئاً أمام قدرة الله سبحانه. وهذا ما عاشه رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) عندما كان في أشدِّ حالات الخطر والتحدّي {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا} [التوبة : 40].
وهكذا نجد أنَّ الله يحدّثنا عن المؤمنين {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران : 173].
وقد قال الله لنا ونحن في حالة الصراع مع العدوّ {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران : 139].
فعندما يفكّر الإنسان بقوّة الله وعظمته، يدرك أنّ عباده لا قوّة لهم إلاَّ من خلال قوّته سبحانه، وهذا ما تُوحي به الكلمة التي نقولها دائماً عندما نشعر بالضعف: "لا حول ولا قوّة إلاَّ بالله العليّ العظيم".
عندما يُحسّ المتديّن بحضور الله فإنّه سيعرف أنَّ عباد الله لا يمثّلون شيئاً أمام قدرة الله سبحانه.
الإنفعال
نرى أنّ الانفعال(1) يتحكّم بمسارات كثيرةٍ في حياتنا.. حتى نلجم هذا الانفعال الذي يظهر أحياناً في غير مواقعه الطبيعيّة، كيف لنا أن نعرف الأسلوب الأفضل في معالجة ذلك؟
إنَّ أيّ واحد منّا يعيش حالة شعورية انفعالية تلتهب أمام بعض عناصر الإثارة، سواء في مشكلة يواجهها في حياته أو في عاطفته، فيسقط تحت تأثيرها وينفعل من خلالها، أو في عصبيّة يعيشها فتدفعه إلى أن يواجه القضايا بالانفعال، عليه أن يدرس نتائج الانفعال في كلِّ ذلك، وسيجد أنَّ الانفعال حالةٌ غير متوازنة، لأنَّ الإنسان يفقد فيها عقله، وقد ورد في بعض الكلمات المأثورة: "مَنْ لم يملك غضبه لم يملك عقلَه" (1)لأنَّ الإنسان عندما ينفعل، فإنَّه ينفعل بفعل الغريزة، ويعيش حالة دخانية لا يبصر فيها النتائج ولا يعرف فيها العواقب. ومن هنا، فإنَّ دراسة الإنسان للنتائج السلبيّة التي تحدث بسبب الانفعال والغضب والحماس تجعله يعيد النظر في كلّ حركته الانفعالية، ليربّي نفسه على أساس أن يتحرّك من موقع العقل، ويجعل عقله حاكماً لمشاعره وأحاسيسه، وفكرَه ضاغطاً على غريزته، لأنَّ التوازن بين حركة العاطفة وحركة العقل، هو الذي يجعل الحياة طيّبة منفتحة على الخير. ولجم الانفعال يحتاج إلى جهاد نفس ومزيد من الوعي، وهذا ما كنّا نعبّر عند دائماً: لا بدَّ أن نعطي العاطفة جرعة من العقل لتتوازن، وأن نعطي العقل جرعة من العاطفة ليرقَّ ويلين.
لا بدَّ أن نعطي العاطفة جرعة من العقل لتتوازن، ونعطي العقل جرعة من العاطفة ليرقَّ ويلين.
مجال التقييم
هل يكفي في مجال التقييم الذاتي للإنسان أن يفعل الواجبات ويترك المحرَّمات، أم لا بدَّ أن يضيف إلى ذلك، القيام بالمستحبّات الشرعية؟
إنَّ الإنسان المؤمن عندما يريد أن يعيش حياته في خطِّ الاستقامة والسلامة وخطّ الطموح ليأخذ بالفضائل ومكارم الأخلاق، ولينفتح على القِيَم الروحية الإنسانية، لا بدَّ له أن ينفتح على كلّ قيمة روحية ترتفع بفكره وإحساسه وشعوره وعلمه، سواءً كانت هذه القيمة من الأمور الإلزامية أو المستحبّة عند الله، لأنّها تشتمل على مصالح ومنافع لهذا الإنسان.
ولذلك، عليه أن يأخذ بكلِّ الفضائل الواجبة والمستحبّة، وبكلِّ السلوك الأخلاقيّ، ويبتعد عن السلوك السلبيّ السيِّئ سواء كان محرّماً أو مكروهاً.
على الإنسان أن يصوغ نفسه على أساس الخير كلِّه، فيما يحبُّه الله تعالى، ويريد له أن يأخذه، ليكون الإنسان الكامل الذي يعيش القِيَم الأخلاقية الكبيرة في كلِّ جوانب حياته.
على الإنسان أن يصوغ نفسه على أساس الخير كلّه.
أمام الحقّ سواء
كتب أحد منظِّري السلفية في إحدى الصحف: "وأمّا ما قد يقع من ولاة الأمور من المعاصي والمخالفات التي لا تُوجب الكفر والخروج من الإسلام، الواجب فيها نصحهم على الوجه الشرعيّ برفق، واتّباع ما كان عليه السَلَفُ الصالح من عدم التشنيع عليهم في المجالس ومجامع الناس، واعتقاد أنَّ ذلك المنكر الواجب إنكاره على العباد، غلطٌ فاحشٌ وجهلٌ ظاهرٌ، لا يعلم صاحبه ما يترتّب عليه من المفاسد العظام في الدين والدنيا".. ما تقولون في ذلك؟
كما أنَّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نتوجَّه فيه إلى الناس العاديّين، فكذلك نتوجَّه بذلك إلى ولاة الأمور، بحيث نوظّف كلّ الوسائل في هذا الاتجاه "مَنْ رأى منكم منكراً فليغيّره بيده، فمن لم يستطع فبلسانه، ومَن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الأيمان"(1) وفي الحديث أيضاً: "إنَّ أفضل الجهاد كلمة عدل أمامَ سلطان جائر"(2)، فإذا لم يراعوا أحكام الله، ولم يبتعدوا عن الظلم والفساد والانحراف، علينا أن نشهِّر بهم ونضعفهم ونعمل على تغييرهم من أجل إقامة الحقّ وإزهاق الباطل، وذلك هو الخطُّ الإسلامي، وقد ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) فيما رواه عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): "لن تُقدّس أُمّةٌ لا يؤخذ للضعيف فيها حقّه من القوي غيرَ مُتتَعتع"(1). وإذا استطعنا أن نغيّر الواقع بالرفق فبالرفق، وإذا لم يتغيّر الواقع من واقع كفر إلى واقع عدل، فإنَّ علينا أن نغيّر هذا الواقع بقوّتنا وبيدنا وبكلِّ ما نملك من أساليب ووسائل.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نتوجّه به إلى ولاة الأمور أيضاً، فإذا لم يراعوا أحكام الله ولم يبتعدوا عن الظلم والفساد، علينا أن نشهّر بهم ونضعفهم ونعمل على تغييرهم.
العقل والقلب
يقول أحد المفكّرين الإسلاميّين: "في تصوّري أنَّ السبيل الأمين لمعرفة الله عزَّ وجلّ هو طريق الوصول لا الفهم، وطريق القلب لا العقل، أي الطريق الذي أكّدت عليه الأديان بقوّة، لقد علّمنا أئمّة الإسلام بأنَّ (العقل ما عُبد به الرحمن واكتُسب به الجِنان) فالعقل هنا مصدر العبادة، وليس مصدر الفهم" ما تعليق سماحتكم على ذلك؟
العقل هو مصدر الفهم والإحساس والشعور، حتى أنَّ القلب عندما يتحرّك في عاطفته، إنَّما يتحرّك من خلال الخطوط التي يفتحها العقل للإحساس وللشعور وللعاطفة. وقد تكون هناك مصطلحات عقل ومصطلحات قلب، ولكنَّ القضية أنَّ عقل الإنسان هو الذي يحرّك كلّ طاقاته الحركية والشعورية والعاطفيّة، ولهذا، لا نستطيع القول بأنَّ الإيمان ومعرفة الله فوق العقل، لأنَّ العقل هو القوّة التي جعلها الله تعالى لكي تحرّك كلَّ ما يتجاوز المعنى المادي في شخصية الإنسان(1).
العقل هو القوّة التي جعلها الله تعالى لكي تحرّك كلّ ما يتجاوز المعنى المادي في شخصية الإنسان.
هل هي مساواة؟
من أهم القضايا التي يطرحها الإسلام هي العدل والمساواة في الحقوق والواجبات، ولكن لو نظرنا إلى مسألة الخُمس نرى ما يلي: إنَّ نسبة السادة ـــ المنتسبين إلى رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ـــ لا تزيد عن 3 أو 4 % على أبعد تقدير، بينما نصيبهم من الخُمس هو نصف أموال المسلمين، فكيف نفهم المعادلة بين ما يدعو إليه الإسلام من عدل، وبين هذا التمييز في الحقوق بين السادة والعامّة، إذ أنَّ نسبة ضئيلة تمتلك نصف أموال المسلمين. وبالنسبة للألقاب، ألَا ترون أنَّ إعطاء السادة لقباً يميّزهم عن الناس الآخرين، يجعلهم سادة المسلمين والبقية رعايا؟
أمّا بالنسبة إلى القول الأول، فالواقع أنّ هناك رأياً فقهيّاً يقول بأنَّ أمر الخُمس بيد وليّ الأمر بحسب طبيعة الواقع الإسلامي العام. فالوليّ إذا كان يملك الولاية العامة، ويملك القدرة على إدارة شؤون المسلمين في العالم، فإنَّ عليه أن يعطي السادة الفقراء ما يحتاجونه، فإذا زاد عن حاجتهم، فإنَّه يصرفه على بقية المسلمين إلى جانب سهمهم الآخر.. ولو فرضنا أنَّ السادة أغنياء وكان عندهم ما يكفيهم، لا يجوز لهم أن يأخذوا قرشاً واحداً من الخُمس، وعليهم هم أن يُخرجوا خُمْسَ أموالهم. وبهذا نعرف أنَّ المسألة ليست بالشكل الذي يفرضه السؤال، وهو أنَّ السادة يملكون نصف أموال المسلمين من الحقوق الشرعية، لأنَّ عطاءهم ينطلق مثل عطاء بقيّة المسلمين الآخرين.
وأمّا الشقّ الثاني من السؤال والذي يتعلّق بكلمة السادة والعامة، فإنَّ هذه الكلمة مُسْتَحْدَثَة، وهي ممّا اصطلح عليه الناس، وليست من الكلمات التي ترفع درجة السادة دينياً أو اجتماعياً عن غيرهم من المسلمين. "والله تعالى خلق الجنّة لمن أطاعه ولو كان عبداً حبشياً، وخلق النار لمن عصاه ولو كان سيّداً قرشياً، إنَّ وليّ محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) مَنْ أطاع الله وإن بَعُدَ نسبُه وإنَّ عدوّ محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) مَن عصى الله وإن قَرُبت قرابتُه" وهكذا جاء على لسان الشاعر الحمداني وهو يصف قُرب سلمان الفارسي من أهل البيت (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وإن بَعُدَت قرابته النسبية، فيقول:
كانت مودّة سلمانٍ لهم رَحِماً ولم يكن بين نوح وابنه رَحِمُ
{وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ*قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود : 45 ـــ 46].
فكلُّ شخص ينتسب إلى رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ولا يعمل في خطِّ الإسلام، فليس لرسول الله علاقةٌ به، وكلُّ شخصٍ يلتزم بخطّ رسول الله، فإنّه (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) يحبّه ويحتضنه ويقرّبه.
خلق الله الجنّة لمن أطاعه ولو كان عبداً حبشياً.
وخلق النار لمن عصاه ولو كان سيّداً قرشيّاً.
قيمة الحياة
برأيكم، كيف يمكن للإنسان أن يعطي لحياته ووجوده قيمة وحيويّة؟
إنَّ عليك كإنسان مسؤول أمام الله سبحانه وتعالى، أن تفكّر به سبحانه على الدوام، لتجعل كلَّ ظاهرة كونيّة أو إنسانية علامة تربطك بالله تعالى وتدلّك على عظمته وقدرته، لأنَّ علاقتنا بالله ليست علاقة نمارس فيها تقليداً من تقاليد انتمائنا الدينيّ لنعبّر عن وظيفة تقليديّة نرتبط من خلالها به سبحانه. وهذه هي مشكلة التديّن الجامد البارد الذي يدفع الإنسان لأن يتديَّن تقليداً يتحرّك التقليد في كلّ مواقع حياته، فتصير عواطفه تقليداً، فهو يحبّ لأنَّ الآخرين يحبّون، ويبغض لأنَّ الآخرين من حوله يبغضون.. أمّا أن يحبّ من خلال إشراقة العاطفة في كيانه، أو أن يبغض من خلال طبيعة موقف التحدّي في وجوده، فأظنُّ أنَّه أمرٌ نسيه وتنكّر له الإنسان.
إنّ مسألة أن تتذكَّر الله في كلّ شيء لتعطي لحياتك قيمة، هو أن تفكّر دائماً في سرِّ وجودك، هل أنت مجرّد ذرّةٍ ضائعة في الفراغ أو الرمال، أم أنت وجودٌ حيٌّ، كنتَ منذ أن انطلق الإنسان في الوجود قبضةً من طين ونفخة من روح الله؟ إنَّ عليك أن تفكّر دائماً بهذه النفخة الإلهيّة لأنّها سرُّ إنسانيّتك، وهي التي تمنحك السكينة والطمأنينة والاستقرار، وهذا ما يجعلك تشعر بالثبات في وجودك، وبأنَّ هناك غايةً لهذا الوجود. وعندها تدرك أنّ الله تعالى أعطاك من روحه وقدرته شيئاً، فصرت عقلاً وقلباً به، لأنَّ هذه الروح الإلهي هو الذي أعطى لهذا الجماد حياته وأنتج فيه حيويّةً.. ولذا، فأنت عندما تفكّر في سرِّ وجودك، فأنت تفكّر بالله تعالى، وعندها ترفض أن تعيش عبثيّة الحياة، كما يعيشها الكثيرون الذين استهلكوا العبث والضياع والحيرة والتمزّق، لأنَّك أحسست بمعنى وجودك وبارتباط هذا الوجود بالله، فلا تفكّر بأنَّ الحياة لحظة عبث، بل امتداد مسؤولية، فأنت مسؤولٌ عن عقلك بأن تغنيه بالخير ليتفجّر من داخل الفكر، وأنت مسؤولٌ عن قلبك بأن تُنتج منه عاطفة المحبّة، وأنت مسؤولٌ عن طاقاتك، بأن تعطي الحياة طاقة جديدة.. فأنتَ في طاقتك مسؤولٌ أمام الله أن تستثمرها وتستخدمها وتفجّرها في حياة حاجاتك، ليبقى للإنسان الآخر وللحياة من حولك الشيء الكثير منها.. فقيمة الإنسان أن يعطي الحياة من عقله عقلاً، ومن قلبه قلباً، وإلاّ فإنَّ الحياة صخورٌ جامدة، ورمالٌ ضائعةٌ في الصحراء، وبحارٌ على بُعد المدى، والإنسان هو الذي يعطي لهذه الحياة معناها وحيويّتها وحركتها إذا ما عرف معنى المسؤولية في كلّ كلمة يقولها من خير أو شرّ، وفي كلّ مشروعٍ يقوم به، وفي كلّ موقف يقفه، وفي كلّ موقع يكون فيه للمسؤولية معنى.. ولكلّ مسؤولية حسابها ونتائجها، والدنيا ساحة المسؤولية.
"اليوم عملٌ ولا حساب وغداً حسابٌ ولا عمل"(1).
عندما تفكّر بالله، فإنَّك ترفض أن تعيش عبثيّة الحياة كما يعيشها الكثيرون الذين استهلكوا العَبَث والضياع والحيرة والتمزُّق، لأنّك أحسستَ بمعنى وجودك.
الأمر الأخضر
كثيراً ما نقول بأنّه لولا الأمل لبطَل العمل، ونردّد بأنّهه يجب أن نعيش الأمل لنتخطّى كثيراً من الصعاب في الحياة على المستوى العام والخاص.. ولكن ما ورد في مأثورنا ذَمُّ الأمل على الدوام، فهل الأمل واحدٌ أم أنواع، وكيف نوفِّق بين الأمل المسْتَبْشِر وبين الأمل المذموم؟
عندما نريد أن نتحدّث عن الأمل بشكلٍ سلبيّ، فإنَّ الحديث لا يتّصل بالأمل، بل بطول الأمل، وذلك بأن يعيش الإنسان الأمل في الحياة بطريقة غير واقعيّة، وذلك بأن ينسى الموت والآخرة، ويعمل كما لو كان يفكّر بأنّه لن يموت. ولذلك فإنَّ الأمل المذموم هو الأمل بالحياة إلى ما لا نهاية، الذي يجعل الإنسان بعيداً عن الاستعداد للآخرة، لأنّه يعجِّل المعصية ويسوِّف التوبة، ويترك الإنسان في غفلة عمّا ينتظره من الموت الذي يُسقط كلّ مشاريع لذّاته وشهواته في الحياة، وقد عبّر عن ذلك الحديث النبويّ الشريف: "إنَّ أخوف ممّا أخاف عليكم اثنتنان: اتّباع الهوى وطول الأمل، أمّا اتِّباع الهوى فيصدُّ عن الحقّ، وأمّا طول الأمل فيُنسي الآخرة"(1) أمّا الأمل بتحقيق الأهداف وتجاوز الصعوبات، والأمل الذي يخترق اليأسَ وعناصره في الحياة، فهو الأمل المحبوب الذي يجعل الإنسانَ وأمام كلِّ الأهداف والطموحات والحواجز والصعوبات التي تقتحم عليه حياته، واثقاً بالله سبحانه في أنّه سيجعل بعد العسر يُسراً، وسيجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب. وإنّه عندما يواجه سلبيات الواقع، فإنَّ إيمانه بالله الذي هو على كلِّ شيء قدير ويرحم عباده ويلطف بهم، يجعله يثق بأنَّ الله قادرٌ أن يُزيل عنه كلّ الضغوطات والصعوبات، ويسحب من حياته الهموم والآمال، ويجعله يعيش الأمل الأخضرَ بالله، وإنّه عندما يعيش هذا الشعور بالأمل الأخضر في طاقاته، فإنَّ الله سبحانه يقوّيها وينمّيها ويفتح لها الآفاق {وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف : 87] فالإيمان يجعل الأمل أخضرَ في عقل وقلب الإنسان، ويُبعد اليأس عن حياته.
وقد اختصر أمير المؤمنين عليٌّ (عليه السلام) هذا الشعور الإنساني عندما قال: "إعمل لدنياكَ كأنَّك تعيش أبداً" لا تستغرق بفكرة الموت وأنت تمارس مسؤولياتك في الدنيا، بمعنى أن تجلس في بيتك وتنتظر الموت، فلا تقوم بمسؤوليّاتك وواجباتك تجاه نفسك وعائلتك ومجتمعك، ولا تقتحم الصعوبات من أجل تحقيق الأهداف الشريفة والكبيرة.. إنّك بذلك تعطّل الحياة وتموت قبل أن تموت، لذلك خطِّط لحياتك، واعمل لدنياك في كلِّ مشاريعها وقضاياها وأهدافها الكبيرة، كما لو لم يكن هناك موت، حتى إذا جاءك خيال الموت وأنت تعمل ليمنعك من العمل، قل سوف أعيش بإرادة الله لتركّز عملك على خطّ التقوى وطاعة الله، وهناك فكِّر أنَّك ستموت غداً "واعمل لآخرتك كأنَّك تموت غداً"(2).
وهذا هو التوازن بين الدنيا والآخرة، فأنت تذكر الآخرة عندما تتذكَّر مسؤوليّاتك في استقامة عملك، وأنت تذكر الدنيا عندما تتذكّر حاجتك إلى الاستمرار في عملك.. وذلك هو خطُّ التوازن الذي يتميَّز به فكرُ عليٌّ (عليه السلام) الذي هو فكر الإسلام الحقّ، وعاشه (عليه السلام) كأعظم ما عاشه مسلمٌ في وعيه لله تعالى وللإسلام.
الأمل بتحقيق الأهداف وتجاوز الصعوبات هو الأمل المحبوب الذي يجعل الإنسان واثقاً بالله.
خوفاً من غلبة الهوى
كيف يمكن للإنسان أن يواجه مغريات الدنيا، خصوصاً عندما يصبح صديقاً لمحبّي اللّهو في الحياة، لدرجة يشعرونه أو الظروف تُشعر بأنّه من طبقة أقلّ، ممّا يضطرُّه لمجاراتهم في تحرّكاتهم والتلوّن بألوانهم، حتى أنّه يرى نفسه متخلّفاً حضارياً إذا لم يجارهم.. كيف يمكن التعامل مع أصدقاء كهؤلاء ضمنم الجوّ الشبابيّ، وهو خائفٌ على نفسه من غلبة الهوى؟ نرجو نصيحتكم الأبويّة.
على الإنسان أن يفهم معنى الحضارة.. وأن يكون الإنسان حضارياً أو لا يكون، لا يعني أن يعيش حياة اللّهو والعبَث، لأنَّ الحضارة هي في الخطوط الفكريّة التي يتحرّك بها عقل الإنسان، وفي الأهداف الإنسانية التي ينفتح عليها، وفي النشاطات العمليّة التي يرتفع بها واقع الإنسان. لذلك، ليست الحضارة في اللّهو والعبث والخضوع للغرائز.. هذا مفهومٌ متخلّف عن الحضارة.
وأمّا مسألة الطبقيّة، ليس معناها أن تعيش في نفسك الشعور بمجاراة هذه الطبقات المخمليّة أو اللاهية حتى تلغي ما بينك وبينهم من فوارق، فأن تكون من الطبقة العالية أن يكون عقلك أرفع وإحساسك أطيب، وأن يكون نشاطك أقوى وأهدافك أسمى فيما تسعى إليه من ارتفاع وسموّ بالقِيَم والأخلاق والآداب التي يرتفع شأنك بها.
وأمّا بالنسبة للشباب الذي تفرض عليه الظروف أن يعيش حياته الشبابيّة مع الشباب الذين قد تُفرض عليه صحبتهم، فينساق معهم في لهوهم وعبثهم، فإنّنا نقول له: إنَّ على الإنسان أن يحرص على اختيار أصدقائه أكثر ممّا يحرص على اختيار طعامه وشرابه، لأنَّ الصديق قد ينفذ إليك من موقع العاطفة والشعور بحيث يضلّك من حيث لا تريد وقد قال الشاعر:
صاحب أخا ثقةٍ تحظى بصحبته فالطبع مكتسبٌ من كلِّ مصحوبِ
والريح آخذةٌ ممّا تمرُّ به نتْناً من النَّتْنِ أو طيباً من الطيبِ
ويقول الله تبارك وتعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً*يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً خَلِيلاً*لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولاً} [الفرقان: 27 ـــ 29].
ويحدّثنا الله عن بعض الأصدقاء والأصحاب {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الحشر: 16]، على الإنسان أن يختار أهل الخير والورع والصدق، الذين يستطيع معهم أن يعيش شبابه في اللّهو البريء واللّعب غير المحرّم، وما يمكن أن يغذّي شبابَه بكلّ النواحي الشعورية الصادقة.
على الإنسان أن يحرص على اختيار أصدقائه أكثر ممّا يحرص على اختيار طعامه وشرابه.
الأحكام المتسرّعة
كثيراً ما نصدر أحكاماً خاطئة نتيجة ما يُخبرنا به أشخاص نعطيهم صفة الثقة، وقد لا يملكون شيئاً من الوثاقة والورع.. ألَا يدلّ هذا على عدم الوعي والتروّي عندنا، في وقت نرى فيه التوجيهات القرآنية والأحاديث الشريفة تحثّ على ضرورة دراسة الأمور قبل إصدار الأحكام بشأنها؟
من الطبيعي أنَّ علينا أن نتثبَّت في كلّ أمر لا سيّما عندما يتّصل الموضوع بالحكم على الأشخاص، لأنّنا عندما نحكم على شخص، فإنَّ معنى ذلك، أنّنا نصدر قراراً أو حكماً يُسقط موقعه أو يعرّضه للخطر. ليس هناك فرقٌ بين أن تجلس في موقع الحاكم في الساحة الاجتماعية، أو تجلس في موقع الحاكم في الساحة القضائية، بل ربّما تكون الساحة الاجتماعية أكثر خطورةً في إصدار الأحكام من الساحة القضائية، التي قد تكون محدودة في نتائجها، بينما الساحة الاجتماعية قد تشوّه صورة الإنسان وتسقطه وتعقّد المجتمع من حوله. ولذلك، لا بدَّ للإنسان أن يتثبَّت، حتى لو أنَّ الثقة أخبره، فيستمع إلى وجهة نظر الآخر قبل أن يصدر حكماً، فلعلَّ لهذا الآخر ظروفه وأوضاعه الخاصة، ممّا قد يغيّر طبيعة الصورة فيما يحمله من انطباع أو ما يصدره من حكم.
لا بدّ للإنسان أن يتثبَّت حتى لو أنَّ الثقة أخبره، فيستمع إلى وجهة نظر الآخر قبل أن يصدر حكماً.
التواصل في المنفعة والمضرّة
يجول بفكرنا آراء متناقضة أحياناً حول التعامل مع ا لناس، فمرّة علينا أن ندعو بالتي هي أحسن، وتارّةً علينا ألاّ نعاشر أهل السّوء، ونقاطع بعض الناس إذا كان هناك مصلحة للإسلام.. نرجو توضيح كيفية الربط بين هذه الأفكار.
أمّا قضية أن نتعامل مع الآخرين بالتي هي أحسن، فمورده ينحصر في صورة أن تدعو إلى دينك وعقيدتك وموقفك وقضيّتك، وتواجه المشاكل التي تطرأ فتدفعها بالتي هي أحسن، وأن تقول الكلمة التي هي أحسن عندما تتحدّث مع الناس، وتجادل بالتي هي أحسن عندما تدخل في حوار مع الناس.. وهذا أمرٌ منفتحٌ على كلّ الواقع الاجتماعي والتبليغي الذي يتحرّك فيه الإنسان من أجل أن يحلّ مشكلة ويوصل الناس إلى الحقّ. أمّا مسألة معاشرة أهل السوء وعدم التكلّم معهم، فمورده، صورة ما إذا كان هؤلاء من أهل السوء ممّن ليسوا مستعدّين بأن يسمعوا ويفكّروا ويحاوروا ويجادلو، فإنَّ من الطبيعي أن تقاطعهم إنكاراً لوضعهم ورفضاً له حتى لا نتأثّر بهم، أو إذا خفنا على أنفسنا أن نتأثّر بهم. وأمّا مقاطعة بعض الناس، إذا كانت هناك مصلحةٌ للإسلام، فهو من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولذلك، فإنَّ مسألة المقاطعة، لا بدّ أن تخضع لخطّة، بحيث لا مجال فيها لأيِّ خير أو فائدة في التواصل، أو تشكّل خطراً على الواقع الإسلامي.
أن تتعامل مع الناس بالتي هي أحسن هي أن تواجه المشاكل التي تطرأ فتدفعها بالتي هي أحسن.
حبٌّ وبغض
في إحدى خطبكم تقولون: "ينبغي ألاّ تحبَّ حبّاً أعمى أو تبغض بغضاً أعمى، يجب أن يكون حبُّك مفتوح العينين وكذلك بغضك" كيف يكون ذلك؟
مسألة الحبّ والبغض هي من المسائل التي قد تنطلق أحياناً من حالة سطحية في النفس، كالحبّ السريع مثلاً، كأن يحبّ شابٌ فتاةً من جهة انجذابه لجمالها، أو تحبّ فتاةٌ شاباً من خلال النظرة الأولى، وينطلق هذا الحبّ بقوّة. هذا حبٌّ أعمى، لماذا؟ لأنّه لم ينفتح على الواقع الحقيقي للمحبوب. فالشاب أحبَّ هذه الفتاة من خلال الصورة والشكل دون أن يكون لديه فكرة عن عقلها وأخلاقها وسلوكها وواقعها، وكذلك الفتاة عندما تحبّ الشاب حبّاً سريعاً، فإنّها تحبّ حبّاً أعمى، لأنّها أحبّت جانب الجمال فيه أو غيره من الأمور الماديّة من دون أن تتعرَّف عمق شخصيّته.
وهكذا عندما نحبّ شخصية اجتماعية أو سياسية أو حتى دينيّة من دون دراسة وعمق، فقط لأنَّ أهلنا يحبّون هذه الشخصية أو تلك.. أو أن نبغض شخصية ما لأنَّ أهلنا أو أصدقاءنا يبغضون هذه الشخصية.. فهذا كلّه يمثّل حبّاً وبغضاً أعمى، لأنّهما لم ينطلقا من عقل مفتوح يبصر حقائق الأشياء وطبيعتها، ويوازن بين السلبيات والإيجابيات.
فالحبّ المفتوح العينين هو الحبّ الذي ينطلق من دراسة، فأنت تحبّ عالماً لأنّك، تعرف مستوى علمه وتقواه وورعه، وتحبّ مجاهداً، لأنّك تعرف صدقه في جهاده، وتحبّ سياسياً، لأنّك تعرف أنّه مستقيمٌ في سياسته، فأنت تنطلق في حبّك من خلال إيمانك والتزامك ودراستك للعناصر التي تجعلك تحبّ هذا الإنسان إذا كان العناصر إيجابية، أو تبغض هذا الإنسان إذا كانت العناصر سلبيّة.. وهذا هو الحبّ المبصر.
والله أرادنا دائماً أن نبصر الأشياء بعقولنا، كما نبصر الأشياء بأعيننا.. وعلى هذا الأساس، فإنَّ حبَّك لله يفرض حبَّك لرسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ولأولياء الله (عليهم السلام) وللعلماء والمجاهدين والمؤمنين.. كما أنَّ بغضك للشيطان يقضي بأن تبغض أولياء الشيطان وجنوده ووسائله. وعلى هذا الأساس جاء الحديث عن أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام): "أصدقاؤك ثلاثة، وأعداؤك ثلاثة، فأصدقاؤك: صديقك وصديق صديقك وعدوّ عدوّك، وأعداؤك: عدوّك، وعدوّ صديقك، وصديق عدوّك"(1).
الله أراد لنا أن نبصر الأشياء بعقولنا، كما نبصر الأشياء بأعيننا.
الزهد الحقيقي
كتب أحد الصحفيّين(2) بأنّه استمع إلى إحدى محاضراتكم التي تضمّنت كلاماً عن أنَّ الزاهد الحقيقي، هو مَن يرتدي الثوب الخَشن تحت ثوبه الناعم الذي يخرج به إلى الناس، لا مَنْ يخرج إلى الناس ليريهم أنَّه زاهد ويرتدي الخَشِن، وأنّكم لا ترون حَرَجاً في ارتداء الوثير من الثياب، لأنَّ خير الأرض لأخيارها لا لفجّارها، كيف تفسّرون هذا القول؟
هذا الكلام ليس من عندي، هو للإمام جعفر الصادق (عليه السلام)، حيث جاء في الرواية أنَّ شخصاً رآه ـــ ويُقال بأنّه سفيان الثوري ـــ يلبس ثوباً أبيض جميلاً، فقال له ـــ ما مضمونه ـــ إنَّك ابن رسول وترتدي هذه الثياب الجميلة التي لا تناسب مقامك؟ فما كان من الإمام (عليه السلام) إلى أن أراه تحت ثيابه هذه ثياباً خشنة، وقال له: هذا لله وهذا للناس، وإنَّ الدنيا إذا أقبلت فأحقُّ الناس بها أخيارها لا أشرارها، وأبرارها لا فجّارها، وما بِتُّ ليلة ولله في عنقي حقٌّ.
ومن هنا، نقول: إنَّ الله إذا وسّع على إنسان في الرزق، فله أن يستثمر هذا الرزق في راحته، ولكن عليه أن يُخرج حقوق الله من ماله {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات: 19] ويقول الله تعالى أيضاً: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف: 32] وفي الحديث: "ليس الزهد ألاّ تملك الدنيا، بل الزهد ألاّ تملكك الدنيا"(2) ألاّ يكون قلبك متعلِّقاً بالدنيا بالمستوى الذي يقودك ذلك إلى الحرام، وقد ورد في كلام أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام): "الزهد كلُّه بين كلمتين من القرآن، قال الله سبحانه: لكيلا تأسوا على ما فاتكم، ولا تفرحوا بما أتاكم، ومَنْ لم يأسَ على الماضي ولم يفرح بالآتي فقد أخذ الزهد بطرفيه"(2) فإذا أقبلت الدنيا من طريق الحلال، فلا مشكلة في ذلك، وإذا ذهبت وأدبرت، يجب على الإنسان ألاّ يسقط ويدمّر نفسه، لأنَّ الله تعالى قد يبتليه بالسَّعة، وقد يبتليه بالضيق.
إذا وسَّع الله على إنسان في الرزق، فله أن يستثمر هذا الرزق في راحته من حلال، ولكن عليه أن يُخرج حقوق الله من ماله.
الوسوسة
برأيكم ما هي الوسوسة؟
الوسوسة هي عبارةٌ عن هذه المشاعر والأفكار التي تدخل إلى النفس من خلال الأجواء التي تحيط بالإنسان، سواء كانت أجواء أصدقائه، أو الذين يوسوسون له بالشرّ والانحراف والفسق والفجور، أو وسوسة الأجهزة الإعلامية، من خلال وسوسة الصورة والأفكار التي يراها أو يستمع إليها، أو وسوسة الصحف والكتب التي يقرأها. والاستغراق في هذه الوساوس تجعل الإنسان في حالة اهتزاز نفسيّ، بحيث يعيش في حالة حيرة وقلق تؤدّي إلى إسقاط إرادته، لأنّها تتحرّك في أسلوبها بالطريقة التي تزيّن له القبيح، وتثير غريزته وشهوته وأطماعه، وتفتح له أحلام الشرّ، وما إلى ذلك.
والقرآن الكريم يحثّنا أن نتعوّذ من الوسواس الخنّاس بالله سبحانه وتعالى {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ*مَلِكِ النَّاسِ*إِلَهِ النَّاسِ*مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ*الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ*مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} [الناس: 1 ـــ 6]، فالخنّاس هو الذي يعطي الفكرة السيّئة، ثمّ يخنّس، أي يتراجع، تماماً كمن يوجّهك نحو شيء، ويثير عندك بعض الأفكار والأحلام، ويتراجع إلى الخلف، ويتركك وحدك تتخبّط فيما أنت فيه، فتسقط دون أن يساعدك، وهذا ما نعيشه في الواقع السياسي والاجتماعي، حيث تُوضع لنا الخطط التي نقبلها، ثمّ تأتي النتائج السيّئة التي نحصدها وحدنا.
وهنا تأتي الاستعاذة، التي تشابه التوكّل على الله تعالى، حيث نقوم بواجبنا، ونترك أمر التوفيق على الله تعالى. فالاستعاذة تعني أن نفكّر بوسوسات النفس، ونترك للعقل أن يفهمها ويحلّلها، فيطرد ما هو ضارٌّ منها، ويحتفظ بالنافعة. فالإنسان الذي يستعيذ بالله تعالى لا يستسلم للوساوس النفسيّة والغريزية، أو وساوس الباطل والشرّ والظلم أو ما إلى ذلك، لأنّه يتذكّر الله دائماً من خلال الإسلام الذي يفتح له كلَّ أبواب الحياة، فيناقش أفكاره ومشاعره وأحاسيسه مناقشة دقيقة، ثمّ يستعين بالله سبحانه على أن يثبّته ويقوّيه، وألّا يترك للوسواس الخنّاس أن يسيطر عليه في وسوسته.
الاستغراق في الوساوس تجعل الإنسان في حالة اهتزاز نفسي، بحيث يعيش في حالة حيرة وقلق تؤدّي إلى إسقاط إرادته.
الإلتزام والتعصّب
برأيكم ما هو الفرق بين الإلتزام وبين التعصّب؟
الالتزام هو أن تؤمن بما تؤمن به من دينك أو رأيك، انطلاقاً من الحُجّة والبرهان اللّذين تملكهما ويؤكّدان لك الحقيقة فيما تؤمن به، ويجعلانك قادراً على محاورة الناس لتقنعهم برأيك، مع اعترافك في الوقت ذاته للآخر بأن يكون له التزامٌ مخالفٌ لالتزامك، بحيث تكون مستعداً لأن تدخل مع الآخر في حوار حول ما هو عليه، وما أنتَ عليه.
أمّا التعصّب، فهو التزامك بفكرة ما من دون أساس علميّ أو اقتناع بالحُجّة والبرهان، وهذا ما يجعلك تختنق في دائرة ما تؤمن به، فتكون عدوانياً تجاه الآخر، فلا تكون موضوعياً تجاه ما يفكّر به. وقد ورد عن الإمام زين العابدين (عليه السلام): "إنَّ العصبيّة التي يأثم عليها صاحبها أن يرى الرجل شرارَ قومه خيراً من خيار قومٍ آخرين ـــ التعصُّب هو الذي يرى جماعته السيّئة أفضل من الجماعة الأخرى حتى وإنْ كانت جماعة خيِّرة ـــ وليس من العصبيّة أن يحبَّ الرجل قومَه ــ فكلُّ إنسان مفطور على حُبِّ قومه ـــ ولكن من العصبيّة أن يعين قومه على الظلم"(1) فيتعصّب لقومه فيعينهم ويشاركم بظلمهم. فالمتعصّب إذاً، إنسانٌ أعمى لا يفكِّر بما يلتزم به من موقع عقل وعلم، أو يقيس الأمور بمقياس الحُجّة والبرهان، بل يقيسها بمقياس الانفعال والعصبيّة المختزَنَة داخلَ نفسه.
المتعصب إنسانٌ أعمى لا يفكّر بما يلتزم به من موقع عقل وعلم.
كي لا تحترق القضايا الكبيرة
كنتم تردِّدون دائماً: "لا تتلهّوا بالقضايا الصغيرة حتى لا تحترق القضايا الكبيرة" برأيكم هل تخطَّت الحالة الإسلامية هذه المرحلة، أم ما زالت تعيش الاختلاف وسلبيّاته؟
لقد استطاعت الحالة الإسلامية أن تأخذ ببعض العناوين الكليّة الكبيرة، وذلك عندما اختارت الوقوف ضدّ الاستكبار العالمي بكلِّ صلابة وقوّة، كما اختارت أن تقف ضدّ الصهيونية بكلّ جهاد. ومن هنا، فإنَّنا نعتبر أنَّ الحالة الإسلامية استطاعت مواجهة هاتين المسألتين اللّتين تمثِّلان أعلى القضايا الحيويّة في العالم، ولكنّنا نجد أنَّ من بعض الحالة الإسلامية لا يزال يعيش طفوليّة الألعاب الصغيرة في الجزئيّات والخلافات والحرتقات الصغيرة، وفي بعض الأوضاع الجزئية التي تكاد تأكل روح الحالة الإسلامية وتفقدها روحانيّتها، وربّما تترك تأثيرها على القضية الكبرى. ومن هنا، نقول: إنَّ على الإسلاميّين أن يحاربوا الشيطان الأصغر في داخلهم، إذا أرادوا محاربة الشيطان الأكبر في الخارج، لأنّنا نخاف أن يستغلّ الشيطان الأكبر ألاعيب الشيطان الأصغر "شيطان العصبيّات الذاتيّة والحزبية والمذهبية والطائفية" فينتصر علينا بالسلاح الذي نقدّمه له من خلال سلبياتنا وعصبيّاتنا.
نخاف أن يستغلّ الشطيان الأكبر العصبيات فينتصر علينا بالسلاح الذي نقدّمه من خلال سلبياتنا.
خوفاً من إثارة الحرائق
يصطبغ خطابنا السياسيّ والفكريُّ أحياناً بشيء من الانفعال، وهذا ينعكس توتّراً على العلاقة بيننا وبين الآخرين، هل تعتبرون أنَّ ظروفنا وأوضاعنا تتحمّل خطاباً انفعاليّاً؟
إنّنا ندعو مجتمعنا الإسلاميّ في كلّ مواقع التوتّر الطارئة التي تحدث في داخله من خلال بعض التعقيدات والأوضاع القلقة التي يختلف الناس حولها بين مؤيّد ومعارض، بين مستنكر ومرحِّب، أن يكون خطابه في مثل هذه الأوضاع والتوتّرات خطاباً قرآنياً {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء : 53] في كلِّ كلماتهم وأساليبهم، وفي كلِّ ما يتحاورون ويتجادلون فيه، وما يتنازعون حوله ويختلفون عليه. والله تعالى عندما يريدنا أن نختار القول الذي هو أحسن والأسلوب الأحسن، فلأنَّ الشيطان قد يستغلّ الكلمات المتوتّرة والانفعاليّة ليدخل من خلالها إلى واقعنا ويثير الكثير من الحساسيّات والإيحاءات التي تجعل الواقع الإسلامي واقع عدواة بدل أن يكون واقع أُخوّة وصداقة، وواقع التمزّق بدل واقع التوحّد والتجمّع، وواقع البغضاء بدل واقع المحبّة {إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً} [الإسراء : 53]، وهكذا نقرأ قوله تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت : 34]، لأنَّ الله سبحانه يريدنا إذا وقعنا في بعض المشاكل، ودار الأمر في حلّها بين أسلوب العنف الذي يثير التوتّر والانفعال الذي يؤدّي إلى النزاع والتقاتل، وبين أسلوب الرفق، فإنَّ الله تعالى يطلب أن نختار دفع المشكلة وحلّها بالتي هي أحسن، حتى يكون عدوّنا صديقاً، والله تعالى يقول أيضاً: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت : 35] صبروا على حساسيّاتهم ومذهبيّاتهم وعلى خطوطهم الاجتماعية وانفعالاتهم الذاتية، فنالوا الحظّ العظيم من الإيمان بالله والتقوى، ومن الوعي في الساحة كلّها. وهذا ما ينبغي للمسلمين سواء كانوا من العلماء أو المثقّفين أو من القاعدة الشعبيّة أن يلاحظوه في حركتهم، لأنّ واقع العنف لن يكون في مصلحة أحد، وبالتالي لن يكون في مصلحة الإسلام والمسلمين.. وهكذا إذا أردنا أن نجادل أهل الكتاب الذين نعيش معهم في لبنان وخارجه، لنطلق رأياً أو فكرة أو معارضة، فإنَّ الله تعالى يقول: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [العنكبوت : 46]، وهكذا يريدنا سبحانه أن ندخل مع أهل الكتاب في الخطاب والحوار بالكلمة الأحسن والأسلوب والجوّ الأحسن، حتى نستطيع أن ندخل إلى قلوبهم من أقرب طريق، وهو طريق القلب المفتوح والعقل المفتوح.
إنّنا نحبّ لإخواننا كلِّهم أن يدرسوا كلماتهم حتى لا تثير الحرائق هنا وهناك، لأنّنا في غنىً عن كلّ حريق داخليّ على مستوى المجتمع الإسلامي أو مستوى البلد كلّه، لأنّنا نواجه حريقاً كبيراً ما زالت إسرائيل تشعله منذ خمسين سنة، ونواجه حريقاً أكبر تثيره أميركا هنا وهناك وفي كلِّ مكان من عالمنا، من أجل أن تتدفّأ على حريق المستضعفين.
إنّنا نحبُّ لإخواننا كلِّهم أن يدرسوا كلماتهم حتى لا تثير الحرائق، لأنّنا نواجه حريقاً كبيراً ما زالت إسرائيل تشعله منذ خمسين سنة.
الخلط بين العصبيّة للذّات وبين العمل للدين
في خطبة الجمعة بتاريخ 21 شباط 1997م، وكما عوَّدتمونا في كلِّ مواقفكم، دعوتم إلى التواصل وعدم الهجران بين الرساليّين، وعمّمتم ذلك حتى مع الذين يقفون في الموقع الآخر لنفتح عقولهم وقلوبهم على الإسلام. السؤال: ماذا لو حاولنا التواصل مع مَنْ قاطعونا، ولكنّهم أصرّوا على إقفال الأبواب بوجوهنا، ويبرِّرون مقاطعتهم لنا مستندين على نصوص شرعية في المقاطعة؟
هناك بعض الناس الذين تفتح لهم قلبك، فإنّهم يغلقون قلوبهم عنك، أو تفتح لهم بابَك، فإنَّهم يُغلقون أبوابهم عنك، أو تدعوهم إلى الحوار، فإنَّهم يردّون هذه الدعوة بالمزيد من الكلمات السلبيّة ـــ وهذا هو مقصود السؤال ـــ وهم يبّررون ذلك أنّهم قد يقاطعونك لأنّهم يريون فيك عنواناً يسيء إلى الإسلام أو إلى الخطّ الصحيح، لأنَّ الله تعالى أراد أن تقاطع أهلَ الشرّ وأهل الفساد والبدعة في الدين، ولذلك يشرِّعون لأنفسهم المقاطعة على أساس أنّهم يستقيمون في الخطّ.
إنَّنا نتصوّر أنَّ ما ورد في الأحاديث عن مقاطعة الذين يصرُّون على الكفر والنفاق والضلال والفساد والفسق، هم الذين ليسوا مستعدّين للحوار واللّقاء والانفتاح، فمن الطبيعي عندها أن نقول: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ*لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ*وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ*وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ*وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ*لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 1 ـــ 6]. أمّا إذا كان الآخرون مستعدّين للّقاء معك من دون تحفُّظ، منفتحين على الحوار، ويعملون على التواصل من أجل حلِّ المشاكل الفكريّة بالفكر والواقعية، فإنّه من ناحية شرعية لا يجوز لك المقاطعة، لأنَّ مهمّة المسلم الداعية أن يجلب الناس إلى دينه بالانفتاح والكلمة السواء والأسلوب الطيّب والجوّ الطيّب، وقد علّمنا أمير المؤمنين عليٌّ (عليه السلام): "إحصد الشرّ من صدر غيرك بقلعه من صدرك"(1)، فإذا قلعت الشرّ من صدرك وهو كنايةٌ عن عقلك وقلبك وإحساسك، فإنَّك تجعل صدرك منفتحاً على الخير.
إنّنا لا نملك إلاّ أن نقول: إنَّ الآخرين مخطئون في ذلك، لأنَّهم يخلطون بين العصبيّة للّذات والموقع وبين العمل للدين والخطّ. ونحن مصرّون على أن نفتح عقولنا وقلوبنا ومشاعرنا وساحاتنا للناس كافّة من مسلمين وهم الأقرب إلينا، ومن غير المسلمين، وهم الذين نريد أن نتعامل معهم بالحوار، لنصل إلى الكلمة السواء.
إذا قلعتَ الشرّ من صدرك وهو كنايةٌ عن عقلك وقلبك وإحساسك، فإنَّك تجعل صدرك منفتحاً على الخير.
عناصر للإفساد
في خطبة لكم تقولون: "إنّكم ترون أنَّ الكفر والفسق والفجور والضلال يدخل إلى بيوتنا من خلال الإذاعة والتلفزيون والواقع الاجتماعي، ولا يمكن أن نكون حياديّين أمام ذلك، ولا بدّ لكلٍّ منّا أن يستنفر طاقاته" برأيكم كيف يكون الاستنفار لمواجهة ذلك؟
من الطبيعي أنَّ الإذاعة والتلفزيون والصحافة التي تسمّي نفسها فنيّة وأماكن اللّهو المحرّم والمسابح المختطلة وما إلى ذلك تعمل جميعاً من أجل تمييع وإضعاف القوّة الأخلاقية الموجودة في واقع المسلمين، لأنّها تربط الناس بالجنس الغير المتوازن، وتدفعهم إلى الأخذ بأسباب اللّهو والخلاعة والفجور، لتنزع من الشباب قوّة الإرادة وصلابة الموقف ليعيش راقصاً لاهياً عابثاً، من دون أن يملك أيّة قاعدة يرتكز عليها في بناء المستقبل.. وإذا كنّا لا نستطيع أن نمنع الإذاعة والتلفزيون من الدخول إلى بيوتنا، علينا أن نعرف كيف نشغّل هذه الوسائل بما يمكن أن يربّي لنا عقولنا وأخلاقنا ويبعث الوعي فينا، ونغلقها عندما نجد فيها فساداً وإفساداً، علينا أن نسيطر على هذه الأجهزة الموجودة في بيوتنا بمعرفة استعمالها، لأنَّ لها مفتاحاً إذا عرف الإنسان كيفيّة استعماله، فإنّه يستطيع أن يحمي نفسه وأهله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم : 6].
علينا أن نسيطر على الأجهزة الموجودة في بيوتنا بمعرفة استعمالها، لأنَّ لها مفتاحاً إذا عرف الإنسان كيفية استعماله، فإنَّه يستطيع أن يحمي نفسه وأهله.
الأقوياء والضعفاء وصناعة الواقع والتاريخ
جاء في دراسة لأحد الباحثين، يقول فيها: "إنَّ الأقوياء في هذا العالم أسياد الماضي وأسياد المستقبل في الوقت نفسه.. إنَّ الذين بيدهم القوّة والجاه والسلطان يستطيعون أن يفسّروا التاريخ ويعيدوا كتابته كما يشاؤون، ولهذا السبب، إنّهم قادرون على توجيه المستقبل كما يشاؤون" ما تعليقكم على ذلك؟
كأنَّ السائل يريد أن يقول: إنَّ الأقوياء هم الذين يصنعون الواقع، فكما صنعوا الواقع في الماضي على صورتهم، هم يصنعون المستقبل على صورتهم، لأنّهم يملكون من عناصر القوّة في الثقافة والسياسة والاقتصاد والأمن ما يجعلهم قادرين على تفسير التاريخ والواقع والقِيَم والمبادئ بالطريقة التي يتمثّلونها ويؤمنون بها. ولذلك فهم الذين يحدِّدون للناس مصائرهم. أمّا تعليقنا، فإنّ هذه المسألة قد يكون لها دورٌ بشكل جزئي. فنحن نعرف أنَّ الكثير من التاريخ قد كتبه وصنعه الطغاة، وفسّره أعوان الطغاة، ولكنّنا عندما نقرأ الكثير من التاريخ أيضاً، نعرف أنَّ العلماء الذين كانوا خارج سلطة ونطاق الطاغية، وأنَّ الكثير من المستضعفين الذين كانوا بعيدين عن فتات موائده، استطاعوا أن يغيِّروا الكثير من الواقع بأساليبهم المتنوّعة وبقواهم الروحية. ونحن نعرف أنَّ الأنبياء (عليهم السلام) كانوا من أضعف الناس على مستوى الواقع المادي، ولكنّهم استطاعوا تغيير التاريخ. لقد اضطُهدوا وحُوصِروا وشُرِّدوا وقُتِلوا، ولكنّهم فرضوا أنفسهم على التاريخ، وهكذا نرى أنَّ بعض المصلحين استطاعوا أن يفسحوا المجال للكثير من آرائهم وأفكارهم لتفرض نفسها على الطغاة ولو بعد حين.
فللطغاة دورهم وللأقوياء دورهم وسيطرتهم، ولكن يبقى للأولياء والمفكّرين والمصلحين دورهم الكبير لإحداث التغيير في العالم ولصناعة المستقبل.
العلماء والمستضعفون الذين كانوا خارج سلطة الطاغية، استطاعوا أن يغيِّروا الكثير من الواقع بأساليبهم المتنوّعة وبقواهم الروحية.
الزواج والأعراق
في مقالة للأستاذ محمد عبد الجبّار تحت عنوان (الإسلام والدولة القوميّة) يستشهد برأي لكم حول رفض الإسلام للتمييز العرقي حيث تقولون: "لا مجال لعزل الإنسان عن الواقع الإنساني العام في الزواج والتجارة وغيرهما لخصوصية القومية أو اللونية أو العرقية" ولكن ما نلاحظه في بعض أدبيّاتنا أنَّ هناك نهياً عن الزواج من أعراق معيّنة... ما تعليق سماحتكم على ذلك؟
هذه الفكرة تعني أنَّ الإسلام ساوى بين الناس في مسألة الزواج، فللإنسان أن يتزوّج أيّة إنسانة أخرى مهما كانت قوميّتها ولونها، وللمرأة أن تتزوّج أيّ رجل مهما كانت قوميّته أو عرقه أو لونه ما دام مسلماً.. وهكذا في مسألة التجارة، فللمسلم أن يتجر مع أيّ إنسان بعيداً عن قوميّته ولغته.. وقد تحدّثنا في أبحاثنا الفقهية حول هذا الموضوع، ولا سيّما الفقه الاستدلالي في كتاب "النكاح"(1) من أنّ هذه الأحاديث لا تثبت أمام النقد العلمي من حيث الوثاقة، ومن حيث مضمونها، لأنّها أحاديث تختلف عن الحقيقة القرآنية التي لا تفرّق بين إنسان وآخر {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات : 13] وقد ورد في كتاب الإمام زين العابدين (عليه السلام) لعبد الملك بن مروان عندما أعتق الإمام (عليه السلام) أمَتَه وتزوَّجها، واعترض عليه عبد الملك بن مروان في رسالة أرسلها إليه، بأنَّك قد أسأت إلى شرفك، لأنّه لا يمكن للقرشيّ أو الهاشمي أن يتزوج من امرأة أصلها، أمَةٌ، فقال له (عليه السلام): "إنَّ الله قد رفع بالإسلام الخسيسة"(2) إنَّ الإسلام هو كلّ الشرف، وإذا كانت هناك بعض الأوضاع الاجتماعية التي تُسقط الإنسان لنسبه أو لموقعه، فإنَّ الإسلام يرتفع بالإنسان ليكون مساوياً لبقية الناس، "فلا لوم على امرئ مسلم وإنَّما اللّوم لوم الجاهلية"(3).
الإسلام يرتفع بالإنسان ليكون مساوياً لبقيّة الناس.
حبّ الله
تقولون في كتابكم "خطوات على طريق الإسلام"(4): "إنَّ الإنسان الذي يعيش حبّ الله في قلبه، هو إنسانٌ لا يفهم للخوف معنىً، ولا يتّخذ للتخاذل في طريق الجهاد سبيلاً" هل ينطبق هذا القول على مَنْ يعيش حبَّ الله، كما يعيشه المحبُّون في قصائد غزلهم، أم أنّ الحبّ يترتّب عليه التزاماتت ومسؤوليات تجاه الله تعالى؟
إنَّ معنى أن تحبّ الله، أن يمتلأ عقلك بالله، بحيث تُحسُّ أنّ كلّ وجود هو صدىً لوجوده، وأن يمتلأ قلبك بالله، بألاّ تحرِّك عاطفتك تجاه أيّ مخلوق إلاّ من خلال علاقته بالله، لذلك، أن تعيش حبّ الله في حياتك بألّا تقدِّم رِجلاً ولا تؤخِّر أخرى حتى تعلم أنَّ ذلك لله رضىً.. وقد عرَّفنا الله سبحانه معنى أن نحبّه في خطابه لرسوله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ} [آل عمران : 31] إنّ علامة حبّكم لله أن تتبعوا رسول الله في رسالته، لأنّكم تجسّدون الحبّ فكراً في فكر الرسالة، وقلباً في عاطفة الرسالة، وحركة في حركة الرسالة. ليس الحبُّ لله خفقة قلب أو نبضة شعور، ولكنّ حبّكم لله سبحانه ألا تروا شيئاً إلاّ وتروا الله معه وخلفه كما يعبّر عن ذلك أمير المؤمنين (عليه السلام). وقد كان رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) يمثّل قمّة الحبّ لله تعالى بحيث لا يخاف أحداً في إحساسه بحضور الله معه {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا} [التوبة : 40] فالذين يحبُّون الله هم السائرون على الخطّ المستقيم {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ*فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ*إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: 173 ـــ 175] فسياسة الخوف من غير الله هي سياسة شيطانية، والذين يحبّون الله لا يخافون الفقر ولا يخافون أن يضيّعهم الله {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر : 36] ويقول تعالى أيضاً: {وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر : 36] تلك هي المسألة، أن تحبّ الله، ألاّ يكون هناك مكانٌ في عقلك وقلبك وشعورك وحياتك إلاّ لله، وعندما يدخل رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) قلبك، فلأنّه حبيب الله ورسوله وعبدُه، وهكذا عندما يدخل الأئمّة (عليهم السلام) في قلبك لأنّهم {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ*لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء: 26 ـــ 27] وعندما تدخل الزهراء (عليها السلام) إلى قلبك، فلأنَّ الله تعالى يغضب لغضبها ويرضى لرضاها، لأنّها لا تغضب إلاّ لما يُغضب الله، ولا ترضى إلاّ لما يُرضي الله، وعندما تُدخل المؤمنين في قلبك فلأنّهم آمنوا بالله. وهذا حديث أهل البيت يوضح هذا المعنى: "إذا أردت أن نعرف نفسك فانظر نفسك، فإن كان قلبك يوالي أولياء الله ويعادي أعداء الله ففيك خيرٌ والله يحبّك، وإن كان قلبك يعادي أولياء الله ويوالي أعداء الله فليس فيك حيرٌ والله يبغضك، والمرء مع مَنْ أحبّ.
إنّ علامة حبّكم لله أن تتّبعوا رسول الله في رسالته لأنّكم تجسّدون الحبّ فكراً في فكر الرسالة، وقلباً في عاطفة الرسالة، وحركة في حركة الرسالة.
الحقيقة
في رسالتكم إلى مؤتمر "رابطة الشباب المسلم في لندن" ورد في سياق الرسالة عبارة تقول: "إنَّ الأصالة تمثّل الجذور العميقة في إنسانية الإنسان في الفكر الأصيل الممنطلق من الله ورسوله الذي ينفتح على الزمن كلّه، فلا يخضع للماضي والحاضر والمستقبل في حدوده الزمنية" نرجو توضيح قصدكم في ذلك؟
إنَّ على الإنسان أن يمتلك قاعدة في عقله وقلبه وحياته بحيث تمثّل الإحساس لإنسانيّته وشخصيّته، وهذه القاعدة هي الإسلام، بحيث يكون فكرُه فكرَ الإسلام، وعاطفتُه عاطفة الإسلام. وعلى هذا، يجب أن تكون حركتنا مستمدّة من خطوط الإسلام وأحكامه وتعاليمه ووصاياه ومناهجه، حتى نشعر أنّ الإسلام هو الأساس الذي ترتكز عليه شخصيّتنا، والأساس الذي يقوم عليه وجودنا، لنرفض الأفكار والعادات والتقاليد والشعارات التي تأتينا من هنا وهناك.
ولذلك، فإنَّ الإنسان الذي يملك هذه القاعدة، فإنّه يقوى ويتصلَّب في هذه القاعدة، فلا تستطيع الرياح أن تهزّه، أمَّا الإنسان الذي يفتقد هذه القاعدة، إذا ما أتت الريح فإنَّه يميل كما تميل الريح، ولذلك يقول أمير المؤمنين عليٌّ (عليه السلام): عن الذين تميل بهم الريح: "هَمَجٌ رُعَاعَ أتباع كُلِّ ناعِق، يميلون مع كُلِّ ريح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجأوا إلى ركنٍ وثيق"(1) فهناك أُناسٌ يفتقدون الأساس الفكري، فليس عندكم أساسٌ عقائدي يؤمنون به، ولذا عندما يأتيهم التيّار، فإنّه يجذبهم، أمّا الذين يعيشون عقيدتهم بوعي وتدبُّر ومسؤولية، فإنَّ أقدامهم تبقى ثابتة، لا تنال منهم التيّارات والهزّات والزلازل. ومن هنا، فإنّني أقول: أيُّها الناس، إنَّ رسالة الله هي الحقيقة التي هي فوق الزمن، فلا يستطيع الماضي أن يحتويها، ولا يستطيع الحاضر أن يسقطها، لأنّها فوق الزمن باعتبار أنّها تنطلق من عمق الحياة.
رسالة الله هي الحقيقة، وهي فوق الزمن، فلا يستطيع الماضي أن يحتويها، ولا الحاضر أن يسقطها.
التهرّب من المسؤولية
يتهرَّب البعض من مسؤوليّاته الرسالية على مستوى التبليغ والإرشاد، لأنَّ من تَبِعَات ذلك شبهات الناس وإشكالاتهم، ويرى بأنَّ العمل في الظلّ أفضل، هل أنَّ موقف هذا البعض صحيح؟
قد يكون لهم عذرٌ في أنفسهم، لكنّني أجد أنّه لا بدَّ للعاملين أن يعملوا في الهواء الطَلْق وفي الساحة الواسعة، فالذين يواجهون التيّار لا بدّ أن يكونوا مستعدّين لتحمّل ضربات التيّار {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214] وإذا فرضنا أنّ العامل في سبيل الله شُتِم وهرب من مسؤوليّته، أو إذا اتُّهِم تراجع، فكيف يمكن أن يواصل مسيرته؟ لا بدّ من جِلد سميك لا تؤثّر فيه "اللّكزات ولا النخسات" حتّى يستطيع أن يثبت أمام الساحة. نحن بحاجة إلى رجال يقفون بصلابة وبقوّة وعنفوان أمام التحدّيات كما قال عليٌّ (عليه السلام) لولده محمّد بن الحنفية (رضي الله عنه): "تزول الجبال ولا تَزُل عَضَّ على ناجذك، أَعِرِ الله جمجمتك، تِدْ في الأرض قدَمَك، إِرْمِ بِبَصَركَ أقْصى القوم، وغُضَّ بَصَرَك واعلم أنَّ النَّصر من عند الله"(1). فالخوف من السباب والشتائم والاتهامات الباطلة، يعني الانسحاب من الساحة وإبقاءها فارغة للآخرين يعبثون بها كما يشاؤون.
والنبيّ محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وهو إمامنا ونبيُّنا وسيّدنا وحبيبنا وشفيعنا يقول: "ما أُوذي نبيٌّ مثلما أُوذيت"(2) وعندما رجع من الطائف وقد دميت جبهته ورجلاه" قال: "إنْ لم يكُن بكَ غضبٌ عليَّ فلا اُبالي"(3). المهم ألّا يغضب الله، فحتى لو غضب الناس كلُّهم عليك، ورضي الله عنك فتلك هي السعادة، وإذا رضي الناس عنك وغضب الله عليك، فأيُّ "سعادة" هي؟ "ماذا وجد مَنْ فقدَك وما الذي فقد مَنْ وجدك"(4) هذه هي المسألة.
لو غضب النّاس كلُّهم عليك ورضي الله عنك فتلك هي السعادة.
ما العلاقة بين الرِّدة وحريّة الفكر؟
إنّني أتصوّر أنّ مسألة الرّدة في الشريع الإسلامي ليست متّصلة بحريّة الفكر، بل هي متّصلةٌ بحركة النظام الإسلامي في داخله، لأنَّ النظام الإسلامي لا يقوم على أساس الأرض، وإنّما على أساس العقيدة. ومن هنا، فإنَّ خروج الإنسان على الإسلام، يمثِّل خروجاً على النظام بذاته وتحدِّياً للنظام في عمقه الحيويّ الذي يقوم عليه، فإذا أُفسح في المجال أمام حركة الرِّدة في داخل النظام الإسلامي، فسيسقط النظام تحت تأثير ردّات متلاحقة، تماماً كما يتنكَّر البعض لأرضه فيحوّلها إلى أرضٍ يستبيحها العدوّ، وهذا ما يسمّى بالخيانة العظمى، وعندما يخون الإنسان العقيدة، فإنَّه يُتَّهم كما لو أنّه خان أرضه وبلادَه، فعمليّة الردّة إذاً، هي عملية جحود للإسلام ورفض له، ولكن أعتقد أنّه ليس في العالم مَنْ يستطيع أن يجحد الفكر الديني والإسلام.. فكلُّ حركة الفكر المضادّ للدّين إنَّما تتحرّك لترسم علامات استفهام حول الدين، ولكنّها لا تستطيع أن تقدّم دليلاً على نفي وجود الله تعالى، لأنَّ النفي يحتاج إلى دليل، كما هو الإثبات يحتاج إلى دليل، لذلك فإنّني أتصوّر أنّه لا يوجد ملحدٌ في العالم، لسبب بسيط جداً، وهو أنَّه لم يستطع أحدٌ منذ وُجدت الفلسفة الماديّة وحتى الآن أن يُقيم دليلاً على عدم وجود الله تعالى، إنَّهم ـــ أتباع الفلسفة الماديّة ـــ يلفظون أدلّة ـــ لو أسميناها أدلّة تسامحاً ـــ ولكنّهم لا يقيمون الدليل على عدم الوجود، وهؤلاء نضعهم في دائرة الشكّ، وليس الشكُّ كفراً، لأنَّ الكفر يدخل في دائرة الجحود والنكران، أمّا الشكّ ففي دائرة التساؤل والإثارة وطرح علامات الاستفهام، وليس الإسلام ضدّ التساؤل والنقاش، فيقول سبحانه: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [النمل : 64].
وهناك نقطةٌ لا بدّ من التوقّف عندها، ففي الوقت الذي نؤكّد فيه على حماية العقيدة من كلِّ التسيّب، فإنّه لا يمكن لنا بكلِّ سهولة أن نُطلق أحكام الرِّدة على بعض المفكّرين والمثقّفين، وهذه المسألة لا بدّ فيها من الدقّة والحذر.. لماذا؟ في موضوعات الأحكام، هناك عناوين أوليّة وعناوين ثانوية، فالماء حلال بالعنوان الأوّلي، ولكن يصبح حراماً في العنوان الثانويّ إذا أصبح مضرّاً.. وعلى هذا، فإنّنا عندما نريد أن نطلق الأحكام على بعض الذين يُوصَفُون بالارتداد، تجب دراسة المسألة في الواقع وحجم السلبيّات والإيجابيات في تحريك هذه المسألة. فربّما ينطلق إنسان ليثير أفكاراً مخالفة للإسلام، فهناك أسلوب مواجهته بالردِّ العلمي ومحاولة تطويقه ومحاصرته بالطرق الفكرية، وإبعاد الناس عن تأثيراته الفكرية.. لذلك، فإنَّ إطلاق هذه الأحكام ـــ الارتداد ـــ في حالة فردية هنا وهناك، قد تخلق حملة مضادّةً ضدَّ الإسلام، وربّما تُوجد بعض العناوين الثانوية التي تسيء إلى حركة الواقع الذي لا يكون فيه المسلمون مستعدّين لمواجهة هذه الحملة التي قد تتَّخذ بُعداً عالمياً يشوّه صورة الإسلام والمسلمين.. الأمر الذي يجعلنا نوازن بين المنفعة والمصلحة في الحكم الذي أصدرناه، وبين الضرر الذي يحصل من خلال ذلك على مستوى الواقع الذي سيستغلّ إصدار أحكام الإرتداد لتشويه صورة الإسلام في غياب إمكانية وجود آليّة لمواجهة ذلك. إضافةً إلى كلِّ ذلك، فقد يكون إطلاق حكم الإرتداد على شخص من الأشخاص مجالاً واسعاً أمامه لتكوين حالة من التعاطف معه، كما في قضية التفرق بين نصر حامد أبو زيد وزوجته، ممّا يجعل الناس العاديّين وغيرهم ممّن لا يعيشون معنى الحكم الإسلامي يلتفّون حوله ويتعاطفون مع قضيّته. ولذا، فإنّني أتصوَّر أنّه لو تُركت قضية نصر حامد أبو زيد بحجمها الثقافي والفكري الطبيعي، وعُولجت بطريقة فكريّة تصدمه وتعارضه وتنقده، وتُثير الجوّ الإعلامي حوله من دون إفساح المجال لمثل هذه التفصيلات، لكان من الممكن أن تكون القضية قضية في الواقع العالمي الإعلامي، وفي الواقع الداخلي، قضية فكرٍ إسلامي يصادم فكراً منحرفاً.
في الوقت الذي نؤكِّد فيه على حماية العقيدة من كلِّ التسيُّب، فإنَّه لا يمكن لنا بكلِّ سهولة أن نُطلق أحكام الرِّدة.
العقل
في كتابكم "الندوة"(1) وفي حديثكم عن العقل، تقولون: "هل يمكن أن نفكِّر بأنَّ عقلاً يحترم نفسه لا يؤمن بالله" بينما نرى أنَّ كثيراً من الذين يعتدّون بعقولهم ينحرفون عن خطِّ الله، هل تردُّن هذا الانحراف إلى تعطيل بعض مراكز العقل عندهم؟
العقل الذي يحترم نفسه لا بدّ أن يؤمن بالله، لأنَّ الإيمان بالله حركة الوجدان الإنساني الذي يتحسَّس بعقله وإحساسه وشعوره من خلال الدراسة ما أُودع في نفسه من كلِّ هذه الأجهزة الدقيقة التي تتحرّك بحساب وتقف بحساب، وتنطلق من خلال القوانين الحكيمة التي تتحرّك بكلِّ دقّة وانضباط وتوازن فيما يواجهه الإنسان من حاجاته وقضاياه.
فعندما يتطلّع الإنسان إلى السماء وما فيها، وإلى الأرض وما عليها، وإلى هذه الظواهر الكونية، ويدرس القوانين والسُّنن الموجودة في داخلها، وعندما يدرس حركة التاريخ ودور الإنسان فيه، في إنشاء الحضارات وفنائها، وينظر إلى هذا الكون الذي لا يمكن أن يجد أيّة ظاهرة فيه، كبيرة كانت أم صغيرة، إلاّ ولها سِرٌّ، وفي داخلها قانون، كيف يمكن أن يفكّر بعقل يحترمه أنَّ كلَّ هذا وُجِدَ صُدفةً، وأنَّ ليس وراءه قوّةٌ أو عقلٌ تنظِّمان هذا الوجود؟
إنَّ الإنسان الذي يقول بالصدفة في الحكم على هذا النظام الدقيق الذي تمرُّ ملايين السنين ويبقى على توازنه ودقّته {لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس : 40]، كيف لعقله أن يحترم نفسه عندما يعتبر أنَّ هذا الكون وُجِد من دون الله.
وأمَّا الذين يعتدُّون بعقولهم ولا يؤمنون، فإنَّ مشكلتهم أنَّهم يعيشون الغفلة عن نور العقل، وهم خضعوا لثقافات فُرِضَت عليهم وحجبت عنهم هذا النور، فَحُوصِروا في عقولهم وأُغلقت عن حرية التفكير: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ*خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ} [البقرة: 6 ـــ 7] عاشوا بعيداً عن انفتاح العقل، ولذلك فهم ينطلقون بعقول لا يفقهون بها، وبآذان لا يسمعون بها، وبأعين لا يُبصرون بها، وذلك هو تفسير إلحاد الملحدين وشكِّ الشاكِّين. وقد ذكرنا أكثر من مرّة أنَّ الإنسان إذا فكَّر لا يمكن أن يكون ملحداً، لأنَّ الإلحاد هو الجحود، والجحود معناه النفي، نفي وجود الله، ولا يمكن للإنسان أن ينفيَ شيئاً إلاّ إذا امتلك دليلَ النفي، وكيف يمكن للإنسان أن ينفي وجود الله وهو لا يملك الدليل؟
إنَّ الذين يعتدُّون بعقولهم ولا يؤمنون، مشكلتهم أنّهم يعيشون الغفلة عن نور العقل.
العقل العلمي والعقل الغيبي
يرى أحدُ الكتّابِ أنَّ القضية في الوطن العربي، هي قضية صراع بين العقل العلمي والعقل الغيبيّ، هل برأيكم أنَّ هذه المقولة تنطبق على الحقيقة؟
ليست هذه المقولة حقيقيّة لسبب بسيط، وهو أنّ الذين يؤمنون بالدين، لا يعتبرون الحياة كلّها غيباً.. فربّما يتوهّم البعض أنّنا عندما نؤمن بالله سبحانه وبأنَّه الخالق والمدبِّر لكلِّ شيء، أنَّ معنى ذلك، أنَّ الظواهر الكونية والسُّننَ التاريخيّة والمسيرة الإنسانية خاضعةٌ للتفسير الغيبي، وليس للتفسير الواقعي.. هذا توهّم، لأنّنا نفسّر كلّ ذلك بإرادة الله، فنحن عندما ننفتح على الله سبحانه، نعرف أنَّ الله رتَّب الكون على أساس السنن الكونية، أي على أساس قانون السببيّة، فالله عندما يُنزل المطر إنَّما يُنَزِّلُه من خلال الأسباب التي تنتج المطر، وهكذا فيما ينبت فيه النبات، وتجري به الأنهار، وفيما تتحرّك به الزلازل والبراكين، وفيما تجري فيه الشمس والقمر واللّيل والنهار.. فكلُّ ما في الكون جارٍ على أساس السُّنن الكونية التي أودعها الله في عمق الأشياء لتكون بمثابة النظام الذي يستهدي به الكون في امتداده ومسيرته.. وإنَّ الله تعالى عندما أراد للإنسان أن يقوم بمسؤوليّاته في الحياة وخلافته على الكن، فقد أخضعه لسنن تأريخيّة موجودة في داخل عقله وحركته، فقيامُ الحضارات وسقوطُها، وما تتعرَّض له المجتمعات من مشاكل اقتصادية وعسكرية واجتماعية، خاضعٌ لقوانين موجودة داخل السُّنن التاريخيّة التي أراد الله للإنسان أن يتحرّك فيها.. وهذا ما يوضحه لنا القرآن الكريم {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد : 11]، ويقول سبحانه أيضاً: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم : 41] إنَّ إيماننا بالله لا يمنعنا من أن نفسِّر ظواهر الكون وحركة الإنسان تفسيراً طبيعيّاً عقلياً.
وعلى هذا، فالمؤمنون لا يفسِّرون الحياة بالغيب، وإنَّما بما تختزنه في داخلها من أسرار وقوانين، إنَّ المسلمين وكلَّ المتديّنين يعتبرون أنَّ في الحياة جانبين، جانب الحسّ في الحياة، وجانب الغيب، وهم يستدلُّون على الغب بما في الحسّ، حتى أنَّ العلمانيّين والماديّين لم يستطيعوا أن يُنكروا الغيب، صحيحٌ أنّهم لم يعيشوا تجربته، ولكنّهم لم يستطيعوا أن يثبتوا بالدليل إنكارَه. ونحن عندما نؤمن بالله وبالغيب، فلأنَّ وجودنا وكلّ ما في هذا الوجود يدلُّ على حقيقة وجود الغيب، لذلك نقول، ليس هناك صراعٌ بين العقل العلمي والعقل الغيبي، فنحن نتحرّك في خطِّ العقل العلمي الذي نُثبت به العقلَ الغيبي.
ليس هناك صراعٌ بين العقل العلمي والعقل الغيبي، فنحن نتحرّك في خطِّ العقل العلمي الذي نثبت به العقلَ الغيبي.
المذهبية والطائفية
في كتابكم "مع الحكمة في خطّ الإسلام"(1) قسَّمتم المذهبية إلى قسمين: مذهبية طائفية ومذهبية فكريّة، فأيّدتم المذهبية الفكرية ونبذتم الطائفية، نرجو من سماحتكم إبراز معالم هذه المذهبية الفكرية؟
إنّنا عندما نتبنّى مذهباً فكرياً معيّناً، فنحن نعتبر أنّ هذا المذهب يمثّل وجهة نظر، إمّا وجهة نظر كلامية أو فقهية أو مفاهيمية، وهي تنطلق من الحُجّة والبرهان، ومن الثقافة التي يملكها الإنسان الذي يختار هذا الفكر في عناصره الأصيلة، فيقدّم وجهة نظره كفكر، ليواجه الآخرين الذين يملكون فكراً آخر. وعندما لا نعيش الحساسية في مذهبنا، بل نشعر بأنّه مذهبٌ ثقافي فكري ينفتح على المذاهب الثقافية الأخرى التي ينتمي إليها الآخرون، عند ذلك يمكن الحوار بين هذا المذهب وذاك المذهب على أساس العناصر الثقافية الموجودة في كلا المذهبين.
ونحن عندما نتحرّك داخل الإسلام في مذهبية شيعيّة أو سنيّة، إنّ علينا أن ننظر إلى المذهبين كوجهتي نظر في فهم ومعرفة الإسلام، من خلال ما يقتنع به كلُّ فريق من الثقافة التي تجعله يلتزم هذا المذهب أو ذاك، حتى يمكن الدخول في حوار بينهما على أساس الفكر والعلم وعناصر الإتفاق والّقاء، لردم الهُوّة بين المذهبين، ونردُّ الأمر في الاختلاف إلى الله ورسوله.
وأمّا المذهبية الطائفيّة، فهي المذهبيّة العشائريّة التي لا تنطلق من أيّة حالة فكريّة وثقافيّة ترتكز على العقل، بل تنطلق من الغرائز، فينظر كلُّ فريق إلى الآخر على أنّه تجمّع بشريّ من دون الدخول في الخطوط التي يؤمن بها هذا التجمُّع أو ذاك. ولذا نجد أنّ الطائفيين لا يتفاهمون، وإنّما يتحدّثون عن المصالح والمواقع والحساسيّات.
ونحن عندما نؤمن بالمذهبية الفكرية، فلأنّها تغني تجربتنا الثقافية، وتمنع الوصول إلى الخصومات الغرائزية العدوانية، ويمكن لها أن تُنتج لنا وسيلة علمية ثقافية تؤدّي إلى اللّقاء لا إلى الخلاف.
إنّ الطائفيّين لا يتفاهمون، وإنّما يتحدّثون عن المصالح والمواقع والحساسيّات.
العقل العربي والإسلامي والجمود
يعيد بعض الباحثين أسباب تخلّف الواقع العربي والإسلامي في بنيته السياسية والثقافية والاقتصادية إلى وجود العقل العربي والإسلامي، ما رأيكم بذلك؟
لا نستطيع أن نقول إنّ العقل العربي والإسلامي جامد بشكلٍ مطلق، فهناك حركة إبداعية تطوريّة في هذا العقل، ولدينا الكثير من النتاج الفكري في الواقع العربي والإسلامي ممّا يمثّل حركة ثقافية متقدّمة، ولكن لا يبعد أنّ هناك في بعض المواقع العربية والإسلامية جموداً فكرياً، انطلاقاً من أنّ الكثيرين من الأشخاص لا يريدون أن يناقشوا ما اعتادوه وما ورثوه وما انطلق به الماضي والتاريخ، أو ما تحرّكت به العواطف، لا سيّما وأنّ الأنظمة الحاكمة عملت على محاصرة الفكر والعقل بالكثير من القيود التي تصنعها قوانين الطوارئ وأجهزة المخابرات، حيث انطلقت هذه الأجهزة لتصادر العقل العربي والإسلامي ولتمنعه من الإبداع ليبقى متخلِّفاً وبعيداً عن الحركة الفكرية التي يمكن أن تغيّر الكثير من الواقع وتصلح الكثير من الأوضاع.
إنَّ الأنظمة الحاكمة عملت على محاصرة الفكر والعقل بالكثير من القيود التي تصنعها قوانين الطوارئ.
التكفير
صارت لغة التكفير لغة يومية ومتداولة، وتصدر عن بعض القوى والمراكز الدينيّة في العالم الإسلامي، إلى أين نحن ذاهبون في ذلك؟
مسألة التكفير هي من المسائل التي تنطلق من ضيق الأُفق والعصبيّة العمياء، ومن عدم الوعي لأُسس العقيدة في الإسلام، فالكفر يتلخَّص في أن يكفر الإنسان بالله ووحدانيّته وبالرسول ورسالته وبكلّ ما يتفرَّع عنها من كتاب الله، وباليوم الآخر.. وإذا كان الفقهاء يذكرون أنّ إنكار ضرورة من ضروريّات الدين يوجب الكفر، فإنّهم يعقّبون على ذلك بأنّ إنكار الضروري إنّما يكون موجباً للكفر باعتبار أنّه يعبّر عن تكذيب الرسول ممّا يعني الكفر بالرسالة، ولكنّهم يعتبرون أنّ هذا إنّما يكون إذا التفت المُنْكِر إلى الملازمة بين إنكاره الضروري وبين تكذيب الرسول، أمّا إذا لم يكن ملتفتاً إلى ذلك، فإنّ إنكار الضروري مع الغفلة لا يوجب الكفر.. أمّا أن يُنْكر الإنسان بعض المفاهيم التي هي محلّ اختلاف بين المسلمين باعتبار أنّها من المسائل النظرية، فلا يشكّل ذلك كفراً بالدين(1).
علينا ألّا نكفِّر إنساناً إلّا بعد أن ندرس كلّ فكره وكلماته ومواقفه حتى نخرج من هذا التخلّف الذي يكفِّر فيه المسلمون بعضهم بعضاً، وذلك من دون أن يدخلوا في حوار حول القضايا التي تكون أساساً للتكفير.. إنّ الكثيرين ممّن يكفّرون المسلمين هم من الذين يجهلون الخطوط الفكرية للإسلام، وإن كانوا ممثّلين شكلاً للإسلام في أزيائهم أو مواقعهم الدينية.
علينا ألّا نكفِّر إنساناً إلّا بعد أن ندرس كلّ فكره وكلماتهخ ومواقفه.
الحاجة إلى العقلانيّة لا إلى الإنفعال
في وقت تتوالى فيه المؤامرات على الجمهورية الإسلامية في إيران وعلى كافة الحركات الإسلامية، نلاحظ أنّ الحملات التي يقوم بها البعض ضدّكم لا تزال تبحث في الفراغ، ولا تأخذ بعين الاعتبارات مواقفكم الرسالية، ومواقف القيادة الإسلامية الداعمة لكم، هل المقصود من ذلك مرجعيّتكم التي أخذت انتشارها الواسع في العالم الإسلامي، أم أنّ للحملة أبعاداً ذاتية؟
إنّني أتحدّث مع هؤلاء الناس بكلّ محبّة، وأقول لهم بأنّهم أولادي وإخواني، وإن تكلّم بعضهم بالشتائم والسباب والتجريح.. إنّني أقول لهم: "الَّلهم اغفر لقومي فإنّهم لا يعلمون".. وإنّني أشفق عليهم لأنّهم يعملون على تعقيد الواقع الإسلامي في وقت يحتاج فيه هذا الواقع إلى المزيد من الوعي ومن الحوار الموضوعي العقلاني، لا الحوار الإنفعالي، ولا إلى كلمة السباب والشتائم. أكرِّر القول: "الّلهم اغفر لقومي فإنّهم لا يعلمون" ولن أدخل مع أحد في خصومة، وبالرغم ممّا يوجّهونه، فإنّني أحبُّهم جميعاً، وأدعو لهم جميعاً.
لن أدخل مع أحد في خصومة، وبالرغم ممّا يوجّهونه، فإنّني أحبّهم جميعاً، وأدعو لهم جميعاً.
النظرية والتطبيق
في بحثٍ لسماحتكم تقولون: "إنّنا نحتاج إلى علم يملأ عقولنا وينير الطريق أمامنا، وإلى إيمانٍ ينطلق من إرادتنا ووجداننا ليملأ كلّ كياننا، فيكون كلُّ واحد منّا مسلماً بكلِّ وجوده وحياته" إلى أيّ حدٍّ ترن أنّ هذه النظرية آخذةٌ طريقها نحو التطبيق؟
إنّني قد لا أرى واقعاً تعيش فيه هذه النظرية التطبيقَ الشامل، لكنّني أجد الكثير من المؤمنين والمؤمنات في العالم الإسلامي يعيشون العقل الواعي الذي ينير الطريق بالفكر الحقّ، وأجد أيضاً الإيمان الذي ينطلق من الإرادة الصلبة التي تتحدّى كلّ حركات الكفر وأوضاعه.. إنّني أرى في هذه الصحوة الإسلامية التي تشمل العالم الإسلامي الكثير من العقول المؤمنة النيّرة التي تستطيع أن تثبت أمام الاهتزازات وأمام التحدّيات، ونحن نعمل مع المخلصين في سبيل أن يزيد عدد هؤلاء، لتتحرّك كلّ الأوضاع الإسلامية بالطريقة التي تملأ عقول المسلمين بالحقّ، وتملأ إرادتهم بالإيمان.
إنّني أرى في هذه الصحوة الإسلامية التي تشمل العالم الإسلامي الكثير من العقول المؤمنة النيّرة التي تستطيع أن تثبت أمام الاهتزازات والتحدّيات.
حضارية النقد
هل ترون أنَّ النقد أسلوبُ حضاريٌّ من أساليب تصويب العمل وإرشاده نحو الوجهة الأصوب، وهل استطعنا أن نصل إلى المرحلة التي نسمع فيها النقد بعقل واعٍ وقلب منفتح، إقراراً برأي الآخر؟
إنَّ قيمة النقد، هو في أن يحقِّق لنا وعياً للمسألة التي ننقدها، أو للواقع الذي ننقده، أو للثقافة التي ننقدها، والناقد هو الذي يدرس القضية أو المسألة أو النّص بجميع نقاط الضعف والقوّة في كلِّ ذلك، ممّا يجعله متعمِّقاً في معرفة خصائص ما ينقده، إن كان واقعاً أو فكراً، ليعرف الجانب السلبيّ منه والإيجابيّ، وربّما ينتهي به الأمر من خلال النقد إلى أن يحكم على أيّة قضية سلباً أو إيجاباً، أو يكتشف فيها السلبيات والإيجابيّات معاً، أو السلبيّة دون الإيجابية وبالعكس. وهكذا أراد الله تعالى أن نعيش مع أنفسنا عندما نواجهها بالنقد "حاسٍبوا أنفسكم قبل أن تُحَاسَبُوا وزِنُوها قَبْلَ أن تُوزَنَ عليكم"(1)، وأراد للمؤمن أن ينقد أخاه المؤمن، لأنَّ "المؤمن مرآة المؤمن"(2) فهو الذي يرى نفسه في أخيه من خلال الملاحظات التي يقدّمها له أخوه فيما ينقده فيه. وقد ورد في حديث أمير المؤمنين عليٌّ (عليه السلام): "رَحِمَ الله امرئٍ أهدى إليَّ عيوبي"(3) وهو (عليه السلام) فوق العيب والنقد. ولكنَّ الإنسان الذي يبيِّن لك عيوب شخصيّتك وفكرك وعيوب طريقك، هو إنسانٌ يعمل على أن يسدِّدك ويرشدك، ويحاول أن يصلح لك طريقك. وإنَّ الإنسان الذي ينقد من موقع المحبّة والبناء، هو إنسان يحبّك ولا يبغضك.
ومشكلتنا أنّنا في مجتمعاتنا الشرقية نرفض النقد، لأنّنا نعتبر أنّ النقد عداوة، ولا يجوز للإنسان أن ينقد الآخر، حتى أصبحنا لا نعيش نقدَ أنفسنا وحسابَ أنفسنا، وهذا يمثّل نوعاً من أنواع الغرور بالنفس، بحيث لا يشعر الإنسان في داخل نفسه بأيِّ عيب، وليس فيه أيّ نقصان أو خطيئة، ويعتبر أنَّ مَنْ يتحدّثون عن عيبه أعداءٌ له. إنَّ الناقد صديقٌ إذا أخلص في نقده، وليس عدوّاً، وإنّنا في رفضنا لنقد بعضنا ولنقد أنفسنا، نعيش التخلّف والغرور الذي يدمّرنا، ولا يحقّق لنا أيّة نتيجة إيجابية في حياتنا من قريب أو بعيد.
مشكلتنا أنّنا نرفض النقد، لأنّنا نعتبر النقد عداوة، حتى أصبحنا لا نعيش نقدَ وحسابَ أنفسنا.
عندما يكون النقد تجريحاً
إنّنا نحترم رأيكم ونعمل به، والذي ينسجم مع الخطّ القرآني والسُنّة النبويّة الشريفة، نسألكم عن رأيكم فيمن ينتقد علماء الدين وخصوصاً كبارهم، مع التذمُّر والرفض لبعض آرائهم ومواقفهم، من دون مراعاة لجانب التقى في كلامهم، علماً بأنّهم لا يملكون علماً ولا بيِّنة؟
مشكلة بعض الناس أنّهم يجهلون الأمور ويُعادون ما يجهلون، وقد خاطب الله تعالى الناس بقوله: {هَاأَنتُمْ هَؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [آل عمران : 66] إنّنا نقول لكلِّ هؤلاء الذين يملكون مُضلَّلين أو ساذجين أو معقّدين، إنَّكم إذا انتقدتم علماء الدين، فإنَّ عليكم أن تعرفوا أنفسكم بأنّكم تملكون علماً فيما تنتقدون به أم لا؟ فلو فرضنا أنّ عالماً أفتى بفتوى لم تألفوها، أو رأى رأياً لم تأْلفوه، فهل لديكم الحُجّة أو الثقافة التي يمكن لها أن تُثبت خطأ هذا العالِم في هذه الفتوى أو في هذا الرأي؟ وإذا لم تكن لكم الثقافة في ذلك فكيف تتحدّثون بما لا تعلمون، وتحكمون بما لا تفقهون.. وفِّروا على أنفسكم غضبَ الله، فإنَّ من اغتاب وشتم وأهان العلماء الصادقين، فليتبوَّأ مقعده من النار.
وفِّروا على أنفسكم غضبَ الله، فإنّ من اغتاب العلماء الصادقين، فليتبوَّأ مقعدة من النار.
الّلقاء على اسم الله
يقول الشاعر أدونيس(1): "لسنا في حاجة إلى مَنْ يبرهن لنا عن وجود الله، بل نحن في حاجة إلى مَنْ ينير دربنا إليه.. فنحن لسنا في حاجة إلى مَنْ يضرب الأسوار حول الله، وبالعكس نحن في حاجة إلى مَنْ يحطّم جميع الأسوار وينير الطريق إلى الله بالمحبّة والعمل والعطاء" ما رأيكم فيما يقوله؟
نحن في الخطّ العام نوافق على ما ورد، لأنّ "الخلق كلّهم عيال الله وإنَّ أحبَّهم إلى الله، أنفعهم لخلقه"(1) وأراد الله أن نحبّ بعضنا بعضاً، ونفتح قلوبنا للآخرين، حتى نتعاون مع مَنْ يتّفقون معنا، ونتحاور مع مَن يختلفون معنا من موقع المحبّة.. وقد أراد لنا سبحانه أيضاً أن نعمّر الأرض بالخير والعطاء والعمل، فقال تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة : 105] لذلك، علينا ألّا نقيم الأسواء التي تفصلنا عن بعضنا باسم الله، بل أن نلتقي على الله ونتحابب باسم الله ونتعاون على خطّ الله، ونتحرّك في الحياة على أساس الانفتاح على الله.
أراد لنا الله أن نعمِّر الأرض بالخير والعطاء والعمل، وألّا نقيم الأسوار التي تفصلنا عن بعضنا باسم الله.
الخضوع للانفعال والتخلّف
بعض الفئات الإسلامية تعطي تفسيراً خاصاً بالنسبة إلى موضوع تكفير الإنسان ما رأيكم بذلك؟
إنَّ مسألة أن يكفّر الناس بعضهم بعضاً أو يضلّل بعضهم بعضاً ليست من المسائل التي يمكن أن يستهلكها الناس بطريقة عاطفية أو مزاجية، لأنَّ مسألة الكفر أو عدمه معروفة من العناوين الكبرى، فإيمان الإنسان بها يجعله مسلماً، وإنكاره لها أو لواحد منها يجعله كافراً، ولذا نحن نقول عن المشركين والملحدين إنّهم كافرون باعتبار أنّهم لا يؤمنون بالله وتوحيده ورسوله واليوم الآخر، ونقول عن أتباع الأديان الأخرى إنّهم كافرون لا يؤمنون بنبوّة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، كما أنّ بعض الفتاوى الشرعية تعتبر أنَّ الذي ينكر ضرورة من ضرورات الدين فهو كافر، مثل إنكار وجوب الصلاة أو الصوم أو الحجّ، أو إنكار حرمة شرب الخمر، وهذا يُعتبر كفراً لا من جهة إنكار الضروري، أي البديهي الذي يُعلم من الدين ثبوته بديهةً، وهو ليس موجباً للكفر بنفسه، ولكن لأنّه يؤدّي إلى تكذيب رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم). فإذا ما قال إنسانٌ إنَّ الصلاة غير واجبة، والنبيُّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) عن الله يقول بأنّها واجبة فقد كذَّب الرسول. وعلى هذا، فإنّما الإنسان يكفر إذا أنكر ضرورياً من ضروريات الدين، إذا كان ملتفتاً للملازمة بين إنكاره هذا وبين تكذيب الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم).
ولكنَّ مشكلة بعض المسلمين أنّهم إذا التفتوا إلى حديث وآمنوا به، ولم يأخذ به آخرون، كفّر أولئك هؤلاء، فإذا فهمت أنتَ حديثاً أو آية، وفهمه آخر على غير ما فهمته لا يجوز لك أن تكفّره، لأنَّ فهمه المغاير لفهمك لا يعني أنّه ينكر القرآن أو يعارض الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) في حديثه. بعض الناس يستعجلون التكفير، والمشكلة أنّ في الساحة الإسلامية بعض انفعال وبعض تخلّف، وهي تفتقد لروحية الحوار ورحابته في كثير من مواقفها، ولذا يلجأ الكثير من الناس إلى أن يكفّر بعضهم بعضاً، فيُخرجون هذا من الدين وذاك من الم1ذهب، ولو درست لرأيت أنّهم لا يعلمون ما هو الدين بشكلٍ تفصيلي ولا ما هو المذهب بشكلٍ تفصيليّ لأنّهم لا يملكون الاختصاص في علم الكلام الإسلامي فكراً ولا الاستقراء في أقوال العلماء بحقاً، ولا يتعمّقون في وعي الأمور، ولا يدقّقون في كلمات الذين يحكمون بكفره وضلاله، بل يستعجلون الحكم نتيجة وضع نفسي ضاغط أو غوغاء اجتماعية أو عقدة ذاتية أو مصلحة خارجية، وقد يكون بعضهم في موقع المرجعية أو ما يقرب من ذلك، الأمر الذي أدّى إلى الفوضى والفتنة والإرباك الديني والسياسي والاجتماعي بسبب استغلال هذه الممارسات لغير مصلحة الإسلام المسلمين.
يلجأ الكثير من الناس إلى أن يكفِّر بعضهم بعضاً فيُخرجون هذا من الدين وذاك من المذهب ويستعجلون الحكم نتيجة غوغاء اجتماعية أو عقدة ذاتية.
الإعاقة والدين
هل ثمّة مقاربةٌ بين الإعاقة والدين، وهل تصحّ المقاربة بينهما؟
ما هو المقصود من العلاقة والمقاربة؟ أي هل أنّ الدين يعتبر الإعاقة بلاءاً من الله وعقوبة للإنسان ليكون الإنسان المعاق من وجهة النظر الدينية حسب هذه الفرضيّة إنساناً منبوذاً أو مُعَاقباً أو خارج مواقع رضى الله؟
إذا كان السؤال يتّجه في هذا الاتجاه، فإنَّ الدين يرفض ذلك، لأنّ المعاق هو إنسانٌ طبيعيٌّ، قد يكون أقرب إلى الله سبحانه من كثير من الأصحّاء، لأنَّ مسألة الإعاقة، إن كانت من الناحية الجسدية أو العقليّة أو ما أشبه ذلك، تمثّل لوناً من ألوان حركة الطبيعة في الواقع الإنساني، فالإنسان المعوّق لا يختلف عن أيّ مخلوق آخر، فكما أنّ الشجر يمرض ويُصاب بالتشوّهات الماديّة، كذلك الإنسان قد يمرض، وأنّ الجنين قد يتأثّر بالوضع الجسدي لوالدته أو بالوضع الوراثي، وما إلى ذلك.
وقد يصاب الإنسان بعد ولادته بالتشوّهات الناشئة من الحروق أو من الأمراض أو من أيّ طارئ، إنّها حالة طبيعية للإنسان الذي يعيش إمكانية التحوّل من حالة إلى حالة، وإمكانية التأثّر في وضعه الجسدي أو العقلي بالعناصر الموجودة في حالة الحمل أو الأوضاع الخارجية الأخرى.. لذلك، فالإعاقة حالةٌ طبيعية وليست عقوبة.. العمى ليس عقوبة للأعمى، وإلّا كيف نفسّر عمى الأطفال؟ وليس التخلُّف العقلي عقوبة للمتخلّف، بل هي أمورٌ تنطلق من طبيعة نظام الوجود الإنساني الذي هو جزءٌ من نظام الكون أوجده الخالق تعالى، وعلى هذا، فالإنسان يتأثّر بالأشياء المحيطة به، سواءً قبل نشوئه أو بعده.
نعم، يعبّر القرآن عن هذه الأمور بالبلاء، ويحوّل مسألة هذا البلاء إلى عنصر إيجابيّ لدى الإنسان، ليقول للإنسان، قد تكون مبتلىً بحالة جسديّة معيّنة أو بحالة اقتصادية أو عاطفية معيّنة، وهذه الحالة تتحدّى إرادتك، فإذا كنت تملك الإرادة التي تستطيع من خلالها أن تتوازن وتثبت أمام الآلام أو الأحاسيس والمشاعر التي تصوّرها حالة الإعاقة لتبقى مع إنسانيتّك وتصبر وتتابع حياتك، فإنّك تكون الإنسان الناجح أمام الله والإنسان المؤمن الذي تعرّض إيمانه لتجربة صعبة ولكنّه نجح بها. أمّا إذا جزعت ولم ترضَ بقدرك وسقطت أمام هذا التحدّي، فإنّ معنى ذلك إنّك لا تملك عنصر التوازن الإيماني.
فالبلاء ليس عقوبة، بل إنّه يمثّل حالة امتحان للإنسان، وهو ينطلق من الظروف والعناصر الطبيعية التي تُنتجها، وعلى هذا، فإنَّ الإنسان قد يحوّل إعاقته إلى حالة إيجابية في الإرادة الإنسانية إذا عرف كيف يصبر ويتعامل معها ويستمرّ في حياته، أمّا إذا جزع وتجمّد أمام حالته، فيمكن أن يؤدّي ذلك إلى إنهاء حياته.
المعاق إنسان طبيعي قد يكون أقرب إلى الله من كثير من الأصحّاء.
هل هي قضيّة حقّ؟
هل التزام الخطاب الديني بالإعاقة كقضية حقّ؟
إنّه التزم بها كقضية واقع، تماماً كأيّ واقع آخر، وقد تحدّث القرآن الكريم عن الأمور السلبيّة التي تعيش في حياة الإنسان، ولم يتحدّث عن الإعاقة وحدها بالذّات، ولكن بشكلٍ عام {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم : 41] فالإنسان هو الذي يحصد نتاج عمله عندما تتحرّك الإعاقة في الأمور والقضايا الاختيارية، والإنسان يتأثّر بما حوله ومَنْ حوله باعتبار طبيعة الأشياء. ومن الطبيعي أنّ الإنسان الذي تعرّض للفحات النار لا بدّ أن يُصاب بالتشوّه، ومن المسلَّم به أنّ الإنسان جزءٌ من واقع الطبيعة التي أودع الله فيها قوانينه والتي إذا أُلغيت لن تتوازن الطبيعة، فتوازن الطبيعة الكونية والإنسانية في سُنّة الله في الكون يقتضي أن تكون هناك إيجابيات إلى جانب السلبيّات، بحيث لو استغنينا عن السلبيّات لفقدنا إيجابيات كثيرة.. ولو فرضنا أنّ الإنسان يُخلق مشوّهاً بفعل قوانين الوراثة أو يُخلق معاقاً بفعل قوانين الوارثة، هنا يدور الأمر:
إمّا أن نتقبّل هذه العشرة بالمئة من السلبيات أو نخسر التسعين بالمئة من الإيجابيات، هل نلغي قانون الوراثة وتأثّر الإنسان بموروثاته؟ لو فرضنا إلغاءها فإنّنا نربح العشرة بالمئة، لكنّنا سنفقد تسعين بالمئة من الإيجابيات، فليس في الحياة ما هو مطلق، ولا نستطيع أن نربح شيئاً إلاّ أن نخسر شيئاً. نحن الآن جالسون في هذه الغرفة ونشعر بالدفء والحماية، لكنّنا فقدنا الكثير من كمية النور ومن الهواء، وعلى هذا، فالكون محدود في الوجود الإنساني، ولذلك لا تستطيع أن تربح شيئاً إلاّ إذا خسرت شيئاً. ومن هنا، علينا دائماً حتى في مسألة الإعاقة التي تصيبنا في بعض أجسادنا أن نتعايش مع النتائج التي تفرضها الطبيعة الإنسانيّة في وجودها والطبيعة الماديّة في وجودها.
ونحن نعرف دائماً أنّ الإعاقة ليست حرماناً كلّها، فنجد أنّ الكثيرين من المعاقين بصريّاً وظَّفوا طاقتهم في العقل أكثر، وكثير منهم يتفوّق حتى على المبصرين من ناحية الوعي والفكر، وبعض الموسيقيّين أمثال (موزار) وصلوا إلى قمّة الإبداع الموسيقي وقد كانوا يعانون من الصَمَم.
ومن هنا، فنحن لا نعتقد أنّ مسألة الإعاقة مسألة سلبية بالمطلق، نعم، هي تختزن بعض السلبيات التي يتحسّسها الإنسان فيما يفقده من نتائج، ولكنّها تشتمل على إيجابيات.. علينا ألّا ننظر إلى القضايا من جانبٍ واحد، فنحن لا نفهم الصورة من جانب واحد، بل نفهمها من خلال دراسة كلّ جوانبها الفنيّة والإنسانيّة والطبيعيّة.
ليس في الحياة ما هو مطلق ولا نستطيع أن نربح شيئاً إلاّ أن نخسر شيئاً.
النظرة الخاطئة
بماذا تردّون على نظرة المجتمع الخاطئة باتجاه المعاق؟
إنّه مجتمعٌ متخلّف، لأنّ الإعاقة ليست اختياراً للمعاق، بل هي مشكلة عاشها في أصل وجوده أو من خلال الأحداث التي طرأت على حياته، ولعلّ تخلّف هذا المجتمع ينطلق من أنّه ينظر إلى القضية من جانب واحد ولا ينظر إلى كلّ الواقع، فهو قد ينظر نظرة سلبيّة إلى الأعمى، ولكنّه لا ينظر إلى عقل هذا الأعمى.. يُنقل أنّ بشار بن بُرْد، وهو شاعر أعمى مبدع كان واقفاً في بعض الأيام في الزقاق، وجاءه شخص يسأله: أين بيت فلان؟ فبدأ يذكر له علامات الوصول إلى البيت، ولكنّ السائل لم يفهم ما ذكره له، وكان هذا السائل مبصراً، فأخذه بشار بيده، وبدأ ينشد:
أعمى يقود بصيراً لا أبا لكم قد ضلَّ من كانت العميان تهديه
مشكلة بعض الناس أنّهم يتصوّرون ملامح الصورة في المعاق، ولا يتصوّرون الصورة والملامح الداخلية، وورد عندنا في النصوص الدينية أن نرحم المعاق، ليكون شعورنا شعور الرحمة، ولنوحي لأنفسنا عندما نعيش الحالة السلبية تجاه المعاق أنّ من الممكن جداً أن يبتلينا الله بما ابتلاه، لذا، يستحبّ للإنسان إذا رأى معاقاً أن يقول: "الحمد لله الذي عافاني ممّا ابتلى به غيري ولو شاء لفعل".
ورد في نصوصنا الدينيّة أن نرحم المعاق ليكون شعورنا شعور الرحمة.
الإسلام بين الفكر والطقوس
تقولون: إنّ الإسلام يُمارس اليوم كطقوس وتقاليد ولا يُمارس كفكر، ما تقصدون في ذلك؟
من الطبيعي جدّاً أنّ الإسلام يمثّل كياناً واسعاً ينطلق ليخترق بك آفاق الغيب، ويطوف بك في كلِّ فضاء الكون، وليدفعك لأن تفكّر، وألّا تقف موقف الحائر الضائع أمام كلّ الظواهر الكونية أو الاجتماعية، إنّه يقول لك: فكِّر في كلّ شيء، ويقول لك: تفكّر ساعة خير من عبادة سنة، ويقول لك: إنّك أنتَ المسؤال عن كلّ فكرك فيما تلتزمه، كما أنتَ مسؤولٌ عن كلّ عملك فيما تعمله. وعلى ضوء هذا، فإنّ عليك أن تُتقن فكرك وتؤصّل وتستقلّ فيه لتعرف كيف تتحمّل مسؤوليّته وتجعله في خطّ قناعتك، وقد قال الله سبحانه وهو يحدّثنا عن المسؤولية الفردية في كلّ ما يفرضه الإنسان من فكر وعمل {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا} [النحل : 111].
فالطقوس التي تدخل في نطاق العبادات لا نريد أن نهوّن منها، بل نقول إنّ لها عمقاً روحياً وفكرياً يجعلك وأنتَ تصلّي تدخل في رحلة ثقافية تتعرّف فيها على الله في كلِّ علاقته بالإنسان، وعلاقة الإنسان به، لتعيش معه سبحانه، ولتحلّق في آفاقه، لذلك، نحن نقول، إنّ هذه الطقوس جزءٌ من المنهج التربوي الإسلامي.
فنحن نقرأ في القرآن الكريم: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ} [العنكبوت : 45]، ونقرأ أيضاً {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة : 183].
ومن هنا، فإنّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) انطلق بالقرآن والسُنّة من أجل أن يغيِّر العالم على صورة الإسلام، وأن يدفع بالإسلام ليكون فكراً في حركة كلّ الواقع الإنساني، سواءً كان واقعاً ثقافياً أو سياسياً أو اجتماعياً أو اقتصادياً، وهكذا نجد أنّه أراد للإسلام أن يكون عنوان الإنسان في الحياة في كلّ مفاهيمه وقيمه ومعانيه. ولكنّ المشكلة أنّ البعض قد حاول أن يحصر الإسلام في دائرة خاصة، وهي دائرة العبادات، وأن يعزل لإسلام عن الواقع، وإذا عزلتَ الإسلام عن الواقع، فإنّك تموت حتى في صلاتك.
إنَّ عليك أن تُتقن فكرك وتؤصّله لتعرف كيف تتحمّل مسؤوليته وتجعله في خطّ قناعتك.
الوصول إلى الله
هناك مجموعة من المفكّرين يقولون، إنّ الوصول إلى الله ليس بالضرورة أن يكون من خلال الطقوس والعبادات، بل يمكن الوصول إلى الله من خلال الثقافة.
هناك فرقٌ بين المعرفة التجريديّة التي تجعل فيها إحساسك بالله مجرّد فكرة تضيفها إلى أفكارك، تماماً كما لو كان فكرك يتّسع لأكثر من كتاب، وبين أن تعيش هذا الإحساس ليدخل في عقلك وينزل إلى قلبك وليحرّك طاقاتك، ويجعلك تعيش الحضور بالله، كما لو كان معك تتحسّسه وتراه. لذلك، نقول: هناك فرق بين أن تشعر بأنّك ضائعٌ تعيش المتاهات واللامعنى والعبثيّة، لأنّ الكون ـــ بهذا المعنى ـــ مجرّد فقّاعة تنتفخ ثمّ تتفجّر ولا تترك وراءها شيئاً، وبين أن تشعر أنّ في هذا الكون ربّاً يوجّهك ويرعاك ويحيط بك ويتدخّل معك، فهو ربُّ العالمين وهو رحمنٌ رحيم وهو المستعان. إنّك بذلك تشعر أنّ إيمانك بالله يجعلك قريباً منه، وبذلك لا يكون الفكر مجرّد شيء تجريدي طائر، بل يكون فكراً وإحساساً وحياة وحركة. وهذا ما استوحاه رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ليلة الهجرة {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا} [التوبة : 40]، هذه المعيّة تعني الكثير لإنسانيّتك، وتعني الكثير لإحساسك بالأمن عندما تندفع كلّ الأخطاء محاولةً أن تجتاح وجودَك.
هناك فرقٌ بين أن تشعر بأنّك ضائع تعيش المتاهات والعبثيّة، وبين أن تشعر أنَّ في هذا الكون ربّاً يوجّهك ويرعاك ويحيط بك.
التلفزيون ومخاطر الإستلاب
كيف تصفون ملازمة الناس للتلفزيون ومشاهدته ساعات وساعات طويلة؟
من الطبيعي أنَّ هذا يمثّل مشكلة طبيعيّة للناس الذين هم بحاجة إلى أن يلتقوا ويجتمعوا ويتحدّثوا ويناقشوا قضاياهم. ومن جهة ثانية إنّ هذا النوع من الاستغراق في الصورة يُدخل الإنسان في غيبوبة عن نفسه، بحيث يغيب عقله وتغيب نفسه ليندمج اندماجاً كليّاً، ليدخل في جوّ الصورة وحركتها تَبَعاً للخطّة التي رسمها البرنامج في تأثيرها بالإنسان هنا وهنك. ربّما كان من المشاكل الكبيرة في حركية الصورة التلفزيونية والسينمائية أنّها تُشغل الإنسان عن نفسه، ويستغرق فيها بالمستوى الذي قد لا يستطيع أن يفكّر فيما رآه.
ولهذا، فإنَّ خطورة هذه الأمور أنّك تجد نفسك تختزن فكراً لم تصنعه ولم تنتجه، وأنّك تختزن أحاسيس ومشاعر لم يكن لك اختار في قبولها، فيستلبك الآخر، يستلب عقلك وفكرك ويفرض عليك أخلاقاً لم تخترها ولم تناقشها مع نفسك. فقيمة الحوار هي أنّها تجعل تختار م تحمله من فكر، وما تتحسّسه من مشاعر، أمّا مشكلة التلفزيون وإذا لم تكن محصَّناً بفكرك الذي تؤمن به، فإنّه يصنع لك فكراً يفرضه الآخر عليك.
ومشكلتنا أنّنا نعيش ما يصنعه الآخرون بكلّ وسائلهم، لأنّنا مجتمعٌ استهلاكيّ حتى في مجال الفكر والشعور، وويلٌ لأمّة تستهلك فكر الآخرين، دون أن تنتج فكرها، وتستهلك أحاسيس الآخر دون أن تصنع أحاسيسها، فهي لا تكون نفسها، وإنّما تكون صورةً للآخر.
ويلٌ لأمّة تستهلك فكر الآخرين دون أن تنتج فكرها، فهي لا تكون نفسها، وإنّما تكون صورةً للآخر.
الجانب السيّئ في وسائل الاتصال
أصبح هناك جانبٌ سيّء من خلال ما تبثّه القنوات الفضائية والتلفزيونيّة، كيف تنظرون إلى هذا الأمر؟
من الطبيعي أنّ الإنسان الذي يحترم أخلاقيّته وإنسانيّته، لا بدّ له من أن يبتعد عمّا يسيء إلى هذه الأخلاقية والإنسانية، نحن لا نعتبر أنّ مسألة الجنس كعلم من المحرّمات، ولذلك ليس من مشكلة أن تدخل في أبحاث جنسية علميّة أو تربويّة، ولكنّ الخطورة في المسألة، هي الإثارة الجنسيّة، وإنّك تجد أنّ بعض البرامج أو الأفلام تفتعل مشاهد الجنس افتعالاً حتى أنّ طبيعة قصّة الفيلم لا تفرض ذلك ولا تنسجم معها، فهناك نوعٌ من أنواع تحريك الإثارة لمجرّد الإثارة.. والمسألة التي لا بدّ أن نطرحها، هي هل نريد توازناً أخلاقياً أم لا نريد؟ هل نريد أن يعيش الناس رجالاً ونساءً، أطفالاً وشباباً حالة استقرار داخلي، أم نريد لهم جميعاً أن يعيشوا في حالة طوارئ جنسية؟ بحيث أنّك تشعر في بيتك مع زوجتك وبناتك وأخواتك وأطفالك بحالة تململ جنسيّة عندما تجلس أمام التلفاز لتحدّق بهذا المشهد أو ذاك. هناك فرق بين أن تتبنّى الحريّة الجنسيّة كما يتبنّاها الغرب، عند ذلك قد يكون الحديث في اتجاه آخر، ولكن أنت تعيش في الشرق في نطاق التزاماتك الدينية التي تريد لأهلك أن يلتزموا بها، فكيف يمكن أن تنقل الغرب في كلِّ برامجه إلى الشرق، ثمّ تطلق كما يطلب الكثير من الناس الذين يُطلقون لأولادهم ولبناتهم كلّ الحريات الانفلاتية، ثمّ يطالبونهم بالشرف على طريقة قول الشاعر:
ألقاه في اليمِّ مكتوفاً وقال له إيَاك إيّاك أن تبتلَّ بالماء
هو يُدخله في المحرقة، ويقول له لا تحترق.
الإنسان الذي يحترم أخلاقيّته وإنسانيّته لا بدَّ أن يبتعد عمّا يسيء إلى هذه الأخلاقية والإنسانية.
المعرفة وماديّة العصر
هل المعرفة اليوم وحسب رأيكم ما زالت سلاحاً فعّالاً للشعوب والأشخاص، أم أنَّ ماديّة العصر حدَت من فعالية المعرفة وأهميّتها؟
أنا لا أتصوّر أنّ هناك زمناً معيّناً يمكن أن تفقد المعرفة فيه قوّتها وضرورتها للإنسان. إنّك قد تعتبر أنّ المعرفة قد فقدت السلاح، وذلك بسيطرة الاقتصاد مثلاً، ولكن، هل يمكن أن تحرّك الاقتصاد من دون معرفة اقتصادية، أو من دون معرفة أوضاع الشعوب؟ قد لا يكون الشخص الاقتصادي هو الذي يملك المعرفة، ولكنّ العقول المحيطة به هي التي تحرّك المعرفة من أجل أن تساهم في نجاح المشروع الاقتصادي أو ما إلى ذلك.. لهذا، فإنّني أتصوّر أنّ حاجة الإنسان إلى المعرفة قد ازدادت أكثر من أيٍّ وقتٍ مضى، لأنَّ الإنسان لا يملك أن يتحرّك في هذا العصر المعقّد إلّا من خلال المعرفة. يبقى أنّ بعض الذين يستخدمون المعرفة لمصالحهم، قد لا يكونون ممّن يملك المعرفة، ولكنّهم يتحرّكون في مشاريعهم من خلال مَن يمتلكون المعرفة.
حاجة الإنسان إلى المعرفة قد ازدادت أكثر من أيّ وقتٍ مضى، ولا يستطيع الإنسان أن يتحرّك في هذا العصر المعقّد إلاّ من خلال المعرفة.
رسالة المحبّة
كيف تنظرون إلى الاختلاف الواضح بين الشيعة والسُنّة، وما هي رؤيتكم حياله، وما هي الرسالة التي توجّهونها للشيعة والسُنّة، ليكونوا متحابين ومتآلفين فيما بينهم؟
إنّني أعتقد أنّ هذا الواقع المرير بين الشيعة والسُنّة ينطلق من تراكمات تاريخيّة، وقد عاش المسلمون فترات طويلة من التخلّف جعلتهم يتحرّكون في زوايا مغلقة ضخّموا فيها الصغير، وصغَّروا فيها الكبير. إنّني أقول لكلِّ إخواني المسلمين من السُنّة والشيعة، إنَّ علينا أن نرجع إلى التاريخ الأوّل الذي نختلف عليه، لنقرأ التجربة الرائدة للإمام عليّ (عليه السلام) الذي يقول: "لأسلّمنَّ ما سَلِمَت أمور المسلمين ولم يكن فيها جورٌ إلّا عليَّ خاصّة"(1) ويقول (عليه السلام) في كتابه لأهل مصر. "ما راعني إلّا انثيال الناس على فلان يبايعونه فأمسكت يدي، حتّى إذ رأيت راجعةَ الناس قد رجعت عن الإسلام يريدون مَحْقَ دين محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) فخشيت إنْ أنا لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً وهدماً تكون المصيبة به عليَّ أعظم من فوت ولايتكم هذه التي إنّما هي متاعُ أيّامٍ قلائل يزول منها ما زال كما يزول السراب، فنهضت حتى زاح الباطل وزهق واطمأنَّ الدِّين وتَنَهْنَه"(1). نقول للمسلمين إذا كان الله تعالى قال لنا: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران : 64]، فكيف لا ندعو أهل القرآن إلى كلمةٍ سواء؟ ونعتقد أنَّ ما يتّفق عليه المسلمون السُنّة والشيعة في أمور العقيدة والشريعة ومنهج القرآن أكثر ممّا يختلفون حوله. وإذا كنّا نختلف حول موضوع الإمامة والخلافة، علينا أن نمارس هذا الخلاف بالأدب الإسلامي {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء : 59]، والتحدّيات التي تُوجَّه إلى المسلمين لا تفرّق بين شيعي وسُنّي. لذلك، تعالوا لنتوحّد على قضايانا الحيويّة، وعلى ما نلتقي عليه، ونتحاور فيما نختلف فيه. إنَّ مسألة الوحدة الإسلامية والوطنية هي من الممنوعات عند الاستكبار العالمي، لذلك، إنَّ من يحرّض على الفتنة بين المسلمين أنفسهم وبين المسلمين والمسيحيّين، فإنَّه يتحرّك من خلال أجهزة المخابرات الدولية التي لا تريد لنا أن نتعايش أو نتوحّد.
إنَّ مَنْ يحرّض على الفتنة فإنّه يتحرّك من خلال أجهزة المخابرات الدولية التي لا تريد لنا أن نتعايش أو نتوحّد.
انتشار الإسلام
هل أنّ الإسلام في مراحله الأولى قد انتشر بحدّ السيف؟
إنّ الإسلام في مراحله الأولى قال للمسلمين: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت : 34]، وقال: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة : 256]، وقال أيضاً: {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ} [الكهف : 29].
إنَّ الحروب الإسلامية كانت تحت شعار {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة : 190]، {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة : 193]، فلذلك كان الإسلام في حربه في موقف دفاعي تارّة ووقائي تارةً أخرى.
كان الإسلام في حربه في موقف دفاعي تارةً ووقائي تارةً أخرى.
ردّ على تساؤلات
ما هو ردُّكم على الفيلسوف الذي قال: "لماذا علينا أن نُخْلَق، لماذا علينا أن نعيش، لماذا علينا أن نموت"؟
نقول له: لماذا عليك أن تفكّر بهذه الطريقة؟ ما المشكلة في أن تُخلق؟ عندما يتساءل الإنسان عن شيء، فلا بدّ أنَّ هناك مشكلة تضغط عليه وتُثقله.. فأن تُخلق، أن نعيش الحياة، أن تعيش عقلك ومسؤوليّاتك، أن تعيش حركيّتك، وأن تكون شيئاً في المعنى.. فأن تُخلق، معنى أنَّ الخلق يمثِّل كلّ المعنى الذي يجعلك إنساناً من خلال إرادتك وحركتك.
أمّا لماذا علينا أن نعيش؟ فمن أجل أن تنطلق حياتنا من مهمّة في الكون، ومن مهمّة في حركة الإنسان.. نحن نعيش من أجل أنّ هناك رسالة تفرض علينا أن نعيش.
ولماذا علينا أن نموت؟ لأنّنا استنفدنا ما هُيِّئ لنا أن نعيش في الحياة.. ومن وجهة النظر الدينيّة: إنّنا نموت لننتقل من ساحة حركة المسؤولية، إلى ساحة الحصول على نتائج المسؤولية.
أنْ تُخلق، أن تعيش الحياة، أن تعيش عقلك ومسؤوليّتك، أن تعيش حركيّتك، وأن تكون شيئاً في المعنى.
عندما العفو يضرُّ بالظالم
في محاضرتكم في (المركز الثقافي الإسلامي) في بيروت شباط 1998م قلتم في موضوع العفو عمّن ظلم وإذا كان العفو يضرّه، إنّ الإمام زين العابدين (عليه السلام) يقول في رسالة الحقوق: "وأمّا حقّ مَنْ ساءك فأن تعفو عنه، فإن رأيت أنّ العفو يضرّه انتصرت لنفسك" أخذت بحقّك، كيف يضرُّ الظالم؟
عندما يقوم الظالم بالجريمة ضدّك، ويتمادى أكثر معك ومع غيرك، ويُقَابَل بالعفو عنه، فإنّه يتصوّر أنّ هذا العفو عنه ضعفٌ منك ومن الآخرين، فيتجرّأ على أن يعصي أكثر ويرتكب الجرائم أكثر، وذلك يضرّه ويضرُّ المجتمع من حوله.. ويُقال بأنَّ أحد زعماء العشائر في العراق جاءه مَنْ يشتمه، فما كان منه إلاّ أن وضع عباءته على رأسه وسار في الطريق دون أن يردَّ عليه، فظنَّ هذا المسيء أنّه يستطيع أن يفعل ذلك مع مَن يريد، فذهب إلى زعيم عشيرة أخرى، وقام بشتمه وسبّه، كما فعل مع الزعيم الأول، فما كان من شيخ هذه العشيرة إلاّ أن قام وأطلق النار عليه فأراده. وبعض مَن حضر الحادثتين عاد إلى الشيخ الأوّل يخبره، وقد سأله: لماذا لم تفعل أنتَ ذلك؟ فأجاب: إنّي فعلت ذلك حين عفوتُ عنه، لأنّني كنت أعلم ما سيحلّ به بسبب سوء خُلُه، فلم أشأ أن أقتله بنفسي، وتركت ذلك لغيري، وكنت متأكّداً أنّه سيلقى هذا المصير، وسيأتي مَن يثأر منه عاجلاً أو آجلاً.
عندما يتمادى الظالم بالجريمة ويُقابَل بالعفو، يتجرّأ على أن يعصي أكثر ويرتكب الجرائم أكثر، وذلك يضرّه ويضرَ المجتمع من حوله.
ادّعاء امتلاك الحقيقة
تقولون في كتاب (الندوة) الجزء الثاني: "إنّ الخلاف في الرأي لا يعني أن نُغلق أبواب الحوار.. حاول أوّلاً وثانياً وثالثاً، أعطِ وجهة نظرك وحاول أن تستمع إلى وجهة نظر الآخرين" وماذا لو وصل الآخرون إلى درجة من التعقيد الفكري والنفسي، يظنّون أنفسهم معها أنَّهم وحدهم يمتلكون الحقيقة؟
بعض الناس يعتقد أنّه يملك الحقيقة وحده، ولذلك يجعل من أفكاره أساساً لإبطال أفكار الآخرين، فهو عندما يرى "صوابية" فكرة ما عن الإسلام، يعتبر أنَّ كلّ ما يخالف فكره يخالف فكرَ الإسلام والحقيقة، ولو درس هذا الإنسان أنَّ ما يعتبره خروجاً عن الإسلام لرأى بأنَّه قد قاله علماء كبار في الماضي وفي الحاضر، وأنَّ الذي يقول بأنَّ هذا هو خطُّ التشيّع انطلاقاً من رأيه الخاص، قد يعارض رأيه كبار علماء التشيُّع.
على الإنسان أن يتواضع في مسألة الحقيقة، وأن يعرف أنَّ هناك مَنْ يعيش المسألة بغير فهمه وقناعاته، لأنَّ الذين يقولون إنَّ رأيهم هو الحقّ وحده، وإنَّ كلَّ ما عداه أباطيل لم يفهموا القرآن في حواره الذي أطلقه، ليعلّم اللهُ رسوله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) كيفية دخوله في الحوار مع الكافرين، ورسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) هو الذي يحمل الصدق والحقّ، فيخاطبه الله تعالى بقوله: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [سبأ : 24]، هذا هو منهج الحوار في الإسلام، ألّا تخاطب الآخر بأنَّ الحقيقة معك وبجانبك، وأنّ الباطل بجانبه، ولكن خاطب الآخر، بأنَّ هناك حقيقة ضائعة بينكما، وتريدان أن تتوافقا وتترافقا في البحث عنها، لأنَّ على العالِم أن يتواضع أمام العالِم الآخر.
مشكلتنا أنّنا نتحاور بغرائزنا وعُقدنا النفسيّة ولا نتحاور بعقولنا ووعينا. لذلك، نقول: حاور أولاً وثانياً ورابعاً، فلعلَّ في التجربة الخامسة أو السادسة تحطّم هذا الحاجز الصخريّ من العصبية الموجودة في الطرف الآخر، ولنتذكّر تجربة نوح (عليه السلام) الذي حاور قومه مدّة تسعمائة وخمسين سنة، ونتفهّم القرآن الذي هو كتاب الحوار، حيث انفتح على أهل الكتاب وعلى المشركين والكافرين والمنافقين، فحاورهم الحُجّة بالحُجّة، والدليل بالدليل.
مشكلتنا أنّنا نتحاور بغرائزنا وعقدنا النفسيّة ولا نتحاور بعقولنا ووعينا.
علماء وعقلاء
يقول الشهيد مرتضى مطهّري: "هناك بعض العلماء أقلّ عقلاً ممّا علموه، فهم علماء بمعنى أنّ لديهم معلوماتٍ كثيرة، ولكنّهم عاقلون بنحوٍّ أقل" هل توافقون على هذا الطرح؟
هذا الطرح طرحٌ حقيقيٌّ، لأنّ الإنسان عندما يتلقّى العلم، يجب أن يتفاعل هذا العلم مع عقله وشعوره وإحساسه، فذلك ينمّي له عقله، ويصنع له وعياً، وهذا الإنسان يتعلَّم العلم بعمق وبسعة أُفق، لأنّه يجعل العلم متفاعلاً مع ذاته وعناصر شخصيّته، خصوصاً إذا ما عاش حركة التجربة في حياته، فيواجه كلّ حركة الواقع، فيعيش مع الناس، يسمع منهم، يطّلع على تجاربهم، يستوعب معلوماتهم، فيزيد تجربته تجربة وعقله عقلاً. لذلك، هناك أُناسٌ يتعلّمون العلم فيعيشونه في عقولهم وعناصر شخصيّتهم، ويشاركون في تعلّم علم الحياة من خلال التجارب التي يعيشونها في حياتهم وحياة الآخرين. والمثل الشعبي يقول: "إسأل مجرِّباً ولا تسأل حكيماً"، لأنَّ المجرِّب يتعلّم في مدرسة الحياة، والحكيم يتعلّم في مدرسة الكتاب، فالكتاب هو تجربة إنسان، عاشها وكتبها، أمّا الحياة فهي تجربتك أنت تضيفها إلى تجربة غيرك.
إذاً، هناك من يتعلَّم العلم كمن يستظهر شيئاً من دون أن يدخل عقله، فيحفظه ولا يعيش معانيه، وهذا ينطلق عليه قول الشاعر:
فقل لمن يدّعي في العلم معرفةً حفظتَ شيئاً وغابت عنك أشياءُ
وأمير المؤمنين عليٌّ (عليه السلام) يقول "علَّمني رسولُ الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ألفَ باب من العلم يُفتَح لي من كلّ باب ألف باب"(1).
فعندما يتعلّم الإنسان شيئاً، عليه أن يتدبّر ما تعلّمه لينضجه ويحرّكه في حياته، بحيث يُنتج له العلمُ عملاً، فلا يبقى العلم في دائرة الحفظ وحسب، بل ينمو، كما تنمو البذرة في الأرض، فتعطي ومن خلال العناية بها أطيبَ الثمر.
ونحن نوافق على أنّ هناك بعض العلماء علمهم كثير وعقلهم قليل، ولكن نقول أيضاً: هناك بعض العلماء عقلهم كبير وعلمهم كثير. وقيمة العلم تكون بمقدار ما يصنع في داخل شخصية الإنسان عقلاً مرتكزاً على التجارب الغنية التي تمثّل عقلاً جديداً.
عندما يتعلّم الإنسان شيئاً، عليه أن يتدبّره لينضجه ويحرّكه في حياته ليُنتج له عملاً.
إحياء المناسبات الدينيّة
هناك بعض المناسبات الدينية كولادة الأنبياء (عليهم السلام) والأئمّة (عليهم السلام)، حيث نجد البعض يقوم بإحياء هذه المواليد، ولم نعثر على رواية تقول بإحياء المواليد والأفراح، حتى أنَّ البعض يقول بأنّ إحياءها قد يكون بدعة وليس إحياء للسُنّة، ما رأيكم بذلك(2)؟
ليست هناك تعليماتٌ محدّدة بشكلٍ واضح ودقيق وموثوق بالنسبة إلى إحياء مناسبات المواليد في هذا المجال، ولكنّ المسألة أنّه ليس كلّ بدعة حراماً، هناك البدعة التي تنسجم مع الخطوط العامة للإسلام، فقد تكون بدعة مستحبّة، فقضية المواليد تجعلنا ننفتح على حياة هذا الإمام أو هذا النبيّ، وتشعرنا بالارتباط بهم أكثر من خلال ارتباطنا بتاريخهم أكثر.. ومن الطبيعي أنّ هذا الهدف الذي نؤكّد عليه يفرض علينا ألّا نجعل من المناسبات والمواليد مظهر لهو وعبث، بل مظهر تفكير وحوار وفرح هادئ، لا ينسينا ما في هذه المناسبة من عِبَر ومعانٍ حيّة تفيدنا في حياتنا العامة والخاصة.
قضية المواليد تجعلنا ننفتح على حياة هذا الإمام أو هذا النبيّ، وتشعرنا بالارتباط بهم أكثر من خلال ارتباطنا بتاريخهم أكثر.
الصرخات المجنونة
في ليلة رأس السنة الميلادية من كلِّ عام يغيب الكثيرون عن عقولهم ومشاعرهم وأحاسيسهم الإنسانية، وتنطلق من أعماقهم الصرخات المجنونة، احتفالاً ببداية عام وانصرام عام. ما كلمة سماحتكم في هذا الجوّ الصاخب الذي تضيع فيه القِيَم؟
إنَّ مسألة أن يبدأ عام ويمضي عام، هي مسألة أن تموت قطعة من عمر الإنسان، وتُوضع سنةٌ في حسابات كتابه الذي يُفح يوم يقوم الناس لربِّ العالمين. ومعنى أن يبدأ عامٌ جديد، أن ينفتح زمن جديدٌ على مسؤوليّته أمام الله، في كلّ ما يعمل ويخطِّط من مشاريع، ويقيم من علاقات، ويتّخذ من كلماتٍ ومواقف. لذلك، لا بدّ أن يكون الإنسان في أعلى درجات الوعي عند نهاية زمن وبداية زمن، ليسأل الإنسان الذي يشعر بإنسانيّته ومسؤوليّته ويحترم مصيره، ليسأل نفسَه أيّ عام كان العام الذي مضى، وما حمله على ظهره من أثقالٍ وأوزار {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر : 18] ما قدَّمت من الأعمال التي تركتها وراءها لغد (يوم القيامة).
وعلى هذا، لا بدَّ لهذا الإنسان أن يقوم بحساب أرباحه وخسائره في العام الماضي على مستوى المعنويات والمصير، وأن يكون في أعلى درجات الوعي ليخطّط للعام الجديد، لأنّه لا قيمة لعمر لا يخطّط الإنسان له، ولا قيمة لسنة لا يخطّط لها، لأنَّ الذي لا يخطّط لمشاريعه المستقبليّة، هو إنسان يتحرّك في الفوضى ومن دون أساسٍ وقاعدة.
ولذا، فإنَّ هؤلاء الذين يبدأون سنتهم الجديدة بخمرة تُسْكِر عقولهم، وبلعبة قمار ينتظرون فيها الحظّ، وبانفعالات مجنونة، هؤلاء يدخلون العام من خلال جنونهم وغفلتهم، ومن خلال غياب عقولهم، وعندما تكون بداية عامهم على هذه الحالة، كيف ستكون نهايته؟
لا يجوز للإنسان أن يكون عمره لعبة خطّ، أو أن تكون حياته منطلقة من شربة خمر يغيب فيها عن الوعي، أو من حركة رقص يغيب فيها عن التوازن في حركة الحياة.
لا قيمة لعمر لا يخطِّط الإنسان له.
الاحتفال الحقيقي
ترتدي مظاهر الاحتفال بميلاد السيّد المسيح (عليه السلام) كلّ سنة طابعاً غربيّاً عند المسيحيّين والمسلمين، برأيكم ما الطريقة الأفضل من المنظور الإسلامي للاحتفال بمواليد الأنبياء (عليهم السلام) وهل من كلمة توجّهونها للمسيحيّين في هذا المجال؟
حين نحتفل بميلاد السيّد المسيح (عليه السلام) أو مولد النبيّ محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، علينا أن نسأل أنفسنا، لماذا هذا الاحتفال، وماذا يمثّل هذا النبيّ أو ذاك في حياتنا؟ فإنَّ الجواب يكون: إنَّ هذا النبيّ الذي نحتفل به خصَّه الله سبحانه وتعالى بكرامته وأنعم عليه برسالته، واصطفاه من أجل أن يعمل ويتحرّك ليُخرج الناس من الظلمات إلى النور، وإنّه جاء ليزكّينا ويعلّمنا الكتاب والحكمة، وليربطنا بالله، وبالحياة والناس من خلال الله. ولذا، فإنَّ فرحنا بميلاده واحتفالنا به، هو احتفالٌ برسالته وبالقِيَم الروحية والأخلاقية والتربوية التي جاء من أجل تركيزها في حركة الإنسان في الحياة، واحتفالٌ بالخطّ الذي رسمه للناس حتى يواجهوا قضاياهم من موقع رضى الله سبحانه.
ومن هنا، فإنَّ الاحتفال بالميلاد(1) لا يكون بالأخذ بالأشكال والألوان والأساليب اللاهية العابثة التي يستغرق الإنسان من خلالها في لذّاته وشهواته وغفلاته فينسى النبيّ ورسالته وروحيّته ووحيه وجهاده والقِيَم التي جاء بها.
إنَّ الاحتفال بالميلاد فرصةٌ للتأمّل والتفكير بما جاء به هذا النبيّ أو ذاك النبيّ، وفرصةٌ أيضاً لنعرف فيها هل أنَّ واقعنا واقعٌ يرتبط برسالته ويجسّد مفاهيمها، أم هو واقعٌ ينفصل عن رسالته ويبتعد عن خطِّه ونهجه؟
إنَّ الاحتفال بالميلاد فترة حساب للنفس والمجتمع، وحساب للحاضر والمستقبل، حتى ندرك أنَّ مواقعنا تتحرّك في خطِّ رضى الله أو غضبه، لأنَّ قيمة النبوّة أنّها حركةٌ تنفتح بالناس على رضوان الله سبحانه في كلِّ قضاياهم وأمورهم.
ونحن عندما ننفتح على المسيحيّين في لبنان والعالم، كمواطنين وأهل كتاب، نقول لهم: إنّنا وأنتم سواء، نقف على الكلمة السواء في السيّد المسيح (عليه السلام) الذي نعتقد به أنّه روح الله وكلمته التي ألقاها إلى مريم (عليها السلام)، وهو رسول الله، وإذا اختلفنا في شخصية السيّد المسيح (عليه السلام) من خلال سرّ التجسّد الذي تؤمنون به، أو من خلال معنى الرسالة والرسوليّة الذي نؤمن به، فإنّنا لا نختلف بأنَّ المسيح جاء بالمحبّة لله وللناس، وأتى بالخطّ الأخلاقي الذي يجعل الإنسان مسالماً متسامحاً، وجاء أيضاً بالرفق لا بالعنف.
إنّنا نبارك لكم هذا العيد، ونريد لكم أن تحتفلوا به من موقعه الرسالي في القيمة الروحية والأخلاقية، وفي معنى السلام القائم على العدل، وفي مواجهة كلِّ المستكبرين في العالم {تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً} [آل عمران : 64]، ليكون التوحّد هو الأرض المشتركة التي نقف عليها {وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ} [آل عمران : 64] لنقف على أساس وحدة الإنسانية، فلا فضل لعربي على أعجميّ إلاّ بالتقوى.
فميلاد السيّد المسيح (عليه السلام) يوحي إلينا بالانفتاح على الله والإنسان وعلى كلِّ القِيَم الروحية والأخلاقية، حتى نحوّل الأرض والحياة بمحبّتنا ووحدتنا وإخلاصنا وتوحيدنا لله وبإنسانيّتنا إلى جنّةٍ مصغّرة، نعيش فيها معنى الجنّة في ابتعادنا عن الحقد والبغضاء. وعلى هذا، فالاحتفال بميلاد السيّد المسيح بالّلهو والعبث والسُّكر والعربدة والمجون، هو إساءةٌ له (عليه السلام) وخيانةٌ لرسالته، وابتعاد عن طهارة السيّدة مريم (عليها السلام) هذه الإنسانة العفيفة التي قال فيها القرآن: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا(1) نَبَاتاً حَسَناً} [آل عمران : 37].
لذلك نقول: لا تنطلقوا وأنتم تحتفلون بميلاد السيّد المسيح بالتقاليد والعادات التي جاءت من وثنية الغرب، ولم تأت من مسيحيّته، ولا تقلّدوهم في ذلك.
وكما نقول للمسيحيّين، نقول للمسلمين: إنَّ لنا تقاليد تنطلق من عمق إسلامنا ورسالتنا، وإنَّ لنا عادات تتحرّك من خلال مبادئنا، فلا تأخذوا بالتقاليد التي لا علاقة لها بالإسلام، وهذا ما يجب أن نؤمن به ونعيشه، لقد نادى عيسى (عليه السلام) عندما رأى الكفر من قومه {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران : 52].
علينا أن نستجيب لندائه لنقول له: نحن أنصار الله معك، ونحن أنصار الله مع محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، ومع كلّ قيادة حقٍّ في كلّ زمانٍ ومكان.. ونحن أنصار الله ننتظر وليّ الله (عجَّل الله فَرَجَه الشريف) الذي يأتي ليملأ الأرضَ قسطاً وعدلاً كما مُلِئت ظُلماً وجوراً، لنكون من أتباعه والمدافعين عن رسالته والمستشهدين بين يديه.
إنَّ الاحتفال بالميلاد لا يكون بالأخذ بالأشكال والأساليب اللاهية العابثة فننسى النبيّ ورسالته وروحيّته والقِيَم التي جاء بها.
واقع المرأة
يلاحظ أنّ موضوع المرأة يأخذ حيِّزاً من إنتاجكم المعرفي والفكري والفقهي ومن خلال منشورات الكتب، فما هو الدور الذي تلعبه المرأة في حياتكم وكيف ترونها؟
إنسانٌ مضطهد من قِبَل الرجل، لا يزال يضطهده حتى من خلال الحريّة التي أعطيت للمرأة، فإنّها ـــ الحرية ـــ جعلت منها شخصاً معلّقاً في الهواء لا يملك القاعدة التي يستقرّ عليها. لا تزال قِيَم الرجل هي قِيَمه. وعندما أعطاها الرجل بعض قيمة في الحركة أبقاها محكومة لِقِيَم المرأة التاريخية في البيت وتربية الأطفال. فالرجل في أغلب مواقعه ليس مستعدّاً لأن يقوم بما تقوم به المرأة تقليدياً في المنزل، وهكذا نجد أنَّ الرجل لا يزال يقدّم المرأة كجنس، ولا سيّما في السياسة الإعلانية، أو في السياسة الفنيّة في المسرح والقصّة، ومن خلال وسائل الإعلام كالتفزيون، ولا يقدّمها كرمز للفكر وللإبداع إلاّ في بعض التجارب التي تأتي على الهامش.
إنّني أتصوّر المرأة إنسانةً تختلف عن الرجل بفعل الخصائص الإنسانية في التنوّع الإنساني، ولكنّها تملك عقلاً كعقله وقلباً كقلبه وطاقات كطاقاته. ولذلك أتصوّر أنّ المرأة عندما تُتاح لها الفرصة لأن تعبّر عن طاقاتها كما أُتيحت الفرصة للكثيرات من النساء، فإنّها قد تستطيع التفوّق على الرجل باعتبار أنّها تترك تأثيراً في قوّة حركة الاندفاع عندها مقارنة باندفاع الرجل.
أعتقد أنّ المرأة إنسانٌ لا بدّ أن يعيش إنسانيّته، ولكن في مستوى خصوصيّته النوعيّة، كما يعيش الرجل في مستوى خصوصيّته النوعيّة.
ولذلك، نحن نرفض تأنّث الذكر وتذكّر الأنثى إذا صحَّ التعبير. تبقى المرأة امرأة في عناصرها الإنسانية، ويبقى الرجل رجلاً في عناصره الإنسانية، من دون أن نخلط أو أن نلغي شخصية هذا أو شخصية ذاك في عملية خلط الأنواع. لهذا، فأنا من الناس الذين عملوا على إبراز الفكر الإسلامي في تأكيد إنسانية المرأة ومعالجة مشاكل المرأة، ممّا جعلني أشعر بأنّها جزءٌ من رسالتي الأساسيّة(1).
أتصوّر أنّ المرأة عندما تُتاح لها الفرصة لأن تعبّر عن طاقاتها، فإنّها قد تستطيع التفوّق على الرجل.
حول المرأة
ما هو الجديد في كتاباتكم حول المرأة؟
في الحقيقة لدينا كتاب جديد صدر بعنوان (دنيا المرأة) وهو كتابٌ حواري مع إحدى الفتيات التي كانت تعدُّ رسالة ماجستير(1)، وقد جرى الحوار لأكثر من سنة ونصف عن أكثر الشؤون المتّصلة بحياة المرأة الصغيرة والكبيرة. إنَّ هذا الكتاب يمكن أن يكون أوسع كتاب حول قضايا المرأة، وهو يشتمل على ما يقارب 350 صفحة، وأعتقد أنّه يُغني المرأة في الكثير من قضاياها.. وإنّني كنت وما زلت أطلب من بناتي وأخواتي أن يُرسلن مشاكلهن والقضايا الجديدة التي يعشن تجربتها من أجل أن نعالجها.
تساوٍ في الزوجيّة والأخوّة
في حَثّكم على احترام المرأة تقولون: "امرأتك زوجتك في الجسد، لكن هي أختك في الدين" وماذا تقولون في احترام المرأة للرجل، للرجل العفيف، صاحب الدين؟
إنّني أريد أن أقول: إنّ المرأة إنسانٌ يقف على مستوى واحد في إنسانيّته مع الرجل، فليس الرجل في إنسانيّته أفضل من المرأة في إنسانيّتها.. وأمّا حقُّ الرجل على المرأة، فهو حقٌّ حصل عليه من خلال هذا التعاقد مع المرأة، كما حصلت هي عليه من خلاله {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة : 228]، فللمرأة حقٌّ على الرجل ينطلق من إنسانيّتها، وللرجل حقٌّ على المرأة ينطلق من إنسانيّته. وعلى ضوء ذلك لا يمكن للرجل أن يعتبر نفسه مسلَّطاً على المرأة شرعياً بشكلٍ مطلق، كما أنّ المرأة ألّا تعتبر نفسها مسلّطة على الرجل بشكلٍ مطلق، فللمرأة حقٌّ وعليها واجب، وكذلك الأمر بالنسبة للرجل، ونحن عندما نتحدّث عن حقوق المرأة كأخت في الدين للرجل، كذلك نتحدّث عن حقوق الرجل كأخ لها في الدين.
إنّ على الطرفين معاً أن يعملا على أساس الأخوّة الإسلامية الإنسانية، التي تجعل للمسلم حقّاً على المسلم في أن يحترمه ولا يخونه ولا يغشّه ولا يغتابه ولا يُسقطه. وهذا هو حقُّ الإنسان رجلاً كان أم امرأة. هذا هو جانبٌ من الجوانب عن السؤال، أمّا عن احترام المرأة للرجل العفيف الكريم صاحب الدين، فمن الطبيعي أنّ الإسلام جعل احترام المرأة لزوجها جهاداً "جهاد المرأة حُسْنُ التبعُّل"(1)، حتى أنّه رفع الجانب المعنويّ للعلاقة الإيجابية بين الزوجين، وهذا ما ندركه من خلال الحديث الذي يعتبر أنَّ السجود لو كان جائزاً لوَجَبَ على المرأة أن تسجد لزوجها، وذلك تدليلاً على ضرورة الاندماج الروحي، والطاعة المنطلقة من المودّة والرحمة بين المرأة والرجل.
إنَّ على الزوج والزوجة أن يعملا على أساس الأخوّة الإسلامية الإنسانية التي تجعل للمسلم حقّاً على المسلم في أن يحترمه ولا يخونه ولا يسقطه.
الرّق
لماذا لم يُلغ الإسلام نظام الرّق فوراً، وهل هذا النظام ما زال قائماً وما حدوده؟
جاء الإسلام، وكان الرّق يمثّل نظاماً اقتصادياً واجتماعياً واسعاً في العالم كلّه، ولم يكن من الواقعية أن يلغي الإسلام الرّق بكلمة واحدة، لأنّ ذلك من شأنه أن يربك الواقع الإسلامي.. ولكنّ الإسلام جفَّف كلّ منابع الرّق، ما عدا رقّ الحرب باعتبار أنّ المسلمين كانوا أيضاً يُؤسَرَون ويُسترقون من قِبَل الآخرين، وعمل الإسلام من خلال نظام الكفّارات وتشجيعه على كسب الأجر في عتق الرقاب من العبيد على إلغاء العمل بهذا النظام، حتى وصلنا إلى مرحلة ليس لها رقٌّ في العالَم الإسلاميّ، ولم يكن ذلك ناشئاً من ثورة لتحرير الرّق، بل كان من خلال الوسائل الواقعية في تحرير العبيد.
العزّة من الله وليس من العبد
بعضٌ منّا يلجأ إلى الناس طلباً للموقع والعزّة، ما المخاطر التي تنجم عن هذا التوجّه؟
هل تريد أن تكون قويّاً؟ هل تفكّر أن تعيش إنسانيّتك باستقلالية وأصالة من دون أن تستعبد نفسك لأحد أو تذلّ نفسك لأحد؟ عليك أن تطلق قرارك من داخل نفسك بكلّ حري|ّة، وأن تتحرّك إرادتك في كلّ قضايا الحياة بكلّ استقلال.. فإذا كنت تريد ذلك، فلا تفكّر بالناس من حولك، بأنَّهم قادرون أن يعطوك قوّة أو عزّة، لأنّهم لا يملكون لأنفسهم نفعاً أو ضرّاً، فكيف يملكونه لك؟ وهم إذا أعطوك شيئاً، فإنَّهم يريدون أن تبيعهم موقفَك في مقابل أموالهم، وإذا أعطوط جاهاً، فإنَّهم يريدون لك أن تتنازل عن إرادتك في مقابل ما يعطونك من جاه، وإذا أعطوك عزّة، فإنّهم يريدون لك أن تقدّم الذلّ بينأيديهم.. إنّهم لن يعطوط شيئاً {مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً} [فاطر : 10] هو الذي يُعِزُّ مَن يشاء ويذلّ مَن يشاء، فالعزيز مَنْ أعطاه الله بعض أسباب العزّة، والذليل هو الذي سلبه الله بعض عناصر العزّة، والشريف مَنْ شرّفته طاعة الله وأعزّته عبادةُ الله، لأنَّ عبودية الإنسان لله تعالى، هي سرُّ وجوده، فالله ربُّه الذي خلقه وصنعه ورزقه وأعطاه.. لذا، فإنّه عندما يتذلّل لله، فإنّه يعتزُّ به سبحانه، وعندما يتواضع لله، فإنّه يرتفع به. أمّا عندما يتذلَّل لعبدٍ من عباد الله، فإنّه يُسقط عزّته أمام شروطه وأمام ما يريده منه.
عندما يتذلَّل الإنسان لله، فإنّه يعتزُّ به سبحانه، أمّا عندما يتذلَّل لعبدٍ من عباد الله، فإنَّه يُسقط عزّته أمام شروطه.
العقل البارد
نحن نعيش حالة إرباك حقيقيّة بسبب ما يجري في ساحتنا من كلمات نتناول فيها بعضنا بعضاً، فكيف نعيش حالة الهدوء في مثل هذه الأجواء، لكي نفكِّر بهدوء؟
إنَّ الماء عندما يغلي يمكن أن يتحوّل إلى مشكلة، وربّما يفجّر الإناء الذي هو فيه، فلكي نخفّف من غليانه، علينا أن نضيف له ماءً بارداً ليهدأ، لذا فإنَّ علينا أيضاً أن نبرّد حالة الغليان بالعقل، فكلُّ غليان سياسيّ أو اجتماعي أو ثقافي أو عاطفي إذا لم نُضف له من العقل (ماءً بارداً) فإنّه يفجّر المجتمع الذي هو فيه.
فنحن بحاجةٍ إلى العقل البارد، فالعقل الحار يخلّف أبخرة، والأبخرة تحجب الضوء والحقيقة، خصوصاً إذا كان البخار غليظاً، لذلك فحلُّ المسألة هو في أن نملك تقوى العقل والفكر وتقوى وعي الواقع، وعلينا أن نتأمّل في آية واحدة {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ} [الصافات : 24] فكلّ كلمة تقولها وكلّ عمل وتصرُّف تمارسهما يجب أن تفكّر أنّك ستُدعى إلى الله، وقد تكون كلمتك آخر كلماتك، وقد يكون موقفك آخرَ مواقفك، فعندما يأتيك الموت وأنت على هذه الحالة، فهل تستطيع أن تقدِّم جواباً لربِّك؟ {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا} [النحل : 111] يمكن أن تقول لي إنّني قصدت الخير في كلماتي ومواقفي، ولكن ماذا تقول أمام مَنْ يعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور، وماذا تفعل يوم تُبْلى السرائر؟ {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الإنفطار : 19] كثيرٌ منّا في السياسة والجدل البيزنطي(1)، ابتعد عن أن يعيش الروحانية، فحتى عندما يقرأ الدعاء لا يفهمه ولا يعيشه بروحه، وعندما يصلّي "يطوف" في جولة حول العالم، حتى إذا قال السلام عليكم ورحمة الله وبركاته عندما ينتهي من صلاته يكون قد أكمل جولته حول العالم.
ليس للكثيرين منّا روحيةٌ ولا خوفٌ من الله، هذا الخوف الذي يلفُّ القلب ويحفظ المشاعر والأحاسيس، وخوف المتّقين الذي تحدّث عنه عليٌّ (عليه السلام) غائب. هؤلاء المتَّقون كأنّهم يشعرون بلهيب النار في وجوههم وهم في الدنيا. أخشى أن يتحوّل العمل إلى شكليّات وشعارات وكلمات، بحيث نجد قلوبنا مفتوحة للعصبيات والأنانيات وللشيطان.
ومن هنا، فإنّه يلزم أن نُعيد النظر في تركيبتنا العقلية والعاطفية والروحية، لعلّنا نشعر أنَّ هناك خطأ ما في هذه التركيبة التي تدفعنا إلى ما نحن فيه من هذا الضياع، ومن هذه الغيبوبة التي نحن فيها.
أخشى أن يتحوّل العمل إلى شكليات وشعارات وكلمات، بحيث نجد قلوبنا مفتوحة للعصبيات والأنانيات وللشيطان.
الحرية الفرديّة
ما هي حدود الحريّة الفردية في الإسلام؟
أراد الإسلام للإنسان أن يكون حرّاً أمام كلّ الناس "لا تكن عبدَ غيرك وقد جعلك الله حرّاً"(1) فليس للإنسان أن يسمح للآخرين باستعباده، وليس له أن يُذلَّ نفسه "إنَّ الله فوَّض إلى المؤمن أموره كلّها، ولم يفوِّض إليه أن يُذِلَّ نفسه"(2)، كما ليس من حريّة الإنسان أن يقتل نفسه {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة : 195] وعلى هذا لا يجوز له أن يضرَّ نفسه بشرب الخمر ولعب القمار، فهو عبد الله، وحياته مُلكٌ لله، ولا يستطيع أن يُنهي حياته إلاَّ بأمر الله.
والفرق بين الحريّة الفردية في الأنظمة والقوانين الوضعيّة، وبين القوانين الإسلاميّة، أنَّ الإنسان في الإسلام لا يملك حريّته في ممارسة ما يضرُّ بجسده، كأن يفقأ عينه أو يقطع يده، أو يتناول المأكولات أو المشروبات التي تضرُّ بجسده، ومن هنا قلنا بتحريم التدخين الذي يضرُّ بالجسد ويؤدّي إلى السرطان في أغلب الأحيان، أو ما أشبه ذلك من الأمور.
فالحرية الفرديّة تنطلق في الخطّ الذي لا ضرر فيه للإنسان، كما أنّها تتّصل بما لا يضرّ حرية الآخرين. فليس له أن يرمي الأوساخ والقمامة في الشارع بشكلٍ فوضوي، أو يرفع من صوت الراديو والتلفزيون بالطريقة التي تزعج الناس وتمنعهم من الراحة والنوم، حتى أنّه ليس حرّاً في أن يُطلق مكبّر الصوت سواء في حسينيّة أو مسجد إلاّ في الحالات التي لا تزعج الناس. فإزعاج الناس بواسطة مكبّرات الصوت حرام، إلاّ في بعض الحالات التي تعارَف عليها الناس في المناسبات والمواسم المعروفة.
ومن هنا نقول: إنَّ حريّتك تنتهي عندما تبدأ حريّة غيرك، وحريّتك تنتهي عندما تتحوّل الحرية إلى عنصر مضرٍّ لجسدك أو لعقلك أو لحياتك، أو لحياة المجتمع كلّه.
حريّتك تنتهي عندما تتحوّل الحرية إلى عنصر مُضرٍّ لجسدك وعقلك وحياتك وحياة المجتمع كلّه.
الكشوفات
جالسات بعض الفرق الإسلامية ورأيت وسمعت من أسلوب تعبّدهم أنّهم يعتمدون على مجاهدة النفس إلى أبعد الحدود وعلى ذكر الله بكثرة، ويكون قائدهم في ذلك أحد أولياء الله الذي أعطاه الله الكثير من الكشوفات كرؤية الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) والأولياء والملائكة والجنّة والنار وبعض التجلّيات الإلهية الجلالية والجمالية، وأنَّ رؤية الأنوار الإلهية والكشوفات لا تكون بالعقل أو البصر، إنَّما تكون بالبصيرة، ما رأي سماحتكم في ذلك؟
نحن لا ننكر أنَّ هذه الأمور ممكنة، لكنّ الإنسان الذي يملك هذه التجليّات، أو يرى الجنّة والنار والنبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، فلا نظنّ أنّه يتحدّث بها، هذه نقطة، والنقطة الثانية ما الذي يؤكّد لنا صحّة قوله، ربّما قد يكون صادقاً، ولكنّه قد يخلط بين الحقيقة والخيال، وكم رأينا أُناساً أنّهم ادّعوا رؤية شيء من هذا في اليقظة وتبيّن فيما بعد أنّها مجرّد تخيّلات ليس لها حقيقة أو صحّة في الواقع. لذلك، فهذا علمٌ يحتاج إلى كثير من الأساتذة الأتقياء المجرّبين والورعين، إذ ليس كلُّ من تحدَّث بالعرفان يصبح أستاذاً فيه. وعندما كنّا في النجف الأشرف كان هناك علماء كبار في علم العرفان، وكانوا مثال التواضع وإنكار الذّات، وكانوا يملكون من الخبرة في ترويض النفس وتأديب تلامذتهم، ما يبقيهم ويُبقي تلامذتهم في الخطّ الواقعي الاجتماعي مع الناس والمجتمع.
نحن لا ننكر قدرة بعض الأتقياء والعارفين على أن يعيشوا هذه التجلّيات، ولكن نحذّر من حالات الغشّ والخداع للطيّبين من الناس من بعض الذين يدّعون العرفان، وهم ليسوا من العرفان بشيء، فيضلّلونهم من حيث يحسبون أنّهم يهدونهم إلى سواء السبيل.
نحذّر من حالات الغشّ والخداع للطيّبين من الناس من بعض الذين يدّعون العرفان، وهم ليسوا من العرفان بشيء.
الغيب
نعرف أنَّ علوم الإنسان قد تطوّرت، وقد انبثقت عن الحسّ والتجربة ومنطلقات التفكير، فطغت الماديات والحسيّات على حالة الغيب، كيف لنا أن نوظّف ما وصل إليه الإنسان من علوم ومعارف لتأصيل فكرة الغيب في داخل الإنسان؟
كلّ العلماء يؤمنون بالغيب، لأنّهم عندما يجدون بعض الأسرار، فإنّهم يستوحون منها وجود أمور خفيّة، خارج نطاق الظواهر الماديّة الموجودة في الكون.. إنَّ علينا أن نفهم الغيب من خلال كلّ الأسرار الموجودة في كلِّ هذه الاكتشافات والعلم، لنعرف أنّها تنطلق في كلِّ أنظمتها الداخليّة والخارجيّة من عقل حكيم قادر، هي إرادة الله سبحانه الذي هو تعالى الغيب كلّه {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} [الأنعام : 59].
الإيمان بالغيب والأطياف
الإيمان بالغيب ضرورةٌ من ضروريات الدين، وعليها يُبنى أساس الإيمان بالله تعالى، فهل ما يتراءى للنائم من أحلام وأطياف تشكّل لنا حقيقة يعتدّ بها، علماً بأنَّ الشيخ جعفر كاشف الغطاء يقول في كتابه (الحقّ المبين)(1): "إنَّ الأحلام لا تكون شواهد الأحكام باتّفاق علماء أهل الإسلام".
نحن نؤمن بالغيب، لأنَّ الله تعالى جعل ذلك من أساس العقيدة. ومن صفات المؤمنين أنَّهم {يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [البقرة : 3]، فإيماننا بالغيب يعني أنَّ هناك عالماً آخر خارج نطاق الحسّ، فالله تعالى غيبٌ ندركه بفطرتنا وعقولنا ولا ندركه بأبصارنا، والملائكة والجنّة والنار والحساب غيب، وهذا ما نسمّيه بعالم الآخرة وعالم ما وراء الحسّ. وتنطلق بعض المعاجز في حركة الواقع من خلال الغيب، هذه المعاجز التي أجراها الله تعالى على أيدي الأنبياء، من تحوّل العصا إلى ثعبان على يد موسى (عليه السلام)، وتحوّل النار إلى بَرْدٍ وسلام على إبراهيم (عليه السلام)، ومن إحياء عيسى للموتى، وهكذا في بقيّة المعاجز التي جرت على أيدي الأنبياء (عليهم السلام). إذاً، نحن نؤمن بالغيب، ونؤمن بأنَّ الحياة لا ترتكز فقط على أساس الحسّ، وإيماننا بالغيب لا بدّ فيه من أن يكون له أساس شرعيّ وحُجّة ثابتة ولذلك، لا نستطيع أن نؤمن بإخبار أيِّ إنسان أنّ له علاقة بالغيب، وذلك كما حدث فيما عشناه في لبنان أنَّ هذه المرأة أو تلك لها علاقة بأهل البيت (عليهم السلام) والملائكة وتحدِّثهم ويحدِّثونها، وتشفي المرضى وتخبر عن أحداثٍ ستقع، وما إلى ذلك، ممّا لا يقوم على أساس، ولا يركن إلى دليل. وقد عرفنا أنَّ الكثيرين من الناس قد خدعوا الناس من خلال ذلك، وتاجروا بسذاجتهم وبساطتهم، بضربهم "للمندل" أو قراءتهم للكفّ، أو إجرائهم لبعض الحسابات الرياضية. وهذه الأمور وإن أصابت مرّة، فإنّها تخطئ 99 مرّة، ولا نستطيع أن نبني على هذه المرّة قاعدة أو أساساً في تصديقهم.
وأمّا بالنسبة للأحلام والمنامات(2)، فنحن نوافق الشيخ جعفر كاشف الغطاء (رحمه الله) بأنّنا لا نستطيع أن نبني عليها حكماً شرعياً، كما لو أنَّ أحداً من الناس رأى الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) في المنام، وطلب منه أن يفعل أمراً معيّناً، أو يخبر فلاناً من الناس بعمل أمرٍ معيّن، فهذا بإجماع العلماء لا يؤخذ به كحكم شرعيّ. وهناك منامات وأحلام قد تنشأ في بعض الحالات من ثِقْلِ الطعام في المعدة، أو من حالة نفسيّة معيّنة ناشئة من أحوال خاصة تحيط بالإنسان. وقد تكون هناك أحلام حقيقيّة، مثلما ما رأى يوسف (عليه السلام): {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف : 4]، وقد صدقت رؤية يوسف {وَقَالَ يَا أَبَتِ هَـذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً} [يوسف : 100].
ونحن في حياتنا العامة قد لا نستطيع أن نميِّز بين المنام الصحيح وغير الصحيح، إلّا إذا ظهرت الدلائل والقرائن على أنّه صحيحٌ وحقيقيٌّ. نعم.. يمكننا أن نجعل بعض المنامات أساساً للتفاؤل أو التشاؤم، كأن يرى أحدٌ النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) يحضنه مثلاً، فهذا يوحي أنّه سائرٌ في الخطّ المستقيم، وأنَّ عليه أن يستمرّ. وعلى هذا، لا بدَّ أن نوثّق أساس الغيب حتى يمكن لنا أن نؤمن بنتائجه.
علامات الظهور
هل ما يحدث في العالم من فساد وحروب ومتغيِّرات مؤشرٌ لعلامات الظهور للإمام الحُجّة (عجَّل الله فرجه الشريف)؟
"إنّهم يرونه بعيداً ونراه قريباً"(1) نحن ننتظره في كلِّ يوم وكلّ ساعة، لكنّه غيبٌ من غيب الله، وأمر خروجه ليس بيده أو يدنا.. نعم نحن ندعو الله تعالى أن يعجّل فرجنا بفرجه، ولا مانع أن نتفاءل بكلّ علامات الظهور، ولكن علينا ألاّ نشغل أنفسنا بالاستغراق في هذه العلامات كما يفعل البعض متناسياً دوره ومسؤوليّاته في الدعوة إلى الله تعالى، حيث هذا البعض يعطّل دوره في الإرشاد والوعظ، ولا يهتمّ كثيراً للتحدّيات التي تواجه الإسلام والمسلمين، ولا يشكّل هذا أيّة مشكلة له، بل ينكبّ على بعض الكتب التي تتناول علامات الظهور من الصباح حتّى المساء، دون أن يكلّف نفسه بهداية ضالّ، وتقوية ضعيف ونصرة مظلوم. وعقلية هذا البعض تهمّه أن تخرب دنيا المؤمنين وغيرهم لأنّها إذا خربت ـــ على حدّ زعمه ـــ فإنَّ ذلك يسهّل خروج صاحب الزمان (عجَّل الله فرجه الشريف)، وكلمّا صلح الناس برأيه تأخّر خروجه (عليه السلام).
نعم، ينبغي أن نظلّ نذكر الإمام (عجَّل الله فرجه الشريف) نترقّبه ونعيش أجواءه، لننقلها إلى أجوائنا، فمسؤوليّاته (عليه السلام) أن يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد أن مُلِئَت ظلماً وجوراً، وعلى هذا، فرسالته، هي العدل العالمي.. ومن هنا علينا نحن أن نعيش فكرة العدل في بيوتنا وبين أهلنا وأمَّتنا وفي أوطاننا، وإلاّ كيف ندعو بخروجه ونحن ظالمون في بيوتنا، وظالمون لإخواننا، نغتابهم، نشتمهم، أو نعطّل حركة المجاهدين والمصلحين، ونشوّه صورة العاملين في سبيل الله؟
وهناك رواية تُحكى عن رجل أراد رؤية الإمام الحُجّة (عليه السلام)، فمكث أربعين أربعاء في مسجد السهلة بالكوفة مع قيامه ببعض الأعمال الخاصة.. وبعد أن انتهى من الأعمال، وذهب إلى بيته وجلس منتظراً للإمام.. وحسب الرواية دخل عليه شخص وأخبره بأنَّ الله استجاب لأدعيته برؤية صاحب الزمان (عجَّل الله فرجه الشريف)، فقام الرجل وأجلس هذا الشخص في صدر المجلس، وبعد أن عرَّفه عن نفسه بأنَّه صاحب الزمان، انشرحت أساريره، وبدأ الإمام ـــ كما تقول الرواية ـــ بمحادثته، قائلاً له بأنَّ هذا البيت الذي يسكن فيه هو وقف، اغتصبه أحد أجداده، فينبغي عليه أن يعيده إلى أهله، ثمّ أخبره بأنَّ زوجته هي أخته في الرضاعة، فعليه أن يتركها فوراً.. هنا تحرَّك الرجل من مكانه، وخرج إلى الشارع يصيح: لصٌّ في بيتي.
ومن هنا، فإنَّ الكثيرين يقولون: عجّل على ظهورك، ولكن بعد قليل يغتابون الناس، ويفتنون بينهم، ويشوّهون صورة المجاهدين والعلماء والمخلصين، ويتعاونون مع الظالمين.. هؤلاء ليسوا صادقين في دعواهم ومحبّتهم بخروج صاحب الزمان (عجَّل الله فرجه الشريف) {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ*وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت : 2 ـــ 3].
علينا أن نعيش فكرة العدل في بيوتنا وبين أهلنا وأُمّتنا وفي أوطاننا.
الانتظار الحركي
الخامس عشر من شهر شعبان ذكرى مولد الإمام الحُجّة (عجَّل الله فرجه الشريف) كيف لنا أن نعيش هذه المناسبة؟
أن نعيش هذه المناسبة، أن نعرف أنّه إمامنا المفترض الطاعة، وأنّه يرعانا ويشرف علينا ويراقب أعمالنا وحياتنا في كلّ أمورنا، ولذلك فإنَّ علينا أن نُشهده ونثبت له أنّنا متمسِّكون بالرسالة، سائرون على خطِّ الهدى، ملتزمون بإمامته، وأنّ انتظارنا له انتظارٌ حركيٌّ ينطلق من أجل إقامة الحقّ وإزهاق الباطل، وهذا الانتظار هو انتظار العدل العالمي الشامل، الذي يجعلنا ملتزمين بالعدل في أنفسنا ومع بعضنا ومع الحياة كلّها. ولا معنى لأن ننتظره (عجّل الله فرجه الشريف) ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً، ونحن الظالمون لأنفسنا ولبعضنا وللحياة من حولنا.
إنَّ الإخلاص له، هو أن نعيش الإسلام رسالة في عقولنا، ونعيش العدل حركة في ألسنتنا وأيدينا وكلّ مواقعنا، حتّى إذا التقينا به ونحن في طريق العدل، فإنَّه يلتق بنا ليحتضننا بمحبّته ورأفته وحنانه، بعد أن يرانا أتباعاً مخلصين وجنوداً مطيعين من خلال تجربتنا التي عشناها في غيابه، وتجربتنا التي سوف نعيشها معه.
"اللَّهمَّ عجِّل فَرَجَه وسهِّل مخرَجه واجعلنا من أتباعه وجنوده والمُسْتَشهَدين بين يديه".
لا معنى لأن ننتظره، ونحن الظالمون لأنفسنا ولبعضنا وللحياة من حولنا.
الصوم، إرادة وحريّة
ما هي صفة الصوم في الإسلام تشريعاً وعلماً لجهة تربية النفس؟
لعلَّ الحديث عن علاقة الصوم بالإرادة التي هي العمق في إنسانية الإنسان، باعتبارها المسألة التي تثبّت عناصر إنسانيّته بكلِّ حركته الثقافية والعملية قد استُنْفِد كثيراً. ولكنّي أتصوّر أنّنا بحاجة إلى الإنتاج العملي الحركيّ في عملية التوعية الإيمانية والإنسانية للصائم، وذلك من خلال إيقاظ الحوافز الإنسانية التي تفتح للإنسان أبواب الطموح في الحياة، لأنَّ مسألة الإرادة ليست مسألة تقليديّة يمكن لأيٍّ كان أنْ يتحدّث عنها ببساطة. فإرادتك هي التي تدفعك إلى أن تُصدرَها عن فكرك، عندما تريدُ أن تصلَ إلى نتائج حاسمة في المسألة الفكريّة، كما هي التي تدفعك إلى أن تتحمَّل الحرمان في كلِّ القضايا الفردية والاجتماعية والوطنيّة التي تفرض عليك ضريبة الحرمان من أجل الوصول إلى النتائج الكبيرة فيها.
وهكذا تنطلق الإرادة من أجل أن تنظِّم لك حركة غرائزك وعاداتك وتقاليدك وتأثّراتك السلبيّة أو الإيجابية بالمجتمع. ولذلك أتصوّر بأنّنا نحتاج إلى أن "نؤنسن" الإرادة في شخصية الإنسان ليستطيع أن يربط بينها وبين أيِّ عمل صوم، سواء أكان الصوم الإسلامي أم الصوم السياسي والاجتماعي أو غيره، ممّا كان يُشَرِّع في الرسالات السابقة من "صوم الصمت"، إذ قال الله تعالى: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً} [مريم : 26] وقوله تعالى: {قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً} [آل عمران : 41].
فصوم الصمت قد يكون حاجة في أكثر من مرحلة من مراحل اللَّغو الذي يعيشه المجتمع بقضاياه السياسيّة أو الاجتماعية أو اللَّغوية. ولهذا أتصوّر مشكلتنا هي أنَّ الصوم تحوّل إلى حالة تقليد جامدة، بحيث تهرب كلُّ معانيه من الواقع الذي ينطلق منه، والمسألة المطلوبة هي إنتاج معنى الإيمان في معنى الصوم، بعيداً عن كلِّ استهلاك. وعندما نريد أن نتحرّك في خصوصية الصوم في حقِّ الإرادة نجد أنَّ الحقَّ عزَّ وجلَّ ربط بين الصوم وبين التقوى، لأنَّ المسألة هي أنّ إرادتك عندما تنطلق لتؤكّد صبرك على حرمانك، ليست مجرّد إرادة لا لون لها، بل هي إرادتك من أجل محبّتك لربِّك وخوفك منه ومسؤوليّتك تجاهه تعالى.
وهنا تنطلق إنسانيّتك بين يديِّ ربّك لتبسط كلّ حياتك بين يديه، لتقول له، يا ربّ إنّني مستعدٌّ لأن أتحمّل الحرمان من أجل رضاك، وهكذا فإنَّ الإنسان إذا عاش هذه الروحية في معنى الصوم، بحيث يرى الله في قلب تجربة الصوم، ليكون الله في عقله وقلبه، عند ذلك لن يكون رمضان إلاّ شهرَ الصوم عمّا حرَّمه الله تعالى. وعلى ضوء هذا، فإنّنا نعتبر الصوم دورة سنوية تدريبيّة في انفتاح الإنسان على الله من خلال مسألتي الصوم والصبر اللّذين يلتقيان مع مسألة حريّة الإنسان.
إنّنا نفهم مسألة الحرية للإنسان، أنَّها تتعمّق في العنصر الأساس في شخصيّته، وكما نعرف فإنَّ الحريّة ليست مرسوماً يصدر من الخارج، فأنت تكون حرّاً عندما تكون لك إرادتك، حتى وأنت داخل الزنزانة بأن تقول لا أو لا تقول نهم، وأنت تكون عبداً ولو كنت تعيش في الساحات الواسعة لأنّك لا تملك قرارك.
ولهذا، فإنَّ الصوم يعني مسألة تحمّل الحرمان، وهذا هو الصبر، لأنَّ مسألة الصبر أن يكون لك عنصر الحريّة الذي يعينك على أن تدفع ضريبة الحريّة من طعامك وشرابك وحركتك وشهواتك، وذلك لأنَّ الحرية شيءٌ يتّصل في داخل وجودك، ولا ينطلق من خارج وجودك. فأن تصوم يعني أنّك تمارس إنسانيّتك في حركة حريّتك في داخلك، وألاّ تُدخل الصوم إلى داخل القمقم الذي حبسنا فيه عبادتنا وإنسانيّتنا.
إنّنا بحاجة إلى الإنتاج العمليّ الحركي في عملية التوحية الإيمانية والإنسانية للصائم.
كي لا نسيء إلى الفرح الروحيّ
ما رأيكم بالحفلات التي تُقام في شهر رمضان؟
إنَّ الحفلات الرمضانية التي درج الكثير من الدول الإسلامية على إقامكتها في شهر رمضان كالحفلات الغنائية والراقصة، فإنَّها تمثّل أسلوباً مضاداً مائة بالمائة لمعنى رمضان، ذلك لأنَّ هذا الشهر هو شهر الصيام في النهار والقيام في اللّيل، والشهر الذي يعيش فيه الإنسان مع الله بالفرح الروحيّ الذي يستلهمه من خلال العيش مع الحقّ تعالى، وهو الشهر الذي يسكن فيه الإنسان مع نفسه ليفهمها ويتأمّل ما لديه من فكر وعاداتٍ وتقاليد اكتسبها من هنا وهناك ممّا لا خيار له فيه، أو من مواقف وعلاقات اجتماعية وسياسيّة.
ولذلك، فإنَّ إقحام الحفلات الفنيّة بقطع النظر عن مسألة الحرام والحلال، هو أمرٌ يسيء إلى معنى شهر رمضان وإلى رسالته، ويُبعد الإنسان عن كلِّ معاني الشهر المبارك، ويتحوّل الصوم في فكره إلى عبءٍ ثقيل، قد يُضطر إلى أن يتخفَّف منه بأن يكون نهاره صوماً وليله خمراً وغناءً ورقصاً ولهواً.
وأُحبُّ في هذا المجال أن أُعلِّق على "صرعة الخِيَم"(1) المسمَّاة رمضانية التي انتشرت عندنا بعد أن كانت موجودة في بلاد أخرى، بالقول إنَّ خِيَم رمضان هي المساجد، وليست هذه الأدوار التي يُراد فيها أن يعيش الصائم أو غيره جوّاً من السهر والعبث واللّهو باسم رمضان. إنَّ ذلك ـــ حتى ولو كان بريئاً ـــ فإنَّ الخِيَم في كلّ الأحوال تفصل الإنسان عن المسجد، وعن أجواء وروحية رمضان.
إنَّ إقحام الحفلات الفنيّة هو أمر يسيء إلى معنى شهر رمضان وإلى رسالته.
الخير في النّاس
في حضور المؤمنين الكثيف لمسجد الإمامين الحسنين (عليهما السلام) في حارة حريك لإحياء ليالي القدر المباركة(1)، تتجلّى الالتزامات الواعية في حركة الإسلام، كيف تقيّمون هذا الإقبال الواعي من جميع شرائح المجتمع على التديّن والانفتاح على الإسلام؟
منذ عشرات السنين كنت أُردِّد وما زلت أنَّ هناك نبعاً من الخير والإيمان في أعماق كلِّ إنسان، ولكنّ المشكلة أنّنا لا نعرف كيف نفجّر هذا النبع، ونزيل عنه ما أحاد به من تراكمات، وأعتقد أنَّ أكثر الناس جريمة وشقاوةً يحمل في داخل نفسه شيئاً من الخير، ولذلك، فإنَّ علينا أن نستثير هذا الخير في الناس بالأسلوب الطيِّب والكلمة الطيّبة والموعظة الحسنة، وألّا نيأس من إنسانٍ مهما كانت الظروف ما دام هناك مجال للكلام معه، وقد قال سبحانه {وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأعراف : 164].
لماذا اليأس؟ يحدِّثونهم عن أُناس بلغت بهم الجريمة إلى حدِّ أنَّ الله سيعذّبهم عذاباً شديداً، أو يهلكهم لشدّة جرائمهم، فيجيبونهم بأنَّ موعظتهم لهم حتى يُعذروا إلى ربِّهم ويقيموا الحُجّة عليهم لعلَّهم يتّقون. ومن هنا، فما دام هناك أملٌ عشرة بالمئة، علينا أن نلاحق هذه العشرة.
ونحن نرى مجتمعنا وبفعل سقوط كلِّ الطروحات التي كانت تتحرّك بعيداً عن الإسلام، وببركة الصحوة الإسلامية التي انطلقت من خلال إرشاد المرشدين وتوجيه الموجِّهين، ومن خلال الثورة الإسلامية التي قام بها الإمام الخميني (رضوان الله عليه) التي أحدثت زلزالاً في النفوس، استطاع هذا المجتمع أن ينفتح على الإسلام كلِّه.
إنّني أجد أنَّ هناك كثيراً من المحبّة لله وللعبادة عند الناس، وقد انطلقتُ في عملي الإسلامي منذ خمسين عاماً وأنا أثق بالناس الطيِّبين، لذلك لا أستغرب كلَّ هذا الجوّ الإسلامي الذي يتمثّل في هذا الإقبال على المساجد والعبادة في أجواء شهر رمضان، ولا سيّما في ليالي القدر ولم أُفاجأ بذلك على الإطلاق، ولذلك فإنّني أحمِّل نفسي دائماً مسؤولية أن أكون مع هؤلاء الناس ليلاً ونهاراً في أيِّ موقع وأيِّ مكان حتى أُعذر إلى الله في ذلك، لأفتح قلوب الناس على الإسلام.. وأدعو كلَّ إخواني من العلماء والمفكّرين والمثقّفين ألاَّ يَدَعوا أيّ فرصة يستثمرونها للإقبال على الناس في وعظهم وإرشادهم وتوجيههم والإجابة عن كلِّ أسئلتهم.
إنَّ في الناس الخير الكبير والإيمان الفطريّ الكبير، وعلينا أن نتحمّل مسؤوليّتنا في إغناء هذه الثروة الإيمانية الموجودة عند الناس، حتى نستطيع أن نصل إلى ما حدَّثنا الله به في كتابه المجيد: {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ*وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً*فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر: 1 ـــ 3] علينا أن نسبِّح ربَّنا ونستغفره من تقصيرنا وذنوبنا ليتوب علينا وليوفّقنا للسير في الطريق الصحيح.
إنّني أحمّل نفسي دائماً مسؤولية أن أكون مع هؤلاء الناس ليلاً ونهاراً في أيِّ موقع وأيِّ مكان حتى أُعذَر إلى ا لله، ولأفتح قلوب الناس على الإسلام.
المذنبات والتشاؤم
بعد الهزَّة الأرضية التي حصلت أواخر شهر آذار 1997م في لبنان، وبعد ظهور مذنَّب "هالي بوب"(1) في السماء يسود اعتقادٌ شعبي بأنّ ظهور هذا المذنّب يعقبه كوارث وحروب لأنّه ـــ باعتقادهم ـــ نذير شؤم، وهذا الجوّ انعكس قلقاً ورعباً نفسياً عند الناس.. ما هو رأي الإسلام في هذه المسألة مع الإشارة إلى أنّ العلم قد استهزأ بهذا الاعتقاد، مع ملاحظة قول العلماء بأنَّ هذا المذنّب قد يؤثّر على مغناطيسيّة الأرض؟
إنَّ قضية ظهور المذنّبات وسقوط الشهب والنيازك عندما تستطيع اختراق الغلاف الجويّ للأرض، هي ظواهر طبيعية، تماماً ما هي الظواهر الطبيعية الأخرى.. ولم يثبت عندنا أيُّ دليلٍ صحيح بأنّها تؤثّر تأثيراً معيّناً في الواقع الأمني والسياسي والاقتصادي.. ربّما تترك تأثيرها في بعض الواقع الكوني، ممّا لم نكتشفه حتى الآن، أمّا مسألة ظهور هذا المذنّب وحدوث نتائج سلبية على واقع حياة الناس من حروب وكوارث وما شاكل ذلك، فهذا ممّا لم يثبت من الناحية الدينية. ولذلك، علينا أن ننفتح على مثل هذه الظواهر الكونيّة بشكلٍ طبيعي لندرس من خلال العلم تأثيراتها على واقع الكون، من خلال واقع الطبيعة في علاقة الكون بعضه ببعض.
إنَّ مسألة ظهور المذنّبات وحدوث نتائج سلبية على واقع حياة الناس من حروب وكوارث، هذا ممّا لم يثبت من الناحية الدينية.
القيادة
نعرف أنَّ الكثيرين من الطغاة وحتى اليوم استغلُّوا عدم وجود الرشد والوعي في بعض مجتمعات الأُمّة، فألبسوا أنفسهم صفة القيادة وسارت هذه المجتمعات خلفهم، فعاد ذلك بالكثير من الهزائم.. كيف لنا أن نعرف مفهوم القيادة؟
إنَّ مشكلة الكثيرين هي في عدم امتلاكهم الرشد، ولذلك لم يكتشفوا حقيقة مَنْ كانوا يتدبّرون أمورهم من الطغاة السفهاء الذين جعلوا أنفسهمقادة.. وهذه مسألة تدفعنا لنؤكّد على معنى القيادة وعلى عمق مضمونها وخطّ حركتها، فلا تكون القيادة مجرّد شخص يبهرنا بطلعته أو ثروته أو نسبه أو موقعه السياسيّ والاجتماعي. ولذا لا بدَّ لنا من أن ندرس القيادة من خلال أهدافها والنتائج التي نحصل عليها من التزامنا بخطِّها، وهل هي قيادةً تقودنا إلى الجنّة أم إلى النار. وهذا ما يجعلنا في مسؤوليّاتنا عن أنفسنا وأُمّتنا والحياة من حولنا، نواجه مسألة القيادة بوعي وحيويّة وعمق. وهذا ما يجب أن يتحرّك فيه الدُّعاة إلى الله عندما يقفون في وجه الطاغية، بحيث لا يستغرقون في أوضاعه وحدهن بل أن ينفذوا إلى مواقع القوّة التي يعتمد عليها الطاغية من أجل أن يفتحوا قلوبها على الإيمان حتى يسقط الطاغية، ويجعلوا قاعدة هذا الطاغية قاعدتهم.
ومن هنا، علينا في كلّ عملنا الثقافي والسياسي والاجتماعي أن نخاطب الأُمّة المخدوعة والمضلَّلة والمنحرفة لنملأ قلبها إيماناً ووعياً وصدقاً وإخلاصاً وجهاداً، حتى يلتفت الطاغية إلى مَنْ حوله فلا يجد أحداً معه.
علينا أن ندرس القيادة من خلال أهدافها، وهل هي قيادةٌ تقودنا إلى الجنّة أم إلى النار.
الدين والفن
يقول وزير الثقافة الإيراني (عطا الله مهاجراني): "إنَّ الفن والدين لا يتعارضان، بل إنّهما يتلازمان، والأنبياء جاؤوا لتفجير الإبداع الذي أودعه الله في الإنسان. والفن هو ساحة هذا الإبداع، لكنّ العمل الفني لا يمكن أن يكون فقهيّاً، بمعنى التبشير، أو الإلتزام بالشرع في كافّة تفاصيله، بل يكفي ألّا يتعارض مع الشرع، وأن ينسجم مع العناوين العامّة والأصول" ما تعليق سماحتكم على هذا القول؟
الفن والدين عنوانان يختلفان في طبيعتهما، ولكنّ الدين يظلُّ حاكماً وضابطاً لحركة الفن في الخطّ الإسلامي في خطوطه العامّة، لأنّ الدين، هو هذه المفاهيم العقيديّة والخطوط الشرعيّة والمناهج الأخلاقية والأساليب الحركيّة. أمّا الفنّ، فهو حركة الإبداع في الكلمة، في الشعر والرسم والمسرح والقصّة والرواية والموسيقى وما إلى ذلك ممّا يتمثّل فيه الفنّ. ومن الطبيعي أنّ الإسلام لا يقف ضدّ الفن، ولكنّه يقف ضدّ بعض الخطوط التي تدفع بالفن إلى استعمال الوسائل والأساليب التي تسيء للأمور العقيدية والأخلاقية، أو تبتعد عمّا ينفع الإنسان.
نحن نقول: لا نريد للفن أن يقتصر على تصوير العناوين الدينيّة، بل نريد له أيضاً أن يصوّر الحياة، ويتحرّك لتجديد أسلوبها، وإبداع مفاهيمها وأساليبها وصورها، ولكن بشرط أن يكون الإطار الفني الذي يتحرّك الفنّ في داخله، والخطوط الفنيّة غير بعيدة عن الخطوط الأخلاقية والسياسية الإسلامية العامّة، لأنّنا نطمع أن نوظِّف الفن في خدمة الإسلام الذي يتّسع للحياة كلّها وللإنسان كلّه، لأنّ الإسلام ينطلق للحياة كلّها، بكلّ ما في حركة الفن من إبداع في حياة الإنسان، ولكن بشرط أن تكون الحياة محدّقة بالله، تعيش في رحاب وحيه بسبحانه وتعالى.
نقول للإنسان: حدِّق بالله في كلّ ما تفكِّر فيه وما تصنعه، إبدع ما شئت اكتبْ ما شئت، صوِّر ما شئت، ولكن ضع رضى الله في كلّ شيء، لأنّه سبحانه وراء وأمام كلّ شيءٍ في الحياة إنّنا نقول لأهل الفن: لا تتصوّروا الحياة مجرّد كيانٍ ضائع في الفراغ كمادةٍ جامدة تأخذون حريّتكم في استنطاقها، فإذا أردتم أن تمارسوا فنّ الحياة، فاعرفوا أنّ الله خلق الحياة كلّها، وهو ربُّ الحياة، لا بدَّ لكم أن تبقوا مع الله، وأنتم تبدعون وتنتجون.
حدِّق بالله في كلِّ ما تفكّر فيه وما تصنعه، إبدعْ ما شئت، صوّر ما شئت، ولكن ضع رضى الله في كلّ شيء.
حاجتنا إلى الدعاء
ورد في إحدى المجلات الإسلامية أنَّ من أعلى درجات الإيمان ألا يسأل العبدُ ربَّه في أموره الدنيويّة، لأنّه سبحانه وتعالى أعلم وأرحم بنا من أنفسنا، فما مدى صحّة هذا الكلام؟
عندما يبلغ الإنسان هذه الدرجة، وهي تسليم الأمر تماماً لله سبحانه وتعالى، فهو في درجة عالية من الإيمان.. ولكنَّ الله تعالى طلَبَ منّا أن ندعوه {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر : 60]، وقال سبحانه: {فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة : 186]، فالله يطلب منّا أن ندعوه ونسأله عن كلِّ ما يهمّنا من كلِّ أمورنا، والذين يدعونه إيماناً به سبحانه، فإنّهم يعيشون أعلى درجات العبادة، لأنَّ معنى الدعاء إلى الله يمثّل الخضوع المطلق له سبحانه، وربّما يجعل الله تعالى شرط حلّ مشكلة الإنسان بالدعاء، أو شرط الحصول على الرزق بالدعاء.. وقد ورد في بعض الأحاديث أنَّ الدعاء يرفع القَدَر حيث جاء عن الإمام الكاظم (عليه السلام) أنَّه قال: "عليكم بالدعاء، فإنَّ الدعاء لله، والطَلَب إلى الله يردّ البلاء وقد قدّر وقضى، ولم يبقَ إلّا إمضاؤه، فإذا دُعِيَ الله عزَّ وجلَّ وسُئِل صَرْفَ البلاء صَرَفهُ"(1).
فالله سبحانه يريد لعباده أن يدعوه دائماً، لأنَّ الدعاء يمثّل حبَّ العبادة له سبحانه وتعالى. وقد جاء في الحديث: "الدعاء مخّ العبادة"(2) لأنَّه يعبّر عن استسلام الإنسان لله، وعن إيمانه، وعن يقيه بأنَّ الله هو وراء كلّ شيء، وراء الرزق والحياة والموت والصحّة، وما إلى هنالك.
الدعاء يعبّر عن استسلام الإنسان لله، وعن يقينه بأنَّ الله هو وراء كلِّ شيء.
أثر القرآن والدعاء في بناء الشخصيّة
كثيرٌ من الناس يقرأون القرآن والدعاء إلاَّ أنَّهم كثيراً ما يسقطون عند أوّل اختبار فيصبح تأثّرهم بالقرآن مؤقّتاً. السؤال: كيف يمكن لمثل هؤلاء أن يكون القرآن أو الدعاء متجسِّداً في شخصيّاتهم؟
مشكلة قراءة القرآن الكريم والدعاء عند هؤلاء أنّها حالةٌ تقليديةٌ جامدةٌ لا تقوم على المعنى الروحي والعبادي والفكريّ، بل تركّز على القراءة اللّفظيّة والتي تحمل معنى الحكاية والاستظهار الذي يُرجَى منه الثواب.. ولكنَّ المراد من قراءة القرآن روحه ومفاهيمه وحركته الفكريّة وقاعدته الإسلاميّة، وإنَّ الهدف من الدعاء هو الانفتاح على الله ومناجاته والحديث معه والجلوس الحميم بين يديه وفتح القلوب به سبحانه.
إنَّ القرآن فيما يوحي به إلينا هو النور الذي يشرق في قلب الإنسان {يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ} [المائدة : 16]، ويقول أيضاً سبحانه: {وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [المائدة : 16]، والمقصود بالنور هو الطريق الحقّ الذي يدعو الله تعالى عباده إليه ليسيروا على هداه. وهكذا عندما يقول تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر : 60]، فالمسألة ليست مسألة ألفاظ نردّدها، هي مسألة التواصل المباشر بين الإنسان وربّه، وهذه هي النعمة الكبرى التي يتحسَّسها الإنسان المسلم عندما يرى نفسه وبالرغم من ذنوبه أنّه يتحدّث مع ربِّه ليسأله ويطلب ما يشاء من دون أي وسيط آملاً بالاستجابة.
إذاً، لا بدَّ للإنسان عندما يدعو، أن يعيش روحية الدعاء وعندما يقرأ القرآن، أن يقرأه بروحية الدارس له والمتعمّق فيه لينعكس كلُّ ذلك على بناء شخصيّته بناءً رسالياً حركياً.
المراد من قراءة القرآن روحه ومفاهيمه وحركته الفكريّة، والهدف من الدعاء هو الانفتاح على الله.
الدعاء والتربية الاجتماعية
يشكِّل الدعاء في الإسلام في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) جزءاً من التربية الاجتماعية والأمن الاجتماعي، ويُشهد لكم أنَّكم ركّزتم دعائمَ هذه المدرسة، ولكنّنا نلاحظ أنَّ هناك غياباً للدعاء عن الحركة الميدانية للمسلمين، وهذا ما ينعكس سلباً على مستوى الإلتزام الديني والقِيَم الاجتماعية والتربويّة. هل توافقون على أنَّ الدعاء هو جزءٌ من حركة عمليّةٍ لضمان المجتمع، ولماذا نشهد هذا الانكفاء عن الدعاء؟
عندما ندرس مسألة الدعاء في التخطيط التربوي الإسلامي ولا سيّما في القرآن الكريم، نجد أنَّ الله تبارك وتعالى يتقرَّب إلى عباده {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر : 60]، وفي آية أخرى {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة : 186]، ويقول سبحانه {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ} [الفرقان : 77] وحسب بعض التفاسير، فإنَّ الله لولا دعاؤكم لا يعتني بكم ولا يلتفت إليكم، فالذي يساعد في قضاء حوائجكم هو دعاؤكم لله تعالى. والأنبياء أنفسهم مع ما أعطاهم الله من ألطافه كانوا يدعون الله، فهذا نبيُّ الله موسى (عليه السلام) يقول: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص : 24]، ويقول: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلْمُجْرِمِينَ} [القصص : 17]. وقد أراد الله للنّاس أن يدعوه بكلّ حوائجهم وقضاياهم، لأنَّ ميزة الدعاء أنّه يقوِّي العلاقة الروحية بين الإنسان وبين ربِّه، فهو عندما يدعو ربَّه في الصغير والكبير، وفي كلِّ أحلامه وآماله وآلامه، فإنَّ ذلك يمثِّل إحساساً روحياً عميقاً، بأنَّ الله وحده هو المرجع، وإليه المشتكى، وهذا ما يريد الله للإنسان أن يعيشه في داخل نفسه، بأنَّه وحده المعبود والمستعان ووحده قاضي الحوائج.
فدور الدعاء يبرز في تقوية إيمان الإنسان وشحن عقله وقلبه وإحساسه وحياته بالروحانية التي يكتسبها من خلال الحديث المباشر مع الله سبحانه، والانقطاع إليه والذوبان فيه، ويعبّر عن هذه الحالة الإمام زين العابدين (عليه السلام) حيث يقول: "الَّلهمَّ إنّي أخلصتُ بانقطاعي إليك وأقبلتُ بكُلِّي عليك" بعقلي وقلبي وإحساسي وشعوري "وصرفتُ وجهي عمَّن يحتاج إلى رِفْدك" عن كلِّ الناس المحتاجين إليك "ورأيتُ أنَّ طلب المحتاج إلى المحتاج سَفَهٌ من رأيه وضلّة من عقله، فكم قد رأيت يا إلهي من أُناسٍ طلبوا العِزَّ بغيرك فذلُّوا وراموا الثروة من سواك فافتقروا"(1).
فالدعاء ينمّي للإنسان إيمانه ويجعله يشعر بحضور الله معه حتى وإن لم يره، فيحسّ بأنَّ الله وحده هو الذي يحقِّق له أحلامه، ويخفِّف عنه آلامه، ويفتح له أبواب النجاة، وعند ذلك يزداد إيماناً وشعوراً بعظمة الله، وإحساساً بنعمه.
ومن خلال أدعية النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) والأئمّة (عليهم السلام) نجد أنَّ الدعاء يمثّل مدرسة تربوية تشتمل على الكثير من البرامج الأخلاقية، كما وتتضمّن أساليب النقد الذاتي للعناصر الخفيّة داخل نفس الإنسان التي تجعله يفهم ذاته جيّداً. وتشتمل هذه الأدعية على الثقافة العقيدية التي يتحدّث فيها الإنسان أثناء الدعاء عن الله وعظمته وعن الملائكة والأنبياء واليوم الآخر.
ولعلَّ مشكلة الكثيرين أنَّهم يقرأون الدعاء بعقول وقلوب مغلقة، تماماً كمن يستظهر شيئاً، لا كمن يفكِّر بشيء، لذا علينا أن نعيش الدعاء بكلِّ جوارحنا لنفهم مفردات المفاهيم التي يتضمّنها.
وعلى هذا، فالإسلام بلا روحانية لا يمكن أن يؤثّر في حياة الإنسان، لأنَّ الإسلام يرتكز على جانب الروح الذي يتّصل بالإيمان بالغيب والشعور بالإمداد الغيبيّ، ومن هنا كانت الصلاة تمثّل لحظة التقاء الإنسان مع ربّه، حيث يحادثه ويناجيه ويخضع بين يديه.
وهناك مسألتان أساسيّتان، الأولى: إنّنا عندما نزور النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) والزهراء (عليها السلام) والأئمّة (عليهم السلام) ليلة الجمعة أو يوم الجمعة بعد الدعاء، فإنّنا نشعر بالارتباط بهم وبإمامتهم، حيث يكون هذا الارتباط ارتباطاً بالعقيدة والشريعة والأخلاق والروحانية، والمسألة الثانية أن نُقبل على الدعاء بروحانية عالية تدفعنا للبكاء بين يديّ الله تعالى انقطاعاً إليه وإخلاصاً له.
وأُحبُّ لكلِّ إخواني وأخواتي ألّا يتركوا الدعاء وخصوصاً أدعية الإمام زين العابدين (عليه السلام) في الصحيفة السجّادية، وأدعية شهر رمضان، وأيضاً "المناجاة الشعبانية"(1) التي كان الإمام الخميني (رضوان الله عليه) يحبُّ الناس عليها، لأنَّ كلّ ذلك يقرّبنا إلى الله، وكلّما قربنا إلى الله أكثر، كلّما أصبحنا إنسانيّين أكثر، وكلّما شعرنا بالمسؤولية أكثر، فلا نضرُّ ولا نؤذي بعضنا ونحتاط في كلماتنا ومواقفنا.
نحتاج دائماً إلى أن نطرّي قلوبنا بالدعاء والبكاء، وأنا أقول لكم ومنذ عشرات السنين، إنّه ليس من الضروري أن تحمل كتاباً لتدعو به، ادعُ الله بطريقتك، كما تتكلَّم مع إنسانٍ آخر، حتى وباللغة الشعبيّة، ادعُ الله وأنتَ في فراشك، وأنتَ نائم، أو في سيارتك، أو في عملك، بحيث تعيش مع الله دائماً، وحتى ترى الله في كلِّ شيء "لم تسعني سمائي ولا أرضي ووسعني قلبُ عبديَ المؤمن"(2). ومع الأسف هناك كثيرٌ من الحالات نضع الشيطان في قلوبنا، ونبتعد عن الله، عندما نملأ هذه القلوب بالحقد والبغضاء والنميمة والغيبة وما أشبه ذلك.
الدعاء يمثِّل مدرسة تربوية تشتمل على الكثير من البرامج الأخلاقية وتتضمَّن أساليب النقد الذاتي للعناصر الخفيّة داخل نفس الإنسان.
شرف الإنسان بالقرب من الله
كيف نُطِلُّ على الشخصية الإسلامية من خلال دعاء الإمام زين العابدين (عليه السلام): "واعصمني من أن أظنَّ بذي عَدَمٍ خساسة، أو أظنَّ بصاحب ثروة فضلاً، فإنَّ الشريف مَنْ شرَّفته طاعتك، والعزيز مَنْ أعَزَّته عبادتك".
إنَّ هذه الفقرة التي تحدّث بها الإمام زين العابدين (عليه السلام) في ابتهالاته مع الله تؤكّد أنَّ العنصر الأساس لقوّة الشخصية الإسلامية في إحساسها بالقوّة والعزّة وفي تمثّلها للشرف الكبير الذي تفخر به، هو علاقتها بالله تعالى، لأنّه سبحانه مصدر القوّة والعزّة جميعاً، ومصدر الشرف.. فيكون شرف الإنسان عظيماً عندما يكون الإنسان قريباً لله مالك السموات والأرض، ومحبوباً وأثيراً ومرضيّاً عنده.
إنَّ قيمة الشرف هي بمقدار ما تعيشه من هذا المستوى الرفيع في وجودك، فالله هو الذي يرفع درجتك، ويمنحك الشرف، ويعطيك ما يسمو بروحيّتك وإنسانيّتك، وعندها لا تشعر بأنَّ الثروة الماديّة هي سرّ شرفك وعزّتك، ولا تشعر بأنَّ فقدانك لها سرّ شقائك وتعاستك، لأنّك عندما تعيش مع الله، فإنَّ نفسك تعظم وتكبر بالله، وتعيش الشرف به سبحانه، ومَنْ كان مع الله، فما قيمة أيِّ شيء يفقده؟ "ماذا وَجَدَ مَن فقَدَك، وماذا فَقَدَ مَنْ وجَدَك"(1)؟
يكون شرف الإنسان عظيماً عندما يكون الإنسان قريباً لله ومحبوباً ومرضيّاً عنده.
الدعاء والتفاعل
نحسُّ أحياناً بجمودٍ داخلي أثناء الدعاء، ويصبح الدعاء عندما مجرّد كلمات نتلَفَّظ بها دون أن نَعِيَ مضمونها أو نتفاعل معها، ما هي نصيحتكم عندما تطرأ هذه الحالة؟
إنَّ الدعاء لا يمثّل ترداداً لكلمات(1)، لكنّه حديثٌ مع الله وانفتاحٌ عليه سبحانه وحوارٌ معه، ولو من طرفٍ واحد، ولذا، لا بدَّ للإنسان أن يتمثّل في أثناء الدعاء وقبل الدعاء مجلسه أمام الله، وأنّه جالسٌ بين يديه يطرح أمامه ذنوبه ومشاكله وآلامه وأحلامه طالباً منه أن يقضي حاجاته ويحقّق له أمنياته. ومن الطبيعي أنّ هذا المعنى يحتاج إلى إعدادٍ روحيّ وتركيز نفسيّ على كلمات الدعاء، ويحتاج أيضاً إلى أن يتمثّل الإنسان دائماً أنَّه يخاطب ربَّه ويناجيه خصوصاً إذا كان قد أحسَّ أنّه ابتعد عن الله بسبب ذنوب اقترفها ومعاصٍ قام بها. وأنا أحبُّ للإخوة والأخوات أن يقرأوا هذه الفقرات من الدعاء التي تمثّل عمليّةً للنقد الذاتي ولحساب النفس: "الَّلهمَّ إنّي كلّما قلتُ قد تهيَّأتُ وتعبَّأتُ وقمتُ للصلاة بين يديكَ وناجيتُك ألقيتَ عليَّ نُعاساً إذا أنا صلَّيت، وسلبتني مناجاتك كلّما ناجيتُ، مالي كلّما قلتُ قد صَلُحَتْ سريرتي وقَرُب من مجالس التوّابين مجلسي، عَرَضَتْ لي بلِيَّةٌ أزالَت قَدَمي وحالَتْ بيني وبين خدمتك، سيّدي لعلَّك عن بابكَ طردتني وعن خدمتك نحَّيتني" وفي مقطع آخر من الدعاء نفسه "أو لعلَّك رأيتني في الغافلين، فَمِنْ رحمتِكَ آيستني، أو لعلَّك فَقَدْتني من مجالسِ العلماء فَقَلَيْتني، أو لعلَّك رأيتني آلَفُ مجالسَ البطّالين فبيني وبينهم خَلَّيتني"(2) فإذاً هناك كثيرٌ من الأعمال والعلاقات التي نعيشها تبعدنا عن الله تعالى، وتبتعد بقلوبنا عن وعي مقام الله سبحانه، لذلك لا بدَّ للإنسان ان يعالج نفسه في تجنّب الأوضاع السلبيّة التي تساهم في عملية البُعد عن الله، وأن ينفتح على الدعاء وأجوائه وروحانيّته عندما يقف ليدعو الله تعالى.
يحتاج الدعاء إلى إعداد روحيّ وتركيز نفسي على كلمات الدعاء.
التنافس في الخيرات
"واجعلني من أحسن عبادك نصيباً عندك" ألَا ترون في هذه الفقرة من الدعاء أنَّ "طمع" الإنسان و"أنانيّته" تبرز حتى في التقرّب من الله تعالى؟
الأنانيّة في مثل هذه المسألة فضيلة وحسَنَة، إنّها أنانيةُ أن يقرب الإنسان من الله أكث{، وأن يكون في الموقع الكبير عنده "واجعلني مِن أحسن عبادك نصيباً عندك، وأقربهم منزلةً منك، وأخصّهم زُلفةً لديك" اجعلني يا ربّ من الصالحين المتّقين الذين يعملون العمل الصالح على خطِّ الإيمان، وينفتحون عليك ويحبّونك لينالوا باختيارهم الذي وفّقتهم له، وأعطيتهم من لطفك ما يزيدهم درجات عندك.
إنَّ الله يريد للإنسان أن يكون طموحاً في الخيرات {فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ} [المائدة : 48] فالأنانية في الوصول إلى أعلى الدرجات عند الله، تعني أن يصل الإنسان بأسرع ممّا يصل إليه الآخرون، وهذا أمرٌ يحبّه الله تعالى ويرضاه، وندرك ذلك من خلال قوله تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين : 26] أمّا الطمع الذي لا يرضاه الله تعالى، فهو الطمع بالدنيا الذي يجعل الإنسان خاضعاً لشهواته وغرائزه وأنانيّته فينغلق على الآخرين، ويبغي عليهم، ويمنعهم من أن يتقدّموا، أمّا الطمع بالقرب من الله تعالى فإنّه يجعل الإنسان منفتحاً على الله، فيبتعد عن الأنانية في حياته مع الناس.
إنّ الله يريد من الإنسان أن يكون طموحاً في الخيرات.
رؤية العظمة
"إلهي لا تُغلِق على مُوحدِّيك أبوابَ رحمتك، ولا تحجب مشتاقيك عن النظر إلى جميل رؤيتك"، ما معنى "الرؤية" هنا؟
إنَّ الله تعالى ليس جسداً كأجسادنا، فهو سبحانه لا تدركه الأبصار وهو يُدرك الأبصار وهو الَّلطيف الخبير. والمقصود من رؤية الله هنا، رؤية عظمته ورحمته وهيبته وعزّته وقوّته في يوم القيامة، كما لو كان الناس يرون ربّهم، وهذا ما يفسّر قوله تعالى: {وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً}(1) [الفجر : 22] فليس مجيء الله تعالى بذاته، ولكن مجيئه تعالى من خلال إطلالة عظمته وسيطرته ومُلكه على الكون {لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر : 16] فالمراد من رؤية الله، رؤية مواقع عظمته ورحمته. والله العالِم.
رؤية الله هي رؤية عظمته ورحمته وعزّته وقوّته يوم القيامة.
الطاعة والرياء
ورد في الدعاء: "الَّلهمَّ إنّي أعوذ بك أن أقول قولاً هو من طاعتك أريد به سوى وجهك" كيف لنا أن نفهم هذا المقطع من الدعاء؟
معنى ذلك أنّ الإنسان قد يقول كلاماً في موعظة الناس ونصحهم وهدايتهم، ولكنّه يقوله من غير تقرّب إلى الله، بل ليعظُم في أعين الناس ويكبر شأنه عندهم.. ولذلك، فإنَّ الإنسان في هذه الفقرة من الدعاء يستعيذ بالله من أن يتحرّك في طاعته قولاً أو فعلاً ليتقرّب إلى الناس بذلك، كي لا يكون ما يقوم به هو شكل الطاعة، ولكنَّ عمقه يمثّل شكل الرياء الذي ينظر فيه الإنسان إلى وجوه الناس من حوله ليستحسنوا كلامه أو فعله، بدلاً من أن ينظر إلى وجه الله ليطلّ عليه بالرحمة والرضى.
الإستعاذة بالله تعني التحرُّك في طاعته سبحانه قولاً أو فعلاً.
الأدب والحوزة
نرى أنَّ المؤسّسة الدينية لا تحبِّذ كثيراً لطلابها الاهتمام بالشعر والأدب تحت حُجّة أنَّ ذلك يصرفهم عن التحصيل العلمي الأصولي ـــ الفقهي، بينما نرى أنَّ كثيراً من كبار علماء المسلمين، وممّن أتقنوا لغة الشعر والأدب، جاءت أبحاثهم ودراساتهم واستدلالتهم تحمل الكثير من القوّة والمتانة؟ فلماذا هذا الإحجام غير المبرّر؟
إنّني أدعو إلى أن تدخل دراسة الأدب في صلب الدراسة الحوزويّة، ونحن نعرف أنَّ الحوزة تدرّس علوم اللغة العربية من نحو وصرف وبلاغة، وعلوم البلاغة هي العلوم التي تعرِّف الإنسان أسرار التعبير وأسلوب الخطاب، ولكنَّ المشكلة أنَّ الحوزات الدينيّة تدرّس البلاغة على المنهج القديم، والمفروض فيمن يدرس علم البلاغة أن يكون ناقداً واعياً لأساليب التعبير، ولكنَّ الكتب البلاغية الموجودة بين أيدي طلاب الحوزات كالمختصر(1) والمطوّل(2) تشغل الطالب بتعقيداتها عن وعي الجانب الفنّي في البلاغة.. إنَّ علم الفقه يرتكز على فهم الكتاب والسُنّة. وقد نزل القرآن بأعلى أساليب البلاغة، وانطلقت السُنّة النبويّة الشريفة، بأفضل أساليب التعبير الفنّي، ولذلك مَنْ لم يملك النقد الفنّي والذوق الأدبي، فإنَّه لا يستطيع أن يكون فقيهاً منفتحاً على مضمون النصّ، سواء كان قرآناً أو سُنّة.. وأذكر أنّني في بدايات شبابي قد أخذت بأسباب الشعر والأدب، فشاركت في الأعمال الأدبية ونظمت الشعر إلى جانب دراستي الفقهية ـــ الأصولية، وكان قد ثار جدل بأنَّ الأدب أو الشعر يشغل الطالب عن الدقّة في تحصيل العلم.. فذهبت إلى أحد مراجع التقليد آنذاك، وهو المرحوم السيّد عبد الهادي الشيرازي(1)، وسألته عن رأيه في عزوفي عن الشعر والأدب، فقال لي ما مضمونه، ولماذا تترك ذلك؟ فالأدب يصقل السليقة، ويجعل الذوق العربيّ سليماً لدى الأديب، ثمّ قال لي: إنّني كنت شاعراً، وأبي كان شاعراً. وبدأ يقرأ لي شيئاً من شعره وهو في ديوانه المرجعي أمام الناس.
ونحن نقول هنا: إنَّ على طالب العلم في الحوزة وغير الحوزة ألاَّ يستغرق في المسألة الأدبيّة والشعريّة بالمستوى الذي يشغله عن تحصيله العلمي، أمّا إذا أخذ بأسباب الشعر والأدب(2) والعلوم الأخرى، من علم النفس والاجتماع وغير ذلك، فإنَّه يستطيع أن يستفيد من ذلك في فقهه وأصوله. ونحن نعتبر أنَّ كلَّ انفتاح على أيِّ علم وأيّ واقع يفيد الإنسان في وعيه وذوقه وفهمه، أكثر من الإنسان الذي يعيش طيلة عمره منفتحاً على الكتب الفقهية والأصولية دون غيرها.
حوزة النجف
في كتاب يحمل عنوان (الروح المجرّد) يتحدّث مؤلّفه فيه عن بعض أحوال أهل العرفان، وينقل فيه بأنّه في زمن السيّد أبي الحسن الأصفهاني(2) مرجع الشيعة آنذاك أبعد علماء النجف أحد أهل العرفان ومنعوه من (تدريس الحكمة الإلهيّة والعرفان) ويعلِّق المؤلّف ـــ وهو من العلماء ـــ على ذلك بالقول: "لقد أبعدت حوزة النجف السيّد... ولم تعلم هذه الحوزة الضالَّة المتحيّرة أيّ جوهر فقدت وأيَّ رجل توحيد وأيَّ شخصية إلهيّة أضاعت، ولو علمت ـــ أي الحوزة ـــ لكان جهلاً بسيطاً، ولكنّه ـــ ويا للأسف الشديد ـــ الجهل المركَّب" عندما تُوصف حوزة النجف بهذا الوصف ألّا يشكِّل ذلك انتقاصاً من حقّها؟
كيف لهذا المؤلّف أن يتكلّم عن حوزة النجف بهذا الوصف. فحوزة النجف هي التي استطاعت منذ أكثر من ألف سنة أن تحفظ للتشيّع كلَّ فقهه وأصوله وكلّ فلسفته ومنهجه، لأنّها الحوزة التي تميَّزت بالعلماء والفلاسفة الذين لا يزال الناس في إيران ولبنان وغيرهما يعيشون على فتات موائد علمهم. وقد أدركنا في النجف علماء العرفان الذين يُعتبرون أساتذة ومنهم السيّد عليّ القاضي(3). ونحن كما ذكرنا مراراً أنَّ العرفان يحتاج إلى أستاذ، وليس أيّ واحد لهج بالعرفان يستطيع أن يعلّم العرفان، أو قرأ كتاباً في العرفان أصبح أستاذاً فيه.. العرفان يحتاج إلى اجتهادٍ في خطِّ النظرية واجتهاد في حركة التطبيق. وقد أدركنا في النجف علماء العرفان الذين كانوا يمثّلون علماء الأخلاق، وكان الكبار من العلماء يتتلمذون عليهم. ولم أسمع أنَّ علماء النجف أبعدوا شخصاً من هذا القبيل، لأنّهم لم يكن لديهم السلطة في أن يطردوا أو يبعدوا شخصاً من الأشخاص. من الممكن أنّهم قد يستنكرون على بعض الأشخاص الذين يدرّسون الفلسفة بسبب انحرافهم الفكري والعقائدي، أو أنّ الذين يدرسون عندهم ليسوا في مستوى تدريس الفلسفة. وقد كان هناك أساتذة كبار في الفلسفة لم يُنكَر عليهم، دَرَسْنا عندهم ومنهم الشيخ صدرا البادكوبي(1) الذي هو أستاذ الشهيد السيّد محمد باقر الصدر (رحمه الله)، وقد سبق جيلنا الشيخ محمد حسين الأصفهاني(2) أستاذ السيّد الخوئي (رحمه الله).
ومن هنا، فإنّنا نعتقد أنّ هذا الرجل مشتبه في هذا الموضوع لأنّنا لم نعهد أنَّ علماء النجف طردوا شخصاً. وأمّا التحدّث عن حوزة النجف بأنّها ضالّة وتعيش الجهل المركّب، فهذا الذي يدّعي العرفان نتصوّر أنّه لا يملك ذوقاً في العرفان، لأنَّ العارف بالله لا يمكن أن يتكلّم عن العلماء العارفين الكبار الذين هم أساتذة الأجيال كلّها، بهذه الطريقة.
العرفان يحتاج إلى اجتهادٍ في خطّ النظريّة واجتهاد في حركة التطبيق.
مصادرة الكتب
تقوم بعض المراكز الدينيّة الرسميّة في العالم العربي والإسلامي بمصادرة بعض الكتب التي تعتبر أنَّ مضامينها تحمل شيئاً من التحدّي للإسلام، ألَا تعتقدون أنَّ أعمالاً كهذه تصنع من أفكار هؤلاء "أفكار شهداء" يتعاطف الجمهور معها؟
نحن قد نتّفق مع هذه المراكز الدينية الرسمية وقد نختلف معها في تقويم أنَّ هذا الكتاب أو غيره مخالفٌ للإسلام أو غير مخالف. ولكنّنا لا نعتقد أنَّ مصادرة هذه الكتب يمكن أن تحقّق النتائج التي يريدها هؤلاء ويعتقدون أنَّ من واجبهم المحافظة على الإسلام(1)، بمصادرة هذه الكتب التي تتحدّث عن الإسلاما بشكلٍ سلبيّ عن عقيدته وشريعته ومقدّساته، لأنّنا بحسب التجربة، رأينا أنَّ مصادرة الكتب ومهاجمة الكتّاب، تجعل شعبيّة للكتاب المصادَر وشعبيّة وتأييداً للكاتب، قد لا تحدث هذه الشعبية فيما لو أخذت هذه الكتب طريقها بسلام.. نحن نقول، ربّما كان الواقع السياسيّ والثقافي في الماضي يجعل من مصادرة الكتاب أو منعه من الانتشار وسيلةً من وسائل تقوية الحقّ وإضعاف الباطل، أمّا الآن، فإنّ الوقوف ضدّ هذه الكتب يقوّي الباطل، ويُضعف الحق، لأنّ القوى المعادية تعلن معركة الحريّات في الوقت الذي لا تستطيع هذه المراكز الدينية مواجهتها. وعلى هذا، فكلّما أهملتَ الكتاب الذي يواجهك أكثر، كلّما فقد قوّته أكثر، وكلّما حاربته أكثر كلّما أخذ قوّةً من قوى الاستكبار في العالم، حيث صار الحديث عن الكاتب والكتاب، بأنّ الكاتب بطل الحرية، والكتاب كتاب الحريّات، في الوقت الذي لا يمثّل الإثنان معاً شيئاً لا في معنى الحريّة، ولا في معنى البطولة.
لا نعتقد أنَّ مصادرة الكتب تحقّق النتائج، التي يريدها مَن يرون أنَّ من واجبهم المحافظة على الإسلام.
الشباب
مشاكل وطموحات
الشباب والدين
يعاني الشباب من مشاكل تحدّق بواقعه الثقافي والاقتصادي والسياسي، برأيكم هل ترون أنَّ ابتعاد الشباب عن الدين يمثِّل إحدى ظواهر المشكلة الثقافية والاجتماعية إلى جانب استغراقه بخصوصيّات الحياة الماديّة؟
إنَّ الابتعاد عن الدين يجعل الإنسان بعيداً عن القِيَم التي يمكن أن تنظّم له سلوكه في الحياة، لأنّ الإيمان بالله يجعل الإنسان متفائلاً دائماً، وقويّاً دائماً، حيث يراقب كلّ أعماله وأقواله في علاقته بالآخرين، ويدفعه في خطّ العمل لا في خطّ البطالة والفراغ. ومن هنا، فالإيمان بالله يمثّل قيمة إنسانية تثبّت للإنسان قواعده في الحياة، وترسم له منهجاً أخلاقياً، إذا ما التزمه، فإنّه يكون صادقاً أميناً عفيفاً مخلصاً مسؤولاً عن نفسه والناس من حوله وعن وطنه ومجتمعه وأمّته.. وهذا النوع من الضياع الذي يعيشه المجتمع، فإنَّه ناشىءٌ من فقدان القاعدة الإيمانية التي يجب أن يرتكز عليها الإنسان. والدين يركّز للإنسان قواعد أخلاقية وسلوكية وسياسية واجتماعية بحيث يرى نفسه في الخطّ المستقيم {وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} [الأنعام : 153]، وأيضاً: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت : 30]، لذلك: {فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [الشورى : 15]، وعلى هذا، ففقدان الإيمان من عقل الإنسان وقلبه وإحساسه وحركته يُفقده القِيَم التي تجعل حياته مستقرّة، ويؤدّي به ذلك إلى الضياع وإيجاد الكثير من المشاكل النفسية والأخلاقية والعقلية له.
فقدان الإيمان من عقل الإنسان وقلبه يُفقده القِيَم التي تجعل حياته مستقرّة.
الشباب والبطالة
نظراً للوضع الاقتصادي السيّئ كيف ترون إمكانية انطلاق الشباب في الحياة للإنتاج والإبداع في ظلّ البطالة وحالات التضخُّم والفساد وتصدير الأدمغة؟
إنّ العالم اليوم يمرُّ بأزمات صعبة، ومنها أزمة البطالة غير المحصورة في مجتمعنا وحسب، فالإحصاءات في أميركا وبريطانيا وفرنسا تدلُّ على ارتفاع نسبة البطالة، ولكنّ الفرق بيننا وبينهم أنَّ حكوماتنا لا تحترم الإحصاءات التي تمثّل أوضاعاً معيّنة، أمّا هم فإنّهم يدرسون هذه الإحصاءات في محاولة لإيجاد الحلول وللخروج من المشكلات الضاغطة. ونحن هنا نسأل: أين هي الإحصاءات عن البطالة في لبنان، وما هي معالم الحلول للمشكلات ومعالجة أسبابها؟
في لبنان ليس هناك فرص للعمل مع المزاحمة القائمة، وقد كنّا نقول للحكومة في خطب الجمعة وغيرها، افرضوا الضرائب المعقولة لتقوم المشاريع، ولكن هيِّنوا فرص العمل للمواطنين ليُنتجوا وبالتالي ليستطيعوا دفع الضرائب، أمّا أن تُفرض الضرائب من دون فرص عمل، فأين هو التوازن والعدل؟
مشكلتنا أنّنا نعيش في مجتمع لا تخطيط فيه، ولكن مع ذلك نؤمن بأن لا نيأس {يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ} [يوسف : 87]، علينا أن نجرِّب دائماً، نفشل هنا فنجرّب في مكانٍ آخر.. قبل ما يقارب من 37 سنة كتبت في افتتاحية مجلّة الأضواء النجفيّة مقالاً بعنوان: "التجربة أبداً" ويتضمّن المقال فكرةً معناها أنَّ فشل ألف تجربة لا يعني فشل الفكرة، فلنجرّب الواحد بعد الألف.. قيمة الحياة أن نجرِّب فيها، يُغلَق بوجهنا باب، فلنحاول أن نفتح باباً ثانياً وثالثاً وهكذا.. الحياة لا تضيق، وأطلب من الشباب أن يعيشوا المشكلة ولا يتجمّدوا أمامها حتّى لا يسقطوا. فالشباب إرادة وقوّة وحركة وأمل، لذلك، علينا ألاّ نتجمّد أمام المشاكل والصعاب والله تعالى يقول: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً *وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق : 2 ـــ 3]، فلا نحدّق بالظروف متجمّدين أمامها، بل لنحدّق برحمة الله، لأنّنا عندما نتجمّد أمام الظروف نيأس، أمّا مع الله فلا يأس، يجب أن نجرّب، وأعتقد بأنَّ التجربة تعطينا نتائج جيّدة.
إنَّ فشل ألف تجربة لا يعني فشل الفكرة، فلنجرّب الواحد بعد الألف.
الشباب وتغييب الدور
ما هي نصيحتكم للشباب الطامح للدخول في الحياة السياسية، وكيف يمكن الوصول إلى ذلك في ظلّ غياب دور الشباب نتيجة السياسة المتَّبعة؟
الحريّة تُؤخَذ ولا تُعطى، ونحن عندما نريد أن نشارك في الحياة السياسية يجب أن نفهم السياسة بأن نملك وعياً سياسياً، والوعي السياسي لا يتحرّك من خلال الشعارات الفضفاضة، لذلك عندما تسمعون أو تقرأون الأخبار فكِّروا بخلفيّاتها، قد تكون محليّة ولكن لها خلفيات إقليمية وخطوط دولية.
فعندما تقرأون السياسة إقرأوا عمقها ولا تقرأوا سطحها، إقرأوا خلفيّاتها ولا تقرأوا ظاهرها، واقرأوا امتدادها ونتائجها. ليكن عندنا وعي سياسي نعرف من خلاله القضايا الأساسية في حياتنا والتي تتّصل بالمصير على مستوى الوطن والأُمّة والواقع الاقتصادي وغيره، ونحاول أن نكون مع الصادقين، فنحن نقرأ في دعاء الافتتاح: "وتجعلنا فيها من الدُّعاة إلى طاعتك والقادة إلى سبيلك" بأن يهيّئ الواحد من نفسه مشروع قائد، ولذلك نحن ضدّ الحياة الحزبية التي تطلب من الناس فقط أن يطيعوا، بل نحن مع الحياة الحزبية التي تقول للناس: فكِّروا. الطاعة ضرورية، لأنَّ كلّ نظام يجب أن يكون فيه طاعة، لكن طاعة مع وعي، ليست طاعة عمياء.. فأيّ حزب أو منظّمة أو تيّار أو جهة سياسيّة إذا لم تثقّف أعضاءها وقاعدتها ومناصريها بشكلٍ يجعلهم يفكّرون جميعاً معها فسوف يكونون عبئاً عليها ومجرّد آلات وقطع شطرنج.
فالله تعالى علَّم النبيّ، والنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لا يحتاج أن يشاور أحداً من الناس {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى*إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم : 3 ـــ 4]، ومع ذلك وجَّهه الله تعالى {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران : 159]، لماذا؟ حتى تعتاد الأُمّة على أن تفكِّر، وحتى يعلِّم الأُمّة عندما تسير مع أيِّ قائد أن تفرض عليه استشارتها قبل أن يتّخذ القرارات {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ} [آل عمران : 159]، وبهذا نستطيع أن نفرض أنفسنا في الواقع السياسي في المستقبل. والآخرون الذين صاروا سياسيّين لم تلدهم أُمّهاتهم سياسيّين، وعقولهم ليست من ذهب وعقولنا من فضّة. في واقع شبابنا طاقات واعية اكثر من هؤلاء، تستطيع أن تُنتج أكثر إذا ما عرفت كيف تبدأ وتتحرّك وتسير، وإذا أدركت أنَّ السياسة رسالة وليست مهنة للإرتزاق.
أي حزب أو تيّار أو جهة سياسية إذا لم تثقّف أعضاءها بشكلٍ يجعلهم يفكّرون معها فسوف يكونون عبئاً عليها ومجرّد قطع شطرنج.
التركيز على الهدف
طلابٌ يرون أنّ بإمكانهم الوصول إلى أعلى الدرجات، ولكن يفتقدون الطريقة السليمة للاستمرار في الإخلاص بطلب العلم، نرجو نصيحتكم فيما يشجّعنا على الدرس والتحصيل.
على الإنسان أن يركّز دائماً على الهدف، فإذا كان يطلب العلم الديني، عليه أن يفكِّر في قيمة الدعوة إلى الله ونتائجها عليه في الدنيا والآخرة، وإذا كان يطلب العلم الأكاديمي الجامعي، عليه أن يستغرق دائماً في حاجة حياته لطلب العلم. وعلى الطلّاب بشكلٍ عام أن يركِّزوا على النجاح دائماً، ويحترموا آباءهم الذين يكدحون كدحاً شديداً حتى يؤمّنوا لهم أقساط الجامعات والمدارس، لأنّهم إذا تساهلوا ولم ينجحوا في دراستهم فسوف يسيئون إلى جهد آبائهم، وهذا إذا كان نتيجة إهمال ولا مبالاة، وهنا تتضاعف الخسائر والأتعاب.
ولذلك، أقول لكثير من الشباب ادرسوا جيّداً، انجحوا، تقدَّموا، تفوَّقوا، وليس من ناحية طموحاتكم وحسب، بل رحمةً بالناس الذين يتحمّلون مسؤوليّاتكم لأنّهم يعطون كلّ جهدهم وعرقهم ودموعهم، ويعيشون الإذلال أحياناً أمام الناس حتى تكملوا دراستكم.
المهم، أنَّ ما يدفع الإنسان إلى مضاعفة جهده في الدرس، هو أن يحدِّق دائماً بالهدف الذي يدعوه إلى الدرس، وأمّا مسألة الإخلاص، فإنَّ الإنسان إذا عاش روحية العلم، فإنَّه لا بدّ له في نهاية المطاف أن يصبح مخلصاً. والشهيد الثاني ـــ رحمه الله ـــ يقول: طلبنا العلم لغير الله، فأبى أن يكون إلّا لله.
وما يجب أن نعرفه اليوم، أنَّ القوّة بالعلم، حتى القوّة العسكرية، فإنّها لا تتأتّى إلّا بالعلم، وكذلك القوّة الاقتصادية، فإسرائيل أصبحت بما هي قوّة لأنّها وظَّفت العلم حتى لأهدافها العدوانية والسيطرة على المنطقة. وعقولهم ليست أفضل من عقولنا، لكنهم وظَّفوا الظروف والأوضاع والإمكانات فوصلوا إلى ما وصلوا إليه، فلنجرِّب نحن.
أقول للشباب: ادرسوا جيّداً، إنجحوا، تفوَّقوا وليس من ناحية طموحاتكم فحسب، بل رحمة بالناس الذين يتحمّلون مسؤوليّاتكم.
الإدمان على المخدّرات
تفتك بالشباب وبالمجتمع اللبناني آفة الإدمان على المخدّرات، كيف تنظرونه إلى مخاطر هذه الآفة، وبرأيكم ما العلاج لانتفاء وجودها؟
من الطبيعي أنَّ المخدّرات تقتل الروح قبل أن تقتل الجسد، وتحوّل الإنسان إلى إنسان مشلول الإرادة، يعيش في اهتزاز نفسيّ ينفتح فيه على الأوهام التي يسمّيها أحلاماً، وعلى الحزن الدفين الذي يسمِّيه فرحاً، وعلى السقوط الذي يسمّيه ارتفاعاً، كما أنّه يقتل جسده بشكل بطيء، ويُفقِد المجتمع طاقة حيّة فاعلة.. فالمدمنون على المخدّرات لا يملكون عقولهم، ولا يملكون إرادتهم، ولا يملكون أيّة فاعلية اجتماعية.. فإنَّهم ينتقلون في حياتهم من حالة تخدير إلى حالة تخدير أخرى. فلا يعيشون اليقظة في أيّة حالة من الحالات، وإذا عاشوا بعض اليقظة، فإنّها يقظة الإحساس بالألم الذي يدفعهم إلى تناول المخدّرات حتى يسكتوا هذا الألم الناتج من جوع الجسم إلى المخدّر.. لذلك، إنَّ أُمّة تفتك بها المخدّرات هي أُمّةٌ تتّجه نحو الموت الثقافي والسياسي والاجتماعي، ولهذا رأينا أنّ أميركا وهي أكبر دولة في العالم على مستوى القوّة المادية، تُعلن حرباً عالميّة ضدّ المخدّرات باعتبار أنّ المخدّرات تسيء إلى أمنها القومي، لأنّ الشعب الأميركي بدأ يتحوّل بشبابه وحتى أطفاله ونسائه إلى شعب مدمن بطريقة أو بأخرى. ومن هنا، لا بدّ للمجتمع كلّه بأن يقوم بحملة ضدّ المخدّرات.. وقد كنّا أفتينا بحرمة زرع المخدّرات وبيعها وشرائها وتناولها والتعامل بها، لِما في زراعتها من أخطار كبيرة تعود بالضرر على الأُمّة. والذين يزرعون المخدّرات يعملون على أساس إنتاج السُّم الذي يقتل الناس. لذلك، لا بدّ من توعية الشباب للمخاطر التي تكمن في تعاطي المخدّرلاات، ومن مراقبة أبنائنا وبناتنا حتى لا يتأثّروا بهذا السُّم، وإذا رأينا أنّ هناك نوعاً من التأثّر، فإنَّ علينا أن نبادر إلى علاجه ومداواته بمختلف الوسائل الطبيّة والنفسيّة وغيرها قبل استفحال المرض، وتحوُّل الإنسان إلى مدمن، لأنّ الإنسان إذا تحوّل إلى مدمن، أصبحت معالجته أمراً صعباً، إن لم يكن مستحيلاً في بعض الحالات.. إنَّها مسؤولية الأُمّة جميعاً، لأنّ مثل هذا السُّم المدمِّر لا تمكن معالجته إلاّ من خلال استنفار الأُمّة كلّ جهودها وطاقاتها في هذا المجال.
لا بدَّ من توعية الشباب للمخاطر التي تكمن في تعاطي المخدّرات، ومن مراقبة أبنائنا وبناتنا حتى لا يتأثّروا بهذا السُّم.
الرسالية في العمل الإسلامي
ما نصائح سماحتكم للذين يريدون الانخراط في العمل الإسلاميّ؟
إنّني أنصحهم أن يعيشوا الإخلاص لله تعالى في الالتزام بالعمل الإسلامي، ويعتبروا أنّ هذا العمل هو رسالتهم التي لا بدّ لهم من أن يحملوها في الحياة، ومسؤوليّتهم التي لا بدّ أن يتحمّلوا نتائجها الصعبة، لأنَّ العامل في سبل الله، قد يُؤذى كثيراً في هذا السبيل.. وعليهم أيضاً أن يختاروا العمل الإسلامي الذي يبرّئ ذمّتهم، فلا يكفي أن يسيروا مع أيّ عمل يحمل اسم الإسلام، لذلك ينبغي أن يسألوا أهل الذكر والخبرة عن نوعية العمل الإسلامي الذي يريدون الانتماء إلى خطِّه، ليعرّفوهم شرعيّته أو عدم شرعيّته.
الهروب من واقع إلى آخر
مشكلة تواجه العديد من الإخوة والأخوات على حدٍّ سواء، ألَا وهي البيئة التي يعيشون فيها، والتي لا تسلك الإسلام منهجاً عملياً.. البعض من هؤلاء الأخوة والأخوات قد يتّخذ أسلوباً يسمّى سلبياً، وهو الهروب من هذا الواقع، إلى حيث الأجواء المناسبة لالتزامهم وأنسهم الروحيّ، وذلك خوفاً من تأثير واقعهم بهم وبغضاً له، هل هذا الهروب مبرّر شرعاً، وما هي نصيحتكم في هذا المجال؟
من الطبيعي أنّ الإنسان إذا خاف على نفسه من السقوط تحت تأثير الضغوط التي تضغط بها البيئة عليه، سواء كانت بيئة البيت أو المجتمع، وكان الخوف من ذلك خوفاً حقيقياً، فقد يجب عليه أن يهرب من هذا الواقع حتى لا يفقد إيمانه والتزامه.. أمّا إذا كانت المسألة لا تشكِّل خطراً على إيمانه، فإنَّ عليه أن يبقى في بيته ومجتمعه ليمارس هو بعض التأثير على مَنْ في البيت، فإذا لم يستطع أن يحقّق الهداية للبيت كلّه، فيمكن أن يحقّقها لبعضهم.. أعتقد أنَّ علينا ألّا نواجه هذه المسألة بشكلٍ سلبي، ولكن بشكلٍ إيجابيّ.. وعلى الشباب الذين يشعرون بضغط البيئة، عليهم أن يتذكّروا مؤمن آل فرعون، وعلى النساء اللواتي يشعرن بضغط الواقع، عليهنَّ أن يتذكَّرن إمرأة فرعون.. حيث هذان النموذجان كانا يعيشان في بيئة من أكثر البيئات طغياناً وفساداً وتجبُّراً، ولكنّهما استطاعا أن ينجوا بنفسيهما ويتمرّدا على الواقع وينطلقا في الاتجاه الصحيح.
نصيحة
ما هي نصيحتكم للشباب المسلم الجامعي فيما يواجهه من تحلُّل أخلاقي وفسادٍ اجتماعي، بالإضافة إلى التعدُّدية الطائفية والفكرية والسياسية التي تتّسم بطابع العصبية؟
على الشباب المسلم الجامعي، وهو الذي يملك مستوى ثقافياً، أن يدرك حُسْنَ الأمور وقبحها، ويتعرّف خلفيات الواقع، سواءً في الانهيار الأخلاقي أو التعصّب الطائفي أو الانحراف السياسي.. إنّ على الشباب الجامعي أن يستخدم ثقافته الجامعية ووعيه الفكري في معرفة الواقع وفهم كلّ خفاياه، ومن ثمّ العمل بطريقة أو بأخرى من أجل إصلاح الواقع ولو بشكلٍ جزئي.
الدراسة والشرود الذهني
أنا طالبٌ جامعيّ أُعاني من مشكلة ضياع الوقت أثناء الدراسة بسبب الشرود الذهني والتفكير بمشاريع تعود عليَّ بالمردود، وبسبب ضغوط الغريزة الجنسية، أرجو نصيحتكم؟
على الإنسان أن يدرّب نفسه على التركيز، ويُوحي إليها بأهميّة الدراسة، باعتبار أنّه إذا كان يفكّر بالمردود الماديّ، فإنّ الدراسة قد تهيّئ له في المستقبل الظروف التي يستطيع فيها أن يتوسَّع مادياً، وهكذا إذا كان يفكّر في الزواج، فالدراسة أيضاً قد تهيّئ له الظروف التي يستطيع أن يتزوّج من خلال الإمكانات المادية التي توفّرها له الدراسة، هذا من جهة، ومن جهةٍ ثانية عليه أن يعرف بأنّ مثل هذا التفكير أثناء الدراسة لن يحلّ له مشكلته الجنسيّة، وعليه أن يوحي إلى نفسه دائماً أنَّ للتفكير في تلك القضايا وقتاً، ولغيرها وقتاً آخر، ومن الطبيعي أنَّ هذا يحتاج إلى المزيد من المعاناة ومن الجهد النفسي والتدريب الفكري على ذلك.
الجمود أمام المعصية
أنا شابٌ أُحاول التصدّي للباطل وتغييره حسب المستطاع، ولكن ما أشكو منه هو أنّني إذا وقعت في معصية معيّنة أُصاب بحالة من الجمود أمام كلّ ما أسمع وأرى من باطل، وأُخاطب نفسي كيف يجوز لي نصح الناس وإرشادهم وأنا أقع أحياناً في المعصية.. أرجو منكم نصحي بهذا الشأن.
عليك ألّا تيأس عندما تعصي، تُب إلى الله {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} [الأعراف : 201]، فحتى الأتقياء قد يلمّ بهم الشيطان، ولكنّهم يتصدُّون له بتقواهم، هذا من جهة، ومن جهة ثانية، فإنَّ الله تعالى قد كلَّف الإنسان أن يتحرّك في الجهاد من جهتين، أن يتحرّك في جهاد نفسه لإصلاحها، وأن يتحرّك في جهاد الناس فيما يعصون به ربَّهم لإرشادهم، لذلك ليس من المفروض فيمن يدعو الناس وينصجهم ويعظهم أن يكون معصوماً، ولكن عليه أن يعمل لكي لا يعصي الله، وإذا وقع في المعصية نتيجة غفلة أو حالة طارئة، فإنَّ عليه أن يتوب إلى ربّه ويتابع سيره في عمله في الوعظ والإرشاد والنُّصح، وعليه أيضاً أن يعتبر موقعه في وعظ الناس ومخاطبتهم، أنّه يعظ ويخاطب نفسه ليعصمها، وليفكّر دائماً كيف يعظ الناس وهو لا يتّعظ، فلا يتجمّد ويتابع سيره في إصلاح نفسه وإصلاح الناس.
ليس من المفروض فيمن يعظ الناس، أن يكون معصوماً، ولكن عليه أن يعمل لكي لا يعصي الله.
الغناء والطرب
أنا شابٌ أعيش ضيقاً نفسياً وظلمة لا أعرف مصدرها.. عرضتُ حالي على طبيب نفساني، فنصحني باستماع الغناء والطرب بهدف العلاج، فما رأي سماحتكم بذلك.
في تصوّري أنّ هذا الطبيب النفساني ربّما كان خاطئاً في تشخيص حالتك، لأنَّ قضية هذا الضيق النفسي، قد تكون ناتجة عن بعض الظروف البيئية والعائلية، أو عن بعض المؤثّرات النفسيّة ممّا يشاهده الإنسان أو يعيشه، أو من خلال بعض الظروف الخانقة التي تسيطر على الإنسان، بحيث يشعر أنّ قدرته لا تتوازن أمامها. لذلك، أقول لهذا الشاب:
إنّ عليك أن تقتحم هذا الضيق النفسي، وتحاول فهمه، ووجّه لنفسك عشرات الأسئلة، لماذا أنا ضيّق النفس؟ هل لضيق مادي، هل لفشلي في الامتحان أو التجارة؟ هل لفشلي في تجربة عاطفيّة؟ هل لحاجتي إلى تنفيس شهوة معيّنة؟ هل لأنّ هناك وضعاً غير طبيعي في البيت، أو أنّ هناك ضيقاً في الفرص؟ فعندما تخترق المشكلة، فإنّك تستطيع أن تفهمها وإذا فهم الإنسان مشكلته، فإنّه يهتدي إلى حلّها.
إنّ الكثيرين ممّن يعيشون أجواء الّلهو والترف، من الذين يرقصون مع الراقصين، ويخوضون مع الخائضين، ويغنّون مع المغنين، ويطربون مع المطربين، يعيشون أصعب الأزمات، بحيث يكون اندفاعهم وراء كلّ هذا من أجل الهروب من الأزمة، وهم كمن يهرب من مشكلته وأزمته بإدمان المخدّرات أو الخمر.
وأقول مرّة أخرى لهذا الشاب: إنّ المسير إلى الّلهو والطرب لن ينقذك من حالتك، بل يعني هروبك من حالتك، وأنصحك بأن تفهم حالتك، وعند ذلك لن يكون من الصعب معالجتها.
الكثيرون ممّن يعيشون أجواء الّلهو والترف، من الذين يرقصون مع الراقصين، ويخوضون مع الخائضين يعيشون أصعب الأزمات.
الإحباط
أنا شابٌ أعيش نوعاً من الإحباط، أحاول أن أخرج من هذه الحالة، فلا أستطيع إلى ذلك سبيلاً، وإحباطي ناشئٌ من أنّي أنظر إلى الحياة نظرةً مثالية، فعندما أمارس خطأً ما، أو أرى الآخرين يمارسون الأخطاء، فإنّي أحاول التشكيك بقيمة المبادئ والمفاهيم الأخلاقية والإنسانية، كيف لي أن أخرج من ذلك؟
إنّ الخروج من الإحباط، هو أن تنظر إلى الناس، لا على أساس أنّهم ملائكة لتشعر بالمشكلة إذا أخطأوا، ولا أن تنظر إليهم على أنّهم شياطين لتحكم عليهم بأنّهم ضدّ المبادئ والقِيَم الإنسانية.. إنَّ الناس بشرٌ يُخطئون ويصيبون، وفيهم الطيّبون وفيهم الخبيثون، وفيهم من يحمل بعض طيبة وبعض الخبث.. لذلك، نقول لهذا الشاب: إنَّ عليه ألّا ينظر إلى الجانب المظلم من الصورة، بل عليه أن ينظر إلى الجانب المشرق أيضاً.. ففي الحياة، ليلٌ ونهار، وفي الكون أسود وأبيض.. وعلى هذا، فعلينا إذا نظرنا إلى الأسود أن نعطي نظرة إلى الأبيض.. وقد جاء عن نبيّ الله عيسى (عليه السلام)، عندما مرَّ والحواريون معه على كلب ميّت، قد أُنْتِنَت جيفته. قال الحواريون: ما أشدَّ نتن رائحته، وقال عيسى (عليه السلام): ما أشدَّ بياض أسنانه.
عليه دائماً عندما ننظر إلى الناس من حولنا، أن ننظر إلى إيجابيّاتهم، إذا رأينا سلبياتهم، ومشكلة الكثيرين أنّهم ينظرون إلى جانب من الصورة، ولا ينظرون إلى الجوانب كلّها.
الناس بشرٌ يخطئون ويصيبون، فيهم الطيّبون وفيهم الخبيثون.
الثقة بالنفس
لأنّني متديّن، فإنّني وأمام سكّان المحلّة، أشعر بحرجٍ شديد إذا ما فعلت ما يستوجب نقدي من قِبَلِهم، كما أشعر بالحَرَج أيضاً عندما أعمل عملاً جيّداً يدفعهم لمدحي، مع أنّي أكره كلتا الحالتين، كيف لي أن أتعامل مع هذا الأمر؟ أرجو النصيحة.
نصيحي لك هي أن تثق بنفسك، وألّا تستعير هذه الثقة من غيرك، أو تفقدها من نفسك بسبب كلام الاخرين.. حاول أن تدرس نفسك دراسة ناقدة مُحاسِبَة، فإن رأيت في نفسك خيراً، وقال الناس عنه بأنّه شرٌّ فلا تسقط أمام نفسك، ولو رأيت في نفسك شرّاً، وقال الناس عنه بأنّه الخير، فلا تنتفخ نفسك لما يقولون، بل حاول أن تعالج الشرّ في نسك، وقد ورد في الحديث: "لا يغرَنَّك سواد الناس من نفسك"(1) وهناك كلمةٌ رائدة تصلح موعظة لك ولكلِّ إنسان، قالها الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) في وصيّته لهشام بن الحكم: "لو كان في يدك جوزة وقال الناس لؤلؤة ما كان ينفعك وأنتَ تعلم أنّها جوزة، ولو كان في يدك لؤلؤة وقال الناس إنَّها جوزة ما ضرّك وأنتَ تعلم أنّها لؤلؤة"(2) لذلك حاول أن تعرف نفسك، دون أن تغترَّ بنفسك.
حاول أن تدرس نفسك دراسة ناقدة مُحاسِبَة لتعرف نفسك.
الشباب والفراغ
شابٌ ملتزم لديه بعض التصرّفات التي لا تتناسب مع شخصية الإنسان المؤمن، مثال: مضغ العلكة، وضع النظّارات دون حاجة إليها، إطلاق أبواق سيارته بأصواتها المتنوّعة.. فهل تصرّف هذا الشاب تصرّف سليم؟
إنَّ على هذا الشاب أن يكون متوازناً في علاقته بالآخرين وسلوكه معهم، وعليه أن يعرف أنَّ بعض التصرّفات قد تحمل بعض الإيحاءات السلبيّة في تصوّر الناس، كما إذا كان يمضغ العلكة بطريقة معيّنة توحي باهتزاز شخصيّته، أو بطريقة إرسال شعره، أو بوضع النظارات دون حاجة لمجرّد التباهي بها أو ما أشبه ذلك.. فهذا قد يكون سلبياً بإيحاءاته عن شخصية الإنسان. أمّا مسألة إطلاق بوق السيارة بالطريقة الاستعراضية، فبالإضافة إلى أنّ هذا يدلّ على أنَّ هذا الإنسان إنسانٌ سطحيّ في تصرّفاته، فإنَّ المسألة أيضاً قد تكون محرّمة، لأنَّ ذلك يؤدّي إلى إزعاج الناس وإقلاق راحتهم بطريقة وبأخرى.
لجم الغضب
في كثيرٍ من المباريات الرياضية قد يُخطئ الحكّام في تطبيق أحكامهم وترجمة قوانين اللعبة ممّا يصيب أحد الفريقين بالغبن.. وهنا في هذه الحالة كثيراً ما تثور أعصابي نتيجة لأخطاء الحكم، وقد تصدر منّي تصرّفات غير لائقة دون إرادتي.. فَبِمَ تنصحون مع توضيح الحُكم من موضوع الغضب؟
إنَّ على الإنسان أن يكون متوازناً في تحريك أعصابه، لأنَّ الإنسان إذا فَقَدَ أعصابه فَقَدَ عقله، "ومَن لم يملك غضبه لم يملك عقله"(1)، وإذا فَقَدَ عقله، فَقَدَ خطَّ التوازن بين الحَسَن والقبيح، فيدفعه ذلك إلى أن يتصرّف تصرُّفاً يظلم فيه الآخر، حيث يتحوّل الآخر إلى مظلوم، في الوقت الذي يمكن أن يكون فيه ظالماً. ومن هنا يجب على الإنسان المؤمن في جميع الحالات أن يكون مالِكاً لغضبه مسيطراً عليه، ليعقّل غضبه، وليكون غضباً مؤمناً لا يتحرّك إلاّ بحساب ولا يتوتّر إلّا بحساب، فيتحرّك في خطّ توازنه في إيمانه، وذلك يحتاج إلى الكثير من جهاد النفس.
على المؤمن أن يعقّل غضبه ليكون غضباً مؤمناً، فلا يتحرّك أو يتوتّر إلّا بحساب.
قلقٌ وشكّ
إنّني شاب أعاني من مشكلة داخلية، وهي أنّني كلّما دخلت في الصلاة أشرد وأشكّ بأكثر الأعمال، ومع ذلك أُحاول جاهداً أن أُحافظ على روحية الصلاة، لكن سرعان ما أعود وأشرد وأشكّ، فما العلاج برأي سماحتكم في هذه الحالة؟
يريد الشيطان أن يدخل إليك من خلال الصلاة، ليجعلك في حالة قلق، وليخرّب لك روحية صلاتك، حتى يجعلك يائساً من نفسك.. حاول عندما يأتيك الشيطان من جانب أن تطرده من جانبٍ آخر، وتركّز أفكارك في صلاتك حتى تحصل على التوجّه والروحانية ولو في ركعة واحدة.. إنّك عندما تركِّز فكرك في صلاتك فيما تفعل وفيما تقول، تدرِّب نفسك، وتبقى في عملية صراع مع الشيطان، وسوف يلطف الله بك، لأنَّ الله تعالى يقول: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت : 69].
درِّب نفسك، كي تبقى في عملية صراع مع الشيطان وسوف يلطف الله بك.
الانفعال والندم
شخص يرتكب الأخطاء بشكلٍ مستمرّ، فإذا جاء من ينصحه ويرشده بالإقلاع عن ممارسة هذه الأخطار، فإنَّه ينفعل، وعندما يهدأ يندم على ذلك، بماذا تنصحون؟
إنّني أنصح هذا الشاب أن يحاول دراسة الأسباب التي تدفعه للخطأ، ويدرس الأُسس التي ينطلق منها في تكرار هذا الخطأ، ويستجيب للنّاس عندما ينصحونه ويرشدونه. فقد ورد عن أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام): "رَحِمَ الله امْرئً أهدى إلَيَّ عيوبي"(1) وعليٌّ (عليه السلام) فوق العيب. ولذلك، علينا أن نشكر الإنسان الذي يدلّنا على عيوبنا من موقع النصيحة والإرشاد.
كما أنّ على هذا الشخص أن يستفيد من ندمه على خطئه، حتى يعمل على عدم الوقوع في الخطأ والندم على ما يفعله.
على الإنسان أن يستفيد من ندمه حتى يعمل على عدم الوقوع في الخطأ.
العائدات إلى الله
ما هي نصيحتكم للأخوات بشكلٍ عام، وخصوصاً اللواتي يلتزمن حديثاً ويتركن الّلهو لأهله؟
نصيحتي إليهنَّ أن ينطلقن في طريق الإيمان بالله ليقوِّين إيمانهنّ، وليعملن على تربية هذا الإيمان بالقراءة والسؤال والدراسة والتأمُّل والعمل العبادي ومحاسبة النفس.. وهكذا ألَّا تُثقِل الفتاة التي التزمت حديثاً على نفسها بالأعمال، بل عليها أن تأخذ نفسها على ذلك بشكلٍ تدريجيّ. وقد ورد عن الإمام الباقر (عليه السلام) وقد رأى ولده الإمام الصادق (عليه السلام) يتصابَ عَرَقاً في الطواف من شدّة الجهد الذي كان يبذله، فقال له، كما يُروى عن الإمام الصادق (عليه السلام): "يا بُنيَّ إنَّ الله يرضى منك بأقلّ من ذلك، إنَّ هذا الدِّين متين فأوغل فيه برفق، ولا تبغّض إلى نفسك عبادة ربِّك ـــ لا تُثقل على نفسك بالعبادة طبعاً المستحبّة ـــ فإنّ المنبَت ـــ السائر في الليل والنهار، ولا يترك فرصة لدابّته في الراحة ـــ لا ظهراً أبقى ـــ تموت دابّته وتسقط في الطريق ـــ ولا أرضاً قطع"(1) ـــ ولا يصل إلى هدفه من السير. وقد ورد في بعض الأحاديث: "إنَّ للقلوب إقبالاً وإدباراً، فإذا أقبلت فاحملوها على النوافل، وإذا أدبرت فاقتصروا بها على الفرائض"(2).
غلاء المهور
تقدَّم شابٌ مؤمنٌ بطلب الزواج من أختي، فاشترط أهلي مهراً بقيمة 25 مليون ليرة، ولكنّ هذا الشاب رفض ذلك مُبَرِّراً أنَّ هذا المبلغ سيتعلّق بذمَّته، فكانت النتيجة أنَّ الأهل عرقلوا وأفشلوا عملية الزواج.. ما هي نصيحتكم في هذا المجال للأهل؟
إنّنا نسأل الأهل، لماذا تطلبون المهر العالي؟ فإذا كان الجواب يتعلّق بمراعاة المستوى الاجتماعي، فنحن نقول، إنَّ المستوى الاجتماعي ليس له أيّةُ علاقة بمسألة المهر، لأنَّ المستوى الاجتماعي يفرض على الأهل أن يختاروا الكفوء لابنتهم، والكفاءة هي الخُلُق والدين "إذا جاءكم مَنْ تَرْضَون خُلُقَه ودينَه فزوّجوه"(1).. والمهر لا يمثّل ثمناً للمرأة، وإلاّ كانت المرأة سلعةً تُباع وتُشرى.. وإنّني أكره الجدل الذي يدور بين أهل الفتاة وأهل الشاب عن المهر، تماماً كما لو كانوا يتفاصلون عن بضاعة من البضائع.
إنَّ اعتبار المهر قيمة يمثّل نوعاً من أنواع عدم ثقتهم بقيمتهم في المجال الاجتماعي، لأنّهم يعتبرون قيمة ابنتهم بمقدار ما تعادل ماديّاً، وهذا معناه أنّهم يقدّمون ابنتهم في سوق المزاد. هذا من جهة.. ومن جهةٍ أخرى، فإنّهم إذا كانوا يعتبرون أنَّ المهر العالي ضمانة لابنتهم، فإنّنا نقول بأنَّ المهر ليس ضمانة، لأنّنا نجد أنّ الشاب الذي تتزوّجه الفتاة إذا كان لا يخاف الله، ولا يملك أخلاقاً أو ضميراً، فإنَّه قد يتعامل مع الفتاة بطريقة تجعلها متسامحة في مهرها، بل تدفع له أكثر من ذلك حتى يطلِّقها. إنَّ الضمانة هي الخُلُق، فإذا كان الشاب ذا أخلاق، فإنّه سيحترم زوجته، وإذا كان ذا دين فإنَّه يخاف الله في التعامل السيّء مع زوجته.. وهذه هي الضمانة الحقيقيّة.
ونحن نعتقد أنَّ هذا الشاب الذي رفض أن يلتزم بهذا المهر لأنّه يتعلّق بذمّته، فعلى الأهل أن يحترموه، لأنّه يعتبر أنَّ المهر أمانة الله في ذمّته، ولذلك، فإنَّه لم يخدعهم ويغشّهم، ولو أراد ذلك لقبل وبعدها يفعل ما يحلو له.
وهناك نقطة أخرى، وهي أنَّ الأهل إذا كانوا يتشدَّدون في المهر، فليس المهر من حقّهم، بل من حقّ الزوجة. وإذا كانت الفتاة مقتنعة بهذا الشاب، وترى أنَّه يمكن أن يضمن لها الحياة السعيدة ويحترم إنسانيّتها، فيمكن لها بعد عقد الزواج أن تخفّف عنه قيمة المهر، بأن تسامحه في ذلك، ليبقى المهر متناسباً مع إمكاناته.
إنَّ اعتبار المهر قيمة يمثّل نوعاً من أنواع عدم ثقة الأهل بقيمتهم في المجال الاجتماعي، لأنّهم يعتبرون قيمة ابنتهم بمقدار ما تعادل ماديّاً.
نحن والظروف
كثيراً ما نفشل في مشاريع نرغب بتحقُّقها، ونبرّر فشلنا بأنَّ الظروف هي التي خذلتنا، فهل نحن الذين نصنع الظروف أم الآخرون؟
الظروف هي عبارةٌ عن الأسباب والأجواء والأشخاص والساحات التي تتجمَّع لتترك تأثيرها على كلِّ قضايا الإنسان، وهذه الظروف قد تكون من صنعنا، فتصبح ظروفاً سيّئة عندما نكوِّن لأنفسنا أفكاراً سيّئة، وذلك بالانفتاح على الشهوات والأطماع، فيحدث الفساد في العلاقات والاقتصاد والاجتماع، وهذا ما يرتدُّ علينا فنخسر ونفشل وننهزم بسبب ما صنعناه {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم : 41] فهناك أنوع من الظروف تمثّل حركتنا في الحياة، ما كانت لتحدث لولا سوء اختيارنا {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الأعراف : 96] وهكذا نجد أنَّ هذه الظروف كانت بسبب سلوكنا، وبإفسادنا لأنفسنا وللحياة من حولنا، وبعدم أخذنا بالأسباب الإيجابية التي يمكن أن ننجح وننتصر من خلالها ونحصل على الفُرص الجيّدة. وهناك ظروفٌ يصنعها الآخرون خارج إرادتنا، وهذه بدورها تسبِّب لنا الإرباك والأوضاع الصعبة فتتجمَّع لتنتج لنا الفشل ولا بدَّ من مواجهتها.
باستطاعتنا أن نصنع ظروفاً جيّدة إذا ما أخذنا بالأسباب الإيجابية.. فننجح وننتصر ونحصل على الفرص الجيّدة.
الإكتئاب
هل صحيحٌ أنّ الاكتئاب حالة مرضيّة تستوجب علاجاً عند أخصائي، أم أنّ علاجها يكون بالإرادة والإيمان؟
قد تحدث مسألة الاكتئاب من خلال بعض أسرار النفس التي لا نفهم طبيعتها، فقد ورد في بعض الأحاديث أنَّ أحد المؤمنين يشكو إلى أحد أئمّة أهل البيت (عليه السلام) بأنَّه يُحسّ بحزن من دون أن يعرف سببه، فيجيبه الإمام (عليه السلام) وحسب الرواية بأنَّ لك ناتجٌ من أنَّ صديقاً أو حبيباً له أُصيب بسوء، فعاش هذا الحزن والإكتئاب، بسبب نوع من أنواع التآلف بين روح هذا وروح ذاك.
ونحن إلى الآن لم نعرف أسرار حركة الروح، ففي بعض الحالات نعيش حالة اكتئاب معيّنة، من دون أن ندري سبباً لذلك، وإذ نُفاجأ بأنَّ عزيزاً قد أصابه مكروه.. أو يحدث أحياناً أنّنا نفكِّر بشخص غاب عنّا مدّة طويلة ولا ننتظر قدومه، وإذ هو واقف يدقّ الباب ليزورنا.. وهذه من الأمور التي لم يستطع الإنسان أن يكتشف سرّها، لأنّها من أسرار النفس. وعلى هذا، فإنَّ حالة الإكتئاب قد تنطلق من خلال وجود بعض الخلفيات أو العناصر التي تربطنا بالآخرين من خلال علاقة روحية أو علاقة قربى وصداقة، أو قد تنطلق نتيجة ضغط الصدمات التي تحدث للإنسان، ومن دون أن يجد أيّة وسيلة تُخرجه من هذا الاكتئاب. ومن الطبيع أنّ الإنسان عندما يواجه بعض المشاكل ويجد نفسه عاجزاً عن حلّها، فإنّه يُصاب بحالة اكتئاف، كأيّ عاجز يعجز عن حلّ مشكلته. وقد تنطلق حالة الإكتئاب أيضاً من عُقَد دفينة في النفس تسيطر على نفسيّته فيحزن الإنسان ويكتئب. والواقع أنّ الإنسان عندما يفهم الحياة جيّداً، يستطيع أن يواجه حالة الإكتئاب من دون أن يذهب إلى طبيب نفسيّ، لأنَّ سبب الإكتئاب قد يحصل كما قلنا بسبب بعض القضايا التي تواجهه، من خسارة في تجارة، أو فَقْد عزيز، أو ما شاكل ذلك. والقرآن الكريم ركَّز على نقطة أساسية للخروج من كلّ الصعاب النفسيّة، وذلك بأن يواجه الإنسان الحياة بطريقة واقعية {لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد : 23]، لا تعطِ الحياة أكثر ممّا تستحقّ، فعندما تحصل على ربح أو نصر أو نجاح، فلا يأخذك جوّ النجاح إلى أن تشعر بفرحٍ غير متوازن وغير عادي، وعندما تواجهك بعض الخسائر أو المصائب فلا تسقط أمامها. باعتبار أنَّ ما حصلت عليه قد توفّرت ظروفه، وما لم تحصل عليه، فإنَّ ظروفه وأسبابه غير موجودة، فالله سبحانه جعل الحياة خاضعة لأسباب معيّنة، فإذا وُجِد سبب الشيء تحقّق، وإذا لم يُوجد لم يتحقّق. لهذا، على الإنسان أن يواجه الأمور كما هي الأمور الطبيعيّة، وإذا عشنا حالةً من الإكتئاب، فإنَّ علينا أن نخترقها، لأنَّ الكثيرين منّا، وفي العُقَد التي يعيشونها، يبرز الوهم الذي يسيطر عليهم ويشكّل لديهم غموضاً لا يعرفون معه سبب اكتئابهم أو حزنهم.
ولذلك، نحن نعتقد أنَّ الإنسان عندما يدرس نفسه وظروفه وكلّ الواقع من حوله، مع البحث عن أسباب الإكتئاب، ومع الانفتاح على الله بالدعاء فإنَّه سبحانه يزيل عنه ذلك كلّه، وإنَّ النتائج إن شاء الله تكون بحسب ما يريد وتُزَال عنه الهموم.
لا تعطِ الحياة أكثر ممّا تستحقّ، فلا يأخذك جوّ النجاح إلى أن تشعر بفرح غير متوازن، وعندما تواجهك الخسائر فلا تسقط أمامها.
الإكتئاب والدين
كثيرون من الناس يعانون من الإكتئاب، نتيجة الهموم والضغوط النفسيّة، وتنتشر هذه الظاهرة في كلِّ أنحاء العالم.. وتعقيدات الحياة متطلّباتها سببٌ رئيسي في هذا الإكتئاب.. كم للدين من دور في خروج الإنسان من حالاته الإكتئابيّة؟
إنَّ الدين يقول لهذا الإنسان المكتئب، إلجأ إلى الله عندما تأتيك الهموم لتضغط عليك، حاول أن تشكو إليه همَّك معتقداً أنّه سبحانه هو الرحمن الرحيم الذي يُفرِّج همومَ عباده إذا انفتحوا عليه.. هذا من جهة إيمانية.. ومن جهةٍ أخرى، على الإنسان أن يدرس الأساس في همّه، ولماذا يعيش هذا الهمّ وحالة الضغط النفسي.. وبذلك يقتحم همّه ليعرف أسبابه، ويقتحم مشكلاته والضغوط النفسيّة ليدرسها جيّداً، فإذا اقتحمها وناقش نفسه ومشاعره وأحاسيسه، واطّلع على أسباب هذا الهمّ والضغط وسرِّ المشكلة، فإنّه يملك عند ذلك أن يعالج نفسه. والإنسان عندما يملك معالجة أيّ أمر يتعرّض له، فإنَّ ذلك لا يمثّل عنده حالة اكتئاب، بل يمثّل حالة حركة واقعية تجعل الإنسان يحرّك عقله وجهده في الطريق للوصول إلى النتائج الكبيرة.. ومن هنا، فإنّنا نقول: إنَّ مشكلة المكتئبين أنَّهم يعيشون في داخل ذاتهم ولا ينفتحون على الله والواقع ولا يفهمون ما يدور حولهم.. إنَّ الدين عندما يقول: {وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف : 87]، فإنّه يطلب من الإنسان أن ينفتح على الله ويرجع إليه ليكشف غمَّه وهمَّه، وعندها يشعر بالفرح الروحي حتى في داخل أعماق الألم.
مشكلة المكتئبين أنّهم يعيشون في داخل ذاتهم ولا ينفتحون على الله والواقع ولا يفهمون ما يدور حولهم.
الشباب والمرجعية
كيف لجيلنا جيل الشباب أن يحدّد مرجعيّته الثقافية السياسيّة والوطنية في وقت انفتحت كلّ الثقافات على بعضها؟
يمكن أن تكتشف مرجعيّتك في الموقع الذي تعيش فيه بالطريقة التي تشعر فيها بأنَّ مرجعيّتك تنفتح على الواقع العالمي، وأنّها لا تقبع في زاوية مغلقة لا يهمّها ماذا يحدث ويجري في العالم، على طريقة من يقول:
ما علينا أن قضى الشعب جميعاً أَفَلَسْنا في أمان
حدَّد مرجعيّتك من خلال تطلُّعاتك الفكرية والسياسية، واعتقد أنَّك قد تجد بشكلٍ وبآخر وبحجم وبآخر بعض ملامح ذلك، لأنَّ الإنسانية في أيِّ موقع ليست فقيرة بالمستوى الذي لا تستطيع أن تكتشف مرجعيّتها.
حدِّد مرجعيّتك من خلال تطلُّعاتك الفكرية والسياسية، وليست الإنسانية فقيرة بالمستوى الذي لا تستطيع أن تكتشف مرجعيّتها.
الشباب الجامعي ومواجهة التحدِّيات
تبرز في هذه الأيام بعض الحركات الإلحادية في حرم الجامعات، وتعمل هذه الحركات على محاربة بعض الحركات الإسلامية، نرجو منكم تقديم النصيحة إلى الشباب الجامعي في كيفية التعاطي مع مثل هذه الحركات، خصوصاً في أوقات الانتخابات الطلّابيّة؟
إنّني أريد لكلّ طلّابنا الجامعيّين الإسلاميين أن يحصّنوا ويتسلَّحوا بسلاح الثقافة والفكر، حيث يملكون من خلال ذلك مواجهة كلّ التحدّيات التي يطلقها الآخرون من دعاة الأفكار الإلحادية أو المنحرفة.. إنّني أريد لطلّابنا الجامعيّين أن يكونوا طلاباً جامعيّين بالمعنى الثقافي وبالمعنى الفكري الإسلامي(1)، وألّا تكون المسألة السياسية كلّ همّهم، وأن يكونوا صفّاً واحداً حتى ولو اختلفوا فيما هم فيه، وألّا يُشغلوا أنفسهم بما يحطِّم قوّتهم ويمزِّق واقعهم.. فالله يحبُّ الذين يقاتلون في سبيله صفّاً، قتالاً ثقافياً وسياسياً وعسكرياً كأنّهم بنيانٌ مرصوص {وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال : 46] وعلى هذا الأساس، فإنّنا نريد للطلّاب الجامعيّين أن يتسلَّحوا كما قلنا بالوعي الإسلامي وبالثقافة الإسلامخية، والحوار الإسلامي الموضوعي العقلاني، حتى عندما نختلف مع الآخرين، فليس من الضروري أن نقابلهم بطريقة غير مسؤولة، بل أن نقابلهم بالحكمة والموعظة الحَسَنَة.
إنَّ الجامعة هي ساحة التحدّيات الكبيرة في الحاضر والمستقبل، لأنّها ساحة تحدّيات الفكر، فإذا شغلتم أنفسكم بغير الفكر، فإنّكم سوف تفقدون هذه الساحة، ويمكن أن يسيطر عليها الملحدون أو الضالّون، ومعنى ذلك أنّكم تخسرونها، وخسران الساحة الجامعية إسلامياً وإيمانياً يعني خسران الكثير من موقع القوّة في الإسلام.
إنَّ الجامعة هي ساحة التحدّيات الكبيرة في الحاضر والمستقبل، لأنّها ساحة الفكر، فإذا شغلتم أنفسكم بغير الفكر، فإنّكم تفقدون هذه الساحة.
الوعود المعسولة
تحذّرون بعض الفتيات دائماً من بعض الشباب الذين يخدعونهنَّ من خلال وعدهنَّ بالزواج، فما قولكم بالفتيات اللواتي لا يسيطرن على أنفسهنَّ بالإنسياق وراء خداع هؤلاء البعض، لأنّ الشباب لا يفرضون ذلك عليهنَّ بالقوّة بل برضاهنَّ، ثمّ يُحمِّلن الشباب كامل المسؤولية، كالذي انسجم بأكل العسل ونسي الجرذ والتنّين؟
إنَّ تحذيري للفتيات ينطلق من حثّهنَّ على التفكير بمستقبلهنَّ، وألّا ينخدعن بالوعود المعسولة، لا سيّما أنَّ البعض من الشباب يتقنون الخُلف بالوعد والكذب في وعودهم. ومن علامات المؤمن أنّه إذا وعد وفى، ومن علامات المنافق أنَّه إذا وعد أخلف.
فتحذيري للفتيات ينطلق من ناحيتين، من ناحية أن يفكّرن بمستقبلهنَّ وأن يسيطرن على عواطفهنَّ وأنفسهنَّ من جهة، وألّا ينخدعن بالكلمات المعسولة وبالشباب من جهة أخرى، لا سيّما أنَّ مجتمعنا مجتمع ظالمٌ للمرأة، فهو مجتمع الرجال الذي يحمّل المرأة كامل المسؤولية، ولا يحمّل الرجل إلاّ جزءاً من المسؤولية، ونحن نعرف أنَّ المرأة إذا انحرفت، فإنَّ القتل هو الذي ينتظرها في كثير من المواقع وعند كثير من الناس، ولكنَّ الرجل إذا انحرف، فإنَّ كلّ مكاتب المحامين تُسْتَنْفَر لتدافع عنه أمام القضاء، وإنَّ أهله يحمونه من سلطة الناس الآخرين.
ولذلك، نقول للمرأة: إنَّ عليها أن تحتاط لنفسها. أمّا الحديث عن أنَّ الشباب لا يفرضون ذلك على الفتيات، نحن نقول: إنَّهم يفرضون ذلك من خلال اتّقانهم لبعض الأساليب التي تُوقع هؤلاء الفتيات في شباكهم.
ونصيحتي على الدوام لكلّ الشباب أن يتعاملوا مع بنات الناس، كما يحبُّون أن يتعامل الناس مع أخواتهم بكلّ العفّة والطهارة والصدق. وقد جاء في الحديث: "عامِل الناس بما تحبّ أن يعاملوك" وجاء أيضاً: "إجعل نفسك ميزاناً فيما بينك وبين غيرك، فاحبب لغيرك ما تحبّ لنفسك"(1).
مجتمعنا مجتمعٌ ظالمٌ للمرأة، فهو مجتمع الرجال الذي يحمّل المرأة كامل المسؤولية، ولا يحمّل الرجل إلّا جزءاً من المسؤولية.
الآباء والأبناء ومصطلح "الهيبة"
هل صحيحٌ أنّ الآباء اليوم يفتقرون إلى "الوهرة" مع أولادهم؟
أنا لا أوافق على مصطلح "الوهرة"، أنا أتصوّر أنّ بعض الآباء يعيشون هذه "الوهرة" التي قد تتمثّل بالقسوة وهي خطأ كبير، لأنّها تعقّد علاقة الولد مع والده ولا تبعث الهيبة في نفسه. لذلك، نحن نقول للآباء: إنَّ عليكم أن ترحموا أبناءكم، والرحمة ليست لمسة على الرأس أو قبلة على الخدّ، ولكنّ الرحمة هي أن تفهم ولدك، تفهم عقله وأحلامه وآماله وآلامه، وتفهم كلّ المؤثّرات اليومية التي يمكن أن تؤثّر في إحساسه وشعوره وفكره، وأن تتعامل معه لا على أساس أنّه مجرّد جسد تملك الضغط عليه، بل تتعامل معه كعقل في دائرة إمكاناته وقلب وإحساس وشعور.
فكِّر أيّها الأب، كيف كنتَ طفلاً، وكيف كانت ردّة فعلك أمام قسوة أبيك عليك، فكِّر كما لو كنتَ طفلاً الآن، وكان ولدك أباك، كيف تحبّ أن تتصرّف معه ويتصرّف معك. وقد ورد عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): "مَن كان له صبيٌّ فليتصابَّ له"(1) تقمَّص شخصية الصبي ولغته وحركاته وذهنيّته عندما تتحدّث معه، فهيبتك عليه هي بمقدار ما تمنح ولدك من إنسانيّتك، ونحن هنا لا ندعو إلى ميوعة الصبي، وهو قد يحتاج أن يشعر بقوّة أبيه، ولكنّنا نقول دائماً: المطلوب قوّة من غير قسوة، ولينٌ من غير ضعف.
إرحموا أبناءكم، والرحمة ليست لمسةً على الرأس أو قبلة على الخدّ، ولكنَّ الرحمة هي أن تفهم ولدك، تفهم عقله وأحلامه وآماله وآلامه.
التراث
بين الماضي والحداثة
التراث
ما هو المفهوم الإسلامي للتراث، وكيف تنظرون إلى الماضي؟
الماضي هو تجربة أُناس عاشوا قبلنا، فانطلقوا من خلال ظروفهم الموضوعية الثقافية والبيئية وأوضاعهم الخاصة والعامة، ولذلك، فإنّ الماضي شأنهم وليس شأننا، إلّا بمقدار ما يحتاجه الحاضر من الماضي، باعتبار أنّ الماضي قد يختزن في داخله بعض القضايا والأمور التي تتّصل بالحياة، لأنّها من خصوصيات الحياة، وليست من خصوصيات الزمن في عناصره الذاتية المحدودة، وربّما أيضاً ينطلق بعض المفكّرين في الماضي ليعطوا الحياة فكراً تحتاجه الحياة في جميع مراحلها، ولذا، فإنّنا لا نعتبر فكرهم فكراً ماضياً، إنَّه فكر الحياة الذي انطلق في المرحلة الماضية، تماماً كما لا نستطيع أن نعتبر الشّمس من الماضي، باعتبار أنّها خُلقت في الماضي.
وهكذا، عندما ننظر إلى رسالات الله، فلا نستطيع أن نعتبر أنّ الإسلام وليدُ الماضي في خصوصيّاته الزمنية البيئيّة، ومن هنا، فإنَّ من الماضي ما يكون للحياة، بحيث يكون الماضي مجرّد ظرفٍ له.
ومن الطبيعيّ أنّ في الماضي ما ينطلق من خصوصيات الزمان والمكان، ولذا، فإنّنا نعتبر هذا شأن الذين سبقونا في حياتهم وتجربتهم، أمّا نحن فلنا تجربتنا وحياتنا وإنتاجنا، ونأخذ من الماضي ما يصلح أن يبقى للحاضر. وهذا ما تحدّث عنه القرآن الكريم في قصص الماضين في كلِّ أوضاعهم الإيجابية والسلبية، فقال سبحانه: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ} [يوسف : 111] أي أنَّ الماضي يمثّل درساً نستلهمه، لنستفيد منه في الواقع، ولا يمثّل كهفاً نعيش في داخله وننفذ إلى ظلماته. وهكذا نجد أيضاً آية أخرى تقول: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة : 134] فالآية الكريمة تعتبر أنَّ هؤلاء اكتسبوا حياتهم كسباً جيّداً أو غير جيّد، وهم مسؤولون عن كسبهم، فلا تحمّلوا أنفسكم مسؤولية ما كانوا يختلفون فيه ويتنازعون من أجله إلاّ إذا اتّصل بالخطوط التي تحكم حياتكم. إنّهم صنعوا تاريخهم وعليكم أنتم أن تصنعوا تاريخكم وتتحمّلوا المسؤولية في ذلك، لا أن تتحمّلوا مسؤولية ما صنعوه هم. ولذلك، فالماضي مجرّد إطار للفكرة وللحركة ولواقع معيّن. وعلى هذا، فنحن لا نقدّس الماضي إلاّ بما يحتوي من عناصر القداسة التي لا تتّصل بزمن معيّن، ولكنّها تتّصل بالحياة ممّا ثبت عن الله ورسوله والأئمّة المعصومين من أهل البيت (عليهم السلام) من حقائق العقيدة والشريعة.
فنظرتنا إلى التراث إذاً، هي نظرةٌ إلى أيِّ أمر عاش الآخرون تجربته الفكرية أو العمليّة، فقد نأخذه لأنَّ فيه عناصر للبقاء، وقد نرفضه لأنّه مات بموت المرحلة التي وُلِد فيها.
التراث هو أمر عاش الآخرون تجربته الفكريّة أو العمليّة، فقد نأخذه لأن فيه عناصر للبقاء، وقد نرفضه لأنّه مات بموت مرحلته.
التراث بين الرفض والقبول
في عملية قبولنا للتراث أو رفضه، أو قبولنا لبعض أجزائه أو رفضنا له، هل هذا القبول أو الرفض يتمُّ من بعد عملية فحص، وهل هناك تراثٌ مقبول لدى المسلمين خارج التراث الثقافي الإسلامي؟
هناك تراث يتّصل بالانتماء العقيدي الذي تلتزم به مسلماً كنت أم مسيحياً.. وهناك تراث يتّصل بالمعرفة الإنسانية، وهذا التراث، نأخذه ولا نقدّسه، بل ندرسه على أساس ما نملك من فكر يمكن أن يكون ميزاناً بين الخطأ والصواب، أو ما نملك من تجربة يمكن أن تعطينا صحّة هذا وفساده.. إنّنا في المعرفة الإنسانية في الجوانب العلمية أو الثقافية على المستوى الأدبي أو الفنّي أو ما إلى ذلك، نواجهها كما يواجهها أيّ إنسان آخر، بالدراسة والنقد، ثمّ القبول أو الرفض.
أمّا بالنسبة إلى التراث الإسلامي، فإنّ قداسة النّص لا تعني قداسة الاجتهاد، فالقرآن بحسب عقيدة المسلمين، هو كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وقد نزل القرآن الكريم باللغة العربية، ولذلك، فإنَّ علينا أن نفهمه من خلال ما نملك من ثقافة لغوية أو ثقافة أخرى تتّصل بسعة المضمون، فيمكن أن يجتهد إنسانٌ في فهم القرآن بطريقة، ويمكن أن يجتهد آخر بطريقة مخالفة على أساس اجتهاد آخر. لذلك، نحن لا نعتبر أنَّ ما جاء به المجتهدون سواء كانوا مجتهدين في الفقه أو القرآن، أو في كثير من القضايا الأخرى، لا نعتبره مقدّساً بمستوى قداسة النص القرآني أو الحديث الصحيح، لأنّ فكر الإنسان الذي يخطئ ويصيب لا يملك القداسة المطلقة، ممّا يجعلنا نواجه اجتهاد أيّ مجتهد في الماضي أو الحاضر، لندرسه بقطع النظر عن مقام هذه الشخصية، ما دامت شخصية تصيب وتُخطئ.
فنحن، في التراث الإسلامي نقدّس النصّ الأساس. أمّا الذين يفهمون النص بالطريقة الاجتهادية الذاتية التي قد تخطئ وقد تصيب، فلهم رأيهم وقد يكون للآخرين رأيهم في هذا المجال. فهناك كلمة مأثورة "إنَّ لله تعالى في كلّ واقعة حكماً يُصيبه مَنْ يُصيبه ويخطئه مَن يُخطئه" وقولٌ آخر: "للمجتهد أجران إن أصاب، وأجرٌ إنْ أخطأ".
إنّنا في المعرفة الإنسانية نواجهها كما يواجهها أيّ إنسان آخر بالدراسة والنقد، ثمّ القبول أو الرفض.
الحداثة والماضي
من الماضي، ننتقل إلى الحاضر، إلى مفهوم الحداثة بالتحديد ورأي الإسلام بموضوع الحداثة، يُلاحظ في هذا الإطار أنّ ثمّة اندفاعاً لعدد كبير من المسلمين باتجاه التغيير والحداثة، يقابله تيّارٌ آخر يدعو إلى الارتداد إلى الماضي، كيف يمكن فهم هذا التعارض، وما هو موقف الإسلام من منطق رفض التغيير والقبول بما هو كائنٌ؟
هناك دائرة الانتماء الفكري إلى حالة دينية معيّنة، يعيش الإنسان فيها بعضاً من قداسة النص في الشكل والمضمون، في هذه الحالة عندما يقتنع الإنسان بهذا النّص في مضمونه الفكري العقيدي، أو في مضمونه القانوني أو الأخلاقي، وبأنّه يمثّل المصلحة الإنسانية، إمّا لأنّه صادرٌ من خالق الإنسان الذي يعلم مَن خلق أكثر ما يعرفه المخلوق، أو من خلال القناعات الاجتهادية في دراسة هذا النّص، فإنَّ عليه أن يؤصِّل هذا الفكر في نفسه، وليس من الطبيعي أن يتحدّث عن تغييره كونه مقتنعاً به. يبقى هناك مجالٌ في هذا الاتجاه، وهو أنّ الإسلام يؤمن بالعقل، حتى في فهم العقيدة، ويرى أنّه لا يجوز التقليد في العقيدة وفي الفكر الذي يمثِّل أصالة العقيدة التي يلتزمها الإنسان في انتمائه الفكري، بل لا بدّ له أن يجتهد فيها. فليس له أن يقلِّد في الإيمان بوجود الله أو بوحدانيّته، أو بنبوّة النبيّ أو ما أشبه ذلك من المفردات العقيدية.. وفي مثل هذه الدائرة يُفسح الإسلام المجال لأن يطّلع الإنسان على فكر الآخر، عندما يريد أن يُنتج عقيدته باجتهاده وفكره، ليدخل في مقارنة بين الإسلام وبين الفكر الآخر، حتى يكون انتماؤه إلى الإسلام منطلقاً من معاناة ثقافية لا من تقليد تلقائي. وقد شجَّع الإسلام على الحوار في هذا المجال بين المسلمين وغيرهم، وأراد للحوار ألّا يكون ذاتياً، بحيث تتدخّل فيه الذّات لتقنع الذات الأخرى على أساس أنّ الحقّ معها، وأنّ الباطل مع الذات الأخرى، بل أراد لأسلوب الحوار أن يعيش في دائرة القضية، بعيداً عن ذات هذا وذات ذاك، وهذا ما تعبّر عنه الآية الكريمة: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [سبأ : 24] وهكذا أطلق الإسلام الفكرة التي تقول لا بدّ لك عندما تحاور أن تملك ثقافة ما تحاور فيه: {هَاأَنتُمْ هَؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ} [آل عمران : 66] ويقول سبحانه: {قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة : 111] فعندما ندرس هذا الأُفق الواسع الذي ينطلق فيه الإنسان ليؤكّد انتماءه، فإنّنا نلتقي ببعض المتغيّرات في التفاصيل، إذا لم نلتقِ ببعض المتغيّرات في الخطوط العامّة.
ومن هنا، فإنّ المسلمين عندما يتحفَّظون على بعض دعوات التغيير في المسألة الفكرية العامة، لا يُقصَد منها قمع الإنسان الآخر، أو الخوف من أن يكون الجديد عقدتهم، فيأخذون بالجديد كيفما كان، كالذين يحاولون أن يأخذوا بالموضة في لباسهم أو في أوضاعهم الحياتية، حتى ولو كان ما تفرضه الموضة شيئاً في غير صالح الإنسان في حياته الخاصة، فنطلب الجديد للجديد، لا من جهة المضمون.. إنّنا لا نعيش عقدة الماضي عندما تكون الحقيقة في الماضي، ولا ننطلق من عقدة الجديد عندما تكون الحقيقة في الجديد، القضية، قضية ما هو الحقّ الذي تقتنع به.
أمّا في الجوانب الأخرى المتعلّقة بالحياة وبالمفاهيم العامة وبأساليب الحياة، فالإسلام لا يمانع في إطلاق دعوات التغيير في القضايا المتحرّكة التي لا تمسّ الأصول. وقد قال عليٌّ (عليه السلام): "لا تخلِّقوا أولادكم بأخلاقكم فإنّهم خُلِقوا لزمانٍ غيرِ زمانكم" إنّه (عليه السلام) يتحدّث عن الأخلاق المتحرّكة التي تختلف بين وقتٍ وآخر في العلاقات الاجتماعية وفي أساليب الحياة، فيُطلق الفكرة التي تقول، إنَّ عليكم أن تعدّوا أولادكم ليعيشوا حياتهم تبعاً للواقع الذي يتحرّكون فيه إذا لم يمسّ ذلك الأصول في هذا المجال.
أمّا في مجال الحداثة في الفن والأدب والعلم والوسائل وحركة الإنسان، فالإسلام لا يتعقَّد منها، بل يعتبرها شأناً من شؤون المعرفة الإنسانية التي يمكن أن يأخذ بها الإنسان إذا رأى فيها مصلحته.
شجّع الإسلام على الحوار بين المسلمين وغيرهم وأراد للحوار ألاَّ يكون ذاتيّاً.
ما عليهم وما علينا
تردِّدون في الحديث عن "الأقدمين" من العلماء أنّهم قضوا ما عليهم، أصابوا أو أخطأوا، وبقي ما علينا نحن.. كيف لنا أن نستفيد من خطئهم وصوابهم؟
إنّني أدعو دائماً إلى احترام علمائنا ومفكِّرينا السابقين واللاحقين، ولكنّي أرى أنّ الاحترام لا يعني ان تسلّم بكلّ ما فكَّروا به، وأن تخضع لكلّ ما تحرّكوا فيه، لأنّهم بشرٌ يخطئون ويصيبون، كما نخطئ ونصيب، نحن، وقد أرادنا الله سبحانه ألّا نتبنّى فكراً إلاّ بعد أن نقتنع به حسب الأصول التي يرتكز عليها الفكر والاستنباط.. ونحن إذا انتقدنا فكر البعض، فليس معناه الرفض لفكرهم، بل لندرس نقاط القوّة والضعف فيه، لنختار ما نقتنع به ونترك ما لا نرى أنّه ابتنى على قواعد وأُسس متينة.. إنّ العلماء الأقدمين اختلفوا فيما بينهم(1) في كثيرٍ من الأمور، فلماذا لا يجوز لنا أن نختلف معهم، ما دامت أصول الاجتهاد والاستنباط هي القواعد الأساسية التي ننطلق منها؟ فنحن قد نفهم شيئاً من القرآن فهموه بطريقة أخرى، وقد نفهم حديثاً فهموه بطريقة أخرى، وقد نوثّق شيئاً لم يوثّقوه، وهكذا كم ترك الأول للآخر.
إنّ عملية الاجتهاد لا بدّ أن تبقى في حركة تصاعدية تطوُّريّة، لأنّنا قد نقتنع بشيء اليوم، ولكنّنا قد نعيد التفكير به غداً لنكتشف شيئاً لم نكتشفه من قبل. لذلك، فإنَّ كثيراً من المجتهدين غيَّروا آراءهم، حيث كانوا يُفتون بشيء فصاروا يُفتون بشيء آخر في المسألة نفسها، لأنَّهم اكتشفوا في نهاية المطاف بعض النقاط غير المكتشَفَة في اجتهادهم السابق، ولذلك تراجعوا عن آرائهم على أساس أنّ التراجع عن الخطأ فضيلة. إذاً عندما ننقد آراء بعض علمائنا السابقين، فليس معنى ذلك أنّنا ندعو إلى عدم احترامهم، لأنّنا نعتقد أنّ احترامنا لفكر الإنسان، إنّما يكون بقدر ما نناقش وننتقد فكره.
إنّ العلماء الأقدمين اختلفوا فيما بينهم في كثير من الأمور، فلماذا لا يجوز أن نختلف معهم؟
الماضي والحاضر
ثمّة اختلافٌ يتصاعد في هذه الأيام بين مفهومي الحداثة والعودة إلى التراث، فالبعض يعتبر أنَّ الحداثة تعني الانقلاب على الماضي بما فيه، والبعض الآخر يعتبر أنَّ التمسُّك بالتراث هو الوسيلة الأفضل لحساب خطوات التطوّر في الحاضر والانطلاق نحو المستقبل، هل تجدون وسطيّة في هذا الصراع؟
إنّنا لا نتوقّف أمام المصطلحات لنسقط تحت تأثيرها، ولنتعبَّد بها كما لو كانت عناوين مقدّسة.. وهذا أمرٌ لا بدَّ أن نفهمه جيِّداً. وفيما يختصُّ بمصطلح الحداثة فإنّه يعني برأينا ألاَّ نتجمّد أمام ما جاءنا من الماضي، بل إنَّ علينا أن نعيش عصرنا، هذا الذي تتحرَّك فيه الأحداث والأفكار والأوضاع الجديدة، لأنَّ من مهمّة كلِّ جيلٍ من الأجيال أن يعش عصره، تماماً كما عاشت الأجيال الماضية عصورها، وأنتجت الثقافة الخاصة بها، وتحرَّكت لتصنع أوضاعها بما يلائمها.
وهكذا هي حركة كلِّ جيل في تجديد الحياة وتجديد الواقع بما يختزنه من حركة وفكر وثقافة. وهذا ما تشير إليه الآية المباركة: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة : 134]، فلكلِّ جيلٍ كسبهُ ويتحمّل مسؤوليته في ذلك، ومن هنا فنحن نريد أن نعيش حياتنا في واقعها اليوم، في كلِّ قضاياها وتحدِّياتها ومفاهيمها ومعاركها وساحات صراعها، لأنَّ كلَّ هذه الأمور تتّصل بوجودنا. فنحن مع الحداثة، بمعنى أنّنا نعيش عصرنا لنصنع حركة هذا العصر على صيغة ما نفكِّر فيه وما يحتاجه. وهذا لا يتنافى مع العودة إلى التراث، لأنّنا نحاول أن نبني عصرنا بحركة جديدة تتناسب مع حاجات هذا العصر وتحدِّياته، دون أن نُغفل الاستفادة من دروس الماضي وتجاربه ممّا يمكن أن يبقى للحياة {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ} [يوسف : 111] المقدّس عندنا القرآن الكريم وما ورد صحيحاً عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأئمّة من أهل بيته الأطهار (عليهم السلام)، ومن هنا، فإنَّ العودة إلى التراث ليس معناها أن نعود إلى كلِّ التراث لنقدِّسه. فتراث الماضي كتراث الحاضر، فيه الخطأ والصواب، وفيه الحقُّ والباطل، فيه الاستقامة والانحراف، ولذلك لا نعتبر كلّ ما في الماضي صواباً يجب أن يحكم حياتنا. ففي الماضي قضايا ماتت معه فنتركها، وفي حركته قضايا يمكن أن تبقى للحاضر والمستقبل فنأخذ بها. وكذلك نقول: ليس كلّ فكر يصنعه المحدثون هو صحيح، فالأفكار الحديثة كأفكار الماضي فيها الخطأ وفيها الصواب.
إذاً، إنَّ الفكرة التي نؤمن بها هي الفكرة الوسطيّة، فإنَّنا لا ننقلبُ على الماضي كليّةً، ولا نأخذ بالماضي كليّةً، لأنَّ الماضي هو صناعة أُناس يصيبون ويخطئون باستثناء ما جاءنا صحيحاً عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، كما أنّنا لا نستغرق في الحاضر بكلّ ما أنتجه من حداثة في الفكر والسياسة والاجتماع، وما إلى ذلك لنقبل كلَّ ما فيه. الله تعالى خلق لنا عقلاً، وعلينا أن نميِّزَ بهذا العقل، الصحيح من الفاسد، والحقّ من الباطل.
فالوسطيّة تعني أن نأخذ من الماضي ما هو حقّ، ونطرد من الحاضر ما هو باطل، وعندها لا تكون المسألة مسألة ماضٍ وحاضر، أو مسألة عودةٍ إلى التراث أو انقلاب عليه، بل هي مسألة حقٍّ وباطل فيما يمكن أن يبني لنا حاضرنا ويُهيِّئ لبناء المستقبل، أو فيما يمكن أن يهدم حاضرنا ويمنعنا عن بناء المستقبل.
فليست القضية قضيّة الزمن، ولكنّ القضية ما جاء في الزمن، ففي الزمن الماضي كانت الحقيقة التي تمثّلها رسالات الله التي يجب الأخذ بمفاهيمها، وفي الماضي أيضاً كانت هناك اجتهادات الناس، فنأخذ ما أصابوا فيه، ونطرد خطأهم فيما يُسيء إلينا.
الوسطيّة تعني أن نأخذ من الماضي ما هو حقٌّ ونطرد من الحاضر ما هو باطل.
الثقافة والمثقّفون
دورٌ ومسؤوليّة
دور المثقَّف: نقدي أم تقني؟
هناك جدلٌ يدور بين وقتٍ وآخر حول طبيعة دور المثقّف في المجتمع، البعض يقول: إنَّ المثقّف يجب أن يكون صاحب موقف نقديّ واعتراضي على حركة المجتمع وعلى سلبياته وعلى السلطة أحياناً. وهناك رأي يدعو إلى دور تقني للمثقَّف، يعني يكتفي بإنتاج المعرفة وإنتاج الأفكار. أين أنتم من هذين المفهومين؟
نحن نعتقد أنَّ مسألة الثقافة مسألة معرفية في بُعدها الموضوعي، ممّا يفرض على الإنسان الذي يُنتج التجربة الثقافية أن يتوافر على كلّ عناصر المعرفة، ويعمل على الإبداع فيها بكلّ ما عنده من طاقة فكر، لأنَّ ذلك هو معنى الإخلاص للثقافة بأن تعطيها كلّ عقلك وقلبك وإحساسك وشعورك، وأن تُدخل فيها كلّ حياتك بالمعنى الفنّي للحياة أو بالمعنى الإنساني للحياة، لكنّ الكلمة: لِمَ المعرفة؟ لِمَ الثقافة؟ إنّك لا تستطيع أن تجعل الثقافة والمعرفة شيئاً معلَّقاً في الهواء. إنَّ الثقافة والمعرفة، هي الإنسان، قيمتها أنّها تصقل عقل الإنسان ليكون أكبر، وقلب الإنسان ليكون أطيب، وحياة الإنسان لتكون أغلى.
ولهذا، فإنَّ المثقَّف لا يستطيع أن ينفصل عن إنسانيّته. فإذا كانت الثقافة للحياة، وكانت المعرفة للإنسان، فمن الطبيعي أن تحرّك المعرفة من أجل أن تعطي الإنسان انعتاقاً أكثر وطمأنينة أكثر واستقراراً أكثر وحريّة أكثر. وهكذا بالنسبة إلى حركة الثقافة. أنا لا أستطيع أن أتصوَّر إنسانً يعيش المعرفة ولا ينفتح على كلِّ اهتزازات الواقع وكلّ حركة البؤس والشقاء وحركة المستكبرين في اضطهاد المستضعفين. لذلك، أقول، كلّما كنت مثقَّفاً أكثر كنتَ إنساناً أكثر، وكلَّما كنتَ إنساناً أكثر كنتَ إنسان الحياة الذي تدخل الحياة إلى كلّ عقله ليفكِّر للحياة دائماً، لا لينطلق في التجريد ليعيش بعيداً عن الواقع، لأنَّ مشكلة الكثير من الفكر التجريدي الفلسفي هو أنّه جعل الإنسان يحلّق في الفضاء من دون أن يعرف كيف ينقل أقدامه على الأرض.
مشكلة الفكر التجريدي الفلسفي هو أنَّه جعل الإنسان يحلِّق في الفضاء من دون أن يعرف كيف ينقل أقدامه على الأرض.
الإنفتاح على الثقافة
هل ترون ضرورة في انفتاح المثقَّف الإسلامي على بقيّة الثقافات، أم أنَّ الثقافة الإسلامية كافيةٌ في بناء شخصيّته؟
الثقافة الإسلامية تكفي في بناء العناصر الحيّة في شخصية المثقّف المسلم، ولكنَّ الله سبحانه يريدنا أن نعرف ما عند الآخرين، لأنّنا من خلال معرفة الباطل نستطيع أن نركِّز قاعدة الحقّ. فالناس الذين لا يعرفون الفرقَ بين الحقِّ والباطل يختلط عليهم الأمر فيتصوَّرون الباطل حقّاً والحقَّ باطلاً، لذلك إذا عرفنا الحقّ بمميِّزاته والباطل بمميِّزاته أمكننا من خلال ذلك أن نركّز قواعد الحقّ في عقيدتنا وفي حركتنا في الحياة. وقد ورد عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) أنَّ علم الناس اجتمع في أربع: أن تعرف ربَّك، وأن تعرف ما صنع بك، وأن تعرفَ دينك، وأن تعرف ما يُخرجك من دينك. إضافةً إلى ذلك، فإنّه من الضروري أن نتعرَّف على الثقافات الأخرى المتّصلة بالجانب العقيدي أو الأخلاقي أو السلوكي، ونتعرَّف على العلوم الأخرى التي تفسِّر لنا أسرار الكون والحياة والإنسان، لأنّ الإنسان كلّما ازداد علماً ازداد وعياً للحياة أكثر ومعرفة بالله أكثر، وانضباطاً وتوازناً على الحقّ أكثر.
كلّما ازداد الإنسان علماً ازداد وعياً للحياة أكثر ومعرفة بالله وانضباطاً وتوازناً على الحقِّ أكثر.
القاعدة الثقافية أساس للمواجهة
نرى في ساحتنا "عداوة" بين إنساننا وبين الثقافة، رغم أنَّنا نعيش تحدِّيات كبيرة على مستوى الواقع، برأيكم هل نستطيع المواجهة إذا لم نملك سلاح الثقافة والفكر؟
نحن مسلمون ننطلق بصفتنا الإسلامية من إيماننا بالإسلام وانفتاحنا على فكره العقيدي والشرعي والاجتماعي والسياسي والجهادي، ممّا يفرض على كلّ مسلم ومسلمة أن يتحرّك على أساس أن يأخذ بأسباب الفكر الإسلامي، بحيث يغتني كلُّ مسلم بإسلامه ليكون لديه وعي الإسلام الثقافي والفكري، كما هو وعي الإسلام السياسي والاجتماعي.
ومن هنا نعتقد أنّ الذين يتحرّكون جهادياً أو سياسياً من دون قاعدة ثقافية إسلامية منفتحة على الواقع الثقافي العالمي لا يستطيعون أن يحقِّقوا النتائج الإيجابية الكبيرة، لأنَّ الجهاد علمٌ قبل أن يكون حركة، والسياسة علم، وواقع حركة الإنسان في الحياة واقع علم، وقد قال الله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر : 9] وقال أيضاً: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً} [طه : 114].
إنَّ علينا أن نُفرِّغ وقتاً من أوقاتنا مهما كانت مثقلة بالعمل من أجل أن نتعلَّم القرآن والفقه ومجمل مفاهيم الإسلام، لنتعلَّم حركة الإسلام في الواقع السياسي والاجتماعي والأمني والاقتصادي، حتى نستطيع أن نخدم الإسلام من قاعدة القوّة الثقافية، كما من قاعدة القوّة الجهادية. وقد ورد في حديث الإمام الصادق (عليه السلام): "ليت السياط على رؤوس أصحابي حتّى يتفقَّهوا في الحلال والحرام"(1).
الجهاد علم، والسياسة علم، وواقع حركة الإنسان في الحياة واقع علم.
الثقافة والمثقَّف
نرى أنَّ المثقّف وقبل وصوله إلى السلطة يلتزم قضايا الناس ويدافع عنها، وعندما يصل إلى السلطة يقف بجانبها ضدّ الجماهير ويتنكَّر لالتزامه، هل الخَلَلُ برأيكم في الثقافة أم في المثقّف؟
إنّ الكثيرين من الناس عندما يحرّكون ثقافتهم في دراسة الواقع، فإنَّهم لا يعيشون الثقافة رسالة، ولا يحوِّلونها إلى عنصر حيويّ في شخصيّتهم، بحيث تكون ديناً يدينون به، والتزاماً يلتزمون به، وعنواناً رئيسياً من عناوين حياتهم، إنّهم يأخذون من الثقافة الجانب السطحي منها، تماماً كما قال الإمام الحسين (عليه السلام): "الناس عبيد الدنيا، والدين لعقٌ على ألسنتهم يحوطونه ما درَّت عليه معايشُهم"(1) يبقى البعض في خطّ الدّين، ما دام الدين لم يقترب من مصالحه ولذّاته وشهواته "فإذا مُحِّصُوا بالبلاء" اقترب الدين من أموالهم، ووقف في وجه شهواتهم وامتيازاتهم "قَلَّ الديَّانون" لأنّهم يسقطون أمام تأثير معايشهم. وهؤلاء ينطبق عليهم القول: "قلوبهم معك وسيوفهم عليك" إنَّ سيوفهم لم تكن في خدمة قلوبهم، ولكنّها كانت في خدمة جيوبهم ـــ كما في أقولنا الشعبية ـــ فهناك من المثقّفين مَنْ تمثّل الثقافة عنده شيئاً طارئاً وسطحياً، من دون تعمّق في الأثمان والضرائب التي يمكن أن يدفعها من خلال حركة الثقافة التي تحمل شيئاً من القِيَم والمبادئ في الواقع.. وهناك بعض الناس مَنْ يستغلّون حركتهم السياسية في خطّ القِيَم والقضايا الكبرى للناس ليجمعوهم حولهم وليستغلّوا أوضاعهم للوصول إلى مواقع السلطة، حتى إذا ما وصل الواحد منهم، وعاش أجواء السلطة، ترك الناس وراءه، والله تعالى عبَّر عن هؤلاء بقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} عندما تسمعه تظنّ أنّه سيرسل الناس إلى جنَّات عدن {وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ} يعلن أمام الله أنّه سيغيِّر الواقع السيّء إلى الواقع الأفضل {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة : 204] في سبيل ملكه وشهواته، {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ} ويطالبونه بوعوده وبرامجه {أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ} أنا مَنْ لا يُقال له اتقِ الله، أنا أعلِّمكم وأعظكم وأوجِّهكم وأعرف مصلحتكم أكثر منكم {فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة : 206].
وهناك فئةٌ تغلبهم النَّفس الأمّارة، فقد يكونون مخلصين في بداية أمرهم، ولكن عندما يعيشون التجربة تظهر نقاط ضعفهم وتستيقظ وتفرض نفسها ويتنكَّرون لكلّ ما آمنوا به من مفاهيم ومبادئ "وأعوذُ به من شرّ نفسي"، {إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ} [يوسف : 53].
وعلى هذا، فإنّ الإنسان عندما يسير في طريقٍ ما، عليه أن يدرس طبيعة الطريق الذي يسير عليه، والهدف الذي يسعى إليه، ليدرّب نفسه على أن يأخذها بالشديد من النتائج، والكثير من التضحيات، حتى لا يخذل الخطّ، ولا الذين يسيرون معه في هذا الخطّ، وقد قال الشاعر:
إذا اشتبكت دموعٌ في خدود تبيَّن مَنْ بكى ممَّنْ تباكى
فالممثّل هو الذي "يعصر" عيونه حتى تنزل عيونه، أمّا الصادق فهو الذي يبكي قلبه قبل أن تبكي عيناه.
الغزو الثقافي
أحد المثقّفين يقول: "إنَّ القائلين بالغزو ليسوا سوى حرَّاس على حدود تخلّفنا الحضاري، يبعدون عنّا حصيلة حضارة الغرب المتقدّم وثقافته، ويحفرون حول عقولنا خنادق التخدير والتخويف، فما أراه أنّ فكرة الغزو الثقافي مصطنعة وشبه جملة غير مفيدةـ، ولا تعبّر إلاّ عن وَهْمٍ من أوهامنا، فالغزو عملية مستحيلةٌ على الإطلاق" ما تعليكم على ذلك؟
طبعاً هذا القائل هو من العلمانيّين، ونحن نردُّ عليه بنقطتين: الأولى: إنّ العلمانيّين أنفسهم يقولون بالغزو، غزو الرجعيّة والتخلّف و"الأصولية"، أي أنّهم هم خائفون من الغزو، لأنّ هناك واقعاً يحمل فكراً معيّناً يغزوه فكر آخر ليحلَّ مكانه وليأخذ دوره.
والنقطة الثانية، هي أنّنا عندما نتحدّث عن غزو ثقافي، فلأنّنا نملك ركائز فكرية وثقافية معيّنة، نقتنع ونلتزم بها، وهناك فكرٌ آخرلا، نعرف أنّه يختلف عن فكرنا ويحاول نسف جميع المرتكزات التي نؤمن بها على مستوى الفكر والثقافة. ونحن لا نرفض الفكر الغربي جملةً وتفصيلاً، ولا نرفض الفكر الذي لا نعرفه، بل إنّنا نناقشه وندرسه، فنُبقي على ما ينفعنا ونطر ما يضرُّنا، وعلى هذا، فليس تعبيرنا بالغزو الثقافي أنّنا لا نريد مجيء الفكر الغربي إلينا، ولكن بعد أن درسنا هذا الفكر بدقّة وموضوعية ووجدنا أنّه يعمل على إلغاء دورنا في الحياة، فإنّنا لم نسمح له أن يزحف إلينا، تماماً كأيِّ فكرٍ آخر لا يسمح لأي فكر أن يسيطر عليه.
نحن لا نرفض الفكر الغربي، بل نناقشه وندرسه فَنُبقي على ما ينفعنا ونطرد ما يضرُّنا.
المثقّفون: الدور والمسؤولية
يقول أحد الكتّاب: "يأخذ الناس على المثقَّف بأنَّه منظّر وغير واقعي ويعيش بعيداً عن هموم الناس ومشاكلهم، وفي أحسن حال يستطيع أن يحلّلها وفقاً لقواعد العلم والكتب من دون أن يكون له حلولٌ واقعيّة أو مواقف نضالية". هل ينطبق هذا على المثقَّف المسلم؟
المثقّفون سواءً كانوا مسلمين أم لا، على قسمين: هناك مثقّفٌ يعيش في الأبراج العاجيّة ويحرّك ثقافته في الكتب من دون أن يدرس واقع الإنسان والحياة والظروف المتغيّرة في حركة الإنسان، لذلك، فإنَّه لا يستطيع أن يفهم مشاكل الحياة والإنسان، لأنّه لم يتعمَّق في مشاكل الحياة، ولم يعِ واقع الإنسان ويعيش همومه ومشاكله وقضاياه، ولذلك يحاول أن يهوّن من كلّ مشكلة ويختصر تفسير القضايا ببعض العناوين التي يشعر فيها بالراحة ويعتبر بأنَّ المشاكل لا يمكن حلُّها، وبأنّ الناس لا يمكن هدايتهم، ويبقى في برجه العاجي ينظّر وينظّر من دون أن يتحوّل تنظيره إلى واقع.. وهناك من المثقّفين مَن يعيشون الاتجاه العملي الواعي فيُطلقون لعقلهم التفكير العميق في القضايا، ويعيشون في الواقع ويمارسون تجربته، محدّقين بكلّ مشاكل الواقع ومشاكل الإنسان، هؤلاء هم الذين يعيشون ثقافتهم فكراً وتجربة وحركة ومعاناة. ومن الطبيعي أنّ الله سبحانه يريد من المثقّف المسلم أن يعيش مسؤوليّته في الواقع، ويربط تفكيره بهذا الواقع، لأنَّ له مسؤوليّة مكلَّفٌ بالقيام بها من أجل حلّ مشاكل الإنسان والواقع والحياة من حوله.
للمسلم المثقَّف مسؤوليةٌ مكلّف بالقيام بها من أجل حلّ مشاكل الإنسان والواقع والحياة من حوله.
أزمة ثقافة أم لا؟
في حديثكم لمجلّة العالم الصادرة في لندن (24/5/1997م) قلتم: "بأنَّ من ضمن اولويات الفكر الإسلاميّ هو محاولة اكتشاف المذهب الاجتماعي والمذهب الاقتصادي والمذهب السياسي في الإسلام، كما إنَّ علينا أن ننطلق من خلال اكتشاف الحلول لمشاكل الإنسان المعاصر". وإذا ما جُلنا في المكتبة الإسلاميّة، فإنّنا نرى الكتب التي تعيد نفسها في إنتاج الحديث عمّا تناوله السابقون من دون أيّة إضافات جديدة.. وعلى هذا هل ترون أنّن نعيش أزمة ثقافة أم لا؟
إنَّ القضية التي ينبغي للإسلاميّين أن يتحرَّكوا فيها في الخطّ الثقافي، هي أنّه كيف يقدّمون الإسلام إلى الإنسان المعاصر كخطٍّ يملك مذهباً واسعاً في الاقتصاد والسياسية والاجتماع بحيث تكون له رؤيةٌ منهجيّة واسعةٌ دقيقةٌ لكلِّ الواقع الاجتماعي والسياسيّ والاقتصادي الذي يتخبَّط فيه الإنسان. ولا يعود الإسلام مجرّد فتاوى متناثرة هنا وهناك، أو مجرّد قِيَم ليس لها ارتباطٌ ببعضها.. ولعلَّ من المؤسف أنَّ الإسلاميين يتحرّكون في المسألة السياسيّة بقوّة ولكن من دون مذهب سياسي إسلاميّ له قوّته وحيويّته وتطلُّعاته المتميّزة عن الآخرين، ومن هنا نجد أنَّ الخطَّ السياسيّ للكثيرين من الإسلاميّين هو الخطُّ السياسي نفسه لدى غير الإسلاميّين مع بعض التحويل والتبديل. وهكذا نجد أنّهم لم يصلوا إلى التخطيط الكامل لمذهب اجتماعي أو اقتصاديّ إسلاميّ كامل، لأنّهم يعيشون ضغطاً من المشاكل الأمنية والسياسيّة المفروضة عليهم. وما نشير إليه أخيراً أنَّ الثقافة الإسلاميّة قادرةٌ أن تخطّط للمنهج وأن تضع كلّ الحلول القادرة على حلّ مشاكل الإنسان على كافة المستويات.
الثقافة الإسلامية قادرةٌ أن تخطّط للمنهج وأن تضع كلَّ الحلول القادرة على حلّ مشاكل الإنسان.
الإلتهاء بالقضايا الهامشيّة
مَن يُطِلُّ على الإنتاج الثقافي الإسلامي، يشعر بأنّنا نعيش على السطح وليس في العمق، فالكفر حشد كلَّ أسلحته، والقنوات الفضائية والمحليّة غزت حتى غرف نومنا، وتبقى اهتماماتنا اهتمامات هامشية، من دون أن نقدّم خطّة شاملةً على المستوى الثقافي نشعر معها أنّنا نمتلك الأطروحة الحضارية القادرة على مواجهة كلِّ التحدّيات.. هل توافقون على هذه النظرة؟
أنا لا أوافق على هذه النظرية بشكلٍ مطلق، لأنّنا نملك نتاجاً إسلامياً ثقافياً في أكثر من بلد إسلاميّ يعالج القضايا الإسلاميّة الحيويّة بشكلٍ قد لا يكون في مستوى الطموح، ولكنّه يمثّل بعض الحاجة.. وهناك مشكلة في كثيرٍ من مواقعنا الإسلامية، وهي أنَّها تواجه القضايا الجزئية الهامشيّة التي ليس لها أيّة علاقة بالعقيدة والشريعة في أصالتهما وبالواقع الحضاري، لتشغل الناس بهذه الأمور عن قضاياهم الحيوية الثقافية.. وقد نجد الكثير من الأشخاص الذين قد يملكون علماً وثقافة، ولكنّهم لا يواجهون التحدّيات الكبرى التي تنطلق من خلال الخطّ العلماني الذي يعمل على اقتلاع العقيدة من أساسها، وعلى إرباك التصوّر للإسلام ولقضاياه، ويحاولون أن يواجهوا الناس بالقضايا الصغيرة الصغيرة جداً، بالطريقة التي تربّيهم على أن يفكّروا بالهوامش والجزئيات بعيداً عن الأصالة والكليّات.. هؤلاء، مشكلة كلِّ مرحلة حضارية إسلامية، فهم يؤخّرون الوعي الإسلامي والحضارة الإسلامية باسم أنّهم يخدمون الإسلام {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة : 11].
بعض الأشخاص يربون الناس على الهوامش، هؤلاء مشكلة كلّ مرحلة حضاريّة إسلاميّة فهم يؤخّرون الوعي الإسلاميّ باسم أنّهم يخدمون الإسلام.
المعنى الإنساني في الخطاب الديني ودور المثقّفين
وسط استطلاعات للرأي في صفوف الفرنسيّين واكبت زيارة البابا إلى فرنسا(1)، تقول بأنَّ غالبيّتهم يشعرون بأنَّ الكنيسة لا تعني لهم شيئاً، وأنّ القواعد الأخلاقية المحافظة للبابا مقطوعة الصلة بالحياة الحديثة.. وقد أطلق البابا المزيد من العناوين الإنسانية مثل دعوته الشباب "إلى بناء حضارة الحبّ، ومساعدة الإنسان في رؤية العالم الذي تجسّده الحكمة والحبّ الأبديَّان".. هل تعتبرون أنَّ هناك أزمة في الخطاب الديني بشكلٍ عام في ظلّ التراكمات الحديثة، وما هي رسالة المثقّفين المسلمين تحديداً أمام التحدّيات والثقافة التجزيئيّة الداخلية، وتالياً، هل توافقون على بناء "حضارة الحبّ" التي طرحها البابا كشعار لا يحمل آلية تفصيليّة.
أمّا بالنسبة للخطاب الديني عند البعض، فنحن نعتقد أنّه في غالبيّته يعيش أزمة، لأنّه لا يزال يعيش في أسلوبه بعض المفردات التي لا تنفتح على إنسان العصر وذهنيّته وتطلُّعاته ومشاكله وآلامه، ولذلك تجمّد هذا الخطاب، وصار لا يؤثّر أحياناً حتى في الوسط الديني.. إنّنا نجد أنَّ الله سبحانه وتعالى أراد للمبلّغين أن يبلِّغوا رسالة الله بالحكمة {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل : 125]، والحكمة هي وضع الشيء في موضعه، بأن ندرس مَنْ نخاطب في أحلامه وآلامه وتطلُّعاته وقضاياه ومشاكله ونقاط ضعفه وقوّته، لنصوغ خطابنا بما يثير كلَّ هذه المسائل، وما يعمل على أساس معالجتها وإعطائها الفكر النيِّر والعاطفة المنفتحة، ولا سيّما في أوساط الشباب، لأنَّ للشباب تطلُّعاتهم المستقبليّة، ولهم دورهم في بناء الحاضر والمستقبل، ولهم مشاكلهم وقضاياهم وأحلامهم وآمالهم. على هذا، فلا بدَّ أن يرى الشباب في الخطاب الديني أنفسهم ذكوراً وإناثاً، ويرى كلّ إنسان أيضاً في هذا الخطاب الأفكار التي تلامس عقله وروحه وحياته.
ونشير هنا، إلى أنَّ هذا الطرح لا يعني أن يسقط الخطاب الديني تحت تأثير المفاهيم المنحرفة الخاطئة، ولكنّي أقول: إنَّ الخطاب الديني ينبغي أن يصوغ أساليبه ومفرداته في إطار الواقع الذي يعيشه الناس، وأعتقد أنَّ المستشارين حول البابا درسوا مشاكل كلّ بلد وكلِّ مرحلة، وعلى أساس ذلك صار البابا يصوغ خطابه بما يستجيب له الشباب في كلِّ يزوره. ونحن نريد للعاملين في سبيل الإسلام، أن يكون خطابهم خطاباً حضارياً من خلال عمق الحضارة الإسلامية، وأن يكون خطابهم إنسانياً، من خلال عمق المعنى الإنساني في الإسلام، وأن يكون واقعياً من خلال ملاحقة كلِّ قضايا الواقع وأوضاعه.
وأمّا فيما يتعلّق بالفقرة الثانية من السؤال عن رسالة المثقّفين المسلمين، فإنَّنا نعتبر أنَّ على المثقّفين المسلمين من علماء دين وغيرهم أن يطلقوا الخطاب الإسلامي في كلِّ الساحات، حتى ولو تنكَّرت كلّ هذه الساحات للدين، لأنّ القضية هي أن نلاحق الناس لنثير اهتماماتهم بالدين من خلال ما نقدّمه من المفاهيم الأصيلة المشرقة للدين، حتّى يتمثّلوا الدين ليفكّروا فيه ويحاوروا في مفاهيمه، ليقتنعوا به في نهاية المطاف.. وعلينا ألّا نتعقَّد من وجود مجتمع لا ينفتح على الدين ولا يتحرّك نحو المسجد، أو لا يستجيب لوعظ الواعظين، على أساس أن نبقى نواجه هذا المجتمع لنخرجه من واقعه السيّئ، ولنلقي الحُجّة عليه لأنَّ الله تعالى قال: {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ} [الكهف : 29] وقال تعالى أيضاً: {وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأعراف : 164] لنفرض أنَّ جميعهم منحرفون، ولكنَّ واحداً بالمئة قد تنفعه الموعظة، فلنجرِّب ولنطرح إسلامنا بين أيدي النس جميعاً، فلعلَّ هناك من تؤثّر فيه الكلمة والموعظة ويعيش عظمة الإسلام ورحابة آفاقه.
أمّا فيما يختصّ بطرح "حضارة الحبّ" فنحن نوافق عليه، ولكن، أيّ حبّ هذا؟ طبعاً، ليس حبّ الجنس، لأنَّ هذا الحبّ ليس حبّاً، بل هو شهوة ونزوة.. ولكن هي "حضارة الحبّ" حبّ الإنسان للإنسان "لا يؤمن أحدكم ـــ حديث نبويّ يربط الإيمان بالحبّ ـــ حتّى يحبّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه"(1) وهكذا، في الحديث المرويّ عن الإمام الصادق (عليه السلام): "وهل الدِّين إلّا الحبّ"(2) وننطلق أيضاً لتكون علاقتنا بالله علاقة الحبّ {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [آل عمران : 31] ويقول سبحانه أيضاً: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ} [البقرة : 165] إذاً، الحضارة الإسلامية قائمةٌ على أساس الحبّ، فهي حضارة الحبّ لله، وحبّ الإنسان للإنسان، وحبّ الإنسان للحياة من خلال مسؤولياته في هذه الحياة. فنحن مع الدعوة إلى إقامة حضارة الحبّ، لأنَّ الله سبحانه يريد للإنسان أن يكون قلبه سليماً من البغضاء والحقد.. وعلينا ألّا نخلط بين الجنس وبين الحبّ، لأنَّ الجنس انفلاتٌ وفوضى إذا ما سار في خطّ الغريزة من دون ضوابط ونظام، وأمّا الحبّ فهو عاطفة إنسانية تنفتح على الإنسان كلِّه، الذي نريده أن يكون حبّاً طاهراً يتحرّك نحو علاقة طاهرة بعيداً عن الشهوة المحرَّمة.
نحن مع طرح "حضارة الحبّ" ولكن ليس حبّ الجنس، لأنَّ هذا الحبّ ليس حبّاً، بل هو شهوة ونزوة، ولكن حضارة الحب، هي حبّ الإنسان للإنسان.
قرآنيّات
هدى ونورٌ
فاتحة الكتاب
لماذا اختيرت فاتحة الكتاب عن سائر السور لكي تُقرأ في كلِّ صلاة؟
عندما ندرس فاتحة الكتاب، فإنَّنا قد نجد فيها اختصار كلّ ما في القرآن بعناوين معيّنة، فهي تتحدَّث في البسملة عن التوجيه الإلهي للإنسان بأنَّ عليه أن يبدأ كلّ شيء باسمه، بحيث يمارس الإنسان حياته في طعامه وشرابه وثقافته وحربه وسلمه وكلّ أوضاعه باسم الله، لأنَّ كلّ أمر لا يُبدأ فيه باسم الله فهو أبتر، وفي ذلك إيحاءٌ بأنَّ وجود الإنسان بكلّ حركته وتفاصيل وجوده منطلقٌ من الله ومرتبطٌ به سبحانه، ولذلك، فهو يتحرّك باسم الله ويسكن باسم الله ويبدأ نومه باسم الله وينفتح على يقظته باسم الله، وعندما يبدأ الإنسان كلماته وأفعاله ومواقفه باسم الله، فإنَّ ذلك يُبقيه في خطّ الله ما دام يمارس حياته باسمه.
وعندما يبدأ الإنسان باسم الله، فإنَّه يبدأه بكلمة (الرحمن الرحيم) ليعيش هذه الصلة الحميمة بالله، وليشعر به سبحانه يُظلّله ويحيطه برحمته، فيشعر بالسكينة والطمأنينة. وهكذا يتحرّك الإنسان بكلمة (الحمد لله) التي تختزن معنى المدح لله، ومعنى الشكر له سبحانه، وكلمة (ربّ العالمين) تجعله يؤمن بأنَّ الله ليس ربَّ فئةٍ دون فئة، حيث تذوب كلُّ القوميات والأعراف والخصوصيات والّلغات أمام الوحدة الإنسانية أو الوحدة الكونيّة، وهذا يكون عندما يُراد من كلمة (العالمين) ما يشمل العوالم الأخرى، حيث يشعر الإنسان مع كلّ الوجود وكلّ الإنسان أنَّه يتوحَّد بالرّب الواحد، الرحمن الرحيم، الذي لا بدَّ أن يقدّم حساب المسؤولية بين يديه، باعتبار أنّه مسؤول في الدنيا، ليقدّم حساب المسؤولية يوم القيامة، حيث هو مسؤولٌ أمامه سبحانه، باعتبار أنّه (مالك يوم الدين).
وهكذا ينطلق الإنسان ليوحّد العبادة لله، فينكر كلّ معبود غير الله، وليوحّد الاستعانة بالله، فلا يلجأ لغيره، ثمّ ليطلب منه أمام اختلاف التيّارات والاتجاهات أن يهديه إلى الصراط المستقيم، الذي هو صراط مَن أنعم عليهم بالإيمان والوعي والانفتاح عليه، وبالعبودية والطاعة له، بعيداً عن خطّ المغضوب عليهم الذين عرفوا الحقّ ولكنّهم جحدوه، والضّالين الذين لم يعرفوا الحقّ.
إنَّ هذه المفردات في سورة الفاتحة، تشمل كلّ مفردات القرآن في عناوينه الرئيسية {وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} [الأنعام : 153].
نجد في فاتحة الكتاب اختصار كلّ ما في القرآن، حيث تشمل كلَّ مفردات القرآن في عناوينه الرئيسيّة.
الهداية
كيف تفسِّرون العدالة الإلهية على ضوء الآية {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ} [القصص : 56]؟
إنَّ معنى أنّ الله يهدي من يشاء ويضلّ مَن يشاء، ليس أنَّ الله سبحانه يعطي الإنسان الهداية بطريقة غير اختيارية، أو يجعل الإنسان ضالّاً بطريقة غير اختيارية.. ولكنَّ الله يهيّئ للإنسان سُبُلَ الهداية، وأنَّ الله يُودع في الكون أسباب الضلال.. ونحن عندما نقول إنَّ الله يرزق مَن يشاء، فليس معناه أنَّ الله يُنزل إلى الناس ما يريدون من رزق من السماء بطريق مباشر، وإنَّما يُهيّئ لهم أسباب الرزق في الخارج وفي أنفسهم، فالله يرزقنا من حيث إيجادُه وخلُقه للوسائل التي تؤمّن لنا الرزق والحصول عليه، وقد نسب الله الأمر إلى نفسه، لأنَّه السبب الأعمق، فهو خالقنا وخالق الرزق والذي هدانا إلى ذلك. وكذلك في عملية الخلق التي لا تتمُّ بشكلٍ مباشر، وإنَّما تتمّ بالوسائل المعروفة التي أوجدها الله تعالى في الحياة وبها نحصل على نعمة الوجود.
وهكذا في مسألة الهداية، فالله تعالى أعطانا عقلاً وسمعاً وبصراً ولساناً وقال للإنسان: حرِّك كلّ هذه الوسائل في سبيل الهداية، حاول أن تنظر وتسمع وتفكِّر {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك : 10] ولذلك، لو أخذنا بأسباب الهداية لاهتدينا في داخل وجودنا، خصوصاً وأنّه سبحانه أرسل بنا رسلاً عرَّفونا طريق الهداية. وعلى هذا الأساس، فإنَّ الله سبحانه يريد للإنسان أن يتحرّك باختياره، فيعطيه الهدى، وإذا لم يقبل، فإنَّه سبحانه يتركه لنفسه، وإذا وَكَلَ اللهُ الإنسانَ إلى نفسه ضاع وضلَّ.
إنَّ الله سبحانه يريد للإنسان أن يتحرَّك باختياره فيعطيه الهدى، وإذا لم يقبل يتركه لنفسه.
الحرص على الهداية
{إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ} [النحل : 37]، كيف نفهم حرصَ الرسول على هداهم في هذه الآية، مع أنَّ الآية توضح بأنَّ الله لا يهدي مَنْ أحبَّ الضلالة على الهُدَى؟
هذه الآية ـــ والله العالم ـــ واردةٌ في مقام تسلية قلب النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وربطه بالواقع، حتى لا يعيش الألم النفسي تجاه الذين لا يؤمنون بالله سبحانه. فيقول سبحانه: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً} [الكهف : 6]، ويخاطبه تعالى بالقول أيضاً: {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر : 8]، وفي آيةٍ أخرى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام : 33]، فكان النبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ـــ ككلِّ الأنبياء (عليهم السلام) ـــ يؤمن برسالته ويحبُّ الله، لذلك كان يريد للنّاس بأجمعهم أن ينفتحوا على الله، وكان يتألّم إذا لم يؤمنوا به، لا من خلال ذاته، ولكن من خلال ما يعيشه من ألمٍ حبّاً للنّاس، لأنّه يحبّ لهم أن يسيروا في الطريق الذي يجلب لهم السعادة في الدنيا والآخرة. وعلى هذا، فالآية تشير إلى أنَّ الهداية بيد الله {إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ} [النحل : 37] هذا من حقِّك، وهذه ميزةٌ وقيمةٌ رساليّةٌ لك، ولكن عليك أن تعرف أنَّ عناصر الهداية خاضعةٌ لإرادة الله سبحانه، فأنتَ هناك كلمتك وأسلوبك وأخلاقك، ولكن هناك عناصر داخل الأشخاص تجعلهم يتمرّدون، ومن هنا، فإنَّ الله يترك للأمور أن تجري حَسْبَ السُنَن الطبيعيّة، فكان هناك مَن اختار الضَّلال، وإذا اختار الإنسان خطَّ الضلال فإنّه يتركه لنفسه، وإذا تركه لنفسه فلا سبيل له للهداية بعد ذلك.
إذا اختار الإنسان الضلال، فإنَّ الله يتركه لنفسه، وإذا تركه لنفسه فلا سبيل له للهداية بعد ذلك.
استجابة الدعاء
تقول الآية الكريمة: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر : 60] لمن يستجيب الله الدعاء؟
في هذه الآية الكريمة توجيه للإنسان، بأنَّ الله سبحانه لا يُغلق بابه عن أحد، فهو يستجيب للإنسان إذا دعاه، وهو تعالى يطلب من الناس أن يدعوه، ولكن، لمّا كان الدعاء رحمة للإنسان، فإنَّ الله يستجيب دعاء الإنسان إذا كان فيه مصلحة له، لأنَّ الإنسان قد يدعو بأمر يعلم الله أن لا مصلحة له فيه أو يضرّ غيره به.. وقد لا يستجيب الله الدعاء للإنسان، إذا كان هذا الدعاء لا ينسجم مع السنن الكونية التي أودعها الله في الحياة، وكذلك قد لا يستجيب الله دعاء الإنسان في الأمور التي جعل حلّها بيده.
وقد قال الإمام الصادق (عليه السلام): "أربعةٌ لا يُستجاب لهم: دعاء رجل جالس في بيته يقول: يا ربّ ارزقني، فيقول له: أَلَمْ آمرك بالطلب، ورجل كانت له امرأة فدعا عليها، فيقول: أَلَمْ أجعل أمرها بيدك، ورجل كان له مالٌ فأفسده، فيقول: يا ربّ ارزقني، فيقول له: أَلَمْ آمرك بالاقتصاد، ورجلٌ كان له مالٌ فأدانه بغير بيّنة، فيقول: أَلَمْ آمرك بالشهادة"(1).
فالله تعالى لا يستجيب لك دعاءك عندما لا تأخذ بما أراد الله لك أن تتحرّك فيه بجهدك لتطلب من الله أن يحقّق لك ذلك، وأنتَ قادرٌ بما هيّأه الله لك من الظروف أن تفعل ذلك.. إنَّ الدعاء هو من الحالات التي تفقد فيها قدرتك على تحقيق ما تريد، فتطلب من الله أن يحرِّك قدرته لقضاء ذلك.
قد لا يستجيب الله الدعاء للإنسان، إذا كان هذا الدعاء لا ينسجم على السنن الكونية التي أدوعها الله في الحياة.
الظنّ واليقين
{فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ(1) اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ*إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيهْ*فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} [الحاقة: 19 ــ 20 ــ 21]، نعرف أنّ الظنّ يحملُ الشكَّ في داخله، فكيف نوفّق بين استبشار الإنسان بالجنّة وبين ظنِّه؟
السائل يريد القول، لا بدَّ للإنسان أن ينطلق في خطِّ العمل من يقين، ولذا، فإنَّ الذي أُعطي كتابه بيمينه وهو علامة الفوز بالجنّة والحصول على رضى الله سبحانه، بعد أن قدّم تقريره عن عمله في الدنيا، لا بدَّ أن يقول إنّي تيقَّنت أنّي ملاقٍ حسابيه لا أن يقول {إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيهْ}، لأنَّ الظنّ يكون بنسبة ستين أو سبعين بالمائة، ولأنَّ هذا الإنسان كان مؤمناً، فكلمة (ظننت) ربّما تكون إشارة إلى أنّ الإنسان لا بدّ له أن يعمل لملاقاة موقف الحساب غداً بين يديّ الله تعالى. ومن هنا، يجب على الإنسان أن يعمل ولو لم يكن متيقِّناً مئة بالمئة وكان عنده احتمالٌ أو ظنُّ بالموضوع. فالإنسان بحسب طبيعته، وفي مجال تفادي الأخطار التي يمكن أن تصيبه باحتمال نسبة عشرين أو ثلاثية بالمئة فإنَّه يتراجع فحكم العقل يحكم على الإنسان إذا ظنَّ الضّرر في موقع أن يجتنب موقع الضرر ويحتاط لنفسه منه. ولذلك يُقال إنَّ الإمام الصادق (عليه السلام) عندما كان يناقش ويجادل الزنادقة والكفّار، جاءه شخص منهم يُنكر اليوم الآخر، فقال له الإمام (عليه السلام): "إذا كان الأمر كما نقول وهو كما نقول ـــ أي أنَّ هناك جنّة وناراً ـــ نَجَوْنا وهلكتم، وإنْ كان الأمر كما تقول وهو ليس كما تقول ـــ أي ليس هناك بعثٌ ولا حسابٌ ـــ نجونا ونجوتم"(1).
وعلى هذا، فالإنسان عندما يعيش ولو في عالم التصوُّر أنَّ من الممكن أن يكون هناك جنّة ونارٌ وحساب وعقاب وثواب، فلا بدَّ له أن ستعدّ في الدنيا لمواجهة ذلك في الآخرة، حتّى إذا كانت هذه المسائل حقيقية ـــ وهي حقيقيّة ـــ أمكن له أن يتفادى الأخطار التي تواجهه في يوم القيامة بين يديّ الله تعالى.
حكم العقل يحكم على الإنسان إذا ظنّ الضّرر أن يجتنب مواقعه ويحتاط لنفسه.
الإسلام
"إنَّ الدين عند الله الإسلام" الذي جاء به محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ومن قبله موسى وعيسى عليهما السلام)، فهل أنَّ أهل الكتاب هم من المسلمين؟
إذا كان الدين عند الله الإسلام، فالدين في زمن موسى (عليه السلام) هو الإسلام، فمن انحرف عنه لم يكن مسلماً، والدين في زمن موسى (عليه السلام) هو الإسلام، فمن انحرف عنه لم يكن مسلماً، وهكذا في زمن محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فمن انحرف عنه فقد انحرف عن الإسلام. لذلك نقول: إنَّ الذين ينتمون إلى أهل الكتاب ولا يدخلون في الإسلام، هؤلاء ليسوا مسلمني، لأنَّ الإسلام يقضي بأن يتّبعوا أمر الله، والله يأمرهم أن يتّبعوا رسولَ الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ويتبعوا القرآن الذي يجمع خصائص التوراة والإنجيل، وخصائص دين موسى وعيسى (عليهم السلام)، ولأنّهم لا يتّبعون الرسول ولا القرآن فهم ليسوا مسلمين {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران : 85]، كما أنَّه مَنْ يبتغِ غير دين موسى وعيسى في زمنهما فلن يُقبل منه، كذلك من يبتغِ غير دين محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في زمانه فلن يُقبل منه.
مَن يبتغِ غير دين موسى وعيسى (عليهما السلام) في زمنهما فلن يقبل منه، كذلك مَنْ يبتغِ غير دين محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فلن يُقبل منه.
المكابدة
{لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ [البلد : 4]، ماذا نستوحي من هذه الآية المباركة؟
كلمة "كبد" تمثّل الجهد والتعب والمعاناة، فالإنسان يعيش جنيناً في بطن أُمّة في أجواء صعبة، تحيط به الأخطار من جميع الجهات، ثمّ تأتي مرحلة الولادة، وبعدها يخرج إلى الدنيا فيكبر ويواجه الآلام والأمراض والمشاكل والحروب والمنازعات، وهذا كلُّه جزءٌ من عملية خلق الإنسان في تدرّج وجوده. ولذلك لا بدَّ له أن يحرّك قوَّته وطاقته من أجل أن يتحمّل كلَّ هذه المعاناة، ليحوّل معاناته في داخل ذاته من أجل حماية وجوده ومصيره(1).
وقد قال الله تعالى: {أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ*أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ*وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ*وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: 7 ـــ 10]، خلق له عينين يُبصر بهما، ولساناً وشفتين لينطق بهما، وهداه طريق الخير وطريق الشرّ، ليواجه كلّ الآلام والمعاناة {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} [البلد : 11]، هل تمرّد على الصعوبات، وهدم الحواجز بينه وبين الله؟ {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ ــ الحياة مليئةٌ بالتعب والجهد والعمل ـــ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً ـــ في عملك وطاعتك وجهادك ـــ فَمُلَاقِيهِ} [الانشقاق : 6]، فكيف تلاقيه؟ {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ*وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة: 7 ـــ 8].
على الإنسان أن يحرّك معاناته في داخل ذاته من أجل حماية وجوده ومصيره.
القول والفعل
{كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف : 3].. كيف نفهم تلازم حركة القول والفعل في حياة الإنسان؟
إنَّ الله تعالى يريد للإنسان أن يكون صادقاً بالقول وصادقاً في العمل، لأنَّه سبحانه يريد له أن يتحرّك على أساس قاعدة الحقّ.. والحقُّ في الكلمة، هو الطريق إلى الحقّ في الفعل، والفعل يبدأ فكرة تتمثّل في الكلمة تهزُّ أعماق الإنسان فتتحوّل إلى فعل. لذلك مَنْ قال الحقّ وفعل الباطل، فإنّه يعيش إنكار الحقّ بفعله، وإن كان يُقِرُّ بالحقّ بقوله، وهو بهذا يمثّل حالة النفاق. وهذا الموقف هو أكبر المقْت عند الله تعالى، فالله يمقت هذا الإنسان لأنّه منافق من خلال هذين الموقفين، موقف الكلمة الذي يُعلن الحقّ، وموقف الفعل الذي يتحرّك بالباطل.
إنَّ الله تعالى عندما يطلب من الإنسان أن يقرن القول بالفعل، فلكي يجسّد كلمته في عمله وموقفه وموقعه، لأنَّ الكلمة لا قيمة لها إذا لم تتحوّل إلى جزء من إنسانيّته وحياته، حتى أنَّ مسألة الإيمان والعمل الصالح، فإنَّ الله لا يقبل منه إيماناً يبقى حركةً وكلمة في الّلسان، بل يقبل منه إيماناً يتحرّك في حياته وواقعه، ليكون سلوكه تجسيداً عملياً في حياته. لهذا، فإنَّ الذين يقولون الحقَّ ويفعلون الباطل، هؤلاء هم الكاذبون في حركتهم في الحياة، وهم الذين يخدعون الناسَ بكلماتهم ليحصلوا على الثقة من خلال ذلك، حتى يستطيعوا ربطهم بالباطل. إنَّنا نقول دائماً: لا تنظروا إلى كلمات الإنسان وطريقة كلامه، ولكن انظروا إلى تجسيد الكلمة في سلوكه وحياته، وهذا ما جعل من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأئمّة الهداة من أهل بيته (عليهم السلام) القدوة والأسوة الحسنة، حيث كانوا القرآن الناطق إلى جانب القرآن الصامت {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب : 21]، تأسُّوا به، لأنَّ عمله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يجسِّد رسالته، وقد قالت إحدى زوجاته وهي تتحدَّث عن خُلُقه مختصرة ذلك بكلمة واحدة: "كان خُلُقه القرآن"(1).
لا تنظروا إلى كلمات الإنسان وطريقة كلامه، ولكن انظروا إلى تجسيد الكلمة في سلوكه وحياته.
الأمل المنفتح على الله
عندما تحاصرنا التحدِّيات لتسقطنا، كثيراً ما تستشهدون بالآية المباركة {يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ} [يوسف : 87]، ما الذي نستوحيه من هذه الآية المباركة؟
إنَّ الإنسان الذي تواجهه المشاكل لتوحيَ إليه باليأس، تأتي الثقة بالله لتنقذه، فعندما تتجمَّع في حياته كلُّ عناصر اليأس في أيِّ موقع من المواقع، وتعمل على أن تُسقط منه الأمل، وتبتعد به عن الله تعالى، عليه في هذه الحالة ألاَّ يتجمَّد مُفسحاً في المجال أمام أجواء اليأس لتسيطر عليه، أو أن يجلس في بيته نادباً حظَّه. ومن هنا أثار نبيُّ الله يعقوب (عليه السلام) لأولاده بأن يبحثوا عن أخيهم يوسف (عليه السلام) لعلَّهم يجدون له أثراً في حركتهم {وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ} لا تيأسوا من رحمة الله ولطفه وممّا يفيضه على عباده من حنانه ولطفه وتدبيره للأمور، وإخراجه للقضايا من ظلمة اليأس إلى نور الأمل {إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} الذين يقفون أمام قضاياهم في الحياة بلا أمل.
وهنا أُخاطب جيل الشباب الذي يعيش العُقَد النفسيّة أمام المشاكل التي تعترضه، سواء المشاكل التي تتّصل بوضعه العاطفي أو الاقتصادي أو الأمني، لأقول له أن يستذكر هذه الآية، وإنَّ عليه مهما اشتدّت الضغوط وقَسَتِ الأمور وحُوصِر بالمشاكل، أن يعرف أنَّ هناك أملاً حيث لا أمل، وأنَّ هناك مخرجاً حيث لا مخرج، وكلُّ ذلك بيد الله تعالى.
وأقول أيضاً: هناك مفاجآت في علم الله أنتَ لا تعلمها، لأنَّ تجربتك الآن تعيش في دائرة إمكاناتك في الحياة، ولكنَّ هنك آفاقٌ أخرى لم تبلغها تجربتك، وهي موجودةٌ في علم الله، لذلك إنَّ عليك أن تثق بالله أكثر من ثقتك بالوسائل التي تملكها، وأكثر من الناس والظروف التي تحيط بك، لأنَّ الله أكبر من ذلك كلّه، وهو الذي خلق الوسائل والظروف والناس، وهو القادر على أن يبدِّل ذلك كلّه في خلق جديد وأُفق جديد. وهذا ما ينبغي لكلِّ الناس الذين يتحرّكون في الحياة في داخل الظروف الصعبة أن يعرفوه بأنَّ الحياة كلّها تجربةٌ دائمةٌ متحرِّكة، وأنَّ فشل ألف تجربة لا يعني فشل الفكرة وفقدان الأمل، وأنَّ عليهم أن يبدأوا التجربة بعد الألف ليتابعوا، وعند ذلك سيصلون إلى النتائج الكبيرة باعتبار أنَّ للمشاكل شروطاً في حلِّها، تماماً كما أنَّ للوجود شروطاً، فكما أنّ الطفل لا يُولد إلّا بعد تسعة أشهر، كذلك بعض المشاكل قد يستغرق حلُّها تسع سنين أو عشر سنين، لذا ينبغي للإنسان أن يواجه القضايا مواجهةً مملوءةٌ بالأمل المنفتح على الله في كلِّ أموره.
ينبغي للإنسان أن يواجه القضايا مواجهة مملوءةً بالأمل المنفتح على الله.
أمانة المسؤولية
عندما رفضت السموات والأرض حَمْلَ الأمانة ورضي الإنسان بحملها ولكنَّه {كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب : 72] هل كلُّ إنسان تنطبق عليه صفة الظلم والجهل؟
هذا السؤال، إشارةٌ إلى الآية الكريمة {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب : 72]، وهذه الآية واردةٌ على نحو التخييل والكناية والاستعارة، لأنَّ السماوات والأرض جمادات لا تنطق كما هو الظاهر من وجودها، ولكنَّ القرآن أراد للإنسان أن ينظر إلى السماوات بضخامتها، والأرض في امتدادها، والجبال في صلابتها وارتفاعها، ليعرف أنَّ الله تعالى عندما عرض عليها المسؤولية لتتحمَّلها بما أراد لها من دورٍ في الحياة، فإنَّها ضعفت أمام المسؤولية، وتوسَّلت إلى الله تعالى أن يركِّز لها في وجودها ما تستطيع أن تقوم به من دور. أمّا الإنسان الذي خلق الله له عقلاً واعياً ولساناً ناطقاً وأُذناً سميعة، وعيناً باصرة. وأعطاه ما يستطيع من خلاله أن يصل إلى الحقائق ليعرف الله تعالى، ويدرك مسؤوليّاته بما وهبه من إرادة، فإنَّه وبعد قبوله بتحمّل المسؤولية تنفيذاً لأوامر الله وابتعاداً عمَّا نهى عنه، وسيْراً في خطِّه، وعندما واجه التجربة سار في خطِّ الجهل بعدما كفر وضلَّ وفسق وعصى وتمرَّد على ربِّه.
وليس المقصود بالإنسان كلّ إنسان، فالأنبياء لم يكونوا جاهلين ولم يظلموا أنفسهم، وهكذا الأولياء والمؤمنون الصالحون. وعلى هذا، فالقرآن أراد الحديث عن مسألة ظلم وجهل الإنسان من خلال نوع الإنسان، لا كلّ إنسان.
عندما واجه الإنسان التجربة سار في خطّ الجهل وعصى وتمرَّد على ربِّه.
البِرّ
{لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران : 92]، ماذا نستوحي من هذه الآية المباركة؟
نستوحي من هذه الآية المباركة، أنَّ الصدقة والخير والعطاء مفرداتٌ تنطلق من روح الخير في نفس الإنسان، وأنَّ على الإنسان إذا أراد أن يعبِّر عن البرِّ والخير وعن روح العطاء في نفسه، وعن التعاطف مع الآخر، عليه أن يعطي الشيء الذي يحبُّه، لا أن يعطي الأشياء التي يريد التخلّص منها، أو رميها لأنّها لا تنفعه. إنَّ على المحسن الذي يعيش في ذاته فكرة البرِّ أن يُعطي ما يحبُّ من الطعام أو المال أو الأثار وما إلى ذلك، ليؤكِّد روحية العطاء في ذاته، وروحية الخير في قناعاته(1).
على من يعيش فكرة البرّ أن يعطي الشيء الذي يحبّه.
الأخسرون أعمالاً
يرى البعض أنَّهم يُحْسِنُون صُنْعاً في أعمالهم في وقتٍ ينطلق عليهم القول القرآنيّ بأنّهم الأخْسَرون أعمالاً، مَنْ هم برأيكم؟
إنَّ الله سبحانه وتعالى يريد للإنسان أن يدرس نفسه دائماً ويفهمها، ودراسة النفس إنَّما تكون بمحاسبتها ومحاكمتها ومجاهدتها، حتى لا يغترّ الإنسان ولا تتضخَّم وتتورَّم شخصيّته. وهذا التورّم في الذّات يحدث للناس الذين يتعبَّدون لذواتهم من الرجال والنساء الذين يقفون أمام المرآة طويلاً، ليتغزَّلوا بجمالهم وليحدِّقوا في لون عيونهم وبياض وجوههم، هؤلاء يعشقون أنفسهم بطريقة مَرَضيّة معقّدة، لأنّهم لا ينظرون إلى المرآة ليكتشفوا أنفسهم، ولكن ليتعبَّدوا لها.
إنَّ على الإنسان أن يدرس نقاط الضعف ونقاط القوّة، ليفهم طبيعة نقاط ضعفه ويعرف كيف يحوّلها إلى نقاط قوّة، وليفهم نقاط القوّة ليعرف كيف يستزيدها وينمّيها، أمّا هؤلاء {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً* الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف : 103 ـــ 104]، هؤلاء المغرورون بأنفسهم غير مستعدّين أن يتعلَّموا ما يجهلون، ولم يفكّروا أن يستمعوا للمواعظ والإرشادات التي تصحّح لهم أخطاءَهم وتقوِّم لهم سلوكهم وتُصلح لهم طريقهم، هؤلاء المغرورون الذين أغلقوا قلوبهم، هم مَنْ ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة، لأنّهم لم يستمعوا إلى كلمة الحقّ، وأصمُّوا آذانهم عن الموعظة الحَسَنَة، معتبرين أنفسهم أنّهم على الحقّ، ولكنّهم هم على خطّ الباطل(1).
وقد وَرَدَ في بعض الأحاديث "المؤمن نفسه ظنونٌ عنده" ومعنى "ظنون" أي مُتَّهَمَة، فالمؤمن يضع نفسه في دائرة الاتهام دائماً ليكتشف خطاياه وينطلق ليصحّحها. ونحن لا نقول بأنَّ على الإنسان أن يُسقط نفسَه عند نفسه، ولكن عليه أن يواجه نفسه من خلال أفكارها والتزاماتها العقيدية وسلوكها العملي، ليعيش معها بطريقة واقعية واعية، لا أن يكون كما قال الشاعر(2):
أُعيذُها نظراتٍ منك صادقة أنْ تَحْسبَ الشَّحْمَ فيمَنْ شحمُهُ ورَمُ
بعض النّاس يعتقدون بأنَّهم مملؤون بالشحم الفكري والروحي والعملي، ولكنَّ ذلك ورمٌ في الروح والعمل، وكلّنا يعرف الفرقَ بين الشحم وبين الورم، فالورم هذا لا يمثّل عنصراً حقيقيّاً في داخل وجود الإنسان.
بعض النّاس يعتقدون بأنّهم مملؤون بالشحم الفكري والروحي والعمليّ، ولكنّ ذلك وَرَمٌ في الروح والعمل.
التقوى والسعي
{وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً} [الطلاق : 2]، حتى يخرج الإنسان ممّا هو عليه، ألَا يجب عليه السعي لذلك، أم أنَّ التقوى تفتح كلَّ السدود أامه، وباختصار كيف نفهم هذه الآية المباركة؟
عندما ينسب الله تعالى أيَّ أمر لنفسه، فليس معناه أنَّه سبحانه يحقّقه بشكلٍ مباشر، ولكن معناه، أنَّ الله يهيِّئ للإنسان الأجواء والظروف التي يستطيع من خلالها أن يحصل على النتائج الطيّبة باختياره، لأنّه سبحانه يعطي للإنسان من لطفه ما يفتح له الطرق ليسير عليها، ويعطيه الفكرة التي تضيء له طريقه، أو يُهيِّئ له الأشخاص الذين يساعدونه في تحقيق ما يريد تحقيقه ليتحرّك في الاتجاه السليم من خلال الظروف التي تساعده في ذلك. فمعنى أنَّ الله يجعل له مخرجاً، ألّا ينتظر فتح الباب وهو واقفٌ بلا حراك، دون أن يعالج فتحه بوسائله الخاصة، بل يبادر إلى ذلك بما أعطاه الله من قدرات ليذلّل الصعوبات التي تعترضه.
لذلك، فإنَّ المسألة تنطلق من أنَّ التقوى تجعله قريباً إلى الله، وواعياً لمسؤولياته في الحياة، بحيث ينفتح على الله في حاجاته وقضاياه وآلامه، ممّا يلطف به الله ويرحمه أكثر في مسيرته التي يتحرّك فيها نحو أهدافه وحاجاته. فالآية الكريمة لا توحي للإنسان بالخمور والكسل والاتّكالية، بل إنّها تقول للإنسان، أن ينطلق في عمله على أساس تقوى الله، وأنّه تعالى سيهيِّئ له في عمله من ألطافه ما يسهِّل عليه الطريق ويخفِّف عنه المشاكل، وقد ورد في الأحاديث الشريفة أنَّ الإنسان الذي يجلس في بيته ويطلب من الله ويدعوه لأن يرزقه، فإنَّ دعاءه لا يُستجاب، لأنَّ الله سبحانه أمر بالسّعي والطلب، وقد قال سبحانه {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} [الجمعة : 10]، فبعد الصلاة انطلقْ واسْعَ وانتشر واطلب من الله أن يعطيك من فضله ما يسدُّ حاجتك {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ} [الملك : 15]، كلوا من رزقه من خلال السعي، لا من خلال الإتكالية، فالتقوى إذاً، تفتح للإنسان آفاق الّلطف الإلهي والرحمة الإلهيّة التي تيسّر له كلَّ عسير.
التقوى تفتح للإنسان آفاق الّلطف الإلهي والرحمة الإلهيّة التي تيسِّر له كلَّ عسير.
الفتنة
يقول تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج : 10]، ما هي معالم الفتنة في هذه الآية؟
الظاهر أنَّ المراد من فتنة المؤمنين فتنتهم عن دينهم، وذلك بالعمل على ممارسة كلّ الضغوط القاسية، سواءً كانت ضغوطاً مادية او معنوية، من أجل أن يتركوا دينهم، وينحرفوا عن إيمانهم، وقد قال تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة : 191]، يعني فتنة المؤمنين عن دينهم {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة : 193]، أي فتنة عن الدين. فمعالم الفتنة هي هذه الضغوط التي تمارَس ضدّ المؤمنين من هنا وهناك، وهذا هو دور المخابرات الإقليميّة والمحليّة والدوليّة التي تعمل على فتنة المسلمين عن دينهم وعن مواقفهم، وذلك بإثارة الشبهات والمشاكل فيما بينهم، وإثارة الأضاليل في داخلهم، وإثارة الفتن فيما بينهم.
دور المخابرات العمل على فتنة المسلمين عن دينهم، وذلك بإثارة الشبهات فيما بينهم، وإثارة الأضاليل والفتن في داخلهم.
الروح
{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء : 85]، هل نفهم من هذه الآية أنَّ الله تعالى يمنعنا من البحث في ماهية الروح؟ ثمَّ ما هو السرُّ الذي يربط الروح بهذا الوعاء المادي ويجعلهما متكاملين؟
إنَّ الله تعالى لا يمنعنا من أن نبحث في الروح، ولكنّه سبحانه يخبرنا بأنّنا لا نملك الوسائل التي نستطيع من خلالها فهم حقيقة الروح، لأنَّ الروح مسألة لا تدخل تحت التجربة الحسيّة ليُمكِننا أن نتعرَّف طبيعتها، فنحن نعرف وجودَها، ولكن ما هي حقيقتها، فإنّنا لا نملك الآلية والوسائل التي تعرّفنا ذلك. أمّا السرّ الذي يربط الروح بهذا الجسم المادي، فمن الطبيعي أنْ ليس هناك انفصالٌ بين الروح والمادة، ولكن طبيعة العلاقة أمرٌ لا نملك معرفته بشكلٍ تحليليّ حسّي، ولكنّنا نعرف أنَّ هذا الوجود الإنسانيّ مُركَّبٌ من روح ومادة {إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِن طِينٍ*فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [ص: 71 ـــ 72]، هو الإنسان قبضةٌ من الطين ونفخةٌ من روح الله(1)، ولا يعلم سرَّ هذه التركيبة في هذه العلاقة بين المادة والروح إلّا الله {وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} [الإسراء : 85].
ليس هناك انفصالٌ بين الروح والمادة، ولكن طبيعة العلاقة، أمرٌ لا نملك معرفته بشكلٍ تحليليّ حسّي.
زمن سكوت أم مواجهة؟
يقول تعالى: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [النور : 57]. نرى أنَّ الكفر أمسك بكلِّ مفاصل الحياة، وصار الاستكبار قوّة عظمى لا تدانيها قوّة على المستوى المادي.. وهذا ما جعل البعض ينكفئ عن المواجهة تحت عنوان: "هذا زمن السكوت والقعود في البيوت وذكر الحيّ الذي لا يموت"!
هذا النصّ القرآني يوحي بأنَّ الكفّار لا يُعجزون الله أبداً، وأنّه سبحان لو أراد إنزال العذاب بهم، أو أراد هزيمتهم وإضعافهم، فإنَّهم لا يستطيعون أن يجدوا ناصراً ينصرهم منه، ولكنَّ الله أجرى سُنّته في الكون على قاعدة أن يتحرّك الإنسان في موازين القوّة والضعف، وذلك بالوسائل الطبيعيّة التي أوجدها في هذا الكون، وقد قال سبحانه: {وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران : 140]، وقد قال تعالى أيضاً: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران : 26]، فالله يُجري الحياة على حساب القوانين الطبيعيّة والسُّنن التاريخية التي أودعها في الكون والإنسان.. ولذلك، فليس المعنى أنَّهم استطاعوا أن يُعجزوا الله في الأرض، إنَّ سُنّة الله في ذلك لا تجعلهم ضعفاء بطريقة إعجازية. أمّا مسألة الذين يقولون: "هذا زمن السكوت والقعود في البيوت وذكر الحيّ الذي لا يموت"، فهذا أمرٌ بعيدٌ عن سُنّة الله، لأنَّ الله سبحانه قال: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج : 40] ، ويقول تعالى: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد : 7]، وقال أيضاً: {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ} [النساء : 75]، وهكذا، فإنَّ الله يريد للمستضعفين أن يعملوا على صنع القوّة من خلال العناصر الموجودة تحت تصرّفهم ليواجهوا المستكبرين. وقد حدَّثنا سبحانه أنَّ المستضعفين قادرون في وقتٍ أو آخر على الانتصار، حيث قال تعالى: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص : 5]، لذلك مَنْ يدعو إلى السكوت والقعود في البيوت هو يدعو إلى غير ما يريده وما يحبّه الله سبحانه.
يريد الله للمستضعفين أن يعملوا على صنع القوّة ليواجهوا المستكبرين.
مهمّة العبادة: بناء الذّات والحياة على الصورة التي يحبّها الله.
يقول الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات : 56]، فهل أنّ الله تعالى خلق هذا الكون وما فيه لعبادته وحسب، بالرغم من أنَّه تعالى لا يحتاج عبادتنا، وما قولكم في هذه المسألة؟
إنَّ "اللام"، تأتي تارّةً للغاية والهدف، لمصلحة الفاعل، وأخرى تأتي لمصلحة الشخص الموجَّه إليه الكلام هذا {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات : 56]، فتارةً هدفي أن يعبدوني لحاجتي لذلك، وحاشا لله أن يكون بحاجة لعبادة عباده. وتعني الآية، تارةً أخرى وهو المعنى المقصود، أنّي خلقتهم لمهمّة العبادة، باعتبار أنَّ العبادة تجعلهم يعرفون الله أكثر وينظّمون الحياة على قواعد سليمة أكثر. فهذا الوجود الذي خلقه الله، بما فيه من سماء وأرضٍ وبحار وأنهار وثروات، لا بدّ من وجود من يعمّره ويبنيه ويحرّكه في الخطّ المستقيم. ولا إشكال بأنَّ العبادة لا تعني الصلاة والصوم وبقيّة الواجبات فقط، بل تعني أيضاً السير في الحياة، أن نبني الحياة على الصورة التي يحبّها الله، وأن نبني الأرض على الشكل الذي يرضى الله عنه، فنعطي الحياة شيئاً من حياة قلوبنا وعقولنا وطاقاتنا من أجل أن تكون ع لى الصورة الأفضل. ولذا، فليس صحيحاً أن يكون الله تعالى قد خلق الجِنّ والإنس إلّا ليعبدوه من خلال حاجته إليهم، لأنّه سبحانه وتعالى يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر : 15]، الله تعالى لا يحتاج أحداً، بل البشر محتاجون إليه، وإنَّ عبادتهم له سبحانه مهمّةٌ تنطلق من حكمته تعالى.
هذا الوجود الذي خلقه الله، لا بدَّ من وجود مَن يعمّره ويبنيه ويحرّكه في الخطّ المستقيم.
الزينة
يقول تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور : 31]، يُفهَم من المدلول الّلغوي لكلمة "الزينة" الأدوات التجميليّة الخارجية التي تستخدمها المرأة، وهذا يعني أنّه يجوز لها إظهار الزنية التي تضعها على وجهها. السؤال: علامَ استند المفسّرون أنّ المقصود بالزينة الوجه والكفّان؟ فالوجه هما من أعضاء المرأة وليسا شيئين خارجيْن عنها حتى تتزيَّن بهما؟
كلمة الزينة تعني كلّ ما يكون مظهراً يتزيَّن به الإنسان، سواءً كان من داخل جسده أو خارجه، والدليل على ذلك {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف : 46]، فالله تعالى اعتبر المال والبنون زينة. وعلى هذا، فالعينان في وجه الإنسان من أنصع مظاهر الزينة، والوجه في تقاطيعه، أيضاً من أرفع مظاهر الزينة، ولذا، فالزينة تعني الجمال في هذا المقام، ولا إشكال إذاً، بأنَّ الوجه والكفّين هما من الزينة. وهذا ما ورد عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) في تحديد {مَا ظَهَرَ مِنْهَا} فالزينة الظاهرة بطبيعتها هي الوجه والكفّان الّلذان تحتاجهما المرأة في قضاء حوائجها وتدبير أمورها الحياتية في المجتمع.
الزمان والمكان
ما قيمة الزمان والمكان في القرآن والفكر الإسلامي، من حيث الجانب العبادي والجانب التأمّلي؟
عندما ندرس الزمن من خلال أنَّه أوقاتٌ متتابعة تتمثّل في الثواني والدقائق والساعات والأيام والّليالي والشهور والسنين، نرى أنَّ الزمن يشبه بعضه بعضاً، لا فضل ولا خصوصيّة لزمنٍ على زمن، فالأيام والّلحظات مثل بعضها في طبيعتها الذاتية، وهكذا عندما نتطلّع إلى المكان. ولكنَّ الله تعالى الذي خلق الكون، أعطى لبعض الأزمنة معنًى وخصوصيّة، وأراد لعباده أن يتحسّسوها في أعمالهم {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [التوبة : 36]، فالله عندما قَسَّم السنة إلى شهور من خلال ما أودعه في الطبيعة من الأهِلَّة التي تحدِّد الشهور، اختار أربعة أشهر حرَّم فيها القتال، وجعلها أشهر سلام، وهي ذو القعدة وذو الحجّة ومحرَّم ورجب، وأراد للنّاس أن يعيشوا السلام فيها. وهكذا نجد أنّ الله سبحانه جعل شهر رمضان، شهراً للروح والانفتاح على تهذيب النفس، ولتقوية الإرادة، وما إلى ذلك، وخصَّ هذا الشهر بأنْ أنزل فيه القرآن. واختصَّ سبحانه بعض الأيام بأنْ جعلها عيداً، يفرح الناس فيه فرحاً روحياً، فجعل عيد الفطر ليفرح الناس بتوفيقهم لطاعة الله، وجعل عيد الأضحى عيداً ليفرح الناس فيه بالتضحية في سبيل الله، التي تتمثّلها تجربة إيراهيم (عليه السلام)(1). فقداسة الزمان، إنَّما جاءت من خلال ما أعطاه سبحانه لهذا الزمان من حيويّة وخصوصيّة، وبما أودع فيه من بعض الخصائص المتّصلة بمسؤوليّاتنا وأعمالنا، حتى نعيش الإحساس بخصوصيّته من خلال القيام بكلِّ ما أودعه الله فيه من هذه الخصائص لعبادية والروحية والاجتماعيّة والنفسية.
وقد اختصّ الله تعالى بعض الأمكنة بقداسة معيّنة، مثل طور سيناء، حيث واعَدَ الله موسى (عليه السلام) بلقائه هناك عند الجبل {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسَى صَعِقاً} [الأعراف : 143]، ومثل بيت المقدس الذي باركه وبارك ما حوله. وقد أعطى سبحانه للمسجد الحرام قداسته وقيمته، فجمع الله في الحجّ قداسة الزمان والمكان، فكانت مواقع الحجّ في مكّة ومنى والمشعر وعرفات مواقع لعبادة الله، ولإقامة شعائره {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة : 158]، وقوله تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة : 198]، فخصوصية هذه الأمكنة أنَّها تتميَّز بألطاف الله ورحمته {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج : 32].
إنَّ علينا أن نشعر من خلال هذه الإيحاءات في خصوصية المكن أنَّ الله سبحانه يفتح أبواب رحمته ولطفه، لنحصل على رضاه ورضوانه، لنتحسَّس معنى المكان ولنجعله موقع طاعة له سبحانه، وهكذا عندما نشعر بأنَّ الزمن هو عمرنا، ندرك أنَّ الله حمّلنا مسؤولية هذا العمر، وسيسألنا عن عمرنا فيما أفنيناه وعن شبابنا فيما أبليناه.
قداسة الزمان المكان جاءت من خلال ما أعطاه الله لهما من حيويّة وخصوصيّة.
تحريف وليس تحديثاً
في مقالة تحت عنوان (أفكار من أجل تحديث النظرة إلى الإسلام) كتب المستشار في القضاي المصري محمد سعيد العشماوي بأنَّ استعمال لفظ "الحكم" على معنى الحكم السياسي تغيير لمعاني القرآن الكريم، وتبديل لمقاصد الله تعالى من التتنزيل، ويظهر ذلك جليّاً في الآية التي ترفعها بعض الجماعات شعاراً لها {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة : 44]، فهذه الجماعات تقصد بلفظ الحكم معنى الحكم السياسي، بينما يعني اللّفظ في الحقيقة "القضاء في الخصومات"، وهكذا الحال في لفظ "الأُمّة" فهو يعني في لغة القرآن جماعة من الناس ولا يعني الأُمّة بالمعنى السياسي، ولفظ (الناس) يعني أهل مكّة ولا يعني عموم الناس في العالم.. ألَا تعتقدون أنَّ الدعوة إلى ما يسمّى بتحديث ألفاظ القرآن الكريم، تغيير للمعاني الحقيقيّة التي تحملها؟
هناك الكثير من المفكّرين والباحثين، يريدون أن ينظِّروا لوضعهم وللظروف التي يعيشون فيها، فهم مع ادّعائهم بالانتماء للإسلام، فإنَّهم يرفضون أيَّ عملٍ ضدّ المستكبرين والظالمين والمنحرفين، ولذلك يعلنون أنّ الإسلام ليس مشروع سلطة أو حكم في محاولة لتحجيم المساحة الإسلامية الواسعة في قضايا الإسلام.
ونقف مع هذا الشخص الذي يقول إنَّ مسألة الحكم لا تعني الحكم السياسيّ، وإنَّما تعني القضاء في فصل الخصومات. فالآية الكريمة {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ} فما أنزله الله هل هو مختصٌّ بالجانب القضائي في الخصومات التي تحدُث بين الناس، أم أنّها أُنزلت لتنظيم الحياة على الشكل الذي يجب أن تكون عليه وتنتظم فيه؟ إنّ الله تعالى يريد للحاكم بالإسلام أن يحكم بين الناس ليحفظ النظام، ونحن نعرف أنَّ نظام النّاس يحتاج إلى قانون وإلى شريعة تعرّف الإنسان حقوقه في نفسه وحقوقه على الناس وحقوق الناس عليه، وهذا يمثّل النظام كلّه {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الجاثية : 18]، ويقول سبحانه أيضاً: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب : 36]، وهكذا، فالمسألة ليست مسألة القضاء، فالقضاء ينطلق من قانون، والقانون إنّما يتعلّق بالاقتصاد والسياسة والحرب والسلم والاجتماع، وعندما يكون هناك قانون، فلا بدّ من وجود دولة تنفّذ القانون.. ولعلَّ أوضح آية في هذه المسألة {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد : 25] فالقرآن الكريم يركّز على أنَّ الرسالات والكتب والرُّسل إنّما جاؤوا ليقوم الناس بالقسط والعدل بين الناس، ولهذا يجب أن يتوفّر العدل بالقيادة وبالقانون وبعلاقات الناس بعضهم ببعض، فالعدل يعني وجود دولة تحقّق هذا العدل. ولهذا نجد أنَّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لم يمارس القضاء بين الناس، إنَّما أقام الحدود وأقام الدولة، وهكذا استخلف عليّاً (عليه السلام) من بعده امتداداً للحكم. ونظام الدولة لم يستنكره أحدٌ من المسلمين الأوائل، ممّا يدلُّ على أنّ واقع الدولة كان واقعاً يعيش في ذهنيّة المسلمين. وأمّا كلمة (الناس) وأنّ المقصود بها أهل مكّة، فإنَّ الله تعالى يقول: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} [سبأ : 28]، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء : 107] فهل "كافّة للنّاس" و"للعالمين" تعني أهل مكّة وحدهم؟
وكما قلنا، فإنَّ مشكلتنا مع الكثيرين أنّهم يعيشون ظروفاً وأوضاعاً معيّنة يريدون أن ينظّروا لأوضاعهم وظروفهم ليعطوها صورة شرعية، فيحاولون تحريف الكلام والنظر إلى القضايا من جانبٍ واحد.
هناك الكثيرون من المفكّرين، مع ادّعائهم بالانتماء للإسلام، فإنَّهم يرفضون أيّ عمل ضدّ المستكبرين والظالمين.
اللّين
{اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى*فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه : 43 ـــ 44]، كيف نفهم استراتيجيّة اللّين من خلال هذه الآية؟
المقصود بذلك ما يمثّله قوله تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل : 125]، بحيث عليك أن تدرس ذهنية هذا الإنسان المتكبّر المتجبّر وذهنية مجتمعه والنّاس المحيطين به، لتقدّم الكلمة بالأسلوب الذي يمكن أن تنفذ إلى عقله.. وعلى هذا، فإنَّ موسى وهارون (عليه السلام)، لو قابلا فرعون بالقسوة والقوّة، وهما في موقع الضعف المادي، فإنَّ ذلك يمكن أن يغلق قلبه وعقله، وقد تسقط القضية كلّها. لذلك، أراد الله لموسى وهارون أن يقولا له قولاً ليّناً كخطٍّ في عملية الدعوة، لأنَّ القول اللّين قد يدخل إلى العقل من خلال القلب.
وهذا هو الخطّ الذي يرتكز عليه كلّ الأسلوب الإسلامي في مقام الدعوة، وهو قول الكلمة التي هي أحسن، واستعمال الأسلوب الأحسن، وتقديم الحكمة التي تضع كلّ شيءٍ في موضعه، وإبراز الفكرة التي تتلاءم مع ذهنية هذا الإنسان وعقليّته(1).
قصص الأنبياء وثبات النصّ القرآني
حول قصص الأنبياء، نرى أنَّ القرآن الكريم عرضها بالشكل التربوي والرسالي والجهادي، ولكن عندما نقرأ هذه القصص من خلال الكتب المختصّة بذلك، فإنّنا لا نقتنع ببعض الأحداث التي صوّرتها مخيّلة الكُتّاب عن الأنبياء، ما رأيكم بهذه القصص؟
إنَّ النصّ الموثّق حاسم وقطعي، وهو النصّ القرآني، أمّا النصوص الأخرى في قصص الأنبياء، فقد لا نجد الكثير منها موثّقاً، فإنَّ علينا أن نتحفَّظ في الكثير من قصص الأنبياء، لنعرضها على القرآن، فإذا وجدناها موافقة للخطوط العامة في القرآن التي يتحدّث بها عن الأنبياء أخذنا بها، وإذا رأيناها بعيدة عن ذلك، فإنَّ علينا أن نرفضها، كما علّمنا أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) أنَّ "ما خالَفَ كتاب الله فهو زخرف".
القرآن والنظريات العلميّة
هناك بعض المفسِّرين لبعض آيات القرآن الكريم يعتمد في تفسيره على تطوّر العلم متأثّراً بالاكتشافات العلميّة والنظريات الحديثة، فيتمّ تفسير هذه الآيات على ضوء تلك النظريّات والاكتشافات الحديثة، هل تلجأون في تفسيركم إلى مثل هذه النظريات والاكتشافات، أم لا؟
أنا لا أُوافق على تفسير القرآن بالنظريّات العلميّة، لأنّ القرآن ثابت، باعتبار أنّه كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، بينما النظريات العلميّة متحرّكة وغير ثابتة، فربّما يقطع العلم اليوم بنظرية ما، ولكنّه ينقدها غداً ويرفضها. لا ننكر أنّ في القرآن بعض اللّمحات العلميّة التي يشير إليها، ولكنَّ القرآن ليس كتاباً في الكيمياء أو العلوم الطبيعيّة مع إشارته إلى ما في الكون من أسرار، وهناك حقائق علميّة لا بأس بأن نستوحي القرآن في حديثه عنها.. أمّا تفسير القرآن بالاستحسان العقلي، فإنّنا نرفض ذلك، لأنّنا لا بدّ أن نأخذ القرآن من خلال الظواهر، لأنّه كلامٌ عربي، وللكلام العربي ظاهر يفهمه الناس.. وأمّا بالنسبة إلى غير الظاهر من كلام، فلا بدَّ أن نعرضه على قواعد اللّغة العربيّة، حيث يمكن تفسير الآية من خلال الآية الأخرى، ولا بدّ بالرجوع في ذلك إلى أهل الذّكر.. إنّنا لا نقبل التفسير بالرأي الظنّي والاستحساني، ونؤكّد على التفسير بالأدلّة الثابتة القطعيّة أو شبه القطعيّة، وتفسيرنا "من وحي القرآن" هو تفسيرٌ قائمٌ على استنطاق القرآن في ظواهره، وعلى محاولة دراسة بعض الآيات التي ربّما يختلف فيها الناس من خلال الأدلّة القطعيّة أو الأدلّة التي تقوم فيها الحُجّة على الناس.
لا نقبل التفسير بالرأي الظنّي والاستحساني ونؤكّد على التفسير بالأدلّة الثابتة القطعيّة أو شبه القطعيّة.
تدبير الله
{وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال : 30]، ماذا نستوحي من هذه الآية المباركة؟
المكر هو التدبير بخفاء، وقد يُطلق عليه الحيلة، وطبيعة المكر هي أن يدبّر الإنسان تدبيراً ما، بحيث يستطيع أن يصل إلى ما يريد من دون أن ينتبه أو يلتفت الذي يُدبّر الأمر ضدّه أو يشعر بشيء، على أساس أنَّ ما يقوم به مستورٌ وخفيّ.. والله تعالى يريد أن يبيِّن أنّ بعض الناس يدبّرون ويخطِّطون في الخفاء فيما يريدون أن يصلوا إليه في مواجهة مواقع الحقّ، كما كانوا يواجهون النبوّات والرسالات، ولكنّه سبحانه وتعالى في مقابل تدبيرهم ومخطَّطاتهم، يدبّر أمراً في حماية الحقّ والرسالات والنبوّات {وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} فتدبير الله أقوى وأعظم من تدبيرهم، فهو سبحانه خير المدبِّرين، فلا يمكن أن يبلغ تدبيرهُم تدبيره سبحانه وتعالى. وهذا ما حدَّثنا الله عنه في هجرة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عندما دبَّر المشركون الخطّة في أن يسجنوا النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أو يضيّعوه في الصحراء، أو في أن يقتلوه، فدبَّر الله أمر الهجرة، حيث نجح تدبير الله وسقط تدبير المشركين.
بعض الناس يدبّرون ويخطّطون لمواجهة مواقع الحقّ، والله تعالى يدبّر أمراً في حماية الحقّ والرسالات والنبوّات.
النشوز
{وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً} [النساء : 34]، تتحدّث هذه الآية عن جواز أن يضرب الرجل زوجته في حالة معيّنة. السؤال: لماذا يُعطى الرجل هذا الحقّ، ومَنْ يَضْمَن ألّا يتصرَّف فيه بعشوائية، وما ماهيَّة هذا الضرب؟
الواقع أنَّ هذا الضرب مخصوصٌ في حالة واحدة، وهي حالة نشوز المرأة، والمقصود من نشوز المرأة أن تمتنع عن إعطاء الرجل حقّه الجنسي فيما التزمته من حقّ على نفسها، وفيما جعله الله عليها من حقّ بحسب العقد الذي ارتضت به بكلّ إرادتها واختيارها.
ولذا، فإنَّ الله سبحانه وتعالى لم يرخّص للرجل أن يضرب المرأة في أيّة حالة من الحالات، فيحرم عليه أن يضربها ويطردها ويشتمها، فهي أخته في الإيمان، لها كلُّ حقوق المؤمن على المؤمن، وإنْ كانت زوجته في الجسد. أمَّا كيف تُعالج المسألة عندما تمنع المرأة زوجها من حقّه الجنسي؟ الله تعالى يطلب من الرجل المؤمن الذي يقف عند حدود الله أن يجلس مع زوجته ويعظها ويبيِّن لها المفاسد بسبب رفضها، فإذا بقيت مصرّة على موقفها في العناد والرفض، تأتي هنا المرحلة الثانية {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} وهذا نوعٌ من التأديب النفسيّ، وهذا يُثقلها وقد يردعها، ولكن إذا لم يؤدِّ هذا الأسلوب أيضاً إلى نتيجة معها، كيف للرجل أن يعالج الموضوع، هل يذهب إلى المحكمة، وهل تستطيع المحكمة أن تجبر الزوجة على هذا العمل؟ يمكن للمحكمة أن تعيدها إلى بيت الطاعة، ولكن، هل تستطيع المحاكم أو الشرطة التدخّل في مسألة العلاقة الزوجية بين الرجل والمرأة؟ أم يطلِّقها؟ وهذا الأمر يهدم البيت الزوجي.. إذاً، الحلّ لهذه المشكلة من ناحية واقعية مع هذه المرأة التي لا ينفعها معها الوعظ والهجران ـــ أي العقوبة النفسيّة ـــ ومن أجل خفظ البيت الزوجي، كان هناك الضرب، والضرب غير المبرّح، من غير كسر عظم ولا إدماء لحم، أي الضرب التأديبي، وهو الضرب الخفيف. وهنا نقول: إنَّ المرأة العاقلة الواعية هي التي تلتزم بحدود الله سبحانه وتعالى، وتعطي ما لزوجها من حقٍّ، كما تطالب زوجها بحقّها {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة : 228].
المرأة العاقلة هي التي تلتزم بحدود الله سبحانه وتعطي ما لزوجها من حقّ، كما تطالب زوجها بحقّها.
السفيه
يقول الله تبارك وتعالى: {قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ [الأعراف : 67]، مَنْ هو السفيه على وجه الحقيقة؟
السفيه(1)، هو الذي يتحرّك في حياته العامة على غير طريقة التوازن المتعارفة بين العقلاء، وفي الحياة الاقتصادية يصرف ماله في غير الموارد المعقولة عند الناس، بحيث يشتري الأشياء بأكثر من سعرها، أو يبيعها بأقلّ من سعرها، أو أنَّه يشتري ما لا يحتاجه، أو يبيع الشيء الذي تكون مضرّة في بيعه. والسفيه أيضاً، هو الذي يتحرّك في الحياة على غير طريقة الخطوط العقليّة التي ترشد الإنسان إلى ما يُحسن أن يفعله، أو يقبح أن يفعله.
قوم لوط
نعرف أنَّ قوم لوط كانوا يأتون المنكر ويمارسون الشّذوذ، وما يتبادر إلى الذهن نسبةُ فعلهم إلى اسم النبيّ لوط (عليه السلام)، فهل كلمة (لوط) اتّخذت المعنى الذي يرمز إلى فعل القبيح عبر التاريخ، وأنّ الكلمة في أساسها من الكلمات المتداولة في ذلك العصر؟
إنَّ الشذوذ الجنسي المذكّر (اللّواط) بدأه قوم لوط الذين أُرسل إليهم نبيُّ الله لوط (عليه السلام)، وهؤلاء لم يُذكروا بأسمائهم وأسماء عوائلهم، بل ذُكروا بأنَّهم قوم لوط (عليه السلام). لذلك عندما يُشار إلى فعل الفاحشة بالشذوذ الجنسيّ، فإنَّ ذلك يقال عن قوم لوط (عليه السلام)، ثمّ غلبت الكلمة وأخذت اسم اللّواط، إشارة إلى هؤلاء الناس الذين عاش لوط بينهم وكان يدعوهم إلى الله تعالى.
بحثاً عن المودّة والرحمة
أكَّد القرآن الكريم على مفهوم المودّة والرحمة بين الأزواج وبالتالي بين النّاس جميعاً، ولكنَّ هذا المفهوم صار شعاراً من دون أيّ مضمون، إلى ما تعزون ذلك؟
الرحمة معنىً فقده البعض منّا ونسيه في كلِّ هذا القلق الروحي الذي نعيشه، وفي هذا التمزُّق الإنسانيّ الذي نتحرّك فيه، وفي هذا العبث الصبياني الذي يلازمنا في شبابنا وكهولتنا وشيخوختنا. كنّا نبعث بالرمال، فأصبحنا نعبث بالإنسان والمصير، نعبث من دون وعي ومسؤولية.
ولكنَّ الله تعالى أراد لنا أن نعيش السكينة العقلية بحيث يعيش عقلنا طمأنينة الفكر، وأن نعيش السكينة الروحيّة بحيث تعيش روحنا طمأنينة الروح.. وهذه السكينة لا تُنتج إلاّ محبّة ومودّة ورحمة، فالإنسان الذي تستقرّ في أعماقه هذه السكينة، فإنَّه لا يعيش الضياع والتمزُّق {وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم : 21]، والإنسان عندما يعيش مع الإنسان الآخر حياة القلب للقلب والروح للروح، فإنَّ المحبّة والمودّة الإنسانية لا تتحرّك في سوق المزاد، ولا تدخل في المساومات والعمليات التجاريّة، ولا يمكن أن تدخل في اللّعبة السياسيّة لأنّها روحٌ إنسانيّ ينفتح بالإنسان على كلِّ خيرٍ في الحياة. فالله تعالى أراد لنا أن نعيش التكامل الإنساني من موقع المودّة التي تربط إنساناً بإنسان وتمتدّ حتى تشمل البشريّة كلّها. ولكنّ الإنسان المنتج للحقد والعداوة والبغضاء، غلَّف الحقد بالحبّ، والعداوة بالصداقة، فأصبح للأشياء ظاهرٌ وباطن.. وتلك هي مشكلة المودّة التي هربت من واقعنا السياسي والاجتماعي والاقتصادي والأمني، وأصبحنا نتحدّث عن معارك في كلّ ذلك، مع أنَّ الحياة واسعة، لنا جميعاً مكانٌ فيها، وكدنا نصبح كذاك الأعرابي الذي دعا الله قائلاً: "اللَّهمَّ اغفر لي ولمحمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ولا تغفر لأحدٍ بعدنا" فقدنا له النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): "لقد ضيَّقت واسعاً" فالحياة للجميع، ولكنَّ الإنسان الذي لم يفهم ذاته، حرّك الظلم مبتعداً عن عمق المحبّة والرحمة، فوُضعت الحواجز بين الناس، فكفَّر بعضهم بعضاً، ولعن بعضهم بعضاً، فتحوّلت المودّة إلى مصلحة، والرحمة إلى طمع، وكم من الزيجات والعلاقات الإنسانية الأخرى في السياسة والاقتصاد والاجتماع تنطلق من طمع، فصارت المودّة مودّةً رسميّة وليست قلبيّة.
والرحمة، هي عنوان الإسلام في كلّ حركة يتحرّك فيها الإنسان، والنبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هو عنوان هذه الرحمة {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء : 107]، فالأخلاق تتحرّك في خطّ الرحمة، والرحمة تعيش في ساحة الرسالة، والنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يُطِلُّ على العالَم كلّه من موقع الرحمة في عقله وقلبه وروحه.. لذلك يجب أن ترحمني وأرحمك، وتفهمني وأفهمك وتقدّر ظروفي وأقدّر ظروفك، وهذا أمرٌ أساسيّ في كلّ علاقةٍ إنسانية ولا سيّما في العلاقة الزوجيّة التي يحتاج كلُّ واحد أن يفهم ذهنية الآخر وبيئته والمؤثّرات التي تأثَّر بها، حتى يلتقيا من موقع دراسة موضوعيّة نفسيّة عقليّة بيئيّة يملكان فيها أن يكتشفا نقاط اللّقاء، ليذلّلا مواقع الخلاف.
إنَّ المحبّة توحّد الإنسانَيْن في هدفٍ واحد وحُلُم واحد، وهذه المحبّة والرحمة لا تدخل في سوق المزاد والعمليات التجارية.
رؤية وجه الله تعالى
حتى يؤمن اليهود والمشركون طلبوا أن يروا الله جهرة، ونحن نعرف أنّ بعض الأنبياء (عليهم السلام) طلبوا رؤية وجه الله، كيف نفهم طلب المشركين وطلب الأنبياء في هذا المجال؟
أمّا المشركون فإنَّهم طلبوا أن يروا الله جهرة من خلال جهلهم به سبحانه وتعالى، وبحقيقته {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام : 103] أمّا الأنبياء، كنبي الله موسى (عليه السلام)، {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف : 143] فهناك تأويلان لهذا الطلب: الأوّل، إنّ الله سبحانه كان يعرّف أنبياءه أصول العقيدة وصفاته تعالى بشكلٍ تدريجي {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} [الفرقان : 32] ولذلك، فإنّ الله تعالى لم يعرّف موسى (عليه السلام) حتى ذلك الوقت أنّه لا يُرَى، ولذلك أراد سبحانه أن يُدخِلَ موسى (عليه السلام) في التجربة الحيّة، ولذلك {قَالَ لَن تَرَانِي وَلَـكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسَى صَعِقاً} [الأعراف : 143] وعندها عرف (عليه السلام) أنّه لا يُرى. هذا تفسير، وهذا لا ينافي عصمة وكمال النبيّ، لأنّنا كما قلنا، إنَّ الله يعلّم أنبياءه ما يريد أن يَعْلَموه بشكلٍ تدريجي، فيمكن أنَّ الله سبحانه أراد أن يعلِّم موسى بأنّه تعالى لا يُرى بهذه الطريقة. ونحن نعرف أنّ الله علَّم موسى (عليه السلام) من بواطن الأشياء عندما أرسل إليه العبد الصالح، فجعل العبد الصالح أحد الذين يعلّمون موسى، ولكن من خلال الله {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً} [الكهف : 82].
وهناك تفسير آخر، وهو أنّ قوم موسى الذين ذهبوا معه طلبوا منه أن يروا الله، فهو (عليه السلام) كان ينطق بلسان قومه، فلم يكن الطلب من موسى جهلاً منه بأنَّ الله لا يُرى، ولكنّه طلب ذلك استجابة لطلب قومه ليواجهوا التجربة الصعبة التي يعرفون من خلالها أنَّ الله تعالى لا يُرَى.
يؤوِّل البعض طلب النبيّ موسى (عليه السلام) رؤية الله تعالى بأنَّ ذلك استجابة لطلب قومه ليواجهوا التجربة الصعبة التي يعرفون من خلالها أنّه تعالى لا يُرى.
الشورى
تقول الآية الكريمة: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى : 38]، هل أنَّ هذه الآية تدلّ على الشورى بين المسلمين في الناحية الاجتماعية وحسب، أو أنَّها تتعلّق أيضاً بالناحية السياسية والعسكرية والقضايا المصيرية المتعلّقة بالأُمّة الإسلامية، ولا سيّما أنّنا نسمع من البعض أنَّه لا يوجد في الفقه الشيعي مجلسٌ للشورى يساعد القائد في الإدارة السياسيّة؟
لا إشكال أنَّ كلمة الشورى مطلقة {وَأَمْرُهُمْ} أمر المسلمين {شُورَى بَيْنَهُمْ}، لذلك، هناك آراء تعتبر أنّ الشورى هي الطابع العام للمجتمع الإسلامي، ولكنّه ليس ملزِماً، وأمّا أنَّه ليس هناك مجلس شورى، فإنَّنا نتصوّر أنَّ الحاكم سواء حكم على أساس نظرية ولاية الفقيه، أو على أساس نظرية الشورى، فإنَّه لا يجوز له أن يحكم بما لا خبرة له فيه. أي أنَّ نظرية الحاكم في الإسلام، ليست هي النظرية الديكتاتورية التي يحكم فيها الحاكم بمزاجه دون أن يرجع إلى أحد {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ} [آل عمران : 159] والرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لا يحتاج إلى مشورة أحد، فهو مسدَّد من الله تعالى، ولكن ليدرّب ذهنية الأُمّة ويعلِّمها على أن يكون هناك مشورةٌ دائمة بين الحاكم والأُمّة.
ومن هنا، لا بدَّ للحاكم فيما يعلمه أن يستشير ليستكمل عناصر القرار، لأنَّ من الممكن جداً أن تكون هناك وجهات نظر لم يطّلع عليها وتساهم في بلورة القرار، ولا بدَّ له أيضاً وفيما لا يملك علمه أن يستشير أهل الخبرة، فإذا استقلّ الحاكم بقراره، سواء كان فقيهاً أو غير فقيه، وحكم بمزاجه وهواه، فإنَّه يفقد مشروعيّة موقعه.
ونحن نعتقد أنَّ تجربة الجمهورية الإسلامية في إيران هي تجربة رائدة، حيث أنّها أكّدت التزاوج بين نظرية ولاية الفقيه ونظرية الشورة، فنجد أنّ الإمام الخميني (رضوان الله عليه) أقرَّ مسألة الاستفتاء الشعبي ليكون ذلك وسيلة من وسائل الاستماع إلى رأي الشعب في كلّ القضايا التي يُراد تقريرها على مستوى الشعب، حتى في انتخابات مجلس الخبراء وصيانة الدستور، حيث يُراد لهذين المجلسين مراقبة القوانين التي يصدرها مجلس الشورى.
إذا استقلَّ الحاكم بقراره سواء كان فقيهاً أو غير فقيه وحكم بمزاجه وهواه، فإنَّه يفقد مشروعيّة موقعه.
الكُبراء
جاء في الآية 67 من سورة الأحزاب {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا} [الأحزاب : 67] ما المخاطر التي تنتج عن اتّباع أهواء الذين يهمّهم بناء مواقعهم ولو دُمّرت كلّ المواقع؟
إنَّ هذه الآية تعبّر عن موقف المستضعفين من خطط المستكبرين، لأنَّ المستكبرين المترفين يعملون على أساس أن يجعلوا الحياة خاضعة للقِيَم السلبيّة الشرّيرة التي يخطّطون لها، ويعملون من خلالها على إسقاط المستضعفين وتحويلهم إلى مجرّد آلات يحرّكونها كيفما يشاؤون بحيث يفرضون عليهم الفكر الذي يريدونه، وإن كان فكراً ضالاً منحرفاً ومتخلّفاً، أو يفرضون عليهم الأخلاق التي يلتزمونها، وإن كانت أخلاقاً ضارةً منحرفة، ويفرضون عليهم السياسة التي يتحرّكون فيها، والاقتصاد الذي يوظّفونه خدمةً لمصالحهم واستكبارهم.
إنَّ الحياة عندما تخضع للمستكبرين الذين يعملون لأنفسهم، وليس لمصلحة الحياة والإنسان، فسوف تتحرّك الحياة وإنسانها في اتجاه الهلاك والضلال.
عندما تخضع الحياة للمستكبرين فسوف تتحرّك الحياة وإنسانها في اتّجاه الهلاك والضلال.
آباء الأنبياء
تذكر الأحاديث والتفاسير أنَّ جميع آباء الأنبياء والرُّسل طاهرو النَّسب، وأنَّهم موحّدون مؤمنون بالله، ولكن نرى في التفاسير وخصوصاً في الحديث عن نبيّ الله إبراهيم (عليه السلام) أنَّ والده كان كافراً ومشركاً، كيف نوفّق بين طهارة النّسب وبين الكفر في هذا المجال؟
ما بدأ به السائل سؤاله صحيح، وهو أنَّ جميع الأنبياء طاهرو النَّسب، وليس معنى أنّ الإنسان إذا كان كافراً أن يكون ابن زنا، لأنَّ الحديث يقول: "إنَّ لكلّ قومٍ نكاحاً، يحتجزون به عن الزنا" وقد ورد ذلك عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام). أمَّا أنّهم مؤمنون أم لا، فهذه من الأمور التي اختلفت فيها نظرة العلماء. وظاهر القرآن يشير إلى أنَّ والد إبراهيم كان مشركاً {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً} [الأنعام : 74]، ولأنَّ كلمة الأب لا تُطلق إلاّ على والد الإنسان فنحن استظهرنا هذا المعنى، وهناك بعض العلماء يستظهرون ذلك، فإذاً، المسألة مورد من الموارد الخلافية بين العلماء، وهي على أيّ حال لا تضرّ بطهارة النسب. فالمسألة اجتهادية في فهم الآيات والأحاديث التي تتناول هذا الموضوع.
فإذاً، لا دخل لطهارة النَّسب بموضوع الكفر، فقد جاء في الرواية عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه كان سائراً مع أحد الأشخاص يرافقه خلفه أحد خدّامه وهو مجوسيّ، فتأخَّر عنهما، فقال له سيّده المرافق للإمام (عليه السلام) تقدّم يا ابن الفاعلة، توقّف الإمام الصادق (عليه السلام) وقال له: كنت أظنّ أنّ لك ديناً، فقال له: إنَّه مشرك، قال له الإمام الصادق (عليه السلام): "أمَا علمت أنَّ لكلّ قومٍ نكاحاً يحتجزون به عن الزنا" ومعنى ذلك أنّ الإنسان عندما يكون مشركاً وكان متزوِّجاً بطريقة صحيحة في دينه فإنّه ليس ابن زنا، لأنَّ الله أمضى زواج كلّ أُمّةٍ من الأُمم.
شكرُ النِّعَم
تقول الآية الكريمة: {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم : 7]، إنَّ كثيراً من الفقراء ماتوا وهم على حالتهم، مع أنّهم كانوا من الشاكرين، فكيف نفهم هذه الآية من خلال هذه الحالة؟
ليس من الضروري أن يزيدهم الله بالمال، بل يزيدهم سبحانه بالحسنات، أو بالرعاية والصَّحّة.. ولذلك، فإنَّ من الخطأ أن نظنَّ أنَّ السعادة تأتي من خلال المال، فما رأيك لو أنَّ الله تعالى أعطاك مال قارون وابتلاك بالسرطان؟ أو أعطاك المال وابتلاك بالغباء؟ أو أعطاك المال، وجعلك قلقاً خائفاً على حياتك في اللّيل والنهار، فماذا ينفع ذلك؟
علينا ألاَّ نعتبر أنَّ النعمة فقد بالمال، فكم من الأغنياء لا يحسُّون بطعم الحياة، نراهم قلقين على أنفسهم وأولادهم وتجارتهم، وكم من الفقراء الذين يعيشون الحياة العادية بهناء، ينامون بارتياح، مشاكلهم صغيرة وقابلةٌ للحلّ.
إنَّكم عندما تعرفون مشاكل بعض الأغنياء، لا تتمنُّون أن يعطيكم الله ما أعطاهم، أنتم تهنأون بحياتكم، أمَّا هم، فالواحد منهم مبتلىً بشتّى أنواع الابتلاءات، لذلك، نِعَمُ الله كثيرة ولا تُحصى، ويجب أن تُعرَف طبيعتها لنشعر بقيمتها.
كم من الأغنياء لا يحسُّون بطعم الحياة، وكم من الفقراء يعيشون الحياة بهناء.
المفرد والجمع
وصف القرآن الكريم النور بالمفرد، ووصف الظلمات بصيغة الجمع، ماذا نستوحي من ذلك؟
تحدَّث الإسلام عن النور، لأنَّ النور يمثّل حقيقة واحدة، سواءً كانت نوراً في العقل أو نوراً في الإحساس، أمّا الظلمات فيمكن أن تتعدَّد، فنقول ظلمة القلب وظلمة العقل وما إلى ذلك، فمن الممكن أن تتعدَّد الظلمات باعتبار خصائصها التي تحمل في نتائجها السلبيات الكثيرة والمتنوّعة، وربّما كان الحديث عن تعدُّد الظلمات، لتوجيه الإنسان إلى وعي هذه الظلمات ومعرفتها في كلِّ خصائصها ومواقعها، من أجل أن يبتعد الإنسان عنها بواسطة إشراقة قلبه وعقله وروحه.
الحديث عن الظلمات تحذير للإنسان بالابتعاد عنها بواسطة إشراقة قلبه وعقله وروحه.
الحديث الشريف
مسارٌ والتزام
المخلصون
جاء في الحديث عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): "طوبى للمخلصين أولئك مصابيح الهدى تنجلي عنهم كلُّ فتنةٍ ظلماء" كيف لنا أن نعيش الإخلاص البعيد عن الرياء فيما نقوم به من أعمال؟
نعيش الإخلاص عندما نوازن بين النتائج التي نحصل عليها من الله تعالى، والنتائج التي نحصل عليها من الناس، أي من خلال الموازنة بين عظمة الله، وبين واقع النّاس.
إنّنا عندما نفتقد الإخلاص لله تعالى، فإنَّنا نقوم بأعمالنا على أساس الرياء، ليرانا الناس كيف نعمل، ليمدحونا ويعظِّمونا ويعطونا بعض المواقع التي نريدها، وهل هناك غير ذلك؟ ولكنّ الإنسان عندما يفكِّر ويدرس، سيرى أنَّ هؤلاء الناس لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضرّاً، وأنَّهم مهما أعطوا، فإنَّ عطاءهم لن يكون بلا حساب، وأنّه إذا أراد أن يأخذ منهم شيئاً فعليه أن يدفع في مقابل ذلك، وقد يكون على حساب إنسانيّته وكرامته وأخلاقه. فهم إذا عظَّموه اليوم فسيصغّرونه غداً، لأنَّ خلفيات تقدير الناس وتعظيمهم له تنطلق من شهواتهم وأطماعهم.
أمّا الله سبحانه، فهو الذي يعطي الإنسان ما لم يُعطِ مثلَه أحدٌ، ورَزَقَه دون مقابل، ومنَحه القوّة والعقل والتدبير، وما يعطيه الناس فبإلهام منه سبحانه {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [الأنفال : 63]، فإذا عرف الإنسان أنّه لا يستطيع أن يحصل من الناس على شيء إلاّ من خلال الله تعالى، وأنَّ الرياء لا يمكن أن يحقِّق له النتائج الطيّبة التي يريدها، وإذا عرف أيضاً أنّه وحده هو سبحانه الذي يُذِلّ مَنْ يشاء، ويُعِزّ مَن يشاء، عند ذلك يدرك أنَّ الربح هو في الإخلاص لله، وليس في الرياء الذي ينتظر صاحبه أن يمدحه الناس فيه على عمله ومواقفه.
نعيش الإخلاص لله عندما نوازن بين النتائج التي نحصل عليها من الله، والنتائج التي نحصل عليها من الناس.
خواتيم الأعمال
جاء في الحديث الشريف: "إنّ حقيقة السعادة أن يُختم للمرء عملُه بالسعادة، وإنَّ حقيقة الشقاء أن يُختم للمرء عملُه بالشقاء، كيف تحدِّدون معالم الشقاء ومعالم السعادة؟
ربّما كان هذا الحديث يقصد نهاية المطاف في حياة الإنسان، باعتبار أنّ الاهتمام بالنهايات هو الذي يحدّد للإنسان طريقته في التفكير ومنهجه في العمل وكلَّ تطلُّعاته. ومن هنا، فإنَّ الإنسان الذي يُختم عمله بالانحراف والظلم والاستكبار وبمعصية الله سبحانه، لا بدَّ أن يواجه الشقاء عند الله بحسب ما يستحقّه، لأنّه قَدِم على الله تعالى، وكان قد ألغى كلّ ما عنده من الأعمال السابقة، وإن كانت صالحة، لأنَّه ألغاها وتنكَّر لها وانقلب عليها في بقيّة حياته، ولذلك لم يستفد بعمله الصالح في البدايات بشيء، باعتبار أنّه استقبل العمل السيّء، والعكس صحيح.
فلو فرضنا أنّ الإنسان كان في بداياته يعيش الماضي ويقترف الذنوب، ولكنّه تحوّل من معصية الله إلى طاعته، ومن خطّ الانحراف إلى خطّ الاستقامة، فإنَّ موقفه يكون موقف التائبين العاملين للصالحات، حيث يُلغي لدى نفسه من حيث عقله وشعوره ومنهجه وخطّه كلّ ما عمله من سوء، ولذلك ورد في الدعاء: "اللَّهمَّ اجعلْ مستقبل أمري خيراً من ماضيه، وخير أعمالي خواتيمها وخير أيّامي يومَ ألقاك فيه" وهذا ما أرادنا رسولُ الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن نفكّر فيه ونحن نبتدأ الأعمال فيوصيّته لذلك الشاب، قال له: "إذا أنتَ هممتَ بأمرٍ فتدبَّر عاقبته، فإنْ يك رشداً فَأَمْضِه، وإنْ يكُ غَيّاً فانْتَهِ عنه"(1). فالمهم أن يحدِّد الإنسان نهايات الأمور ولا يجمد عند بداياتها، فإذا كانت بدايته خيراً ونهايته شرّاً، فإنَّ مصيره الشقاء، وإذا كانت بدايته شرّاً، ونهايته خيراً، فإنَّ مصيره إلى السعادة.
على الإنسان أن يحدِّد نهايات الأمور ولا يجمد عند بداياتها.
خوفاً من الفتنة والفساد
نرجو منكم توضيح الحديث النبويّ الشريف: "إذا جاءكم مَنْ ترضون خُلقه ودينه فزوِّجوه، ألاَّ تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفسادٌ كبير" وما رأيكم بالآباء الذين يطلبون مهراً عالياً كمثل: أراضي، مبالغ مرتفعة، أو مسكن كبير، وما هي النصيحة التي توجِّهونها لهم؟
إنَّ هذا الحديث يؤكّد على أنّ الإنسان في العلاقة الزوجية فيما تطلبه الفتاة من رفيق حياتها، وما يطلبه أهلها منه، هو ما ترتكز عليه العلاقة الإنسانية بين إنسانٍ وآخر، وهو الخُلُق.. أن يكون لديه الخُلُق الذي يحترم فيه الإنسان الآخر في ظروفه ونقاط ضعفه وأوضاعه الاجتماعية والنفسيّة.. فالإنسان إذا كان صاحب أخلاق، فلا تخشى الفتاة أن يضطهدها أو يسيء إلى سمعتها ويُسقط روحيّتها، وما إلى ذلك، وهكذا، إذا كان صاحب دين، بحيث يخاف الله في نفسه والناس الذين يرتبط بهم بعقد من العقود، وإنّه لا يمكن أن يعصي الله في التصرّف مع زوجته فيما حرَّمه الله، بأن يسلب منها مهرها او يضربها ويشتمها ويطردها من بيته من دون حقّ، بل لا يمنعها حقوقها ويحسن إليها.. وهذا هو الإنسان المتديّن. والتديُّين ـــ كما نقول دائماً ـــ ليس فقط صلاة وصوماً، ولكنّه التزامٌ بالأفعال والأقوال بما أراد الله من الإنسان، وما حرَّمه عليه. لذلك، إذا كان الإنسان صاحب أخلاق ودين فزوِّجوه، لأنّكم إذا رفضتموه لفقره أو نسبه أو لوضعه الاجتماعي، فإنَّ الواقع الاجتماعي سوف يهتزّ، لأنّه لا يكون خاضعاً لقاعدة إنسانية، بل يكون خاضعاً لأمور أخرى، قد تُسقط الواقع الاجتماعي كلّه، عندما لا يرتبط المجتمع بالقيمة الأخلاقية والدينية، أو لا يلتقي الناس على رضوان الله والاستقامة في طريقه.
أمّا مسألة ما يفعله الآباء من طلب المهور العالية، فإنّهم قد يساهمون في وصول بناتهم إلى مرحلة العنوسة، عندما لا يكون هناك شباب يستطيعون أن يقدّموا هذا المهر العالي أو ذاك، كما أنّهم يساهمون في الفساد الاجتماعي عندما يفقد الشباب فرصة الزواج بسبب ما يفرضه أهلُ الفتيات عليهم، فيلجأون إلى الانحراف والسقوط في المعاصي.. وإذا كان بعض الأهل يعتبر أنّ زيادة المهر ترتفع بقيمة البنت في المجال الاجتماعي، فهذا خطأ، لأنّ ذلك يجعل من البنت سلعة تباع، كما في أسواق المزاد العلني، يحصل عليها مَن يدفع أكثر، وعندها يكون الأب كمن يبيع ابنته، وهذا أمرٌ يُسقط إنسانية الفتاة. فالفتاة والشاب يدخلان في الحياة الزوجية على أساس المودّة والرحمة والالتزام بحدود الله.. ولهذا، على الآباء أن يختاروا لبناتهم أزواجاً يحفظونهنَّ في حياتهنَّ من خلال أخلاقهم ودينهم، لأنّ المال يذهب، أمّا الروح، والرحمة والمودّة والدين والخلق هي التي تحمي الإنسان من الإنسان الآخر، كما تحميه من نفسه.
إذا كان بعض الأهي يعتبر أنَّ زيادة المهر ترتفع بقيمة البنت فهذا خطأ، لأنَّ ذلك يجعل من البنت سلعةً تُباع.
الشرك
ورد في الحديث عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): "إنَّ دبيب الشرك في أُمّتي أخفى من دبيب النملة السوداء على الصخرة الصمّاء في اللّيلة الظلماء" ما معنى هذا الحديث؟
معنى هذا الحديث، أنّ قضية التوحيد يجب أن ينطلق فيها الإنسان في كلِّ أفكاره ومشاعره وأحاسيسه وحركيّته وعلاقاته ومواقفه، من خلال الله تعالى، بحيث يكون الله سبحانه وتعالى المعبود وحده، ولا أحد سواه، فيصلّي لله بكلِّ إخلاص الصلاة، ويصوم لله بكلِّ إخلاص الصوم، ويحجّ بعمق الإخلاص في معنى الحجّ، ويتصدَّق على أساس أنّه لا يريد جزاءاً ولا شكوراً، وأنَّ كلَّ ما يعمله يقدّمه قربةً إلى الله تعالى.
ونحن نعرف أنّ النَّفس أمّارةٌ بالسوء إلاّ ما رَحِمَ ربّي، ونعرف أنّ الوسواس الخنّاس الذي يوسوس في صدور النّاس، قد يقتحم على الإنسان فكره، ليبعده عن الله، وقد يقتحم على الإنسان شعوره، ليبعده عمّا يريده الله، وخصوصاً في مجالات الحبّ والبغض، وقد يقتحم على الإنسان عباداته ومعاملاته ومواقفه وعلاقاته، فينفذ إليها بطريقة دقيقة خفيّة، بحيث يُخيَّل للإنسان أنّه يتقرّب إلى الله، في الوقت الذي قد يكون عمقه متقرِّباً إلى الشيطان، لذلك، لا بدَّ للإنسان من أن يكون دقيقاً في فهم وساوسه وهواجسه وكلِّ مشاريعه وأحاسيسه ودوافعه، حتى يعرف، هل أنَّه منفتحٌ على الله، أو أنَّه منفتحٌ على الشيطان؟
على الإنسان أن يكون دقيقاً في فهم وساوسه وهواجسه ليعرف، هل أنّه منفتحٌ على الله، أم أنَّه منفتحٌ على الشيطان.
هل هو شرك؟
"إنَّ الله لا يسكن قلباً فيه غيره" (حديث شريف) كيف نحبّ مع الله إخواننا وأهلنا أليس هذا شركاً في الحبّ؟
ليس هذا شركاً في الحبّ، لأنّنا نحبّ أولادنا وإخواننا لا في عرض حبّنا لله تعالى، بل نحبّهم لأنَّ الله سبحانه خلق في نفوسنا المحبّة لهم والشفقة عليهم على أساس الفظرة التي فطر الناس عليها. والإنسان الذي لا يتحرّك قلبه بالحبّ لأهله ولأولاده وللناس هو إنسانٌ قاسي القلب، والله لا يحبّ الإنسان القاسي القلب الذي لا تدمع عينه لمظاهر الألم عند المتألّمين، ولذلك قال النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عند وفاة ولده إبراهيم: "إنَّ العين لتدمع وإنّ القلب ليخشع وإنَّا عليك يا إبراهيم لمحزونون ولا نقول إلاّ ما يُرضي الرّب"(1) وهذا هو المقصود بعبارة ألاَّ يُشْرَكَ بالله غيره، يعني ألاّ يحبّ غير الله في عرض الله، أي مثل الله، ويقول سبحانه: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ} [البقرة : 165] ولو فرضنا أنَّ الله أمرَ بشيء وكان ولدك أو زوجتك أو أبوك يطلبون أمراً مخالِفاً لأمر الله، فإذا كنت تحبّ الله أكثر، عليك أن تتمرّد على حبّك لهؤلاء وعلى تنفيذ ما يرغبون، وأن تقدّم حبَّ الله على حبّ غيره، بأن تفضِّل رضى الله عليك على رضى غيره. وإذا دار الأمر بين رضى مَنْ حولك ورضى الله، فالله أولى بالرضا.
الله تعالى لا يحبّ الإنسان القاسي القلب الذي لا تدمع عينه لمظاهر الألم عند المتألّمين.
الدنيا الصالحة والدُّنيا الدنيّة
جاء في الحديث: "إنَّ في طلب الدنيا إضراراً بالآخرة، وفي طلب الآخرة إضراراً بالدنيا" كيف نوفّقُ بين هذا الحديث، والأحاديث التي تطلب منّا إعمار وبناء الدنيا؟
ليس المقصود بهذا الحديث ــــ إذا صحّ ـــ بالدنيا، هي هذا الواقع الدنيويّ الذي نعيش فيه، ممّا يمثّل حاجاتنا في كلّ قضايانا المعيشيّة، بل المراد من الدنيا في هذا الحديث، دنيا النفس، أي هوى الدنيا، ودنيا اللّذّات والشهوات التي تدفع بالإنسان إلى التنكُّر لإيمانه ومبادئه وقِيَمِه، وبالتالي إلى معصية ربِّه وإهمال العمل للآخرة.
ومن الطبيعي، أنَّ من يستغرق في الدنيا، بحيث تصبح كلَّ همِّه في شهواتها ولذّاتها، فإنّه يتنكَّر للآخرة ولكلِّ ما يصلحها من مسؤوليات في جانب الوجوب أو الحرمة، وفي المقابل هناك الإنسان الذي يطلب الآخرة ويفكّر في سعادتها من خلال الحصول على رضى الله، فإنَّه سوف يضرُّ بالدنيا، أي بدنيا الهوى والشهوات واللّذّات المحرَّمة. لذا، فإنَّ المراد بالدنيا، هي الدنيا الدنيّة، وليست دنيا الحاجات الطبيعية، ودنيا العمل الصالح والخير والعمران التي تتحرّك من أجل رفع مستوى الإنسان والحياة بالطريقة التي يحبُّها الله ويرضاها.
المراد بالدنيا، الدنيا الدنيّة، وليست دنيا الحاجات الطبيعيّة.
"ساعة" الدنيا.. بين المعصية والطاعة
"الدنيا ساعة فاجعلها طاعة" كيف لنا أن نعيش ذلك؟
إنَّ الإنسان عندما يدرس دنياه في حركة عمله، فإنَّ الدنيا تمثّل لحظة، لأنّه لا يحسّ بالماضي عندما يذهب، ولا يُحسُّ بالمستقبل قبل أن يأتي. فأحاسيسنا التي نتحرّك من خلالها، هي أحاسيس في حجم اللّحظة على طريقة قول القائل:
ما مضى فات والمؤمّلُ غيبٌ ولك الساعةُ التي أنتَ فيها
فالإنسان يعيش حياته في حجم الساعة التي هو فيها، فإذا كان إحساسه بحجمها فكأنَّ الدنيا مختصرة بهذه الساعة، لأنَّها هي اللّحظة التي يتحرّك داخلها. فإذا وقف بين أن يملأ هذه الساعة بالمعصية أو بالطاعة، عليه أن يفكِّر جيّداً بأنَّ المعصية تمثّل موت هذه الساعة وهلاكها، بينما الطاعة تمثّل حياتها في رضوان الله ونعيم الجنّة. وعلى هذا، فيجب على الإنسان أن يستفيد من ساعته التي هي ساحة حركته، ليجعلها في رضى الله ليربحها، ولتكون ثمناً للخلود في الجنّة، لا أن يصرفها في المعصية التي تُدخله نار جهنَّم الخالدة.
على الإنسان أن يستفيد من ساعته التي هي ساحة حركته، ليجعلها في رضى الله، ولتكون ثمناً للخلود في الجنّة.
النّفس الطيّبة
"اللَّهمَّ خُذْ لنفسِك من نفسي ما يُخلِّصُها وأبقِ لنفسي من نفسي ما يُصلِحها"، نرجو تفسير هذه الفقرة من الدعاء؟
هذه فقرة من دعاء الإمام زين العابدين (عليه السلام) في مكارم الأخلاق. فالإنسان عندما يدعو بذلك فإنَّه يطلب من الله تعالى أن يقتلع من نفسه العيوب والذنوب والغرائز الشرّيرة والأخلاق السيّئة ويخلّصه منها لحساب ذاته تعالى حتى تصفو نفسُ الإنسان وتُخلِصَ له سبحانه "اللَّهمَّ خُذْ لنفسك من نفسي ما يخلِّصها) وذلك بأن تنزع من نفسي كلَّ الأحقاد والبغضاء والشهوات المُضِلَّة والغرائزَ الجامحة حتى تخلُص نفسي من ذلك "وَأبْقِ لنفسي من نفسي ما يُصلِحها" أمّا الصفات الطيّبة الموجودة في نفسي فأبْقِهَا ـــ يا ربّ ـــ لأنّها تؤدّي إلى إصلاح نفسي التي تقرّبها منك.
فإذاً، يطلب الإنسان من الله تعالى أن يخلّصه من عيوبه التي تُبعده عنه، ويُبقي لنفسه من الحسنات والأعمال الصالحة ما يقرِّبه إليه سبحانه وتعالى.
يطلب الإنسان من الله تعالى أن يخلّصه من عيوبه التي تُبعده عنه، ويُبقي له الحسنات التي تقرّبه منه.
الطمأنينة الروحية
يقول أمير المؤمنين عليٌّ (عليه السلام): "مَنْ رَضِيَ من الله بما قسم له استراح بدنه" فأين طمأنينة روحه وهي الأساس؟
الإنسان الذي يعمل بنسبة معيّنة ليحصل على الرزق، بحيث أنَّ الظروف التي تحرّك بها، والتي وضعها لنفسه ورضي بها، لا تحقّق له إلاّ ما يريده من هذا القدر من الرزق، فمن الطبيعي أن يستريح بدنه، لأنّه سوف لن يكلّف نفسه ما لا يطيق. أمّا مسألة الطمأنينة الروحية، فإنَّها تنطلق من خلال القناعة، بمعنى أنّ الإنسان عندما يعيش القناعة، فإنَّها تحقّق له السكينة الروحية، بالإضافة إلى راحة البدن. فهو عندما يقنع برزقه، فإنَّه يتحرّك في الحياة ضمن إمكاناته وبحجم ظروفه، فلا ينطلق في المغامرات التي قد لا تعطيه شيئاً، وبذلك يوفّر على نفسه الجهد البدني، الذي إذا بذله قد لا يحقّق له أيّة فائدة.
الطمأنينة الروحية تنطلق من خلال القناعة التي تحقّق السكينة، بالإضافة إلى راحة البدن.
دار الفناء ودار البقاء
يقول أمير المؤمنين عليٌّ (عليه السلام): "إنَّما الدنيا دار مجاز والآخرة دار قرار، فخذوا من ممرِّكم لمقرِّكم، ولا تهتكوا أستاركم عند مَنْ يعلم أسرارَكم" نرجو توضيح أبعاد هذا الحديث؟
إنَّ هذا الحديث يعطينا الفكرة الإسلامية لدور الدنيا ودور الآخرة في حياتنا، حيث يعتبر (عليه السلام) أنَّ هناك فرقاً بين الدنيا والآخرة، فالدنيا دار العبور، والآخرة دار الخلود، فنعبُر من الدنيا إلى الآخرة من خلال جسر الموت، حيث في الآخرة نعيش الاستقرار {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ(1) لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت : 64]، أي هي الحياة الحقيقية الخالدة، وعلى ضوء هذا نفهم أنَّ الدنيا مرحلة ستنتهي يوماً، ولذلك، فمسؤوليّتنا في هذه الدنيا، مسؤولية العمل {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ} [الانشقاق : 6]، فنحن الكادحون في الدنيا بتنفيذ المهمّات المتّصلة بأنفسنا وبالآخرين وبالحياة لنحصل على نتائج أعمالنا عند الله سبحانه وتعالى {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً} [آل عمران : 30].
"فخذوا من ممرِّكم لمقرِّكم"، فإذا كانت الدنيا مرحلة وممرّاً ودارَ عبور، فمن الضروري للإنسان الذي يحتاج في مقرِّه الذي يعيش فيه الحياة الحقيقيّة التي لا موت فيها، أن يجمع الزاد هنا، ليؤنّث البيت هناك، فالزاد الذي يحتاج إليه في الآخرة، لا بدَّ أن يحصل عليه في الدنيا {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة : 197].
فمعنى الحديث العَلَويّ هذا، يتلخَّص كالتالي: "إنَّما الدنيا دار مجاز ـــ أي عبور ـــ والآخرة دار قرار ـــ أي دار استقرار وحياة دائمة ـــ فخذوا من ممرِّكم ـــ من الدنيا التي تمرُّون فيها، خذوا من أعمالهم الصالحة، ومن طاعاتكم لله سبحانه ـــ لمقرِّكم ـــ لما تحتاجونه لدار الآخرة من الأمور التي تستطيعون تهيئتها في الدنيا. وليكن عنوان عملكم في الدنيا ما تحتاجونه في الآخرة {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص : 77].
وإنَّ معنى "ولا تهتكوا أستارَكم" أي أنَّ الله قد ستر عليكم في كلِّ أسراركم وخفاياكم فيما تعملون من خير أو شرّ، فحافظوا على سِتْر الله لكم، فلا تقوموا بالعمل الذي يفضحكم عنده تعالى، لأنّكم لا تزيدون الله علماً في ذلك فهو سبحانه {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر : 19]، فإذا كنتم ترتكبون المعاصي وتستترون من الآخرين، فإنَّ عليكم ألّا تفكِّروا أن تستتروا من الله، لأنّه يعرف ما يصدر منكم في السرّ والعلن وما تخفونه في صدوركم أو تعلنونه.. ليكن لكم الحياءُ من الله الذي تفضّل عليكم بأن يستركم عن الآخرين، واعملوا لتكون أسرارُكم الأسرارَ التي ترضي الله حتى لا تُهْتَكَ مواقعكم عنده سبحانه.
حافظوا على سِتْر الله لكم، فلا تقوموا بالعمل الذي يفضحكم عنده.
النِّعَم ومسؤولية استخدامها
يقول أمير المؤمنين عليٌّ (عليه السلام): "أقلُّ ما يلزُمُكم لله ألا تستعينوا بنِعَمه على معاصيه، كيف نفهم هذا القول؟
انطلق أمير المؤمنين عليٌّ (عليه السلام) من موقع القمّة في معنى الحكمة في كلِّ عقله المنفتح على الله تعالى وعلى المعرفة به سبحانه، حتى كان يقول (عليه السلام): "لو كُشِفَ ليَ الغطاء ما ازددتُ يقيناً" لأنَّ عليّاً (عليه السلام) ينظر بنور ا لله في كلِّ شيء، ولذلك فكلُّ كلمة قالها، هي حكمة تتّصل بإنسانية الإنسان وبكلِّ حركته في الحياة. وهكذا كان يقول للنّاس: "أقلّ ما يلزمكم لله ـــ أقلّ شيء ـــ ألاّ تستعينوا بنعمه على معاصيه"(1) فالله أعطاك عينين وعما نعمة فلا تنظر بهما إلى ما حرَّم الله، وأعطاك سمعاً وسمعك نعمة، فلا تسمع به ما حرَّم الله، وأعطاك لساناً وهو نعمة فلا تتكلَّم به بما حرَّم الله، والله أعطاك نعمة، فلا تستخدمها فيما لا يرضي الله، والله أعطاك رجلين فلا تَسْرِ بهما إلى الأمكنة التي حرَّمها الله، وكلُّ أجهزة جسمك نعمة، فلا تستخدم أعضاء جسمك فيما يُغضب الله.. وهكذا، إذا أعطاك الله مالاً، فلا تصرف مالك في الحرام وفي إفساد حياة الناس، وهكذا في الجاه والسلطة وكلّ شيء.
فإحساس الإنسان بالنعمة يقتضي إحساسه بحقِّ المنعم عليه، في أن ينفتح عليه ويشكره قولاً وعملاً، ويحرّك طاقاته وقدراته فيما أعطاه سبحانه، وألا يكون كما قال ذاك القائل:
أعلِّمه الرماية كلَّ يومٍ فَلَمَّا اشتدَّ ساعده رماني
وكم علّمته نظمَ القوافي فلمّا قال قافية هجاني
وقد قال عليٌّ (عليه السلام) لبعض الناس الذين يحرّكون ألسنتهم ضدَّ مَنْ أنطقهم وعلَّمهم ورعاهم: "لا تجعلنَّ ذَرَب(2) لسانك على مَنْ أنطقك وبلاغة قولك على مَنْ سدَّدك"(3) ومعنى ذلك ألا تنال بلسانك مَنْ علَّمك وأفهمك، لأنَّ ذلك يمثّل خساسة في موقفك.
لا تنلْ بلسانك مَنْ علّمك وأفهمك، لأنّ ذلك يمثّل خساسة في موقفك.
ظلمات النَّفس
يقول أمير المؤمنين عليٌّ (عليه السلام): "مَنْ شغل نفسه بغير نفسه تحيّر في الظلمات وارتبك في الهَلَكات" كيف نفهم هذا القول؟
إنَّ الإمام عليّاً (عليه السلام) يوجّه هذا القول إلى الناس الذين يُشغلون أنفسهم دائماً بالآخرين ويحدّقون بهم، وتشغلهم كيفية سلوكهم وتفكيرهم، وما هي علاقاتهم وما إلى ذلك، ممّا يجعلهم مستغرَقين بغيرهم من الناس، ليكون همُّهم في الحياة إشغال أنفسهم بالناس من دون أن يلتفتوا إلى أنفسهم ليدرسوها ويحاسبوها ويجاهدوها وليحاكموها. إنَّ الإمام (عليه السلام) يريد أن يقول للإنسان، إنَّك عندما تغفل عن نفسك ولا تفكِّر بها، ولا تحدّق في الأشياء المخزونة فيها، سواء الأفكار المختزنة في عقلك التي ربّما دخلت إليه من خلال توجيه منحرف أو قراءة سريعة أو مؤثّرات بيئيّة معيّنة، أو الأفكار التي دخلت إلى قلبك من خلال بعض العواطف المنحرفة، فتحبّ مَنْ لا يريد الله لك أن تحبّ، وتبغض مَنْ لا يريد الله لك أن تبغض، متأثّراً في ذلك بعائلتك أو بالأجواء الاجتماعية المحطية بك، أو بالأجواء السياسيّة التي تركت تأثيرها على قلبك، وما إلى ذلك، ينبغي عليك أن تفكّر في حركتك في الحياة، وفي دربك، هل هو الدرب المستقيم أم الدرب المنحرف؟ وهل علاقاتك تنسجم مع إيمانك، ومع ما ينقذ نفسك عند ربّك، أم أنَّ علاقاتك تنحرف بك عن الاستعداد للآخرة؟ إنَّ الإمام عليّاً (عليه السلام) يقول لك، إنَّك إذا لم تشتغل بنفسك، وأهملتها، ولم تدرس فكرَك، هل هو فكر الحقّ أم فكر الباطل، ولم تدرس قلبك هل هو منفتحٌ على الخير أم على الشرّ، ولم تدرس خطواتك، هل هي الخطوات المنحرفة أم المستقيمة؟ إذا لم تدرس كلّ ذلك، وبقيت مشتغلاً بغيرك، فإنَّ من الطبيعي أنّك سوف تعيش في داخل ظلمات نفسك التي أهملتها، ولم تنفتح بها على النور، وهذا ما سيجعلك متحيِّراً تنتقل من موقع إلى موقع دون أن تجد نور اليقين ونور المعرفة والنقاء والصفاء.
وليس معنى هذا ألا نهتمَّ بالآخرين، ولكن ألا نجعل اهتمامنا بالآخرين على حساب اهتمامنا بأنفسنا، وقد قال الله تعالى: {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة : 105]، عليك نفسك، فكِّر بها، أصلحها، طهِّرها، زَكّها، أنقذها من الشيطان، واجعلها أمّارةً بالخير لا بالشرّ، وإذا فعلت ذلك، ثمّ انفتحت على الآخرين في مسؤولياتك، وضلَّ الآخرون فلم يقبلوا منك قولَ الحقّ، فإنَّ ذلك لا يضرُّك، ما دمت قد اهتديتَ في نفسك وقمت بواجبك في هَدْي الآخرين.
عليك نفسَك، فكِّر بها، أصلحها، طهِّرها، زكِّها، أنقذها من الشيطان، واجعلها أمّارةً بالخير لا بالشرّ.
العيوب
ذكر الحديث الشريف من المؤمنين مَنْ هم في كنف الله "رجل لم يَعِب أخاه بعيب حتّى يترك ذلك العيبَ من نفسه" حتّى ننصرف إلى عيوبنا لإصلاحها، ما السبيل إلى ذلك؟
هذا الحديث الشريف يعطي فكرة مفادها: أنَّك عندما تريد أن تتحدّث عن عيوب النّاس الآخرين، حاول أن تصلح عيوبَك.. وعندما تكون ديَّاناً للآخرين وحاكماً عليهم، حاول أن تدرس عيوبَك لتنفي عيوبك، وليكون لك الحقّ في اتّخاذ موقف من الآخرين بسبب عيوبهم، وإنَّك كلَّما نفيت عيباً عن نفسك بدا لك عيبٌ آخر.. ولذلك، على الإنسان أن ينشغل بدراسة عيوبه قبل أن ينشغل بدراسة عيوب الآخرين، لأنَّه مكلّفٌ بإصلاح نفسه من عيوبه الروحية والفكرية والعمليّة والعاطفيّة التي قد تضيّع مصيره في الدنيا والآخرة. ومن هنا، فإنَّ الذي يعيش الأمراض الصعبة أو القاتلة لا ينشغل بأمراض الآخرين، إلاّ بعد أن يملك الصحّة الكاملة. وعلى الإنسان أن يعرف أنَّ عيوبه الأخلاقية والعاطفية والروحيّة والعمليّة والثقافية تمثّل حركة المصير في الدنيا والآخرة، تماماً كما هي الحياة والموت، لأنَّ هناك حياة ماديّة وحياة معنويّة، وعليه أن يتدبَّر أمرَ هذه الأمراض والعيوب حتى يستطيع أن يصلح نفسَه ليتمثّل مصيره في الدنيا والآخرة. وهذا ما رسَمَ له الإسلام طريق محاسبة النفس ومحاكمتها ومجاهدتها.
إذاً، حاسِب نفسك لتكتشف ما في داخلها من نقاط ضعف، ثمّ احكم عليها، لتترك هذا وتفعل ذاك، ثمّ جاهدها لتحملها على أن تتحرّك في خطّ العمل، خطّ التغيير {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد : 11].
حاسِب نفسك لتكتشف ما فيها من نقاط ضعف ثمّ احكم عليها، وجاهدها لتحملها على أن تتحرّك في خطّ العمل.
الصدقة
جاء في الحديث: "داووا مرضاكم بالصدقة" فكيف تكون الصدقة دواءً؟
يقول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ} [الحديد : 18].
إنَّ الله يريد للإنسان، رجلاً كان أم امرأة، أن يعيش روحية العطاء، وذلك بما تمثّله كلمة الصدقة من مفهوم العطاء قربةً إلى الله سبحانه وتعالى. وربّما تكون للإنسان بعض القدرة المالية على أن يُنفق الآن ويتصدّق على الفقراء والمحرومين، فليغتنم الفرصة، لأنَّ الصدقة عبادة.. فأنتَ إذا أعطيت إنساناً فقيراً محروماً قربةً إلى الله تعالى، فإنَّ عطاءك هذا صلاة تصلّيها، لأنَّ الصلاة قد تكون بالركعات والسجدات وقد تكون بالصدقات.. وهذا هو ما دفع أمير المؤمنين عليّاً (عليه السلام) لأن يتصدّق بخاتمه وهو في حال الركوع، لأنَّه (عليه السلام) لا يرى فرقاً بين الصلاة وبين الصدقة.
والله تعالى يطلب من الإنسان ألاّ يعتبر الصدقة خسارة، لأنَّه سبحانه يعتبر الصدقة قرضاً يُوضع في حسابه تعالى: {وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} هو دَيْنٌ عند الله للمتصدّقين والمتصدّقات يوفيه لهم مضاعفاً مئة بالمئة يوم القيامة {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ*إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء : 88 ـــ 89]. ولا يُضاعَفُ هذا القرض مئة بالمئة فقط {وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ} وهذا الأجر الكريم يأتي فوق ما هو مُضاعَف لهم.
وهذا هو الذي جعلنا نفكّر دائماً أن ننتهز فرصة إمكاناتنا حتى نُعين الناسَ الذين يحتاجون إلى معونتنا.. وقد يعتبر الكثيرون منّا حاجة الناس إليهم عبئاً عليهم، ولكن جاء في الحديث: "إنَّ مِنْ نِعَم الله عليكم حاجة النّاس إليكم" لأنَّ الناس عندما يحتاجونك وتعطيهم ممّا أنعم الله عليك، فإنَّ ذلك يرفع درجتك عنده سبحانه ويقرّبك إليه. وقد ورد في بعض الأحاديث عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) أنّهم إذا جاءهم سائل أو صاحب حاجة استعجلوا قضاء حاجته. فيقول عليٌّ (عليه السلام): "أخاف أن يستغني عنّي قبل أن أقضي حاجته". وقد ورد في بعض الأحاديث: "داووا مرضاكم بالصدقة"(1) بحيث إذا كان عندنا مريض فلنتصدَّق لشفائه مع ذهابنا إلى الطبيب، فلعلَّ الله ببركة هذه الصدقة يشفي مريضنا.
إنَّ الناس عندما يحتاجونك وتعطيهم ممّا أنعم الله عليك، فإنَّ ذلك يرفع درجتك عنده سبحانه ويقرّبك إليه.
في محاولة للتبرير
"ناقل الكفر ليس بكافر" أولاً نرجو توضيح هذا الحديث، وثانياً، يحاول البعض التبرير بارتكاب المعاصي تحت عنوان أنّه لا يُقدم على المعصية، ولكن هم الآخرون الذين يفعلون ذلك، مثال على ما نقول: يزرع المخدَّرات ولا يُدمن عليها، يبيع الأدوية المنبّهة ولا يتعاطاها، أو يضع الأغاني المحرّمة لتسلية الناس من دون أن يسمعها، ما رأيكم بهذا التبرير؟
حول معنى الحديث أوّلاً، إنَّ الإنسان الذي ينقل كلمات الكفر التي يقولها الآخرون ليس كافراً، مثلاً شخص يقول بأنَّ الملحدين ينكرون وجود الله، أو إنَّ المشركين يجعلون مع الله تعالى إلَهاً آخر، أو إنَّ هناك من يسخر بالصلاة والصوم، ويعتبر الآخرة خرافة وأسطورة. فالذي ينقل هذا الكلام ليس كافراً، لأنَّه لم يتحدّث بهذا الكلام عن إيمان وعقيدة، بل تحدَّث عن الكفر بما يتحدّث به الآخرون من الكافرين. وقد نقل القرآن الكريم كلام الكافرين {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [صـ : 5] ويقول تعالى أيضاً: {وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً(2) أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً} [الإسراء : 49].
إذاً، مَنْ ينقل كلام الآخرين من الكافرين للنّاس، سواء كان في مقام النقل بشكلٍ مجرّد، أو في مقام الردّ والاحتجاج، هذا ليس بكافر، لأنَّ الكفر هو أن يتكلّم الإنسان بما يؤدّي إلى معنى الكفر عن اقتناع وعقيدة بالكفر. وعلى ضوء هذا، فإنَّ تبرير هؤلاء الناس لا علاقة له بهذه الكلمة، لأنَّهم عندما يزرعون الحشيشة التي يفتي بعض العلماء بحرمة زراعتها ولا يدمنون عليها، أو يعصرون الخمر ويبيعونه ولا يشربونه، أو الذين يسجِّلون الأغاني المحرّمة على أشرطة التسجيل ولا يسمعونها، هؤلاء يفعلون الحرام، لأنَّ القيام بمثل هذه الأعمال محرَّم، وهم يمارسون كفر المعصية، لأنَّ هذه الأمور هي من المحرَّمات في ذاتها، بقطع النظر عن ممارسة الآخرين لها، فالإنسان الذي يزرع الحشيشة يعصي الله، والذي يدمن عليها يعصي معصية أخرى، والذي يسجِّل الأغاني المحرّمة، ويشغّل آلات التسجيل ليسمعها الآخرون، هذا يمارس محرّماً، لأنَّه يعين على الإثم وينتج الإثم.. وقد ورد عن أمير المؤمنين عليٍّ (عليه السلام) ما يماثل هذا: "الراضي بفعل قوم كالداخل فيه معهم وعلى كلّ داخل في باطل إثمان: إثم العمل به وإثم الرضى به"(1) فإذا دخل الإنسان مع الناس في عمل محرّم، فهو يرتكب خطيئتين، الأولى: أنّه يعمل الحرام، والثانية، أنّه يرضى بالحرام.
إذا دخل الإنسان مع الناس في عمل محرَّم فهو يرتكب خطيئتين، يعمل الحرام ويرضى به.
الإخلاص
جاء في الحديث: "القصد إلى الله تعالى بالقلوب أبلغ من إتعاب الجوارح بالأعمال" ما المراد من هذا الحديث؟
العمل الذي لا ينطلق من خلفيّةٍ عقليةٍ وروحية عارفة بالله، خاشعة له، منفتحة عليه، هو عمل لا قيمة له. وقد جاء في الحديث: "كم من صائم ليس له من صيامه إلاّ الجوع والظمأ، وكم من قائمٍ ليس له م قيامه إلاَّ السهر والعناء"(1) فالإنسان الذي يعيش الخضوع لله والخشوع لذكره، والإخلاص له في قلبه، أفضل من ذاك الإنسان الذي لا يعيش الإخلاص في عمله. وقد ورد: "إنَّما الأعمال بالنيَّات ولكلّ امرئٍ ما نوى"(2) وورد أيضاً: "يُحشر النّاس على نيَّاتهم يوم القيامة"(3).
العمل الذي لا ينطلق من خلفيّة عقلية وروحية عارفة بالله هو عملٌ لا قيمة له.
أولادنا ونحن
يُنسب إلى أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) أنَّه قال: "لا تؤدِّبوا أولادكم بأخلاقكم لأنّهم خُلِقُوا لزمان غير زمانكم" كيف نفهم هذا القول؟
لعلَّ النص "لا تخلّقوا أولادكم بأخلاقكم فإنَّكم خُلِقوا لزمانٍ غير زمانكم"، هنا الأخلاق على قسمين، أخلاق إنسانية ثابتة لا يختلف فيها زمانٌ عن زمان، كأخلاق الصدق والأمانة والعفّة والإخلاص. فهي أخلاقٌ ثابتة، لأنّه لن يأتي زمانٌ يكون الصدق قبيحاً والكذب حسناً، وذلك في الخطّ العام، وهكذا، لن تكون الأمانة أمراً قبيحاً، والخيانة أمراً حسناً.. هذه أخلاق لا فرق فيها بين زمان وزمان.. وهناك أخلاق متحرّكة، وهي الأخلاق الاجتماعية، كطريقة ممارسة حياتنا، أو طريقة إدارة العلاقات بين الناس.. فمثلاً كان الناس في السابق يأكلون بأيديهم، واليوم يأكلون بالملاعق والشوك، وكانوا يركبون الدواب، واليوم يركبون السيّارات.. وهم يتباينون في طريقة إدارة العلاقات في الأخلاق الاجتماعية المتحرّكة، ففي بعض البلدان مثلاً، إنَّ الثوب الأبيض هو علامة الحداد، وفي بلدان أخرى، فإنَّ اللون الأسود هو دليل الحداد والحزن، وتختلف وسائل التعبير عن الحزن فيما بينهم، فبعضهم يبكي من دون جزع، وبعضهم يقوم بلطم الصدر، أو بضرب الرأس بالسيوف، وضرب الظهور بالسلاسل، وهذه صارت من الأخلاق السابقة التي توحي بالتخلّف. كما أنَّ اللّباس في الماضي كان يختلف عن اللّباس في الحاضر "فخير لباس كلّ زمان لباس أهله"(1) على ما ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام).
إذاً، فالحديث يقصد بأنَّ لكلّ زمن عاداته وتقاليده بأساليب الناس في التعبير عن عواطفهم وقضاياهم وفي إدارة العلاقات الاجتماعية في حياة الناس بطريقة الأكل والشرب واللّباس والزيارات وما إلى ذلك، وعلى هذا فلا يمكن لك أن تربّي ولدك على ما كان يصلح لزمنٍ سابق ولم يعد صالحاً للزمن الذي يعيش فيه وذلك في مسألة الأخلاق المتحرّكة التي لا تخالف الشريعة، لا في الأخلاق الثابتة التي لا فرق فيها بين زمانٍ وزمان.
لا يمكن لك أن تربّي ولدك على ما كان يصلح لزمن سابق ولم يعد صالحاً للزمن الذي يعيش فيه، وذلك في مسألة الأخلاق المتحرّكة.
كي لا يكون حبّاً مصلحياً
"الحبّ في الله والبغض في الله" هذا على مستوى النظرية، ولكن نرى أنّ قلوبنا تميل أحياناً في أحكامها ومواقفها، مع مَنْ نبني معهم علاقات أو نقيم مصالح ماديّة، دون أيّ اعتبار لنظرية الحبّ في الله والبغض في الله، لماذا؟
أمّا أنّنا نرتبط بالناس على أساس مصالحنا وعواطفنا ومشاعرنا فنحبّ الناس من خلال ذلك إيجاباً، ونبغضهم من خلال ذلك سلباً، فهذا أمرٌ ينطلق من الطبيعة الماديّة التي نعيشها ونربّي أنفسنا على أساسها، باعتبار أنّ الإنسان يرتبط بالحسّ أكثر ممّا يرتبط بالغيب، ولهذا نجد أنّنا نحبّ واحداً من الناس إذا كان صديقاً للعائلة، فصداقته للعائلة تدفعنا لحبّه، أمّا مَنْ كان عدوّاً للعائلة فإنّنا نبغضه.. فيدور حبّنا وبغضنا للناس من خلال علاقتنا بهذه العائلة أو بتلك.. أمّا بالنسبة لله تعالى، فنحن لا نحبّ الله سبحانه بالقدر الذي يجب أن نحبّه، لأنّ الإنسان إذا كان يحبّ الله، فإنّ حبّه هذا يدفعه لحبّ من يُحبّ الله، ويُحبّ من يحبّه الله، ولكنّنا نجد أنفسنا نزعم أنّنا نحبّ الله، ونحب مَنْ يبغض الله، أو مَنْ يبغضه الله.. وهذا يحدث لأنّنا لا نربّي أنفسنا على معرفة الله ومحبّته سبحانه. ولذلك، فنحن نقدّم أحياناً كلّ شخص على الله، ولا نقدّم الله على شهواتنا ومصالحنا.
فالمعنى الذي نفتقده، هو أن نحبّ مؤمناً من دون أن ننتفع منه مادياً أو مصلحيّاً ولكن نحبّه لإيمانه، وأن نبغض كافراً، وإن كنّا ننتفع منه.. وهذا هو الذي يكون دليلاً على حبّنا في الله وبغضنا في الله.. ومن هنا، فإنَّ علينا أن نربّي إيماننا ونسهر عليه وننمِّيه، لتكون علاقتنا بالله متينة، وذلك من خلال التفكير بعظمته ونعمته سبحانه وتعالى.
علينا أن نربّي إيماننا ونسهر عليه لتكون علاقتنا بالله متينة.
الشفاعة
نجد كثيراً من الروايات والأحاديث في بطون الكتب الإسلامية تؤكّد على الشفاعة، حتى نجد قول رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): "ادّخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أُمّتي". السؤال: هل هي شفاعةٌ خاصّة أم عامّة تشمل غير المسلمين أيضاً، وما صحّة ذاك الحديث وحقيقة الشفاعة، وهل هي مختصّة بالمعصوم (عليه السلام) أم تشمل المؤمنين الصالحين والعظماء؟
في موضوع الشفاعة أعطانا الله تعالى خطّاً عاماً، وقد أذن سبحانه للأنبياء والأولياء بالشفاعة حيث يعرفون تفاصيل هذا الخطّ، ويدركون تفاصيله فيما أعطاهم الله من النظرة القدسيّة التي يعرفون بها ما يحبّه الله وما لا يحبّه، وما يرتضيه وما لا يرتضيه {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء : 28]، يعني إلاّ لمن ارتضى الله الشفاعة له، أو لمن ارتضاه الله.. وهذا يدلّ على أنّ الشفاعة تكون للمسلمين ولا تكون لغيرهم، ولكنَّ المغفرة قد تطال غير المسلمين إذا لم يكونوا من المشركين، لأنَّ الله تعالى قال: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} [النساء : 48]، وأمّا شفاعة المؤمنين فقد ورد في الأحاديث، "إنّ المؤمن ليشفع في مثل ربيعة ومُضَر"(1) أي أنّ المؤمن الواحد الذي يقبل الله شفاعته، يشفع للناس ولو كانوا بعدد قبيلتي ربيعة ومُضَر. فإذا صحَّ هذا الحديث، فإنَّ الله تعالى قد يشفّع بعض المؤمنين في بعض أصحاب الخطايا.
المؤمن الواحد الذي يقبل الله شفاعته يشفع للنّاس، ولو كانوا بعدد قبيلتيْ ربيعة ومُضَر.
العارفون بالله
"ما عبدتك خوفاً من نارك، ولا طمعاً في جنّتك، ولكنّي وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك" مَنْ مِن النّاس لا يخاف نار الله، وما معنى الحديث بالإجمال؟
ليس معنى هذا الحديث أنَّ مَنْ عبدَ الله خوفاً من ناره، لا يكون في مستوى رضى الله في العبادة، أو مَنْ عبد اللهَ طمعاً في جنّته لا يكون بهذا المستوى، فالله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ*يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج: 1 ـــ 2]، والله تعالى يحذّرنا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم : 6]، وهكذا يقول سبحانه وتعالى: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران : 133]، يريدنا سبحانه أن نعبده حتى نحصل على الجنّة، ونعبده خوفاً من ناره.. ولكن، هناك مرتبةٌ عليا لم يكلّف الناس بها، وهي أن يعبد الإنسان ربّه حبّاً لربّه، وأن يعبده سبحانه لأنّه أهلٌ للعبادة.. وهذه المرتبة العليا في العبادة لا تحصل إلاّ لمن عرفوا الله معرفةً تجرَّدوا فيها عن كلّ الجوانب الذاتية، واستغرقوا في حبِّ الله وعبادته، من خلال الانفتاح عليه تعالى والتمثُّل لعظمته، وهذا ما عاشه أمير المؤمنين عليٌّ (عليه السلام).
أعلى مراتب العبادة، هي أن يعبد الإنسان ربَّه حبَّاً لربّه، وأن يعبده لأنّه أهلٌ للعبادة.
العمى عن عيوب النّفس
يقول أمير المؤمنين عليٌّ (عليه السلام): "عجبت لمن ينكر عيوب الناس، ونفسه أكثر شيءٍ معاباً ولا يبصرها" عندما يعمى الإنسان عن عيوبه، ويلاحق عيوب الناس، إلى أين يؤدّي به هذا العمى؟
إنَّ مسؤولية هذا الإنسان أيّاً كان موقعه|، هو أن يتقن صنع نفسه، بأن يدرس عقله وما فيه من نقاط ضعف وقوّة، وأن يدرس قلبه وما فيه من العاطفة المنحرفة أو المستقيمة، وأن يدرس حياته وما فيها من الخطوط التي تنطلق من الحقّ أو الباطل. لا بدَّ للإنسان أن يُكمل نفسه، لأنَّه مسؤولٌ عن نفسه، وسوف يقف وحده يوم القيامة {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا} [النحل : 111] فأنت مسؤولٌ عن نفسك أولاً، ولست مسؤولاً عن غيرك إلاّ بقدر ما تتّصل مسؤوليّتك بغيرك، تماماً كما جاء في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم : 6] أو كقولة تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [آل عمران : 104].
على الإنسان أوّلاً أن يدرس نفسه، فيدرس عيوبه العقلية والعاطفية والحركية، ويدقّق في مواقفه وعلاقاته، قبل أن يحدّق في عيوب الناس، وإذا صادف وحدَّق في عيوب الناس، عليه أن يطلب من الله سبحانه ألا يبتليه بمثل هذه العيوب، كما ابتلى بها هؤلاء الناس، إنَّ الإنسان الذي يبصر عيوب الآخرين ولا يحدّق في عيوبه هو إنسانٌ غائبٌ عن نفسه وفاقدٌ لها.
الذي يبصر عيوب الآخرين ولا يحدّق في عيوبه، هو إنسان غائبٌ عن نفسه.
المؤمن والإمام العادل
في إحدى خطبكم تقولون: "المؤمن والإمام العادل يجسّدان طاعة الله في الإرض"، فما موقف مَنْ يحاول النيل منهما أمام الله، حيث جاء في الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام): "مَنْ أهان لي وليّاً فقد أرصد لمحاربتي وأنا أسرع شيءٍ إلى نصرة أوليائي".
لا شكّ بأنَّ المؤمن، الذي يؤمن بالله ويسير في خطّه سبحانه، هو محلّ الإعزاز والإكرام والاحترام عند الله تعالى. وقد ورد في الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام): "المؤمن أعظم حرمة من الكعبة". وهكذا، بالنسبة للإمام العادل، لأنّه هو الذي يقود الناس إلى الحقّ ويسير بهم في طريق الله، ويعمل في سبيل إسقاط الظلم، ورفع راية العدل، ويعمل على أن تكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الشيطان هي السفلى، ولذلك، فإنّه كبير القدر عند الله سبحانه وتعالى. ومن هنا، فمن أهان مؤمناً، أو أهان إماماً عادلاً، فإنَّ الله تعالى يغضب عليه لهذه الإهانة، لأنّه سبحانه يغضب لعبده المؤمن، ويغضب لمن يعمل ويجاهد في سبيله ويعدل في الناس ويدعو إلى العدل.
وعلى هذا، فإنَّ محاربة المؤمن وهو يحمل الإيمان بالله في كلِّ عقله وقلبه وحياته، ومحاربة الإمام العادل، وهو يتحرّك في خطّ القيادة العادلة، هي محاربة لله ولرسوله والذين يحاربون الله ورسولَه، لا بدَّ أن يواجههم الله بعذابه في الدنيا والآخرة.
محاربة المؤمن والإمام العادل، هي محاربةٌ لله ورسوله.
الزهد: حالة نفسيّة وليست خارجيّة
يقول أمير المؤمنين عليٌّ (عليه السلام): "إنَّ الزاهدين في الدنيا تبكي قلوبهم وإن ضحكوا، ويشتدّ حزنهم وإن فرحوا، ويكثر مقتُهم أنفسَهم وإن اغتبطوا بما رُزِقوا" كيف لنا أن نعرف مفهوم الزهد من خلال هذا الحديث؟
لعلَّ أمير المؤمنين عليّاً (عليه السلام) يقصد بأنَّ مسألة الزهد في الدنيا لا تنطلق من الواقع الخارجي للإنسان، فقد يلتقي هذا الإنسان بأمر يُضحكه أو يفرحه، ولكنّه عندما يدرس طبيعة فرح الدنيا في الأمور التي يكسبها وتوجب اغتباطه، فإنَّه يكتشف بأنَّ هذه الأمور فانية ولا تشكّل مستوى الطموح عنده في مستقبله عند الله تعالى. وهكذا عندما يحصل على رزق فإنّه يشعر بالفرح والسرور يملأ قلبه، ولكنّه عندما يفكّر بالآخرة، وبالحاجة للاستزادة من زاد الآخرة، ويعيش الخوف من الخطايا التي قد تجعله يخسر نفسه وأهله ويفقد الجنّة، فإنَّه يتذكَّر مسؤولياته أمام الله تعالى، فلا يرتاح لما يحصل عليه من حاجات الدنيا، لأنَّ همّه فيما يحصل عليه في الآخرة.
إنَّ الزهد في الدنيا حالةٌ نفسيّة وليست خارجيّة، وقد قال أمير المؤمنين عليٌّ (عليه السلام) وهو الذي عاش الزهد كأعظم ما يكون الزهد: "الزهد كلّه في كلمتين لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما أتاكم"(1)، بحيث إذا فقدت شيئاً فإنَّه لا يُسقط نفسك وموقفك، وإذا حصلت على شيء فإنّه لا يُبطرك، فتقبل خسائر الدنيا كأمر طبيعيّ، وتنال مكاسبها كأمرٍ طبيعيّ أيضاً، وتعرف حينها كذلك أنَّ أسباب الربح أو الخسارة تنطلق من أسبابهما في الحياة.
وقد قال عليٌّ (عليه السلام) في كتابه لابن عبّاس: "أمّا بعد، فإنَّ المرء ليفرح بالشيء الذي لم يكن ليفوته ويحزن على الشيء الذي لم يكن ليصيبه، فلا يكن أفضل ما نلت في نفسك من دنياك بلوغ لذّة أو شفاء غيظ، ولكن إطفاء باطل وإحياء حقّ، وليكن سرورك بما قدَّمت وأسفك على ما خلَفت وهمُّك فيما بعد الموت"(2)، أن تكون الزهد، أن يكون عقلك وقلبك وكيانك فارغاً من الدنيا في لذّاتها وحاجاتها وشهواتها، وأن يكون مملوءً بحبّ الله وبالمسؤولية أمامه سبحانه وتعالى وبالدار الآخرة.
الزهد: ألاّ تبطر عند النجاح، وألاّ تسقط نفسُك عند الخسارة.
الإصغاء والإستماع
الحديث يقول: "مَنْ أصغى إلى ناطق فقد عبده، فإن كان ينطق عن الله فقد عَبَدَ الله، وإنْ كان ينطق عن الشيطان فقد عبد الشيطان" ولكن قد نستمع إلى الآخرين لنفهم مراميهم وأبعادَ حديثهم، ما الفرق بين هذا الإستماع وذاك الإصغاء؟
هناك فرقٌ بين أن تستمع للآخرين لتفهم ما يقصدون وما يخطّطون وما يوجّهون، وهذا أمرٌ ضروريٌ جداً أن نعرف وجهة نظر الذين يختلفون معنا في ديننا وأفكارنا السياسيّة، لنتعرّف عمق خططهم ولنناقشهم أو لنحذر منهم لنواجه الخطّة بخطّة مضادّة. أمّا الإصغاء فهو الاندماج مع الناطق.. مَنْ أصغى إلى ناطق، أي ذاب فيه وأصغى إليه بكلِّ عقله وقلبه واندمج فيه واعتبر كلامَه كلامَه هو، وفكرَه فكرَه هو وخطّه خطَّه هو، وهذه هي العبادة، لأنَّ العبادة تمثّل غاية الخضوع، فمعنى "مَن أصغى إلى ناطق فقد عبده"(1) أي خضع له، والخضوع يتمثّل بالاستغراق في فكر هذا الناطق فينفتح عليه ويعيشه بنفسه ويعتقده بفكره، وهذا يمثّل نوعاً من العبادة.. فإذا كان الناطق يعظك ويرشدك ويوجّهك وينطق بما أنزله الله في الكتاب وبما سنَّه الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بأمر الله من سُنَن لتعيشَها وتنطلق معها، وكان مؤتمَناً على كتاب الله وسنّة نبيّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من خلال علمه وأمانته ودينه، فإنَّك بذلك تعبُد الله.. بينما إذا كان الناطق شخصاً يتحدّث باسم الشيطان، لأنّه لا يؤمن بالله العظيم، ولا يعتقد بما أنزله الله تعالى، وأصغيتَ إليه خاضعاً معتقداً مستسلماً لأفكاره ومفاهيمه فقد عبدَت الشيطان، لأنّه ينطق باسم الشيطان.
إذا كان الناطق شخصاً يتحدّث باسم الشيطان وأصغيت إليه مستسلماً لأفكاره فقد عبدتَ الشيطان.
ونرد علمه إلى أهله
ورد في إحدى كتب الأخبار أنَّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال لحُذيفَة بن اليمان: "يكون بعدي أئمةُ لا يهتدون بهدايتي، ولا يستنُّون بسنّتي، قال حُذَيْفَة: كيف أصنع يا رسول الله؟ قال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): تسمع وتطيع، وإن ضُرِب ظهرُك، وأُخِذَ مالُك، فاسمعْ وأطعْ" ألا ترون أنَّ في هذا الحديث تعطيلاً لمبدأ الأمر بالمعروف والتصدّي للمنكر؟
لا بدَّ أن ندرس سند هذا الحديث، هل هو صحيحٌ أم لا؟ وإذا فرضنا صحَّته، فإنَّ موردَه يظهر في الحالة التي لا يقوى فيها الإنسان على التحرّك أو المواجهة ولو بالكلمة، ولكنّنا نتصوّر أنَّ مثلَ هذا الحديث لا ينسجم مع الخطّ الإسلاميّ، ولا سيّما في الدعوة إلى الله {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران : 104]، وهكذا قول رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): "لتأمُرنَّ بالمعروف أو لتنهُنَّ عن المنكر أو ليسلّطنَّ اللهُ شرارَكم على خياركم، فيدعو خياركم فلا يُسْتَجاب لهم"(1) وهكذا في الآيات التي تأمر بالجهاد والمواجهة والوقوف ضدّ كلّ قوى الكفر والشرّ والانحراف. ولهذا فإنَّ هذا الحديث لا يمكن أن نلتزم بمضمونه، فنحن نردُّ علمه إلى أهله، أو نؤوّله بما يتناسب مع الحقائق الإسلامية في مسألة الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر.
عندما لا نلتزم بمضمون الحديث، فإنّنا نردّ علمه إلى أهله.
البلاء
رُويَ عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنَّه قال: "إنَّما المؤمن بمنزلة كفّةِ الميزان، كُلَّما زِيدَ في إيمانه زِيدَ في بلائه" ما نظرتكم في هذا القول؟
إذا صحَّ الحديث عن الإمام (عليه السلام)، فإنَّه يريد أن يقول، إنَّ المؤمن كلّما ازداد إيماناً، كلَّما ازداد بلاءً وتعباً وجهداً في الحياة. ويمكن لنا أن نفهم هذا الحديث الذي ينسجم مع كثيرٍ من الآيات القرآنية، ومنها {ألم*أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ*وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 1 ـــ 3] إنّ الإنسان عندما يقدِّم نفسه كمؤمن، فإنَّ الله يبتليه، بمعنى أنّه يمتحنه ويختبره ليظهر إيمانه على حقيقته، هل هو إيمانٌ مستقرٌّ في عمق نفسه أم أنّه إيمانٌ مستودَع؟ ونفهم القضية على أنّ الإنسان، كلّما ازداد إيماناً، ازداد وقوفاً في مواجهة تيّار النَّفس الأمّارة بالسُّوء، وفي مواجهة تيَّار الكفر والانحراف.
ومن الطبيعيّ أنّ الإنسان الذي يقف في مواجهة التيّارات القويّة، لا بدَّ أن يواجه ذلك بقوّة، ليحمي نفسه من ضرباتها كي لا تهزمه بطريقةٍ أو بأخرى، وهذا ما نلاحظه في كلّ حركة الأنبياء والأولياء وطلّاب الحريّة في العالم {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ} [البقرة : 214] ولعلَّ هذا هو المعنى الذي يختزنه هذا الحديث، وهو أنّ بلاء الإنسان بحجم موقفه وتأثيره في الحياة، في مواجهة القوى المضادّة المستكبرة والمنحرفة والكافرة.
إنَّ الإنسان عندما يقدِّم نفسه كمؤمن فإنَّ الله يمتحنه ليظهر إيمانه على حقيقته.
الشباب والشيوخ
نُقل عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنّه قال: "خير شبابكم مَنْ تشبَّه بشيوخكم، وشرُّ شيوخكم مَنْ تشبَّه بشبابكم".. ألاَ ترون أنَّ هذا الحديث يرمي إلى البقاء على القديم، وعدم التماشي مع التطوّر الاجتماعي؟
المقصود أنَّ خير الشباب مَنْ تشبَّه بالشيوح بالعقل والحكمة، لا في منطقهم، لأنَّ منطق الشيوح قد يكون خيراً وقد يكون شرّاً، وقد يكون حقّاً وقد يكون باطلاً، فالتشبُّه هنا في مواجهة القضايا بالتفكير والاتّزان، وشرُّ الشيوخ، مَن تشبَّه بالشباب في نزقهم ومراهقتهم وحالات التسرُّع التي يعيشونها، فليست المسألة مرتبطةً بالجانب الفكري، بل مرتبطة بجانب العقل والحكمة عند الشيوخ، وبجانب المراهقة والنزق عند الشباب.
خير الشباب مَنْ تشبَّه بالشيوخ بالعقل والحكمة، وشرّ الشيوخ مَنْ تشبَّه بالشباب في نزقهم ومراهقتهم.
حرص أم عقدة
"بين الحقّ والباطل أربع أصابع"، عدم تطبيق هذه القاعدة أوقع البعض في إرباكات كثيرة، وصرنا نبرِّر الغيبة تحت عنوان النقد الموضوعي والبنَّاء، ما الخطورة التي تشكّلها مسألة تحوير الممنوعات إلى محلّلات ومباحات؟
إنَّ على الإنسان أن يراقب ربّه قبل أن يراقب الناس، وأن يبرِّر عمله عند ربِّه قبل أن يبرِّر عمله عند الناس. قد يقول الواحد منّا إنّني أنقد نقداً موضوعياً، ولكنّ الله تعالى يقول: {بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ*وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} [القيامة: 14 ـــ 15] ويعني ذلك أنّ الإنسان يعرف نفسه ومنطلقاته، حينما يريد التحدّث بطريقة سلبية عن إنسانٍ ما، في أيّ موقع كان. وإذا ما تحدّث بهذه الطريقة السلبية، هل ينطلق في ذلك من الحرص على الإسلام والمسلمين؟ أم ينطلق من خلال عقدة ذاتية أو حقد أو حسد؟ ولهذا جاء في الحديث: "يُحشر الناس على نيّاتهم يوم القيامة"(1) و"إنَّما الأعمال بالنيّات ولكلِّ امرئٍ ما نوى"(2) هذا من جهة. ومن جهة ثانية، فإنَّ من شروط النقد الموضوعي هو ألاّ تُشَهِّر بأخيك المسلم وألاّ تهتك حرمته وتسيء إلى كرامته. وقد ورد في الحديث: "مَنْ وعظَ أخاه سرّاً فقد زانَه، ومَن وعظَه علانية فقد شانه"(3) أي عابه. فإذا كنت مخلصاً في أنّك تريد أن تنبّه أخاك المؤمن إلى بعض أخطائه أو انحرافاته، فإنَّ عليك أن تجلس معه بشكلٍ خاص لتنبّهه على ذلك، ولتعطيه النصيحة من جهة، وتحفظ كرامته من جهةٍ أخرى.
إنَّ من شروط النقد ألاّ تشهِّر بأخيك المسلم وألاّ تهتك حرمته وتسيء إلى كرامته.
الزمن والمحن
يقول أمير المؤمنين عليٌّ (عليه السلام): "مَنِ اغترَّ بمسالمة الزمن، اغتصَّ بمصادمة المحن" ما المراد من هذا الحديث؟
إنّ على الإنسان إذا جرى الزمان معه في يُسر وعافية وأمن وطمأنينة، أن يبقى حَذِراً في امتدادات الزمن في المستقبل، لأنّه إذا استطاع أن يأخذ من الزمن الآن راحته وطمأنينته، فليس من الضروري أن يسلّم الزمن له قياده في المستقبل، فقد يأتيه بالكثير من البلاء والمشاكل. ولذلك، إذا استسلم الإنسان للزمن واغترَّ به وخُيِّل إليه أنّه سوف يبقى في خير وعافية، سوف يسقط عندما يصدمه الزمن بالمحن والمصائب من حيث لا يدري، لأنّ الزمن لا يستقيم على حال، فبينما الإنسان في يُسر، فإذا هو في عُسر، وبينما هو في عافبة فإذا هو في بلاء.
لذلك، فإنّ حديث أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) يرشد الإنسان عندما يتحرّك في الحياة، لأن يواجهها بحذر ويقظة وواقعية، ليعرف أنّ الحياة تحمل له في يديها الشوك كما تحمل الورد.
ومن هنا، على الإنسان أن يعرف أنّ الحياة ليست ورداً كلّها، وليست شوكاً كلّها، فلا يتعقَّد منها إذا أصابته بأشواكها، لأنّه قد يرى الورد في قلب الأشواك، ولكن، عليه ألاّ يستسلم لورود الحياة، لأنّ الشوك قد يختفي في قلب الورد.. علينا أن نواجه الحياة مواجهة واقعية، ففيها عسرٌ ويسرٌ، وفيها عافيةٌ وبلاء.
على الإنسان ألاّ يستسلم لورود الحياة لأنَّ الشوك قد يختفي في قلب الورد.
وعي المؤمن
جاء في الحديث أنَّ "المؤمن لا يُلدغ من جُحْرٍ مرّتين"، هل هذا الحديث يشمل المذنب الذي أذنب مرتين أو أكثر بنفس الذنب؟
هذا الحديث يؤكّد أنّ المؤمن ليس إنساناً بسيطاً أو غافلاً، ولكنّه الإنسان الواعي الذي يحدّق في الأمور بوعي، ويدرس تجربته مستفيداً منها، فإذا أدخل يده في جُحر، في ثقب حائط، أو في أيّ مكان ولُدغ منه، فإنّه يستفيد من تجربته هذه، فلا يُدخل يده مرّة ثانية، لأنّه يعرف أنّه سيُلْدَغ مرّة ثانية. وهذا معناه أنَّ الإنسان عندما يعيش تجربة سلبية تؤدّي إلى الخسارة أو الفشل أو الهزيمة، فإنَّ عليه أن يأخذ درساً من هذه التجربة ليتفادى الدخول فيها من جديد، لأنّه سوف يعاني ما عاناه في المرّة الأولى.. وخلاصة ذلك، أنّ على الإنسان أن يستفيد من تجاربه، سواء في حركة حياته، أو في حركة ممارسته لدينه.
إنَّ الإنسان عندما يعيش تجربة سلبيّة تؤدّي إلى الخسارة، فإنَّ عليه أن يأخذ درساً من هذه التجربة.
متتبِّعو العثرات
جاء في الحديث عن أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام): "إيَّاك ومعاشرة متتبِّعي عيوب الناس، فإنّه لم يسلم مصاحبُهم منهم"، ما هو الأثر السلبي لمعاشرة مثل هؤلاء؟
خلاصة هذا الحديث أنّه لا يكن أصحابك وأصدقاؤك من الذين يفتّشون عن عيوب الناس ليشهّروهم بها، كالكثيرين من الناس الذين يغفلون عن عيوب أنفسهم، فلا يحدّقون في داخلها ليكتشفوا ما فيها من عيوب، بل يحدّقون في عيوب الناس من حولهم، وربّما يتجسَّسون عليهم ويستغلُّون صداقتهم.
ومن هنا، فإنَّ الإمام (عليه السلام) يحذّر الإنسان من مصاحبة هؤلاء، لأنّه يصبح مثلهم عندما يكتسب طباعهم. وقد قال الشاعر:
صاحب أخا ثقةٍ تحظى بصحبته فالطبع مكتسَبٌ من كلّ مصحوبِ
والريحُ آخذةٌ ممّا تمرُّ به نتْناً من النَّتْنِ او طيباً من الطيبِ
وبهذا يكون الإنسان مثلهم، وسيواجه النتائج السلبية عند الله وعند الناس. وهكذا عندما تصاحبهم، فإنَّهم سيتتبّعون عيوبك وعثراتك لتكون أحدَ ضحاياهم في المستقبل. وهذه المسألة من المسائل الخطرة جدّاً على دين الإنسان. فقد ورَدَ في الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام): "أقرب ما يكون العبد إلى الكفر ـــ أي أن يكون بينه وبين الكفر درجة ـــ أن يؤاخي الرجلُ الرجلَ على الدين فيحصي عليه زلّاته ليعنّفه بها يوماً ما"(1).
كثيرون هم الذين يغفلون عن عيوب أنفسهم، فلا يحدّقون في داخلها، بل يحدّقون في عيوب الناس.
أهل البيت (عليهم السلام)
معرفة أهل البيت (عليهم السلام) بالانفتاح عليهم
ما هي نصائح سماحتكم إذا أردنا هداية إنسان لإدخاله في عمق الإسلام الذي يتمثَّل بأهل البيت (عليهم السلام):
أن نحدِّثه عن صفتهم في الإمامة والعصمة، وعن مكانتهم عند الله سبحانه وفضائلهم التي يتميَّزون بها، وعن كراماتهم وتعاليمهم وآثارهم، حتى نملأ عقولهم بفكر أهل البيت (عليهم السلام) ونملأ قلوبهم بمحبّتهم، فأفضل طريق لانفتاح الناس على أهل البيت (عليهم السلام)، أن يعرفوهم من خلال ما أكرمهم الله به من فضائل، وما أنتجوا من علوم ومآثر ووصايا.
إشراك الزهراء (عليها السلام) في المباهلة
هل صحيحٌ أنّ إشراك الزهراء (عليها السلام) في قضية المباهلة لا دليل له على عظيم شأنها وما لها من قيمة وفضل، سوى أنّ الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) جاء بها مع عليٍّ والحسن والحسين ـــ سلام الله عليهم ـــ ليثبت لنصارى نجران أنّه على استعداد للتضحية حتى بهؤلاء من أهل بيته من أجل هذا الدين؟
إنَّ عظمة الزهراء (عليها السلام) وفضلها لا يحتاجان إلى إشراكها في المباهلة مع نصارى نجران، لأنَّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال بحقّها: "فاطمةٌ بضعةٌ منّي يرضى الله لرضاها ويغضب لغضبها"(1) وهي أيضاً من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً بنصّ القرآن الكريم. وهي ـــ بعد ذلك أو قبل ذلك ـــ سيّدة نساء العالمين، أمّا إتيان النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بفاطمة وعليّ والحسين (عليهم السلام) فللدلالة على صدقه في دعوته، فهو (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عرَض أعزّ الناس وأحبّهم وأقربهم إليه انطلاقاً من أنّهم أهل بيته، وأنّهم يملكون العناصر القويّة التي تجعلهم أهل الفضل، عرّضهم للمباهلة، لأنّ المباهلة(1) تنتج إنزال العذاب بالكاذب من الطرفين المتباهلين. لذلك يُروى بأنّ أسقف نجران قال: انظروا، فإن جاء بأهل بيته فعليكم ألاّ تباهلوه، وإنْجاء بغير أهل بيته فباهلوه، ولما أتى (صلّى الله عليه وآله وسلّم) محتضناً الحسن، آخذاً بيد الحسين وفاطمة(2) تمشي خلفه وعليٌّ خلفها. قال أسقف نجران لأتباعه: فلا تباهلوا فتهلكوا. ودخلوا مع الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في معاهدة واتّفاق.
فالنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) جاء بفاطمة وعليّ والحسنين (عليهم السلام) إلى المباهلة ليثبت لهم بأنّه جاء بأحبّ الناس إليه وأقربهم إلى قلبه، وهذا يوحي ببعض جوانب الفضل وجوانب العظمة فيهم.
إنّ إتيان النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بأهل بيته (عليهم السلام) للمباهلة يُوحي ببعض جوانب الفضل والعظمة فيهم.
بعيداً عن العقدة
هل أنَّ الفراغ الذي ملأته الزهراء (عليها السلام) بفقدان النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لحنان وعطف الأم كان يشكّل لديه عقدة نقص، أم أنَّ ذلك حاجة كان يعيشها (صلّى الله عليه وآله وسلّم)؟
إنَّ كلمة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن الزهراء (عليها السلام) "إنّها أُمُّ أبيها" توحي لنا أنَّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حنان الأم وعطفَها، بحيث عوّضته عمّا فقده من حنان أُمّه وعاطفتها، حتى أنَّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وهو يتمثّلها كيف ترعاه وتحنو عليه وتبكي إذا مسَّه سوء، كان يحسّ كما لو كانت أُمّه تفعل ذلك وتعيش معه، وليس هذا عقدة نقص في شخصيّته (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وهو (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لم يَشْكُ عقدة نقص على الإطلاق، ولكنَّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بشرٌ يعيش الإحساس بحنان ومحبّة الآخرين ولا سيّما ابنته، ونحن نعرف كيف تحدَّث الله مع النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن حزنه، عندما أراد سبحانه أن يخفّف عنه حزنه في حركة الرسالة، فقال سبحانه: {وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ} [النحل : 127]، وقال تعالى أيضاً: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} [المائدة : 41]، وقال سبحانه: {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر : 8]. فالنبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يمثّل الكمالَ كلَّه، وعلى هذا، فإنَّ إحساس البشر بالجوع لا يعني نقصاً فيه، وليس هناك فريقٌ بين الجوع إلى الطعام وبين الجوع إلى الحنان، فنحن نعيش الجوع إلى الحنان، كما نعيش الجوع إلى الطعام.. فهل هناك نقصٌ في النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عندما يحسّ بالجوع إن كان جوعاً للحنان أو للطعام؟ إنَّ كلمة أمّ أبيها تختزن كلَّ إحساس النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بحنان ابنته وعطفها وقلبها الكبير الذي تجسَّد فيه قلب الأُم لأبيها، وكذلك كانت الزهراء (سلام الله عليها) أمَّ أبيها.
إنَّ كلمة "أمّ أبيها" تختزن كلَّ إحساس النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بحنان ابنته وعطفها وقلبها الكبير الذي تجسَّد فيه قلب الأُم.
الألقاب
يأخذ بعضٌ على بعضٍ آخر بأنّهم لا يقرنون مع لفظ أسماء النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والزهراء (عليها السلام) والأئمّة (عليهم السلام) ألقاباً تحمل التقديس والتبجيل، ويعتقدون أنّ عدم إضفاء هذه الألقاب على أهل البيت (عليهم السلام) يُوهن مواقف النبيّ والأئمّة في عيون الناس، أين سماحتكم من هذا الرأي؟
نحن نقول إنّ اللّقب يحتاجه مَنْ لا يملك اسمه كلّ الألقاب، ونحن عندما نلفظ اسم "الله" تعالى، فلا نحتاج أن نأتي بكلّ صفات الله سبحانه، فالنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والزهراء (عليها السلام) والأئمّة (عليهم السلام)، أسماؤهم وحدها تحمل كلّ ألقاب العظمة والجلال والكمال، ولذلك لا نحتاج إضافة الألقاب إلى أسمائهم، فالذين يحتاجون ذلك، هم الذين لا يعرفهم الناس إلاّ من خلال الألقاب، تماماً كمن لا يستطيع أن يمشي وحده، بل يحتاج إلى عربة. فأهل البيت (عليهم السلام) يمشون وحدهم ولا يحتاجون إلى عربة من الألقاب.
وقد سُئل "المتنبّي" ـــ والظاهر أنّه كان يتشيَّع لأهل البيت (عليهم السلام) على ما يذكر السيّد محسن الأمين (رحمه الله) في كتابه (أعيان الشيعة)(1) ـــ لماذا لم يمدح أمير المؤمنين عليّاً (عليه السلام) وقد مدح سيف الدولة وكافور وغيرهما، فأجاب بهذين البيتين من الشعر:
وتركت مَدْحي للوصيِّ تعمّداً إذ كان نوراً مستطيلاً شاملا
وإذا استطال الشيءُ قام بنفسه وصفات ضوء الشمس تذهب باطلا
فأنت عندما تلفظ كلمة "الشمس" فإنّك تفهم من هذه الكلمة كلّ هذا النور والدفء والحرارة والإشراق الذي يُعطي للحياة كلّ الخير، ولا تحتاج أن تقول الشمس المشرقة أو الدافئة أو ما إلى هنالك، فاسمها يختزن كلّ هذه المعاني. فالنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) شمسٌ للعقل والروح والفكر، والزهراء (عليها السلام) شمسٌ للطهر والعلم والصفاء والنقاء، والأئمّة (عليهم السلام) هم الشموس التي تشرق في عقولنا وقلوبنا لتخرجنا من الظلمات إلى النور.. لذا، فما حاجتهم إلى الألقاب والكلمات؟ قل "عليّ" ولا تُضف إلى ذلك شيئاً، لأنّ كلمة "عليّ" تعطيك كلّ معاني عليّ (عليه السلام)، لأنّه يعيش العظمة في داخل نفسه، فهو عظيمٌ بمقدار ما كان متواضعاً، وهو كبيرٌ بمقدار ما كان صغيراً أمام الله تعالى، وهو الإنسان الكامل، بمقدار ما كان يتذلَّل بين يديه سبحانه.
الأئمّة (عليهم السلام) هم الشموس التي تشرق في عقولنا وقلوبنا لتخرجنا من الظلمات إلى النور.
المذهب الجعفري
تقولون ـــ وبحسب عقيدتنا الإمامية ـــ إنَّ نسبة الشيعة إلى المذهب الجعفري غير دقيقة، كيف تُفسِّرون ذلك؟
تعرفون أنَّ هناك مذهباً شافعياً وحنبلياً ومالكياً وحنفيّاً، ويقولون أيضاً عن المسلمين الشيعة إنّهم ينتسبون إلى المذهب الجعفري. ونحن بحسب عقيدتنا الإمامية، فالأئمّة من أهل البيت (عليهم السلام) ليسوا مجتهدين كبقية المجتهدين. فأبو حنيفة مثلاً ـــ حتى عند مَنْ يقلّده ويتبعه ـــ يُصيب ويُخطئ، وهكذا ابن حنبل وغيرهما، وبعض المسلمين مع غيرهما من المجتهدين يقلّدونهم، كما نقلّد نحن السيّد الخوئي (قدّس سرّه) والسيّد الخميني (قدّس سرّه). فأئمّة المذاهب يقلّدهم مَن يرى أنّهم مجتهدون، أمّا نحن عندما نتّبع أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) إنَّما ذلك من خلال أنّهم معصومون لا يُخطئون أبداً، ولذا فإنَّهم (عليهم السلام) ليسوا أصحاب مذهب، لأنَّ المذهب وجهة نظر، فمذهب أبي حنيفة يسمّى وجهة نظر، ولكنَّ مذهب الإمام الصادق (عليه السلام) ليس وجهة نظر يمكن أن تُخطيء ويمكن أن تصيب، بل هي على صواب دائماً، فهو يقول (عليه السلام): "حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدّي، وحديث جدّي، حديث رسول الله، وحديث رسول الله عن جبرائيل عن الله سبحانه"(1) فنحن عندما نستمع إلى رأي الإمام الصادق (عليه السلام) في مسألة ما، فكأنّنا نستمع إلى رأي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الذي لا يُخطئ مطلقاً.
ولذلك، ليس مذهب الشيعة مذهباً اجتهادياً يخضع كغيره للصواب والخطأ، بل هو مذهب الإسلام الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه في المصادر الأصيلة الثابتة ـــ بشكلٍ موثّق ـــ عن الأئمة (عليهم السلام).
وهذا هو المقصود من كلمة أنّ "الأئمّة رواة" التي ربّما انطلقتُ في أحاديثي العامة والخاصة ـــ كما تحدّث بهذه الطريقة العلامة السيّد محمّد تقي الحكيم في كتاب الأصول العامة للفقه المقارن(1) ـــ من أنّه ليس المقصود أنّهم رواة أي نَقَلة حديث كالرواة العاديين، بل المقصود أنّهم يروون عن رسول الله حديثه في كلّ أقوالهم سواء بطريقة الروايات أو بطريقة الحديث العام، من أنَّه ليس لديهم شيء شخصي يمكن أن يخضع للآراء الذاتية بحيث قد تختلف عمّا قاله الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم). أنّهم يأخذون من الينبوع الأصيل بكلّ صفاء الإسلام ونقائه ولا مصدر لهم غيره، ولا اجتهاد خاضع للخطأ والصواب فيه.
ليس مذهب الشيعة مذهباً اجتهادياً يخضع كغيره للصواب والخطأ، بل هو مذهب الإسلام الذي لا يأتيه الباطل.
المرجعيّة
قيادة وريادة
المرجعيّة المؤسّسة
ما هي مشاريعكم على مستوى المرجعية المؤسّسة(1)
نحن نعتقد أنّ مشروع المرجعيّة المؤسّسة يحتاج إلى شروط واسعة، ويحتاج إلى الكثير من الانفتاح على الرأي العام المسلم في هذا المشروع.. إنّنا نعمل على أن نتحرّك على أساس العمل المؤسّسي وفينظاقنا الخاص لنوسّع الأمر كلّما توسّعت الفرص أمامنا. فالمرجعية المؤسّسة، كما هي المرجعية الرشيدة تحتاج إلى الكثير من الشروط العامة في حياة الناس بحيث يتفاعلون معها ويخرجون من المرجعيّة الشخصانية الفرديّة. وهذا أمرٌ يحتاج إلى المزيد من الوعي، لذلك، كنّا نقول وما زلنا إنّ المرجعية المؤسّسة في سعتها الشمولية هي مشروع المستقبل. ونحن نحاول بطريقة أو بأخرى أن نُدخل بعض التجارب التي تدفع بالمسألة إلى واقع المؤسّسة.
المرجعية المؤسّسة في سعتها الشمولية هي مشروع المستقبل.
الخطوات العمليّة
من المعروف أنّ سماحتكم من أوائل الداعين إلى فكرة المرجعيّة المؤسّسة، هل هناك من عمل لبناء هذه المؤسّسة، وهل هناك من خطوات عملية في الجمهورية الإسلامية في إيران لمثل هذه الخطوة، حيث أنّ الظروف هنك موافقة للفكرة من قِبَل المراجع الكرام؟
في الواقع، نحن نحاول أن نقوم ببعض التجارب بحجم قدراتنا في إيجاد أرضية للمرجعية المؤسّسة بقدر ما يتّصل الأمر بنا.. أمّا في إيران، فإنَّ سماحة آية الله السيّد الخامنئي(2) (حفظه الله) قد أطلق الدعوة في الحوزة العلمية في (قم) من أجل التغيير وتحويلها إلى مؤسّسة، وبسبب وجود بعض الأوضاع، فإنَّ السيّد الخامنئي وبالرغم ممّا يملك من قوّة لم يستطع إلى الآن إكمال مشروعه.. ولكن هناك بعض المبادرات التي قد تجعل المسألة تنفتح على كثير من الإيجابيات في المستقبل، ونحن أيّدناه في هذه الخطوة ووقفنا معه، ونقف معه في كلِّ الأعمال التي يراد فيها إفساح المجال لحركة الوعي ضدّ التخلُّف، باعتبار أنّ من الضروري للإسلام أن يدخل العصر من الباب الواسع، بعيداً عن كلّ القضايا الهامشيّة.
من الضروري للإسلام أن يدخل العصر من الباب الواسع، بعيداً عن كلّ القضايا الهامشيّة.
التصدّي للمرجعيّة
هل بإمكانكم أن توفّقوا بين تصدّيكم للمرجعية الدينيّة وتفرّغكم للقضايا الفكرية والأدبية بوجهٍ عام؟
إنَّ التصدّي للمرجعية الدينية وتفرّغي لقضايا الفكر والأدب لا يتناقضا بل يتكاملان، ذلك إنّني أعتبر أنّ الإنسان وحدة وليس مجزّأً، ولذلك، فأنا أعيش الجانب الفقهي من حيث أعيش الجانب الأدبي، لأنّني أعتبر أنّك بمقدار ما تكون مثقّفاً بالثقافة الأدبية، بمقدار ما تفهم مصادر الفقه في الكتاب والسُّنّة، وبمقدار ما تنفتح على الآفاق الواسعة، بمقدار ما يتّسع أفقك في تجربتك، حتى في المسألة السياسيّة. فبمقدار ما تتعمّق في هذا العلم أو هذا الفن، بمقدار ما تستطيع أن تتعمّق في فهمك للحدث السياسي، لأنَّ الطاقات تتكامل مع بعضها. لهذا، فإنّني أتصوّر أنّ اهتماماتي الفقهية وأشغالي العامة في علاقاتي مع الناس، وفي مواجهتي لمشاكلهم ولأسئلتهم، لا تثنيني عن ذلك، لأنّني أحاول أن أربح كلّ وقتي، وليس عندي وقت فراغ.. إنّ وقت الفراغ عندي هو الوقت الذي أتجدَّد فيه في قراءة قد تستطيع أن تعطيني شيئاً من الراحة ولا تتعبني أكثر.
كيف كانت علاقتكم بسماحة الوالد المقدّس(1) (رحمه الله)؟
لم يتعامل معي بالطريقة التي زرعت في نفسي الخوف منه، كنت أهابه، لم يجرّب في كلّ حياتي معه أن يضربني مرّة، ولم يجرّب أن يكلّمني بكلامٍ قاسٍ، كان يصمت، وكان صمته أقسى عليَّ ممّا لو كان قد ضربني، وكنت أتراجع، كان (رحمه الله) يحاورني في كلِّ شيء، كنتُ أُناقشه وأنا أتتلمذ على يديه، حتى على مائدة الطعام كنت أدرس عليه، وأُناقشه في كثير من الأفكار، ويناقشني كما لو كنت متقدّماً في العمر وأنا الصغير. كان محاوراً جيّداً، وأُحاوره في الأمور التي تسمّى بالأمور المحرّمة التي لا يستطيع الإنسان أن يناقش بها في الهواء الطلق، وكان يتقبَّل ذلك منّي، حيث كان (قدّس سرّه) يملك حرية الفكر وسعة الأُفق، وكان يعرف بأنّك لا تستطيع أن تمنع إنساناً أن يفكّر بالطريقة الخاطئة إذا كنت تقسو وتضغط عليه، ولذلك تعلَّمت منه الحوار، وتعلَّمت منه أنّ الإنسان يمكن أن يحاور في كلّ شيء، لأنّه قد يملك أدوات كلّ شيء، لذلك لا "مقدّسات في الحوار" وهذا هو الشعار الذي أطلقته بعد ذلك، ولا أزال أطلقه.. وقد كان (قدّس سرّه) الإنسان الروحاني الذي تشعر بالطمأنينة عندما تنظر إليه، فتشعر كما شعر كلّ الذين عاصروه وعاشوا معه أنّ هناك روحاً تفيض براءة وعفوية وطهارة وتقوى أمامك، كان يعلّمني دائماً أنّ الكثير من القضايا يمكن أن تحلّها بإهمالها، بدلاً من الدخول في صراع معها، ورأيت الكثير من واقعيّة ذلك، كان يحبّ الناس كثيراً، وعلّمني أن أحبّ الناس. وإنّني أحتاج إلى هذا الصفاء الذي كان يعيشه، لأنّه يجعل الإنسان يواجه كلّ التحدّيات دون أن يعيش في نفسه أيّة حالة من القلق، وقد تعلّمت منه الكثير من هذا الفيض الروحي، وهذا الصبر أمام التحدِّيات والمشاكل، وأمام كلّ الذين يواجهون بطريقة غير مسؤولة. لقد تعلّمت منه أنّ الصبر يمكن أن يُعينك على أن تفكّر بطريقة أكثر عمقاً وأكثر شمولية.
إنّني أحاول أن أربح كلَّ وقتي، وليس عندي وقت فراغ، إنَّ وقت الفراغ عندي هو الوقت الذي أتجدَّد فيه في قراءة قد تستطيع أن تعطيني شيئاً من الراحة ولا تتعبني أكثر.
أمنية
ما هو مشروع سماحتكم للسنين القادمة، وما هي آمالكم التي تأملون بالحصول عليها؟
مشروعي هو الإسلامي في خطِّ أهل البيت (عليهم السلام) فكراً وحركةً ومنهجاً والتزاماً في جميع مجالات الحياة، هذه هي كلُّ أمنياتي، وليست عندي أمنيات شخصيّة أو ذاتية، ولكن أمنيتي الوحيدة التي عشت لها وعملت لها منذ خمسين عاماً، هي أن أكون خادماً لله ولرسوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ولأهل بيته (عليهم السلام)، وللإسلام والمسلمين.
أمنيتي أن أكون خادماً لله ولرسوله ولأهل بيته.
المرجعيّة الدينيّة والمرجعيّة السياسيّة؟
ما هي المرجعيّة الدينيّة والمرجعيّة السياسيّة؟
المرجعية الدينيّة في المصطلح هي التي تتمثّل في الشخص الذي يملك الاجتهاد في الفقه والأصول والاستقامة في الدين، ويرجع الناس إليه في الفتاوى الشرعية على أساس قول الله تعالى: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [الأنبياء : 7]، فالمرجع في المصطلح التقليدي هو الذي يكون مرجعاً في الفتاوى الفقهيّة، وفي بعض القضايا المتّصلة بالجانب الشرعي التطبيقي كالحقوق الشرعية من الخمس والزّكاة، حيث يُطلب فيها رأي المرجع، وربّما يمتدّ بحسب ظروفه الفكرية أو الاجتماعية للقيام بمؤسّسات تربوية أو خيريّة.
وأمّا المرجعيّة السياسيّة والتي تتمثّل في الجوّ الإسلامي الشيعي، هي ما يُطلق عليها ولاية الفقيه على أساس ما تمثّل من مسؤولية شرعية للفقيه الذي يتحرّك لقيادة الواقع الإسلامي بشرط أن يكون مجتهداً عادلاً منفتحاً على قضايا العالم، وهو يجمع إلى جانبه الخبراء والمختصِّين الذين يتشاور معهم فيما له خبرة فيه، ويمنحونه خبرة ممّا لا خبرة له فيه. ولذلك، فإنَّ مسألة ولاية الفقيه لا تعني بحسب شرعيّتها أنّ الفقيه يحكم بمزاجه وذاتيّته، بل هناك برنامج شرعي يتقيَّد به، وحركة خبرويّة لا بدَّ له أن يعيشها على طريقة "وشاورهم في الأمر".
ولاية الفقيه لا تعني بحسب شرعيّتها أن يحكم الفقيه بحسب مزاجه بل هناك برنامج شرعي يتقيَّد به.
ضريبة التفكير المنفتح
في حديث لكم أمام مجموعة من المثقّفين والأدباء تقولون: "ضريبة التفكير المنفتح أن يتحمّل ضربات التيّار الذي يقف بوجهه، وأن يتحمّل الرجم بالحجارة الاجتماعية والسياسية، وأنَّ الحياة بدون معاناة هي حياةٌ بدون معنى، وبقدر ما نعاني نغتني، وبقدر ما يعاني عقلنا يُبدع، وبقدر ما تعاني حياتنا تتطوَّر" أمام هذا الكمّ الهائل من التخلُّف، هل ترون أنَّ نور الوعي سيتأخَّر انبلاجه، أم أنَّ الخروج من المُحاق صار قريباً؟
إنَّ الحياة لا يمكن أن تعطي قيادها إلاّ للّذين يمنحونها وعياً في الفكر والروح والحركة، وإبداعاً في النتائج الإيجابيّة. ونحن نعرف أنَّ الله تعالى حدَّثنا أنَّ الكثيرين الذين لا يعلمون ولا يتّقون، والذين يتخلَّفون، هؤلاء هم الذين يمثّلون التيّار العام.. والجهل لا يكلّف صاحبه الكثير من الالتزامات، وهكذا التخلُّف الذي يلتقي مع الغرائز السطحيّة.. أمّا العلم، فإنَّه يُتعب صاحبه، وكذلك الإبداع والتقدّم والوعي، فإنَّه يحمّله الكثير من المسؤولية.. ولهذا رأينا أنَّ الأنبياء والأئمّة (عليهم السلام) كانوا في جانب، وكان المتخلّفون الجاهلون في جانبٍ آخر، وكانت الأكثرية مع الغوغاء والأقليّة مع الأنبياء والأئمّة والمصلحين الذين تحمّلوا الكثير من عَنَتِ الجاهلين والمتخلّفين.. حتى أنَّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) اتّهمه المشركون الذين لا يعلمون ـــ كما عبَّر عنهم القرآن ـــ بكلّ تهمةٍ باطلة، فاتّهموه في عقله بالجنون، ورجموه بالحجارة في الطائف حتى دَميت رجلاه، وألقوا عليه الأوساخ، ولكنّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ثبت على موقفه، وأطلق الفكرة، وجاهد في سبيلها إلى أن انتصر الإسلام، فسقط المتخلّفون، وبقي النور والعلم والوعي والإسلام الذي جاء به (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
ومن هنا، فإنَّ كلَّ مصطلح(1)، لا بدَّ أن يكون مستعدّاً لضربات التيّار، وأن يبتسم عندما تواجهه كلّ هذه الكلمات اللامسؤولة، ولا بدَّ له أن يحدّق بالمستقبل عندما تثور حوله طفيليات الحاضر، لأنَّ المستقبل يحتضن الكلمات المسؤولة والوعي والتقدّم.. قد يستطيع الكثيرون أن يثيروا غرائز بعض الناس، ببعض الكلمات والإتهامات والأراجيف، وقد يستطيعون أن يضلِّلوا هذا وذاك بكلّ ما يختزنون في قلوبهم من حقد وخبث، ولكنَّ الله تعالى يقول: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} [الرعد : 17] كلُّ الزبد الذي يدفعه السيل يتبخَّر، أمّا المياة فتبقى في أعماق الأرض تعطي الخِصب والرخاء.
لذلك، نقول: لا بدَّ للذين يحملون مسؤولية الوعي في مواجهة التخلُّف، ويحملون مسؤولية بناء المستقبل من خلال آلام الحاضر، لا بدَّ لهم أن يثبتوا ويصمدوا ويتحمّلوا ضربات التيّار، وينطلقوا مع روحية الأنبياء التي تنظر بإشفاق إلى هؤلاء الذين لا يعلمون، والذين لا يواجهون نور الحقيقة بقلبٍ مشرق وعقل منفتح. وهؤلاء المصلحون يُطلقون نور الحقيقة بقلبٍ مشرق وعقل منفتح. وهؤلاء المصلحون يُطلقون الكلمة الحُرّة الحقّة النافعة القوية والمتقدّمة ليعرف الناس الحقَّ والحقيقة {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ} [الأنفال : 42] ولولا الصراع الذي خاضه الأنبياء والأئمّة والمصلحون ضدَّ قوى التخلّف لما استطاع الإسلام أن ينتشر والحقّ أن يسطع، ويبقى شعارنا وشعار كلِّ السائرين في طريق النور "اللَّهمَّ اغفر لقومي فإنَّهم لا يعلمون".
لا بدَّ لكلِّ مصلح أن يكون مستعدّاً لضربات التيّار وأن يبتسم عندما تواجهه كلّ هذه الكلمات اللامسؤولة، وأن يحدّق بالمستقبل عندما تثور حوله طفيليّات الحاضر.
إلى مَ تدعون؟
هل تدعون إلى القومية أم إلى الوطنيّة؟
أنا أدعو إلى الإسلام، وانتمائي إلى العروبة لا يمثّل ايديولوجيّة خاصّة، بل يمثّل إطاراً إنسانياً، وهكذا أنا لبناني، ولكنَّ اللبنانية لا تمثّل خطّاً فكرياً خاصّاً، كما أنّ القومية عندي لا تمثّل نظرية فكرية معيّنة، فالإسلام يمكن أن يتّسع للقومية الإنسانية، لا للقومية الفكرية التي تحمل إيديولوجيات غير إسلامية في داخلها، وكذلك يتّسع الإسلام للوطنية كموقع جغرافي ومسؤولية مشتركة للناس الذين يعيشون داخلها، على أساس أنَّ حريّة الأرض تنعكس على حريّة الإنسان سلباً وإيجاباً.. لذلك، فالذين تعيش معهم، لا بدَّ أن تحمل همَّهم كما يحملون همّك. أمّا أن نحوِّل الوطن إلى صنم نعبده فهذا أمرٌ غير إسلامي، فكما لا نريد للوطن والأرض أن يكونا صنماً، كذلك لا نريد للقومية أو غير القومية أن تكون صنماً نعبده.
كما لا نريد للوطن والأرض أن يكونا صنماً، كذلك لا نريد للقومية أن تكون صنماً نعبده.
التثبّت في مواجهة الإشاعات والأكاذيب
بين فترةٍ وأخرى تُثار شبهات حول شخصيات إسلامية عاملة معروفة بجهادها الطويل في الساحة الإسلامية، ما هو رأي الإسلام تجاه هذه الشبهات وتجاه تناقلها من قِبَل أُناس قد يُحسبون على المؤمنين أحياناً؟
إنَّ علينا أن نستنطق كتاب الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات : 6]، ونقرأ قوله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ(1) مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء : 36]، وهكذا في كلام الإمام عليّ (عليه السلام): "ضع أمر أخيك على أحسنه، لا تظنَّن بكلمة خرجت من أخيك سوءاً وأنت تجد لها في الخير محملاً"(2).. إنَّ علينا كمسلمين أن نعرف دور الأجهزة المخابراتية الدولية والإقليمية والمحليّة التي تعمل بكلّ ما عندها من طاقة في سبيل إرباك الواقع الإسلامي، وتشويه صورة العاملين المجاهدين بالإشاعات والأكاذيب وما إلى ذلك(3). وهذا ما لاحظناه أخيراً في ما نُسِبَ إلى مراجع النجف الموقّرين في البيان الذي أصدره بعض الذين لا يعيشون مسؤولية الإسلام، وتبيَّن أنّه مكذوب عليهم جملةً وتفصيلاً. لذلك على المؤمنين أن يتثبَّتوا في كلّ ما يسمعونه، لأنّ الساحة قد تستخدم بعض مَنْ يُعتبرون من الموثوقين، ولكنّهم من البسطاء، لتمرير بعض الأكاذيب، مستفيدين من بعض العُقد النفسية والصراعات الموقعيّة هنا وهناك في سبيل إثارة البلبلة والفوضى في التصوّرات الإسلامية للقيادات، وهذا ما ينعكس سلباً على الواقع الإسلامي كلّه. إنّ المسألة ليست مسألة ما يتعلّق بهذا الشخص أو ذاك من أحاديث سلبية، ولكنّ المسألة هي في إرباك الساحة الإسلامية وجعلها تعيش الكثير من التمزّق والقلق والحيرة والفوضى، وهذا ما يخدم الكفر والاستكبار العالمي بطريقة وبأخرى.
فعلى المؤمنين أن يحذروا من ذلك كلّه، لأنَّ الاندفاع في هذا الاتجاه ومحاولة نشر الإشاعات هنا وهناك، قد تجعل الإنسان ممّن يحبُّون أن تشيع الفاحشة بين الذين آمنوا، وقد عرفنا أنَّ الله جعل لهؤلاء عذاباً عظيماً.
الذين يُثيرون الإشاعات هم من الذين يحبُّون أن تشيع الفاحشة بين الذين آمنوا، وقد أعدَّ الله لهؤلاء عذاباً عظيماً.
هل من مشروع خاص؟
يقول البعض إنَّ لديكم مشروعاً خاصّاً أو ذاتياً في الساحة الإسلاميّة، نرجو أن توضحوا لنا ماهية هذا المشروع؟
مشروعي منذ أن انطلقت في العمل الإسلامي منذ ما يقارب الخمسين سنة، هو الإسلام، والإسلام في خطّ أهل البيت (عليهم السلام).. هذا هو مشروعي الذي عشت حياتي من أجله، لذلك كنت وما أزال أقف مع كلِّ مشروع إسلامي يريد تغيير الواقع الفاسد لمصلحة الإسلام، ولذلك انفتحت على كلِّ الحركات الإسلامية وكلّ الواقع الإسلامي وكلّ واقع المسلمين.. ولكنّ المشكلة عند الآخرين أنَّ لهم مشروعهم الخاص ويحاولون اتّهام الآخرين بالمشاريع الذاتية.. ليس في حسابي في كلِّ ما قمت به منذ البداية شيء اسمه "محمّد حسين فضل الله" فمشروعي هو كلمة الله.. وإذا كان ذلك الشاعر الغزلي عمر بن أبي ربيعة يتغزَّل بالنساء حتى أثناء الطواف حول الكعبة، وقد سُئِل، أبمثل هذا الموقف؟ قال: إنّي موكلٌ بالجمال أتبعه. فأنا أقول: "إنّي موكلٌ بالإسلام أتبعه"، لذلك، فإنَّ الذين يتحدّثون بهذه الطريقة، عليهم أن يحاسبوا أنفسهم ليتخلَّصوا من العُقَد التي يعيشونها ويخرجوا من الأوهام التي يرسمونها لأنفسهم.
مشروعي هو الإسلام في خطّ أهل البيت (عليهم السلام) وهذا الذي عشت حياتي من أجله.
الحزبية والمرجعيّة
هناك مَن يقول: إنّ الحزبية السياسية في هذه السنين تحمل مشروع السيطرة على المرجعية الدينيّة فما هو تعليقكم على ذلك.
إنَّنا لا نجد هناك أيّ مشروع واقعي في الحاضر يجعل المرجعية خاضعةً لحزب معيّن، لأنّ طبيعة المرجعية، في شموليّتها في واقع الأُمّة، لا تنسجم مع ذلك ولا نجد في الساحة أيّ مرجع يحمل مثل هذا الاتجاه الحزبي، بالمعنى الضيّق للمسألة الحزبية التي تحصر الإنسان في دائرة محدودة لا تنفتح على الناس كلّهم، ولكنّ بعض الناس يعيشون العقدة من الأحزاب الإسلامية التي تتبنَّى الإسلام فكراً وعاطفة وقاعدة للحياة لأنّهم لا يريدون للمسلمين أن يواجهوا الأنظمة العلمانية بالإسلام، لأنّهم يريدون للنّاس أن يتكاملوا معهم، ولذلك فإنّهم يجدون في كلّ شخصية تلتزم الإسلام بالمعنى الحركي المنفتح على الواقع كلّه، مشروع حزبية من خلال عقدة ذاتية مستحكمة، ومن الطريف أنّ بعض الناس الذين يتعقّدون من الحزبية الحركية الإسلامية حتى لو كانت منفتحةً على الأُمّة كلّها، يعملون على أساس الحزبيّة الشخصانيّة التي تسبّح بحمد الشخص ولا تنفتح على الخطّ الأصيل للإسلام.
إنّنا ضدّ الحزبية الضيّقة التي تحبس الإنسان في دائرة فريق من الأُمّة، ومع الحركيّة الإسلامية التي يعيش فيها المرجع أو القائد أو المسؤول، كلّ الساحة لتكون الأمّة في وجدانه ليعمل على اللّقاء مع الذين يتّفقون معه في فكر الإسلام وعلى الانفتاح على مَن ليس معه ليدير الحوار معهم في الإسلام وليتعاون معهم على القضايا المشتركة في الكلمة السّواء.
إنّ القضية ليست في الحزبية، ولكنّها في العصبية التي تكون في الشخص والطائفة أو العائلة أو الحزب أو ما إلى ذلك، وهي التي أشار إليها الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) فيما روي عنه: "العصبية التي يأثم صاحبها عليها أن يرى الرجل شرار قومه خيراً من خيار قومٍ آخرين وليس من العصبية أن يحبّ الرجل قومه ولكن من العصبيّة أن يعين قومه على الظلم"(1).
إنَّنا ضدّ الحزبيّة الضيّقة التي تحبس الإنسان في دائرة فريق من الأُمّة، ومع الحركيّة الإسلامية التي يعيش فيها المرجع أو القائد كلَّ الساحة لتكون الأُمّة في وجدانه.
معركة بين الوعي والتخلّف
يستغرب الكثيرون ممّن يؤيّدونكم ويدافعون عنكم إصراركم على عدم الردّ على الذين يثيرون الحملات الشعواء ضدّ نهجكم الرساليّ ويتساءلون عن سبب هذا الصمت من قِبَلِكم، فلماذا(2)؟
إنَّ الله تعالى يقول: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب : 21] ولقد كانوا يتّهمون رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ونحن نراب أقدامه، بأنَّه شاعرٌ وساحرٌ وكاهنٌ ومجنون، وأنَّ ما جاءهم به {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الفرقان : 5]. وكان يقول: "اللَّهمَّ اغفر لقومي فإنَّهم لا يعلمون". وأنا أقول تمثّلاً برسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): "اللَّهمَّ اغفر لقومي فإنَّهم لا يعلمون" إنّ لنا عملاً كبيراً في تقوية موقف الإسلام في ساحة الصراع، وإنَّ لنا عملاً كبيراً في تقوية موقف الإسلام في ساحة الصراع، وإنَّ لنا عملاً كبيراً في مواجهة الاستكبار والصهيونية، وإنَّ لنا هدفاً كبيراً في إصلاح واقعنا وإخراجه من التخلّف إلى الوعي. إنَّ المعركة ليست بيننا وبين أشخاص، هي معركة بين الوعي وبين التخلّف، بين الإسلام الأصيل وبين المتخلّفين فكرياً وعملياً.. إنّني لا أملك وقتاً لأردَّ على أحد، إنّهم يريدون أن يشغلونا عن أعمالنا، ولن يستطيعوا أن يشغلونا، ليقولوا ما يقولونه.. إنّهم يقولون، ماذا يقولون، دعهم يقولون(1) {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} [الرعد : 17] وليس لي إلاّ أن أقول كما قال أئمّة أهل البيت (عليهم السلام): "إلهي إنْ وَضَعْتَني فَمَنْ ذا الذي يَرْفَعني، وإن رَفَعْتني فَمَنْ ذا الذي يَضَعني".
هي معركة بين الوعي وبين التخلّف، بين الإسلام الأصيل وبين المتخلّفين فكرياً وعملياً.
ذكريات طيّبة
هل من ذكريات علميّة لكم مع الشهيد السيّد الصدر (قدّس سرّه) في عالم الفقه والكتابة؟
ذكرياتي التي أحملها هي ذكريات العمل الإسلامي المنفتح الحركيّ، باعتبار أنّه الهمّ الكبير الذي حملناه معاً، وأذكر أنّه طلب إليَّ عندما انطلقت مجلّة (الأضواء)(1) النجفيّة أن أكتب (كلمتنا) التي هي الافتتاحية الثانية على أساس أن يكتب هو ـــ رحمه الله ـــ (رسالتنا).. وهكذا كنّا نلتقي ونجتمع من أجل دفع الانطلاقة الإسلاميّة إلى الأمام. ومن الطبيعي أنّ تلك اللّقاءات كانت تحمل الكثير من القضايا التي يراد معرفة الخطّ الشرعي لها في مسألة الشورى وولاية الفقيه واللامركزية في الإسلام، وما إلى ذلك.
العالم والحاكم
لماذا تتشدَّدون في العلاقة مع الحكّام، وهل ترجّحون أن يكون عالِم الدين بعيداً عن هذه العلاقة؟
هناك فرقٌ في الموقف الذي يجب على الإنسان الرساليّ اتّخاذه سواءً كان عالِماً دينياً بالمعنى المصطلح أو لم يكن، وذلك في القضايا الحيويّة التي تتّصل بمصير الأُمّة كلِّها وبمصير الإسلام كلّه، كما في مسألة الموقف من الاستكبار والصهيونية ومن الظلم.. إنَّ هذا يدخل في تأكيد عمق القضايا الإسلاميّة الحيويّة وفي خطّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولكنّنا ونحن نقف مثل هذا الموقف قد نعطي الفرصة لبعض الهدنة للترحيب بالمواقف الإيجابيّة في القضايا الكبرى التي قد تصدر من هذا الحاكم أو ذاك، أو من هذا النظام وذاك.. نحن لا نحمل عقدة بالمعنى الذاتي للمسألة في العلاقة مع الحكّام، ولكنّنا نريد ألاَّ تضيع القضايا الكبرى تحت عنوان المجاملة والمهادنة والبحث عن مواقع التطبيع معه. إنَّ المسألة تتّصل بالمبدأ، ولذلك فنحن نتحرّك فيما يفرضه علينا المبدأ بالسير في طريق ذات الشوكة، ولا مشكلة في المسائل السلبيّة التي تتّصل بالذّات أو بغيرها. إنَّ القضية تخضع للمصلحة الإسلاميّة في الصلابة في الموقف، أو المهادنة في بعض المواقف.
نحن نتحرّك فيما يفرضه علينا المبدأ بالسيري في طريق ذات الشوكة، ولا مشكلة في المسائل السلبيّة التي تتّصل بالذّات أو بغيرها.
تغليف النقد بالتجريح
تقولون بأنّ انتقادنا لآراء وأفكار علمائنا السابقين يدلُّ على احترامنا لهم، بدليل أنّنا ننكبُّ على فكرهم لندرسه ونعرف مواقع القوّة والضعف فيه.. ولكن ما رأيكم بمن يحمل سيف التجريح تحت عنوان الانتقاد الموضوعي منطلقاً في ذلك من توتُّراتٍ نفسيّة داخليّة وعُقَدٍ نفسيّة؟
نحن نقرأ كلَّ ما يكتبه الآخرون سواءً بفعل النقد الموضوعي أو بفعل النقد التجريحي، فإنْ رأينا فيما كتبناه خطأً ما شكرناهم وحاولنا إصلاحه، وإن رأينا فيه تحاملاً دعونا الله لهم بالمغفرة والهداية والتوازن، لأنّه ليس من مصلحة أحد أن يكتب أو يتكلّم بطريقة متوتّرة نفسيّاً، لأنَّ التوتّرات والعُقَد النفسيّة لا تُنتج الصواب غالباً. أمّا فيما يتعلّق بي، فإنّي أستهدي موقف إمامنا وسيّدنا الإمام زين العابدين (عليه السلام) عندما سبّه أحد أبناء عمّه، فقام (عليه السلام) وطلب من أصحابه أن يذهبوا معه إلى بيت عمّه، وكان يقرأ في الطريق الآية المباركة {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران : 134] ، وعندما أطلَّ الرجل ورأى الإمام (عليه السلام) قادماً مع أصحابه استنفر متوثِّباً للشرّ، فبادره الإمام (عليه السلام) بالقول: إنَّك قلتَ فيَّ مقالاً فإن كان ذلك فيَّ فاسأل الله أن يغفر لي، وإن لم يكن ذلك فيَّ فاسأل الله أن يغفر لك. وشعارنا على الدوام مع كلّ الذين يتكلّمون بطريقة غير مسؤولة "اللَّهمَّ اغفر لقومي فإنَّهم لا يعلمون" نحن نحبّهم مهما قالوا ونسامحهم، وندعو الله لنا ولهم بالهداية.
ليس من مصلحة أحد أن يكتب بطريقة متوتّرة، لأنَّ التوتّرات والعقد النفسيّة لا تُنتج صواباً.
الحضور المميَّز
دائماً نشعر أنَّ لديكم حِسّاً إرشادياً بطريقة أو بأخرى، والدليل على ذلك هذا الحضور لكلم والعلاقة مع الإعلام، دائماً حاضرون لأيّ حوار ومقابلة، وأشعر وكأنَّ الهدف هو نشر أفكارهم أو نشر رسالتكم؟
قد تكون في نتائجها إرشادية، ولكنّي أشعر أنّ على الإنسان أن يعيش عصره ويطرح فكره للناس، لينقد الناس فكره، إذا كان فيه شيءٌ للنقد، أو لينفتح الناس على فكره.. إنَّ مسألة أن تكون معاصراً، هي أن تدخل إلى عصر الإنسان وعقله وقلبه، وأن تجدّد شبابك عندما تعيش آفاق الشباب بطريقة وبأخرى، لذلك، فإنّي الآن في الستينّات من العمر أشعر بنفسي شيخاً، ولكنّي أشعر أيضاً وكأنّي في ذروة الشباب، لأنّني أُجدِّد شبابي بكلّ هذا الجيل الشاب القلق والمتطلِّع إلى واقع أفضل، لأشاركه في كلّ تطلُّعاته وطموحاته.
إنّ مسألة أن تكون أن تكون معاصراً هي أن تدخل إلى عصر الإنسان وعقله وقلبه وأن تجدّد شبابك عندما تعيش آفاق الشباب.
صبر الرساليّين في مواجهة الأكاذيب
انطلاقاً من عُقَد نفسيّةٍ يعيشها البعض، نجد أنّ تعسّفاً واتّهاماتٍ وأكاذيب تنطلق لتنال من الرساليين والدُّعاة إلى الله، وهؤلاء الدّعاة يُحجمون عن الردّ بمثل ذلك متمثّلين قول الله تعالى (ادفع بالتي هي أحسن) ألا تعتقدون أنّ تطبيق هذه القاعدة يدفع هذا البعض للإيغال أكثر في ظلمهم؟
إنّك عندما تواجه كلّ هذا التعسّف(1)، وكلّ هذه الأساليب القاسية التي يوجّهونها إليك، وعندما تواجه الاتّهامات التي تتّهمك في عقلك وصدقك ورسالتك ودورك، عليك ألاّ تطلق ردّ فعلٍ للفعل الموجّه إليك.. بمعنى ألاّ تسيء كما أساؤوا وتعنّف كما عنّفوا، وتسبّ كما سبّوا، ولكن كن الإنسان الذي يسمو ويرتفع برساليّته وأخلاقيّاته وروحانيّته. كن أكبر من أساليب الاتّهامات والشتائم. إذا أساؤوا فأحسن، حاول أن تدفع سيّئاتهم التي يوجّهونها إليك بالكلمة الأحسن والأسلوب الأحسن حتى تستطيع أن تفتح عقولهم على الحقّ التي يعملون على إغلاقها بالضلال، لأنّهم عاشوا في ظلمات ماضيهم، وأجواء تخلّفهم، فأُغلقت قلوبهم من خلال ما ران عليها، لذلك، هم يعيشون الغفلة عن الحقّ. أمّا أنت، فصاحب رسالة، وعلى صاحب الرسالة أن يصبر على شتائم الناس وسبابهم واتّهاماتهم، عليه عندما يسبّونه أن يعطيهم كلمة المحبّة، وعندما يتّهمونه يقدّم إليهم كلمة الحقّ، لأنّ رسالته تطلب منه أن يغيّر واقعهم، ويصبر عليهم حتى يدركوا الحقّ ولو تدريجيّاً ليسيروا ويهتدوا إليه. وهذا هو الفرق بين صاحب العقدة وصاحب القضية، بين صاحب الرسالة وصاحب المنفعة، بين مَنْ يريد أن يحرّك الرسالة حتى على حساب حياته، وبين مَنْ يريد أن يجعل الرسالة جسراً يمرُّ به إلى منافعه.
على صاحب الرسالة أن يصبر على شتائم الناس وسبابهم واتّهاماتهم، حتّى يستطيع أن يفتح عقولهم على الحقّ، بعد أن عاشوا في ظلمات ماضيهم وأجواء تخلّفهم.
دائماً بعين الله
ألاَ ترون أنّ محاولات الاغتيال والتفجيرات التي تعرّضتم لها وسقط فيها أبرياء أوجدت عندكم حالة نفسية معيّنة؟
إنّ ذلك لم يشكّل عندي حالة خوف قلقة، لأنّني منذ أن بدأت عملي في ساحة الممانعة للاستكبار العالمي أو الصهيوني أو بعض الأوضاع، كنت أعتبر أنّ التعرّض للاغتيال مسألة طبيعيّة جدّاً، وعشت ذلك من خلال مشاعر منفتحة لا منغلقة، لكنّي في متفجّرة بئر العبد التي هي جريمة أميركية فوق العادة كنت أحسّ بالسخط والألم لهؤلاء الأطفال الذين سقطوا شهداء وكانوا على أيدي أُمَّهاتهم، أو كانوا أجنّة، واللاتي سقطن مع أطفالهنّ، ولهؤلاء العمّال العائدين إلى بيوتهم بعد يوم عمل طويل، كنت أعرف ما معنى أميركا بطريقة ميدانية، أعيشها في الواقع، بعد أن كنت أعرفها وحشاً من خلال طريقة سياسية.
كنتُ أعتبر أنَّ التعرّض للاغتيال مسألة طبيعيّة جدّاً، وعشت ذلك من خلال مشاعر منفتحة لا منغلقة.
داخل الزمن
هل أحسست صاحب السماحة بأنَّك ستكون خارج الزمن؟
إنّك عندما تعيش في عصر، فعليك أن تكون جزءاً من هذا العصر في حركته، حتى لو اختلفت مع بعض أفكار هذا العصر في طريقتك في التفكير. لذلك، أتصوّر أنّ على كلّ واحدٍ منّا أن يعيش عصره، لأنَّ مَنْ لم يعش عصره لا يستطيع أن يتفاهم مع الناس الذين يعيشون فيه. إنّ الذهنية لغة والمعرفة لغة، ومَن يجهل المعرفة التي يمتلكها الإنسان، فإنّه كمن يكلّم الإنسان الآخر بلغة أخرى غير لغته.
إنَّ الذهنية لغة والمعرفة لغة.
الأساليب نفسها
واجهت النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في دعوته حملاتٌ من التشكيك والتهويل في محاولة لإسقاط الدعوة، ألاَ ترون أنّ هذا الأسلوب ما زال قائماً حتى اليوم في وجه مَنْ يحملون همَّ الرسالة والدعوة إليها؟
يقول الله تبارك وتعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ} [يونس : 104]، فقد كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يواجه كلّ أوضاع التشكيك ويتحدّى الذين كانوا يواجهونه بها، فهم كانوا يشكّون في دينه ويثيرون التساؤلات من دون أن ينطلقوا على أساس الحوار المتبادل، فكان كلُّ همّهم أن يثيروا الغبار في وجه الرسالة ويبعدوا الناس عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بكلّ وسائل التشكيك والتهاويل. وهذا أسلوب يتبعه الكثيرون من الناس الذين يقفون في وجه الداعين إلى الله والعاملين في سبيله، حيث لا يزال الأسلوب قائماً حتى اليوم، ويرفضون الدخول معهم في حوار ليتعرَّفوا الحقيقة، بل يثيرون الشبهات والأكاذيب ليشكّكوا الناس بالرسالة في نسبة ما لا حقَّ فيه، في محاولة لتشويه صورة الدّعاة إلى الله والعاملين في سبيله ليجمّدوا حركتهم ودعوتهم في المجتمع وبين الناس، لأنَّ بعض الناس عندما يسمعون من أحدٍ كلاماً حول قضية أو شخص أو جهة أو خطّ، فإنَّهم لا يدقّقون في صحّة أو عدم صحّة هذا الكلامن بل يأخذونه أخذ المسلَّمات.
وهذه هي المشكلة التي واجهت الأنبياء (عليهم السلام) والأئمّة (عليهم السلام)، والتي تواجه العلماء اليوم حيث المحاولات حثيثةٌ من قِبَل الجاهلين والمرتابين والحاقدين لإسقاد دورهم، لأنّهم لا يتحرّكون في حياتهم وأساليبهم من موقع طلب الحقّ، ولكنّهم يتحرّكون من موقع تنفيس الحقد الذي يعيش داخل قلوبهم، ومن خلال تحريك العُقَد التي تتمثّل فيهم. وهذا ما واجهه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عندما انطلق في الدعوة في مجتمع مكّة، فكان المشركون يصنعون التشكيك حول شخصه، وذلك عندما كانوا يقولون عنه، بأنّه كاذبٌ وساحرٌ ومجنون وشاعر، لينزعوا من نفوس الناس قناعتهم به بأنَّه رسولٌ من الله تعالى. وقد علَّم الله سبحانه رسوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كيفية مواجهة هذه الحملة من التشكيك بدينه، بأن يتحدّاهم ويثبت لهم إصراره على الحقّ الذي ينادي به، وأنّه لا يمكن أن يتنازل عنه مهما شكَّكوا واتّهموا وحاربوا، وأن يعتقد أنَّهم على الباطل مهما أثاروا حوله. وهذا هو الأسلوب الذي ينبغي أن يُواجَه به كلُّ الذين يرفضون الحوار والجدال {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي} فهذا شأنكم أن تشكّوا أو لا تشكّوا، وقد قدّمت لكم كلّ الوسائل والأساليب التي تُثبت لكم أنّني على الحقّ وأنّكم على الباطل، ولذلك لن أنهزم في موقفي، ولن أخاف في مواجهة الباطل مهما كانت التحدّيات، وسأبقى مُصِرّاً على الالتزام بما أمر الله {فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ} [يونس : 104] اعبد الله وحده، وهذا الإيمان هو الحقيقة التي تفرض نفسها على العقل والقلب والإحساس وعلى كلّ حركة الإنسان في الحياة، ولذلك، فإنّني سوف أتحرّك مع أمر الله، بأن أكون المؤمن الذي يثبت على إيمانه، ويواجه كلّ المشكِّكين بقوّة الموقف وصلابة الموقع.
الجاهلون والمرتابون والحاقدون، الذين يسعون لإسقاط العلماء وتشويه صورتهم، يتحرّكون من موقع تنفيس الحقد الذي يعيش داخل قلوبهم، ومن خلال تحريك العُقد التي تتمثّل فيهم.
المحبّة بعيداً عن الشخصانيّة
ما هي كلمتكم لشباب لبنان وأبنائه؟
إنّني أحبّ لكلّ إخواني وأخواتي وأبنائي وبناتي من اللبنانيّين أن يتحسَّسوا واقع بلدهم ووطنهم، الذي هو بلد الجمال الذي وهبه الله سبحانه ميزةٌ بجباله وسهوله ووديانه وأنهاره وبحره.. وإذا أردتم لجمال لبنان أن يتأصّل وينمو وينفتح ويعطي ويُبدع ويُنتج، فليكن لنا جميعاً جمال العقل والقلب، وجمال الإحساس والشعور والحركة.. إنَّنا جرّبنا الحقد كثيراً، وجرَّبنا الضغينة كثيراً، وأقمنا الحواجز التي نصبناها في عقولنا وساحاتنا، ولكن شعرنا في النهاية أنَّ ذلك وهمٌ، لأنّ عناصر الحقد لا مكان لها في إنسانية الإنسان.. أحبُّوا بعضكم بعضاً، إنّ المحبّة هي التي تبدع وتؤصّل وتنتج، فتعالوا إلى المحبّة بعيداً عن الشخصانية والمناطقية والحزبية والطائفية، تعالوا كي نلتقي على الله بدلاً من أن نختلف باسم الله، فالله ربُّنا جميعاً، والأرض أرضنا جميعاً، فإذا تحرّرت فنحن نتحرَّر جميعاً، وإذا احْتُلَّت فإنّنا نُحتلَ جميعاً، تعالوا إلى حيث يمكن أن ينطلق الإنسان فينا، الإنسان الذي يلتقي مع الله على المحبّة، ليلتقي مع الكون كلّه على المحبّة.
تعالوا إلى المحبّة بعيداً عن الشخصانية والمناطقية والحزبية والطائفية، تعالوا نلتقي على الله بدلاً من أن نختلف باسم الله.
إشتباه
قرأنا في عدد السفير 18/6/1997 مقالاً بعنوان: "فضل الله والوقت الضائع" يُشكِّل فيه كاتب المقال(1) على سماحتكم لتلبيتكم كلّ طلب بكتابة مقدّمة لكتاب أو محاورة كاتب في محاورات طويلة تضيّع وقتكم خصوصاً أنَّ هذه الحوارات تتضمّن مواضيع سبق لكم أن ناقشمتموها في مؤلّفاتكم الخاصة، ويذهب الكاتب إلى أنّ هؤلاء المحاورين أو المؤلّفين يزيَنون كتبهم بإسمكم للحصول على ربح ماديّ أو معنوي، ثمّ يقول الكاتب بأنّكم تُحرَجون أمام طلب أحدهم منكم تقديم كتاب فتضطرون لذلك رغم ضيق وقتكم. وأخيراً يدعو لرفض كلّ أصناف "العربشات" على اسمكم ... ما رأيكم بمضمون هذا المقال؟
أعتقد أنَّ كاتب المقال مع أنَّ ظاهره الإخلاص في رأيه، هو مشتبهٌ في المسألة، لأنَّ مسألة أن نقدّم كتاباً، أي أن نكتب مقدّمة له لا تشكّل لي أيّ إحراج لأنّني أحبّ تشجيع طاقات الشباب، وعندما أكتب مقدّمة لا في سبيل مدح الكاتب أو الكتاب، وإنّما أُحاول أن أُعالج فيها الموضوع الذي اختاره الكاتب تماماً كما لو كنت أكتب مقالة مستقلّة. أمّا الحوارات التي تجري معي، فهي حوارات تتّصل بحاجة الناس إلى ذلك، فكتاب "دنيا الشباب" الذي جُمعت فيه كثير من مشاكل الشباب وأجبت عنها، أعطى فوائد كثيرة، وهذا كتاب "الإسلاميون وخطاب المستقبل" وكتاب "فقه الحياة" وكتاب "المشروع الحضاري الإسلامي" وكتاب "دنيا المرأة"، وغيرها من الكتب. فليست المسألة من هذه الحوارات أن يربح فلان، بل إنَّ الموضوعات التي يحاور فيها الكتّاب، هي من الموضوعات التي تمسّ حاجة الناس في حياتهم العامّة والخاصّة. وأنا في استجابتي لطلب إجراء الحوارات مع الكتّاب، إنّما أعتبر نفسي مذكِّراً {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ} [الغاشية : 21]، وهذه هي مسيرتي منذ أربعين سنة، أدعو الناس لأن يسألوا في كلّ ما يجول بخاطرهم وما يتّصل بقضاياهم وأوضاعهم العاطفيّة والعائلية والسياسية والاجتماعية. وإنّني من الذين يدعون إلى الاستماع للشباب من الذكور والإناث لنعرف مشاكلهم وقضاياهم ولنعمل على حلّهان وعلى العكس ممّا يقول بأنَّ ذلك يسبّب لي إحراجاً، لأنّنا نعتبر أنفسنا مسؤولين عن الناس وعن أوضاعهم بحسب حجمنا وإمكاناتنا.
مسيرتي منذ أربعين سنة، أدعو الناس لأن يسألوا في كلّ ما يجول بخاطرهم ممّا يتّصل بقضاياهم وأوضاعهم العاطفية والعائلية والسياسية والاجتماعية.
دعم المهاجرين
كيف تدعمون جيل المغتربين والمهاجرين هنا في لندن وأوروبا وغيرها من المهاجر؟
نحن مع قضايا كلِّ إخواننا المؤمنين المسلمين من الرجال والنساء، مع قضاياهم السياسيّة والاجتماعية، كنّا ولا نزال في مواجهة الطاغوت في أيِّ موقع هنا وهناك.. ونحن نقف دائماً لنكون على استعداد في دعم صمودهم وحاجاتهم في هجرتهم، ولكنّنا لا نزال نعيش كثيراً من الظروف الماديّة الصعبة، ومع ذلك رخّصت لكلِّ إخواننا المؤمنين والمؤمنات في الحقوق الشرعية بقدر ما يتّصل الأمر بي للمؤمنين والمؤمنات في دفعها داخل العراق وفي المهاجر بحسب الشروط الشرعيّة المعتبرة، كما أنّني رخّصت بعض المؤمنين لإعانة ومساعدة المؤسّسات التربويّة والإسلاميّة الثقافية وما إلى ذلك.. إنّني أشعر بالمسؤولية تجاه كلِّ إخواننا وأخواتنا في ديار الاغتراب، أو في داخل العراق، أو في أيّ بلد فرض عليه الاستكبار الهجرة والقهر والظلم ولكن {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286].
إنّني أشعر بالمسؤولية تجاه كلِّ إخواننا وأخواتنا في ديار الاغتراب أو في داخل العراق، أو في أي بلد فرض عليه الاستكبار القهر.
رؤيا
بعد زيارتي للسيّدة زينب (عليها السلام)، شاهدتكم في عالم الرؤيا، فسألتكم من أين حصلتم على كلِّ هذا الفكر والعلم الذي تحملونه، وكيف تثبتون على مواقفكم رغم تعرّضكم للإنتقادات غير العلمية، فأجبتني قائلاً: إنَّ ذلك لأنّني لا أقوم بأيّ فعل أو قول إلاّ بوحي من الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه الشريف).. فما هو تفسيركم لهذه الرواية؟
أنا لا يمكن أن أدَّعي في أيّ حال بوجود حالة خاصّة مع الإمام المهدي (عجَّل الله تعالى فرجه الشريف) وإن كنت أتمنّى ذلك، وهذا هو الشرف كلّ الشرف. وأحاول ما أمكنني في كلِّ ما أقول وما أفعل أن يكون قولي وفعلي منسجماً مع توجّهاته التي هي توجّهات أبائه (عليه السلام) فيما علّمونا إيّاه، وهي توجّهات رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم).. إنّني أحاول ما أمكنني ذلك، في أن تكون خطواتي العمليّة، في رضى الله سبحانه.. وكما قلت سابقاً وأقول لكم لاحقاً: إنّني أحبّ الناس جميعاً، ولا أحمل في قلبي أيَّ غِلٍّ على مؤمن مهما أساء إليَّ، لأنّني أعتبر نفسي صاحب رسالة تنفتح على النّاس جميعاً.. وليست المشكلة عندي أن يتكلَّم شخصٌ أو لا يتكلَّم، إنَّ المشكلة والهمَّ ينحصران في كيف نستطيع أن نخدم الإسلام أكثر، وكيف يمكن أن نحفظ ساحتنا أكثر، وأنا لا أتعقَّد من خلال كلمات السّوء التي تنطلق من البعض، ولكنّي أتألَّم لأنّهم يربكون السّاحة ويشغلونها بعيداً عن القضايا الأساسية، في الوقت الذي ينبغي أن تكون هذه السّاحة صوتاً واحداً في مواجهة الكفر كلِّه والاستكبار كلّه وفي مواجهة الصهيونية والظلم، إنَّهم ــــ وللأسف ـــ يُشغلون الناسَ بأمور هامشيّة ليست من قلب الواقع الإسلاميّ، وبذلك يخدمون المخابرات الدولية التي تكيد للإسلام والمسلمين من حيث لا يشعرون، وأنا لا أتَّهم أحداً بذلك، ولكنّي أقول قد نخدم المخابرات مجاناً من خلال بعض العقد النفسيّة. وقد قلت سابقاً وسأبقى أقول: إنّني أحبّ كلّ هؤلاء وأسامحهم ولن أشغل نفسي بالردّ على أحد، لأنّني أعتقد أنَّ ساحتنا لا تتحمّل الفعل وردّ الفعل "اللَّهمَّ اغفر لقومي فإنَّهم لا يعلمون".
لن أشغل نفسي بالردّ على أحد، لأنّني أعتقد أنَّ ساحتنا لا تتحمّل الفعل وردّ الفعل.
استفتاءات
التقليد وحريّة الاختيار
يقول البعض: إنَّ مسألة التقليد في الإسلام هي نوعٌ من التبعيّة غير الواعية التي تكثر في الطبقات والفئات والجماعات المتخلِّفة، لأنَّ المقلِّد لا يملك حريّة الاختيار، لأنّه مُلْزَمٌ أيضاً بالرجوع إلى أهل الخبرة الذين يحدِّدون له مرجعه، فما ردُّكم؟
هذا كلام مَنْ لا يعي مسألة التقليد، وإذا كان التقليد نوعاً من التبعيّة، فلماذا تقلّد الطبيب والمهندس ورجل القانون وكلّ مَنْ له خبرة، وهل أنتَ بذلك تابعٌ له؟ أبداً، لأنّ الله وزَّع الخبرات على الناس، وكلّ إنسانٍ يعطي الآخر طاقة من طاقاته، وعلماً من علمه، فأنتَ تابعٌ له في حاجتك، وهو تابعٌ لك في حاجته إليك، وذلك قول الشاعر:
الناسُ للنّاس من بَدْوٍ ومن حَضَرٍ بعضٌ لبعضٍ وإنَّ لم يشعروا خَدَمُ
فكلُّ إنسانٍ خادمٌ للآخر، لأنّ الله لم يحصر الطاقات في شخصٍ واحد. هذه نقطة.
وأمّا النقطة الثانية، وردّاً على القول بأنّ الذي يقلّد لا يملك حريّة الاختيار، فإنّنا نقول، كلّ إنسان يمكن أن يصبح مجتهداً فيملك حرية أن يرى رأيه ويتبعه الناس في ذلك، وهذا خاضعٌ له. وأمّا النقطة الثالثة حول إلزامية الرجوع إلى أهل الخبرة، فهذا ما يقول به العقلاء، فإذا أردنا تحديد الطبيب الماهر والجيّد من غير الماهر الجيّد، فإنّنا نعود إلى أهل الخبرة في الطبّ الذين يحدِّدون لنا ذلك، ويمكن للإنسان أن يحصل على القضية بنفسه فيما يملكه من عناصر الاختيار.
الله تعالى وزّع الخبرات على الناس، وكلّ إنسان يعطي الآخر طاقة من طاقاته وعلماً من علمه، وكلّ إنسان خادمٌ للآخر.
الفتوى وتقوى الله
هل يمكن اعتباركم من المجتهدين المتساهلين مع الناس على مستوى الفتاوى؟
مع كلِّ محبَّتي لمن يقول ذلك، إنِّي أسأل ما هو مظهر هذا التساهل مع الناس، هل هو ببعض الفتاوى التي أفتيتُ بها ممّا أتفقُ فيه مع الكبار من علمائنا؟ إنّني في هذه المسألة مستعدٌ للحوار، وأدعو الجميع للحوار. وأنّه ما من فتوى أُفتيها في أيِّ شيء وفي أيِّ شأنٍ من الشؤون العامة أو الخاصة إلاّ ولديّ دليلٌ اجتهادي على المنهج الذي يسير فيه المجتهدون، ممّا يسميّه الإمام الخميني (قدّس سرّه) بالاجتهاد الجواهري(1)، أي على طريقة صاحب (جواهر الكلام) وما من فتوى أُفتيها إلاّ وهناك فتوى مماثلة لأكثر من عالم من علمائنا الكبار، وقد تكون الخصوصية، أنّ هذه الفتاوى اجتمعت عندي بما لم تجتمع عند بعض العلماء ولذلك استغربها بعض الناس، والناس عادةً يستغربون ما يبتعد عن أُلفتهم. فقبل السيّد محسن الحكيم (قدّس سرّه) لم يُفْتِ أحدٌ من علماء الشيعة فتوى صريحة بطهارة أهل الكتاب(2)، فهل هو متساهل مع الناس في تكليفه؟ وقبل الإمام الخميني (قدّس سرّه) لم يُفْتِ أحدٌ من علماء الشيعة بحليّة وجواز لعب الشطرنج، ولكنّه أفتى بذلك لأنّ الدليل قام عنده على ذلك، فهل كان متساهلاً مع الناس؟
الولاية الفقهية العامة ليست هي الرأي المشهور عند فقهاء الشيعة وإن قال بها فريقٌ منهم كالشهيد الأوّل(3) وصاحب الجواهر، ولكنّ الإمام الخميني خالَف المشهور، فهل كان في مخالفته للمشهور متساهلاً مع الناس؟
لا يمكن لأيّ مجتهد يتَّقي الله تعالى أن يُصدر فتوى ليرضى الناسُ عنه، لأنّ ذلك يجعله على شفير جهنَّم "مَنْ أفتى بغير علم فليتبوَّأ مقعدة من النار". فعندما يثبت عندنا الحكم الشرعي من خلال الأدلّة، ونرى أنّه يحلّ مشكلة للنّاس فإنّنا نُفتي بذلك ولا نحتاط، لأنّ الاحتياط عندما لا يكون واجباً فسوف يعقّد حياة الناس، وهذا ما عبَّر عنه السيّد الحكيم (قدّس سرّه) عندما اعترض عليه بعض الناس بالقول، يا سيّدنا إذا أفتيت بطهارة أهل الكتاب فستثير الناس من حولك فاعمل بالاحتياط، قال لهم فيما رُوي عنه من التُّقاة: إنّني انتهيت لهذا الرأي بقناعة ولي مقلِّدون يعيشون مشكلة كبرى في الشرق والغرب، وما دام الدليل قد قام عندي فليتكلَّم مَن يتكلَّم.
لا يمكن لأيِّ مجتهد يتّقي الله أن يصدر فتوى ليرضى الناس عنه، لأنَّ ذلك يجعله على شفير جهنَّم.
إجماع الفقهاء
هل أنَّ إجماع الفقهاء على أمر من الأمور العقائدية ملزم للفرد، بحيث يمنعه من تكوين قناعاته الذاتية وفق الأدلّة المتوفّرة؟
إنَّ إجماع الفقهاء على حكم شرعي لا حُجّة له في نفسه، إلاّ من حيث أنّه كاشفٌ عن قول المعصوم (عليه السلام) وفعله وتقريره، كذلك إجماع الفقهاء على رأي إذا كان الإجماع مرتكزاً على دليل، فالقيمة ليست في إجماعهم، ولكنَّ القيمة للدليل.. فإذا فرضنا أنّ الدليل كان تامّاً، فعلينا أن ننضمّ إليهم، لا لأنَّهم أجمعوا على هذا، بل لأنَّ الدليل صحيح، وإذا كان دليلهم غير صحيح، فإنَّ الإجماع لا يكون حُجّة، والدليل لا يكون حُجّة.
ونحن نعرف أنَّ كثيراً من الأمور التي ربّما صارت إجماع المتأخّرين أو مشهورهم في بعض العقائد، لم تكن محلّ إجماع لدى العلماء المتقدّمين من كبار الفقهاء. لذلك، فإنَّ قول الفقهاء والمتكلّمين ليس حُجّة في نفسه، فهم ليسوا معصومين، بل إنَّهم يخطئون ويصيبون. ولكن إذا اعتمدوا في آرائهم على سماعهم ذلك من المعصوم، وثبت عندنا أنّهم سمعوا من المعصوم، فرأيهم حُجّة علينا، وإذا كانوا قد اعتمدوا على أدلّة عقلية أو شرعية، فعلينا ألاّ نقف أمام إجماعهم، بل علينا أن نستنطق أدلَّتهم. فإذا كانت أدلّتهم تامّة نقبل بها، لأنّها تثبت الحقّ، وإذا كانت غير تامّة، فإنّنا نختلف معهم. وكم خالَف المتأخّرون المتقدّمين فيما قد أجمعوا عليه، أو فيما اشتهر بينهم في الفقه وغيره؟
كم خالَفَ المتأخّرون المتقدّمين فيما قد أجمعوا عليه، أو فيما اشتهر بينهم في الفقه وغيره.
الفقه "الترخيصي"
يقولون إنّكم مع الفقه الترخيصي، أي أنّكم تسهّلون أمور الشريعة لمقلّديكم، ما حقيقة ذلك؟
يقول الله سبحانه وتعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج : 78] ويقول سبحانه أيضاً: {يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة : 185] ويقول رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): "أتيتكم بالشريعة السهلة السمحاء" والفقهاء يعتبرون قاعدة نفي الحَرَج، وقاعدة نفي الضرر حاكمة على جميع أدلّة الأحكام الإلزامية.. إنّني عندما أرخّص في أيّ مسألة من المسائل، لا أنطلق من عقدة في الترخيص للنّاس، لأنّني لست مستعدّاً أن أحرق نفسي أمام الله لأسهّل على الناس أمورهم، ولكنّني عندما أرى الحُجّة الشرعية الفقهيّة قائمة في أي حكم ترخيصي ـــ حتّى مع مخالفة البعض من العلماء الذين نحترمهم ـــ فإنّني لا أجد أنّ هناك ضرورة للاحتياط، ما دام أنّ هناك حاجة للنّاس في هذا الحكم أو ذاك، لأنّ الفتوى في حلّ مشاكل الناس إذا كان هناك حُجّة شرعية، هو أولى من الاحتياط في عدم الفتوى.
الفتوى في حلّ مشاكل الناس إذا كان هناك حُجّة شرعيّة، هو أولى من الاحتياط في عدم الفتوى.
تعطيل التشريع
في محاولته لتبرير القانون التونسي الذي يقضي بأن يتزوّج التونسي من إمرأة واحدة، يقول مفتي تونس: "المسلمون انحرفوا عندما ظنُّوا أنّ الزواج من امرأة ثانية أو ثالثة، هو للمتعة، فعاملوا النساء معاملة غير إنسانية.. وإذا ما توافرت أسباب الزواج الثاني، فعليه أن يطلِّق الأولى حتى لا يقع انحراف".. هل ترون أنَّ هناك موضوعية في هذا التبرير، وكيف تنظرون إلى تعطيل تشريع شرَّعه الله تعالى؟
مشكلة بعض المفتين أنَّهم يفتون للسلطان كما يريد السلطان، أكثر ممّا يُفتون للمؤمنين والمسلمين بما شرَّعه الله.. وقد أجمع المسلمون من خلال النصّ القرآني على تشريع الزواج المتعدّد، وقد مارَسَه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأئمّة (عليهم السلام) وسائر المسلمين، وما زال العالَم الإسلامي ينطلق في ذلك.. وغاية ما هناك أنَّ الله سبحانه وتعالى وجَّه الناس إلى ضرورة العدل {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً} [النساء : 3] والعدل في النفقة والمعاشرة بالمعروف، وأكّد عليهم أيضاً {وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء ـــ في الميل القلبي ــ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [النساء : 129] أي، فلا يكن حبُّك لواحدة أكثر من الأخرى سبباً لهجرانها، فتكون معلّقة لا متزوّجة ولا مطلّقة.
ولو فرضنا أنّ إنساناً يريد الإساءة لامرأة، فلماذا عليه أن يطلِّقها؟ نحن نقول له: كن مسلماً.. وإلاّ ينبغي على هذا المفتي أن يفتي بأنّه يحرم على الإنسان أن يتزوّج إذا كانت أخلاقه سيّئة مع زوجته. نحن نقول: علينا بدلاً من أن نحرِّم ما أحلَّه الله، أن نعظ الناس ونرشدهم إلى حدود الله، سواء في الزواج الواحد أو المتعدّد.
ونشير إلى أنّ بعض الحكّام في عالمنا الإسلامي بدأوا ينطلقون من خلال تشريعات الغرب، ويريدون أن يطبِّقوا قوانين الغرب ضدّ القوانين الإسلامية.. هم يمنعون الزواج المتعدّد، ولكنّهم لا يمنعون الزنا المتعدّد، والصداقات المتعدّدة للنساء والرجال.. العالم يعيش التعدّد اللاشرعي ويحرّم التعدّد الشرعي، وهذا ما جرى عليه الكثيرون من حكّام المسلمين.
علينا بدلاً من أن نحرّم ما أحلَّه الله، أن نعظ الناس ونرشدهم إلى حدود الله.
الفقيه وإصدار الأحكام
في مقابلة مع جريدة "الحياة" يقول شيخ الأزهر محمّد سيّد طنطاوي: "السلام مع إسرائيل لا يدسُّ أنفَه فيه الشرعيُّ مثلي.. أنا كشرعيّ أضع القاعدة الشرعية، ومسالمة إسرائيل أم عدم مسالمتها من اختصاص رئيس الدولة وحكومته وخبرائه" هل توافقون على هذه المقولة التي تعطي الفقيه مسؤولية إصدار الحكم، وتسلبه حقّ الدفاع عنه؟
نحن نقول إنّ الفقيه عندما يتكلّم يجب أن يكون منسجماً مع فقهه، لأنّه يتكلّم بمنطق الإسلام، وإذا تكلَّم بمنطق الإسلام، فعليه أن يحدّد أنَّ اغتصاب شعب أيّاً كان لشعبٍ آخر في بلده أو لسلطته هو أمرٌ لا يمكن أن يوافق عليه الإسلام، أو يوافق عليه مسلمٌ ينسجم مع خطّ إسلامه. ولذلك، كان من واجب الفقيه أن يقول للحاكم عندما يسالم المغتصب ويهادنه، إنَّك قد أخطأت وانحرفت عن خطّ الإسلام، لا أن يقول له، خذ حريّتك في ذلك. على الفقيه أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وقد ورد أنّ أفضل الكلمات، كلمة حقّ أو عدل عند سلطان جائر.
أفضل الكلمات، كلمة حقّ عند سلطان جائر.
حليّة النظر وحرمته
ينقل البعض عنكم قولكم بحليّة نظر المرأة إلى جسد الرجل الأجنبي، والرجل إلى جسد المرأة الأجنبيّة حتى العورة، ما حقيقة ذلك؟
إنَّ نظر الرجل إلى المرأة حرام إلاَّ الوجه والكفّين ومن دون تلذُّذ وريبة، ويحرم نظر المرأة إلى عورة الرجل وإلى قسم من جسد الرجل، ويحرم نظر الرجل إلى جسد المرأة ومنها العورة، وهذا موضع تسالم ولا أحد يناقش فيه.. ولكنْ، هناك بحثٌ بحثه الفقهاء، وهو أنَّ هؤلاء النسوة السافرات اللاتي لا ينتهين إذا نُهِينَ، والمنتشرات في الشوارع والأسواق والأماكن العامّة، وهُنَّ غير مستعدّات على الإطلاق لأن يسترن أجسادهنَّ حتى لو وُعِظْنَ، بل لا يَعِرن أيَّ اهتمامٍ للكلمات التي تطلب منهنَّ أن يخفن اللهَ ويسترن ما يجب ستره على المرأة.. وهذا البحث موجودٌ في الرسائل العملية والتقريرات الفقهيّة للعلماء(1)، ومفاده، هل يجوز النظر إلى هؤلاء النسوة السافرات؟ يتساءل الفقهاء كيف نواجه هذه الحالة؟ بعضهم يقول، يجوز النظر إليهنَّ مطلقاً وبعضهم يقول، هذه المرأة أسقطت حرمة جسدها، فيجوز النظر إلى كلِّ جسدها، وبعضهم يقول، يجوز النظر إلى ما جرت عادتهنَّ على عدم ستره، من دون ريبة وتلذُّذ.. وقد حرَّر ذلك السيّد الحكيم والسيّد الخوئي (رحمهما الله) في كتبهما الفقهيّة، وأنَّه يجوز النظر إلى النساء اللاتي لا ينتهين إذا نهين من المسلمات والكافرات، ولا حرمة في النظر إلى شعورهنَّ وأيديهنَّ أو غير ذلك ممَّن اعتدن كشفه بشكل طبيعي لأنّهنَّ أسقطن حرمة أنفسهنَّ، وقد ذكر السيّد كاظم اليزدي (رحمه الله) في كتابه (العروة الوثقى)(2) أنّ الأحوط في جواز النظر الاقتصار في النظر على ما جرت عادتهنَّ على عدم ستره حتى العورة... ويرى بعض الفقهاء أنّ هذا الحكم ينطلق على الرجال كما النساء.
فالأساس في جواز النظر أنَّ هؤلاء النسوة أو الرجال لا ينتهون إذا نُهوا عن ذلك، ولكن من دون تلذُّذ.
وقد عالجتُ هذه المسألة في أحد تقريراتي الفقهيّة(1)، ولكن نحن مبتلون ببعض الناس الذين لا يراعون التقوى في أقوالهم فيحرِّفون الكلام عن مواضعه وهم ينقلون جزءاً من الكلام، ويبترون الآخر حتى يأتي مشوَّهاً ولا يُفصح عن الحقيقة.
وخلاصة الفكرة التي نتّفق فيها مع الفقهاء أنّ النظر إلى جسد المرأة محرّم على الرجال ما عدا الوجه والكفّين، وأنّ النظر إلى عورة الرجل محرّم على الرجل والمرأة إلاّ أنّ هناك استثناءً فقهياً فيما اعتاد الرجل والمرأة كشفه عصياناً ممّن لا ينتهي إذا نُهي، فيجوز ذلك بدون تلذُّذ وريبة.
الاستنساخ
أعلن العلم مؤخّراً عن قدرة العلماء على تسخير الجينات التي تحمل المواصفات الوراثية لإنتاج مخلوقات حيوانية، حيث قد تنسحب هذه العملية على المخلوقات البشرية، ما رأي الشرع في مثل هذه الإنتاجات العلمية؟
لعلَّ من المبكر جدّاً أن يعطي الإنسان حكماً شاملاً في مثل هذه القضية، لأنّ التجربة حتى الآن لم تدخل في مسألة استنساخ النموذج الإنساني، بل لا تزال في النموذج الحيواني.
وإنّ هناك نقطتين، لا بدّ أن نبحثهما، وهما، هل أنّ مثل هذا العمل يمثّل تدخّلاً في عمل الله تعالى أو انحرافاً عن الدين؟ إنّنا لا نجد أنّ مثل هذا الاكتشاف يمثّل تدخّلاً في عمل الله أو مضادّاً للفكر الديني في قواعده العقيدية. لقد حدثت قبل زمن ليس بعيداً ضجّةٌ، بسبب اكتشاف (طفل الأنبوب)، وقلنا إنّ هذا الطفل لا يبتعد عن سُنّة الله في الخلق، لأنّ الذين اكتشفوا ذلك، عرفوا سرّ الله تعالى في عملية التناسل، بطريقة تستهدي القوانين التي وضعها الله للتناسل، وهكذا نجد أنّ هذه التجربة الجديدة (الاستنساخ) لم تخلق قانوناً جديداً ولم تضع سُنّة جديدة، لتكون عملية خلق جديد تتحدّى قدرة الله في الخلق ولكنّها اكتشفت بعض أسرار الجسد الإنساني، وتعرّفت على حركيّة هذه الأسرار وإمكانيّة تحريكها في اتجاه الاستفادة منها بنسخةٍ ثانية عن إنسان أو حيوان، أو بمحاولة زرع بعض الأعضاء لاستخدامها في استبدال بعض الأعضاء التالفة. فالقضية عندما تُدرس نجد أنّها لا تختلف عن أساس التفكير الديني، لأنّها لا تجعل الإنسان خالقاً إلى جانب الله سبحانه، لأنَّ الإنسان وكما قلنا استهدى قوانين الله في جسد الإنسان في سبيل تحريك هذه القوانين بطريقة لا تبتعد عن الخصائص الموجودة داخل هذه القوانين بشكلٍ طبيعيّ فهو لم يصنع قانوناً جديداً للخلق بل تحرَّك في دائرة القوانين الإلهية.
وأمّا النقطة الثانية، فهي موضوع النتائج السلبية أو الإيجابية، فبالنسبة إلى هذه المسألة، فإنّها تحتاج إلى دراسة من الناحية الشرعية والأخلاقية والقانونية، لأنّ من الممكن أن يُستنسخ إنسان، ليكون له أمٌّ من دون أب، أو أنّ هذه البويضة التي تُفرَّغ من كلّ خصائصها لتوضع فيها خصائص خليّة أخرى أو عناصر أخرى، هل تبقى هي بويضة المرأة التي أُخذت منها أم لا؟ وهل يجوز لنا أن نضع بويضة مخصّبة بنطفة شخصٍ مثلاً في رحم امرأة؟ إنَّ هناك الكثير من القضايا التي يمكن أن تُثار من الناحية الشرعية والقانونية والأخلاقية. ومن الطبيعي أنّ مثل هذه الأمور لا يمكن أن نُصدر فيها حكماً مباشراً شاملاً، بل لا بدّ من ملاحقة الدراسات حول هذا الموضوع.
إنّنا نؤمن بأنّ العلم يكشف لنا أسرار الكون، وعندما نكتشف أسرار الكون، فإنّنا نكتشف سرّ عظمة الله، ولكنّ المشكلة هي أنّ العلم قد يتّجه اتجاهاص سلبياً ضدّ مصلحة الإنسان، كما في اكتشاف الذرّة، وقد يتّجه اتجاهاً في مصلحة الإنسان. القضية هي، كيف يُمسك الإنسان بالاكتشافات العلمية ليحوّلها للبناء بدلاً من أن يحوّلها للهدم.
القضية هي، كيف يُمسك الإنسان بالاكتشافات العلمية ليحوّلها للبناء، بدلاً من أن يحوّلها للهدم.
الاستنساخ والاكتشافات
ما رأي سماحتكم بالتقدّم العلمي الذي وصل إلى القمر والمرّيخ، وبلغ حدّ استنساخ الحيوان والإنسان؟
أمّا موضوع الاستنساخ، فهناك دائرتان في الحديث عنه. هل أنّ الاستنساخ يتنافى مع العقيدة الدينية، بمعنى أنّ العلماء الذين قاموا بهذه التجربة هل تحوَّلوا إلى خالقين، وهل أنَّ الاستنساخ يمثّل تمرّداً على النظريّة الدينية التي تقول إنّ الله وحده هو الخالق، أو أنَّ الأمر ليس كذلك؟
إنَّ جوابنا عن ذلك، هو أنَّ الاستنساخ ككلّ مكتشفات العلم أو إبداعاته، انطلق من التعمّق في فهم القانون الإلهي الذي وضعه الله سبحانه وتعالى للتناسل. فقد درس هؤلاء العلماء أنَّ ولادة الجنين تنطلق من خليّة منقسمة: البويضة والنطفة، حيث تحمل كلُّ وحدة منهما ثلاثاً وعشرين من الكرموزومات، وتكون الولادة من خلال تكامل هاتين الخليَّتين الذي يعني أنَّ الولادة إنَّما تنطلق من خليّة تحمل عناصر 46 من الكرموزومات.
إذاً، ليست المسألة مسألة خصوصية النطفة وخصوصيّة البويضة، بل هي خصوصيّة العناصر الموجودة في داخل النطفة والبويضة التي تتكامل فتمثّل الرقم 46. فالقانون الإلهي في هذه المسألة هو أنَّ الجنين يتكوَّن من خلال هذه الخليّة. وهنا، عندما أخذوا خليّة كاملة تحمل الرقم 46 من الكرموزومات وأفرغوا البويضة من كلّ العناصر الموجودة في داخلها، ووضعوا فيها هذه الخليّة، عند ذلك يعتبر نتاج الولد طبيعيّاً جدّاً، لأنَّ الرقم 46 من الخلية هو الذي ينتج الولد، سواءً كانت الخلية منقسمة إلى قسمين، أو كانت خليّة واحدة. وعلى هذا الأساس، فهم لم يُنتجوا قانوناً، وإنّما استهدوا قانونَ الله بذلك، وفهموا أنَّ البويضة والنطفة ليستا المنتجتين بخصوصيّتهما، ولكنّهما من خلال أنّهما يكوّنان بامتزاجهما خليّة واحدة تحمل الرقم 46. فلذلك نقول: إنَّ العلماء في كلِّ ما اكتشفوه لم يصنعوا قانوناً، وإنَّما حاولوا أن يفهموا القوانين الإلهيّة المودَعة في الكون ويصوغوا على غرارها.
إذاً، القضية من الناحية الفكرية ليس فيها أيُّ رفض للعقيدة الدينية في أنَّ الله وحدَه هو الخالق الذي خلق القوانين، وجاء الإنسان ليستهدي هذه القوانين في تحريكه القضية بطريقة علميّة. أمّا أنّنا هل نسمح بالاستنساخ أم لا؟ عندما نأتي إلى مسألة الحيوان، فإنّه لا مانع من هذا الاستنساخ إذا ترتّبت عليه مصالح لخدمة البشرية، وهكذا لا مانع من استعمال الاستنساخ في إنتاج الأعضاء التي نريد أن نزرعها في جسد إنسان يحتاج إلى قلب أو إلى عين أو كِلية، ممّا نستغني بواسطته عن أخذ أعضاء من الجسد الحيّ أو الجسد الميِّت. أمّا استنساخ الإنسان نفسه، فإنَّ هذه المسألة لا بدَّ أن تُدرس.
لذلك، فهذه القضية متحرّكة لا يمكن أن تعطي فيها حكماً مطلقاً، بل لا بدَّ لك من أن تدرس المسألة حسب المعطيات المستقبليّة.
أمّا مسألة اكتشاف القمر أو المرّيخ، فإنّه ليس هناك في الدين ما ينفي قدرة الإنسان على ذلك، بل ربّما نستوحي من بعض الآيات أنَّ هناك مجالاً للإنسان، لأن يبلغ المدى الواسع من فهم الكون. نحن نقرأ {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ} [فصلت : 53] إنَّ كلمة {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ} من دون أن تسمّي أُفقاً معيّناً، معناه أنّها تعطي الإنسان انفتاحاً على كلّ الآفاق ليفكّر فيها، ليبلغها، ليرى آيات الله في الكون، وهكذا {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً} [آل عمران : 191] عندما يُطلق الإسلام الصفة الإيجابية للمؤمنين أنّهم من الذين يحرّكون فكرهم في تدبّر خلق السموات والأرض، وينتهون إلى نتيجة، وهو أنَّ لكلِّ ظاهرة من هذه الظواهر سرّاً عميقاً في داخل الكون، فمعنى ذلك أنَّ دَفْعَ الإنسان لأن يفكّر، معناه أن يأخذ حريته في التفكير. ولما كان التفكير يُنتج البحث، والبحث يُنتج الاكتشاف، فمعنى ذلك أنَّ القرآن وجَّه الإنسان إلى أن يأخذ حريّته في التفكير، ولا سيّما في الكون، وأن يأخذ حريّته في البحث والاكتشاف. لذا، ليس عندنا أيّة سلبيّة دينيّة في المنطق الإسلامي حول مسألة وصول الإنسان إلى أيّ كوكب من الكواكب.
أمّا مسألة التكنولوجيا ـــ التقدّم، فنحن نقول: إنَّ للإنسان الحريّة في أن يصل إلى أيِّ مدىً في الاكتشافات التي تساهم في إغناء حياته وتسهيل عيشه وإبداع واقعه في هذا المجال، ولكنَّ التكنولوجيا تتحرّك في خطّين، خطّ الخير وخطّ الشرّ. فنحن مع اكتشاف الذرّة من أجل الأغراض السلميّة، ولكن لسنا مع إنتاج القنبلة الذريّة التي تدمّر البشريّة، وما إلى ذلك.
للإنسان الحريّة في أن يصل إلى أيّ مدى في الاكتشافات التي تساهم في إغناء حياته وإبداع واقعه.
النحت بين الحرمة والحليّة
ماهو السرُّ في تحريم الإسلام لنحت التماثيل، مع أنّه لم يعد يمثّل في عصرنا الحاضر ظاهرةً وثنيّة.وما هو الفرق بين أن يقوم المسلم بالنحت وبين أن يفتني التماثيل المنحوتة من قِبَل الغير ويحافظ عليها، كما هو الأمر في إيران، حيث نجد أنّ الحكومة الإسلامية أبقت على التماثيل سواء المنحوتة منذ عهد قريب أو منذ الحضارة الفارسية القديمة؟
عندما ندرس الروايات التي تحدّثت عن تحريم التجسيم أو النحت، فإنّنا نشعر أنّها لم تنطلق من خلال الصورة المنحوتة من حيث وجودُها في الخارج، بل إنّها تنطلق من الحالة النفسيّة أو العقليّة الداخليّة للنحّات. فالحديث الوارد في موضوع النَّحت، أنّه مَنْ صوَّر صورةً كُلِّف يوم القيامة أن ينفُخ فيها وليس بنافخ ـــ كدلالة على التحدّي بأنّه لا يستطيع أن يبعث فيها الروح ـــ إنّ هذا الحديث يوحي بأنّ النحّات يختزن في نفسه توهُّماً شخصية الخالق. ولعلّنا نلاحظ أيضاً في الكثيرين من النحّاتين الذين أبدعوا في نحتهم، أنّهم يتعبَّدون للصورة المنحوتة، تماماً لو كانت صنماً يعبدونه من خلال أسرار العمل الذي أبدعوا فيه. ربّما كانت المسألة تتحرّك في هذا الاتجاه، لأنّ طبيعة الإبداع الفني تجعل الفنان مستغرِقاً في فنّه بحيث يذوب فيه ليرى شخصه أو إبداعه مجَسَّداً فيه، ممّا قد يعيش معه صورة شخصية الخالق. والله تعالى يريد للإنسان أن يفرِّغ كلّ نفسه وشعوره من هذا الإحساس الذي يتنافى مع توحيد الخالق سبحانه. وربّما يكون هذا ما جعل جمهور الفقهاء ولا سيّما فقهاء المسلمين الشيعة يفرِّقون بين صنع التماثيل فيحرّمونها، وبين اقتناء التماثيل فيجوّزونها. وقد نشأ أخيراً رأيٌ جديد يتحفَّظ في تحريم صنع التماثيل، وهذا الرأي تحدّث عنه المرحوم الشيخ محمد جواد مغنية، في كتابه (فقه الإمام جعفر الصادق)(1)، ونحن أمام تحفُّظنا حول الأحاديث التي يُستدلّ بها على هذه المسألة في طريقة دلالاتها، ربّما نتحفَّظ في هذه الفتوى، ولكنّ هذا النوع من الإجماع الإسلامي بين السُنّة والشيعة يجعل الإنسان يتوقّف عن الفتوى بالحليّة في ذلك.
وهناك نقطتان مهمّتان في دائرة هذا الموضوع:
الأولى: إنّ الحكم بالتحريم في النحت يختصّ بما إذا كان النحت لذي روح بحيث كان مُجسِّداً لصورته، أمّا نحن غيره فهو جائز كما أنَّ التماثيل التي لا تجسّد الصورة بل توحي بالرمز مثل بعض الصور الكاريكاتورية، أو الفنون التشكيليّة فلا مانع منها.
الثانية: يجوز اقتناء التماثيل وبيعها وشراؤها، لأنّ المسألة تتعلَّق بالنَّحات في مشاعره الإبداعية ولا تتعلَّق بالمنحوتة، وهذا هو ما يفتي به المشهور من علماء المسلمين الشيعة.
نلاحظ في الكثيرين من النحّاتين وبيعها وشراؤها، لأنّ المسألة تتعلّق بالنحّات في مشاعره الإبداعية ولا تتعلَّق بالمنحوتة، وهذا هو ما يفتي به المشهور من علماء المسلمين الشيعة.
التدخين والخمر
هل ما زلتم تقولون بالإحتياط في ترك التدخين أم بالحرمة، وإن كنتم تشبِّهون التدخين وضرره بالخمر والميسر حيث لا يجوز الجلوس مع شارب الخمر، فهل ينطبق الأمر نفسه على الدخان بجميع أنواعه؟
في البداية، نحن نقول بحرمة التدخين، لا بالاحتياط الوجوبي للمبتدئ والمدمن، غاية ما هناك أنّ الذين يرجعون إلينا في التقليد، يملكون فرصة الرجوع إلى غيرنا، لأنّنا نقول بالتبعيض في التقليد ـــ ولا نحبُّ لهم ذلك في مسألة التدخين ـــ أمّا القول بأنّني أشبّه التدخين بالخمر والميسر، فلأنّني أشبّهه بهما من خلال القاعدة التي أخضع الله لها تحريم الخمر والميسر، باعتبار أنَّ الله تعالى يقول: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} [البقرة : 219] يعني كلّ ما كان ضرره أكبر من نفعه فهو حرام.
ولو أجرينا استفتاءً في العالم حول نفع التدخين، فإنّنا نرى أنّ ضرره 90%، وإن كان له نفعٌ فــ 10%، وبإجماع أطباء العالم فإنَّ التدخين سببٌ رئيسي بالإصابة بسرطان الحنجرة والرئة. فإذاً نستفيد من القرآن الكريم أنّ التدخين حرام، ونستفيد أيضاً أنّه ظلم للنفس، لأنّ الأضرار بالنفس ظلمٌ لها، وكما أنّ ظلم الغير محرّم كذلك طقم النفس محرّم. أمّا مسألة الجلوس مع شارب الدخان وحليّة ذلك، وحرمة الجلوس مع شارب الخمر وحرمة ذلك، فلأنّ للخمر أخطاراً تتّصل بالعقل والسلوك الإنساني وبأمور أخلاقية أخرى، فالله تعالى لا يريد للإنسان أن يجلس مع شارب الخمر على طاولة واحدة حتى لا يعيش الإنسان أُلفةً مع الخمر، فيتحوّل بعد ذلك إلى مدمنٍ للخمر.
للخمر أخطار تتّصل بالعقل والسلوك الإنساني وبأمور أخلاقية أخرى.
ما كان ضرره أكثر من نفعه
تقولون: إنَّ ما كان ضرره أكثر من نفعه فهو حرام، كمسألة التدخين، ولكن في الوقت نفسه نجد أنَّ التلفزيون يحمل الكثير من الأضرار الاجتماعية التي يعكسها سلباً على أغلبية الناس والشباب، ممّا يسبّب اهتزازاً في سلوكهم، حتى نجد أنَّ بعض الخبراء يعتبرون أنَّ سلبيات وأضرار التلفزيون أكثر بكثير من إيجابياته ومنفعته.. وعلى هذا، فلماذا لا تُفتون بحرمته؟
إنَّ التدخين يحمل ضرره في داخله، لأنَّ العناصر الموجودة في داخله تؤدي إلى السرطان وإلى أمراض كثيرة بشهادة كلّ أطبّاء العالم، وهكذا، بالنسبة إلى الخمر والميسر، فإنَّ ضررهما في داخلهما، أمّا في التلفزيون، فهناك برامج مفيدة وأخرى ضارّة، كما أنَّ هناك تلفزيونات إسلامية وغير إسلامية، لذلك، نقول: التلفزيون، كالراديو، التلفزيون ينقل الصورة، والراديو ينقل الصوت، ونحن نحرّم الصورة التي تُفسد والصوت الذي يُفسد، ولكن في كليهما ـــ الراديو والتلفزيون ـــ برامج نافعة ومفيدة تعود بالفائدة على الإنسان من خلال البرامج التي تُبثّ في مجال النفع..
وهنا، تبقى إرادة الإنسان هي التي تتحكّم بالنافع وبالضّار، فإذا ما عرف الإنسان متى يدير جهاز التلفزيون ومتى يوقفه، فإنَّه يحصّن نفسه من الضرر. والتلفزيون كالسّكين يستعمله الإنسان لحاجاته الضروريّة، ويستعمله لقتل إنسان مثلاً، وكالمسدّس الذي قد يقتل به الناس ظلماً، ويمكن أن يدافع به عن نفسه. إذاً، على الإنسان أن يختار النافع ويترك الضّار، ولذلك حرّمنا الأفلام والبرامج المفسدة للأخلاق، لأنَّ ضررها أكثر من نفعها، "فضرره أكثر من نفعه" للبرامج، لا للتلفزيون في ذاته.
ختان الإناث
تجري عملية ختان الإناث في أكثر من ثلاثين دولة في العالم، ويعتقد الخبراء أنَّ ما بين 85 مليوناً و115 مليون امرأة وفتاة أُجريت لهنَّ عمليات الختان، ويقول الخبراء بأنَّ هذه العمليات تترك التأيرات النفسية والجسديّة على هؤلاء النسوة، فما رأيكم بهذا الموضوع؟
كان الختان للإناث يُجرى في العهد الجاهلي، ومع مجيء الإسلام بقيت هذه المسألة قائمة، لأنَّ البعض اعتبرها شأناً من شؤون الزينة أو ما أشبه ذلك، والإسلام لم يحرّم هذه العمليّة بالعنوان الأوّلي.. ولكنّنا في بحثنا للأحاديث التي وردت حول ختان البنات، رأينا أنَّ هذا الأمر لم يثبت استحبابه كما هو المتداول عند الكثيرين من الناس، بل وجدنا أنّه كان من الأمور المرغوبة اجتماعياً، حيث اعتبرها البعض مكرُمة وليس سُنّة.. ولذلك، فالقضية مرتبطةٌ بالعرف الاجتماعي الذي كان في ذلك الوقت.
أمّا إذا تحوّل الختان إلى ضرر على الأنثى صحيّاً أو نفسيّاً(1) أو جنسيّاً، فإنّه قد يكون محرَّماً بالعنوان الثانوي، وقد بحثنا هذه المسألة بحثاً مفصَّلاً في كتابنا "فقه الحياة"(2) من الناحية الشرعية وغيرها.
الشباب وحقوق الأهل
شابٌ ملتزم (ما بين 18 ـــ 19 سنة) يتعرَّض مِن قِبَل أهله وإخوته الذين يعتبرون أنفسهم أوصياء عليه بعد موت والدهم لخنق حريّته، ويستضعفونه لدرجة الإيذاء الجسدي والنفسي، ويمنعونه من الصلاة إلاّ في أماكن محدّدة، أو أن يبيت خارج الممنزل مع أصدقائه، فهل لكم أن توضحوا حقوقه وحدود أهله.
أمّا حقوقه، فمن الناحية الشرعية، إذا كان راشداً في أموره، بحيث يعرف كيف يدبّر نفسه، وكيف يمارس الاستشارة في أموره، فهو إنسانٌ مستقلّ في كلِّ أموره، وليس لهم أيّة سلطة عليه، حتى عندما يعتبرون أنفسهم بمنزلة والده، لأنَّ والده لو كان موجوداً، وهو في هذا السنّ من البلوغ والرشد، فليس لوالده ولاية عليه.. تبقى ولاية الوالد على الصغير إلى أن يبلغ، فإذا بلغ راشداً، فلا ولاية عليه، فحقُّ هذا الشاب من الناحية الشرعيّة هو أن يستقلّ في كلِّ أموره، وإذا كان أهله أو إخوته يمارسون معه هذا النوع من الضغط النفسي والجسدي، فإنَّ عليه إذا لم يملك القدرة على معالجة الأمر بنفسه بحكمة ورويّة، أن يوسّط أقرباءه ومعارفه، ممّن يمكن أن يتحدَّثوا مع أهله وإخوانه في رفع هذا الأمر عنه.. ولكنّني أخشى أن يكون هذا الشاب من الذين يضخّمون الأمور تبعاً لضخامة إحساسه بالمشكلة.. لذلك، آمل منه بأن يدرس الأمور بعقلٍ بارد ويعالجها بحكمة ورويّة.
التشهير
ما رأيكم بموقف بعض الشباب الملتزم الذي يقيم زواجاً منقطعاً مع فتاة، ثمّ يقوم بالتشهير بها من باب الإعتداد بنفسه أمام أصدقائه، ممّا يؤثّر سلباً على مستقبل الفتاةالتي يشهّر بها؟
إنَّ هذه المسألة تدلُّ على أنَّ هؤلاء الشباب ليسوا ملتزمين وأتقياء وليسوا شرفاء، ولا يملكون من الإنسانية شيئاً، لأنَّ هذا الشاب الذي يقيم علاقة شرعيّة مع إمرأة أو فتاة ثمّ يشهّر بها بعد أن وثقت به وأخلصت له على أن يحفظ لها كرامتها وسمعتها، ليس محلاًّ للثقة على الإطلاق. وإنَّنا نقول لهذا الشاب: إنَّ زوجتك هي أختك في الإيمان، كما هي الأخت في النَسَب، فهل تقبل لو مارَسَ الآخرون أسلوبك نفسه مع أختك؟ "لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه" فالتشهير بذاته محرّم، ولا يجوز لأيِّ مؤمن في جميع الحالات، سواء في هذا الموقع أو ذاك أن يشهّر بمؤمن آخر، فكيف إذا كان التشهير يؤدي إلى إسقاط الفتاة الضعيفة في المجتمع، أو يؤدّي إلى أن تفقد حياتها أمام بعض الأوضاع التي لا يقبل فيها الأهل إلاّ بسفك دمها. ومرّة أخرى، نقول للشباب: لا يعني الإلتزام، الصوم والصلاة فقط، وترك شرب الخمر ولعب القمار، ولكن الإلتزام، يعني الوقوف عند حدود الله واحترام إخوانك من المؤمنين والمؤمنات، لأنّ زوجتك سواءً كانت زوجة دائمة أو منقطعة، هي زوجتك في الجسد، وأختك في الإيمان.. قلت: إنّ الذين يمارسون ذلك التشهير، لا التزام لهم، وإن زعموا ذلك، ولا شرف لهم ولا إنسانية، وعملهم يدلُّ على حقارة في النفس وخبث في السريرة.
الضمانة والمهر
أنا شابٌ في الثلاثين من العمر أملك مستلزمات الحياة الزوجية من بيت وعمل، وقد تقدّمت للزواج من فتاة ملتزمة قبل بي زوجاً، ولكنّ أهلها يصرّون أن أُسجّل لها نصف البيت أو قطعة أرض كضمان لها، ولكنّ البيت باسم والدي الذي يرفض ذلك.. فهل برأيكم أنّ تسجيل نصف البيت باسمها يشكّل ضمانة لها؟
الضمانة هي الأخلاق، لأنّ الزوج الذي لا أخلاق ولا دين له، فإنّه قد يضطهد الفتاة، ويتعسَّف معها، فإنّها لا تبذل له مهرها فقط، بل تبذل له حتى ثيابها التي تبلسها.. الضمان هو الدين والخُلُق.. أمّا المال، فبحسب التجربة ليس ضماناً، ونحن نعرف أنّ بعض الذين لا أخلاق لهم عندما واجههم المهر المؤجّل الكبير عملوا على أن يضطهدوا زوجاتهم ويعذّبوهنّ حتى يبذلن مهرهنَّ لهم ليطلّقوهنّ بعد ذلك.. لذلك، ليس المهر العالي ضمانة. ومع ذلك، أقول لهذا الشاب، ولغيره من الشباب، ليس كلّ الآباء كمثل أبِ هذه الفتاة.. هناك آباء طيّبون وفتيات طيّبات، وإنّ أفضل تأديب لهذا الأب، هو أن يترك هذا الشاب هذه الفتاة، إذا لم يكن هناك سبيلٌ إلاّ هذا، وهو قادرٌ علىذلك، لأنّ البيت باسم أبيه، وأبوه يرفض، وهو لا يملك أن يقدّم لها ذلك، وعليه أن يختار فتاة أخرى تقبل به زوجاً من ناحية دينه وإنسانيّته لا من خلال شقّته.
وهناك نقطةٌ أحبّ أن أنبّه عليها الشباب، وهي أنّ بعض الآباء أصبحوا يفكّرون بهذه الطريقة، لأنّ كثيراً من الشباب لا يتحمّلون مسؤولية عقد الزواج. فإذا كان المهر قليلاً، فإنّ أيّة مشكلة مع الزوجة تجعلهم يبادرون إلى الطلاق، لأنّهم لن يخسروا من ذلك شيئاً.. ولعلّ هذا هو الذي أوجد بعض التعقيدات مع بعض الفتيات اللاتي يطلبن مهراً عالياً، أو مع بعض الأهل الذين يطلبون ذلك.. لهذا، فكما على الأهل أن يتحمّلوا المسؤولية في هذه المسألة، كذلك على الشباب أن يكونوا في مستوى المسؤولية.
الحجاب
أحبّ زوجتي حبّاً عميقاً، وهي تقوم بكلّ واجباتها الزوجيّة، وترعى أطفالي بحبٍّ كبير، وتربِّيهم تربية حسنة وإسلامية، ولكنّها ترفض ارتداء الحجاب، فهل لي أن أجبرها، وإذا لم تقبل هل أطلِّقها؟
القضية لا تُطرَح بهذا الشكل، إنّما تُطرح على أساس أن تجد الوسائل التي تُقنع بها هذه المرأة بالحجاب، لأنّها إذا كانت تربّي أولادك تربية إسلامية، وكانت تصلّي وتصوم، فمعنى ذلك أنّها مؤمنة بالله والإسلام، ومن الطبيعي أن يُقال لها إنّ الحجاب من الواجبات الدينية الأساسية.
وهذه المرأة قد تكون خائفة من انتقاد بيئتها فيما لو ارتدت الحجاب، وهنا عليك أن تقوِّي لها نفسيّتها وتقرِّبها إلى الأجواء التي تعيش فيها مسؤولية الإيمان. ولا مانع من أن يضغط الإنسان ضغطاً يحاول فيه أن يشجّع الإنسان على تركيز الإرادة، لأنّ بعض الناس قد يحبُّون الالتزام، ولكنّهم لا يستطيعون تركيز إرادتهم في هذا المجال.. أمّا موضوع الطلاق فليس حلّاً، لأنّه قد يعقِّد المشكلة أكثر.
الانتساب إلى الأُمّ أم إلى الأب
في حوار حول فضل الأم، جداء في هذا الحوار أنّ بعض المجتمعات كانت تنسب الإنسان إلى أُمّه، ومن ثمَّ تطوّر الأمر وصار يُنسب إلى أبيه.. وورد أيضاً أنّ الإنسان في الآخرة ينادى باسم أُمّه، فهل هذا صحيح.. وما صحّة الحديث: "الجنّة تحت أقدام الأُمّهات".
كانت بعض المجتمعات تميل إلى الجانب الأمومي من خلال نظامها الاجتماعي، وتعتبر أنّ الأم هي سيّدة العائلة، وليس الأب، ولم تكن هذه الظاهرة عالمية، بل كانت محصورة في بعض المجتمعات التي تجعل المرأة قوّامة على الرجل وليس العكس. وأمّا فيما يتعلّق بالشقّ الثاني من السؤال، فقد وردت بعض الأحاديث حول ذلك، وتفسير ذلك حتى لا يُفضح الناس الذين طرأت في حياتهم الدنيا بعض المشاكل في أنسابهم، حيث يكون الواحد إبنَ زنا وهو لا يدري بذلك، باعتبار ما كانت أُمّه قد قامت به من انحرافات أوجبت أن تحمل من غير زوجها. فالنداء باسم الأم في الآخرة، لا من جهة خصوصية الأم، ولكن من جهة عدم فضح بعض الناس بمسلكيات أُمّهاتهم.
وحول الحديث "الجنّة تحت أقدام الأُمّهات" هذا حديث مشهور ويرسله الناس إرسال المسلَّمات، باعتبار أنَّ الله سبحانه جعل الجنّة للذين يعانون أكثر.. ولا إشكال بأنَّ الأُم تعاني الكثير في ولادة ابنها واحتض انه ورعايته. لذلك ورد أنّ الأُمّ إذا ماتت أثناء وضع حملها كان لها أجر الشهيد، بلحاظ المعاناة التي تعانيها.
مسؤولية العلاقة مع الآخر
تعرّفت على شاب في العشرين من عمره وأحببته، وكحان ظاهره يُوحي لي بأنَّه ملتزمٌ ومتديّن، وقد اتّفقنا على الزواج، ولكن سريعاً ما اكتشفت أنّ ما يُظهر غير ما يُبطن، وأنّه يريد تضييع الوقت باللّهو والعبث، وليس في نيّته الزواج منّي، ما تقولون في مثل هؤلاء الشباب؟
لن أتحدّث في البداية مع الشباب، ولكن مع الفتيات، وأحذّرهنّ بما يقوله شوقي، وإن كنّا لا نستدلّ به شرعياً، ولكنّه واقع:
خدعوها بقولهم حسناءُ والغواني يغرُّهُنَّ الثَنَاءُ
فعلى الفتيات أن يعرفن أنَّ كثيراً من الشباب، وليس الجميع، يُتقنون الكلام المعسول، ويتعلَّمون الكثير من خلال الأفلام والقصص الغرامية وبعض الشعر والنثر، لذلك، على الفتاة أن تشغّل عقلها وتدرس وضع أيِّ إنسان قبل أن تفتح له قلبها، لأنَّ الفتاة إذا ارتبطت بإنسان لا يملك المسؤولية جيّداً، فإنّها قد تواجه أخطاراً كبيرة على حياتها. وإذا أشار الناس عليها بأنَّه غير ملتزم، فإنَّ عليها ألاَّ تبادر إلى عدم تصديقهم، بل إنَّ عليها أن تدرس ذلك، وتفتِّش عن حقيقته، ولو من باب الحذر، نحن لا نقول لها: صدّقي كلام الناس، ولكن نقول إنّ كلام الناس في هذا المجال يدعونا إلى الحذر.وعليها أيضاً أن تدرس بجديّية واقع هذا الشاب بعيداً عن أيّة حالة عاطفية، فإذا رأته ممّا ورد الحديث فيه "إذا جاءكم مَن ترضون دينه وخُلُقه فزوِّجوه"(1) فإذا رأته مرْضيّاً في دينه وأخلاقه من خلال دراسعة عميقة واسعة، فلتتوكّل على الله ولتقبل به، وإلاّ فلتبحث لها عن إنسانٍ آخر.
وأمّا ندائي إلى الشباب فإنَّ عليهم أن يتحمّلوا مسؤولية أيّة علاقة مع أيّة فتاة، لتكون علاقة قائمة على التقوى والصدق والجديّة، لا أن تكون قائمة على اللّعب والعبث بمشاعر الفتيات، وعليهم أن يفكّروا بأنّ أساليبهم هذه التي يستعملونها مع بنات الناس، قد يستعملها الناس مع بناتهم وأخواتهم، فهل يقبلون بذلك؟
المصافحة وزواج المتعة
يحرّم الإسلام مصافحة الرجل للمرأة لتحصين المجتمع من المفاسد التي قد تنتج عن ذلك، مع أنّ الأمر ـــ حسب تصوّري ـــ ليس بالخطورة التي يسبّبها زواج المتعة، فما الحكمة من تحريم المصافحة وشرعيّة المتعة؟
عندما نريد أن ندرس حكماً شرعياً، علينا أن نضعه في مجموعة الأحكام التي تمثّل الهيكل التشريعي الذي تتكامل مفرداته من أجل تحقيق النتائج الأساسية. وهنا لو فرضنا أنّ المصافحة ليس فيها آثار سلبيّة إذا كانت "بقلبٍ طيّب"، وهكذا نفترض في التقبيل الذي ينطلق من "عاطفة ومحبّة"، وكذلك في العناق بين الرجل والمرأة، كما يقال في ذلك إنّه تعبيرٌ عن العواطف الإنسانية، حتى نصل إلى بعض المداعبات بشرط عدم الوصول إلى النتائج الحاسمة. إنّنا عندما نبسّط الأمور بهذا الحجم من التبسيط، فإنّناا قد نصل إلى مرحلة نبرّر فيها الزنا، لأنّ البعض قد يقول، بأنّ ذلك يحلُّ مشكلة الشباب، وهذا شيء إنساني لا يضرُّ الإنسانية.
وهنا نوجّه بعض الأسئلة: هل هناك ضوابط لعلاقة الرجال بالنساء؟ هل الرجل حرٌّ في جسده والمرأة حرّةٌ في جسدها؟ أم أنّ هناك قيمة إسلامية إنسانية، هي العفّة في علاقة الرجل بالمرأة؟ إذا قلنا بالحرية، كما هي الفلسفة القائمة في الغرب اليوم، فهنا لا معنى لأن نحرّم المصافحة والمعانقة وحتى العلاقات الجنسية غير الشرعية، لأنّها قضية تتّصل بالحريّات الفردية، وليست هناك أخلاق خارج نطاق الحريّات الإنسانية. وعلى هذا، ينبغي ألاّ نتحدّث عن الحجاب وضرورته، بل أن نبرّر العُري، وعليه أيضاً، لا ضرورة لأن نتكلّم عن أيّ شيء وأيّ حدّ، لأنّنا نؤمن بالحريّات المطلقة للنّاس في شهواتهم ولذّاتهم، ويجب أن نجمّد كلّ تشريعٍ مانع.
نحن هنا، نتكلّم كمسلمين، والإسلام قال: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً} [الإسراء : 32]، ويقول تعالى أيضاً: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ*وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور: 30 ـــ 31] إنّ هناك هدفاً في الإسلام، وهو أن تتوازن العلاقات بين الرجل والمرأة، فلا تصل إلى العلاقات المحرّمة، وذلك عندما تريد تأكيد تشريع معيّن في المجتمع عليك أن تحميه بإيجاد الأجواء التي تساعد على تنفيذه، ومن هنا، فإنّ الإسلام عندما يمنع المصافحة بين الرجل والمرأة، وإن انطلقت بقلبٍ طيّب، فحتى لا يتنجَّس القلب بفعل الملامسات التي تتحوّل إلى علاقاتٍ غير شرعية وقد قال (أحمد شوقي) في هذا المجال:
نظرةٌ فابتسامة فسلام فكلامٌ فموعد فلقاء
والشباب يفهمون معنى ذلك، لأنّهم يعيشون هذه المشاعر بمشاكلها في الواقع. وإنَّ تحريم ذلك، إنّما انطلق ليهيِّئ للشباب والفتيات جوّاً طاهراً يحصلون من خلال على المناعة من الانحراف.. وقد ينظر الإنسان إلى هذه الأمور، ويقول ما قيمة أن يصافح شابٌ فتاة؟ نقول إنّ الأمور مرتبطة بعضها ببعض، فعندما نتهاون في قضية ما مهما كانت بسيطة، فإنّنا سنتهاون في القضايا الكبرى حتى نصل إلى النهايات غير السليمة.
أمّا زواج المتعة، فهو زواجٌ كما الزواج الدائم، له عقدٌ وعِدّة والتزاماتٌ بين الزوج والزوجة، وقد حلّ هذا الزواج المشكلة الجنسية. وقد قال أمير المؤمنين عليٌّ (عليه السلام): "لولا ما نهى عنه عمر من أمر المتعةما زنا إلاّ شَفَا" أي إلاّ قليل من الناس.
إنَّ هناك هدفاً في الإسلام، وهو أن تتوازن العلاقات بين الرجل والمرأة فلا تصل إلى العلاقات المحرّمة.
التلفزيون والأنترنت
في جواب لأحد العلماء عن سؤال يتعلّق بالتلفزيون، قال هذا العالم بأنّه لما كانت الخطّة السياسية التي تقف وراءه تريد نشر الفساد والانحلال، فإنّ حكم التلفزيون هو الحرمة، وأضاف بأنَّ اللاقط ـــ الستلايت ـــ حرام أيضاً، وهكذا الكومبيوتر، باعتبار أنّه يتّصل بشبكة الأنترنت التي تبثّ صوراً خلاعية، السؤال: هل توافقون على هذه النظرة، وهل أنّ فتاوى التحريم سوف تصمد أمام الواقع العالمي الذي تتسارع فيه وسائل الاتصال يوماً بعد يوم؟
إنّ الإنسان عندما يريد أن يطلق مسألة التحريم، عليه أن يدرس المسألة من جميع جوانبها، لأنّ مسألة التلفزيون كمسألة المذياع ـــ الراديو ـــ وقد يكون أخطر. ففي المذياع برامج جيّدة وأخرى سيّئة، والتلفزيون كذلك، يبث برامج فيها الخير وفيها الشرّ. لذلك، من الصعب جداً أن نُصدر فتوى بالتحريم في مشاهدة البرامج الجيّدة. ولكن، علينا أن نربّي إنساننا على أن تكون لديه موانع ضدّ مشاهدة واستماع ما هو محرّم. وهكذا في موضوع الكومبيوتر، لا نستطيع أن نحرّم استعماله وخصوصاً أنّنا نستطيع من خلال ربطه بشبكة الأنترنت نشر أفكارنا ومعتقداتنا للعالم كلِّه.
ومن ناحية شرعية، فإنَّ العلماء يُجيزون في الشيء الذين يتضمّن الحلال والحرام، أن يُستعمل في الحلال، ولا يجوز استعماله في الحرام، ولكن الموضوع يحتاج إلى المزيد من الدقّة والمراقبة لا سيّما في المجالات العائلية التي قد تترك فيها هذه الأجهزة تأثيرات سلبية على أكثر من صعيد في المستوى الأخلاقي، ممّا يفرض على أولياء الأمور من الأهل وغيرهم أن يضعوا الضوابط في استعمال هذه الأجهزة أو في إدارتها من قِبَل القائمين عليها، وربّما كان هذا العالم الديني ينظر إلى النتائج السلبية الناتجة من خلال التلفزيون على أساس عدم التأكيد على اختيار المواضيع في إدارته وعدم المراقبة للمراهقين وغيرهم في مشاهدته.
علينا أن نربّي إنساننا على أن تكون لديه موانع ضدّ مشاهدة واستماع ما هو محرّم.
الموسيقى
ما هي الموسيقى المحلّلة والمحرَّمة بنظركم، وما رأيكم بموسيقى الجاز والروك، والموسيقى الهادئة الرومانسية، والموسيقى المصاحبة لشعر وجداني مُغنّىً؟
الموسيقى المحرّمة هي الموسيقى التي تثير بحسب طبيعتها ونوعها الأجواء الغريزية والشهوانية، بحيث قد يشعر الإنسان الذي يستمع إليها بما يشبه حالة الطوارئ الجنسيّة وما يثير هذه الأحاسيس في نفسه. أمّا الموسيقى الأخرى التي تريح الأعصاب، أو التي تحلّق بالإنسان في أجواء روحية إنسانية عالية، أو الموسيقى الحماسية ـــ وليست لي خبرة في الموسيقى حتى أعدّد أنواعها ـــ والتي لا تثير وتوحي بالجانب الجنسي للإنسان فهي حلال.. وهكذا يمكن أن نقول في حرمة الموسيقى التي تحطّم الأعصاب وتؤدّي إلى ضرر نفسي أو جسدي، مثل موسيقى العنف التي تجعل الإنسان يعيش في حالة طوارئ نفسيّة مضرّة.
أمّا الموسيقى التي تصاحب شعراً وجدانياً، فإنّنا نتحفَّظ فيها، باعتبار أنّ هذه المسائل قد تثير بعض المشاعر والأحاسيس للإنسان، بحيث قد يتّجه اتجاهاً في غير مصلحة الأخلاق. وبالنسبة للموسيقى المصاحبة للشعر الذي يلتقي بالمسائل الإنسانية، أو بالقضايا السياسية المنفتحة على قضايا الحقّ والمصير، أو في قضايا القِيَم الروحية والأخلاقية، وكلّ ما يرتفع بالإنسان، أو في مدائح النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأئمّة من أهل البيت (عليهم السلام)، بما يتمثّل الشعر فيه، في مضمون حقّ، فهو جائزٌ عندنا، لأنَّ الله لهو الحديث الذي يضلّ عن سبيل الله، وحرّم قول الزور، وهو قول الباطل.. أمّا ما كان حقّاً فليس كذلك.
ونحن لو درسنا الأساليب التي تُقرأ فيها التعزية والأناشيد التي تُقال في المدائح النبويّة، لرأينا أنّها غناء، ولكنّها غناء حقّ، لأنّ الغناء ليس إلاّ ترديد الصوت وترجيعه. ومن هنا، نقول: إنّ الغناء إذا كان حقّاً فهو حلال حتى وإن كان مصاحباً للموسيقى، وإذا كان باطلاً أو يوحي بالباطل والإثارة فهو حرام.
حرَّم الله تعالى لهو الحديث الذي يضلّ عن سبيل الله، وحرّم قول الزُّور، وهو قول الباطل، أمّا ما كان حقّاً فليس كذلك.
ترك الصلاة
زوجتي توقّفت عن الصلاة منذ شهرين، مع العلم أنّنا لم ننجب إلى الآن أطفالاً، وهي لا تعمل خارج المنزل، طلبت منها مرّات عدّة أن تصلّي ونصحتها بالطريقة الحسَنَة ولكنّها لم تستجب، طلبت تدخّل أهلها، ولكنّها بقيت على موقفها، ما هي نصيحتكم لي ولها في هذا المجال؟
نصيحتي لك أن تحاول فهم المؤثّرات والأسباب التي دفعت بزوجتك إلى ترك الصلاة حتى تستطيع أن تعالج الدّاء بالدواء المناسب، لأنّك إذا لم تعرف طبيعة الداء، فلا تستطيع أن تصف الدواء.
أمّا نصيحتي لها، فإنّني أقولها لها: إذا كانت لا تزال مسلمة تؤمن بالله ورسوله واليوم الآخر، فإنَّ عليها أن تعرف أنَّ الصلاة عمود الدين، وأنَّ من لا صلاة له لا دين له، فهو مقطوع العلاقة بينه وبين الله، لأنَّ ما يربط ما بين الله والإنسان هو الصلاة، فكلّ مَنْ لم يصلِّ لا علاقة بينه وبين الله. فالله سبحانه حثَّ على الصلاة، وطلب من النبيّ أن يأمر بالصلاة، وحدّثنا سبحانه أنَّ أحد أسباب الدخول إلى النار هو ترك الصلاة، فقال سبحانه: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ*إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ*فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءلُونَ*عَنِ الْمُجْرِمِينَ*مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ*قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثّر: 38 ـــ 43]، لذلك نقول لهذه الأخت: إنَّ عليها إذا كانت خاضعة لتأثير بعض رفيقاتها أو بعض الأجواء اللاهية العابثة من حولها، أن تفكِّر بمصيرها {يَوْماً لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان : 33].
الإنجاب والطلاق
رجلٌ تعاني زوجته من مشكلة في الإنجاب، طلب من زوجته أن يتزوّج ثانية، رفضت الزوجة ذلك، وهدَّدت إذا أقدم على هذه الخطوة، فإنَّها تطلب الطلاق، كيف نعالج هذه المشكلة؟
عندما تكون هذه الزوجة محبّة لزوجها وتريد أن تعيش معه بكلّ الأمان والودّ، عليها أن تحترم عواطفه في رغبته بإنجاب الأطفال، خصوصاً إذا كان يودُّ العيش معها ويعدل بينها وبين الزوجة الثانية، ومن هنا، فإنَّ عليها أن تقبل برغبته وتعمل هي على اختيار الزوجة له التي ترى أنّه يمكن أن تعيش وتتفاهم معها، وهذا ما فعلته الكثيرات من الزوجات المؤمنات اللواتي اخترن زوجات لأزواجهنَّ.
فلو فرضنا أنّ هذا الرجل لم يتزوّج وكانت الرغبة ضاغطةً عليه، فإنّه سيعيش مع زوجته العقدة الدائمة ولن يستطيع أن يحقِّق لها السعادة. وعلى المرأة والرجل أن يفكِّرا دائماً أنّهما لن يستطيعا أن يحقّقا كلَّ أحلامهما في الحياة، وأنَّه ينبغي أن يتنازل الواحد منهما عن بعض حريّته وأحلامه للآخر. ونحن نستطيع أن نريح بعضنا بشيءٍ من التضحية، لكنّنا أنانيون، حتى الرجل وفي بعض الحالات إذا كان هو لا يُنجب، والمرأة تُنجب، فهو لا يطلِّقها إذا كانت ترغب بإنجاب الأطفال، فإذا كان الزوج إنسانياً، عليه أن يمنحها هذه الفرصة التي تحقِّق بها السعادة مع زوجٍ آخر، وعلى المرأة أيضاً أن تأخذ هذا الدور.
التباهي
هناك ظاهرة التباهي والتفاخر بين فتياتنا هنا في بلاد الاغتراب في المقتنيات (الجواهر وما إلى ذلك) أو الملابس أكثر من الاهتمام بالمطالعة والعلم، هل أنَّ التربية بنظركم لها دور؟
إنّني أعتقد أنَّ التربية الروحية والنفسيّوة لها الدور الكبير في هذه المسألة، فنحن نعرف مثلاً أنّه في الوقت الذي تنطلق فيه الكثيرات من بنات الغرب في الأخذ بأسباب الترف والزينة واللّهو والعبث، نجد أنَّ هناك أيضاً الكثيرات منهنَّ من يهملن هذه الأمور، وينفتحن على قضايا العلم والفكر والعمل الاجتماعي وما إلى ذلك من الأمور العامّة التي ترتفع بمستوى الفتيات. إنّنا نقول لفتياتنا: إنَّ الإنسان هو مَنْ يُغني إنسانيّته، ومن يعتبر أنَّ قيمته الإنسانية هي بمقدار ما يخدم علمه وثقافته وروحيّته ويمارس المهمّات العامة في مجتمعه، سواء كانت اجتماعية أو سياسيّة أو ثقافية.. إنّ الإنسان هو الذي يعيش في عالم القِيَم، "قيمة كلِّ امرئ ما يحسنه"(1) على ما جاء في قول أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام). إنَّ علينا أن نجعل فتياتنا وشبابنا يدركون أنَّ تقدُّم الإنسان ليس فيما يلبس ويقتني، بل هو فيما يغني عقله وقلبه وحياة الناس من حوله، وهذه هي الحضارة.
إنَّ تقدّم الإنسان هو فيما يُغني عقله وقلبه وحياة الناس من حوله.
الأزياء وسلب الهويّة
عندنا في لندن، وفي أوروبا عموماً تُجبر الفتاة في المدارس على ارتداء زيّ الكنيسة أو أزياء الطواغيت، فهل يجوز الإمتثال لأوامر هذه المدارس أم لا؟
لا يجوز ذلك، لأنَّ هذا ربّما يؤدّي إلى تعميق التديُّن غير الإسلامي في نفس الشاب أو الفتاة. ومن الطبيعي أنّ هذا يمثّل خطراً على إسلامهم في مفاهيمه وعباداته، لذلك، لا بدّ من تدبّر الأمر بالطريقة التي تجعل المسلمين يحملون احتجاجهم على هذا الضغط لإدارة المدرسة أو للجات الأخرى. فمسألة انتماء أولادنا للإسلام والتزامهم بعبادات الإسلام، هي من الأمور الحيويّة، تماماً كما هي قصّة حياتهم الشخصيّة، لأنّ حياة الإنسان الروحية، قد تكون أكثر أهميّة من حياة الإنسان الجسديّة. ولذلك، كما أنّ علينا أن نحافظ على الحياة الجسديّة لأبنائنا، علينا أن نحافظ على الحياة الروحيّة لهم.
حياة الإنسان الروحيّة قد تكون أكثر أهميّة من حياة الإنسان الجسديّة.
التبرُّع بالأعضاء
ما هو موقف سماحتكم من مسألة هبة قرنيَّة العين بعد الوفاة للأحياء الذين لا يبصرون، وكذلك بالنسبة لبقيّة الأعضاء؟
إنّني أعتبر أنّ وصية الإنسان بأعضائه بعد موته، ولا سيّما العين هي من أفضل القربات عند الله سبحانه.. فإنّك عندما تمنح قرنيّة عينك لإنسان لا سبيل له إلى النظر، سوف تحصل على كلّ الثواب على ما يقوم به هذا الإنسان من خلال بصره في كتب يؤلّفها، أو في كثير من الأعمال التي يتحرّك بها من خلال بصره.. إذاً، لا مانع من الناحية الشرعية في أن يوصي الإنسان بقرنيّة عينه بعد الوفاة لأحد الأحياء غير المبصرين، وهذا هو رأي سيّدنا الأستاذ السيّد الخوئي(1) (رحمه الله) وأنا أضيف إلى ذلك أنّها من أفضل القربات إلى الله، وهي كذلك من أفضل الصدقات، ويُثاب عليها الإنسان كما يُثاب على الصدقة.
إنّ وصيّة الإنسان بأعضائه بعد موته من أفضل القربات إلى الله.
حليّة لعب الورق
هل تفرَّدتم بفتواكم بحليّة لعب الورق، أم أنّ هناك من المراجع مَنْ يوافقكم الرأي؟
هناك من المراجع مَنْ أفتى بحليّة لعب الورق، ومنهم المرجع السيّد أحمد الخونساري الذي كان ثقة المؤمنين في إيران وثقة الإمام الخميني (قدّس سرّه)، فقد أفتى في كتابه (جامع المدارك)(2) بحليّة لعب الورق، وكثيرٌ غيره من العلماء أفتى بذلك، وبعض العلماء المعاصرين لا يفتون بالحرمة، ولكنّهم يحتاطون في ذلك احتياطاً وجوبيّاً، بحيث أنّ مقلِّديهم يمكن لهم أن يرجعوا إلى مَنْ يفتي بالحليَّة. أمّا لماذا أفتينا بذلك، فلأنّنا لم نجد دليلاً على حرمة لعب الورق للتسلية، كما أنّ العلماء الآخرين(1) يفتون بجواز لعب (الداما) و(البرجيس) وحتى بلعب الورق، إذا لم يكن الورق "الرسمي"، فبرأيهم أنّ الورق المشابه بخطوطه لورق اللّعب يجوز اللّعب به للتسلية. لكن كما قلنا أكثر من مرّة، إنّ مسألة حليَّة لعب الورق، كحليّة أكل اللّحم، ولكنّه يتحوّل إلى حرام فيما لو أكلت عشرين رطلاً ونتجَ عن ذلك الضرر. فأن تلعب بالورق من الصباح إلى المساء، وتترك عائلتك وعملك وعبادتك وأهلك ومسؤوليّاتك، فإنَّ الأمر يصبح حراماً بالعنوان الثانوي.
حليّة لعب الورق، كحليّة أكل اللّحم، ولكنّه يتحوّل إلى حرام فيما لو أكلت عشرين رطلاً ونَتَجَ عن ذلك الضرر.
لعب الورق
مَنْ يعمل بفتواكم بحليّة لعب الورق، هل يجوز له أن يقضي الساعات الطويلة في ذلك، أو أن يقصّر في واجباته العائلية؟
ذكرنا في "المسائل الفقهيّة" أنّنا عندما أفتينا بحليّة لعب الورق، وأنّه جائزٌ للتسلية، قيَّدنا ذلك بألاّ يصدَّ عن ذكر الله وعن الصلاة وعن مسؤولياته العائلية والعملية والإسلامية.. وقد قلنا مراراً في مقام تقريب الفكرة بطريقة شعبية إنّ أكل لحم الغنم حلال، لكن أن يأكل الإنسان أربعين رطلاً في اليوم هذا حرامٌ لأنّه يشكِّل ضرراً بالغاً على صحّته. فالأمر يكون حلالاً بما لا يؤدّي إلى إهمال الإنسان لواجباته العائلية ولمسؤولياته في الحياة.
الأمر يكون حلالاً بما لا يؤدّي إلى إهمال الإنسان لواجباته العائلية ولمسؤولياته في الحياة.
التعامل التجاري مع اليهود
أخٌ يعيش في افريقيا ويتعامل في تجارته مع بعض التجّار الإسرائيليّين، ومعاملتهم "جيّدة" فهل يجوز له التعامل معهم أم لا؟
لا يجوز له التعامل مع أيِّ إسرائيلي في أيِّ مكانٍ من العالم، ولا يجوز له التعامل مع أيّة شركةٍ تدعم إسرائيل بالمال، لأنّ ذلك يعطي إسرائيل قوّة اقتصادية تستطيع من خلالها أن تجاربنا وتضعفنا، لذلك فإنَّ التعامل مع إسرائيل كدولة ومع الإسرائيليّين محرَّم شرعاً بكلِّ ما لهذه الكلمة من معنى.
لا يجوز التعامل مع أيّة شركة تدعم إسرائيل بالمال فذلك يعطيها قوّة اقتصادية تحاربنا من خلالها.
الإستعانة بالظلم
هل يجوز للإنسان أن يستعين بالظالم لقضاء بعض حوائجه، وما حدود هذه الإستعانة، وخصوصاً بالنسبة للذين يدخلون إلى الشريط الحدودي في جنوب لبنان، ويقيمون علاقات تجارية ومعيشيّة مع العملاء هناك؟
الأصل في المسألة أنّه لا يجوز للإنسان التعامل مع الظالم، لأنَّ المطلوب إنكارُ ظلمه، وقد يكون التعامل معه نوعاً من أنواع الإقرار بظلمه أو الرضى به. ولكن إذا عاش الإنسان أوضاعاً صعبة وحرجة وكانت مصالحه بيد الظالم، فلا مانع من أن يستعين به بشرط ألا يقدّم أيّة تنازلات في مواقفه الشرعية والسياسية تكون في خدمة هذا الظالم. أمّا بالنسبة إلى العملاء، فإنَّ علينا أن نقف ضدّهم ونحاصرهم ونقاطعهم، إلاّ في حالات الضرورة، تماماً كما لو اضطرّ الإنسان لأكل لحم الميتة على قاعدة {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ(1 - 2) وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة : 173].
لا يجوز للإنسان التعامل مع الظالم وإذا اضطرّ إلى ذلك، يجوز ولكن بشرط ألاّ يقدّم أيّة تنازلات شرعية أو سياسيّة.
الإنتصار للنفس
هل يجوز للمظلوم الضعيف إذا أصبح قادراً على مَنْ ظلمه أخذ حقّه بيده أم لا؟
إنَّ الله سبحانه وتعالى جعل للمظلوم الحقَّ في الاقتصاص من ظالمه {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة : 194]، ويقول سبحانه أيضاً: {وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ} [الشورى : 41] لذلك، فإنَّ مسألة انتصار الإنسان لنفسه ضدّ الظالم الذي ظلمه حقٌّ شرعيٌّ طبيعيّ وإنسانيّ.. ولكن لا بدّ من دراسة واقعية هذا الموضوع بحسب طبيعة الأمور، حتى لا يُخطئ الإنسان في ميزان الأمور عندما يريد أن يقتصَّ من ظالمه.. فللمظلوم كما قلنا الحقُّ في مواجهة الظلم، وقد يكون المظلوم شعباً أو أُمّة أو فرداً، ولكلٍّ من هذه النماذج شروطٌ معينةٌ لا بدَّ من دراستها على المستوى الفردي والاجتماعي، وما إلى ذلك.
إنَّ انتصار الإنسان لنفسه ضدّ الظالم حقٌّ شرعي طبيعيّ وإنسانيّ.
اللّغو
ما رأي سماحتكم ببعض الأحاديث والطرائف التي لا غاية منها إلاّ التسلية التي تتضمّن السخرية واللّغو، كإطلاق بعض النكات عن بعض البلدان والقرى من أهلها؟
هذا حرام، لأنّه لا فرق بأن تغتاب شخصاً، أو تغتاب أهل مدينة ومنطقة لتسيء إليهم.. وهذا يمثّل إهانة وإيذاءً للناس، ولذلك فهو لهو محرّم، يأثم صاحبه عليه، والله تعالى يقول في صفة المؤمنين: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون : 3].
إنَّ من حقِّ الإنسان أن يعطي نفسه شيئاً من التسلية، ولكن عليه ألاَّ تكون تسليته في إهانة الناس وذمّهم والإساءة إليهم.
لا يجوز للإنسان أن تكون تسليته في إهانة الناس وذمّهم.
إمام الجماعة
دخلت يوماً مسجداً ووجدت صلاة الجماعة قائمة، وكان هناك بعض الأشخاص يصلّون خلف إمام الجماعة، وآخرون منفردون بصلاتهم.. السؤال: هل يجب السؤال عن عدالة إمام الجماعة، أم يكفي صلاة بعض الأشخاص خلفه ليشكّل ذلك اطمئناناً لنا؟
إذا كان هؤلاء الذين يصلّون خلفه ممّن تثق بهم، بحيث تكون صلاتهم خلفه شهادة له بالعدالة، فلا مانع من ذلك، وأمّا إذا كنت لا تثق بهم، فلا تجوز الصلاة خلفه.. ولكن عليك ألاّ تنفرد كما يفعل بعض الناس، لأنَّ صلاة الذين ينفردون في المسجد بالمستوى الذي يوحي بأنّهم لا يثقون بإمام المسجد يمثّل هتكاً للمؤمن، وبذلك تكون صلاتهم باطلة، لأنّها صلاة مبغوضة عند الله بفتوى جميع العلماء.. لذلك، عندما يدخل الإنسان إلى المسجد ولم تحصل له الثقة بإمام المسجد، يستطيع أن يصلّي صلاة متابعة، يقرأ لنفسه، أو يخرج من المسجد بالطريقة التي لا يُفهم فيها أنّ خروجه ناشئٌ من عدم الوثاقة بهذا الإنسان.
الإحسان والطاعة
ما حدود طاعة الوالدين؟
ليس معنى أن يَبُرَّ الإنسان والديه أن يطيعهما في كلِّ شيء، ولكن أن يُحسنَ إليهما {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء : 24]، {إِمَا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً} [الإسراء : 23] وليس المراد طاعة الوالدين بل المراد الإحسان إليهما، الإحسان بالصحبة، بالكلمات المؤدَّبة، بالرعاية وبالإنفاق عليهما وما شابه ذلك.. أمّا إذا أراد الوالدان من الولد أمراً يتعلّق بمصالحه، كما لو أرادا أن يتزوّج فلانةً من الفتيات، أو أرادا أن تتزوّج فلاناً من الرجال، وهو أو هي لا يريان مصلحة في هذا الزواج، هنا لا تجب طاعة الوالدين، ولو فرضنا أنَّ الأبوين يريدان أن يطلِّق الرجل زوجته، فليس واجباً أن يطيعهما في ذلك، لأنّه لا يرى مصلحة في الطلاق، كذلك، إذا كان الأب يحبّ للوالد أن يتخصَّص في الأدب، ولكنَّ الولد يميل إلى دراسة الهندسة، فلا يجب أن يطيعه في ذلك.
فالمطلوب إذاً، الإحسان للوالدين وليس الإطاعة، وعقوق الوالدين يتمثّل في عدم الإحسان إليهما.
وإنَّنا نرى في بعض الأحيان، أنَّ بعض الآباء والأمّهات يتأذّون من الولد إذا ما اعتاد المسجد، أو حَرِص على الاستماع للمحاضرات الدينية، أو المشاركة في الأعمال الإسلامية الثقافية والاجتماعية وما شابه، فليتأذّوا من ذلك إذا كان في الأمر رضى الله وطاعتُه.
وأمّا بخصوص الحديث الذي يفيد بأنَّ الوالدين إذا أمرا الولد أن يخرج من أهله وماله، فليفعل، فهذا واردٌ على سبيل المبالغة، أي ليكن لديه الاستعداد الكبير في الإحسان لوالديه.. وهذا الأمر ليس فتوايَ فحسب، بل فتوى السيّد الخوئي (قدّس سرّه)(1) حيث كان يرى أنَّ الواجب هو الإحسان وليس الطاعة.
المطلوب هو الإحسان للوالدين وليس الإطاعة، وعقوق الوالدين يتمثّل في عدم الإحسان إليهما.
تنظيم النسل
ورد في الحديث أنّ "قلّة العيال أحد اليسارين" هل هي دعوةٌ لتحديد النسل؟ وما رأي الإسلام في تحديد النسل؟
إنّها ليست دعوة لتحديد النسل، ولكنّها حديثٌ عن واقع، وهو أنَّ قلّة عيال الإنسان تقلّل من مسؤولياته في الإنفاق المالي، بمعنى أنَّ مدخوله سوف يحقّق له كفاية ورخاءً، بينما كثرة العيال، قد تُثقل على الإنسان، فيعيش بعض الصعوبات المالية.. أمّا موقف الإسلام من تحديد النسل وفي الخطوط الشرعية، فإنَّه لا يحرّم تنظيم النسل، حيث يمكن للزوجين أن يتَّفقا على الاكتفاء بعدد معيّن من الأولاد، وذلك باستخدام موانع الحمل المشروعة، حيث لا يجوز التعقيم الكلّي الدائم لكلٍّ من الزوج والزوجة، كما لا يجوز الإجهاض. وعلى هذا، فلا مانع من استخدام الوسائل التي لا تستلزم محرَّمات شرعيّة في عملية تنظيم النسل.
ولكنَّ القرآن الكريم أراد للإنسان ألاَّ يكون منطلقاً في تحديد النسل من الخوف من قلّة وشحّ الرزق، فيقول الله سبحانه وتعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ(1) نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم} [الإسراء : 31] فكأنَّ الله تعالى يقول، بأنَّه سبحانه قد تكفَّل برزقك ورزق أولادك، فلا تكن قليلَ الثقة بالله، بل لتكن تلك الثقة الكبرى به سبحانه. وقد ورد في الحديث بأنَّ المؤمن لا يكون مؤمناً "حتّى يكون بما في يد الله أوثقَ منه بما في يده"(2) فإذاً، يجب ألاّ يكون منطلقك في تنظيم النسل نابعاً من عدم الثقة بالله، ولا مانع من أن تدير أمورك وتتدبّرها بطريقة أو بأخرى مع ثقتك بالله، وبأنَّه تعالى قادرٌ أن يكفيك {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر : 36].
إنَّ الله تكفّل برزقك ورزق أولادك، فلا تكن قليل الثقة بالله.
التضييق على العيال
زوجي غنيّ ومتديِّن، والبيت الذي نسكن صار ضيِّقاً علينا بسبب ازدياد عدد أفراد العائلة، أُحاول مراراً أن أقنعه بشراء بيتٍ واسع، ولكنّه يرفض بحجّة أنّه يأثم بذلك لأنّنا نملك بيتاً. الأولاد أصبحوا بالغين، وهذا ما يشكِّل لي إحراجات كثيرة. السؤال: هل هو آثمٌ إذا اشترى بيتاً جديداً، وما تقولون في بلوغ الأولاد الذي صار يشكِّل لي حرجاً من ناحية المساكنة؟
إنَّ الله تعالى يقول: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق : 7] إنّنا نقول لهذا الزوج ما دام الله قد وسَّع عليك في رزقك، فوسّعْ على عيالك، ولا سيّما في الأوضاع التي تعيشها العائلة. فالأولاد قد بلغوا ويحتاجون إلى غرف مستقلّة عن الأب والأم، ولا يجوز أن يناموا مع أبيهم وأُمّهم في غرفة واحدة وخصوصاً في الحالات التي يسكن فيها الزوج إلى زوجته. فإنَّ توسعتك على عيالك يُعتبر صدقة منك عليهم، بينما تضييقك عليهم قد يكون هو الإثم بعينه أو ما يقارب الإثم. وقد ورد عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): "خيركم خيركم لأهله وأنا خيرُكم لأهلي"(1).
إنَّ توسعتك على عيالك يُعتبر صدقة بينما التضييق عليهم قد يكون الإثم بعينه.
غيرةٌ غير طبيعيّة
زوجٌ يغار من أطفاله إلى حدِّ الكره وهو يسافر دائماً، وعندما يحضر يُبرز كلّ حقده وتسلّطه على أطفاله، وهو غير مسؤولٌ عمّا يحتاجون إليه من تعليم وطبابة وشؤون أخرى.. يمنع زوجته من تسخين الماء لحاجة أطفاله للغسل والنظافة.. يتَّهم زوجته بإهمالها لنفسها بسبب اهتمامها بالأطفال، وعندما تحضّر له الأجواء التي يريدها، ينعت زوجته بصفات بذيئة لا تليق بإنسان ملتزم دينياً.. ما رأيكم بهذا النوع من الرجال؟
هذا إنسانٌ مريض ويحتاج إلى مداواة، لأنَّ الإنسان المتديّن يحرص على رعاية أطفاله، ويشعر بالفرح الكبير عندما يرى أطفاله فرحين، ويشعر بالحزن عندما يراهم في حالة حزن أو ألمٍ أو مرض، ويحاول أن يبذل لهم كلَّ حياته. ومن الطبيعيّ أنَّ الإنسان الذي يعيش مثل هذا الجوّ هو إنسانٌ منحرفٌ نفسيّاً وإيمانيّاً، لأنَّ المؤمن لا يمكن أن يفكّر بهذه الطريقة. بل عليه أن يشكر زوجته على اهتمامها بأطفالها لأنّها تقوم عنه بتحمّل المسؤولية التي هي ليست من مسؤوليّاتها، لأنَّ ذلك من مسؤوليّاته هو. ولذا، فإنَّ عليه أن يكون إنساناً متوازناً، ويعمل على أن يعالج نفسه.. وإذا كان يغار من أطفاله بأنّهم يُشغلون زوجته عمّا يريده منها، فإنَّ عليه أن يوظّف لهم مربِّية أو خادمة تقوم بتربيتهم وخدمتهم لتتفرَّغ زوجته له.
الإنسان المتديِّن يحرص على رعاية أطفاله فيفرح لفرحهم ويحزن لحزنهم.
الوسوسة
أنا فتاةٌ في العشرين من عمري، تنتابني أثناء الصلاة وساوسُ رهيبة، تدفعني لأن أقطع الصلاة لأكثر من مرّة، ثمّ إعادتها لمرّات، وأقضي وقتاً طويلاً في البكاء على ما أنا فيه، لأنَّ هذه الوساوس تدفعني لأفكار غريبة عن وجود الله تعالى والأنبياء (عليهم الصلاة والسلام) والأئمّة (عليهم السلام)، أرجو مساعدتي في حلِّ مشكلتي لأنّني أخشى من أن أفقد إيماني.
الحلّ الواعي هو أن تهملي ذلك، أكملي صلاتك، وإذا هجمت هذه الأفكار قولي أثناء الصلاة: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" لا تعتني بما يراودك من وساوس.. أنتِ مؤمنةٌ بلا شك، لأنَّ هذه الحالة النفسيّة التي تنتابك عند مجيء هذه الوساوس تدلّ على أنّك مخلصةٌ لله تعالى وللأنبياء وللأئمّة (عليهم الصلاة والسلام)، واجهي الشيطان بقول الله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ*مَلِكِ النَّاسِ*إِلَهِ النَّاسِ*مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ*الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ*مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ} [الناس: 1 ـــ 6] عليكِ أن تهملي كلّ هذه الوساوس وتكملي فرضَ صلاتك، وسيتقبَّل الله صلاك إنْ شاء الله بأفضل ما يكون.
إطّلاع الأهل على أسرار أبنائهم
هل يحقّ للأهل الإطّلاع على الرسائل التي تَرِد لأولادهم، عاطفية كانت هذه الرسائل أو سياسيّة أو ما شاكَلَ ذلك؟
الولد يملك شخصيّة مستقلّة، وعندما يكون الولد ولدَكَ، فليس معنى ذلك أنّه قطعةٌ حيّة من أثاث البيت تتصرَّف بها كما تشاء. الولد له سرّه كما لكَ سرُّك، وله خصوصيّاته كما لك خصوصيّاتك، فهو شخصية قانونية مستقلّة، لا يجوز للأب أن يتصرّف فيما يستقلُّ الولد به.. نعم، هناك بعض الحالات التي يعرف فيها الأب أنَّ الولد يتحرّك في طريق ربّما يُسقط حياته، ويعرّضه إلى السجن أو الهلاك، في هذه الحالة يجوز للأب أن يطّلع على رسائله وأسراره بقدر الضرورة.
المشكلة أنَّ الآباء لا يتصوّرون أنفسهم أو يتذكّرونها عندما كانوا أبناء، تصوّر نفسك عندما كنت في أوّل شبابك، وعندك مراسلات عاطفية أو سياسيّة، ويأتي أبوك ليفتح رسائلك هل تقبل بذلك؟ على الأب عندما يُرزق بالولد أن يتذكّر كيف كان ولداً، وكيف كان يفكّر، وكيف كانت مشاعره وأحاسيسه، كذلك، على الأم أن تفكّر كيف كانت إبنة قبل أن تكون أُمّاً.. لكنّ البعض يستغرقون في أبوّتهم وأمومتهم وينسون تاريخهم، كما يستغرق الكثيرون من القياديّين في تعاملهم مع قاعدتهم، وينسون أنفسهم عندما كانوا جزءاً من القاعدة، دائماً، أنظر بوعي ومسؤولية عندما تريد أن تتعامل مع الناس الذين يكونون من مسؤوليّتك.. وعامل الناس بما تحبّ أن يعاملوك.
بعض الناس يستغرقون في أبوّتهم وأمومتهم وينسون تاريخهم، كما يستغرق الكثيرون من القياديّين في تعاملهم مع قاعدتهم، وينسون أنفسهم عندما كانوا جزءاً من القاعدة.
الزواج والميل القلبي
"إذا جاءكم مَنْ ترضون دينه وخُلُقَه فزوّجوه" نلاحظ أنَّ في هذا الحديث تجاهلاً تامّاً للميل القلبي من قِبَل الفتاة للشاب المتقدّم للزواج منها.. فإذا رفضت الفتاة مَنْ تتوفّر فيه شروط الحديث لأنّ قلبها لم يرتح له، هل في رفضها معصيةٌ لشريعة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، مع قناعتها بأنَّ المحبّة بين الزوجين لن تأتي بعد الزواج، أم أنّ شروط الحديث ضروريةٌ ولكن غير كافية، وهذا ما يتعارض مع صيغة الأمر التي تحدّث بها الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، "فزوِّجوه".
الظاهر أنَّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ليس في مقام إصدار الأمر بالوجوب، بل يريد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن يوجّه الناس بألاّ ينظروا إلى المال كعنصر أساسي في موضوع الزواج، لأنّ الحياة الزوجيّة تختزن حياة اجتماعية بين شخصين لا بدَّ فيها من الانسجام.
فلو فرضنا أنّ إنساناً يملك مالاً، ولكنّه من أغبى الناس، فكيف يمكن أن يقيم مع زوجته علاقة زوجيّة حميميّة؟ يحتاج الرجل إلى عنصر الأخلاق لتمنعه أخلاقه من الإساءة إلى كرامة المرأة، ويحتاج إلى الدين ليمنعه دينه عن التعسُّف والانحراف. فالحديث في مقام تبيان قيمة الدين كعنصر أساسي في العلاقة الزوجية.
أمّا مسألة الحبّ، فلا شكّ أنّ للعاطفة دورها، لكن ما أخشاه أن تعيش الكثيرات من الفتيات الحبّ المثالي أو حبّ الغريزة، لأنَّ مسألة الحبّمسألة مطّاطة تنطلق أحياناً من حالات عاطفية سطحيّة، لا من خلال عمق أساسي.. فالحبّ الحقيقي هو الحبّ الذي ينطلق من دراسة العناصر الشخصيّة الموجودة عند الإنسان والتي تتمثّل بالنتائج التي يمكن أن يؤدّي إليها احترامه للحياة الزوجية وللإنسان الآخر، وخوفه من الله.
الحبّ الحقيقي هو الذي يتمثّل بالنتائج التي تؤدّي إلى احترام الحياة الزوجية، والخوف من الله.
العزوف عن الزواج من المطلَّقة
بعض الشباب يأنفون من الزواج من المُطلَّقة حتى مع إعجابهم بها، ما هي نظرة الإسلام إلى ذلك؟
هذه عقلية بدويّة، فالنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) تزوّج مطلَّقات وأرامل، وكذلك أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) فعلوا ذلك.. الحياة الزوجية لا تُبنى على "الكنفشة" والعنفوان بل تُبنى على الواقع. وعلى الشاب أن يدرس الظروف التي أدّت إلى طلاق هذه المخطوبة أو المتزوّجة، هل الحقُّ عليها أم على الزوج؟ وربّما يكون مَنْ طلَّقها سيّئ الأخلاق، أو أنَّ طبعها لا ينسجم مع طبعه، فقد تنسجم مع طبع إنسانٍ آخر، وربّما تُخلص هذه المطلَّقة إلى زوجها الجديد أكثر ما تُخلص له إنسانةٌ أخرى. علينا ألا نحكّم غرائزنا، بل أن نحكِّم عقولنا، ولذلك، علينا أن ندرس مشاعرنا ونعقّلها.
الزواج من الأرملة
أُريد الزواج من زوجة شهيد، وأهلي يعارضون ذلك، ويخشون كلام الناس الذي ينال من الشاب الذي يتزوّج أرملة، ما نصيحتكم في هذا المجال؟
الجواب على ذلك أنَّ بعض زوجات النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كُنَّ من الأرامل، فما الضَّيْر في ذلك، وما الوجه السلبيّ في أن يتزوّج الإنسان من أرملة أو مطلّقة؟ إنَّ الذين يُشكِلون على ذلك ينطلقون من عقليّة متخلِّفة، وعلينا أن نحرّر عقولنا من هذا التخلّف. فقضيّة الزواج ليست في أن تكون المرأة أرملة أو مطلَّقة أو عذراء، المرأة إنسانٌ يمكن أن يجد فيها الإنسان الآخر كلَّ الصفات الطيّبة، ويعيش معها كزوج الحياة الكريمة، حيث تُعينه على دينه وحياته وتحفظه في نفسه وماله وعرضه، وعندما سُئِل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن الزوجة إذا أراد الرجل أن يتزوّجها، فلم ينصح السائل أن يتزوّج من صاحبة المال والجمال، أو أن تكون عذراء أو أرملة أو مطلّقة، بل قال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): "عليك بذات الدِّين"(1) وعلى هذا، فللإنسان أن يختار صاحبة الدين، عذراء كانت أم أرملة أم مطلَّقة. وربّما يُثاب الإنسان على بعض الزيجات عندما تتحقَّق بعض المصالح على مستوى هذه الإنسانة، أو على مستويات أخرى.
المرأة إنسان يمكن أن يجد فيها الإنسان الآخر كلّ الصفات الطيّبة.
الحجار ورفض الآباء
فتاة تريد أن تتحجَّب ووالدها يقوم بمنعها، حتى أنَّه يمزّق لها الحجاب ويقوم بضربها عندما يراها تصلّي، ما رأي سماحتكم بهذه النوعية من الآباء؟
هؤلاء الآباء من الذين يصدّون عن سبيل الله ويبغونها عِوَجاً، هؤلاء يُرَّدون أنفسهم وأهليهم في نار جهنَّم، هؤلاء متخلّفون حتى في ميزان العصر، لأنَّ العصر في المنطق الحضاري يفرض على الإنسان ألاّ يجبر الآخرين على الإلتزام بأمر لا يريدونه، ولا سيّما على أولاده الذين ينبغي أن يمنحهم حريّتهم في القضايا التي لا تسيء إلى واقعهم النفسي والأخلاقي والأُسري، وأن يقدّم لهم النصح فيما يعتقده خطأ، لا أن يتعسَّف ليضرب ابنته إذا تحجَّبت ويمزّق لها ثيابها وحجابها.. هذا أقصى أنواع الوحشية البعيدة عن الروح الإنسانيّة الحضاريّة.
تأديب الولد
ما هي كيفية التأديب للولد بعدما يبلغ السنوات السبع من عمره، وهل الضرب ضرورة إذا اقتضى ذلك في حال عناده أم عدم امتثاله طاعة والديه؟
التأديب هو التربية، أن تروّض الطفل وتعلّمه وتغرس فيه الوعي حسب مستوى عقله، فموضوع الضرب ليس وارداً في التأديب، وهو تماماً كالعملية الجراحية التي لا نلجأ إليها إلاّ بعد استنفاد كافّة الوسائل.. فالضرب قد يُفسد الولد، وهو قد يرتدع الآن، ولكنّه سيتمرَّد يوماً، خصوصاً إذا عاش في نفسه بسبب الضرب إحساساً بالقهر والإذلال، لا سيّما إذا ضُرِب أمام إخوته أو أمام ولد آخر، فإنّه سيشعر أنَّ كرامته أُهينت. الطفل له كرامة، كما الكبير تماماً، الكبير يعبّر ويتمرّد، أمّا الصغير فلا. لذلك، مشكلة بعض الآباء والأمّهات والمعلّمين في المدارس أنّهم لا يصبرون على الأولاد، لذلك تأتي النتائج على المستوى التربوي سلبية ولا تحمل أيّة إيجابيات.
فأنتَ تعالج إنساناً، عقله متحرّك، وطبعه متحرّك، فيجب أن تصبر عليه حتى تصل إلى النتائج. نعم، إذا وصلت النتيجة إلى مستوى أنَّه إذا لم يُضرب الطفل، فإنَّ أخلاقه ستُدمّر وكذلك حياته، يجوز عندها الضرب، على أن يكون ضرباً تأديبياً غير مبرّح. وهنا نشير بأنّه ينبغي ألاّ نضرب الطفل إذا كانت الأعصاب متوتّرة، والنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) نهى عن الأدب وقت الغضب. ولذلك عندما تريد أن تؤدّب تلميذك أو ابنك، ينبغي أن تكون هادئ الأعصاب حتى تدرك مواقع الضربة، فلا تؤذيه، وبالتالي فلا تحقّره.
عندما تريد أن تؤدِّب تلميذك أو ابنك ينبغي أن تكون هادئ الأعصاب، فلا تؤذيه، وبالتالي فلا تحقّره.
جرأة الولد على والده
إبنتي بلغت الثامنة من عمرها وتعيش عقدة تنفيذ رأيها حتى ولو كان مخالِفاً لمصلحتها، ما رأيكم بذلك، هل أتركها أم أنهاها؟ وعلى أساس ذلك ما تفسير الحديث الوارد عن الإمام العسكري (عليه السلام): "جرأة الولد على والده في صغره تدعوه إلى العقوق في كبره"؟
أمّا مسألة أن تتركها أو تنهاها ليست هذه القضية، القضية، وكما يجب على كلّ أب، أن يدرس ذهنية ولده أو ابنته، لماذا تعيش هذه الصلابة في رأيها، وهي لا تزال في دور النموّ الأوّل؟ وما هي المؤثِّرات التي أوجدت هذه القضية لدى ابنته ليبدأ معالجتها برفق وبتؤدة حتى يمكن له من خلال ذلك أن يسيطر على هذه النقطة بحكمة وواقعية.. أمّا جرأة الولد على الوالد في صغره تدعوه إلى العقوق في كره، فإنَّ ذلك صحيح إذا كانت هذه الجرأة متعسّفة، وإذا تُرِكت تكبر وتتفاعل، فإنَّها تدفع الولد في المستقبل إلى ألاّ يعيش الرحمة مع والده، وبذلك تكون هناك حالة عقوق، ومن هنا، لا بدَّ من متابعة تربية الولد ومحاولة إصلاحه، تماماً كأيّ مرض جسدي يصيب الولد في طفولته، فإذا لم يُعالج في حينه، فإنّه يشكّل خطورة على حياته عندما يكبر.. لا بدَّ من دراسة الموضوع بحكمة ودراية ومعالجته بالتي هي أحسن.
عقوق الولد كأيّ مرضٍ جسديّ، فإذا لم يُعالج في حينه، فإنّه يشكِّل خطورةً على حياته.
الزواج والعدل
الزواج من أربع نساء هل فيه عدل، وهي يرفع مستوى الإنسانية؟
المنكر هو ما يخفّض مستوى الإنسانية، أمّا مسألة الزواج في هذا المقام فقد نلاحظ أنّ هناك نقطة واقعية، وهي أنّ التعدُّد يمثّل وضعاً قريباً إلى حركة الغريزة في الرجل، فنحن نعرف أنَّ جانب الإثارة والحاجة عنده قد يكون أكثر سرعة، بينما عند المرأة قد يكون أكثر بطأً، وهذا ممّا يجعل الأصل في كلّ تاريخ المرأة، بينما الأصل في الرجل، التعدُّد، وهذا أمرٌ عاشه العالم بالطريقة الشرعية وغير الشرعية، والمسألة ليست مسألة التعدُّد أو التوحُّد ولكنّ المسألة، هي هل أنَّك تعدل أم لا؟
نحن نؤكّد على مسألة العدل في الحقوق الزوجية، أمّا مسألة أن تعدل في عاطفتك، فإنَّ عاطفتك ليست ملكك، لأنَّك لا تستطيع أن تخضعها للخطوط الهندسية، باعتبار أنّها أمرٌ قد يفرض نفسه عليك ولا تختاره.
عاطفتك ليست ملكك، لأنَّك لا تستطيع أن تخضعها للخطوط الهندسيّة.
حدود التعامل بين الأشقّاء
ما هي الحدود التي يحدِّدها الشرع في التعامل بين الشقيق وشقيقته، وكيف تنظرون لشقيق يعادي شقيقته في المنزل من دون أسباب وجيهة؟
إنَّ الله تعالى يريد للرحم أن تتواصل، ويريد للشقيق ألاَّ يتعسَّف بفعل ذكوريّته في معاملة شقيقته من خلال منطق القوّة والضعف، لأنّه لا ولاية له من قريب أو بعيد، لا ولاية له شرعية أو إنسانية أو اجتماعية على شقيقته، فهي حرّةٌ فيما تفعل في نطاق الخطّ الإسلاميّ، كما هو حرٌّ فيما يفعله في نطاق الخطّ الإسلاميّ.
غير عذارء
شابٌ متديِّن تزوّج بفتاة هي متديِّنة الآن، وبعد الزواج اكتشف بأنّها غير عذراء، هل يستمرّ مع هذه الزوجة أم يتركها في حال سبيلها؟
إنّ على الإنسان أن يعيش إنسانيّته في هذا المجال، فإذا رأى أنَّ هذه الفتاة ملتزمة وصادقة في إخلاصها له، ورأى أنّه لن يعذّبها في المستقبل بتذكيرها بماضيها، بحيث يحوِّل حياتها إلى جحيم من خلال ذلك، إذا رأى نفسه قادراً نفسيّاً وعملياً على الحياة معها وعلى الثقة بها، عليه أن يتقرَّب إلى الله تعالى بأن يستر عليها ويتابع حياته معها.. أمّا إذا كان لا يستطيع أن يملك الثقة بها، وإذا كان يشعر بأنَّ تاريخها الماضي سيظلّ مسيطراً عليه، ليوجد له ولها المشاكل الدائمة، عليه أن يجنِّب نفسه ويجنّبها هذه التجربة الصعبة علَّها تجد إنساناً يستطيع أن تعيش معه من دون مشكلة، وعلَّه يستطيع أن يعيش مع إنسانة أخرى.. عليه أن يدرس مشاعره بدقّة، حتى يستطيع أن يركِّز موقفه.
الظنّ السيّئ
أخت عقدت قرانها على شاب متديّن، وكانت قد تعرّفت سابقاً على أحد الشباب الذي كان يوصلها إلى عملها يومياً، وقد علم خطيبها من السائق لاحقاً أنّه كان يوصلها إلى عملها، فقامت قيامته، وتزلزلت العلاقة بينهما، وصار يظنّ بها الظنّ السيّئ، ويريد الآن أن يطلِّقها ويضغط عليها حتى تسامحه بالمهر، ما تقولون في ذلك؟
إنَّ عليه أن يقرأ القرآن {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات : 12] {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء : 36] وأمّا ضغطه عليها من أجل أن تتنازل له عن مهرها، فهذا محرَّم شرعاً، وإنّ أيَّة مسامحة تنطلق من خلال الضغط لا قيمة لها، ويبقى المهر في ذمَّته.. إذا كان الشاب مؤمناً، فعليه أن يكون مؤمناً في علاقته مع زوجته التي لا يجوز له أن يظنَّ بها الظنَّ السيِّء، ولا يجوز له أن يضغط عليها لتبذل له مهرها في مقابل طلاقه لها.
التمرّد على المشاكل
أختٌ تعاني من مشاكل عائليّة قاسية تُؤثّر على دراستها ووضعها النفسي، مع العلم أنّ المشاكل في البيت تحدث بسببها كونها ابنة غير شرعية، وليس هذا ذنبها، ما هي نصيحتكم؟
نصيحتي لها أن تتمرَّد على هذه المشاكل، وأن تتمرّد حتى على المشكلة الصعبة التي تعيشها، وعليها أن تثقف بنفسها وتركّز إرادتها، وتتحمّل الآلام لتثبت لمن حولها بأنّها قادرةٌ على أن تصنع من الضعف قوّة "ما ضَعُفَ بَدَنٌ عمّا قويت عليه نيّة"(1) كما جاء في الحديث الشريف. فعندما تكون لدى الإنسان إرادة، فإنّ البدن يمكن أن يضاعف قوّته لينسجم مع هذه الإرادة. مشكلتنا دائماً هي ضعف الإرادة، وضعف النيّة، وهو الذي يجعل الجسم يضعف وتتضاءل قوّته. ونقول لهذه الأخت: ادرسي جيّداً وثقي بالله وركِّزي إرادتك، واعتبري أنَّ المشاكل زاد الحياة، وأنّ الإنسان كلّما كثرت مشاكله أكثر، كلّما تصلَّب وعاش التجربة بوعي أكثر. الحياة من دون مشاكل، كالطعام من دون ملح، فالمعاناة تصنع الإنسان.
لذلك، لا تتساقطوا أمام ما تعانون، ولكن حاولوا أن تثبتوا، لأنّ ثبات الإنسان مع تحمُّله للكثير من الحرمان، يجعله يحقّق الكثير في حياته من خلال ثباته.
المشاكل زاد الحياة، وكلّما كثرت مشاكل الإنسان أكثر كلَّما تصلَّب وعاش التجربة بوعي أكثر، فالمعاناة تصنع الإنسان.
خرافة
أختي عمرها 33 سنة وكانت لا تشكو من أيِّ شيء.. مرَّت ذات يوم من جانب المقبرة، فاعترتها حالة دفعتها لأن تضرب مَنْ حولها وترفع صوتها على الدوام، وتخرج من البيت حتى في منتصف اللّيل. وقد قيل لنا بأنَّ الجن "لمسها" فأخذناها عند "المشايخ" ـــ الذين يضربون المندل ويكتبون الأحراز وما شاكل ـــ ولكنّها ترفض أيّ علاج يصفه هؤلاء المشايخ.. نرجو من سماحتكم أن توضِّحوا لنا الحلّ.
لا تعرضوا هذه المرأة على هؤلاء لأنّهم لا يملكون معرفة دواء وعلاج هذه الفتاة، ولكن اعرضوها على الأطباء، سواء كانوا أطبّاء نفسيين، إذا كانت حالتها نفسية، أو أطباء صحّة، إذا كانت مشكلتها صحيّة.
وينبغي أن تُفهم هذه الصدمة التي أدّت إلى هذا الاختلال في التوازن. أمّا قضية أنّ الجنّ لمسها.. فمن الذي رأى الجنّ يدخل عليها، وما الدليل على ذلك؟ هذا كلام خرافة.
استخدام الجنّ
ما هي نظرة الإسلام لبعض الرجال والنساء الذين يدّعون العلم والمعرفة ولكنّهم يعملون على بعض الأساليب في استخدام الجنّ من أجل تطويع النساء والرجال، وما مدى خطورة هذه الذهنيّة على واقعنا؟
مشكلة بعض الناس أنّهم يملأون عقولهم معلوماتٍ ونظريات، ولكنَّ شخصيّاتهم تبقى في حجم الخرافة، فهم متقدّمون علمياً ومتخلّفون إنسانياً، والعلم عندما لا يدخل إلى إحساسك وشعورك ويحرّك كلَّ قلبك وعقلك وسلوكك، فإنّ هذا العلم يمثّل مجرّد مكتبة جامدة تضعها في غرفتك أو داخل فكرك، مجرّد مكتبة تصفّ فيها الكتب ولا علاقة لإنسانيّتك بها. فبعض الناس يضعون في عقولهم مكتبة، ولكنّهم لا يُدخلون ما في المكتبة إلى إنسانيّتهم.
صحيحٌ أنّ الجنَّ حقيقةٌ قرآنية، والله تعالى يحدّثنا عن الجنّ والإنس في بعض الآيات القرآنية، ولكنَّ عالم الجنّ مفصولٌ عن عالَم الإنس، وهكذا عالم الملائكة، فهو عالم غيب، وليس عالماً حسيّاً. وقد يتحدّث بعض الناس عن استخدام الجنّ بطريقة روحية أو بألاعيب عملية، ولكنّنا لم نستطع أن نحصل من كلّ هذه الإدعاءات على تجربة حيّة، لهذا، عندما نحدّق في هؤلاء الرجال أو النساء الذين يدّعون تسخير الجنّ، فإنَّنا نجد الواحد منهم عندما يمرض يذهب إلى الطبيب، وينادي بالولي والثبور وعظائم الأمور لأنّ مشكلته الصحيّة قد سيطرت عليه.
ونحن نعرف أنّ الجنّ ليسوا قادرين على الشفاء أو معرفة الغيب، أو أنّهم يعلمون كلَّ شيء، وقد حدّثنا الله تعالى عن سليمان أنَّ الجنّ كانوا {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَارِيبَ(1) وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ(2) كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ(3)} [سبأ : 13] ولكن عندما مات سليمان (عليه السلام) {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ(4) تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ(5) فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} [سبأ : 14] فالقرآن الكريم لا يعطي الجنَّ هذه القدرة الفائقة التي نتصورّها نحن.
فهؤلاء الذين يدّعون تسخيرهم للجنّ وضرب المندل، يبيعون الرجال والنساء أحلاماً واهمة، وكثيرٌ من الناس يعيشون الاستغراق في الوهم والخيال ويصدّقون مَن يضحك على عقولهم. لذلك نقول: احترموا عقولكم، ولا تجعلوا بعض الناس يعيشون على غبائكم.. وإذا ما ابتلينا بمشكلة، فلنفكّر كيف نحلّ المشكلة في الواقع، ولا نلجأ إلى هؤلاء لحلّها، لأنَّ هؤلاء أنفسهم يلجأون إلى مَن يحلّ لهم مشاكلهم.
هؤلاء الذين يدَّعون تسخيرهم للجنّ وضرب المندل، يبيعون الرجال والنساء أحلاماً واهمة.
الشعوذة
رجلٌ يمارس كتابة الأحراز، ويدّعي بأنّه يشفي النساء من أمراضهنّ، فتتوافد عليه بعض النسوة بقصد العلاج، فيمارس حالاتٍ من الشعوذة، ويدفعه ذلك أحياناً لأن يلمس أجسادهنَّ ويضع يده على المناطق الحسّاسة، وعندما يُطالب بذلك، فإنَّه يزعم بأنّ لديه إذناً شرعياً بذلك، ما حكم العمل الذي يقوم به، وهل يجوز لهؤلاء النسوة التداوي عنده.
هذا شيطانٌ في صورة إنسان، وهو يستغلّ سذاجة النساء وبساطتهنَّ، من أجل أن يبتزَّهنَّ مالياً وشهوانياً وجسدياً بحجّة الطبابة وما إلى ذلك.. إنّنا نقول للناس: حاربوا هؤلاء المشعوذين، وبإمكان كلِّ واحدً منكم أن يفتح أيَّ كتاب دعاء ويكتب الحرز ويحمله، وحرز الأحراز هو القرآن، ففيه آياتُ الله وأسماؤُه وكلّ ما يحمي الإنسان ببركة الله تعالى، وحاربوا هؤلاء الذين يستغلُّونكم باسم الدين، والذين يبتزّون النساء في أجسادهن بعنوان أنّهم يريدون إخراج الجنّ منهنَّ.. وتلبّس الجنّ للنّاس في خرافةٌ من الخرافات، ليس لها أيُّ أساس شرعي أو إنساني، لذلك، احذروهم وحاربوا واحترموا عقولكم، حتى لا تسقطوا تحت تأثير هؤلاء الذين يضربون لكم "المندل" أو يحاولون معرفة الغيب، ويعملون على القيام بكتابة كتاب المحبّة والبغض وما إلى ذلك..
(صلّى الله عليه وآله وسلّم)
نحن مع طرح "حضارة الحبّ" ولكن ليس حبّ الجنس، لأنَّ هذا الحبّ ليس حبّاً، بل هو شهوة ونزوة، ولكن حضارة الحب، هي حبّ الإنسان للإنسان.
قرآنيّات
هدى ونورٌ
فاتحة الكتاب
لماذا اختيرت فاتحة الكتاب عن سائر السور لكي تُقرأ في كلِّ صلاة؟
عندما ندرس فاتحة الكتاب، فإنَّنا قد نجد فيها اختصار كلّ ما في القرآن بعناوين معيّنة، فهي تتحدَّث
(1) في مقابلة لمندوب مجلّة (القدس) في دمشق مع سماحته في أيار 1998م يقول (دام ظلّه): "أنا أدعو للإسلام الحركي، لأنّ الإسلام الحركي هو الذي يدفع بكلّ طاقات الإنسان المسلم إلى التحرّك من أجل إنتاج واقع إسلامي إنساني جديد، يمكن له أن يفتح أكثر من أُفق للطاقات المبدعة الموجودة في داخل الإنسان، لينطلق الإنسان المسلم في عملية صنع الحياة إلى جانب الجماعات الأخرى في العالم، بحيث يكون دوره دوراً فاعلاً، مؤثّراً أصيلاً، لا دوراً اتّباعياً هامشياً.. هذه هي مسألة الحركة الإسلامية، وهي تعني ألاّ يعيش الإنسان المسلم في داخل القمقم الذي حبسته فيه مراحل التخلّف والجهل".
(1) الحركة الإسلامية.. هموم وقضايا ـ دار الملاك، الطبعة الأولى 1990 م ـ 1411 هـ.
2) 3 ( يألونكم: يقصرون ويفترون، خبالاً: شراً وفساداً.
(4) ولم يكتفِ الرسول بعد استقراره في يثرب بتوثيق عرى التعاون والأخوّة بين الأوس والخزرج وبينهم وبين المهاجرين إليها معه من المسلمين والمؤمنين، بل بذل جهداً كبيراً لتحقيق الوحدة بين جميع سكان يثرب المسلمين والمشركين وأهل الكتاب من اليهود كبني قينقاع وبين النضير وقريظة المقيمين على مقربة منها (يثرب) مخافة أن تثور بينهم البغضاء والعصبيّات وتعصف بهم الأحقاد، فيصبح حينذاك بين خطرين، خطر التفكُّك والخصومات المحليّة وخطر قريش التي ارتحل عنها هو وأصحابه المؤمنون برسالته (سيرة المصطفى "نظرة جديدة" السيد هاشم معروف الحسني)، ص: 273 ـ 274، دار التعارف ـ بيروت 1406 هـ ـ 1986 م.
(1) نهاية عام 1991 م.
(1) "إنّ الزيارات المكثّفة بين إسرائيل وتركيا (وكانت هذه الزيارات قد بدأت قبل وصول الإسلاميين إلى الحكم) مهّدت الطريق لعقد الاتفاق الأمني بينهما في شباط 1996 م، والذي تقوم بمقتضاه إسرائيل بتحديث وتطوير الطائرة المقاتلة التركية من طراز (فانتوم أف 4)، كما تسمح بنود هذا الاتفاق للطائرات الحربية الإسرائيلية بالقيام بطلعات تدريبيّة في سماء تركيا لمدة أسبوع 4 مرات سنوياً، واستقبال السفن الحربية لكلّ من البلدين في موانئ البلد الآخر وإنشاء منتدى أمني للحوار الاستراتيجي بين البلدين يمتدّ نشاطه ليشمل مجالات تتعلّق بأنشطة الاستخبارات وإقامة أجهزة تنصّت في تركيا لرصد أيّ تحرّكات في سوريا وإيران وجمع المعلومات عنهما. وتقدّم إسرائيل للقيادة التركية صوراً للأقمار الاصطناعية التجسسيّة لتكون في تصرّف الجيش التركي في مواجهة الأكراد جنوب شرق الأناضول وشمال العراق. ويتردّد أنّ سلطات أنقره منحت إسرائيل جزءاً من قاعدة "انجرليك" الجويّة التركية لتتصرّف فيها كما تشاء" (وكلّ ذلك تمّ بضغط من العسكر على رئيس الحكومة التركي نجم الدين أربكان زعيم حزب الرفاه الإسلامي): "شؤون الأوسط العدد 52 حزيران 1996".
(1) جاء في التقرير الاستراتيجي السوداني الذي نشرته "شؤون الأوسط" العدد 71 نيسان 1998. ص 161، ما يلي: "أما في ما يختصّ ببعض القضايا الاستراتيجية: ومنها مهدّدات الأمن القومي وعلاقات السودان الخارجية وأحواله الاقتصادية، فإنَّ التقرير يتناول المشاكل والتحرّشات الحدودية التي يتعرّض لها السودان، ويعتبرها من مهدّدات أمنه القومي، ويعرض لمختلف هذه الصراعات والمشاكل: احتلال مصر لمثلّث حلايب، المشاكل الحدودية مع أثيوبيا وأريتريا، المشاكل مع أوغندا، الحدود مع ليبيا، حركة التمرّد في الجنوب، وكلّها لم تجد حلولاً على الرغم من وسائل الاحتواء التقليدية لهذه الصراعات.
(1) الصادق المهدي أسقطه الإسلاميون عام 1989م، واستلم الحكم مكانه الفريق عمر البشير الذي يعمل على تحويل السودان إلى دولة إسلامية في أنظمتها وقوانينها، يعمل إلى جانبه الدكتور حسن الترابي الذي يعتبر أكبر الساعين في السودان لتحويله إلى دولة إسلاميّة.
(1) من روّاد الحركة الإسلامية في مصر في الخمسينيّات من القرن العشرين، أعدمه الرئيس المصري جمال عبد الناصر بعد انتصار ثورة تموز المصريّة، عام 1952م، له مؤلّفات إسلامية حركية، منها: (في ظلال القرآن).
(2) محمد رضا بهلوي، الذي أُسقط حكمه في عام 1979م، إثر انتصار الثورة الإسلامية في إيران.
(3) صدام التكريتي، الذي دخل حرباً ضدّ إيران من دون أي مبرّر مدعوماً من الدول الغربية وبعض دول المنطقة عام 1980م.
(1) في الورقة التي قدَّمها (بول فندلي) عضو الكونغرس الأميركي في الفترة من 1961م إلى العام 1983 إلى ندوة العلاقة بين الغرب والإسلام التي عقدت في إطار مهرجان الجنادرية الثاني عشر في السعودية شباط 1997م، يقول: "عندما أحاضر في الولايات المتحدة، أحياناً أبدأ بسؤال الأفراد الحضور، ماذا يأتي إلى العقل عندما نذكر كلمة مسلم، وفي الغالب دائماً يكون الجواب: الإرهاب. في الأحاديث العامة ترتبط كلمتا مسلم وإرهاب مع بعضهما، وهذا الارتباط زائفٌ بالطبع، ولكن برغم ذلك فإنّه يتكرّر. إنّ الحقيقة المزعجة والقاسية هي أنَّ معظم الأميركيين ينظرون إلى الإسلام بقلق، إن لم يكن بانزعاج. ويُرى المسلمون كعباد لإله غريب، ومتعصّبون ضدّ الديانات الأخرى، وشغوفون لاستعمال القوّة البدنية لنشر الإسلام" ويتابع قائلاً: "ولم يتّخذ المسلمون المَثَل من اتباع الديانات الأخرى. وذلك باستعمال الإعلان التلفزيوني، ووسائل الاتصال الجماهيري الأخرى لتزويد الشعب الأميركي، بمعلومات صحيحة عن عقيدتهم، وعلى العكس من ذلك، فإنَّ اليهود الأميركيين، وعلى الرغم من أنّهم أقلّ عدداً من المسلمين الأميركيين، فإنَّهم عادة يستجيبون فوراً، وبقوّة وبفاعلية لأيّ تطوير يتولّى إلقاء ولو ظلّ بسيط على اليهودية أو إسرائيل" جريدة الشرق الأوسط اللندنية 7 آذار 1997م، واضح من ذلك حركة اليهود في تثبيت الصورة السلبية عن المسلمين في أذهان الأميركيين خصوصاً والأوروبيّين بشكلٍ عام.
(1) أيار 1997م.
(2) الشيخ ناطق نوري رئيس مجلس الشورى الإيراني.
(1) جرت الانتخابات الرئاسية في أيار 1997م، وفاز فيها السيد محمد خاتمي حيث نال حوالي 20 مليون صوت.
(1) شباط 1979م.
(1) في حوار لمجلّة العالم الصادرة في لندن مع علي حرب، شهر آب 1996م.
(1) وقعت هذه المجزرة في 8 آذار 1985م، وقد خطَّطت لها المخابرات الأميركية والموساد الصهيوني بالتعاون مع المخابرات اللبنانية آنذاك وبعض الأطراف المحلية والإقليمية، حيث استهدفت حياة سماحة السيّد فضل الله، وذلك حين توجّهت سيارة محمّلة بالمتفجرات إلى منطقة بئر العبد في ضاحية بيروت الجنوبية، ووصلت إلى حوالي 50 قدماً من منزل سماحة السيد حيث كان من المفترض أن يعود إلى منزله بعد صلاة الجمعة في الوقت عينه، ولكن شاءت القدرة الإلهية أن يتأخّر قليلاً، بعد أن استوقفته إحدى النسوة في المسجد لتطرح عليه سؤالاً شرعياً، فانفجرت السيارة وقتلت 80 شخصاً وجرحت 200 وتركت الدمار والخراب في الأبنية والمحلات والسيارات، لكن سماحة السيد لم يُصَب بأذى بحمد الله.. وقد اعترف مدير المخابرات المركزية السابق "وليم كايسي" بتخطيط المخابرات المركزية الأميركية لهذه المجزرة التي كانت تستهدف حياة سماحة السيد، وقد علّق حينها بالقول: "ما زال فضل الله هو المشكلة أكثر من أيِّ وقتٍ مضى" (الحجاب الحروب الخفيّة لوكالة المخابرات المركزية الأميركية (وود ورد) بتصرّف ص: 344 دار الحرف، دار الناهل الطبعة الأولى 1989ز.
(1) نهج البلاغة: الخطبة 136.
(2) غوستاف لوبون: "1841 ـ 1931م" طبيب وعالِم اجتماعي فرنسي دعا إلى تفسير السلوك الجماعي بالمقارنة بين نفسيّات فرديّة. من كتبه "نفسيّة الجماهير" و"علم النفس في الأزمنة الجديدة". (المنجد في اللغة والإعلام) دار المشرق ـ بيروت ـ الطبعة الحادية والعشرين عام 1973م.
(1) صادق جلال العظم من مواليد دمشق 1934، علماني الاتجاه، أستاذ الفلسفة الحديثة والمعاصرة في كليّة الآداب بدمشق، أستاذ زانر لدراسات الشرق والأدنى في جامعة برنستون في أميركا.
(1) يوم توقيع اتّفاق "غزة ـ أريحا أولاً" في واشنطن بين ياسر عرفات وكلينتون (الرئيس الأميركي) وإسحاق رابين (رئيس وزراء العدو) نظّم الإسلاميون مظاهرة استنكار سلمية في الضاحية الجنوبية من بيروت، بتاريخ 13/9/1993، قامت السلطة السياسية في لبنان بزجّ الجيش اللبناني لمنع هذه المظاهرة، وقد سقط بنتيجتها عددٌ من الشهداء من النساء والرجال (9 شهداء) وأكثر من ثلاثين جريحاً، وقد قدّم حينها وزير الداخلية بشارة مرهج استقالته من الحكومة.
(2) نهج البلاغة، الكتاب 66.
(1) تمَّ إطلاق سراح عباس مدني (زعيم جبهة الإنقاذ الإسلامية) في 18 تموز 1997.
(2) صدر الحكم بحظر حزب الرفاه التركي في 16 كانون الثاني ـ 1998م.
(1) نجم الدين أربكان زعيم حزب الرفاه التركي.
(1) بحار الأنوار، ج 70، ص 73.
(2) وصلت الحملة إلى ذروتها في عامي 1997م و1998م.
(1) أحد المثقّفين المسلمين المصريين، باحث في الشؤون الإسلامية، وأحد كتّاب مجلة "المجلّة" التي تصدر من لندن.
(1) الكاتب المصري نصر حامد أبو زيد الذي اتُّهم بالارتداد عن الإسلام وقد أصدرت محكمة مصريّة بتاريخ 13 تموز 1995م، حكماً اعتبرت أنَّ هذا الكاتب "مرتدٌ وكافر" ويجب التفريق بينه وبين زوجته.
(1) بدأت الحملة على الحجاب في فرنسا في المدارس منذ العام 1986م، ولكنّ القرارات الحكومية لم تلقِ تجاوباً حتى من كثير من الفرنسيّين أنفسهم بما فيهم زوجة الرئيس الفرنسي السابق فرنسوا ميتران. وفي ت2/ 1996 أصدر القضاء الإداري في فرنسا بإنصاف الطالبات المسلمات اللاتي منعتهنَّ المدارس الحكومية الفرنسيا بالبقاء فيها بسبب ارتداء الحجاب وإعادتهنّ إلى مدارسهنّ.
(2) مصطفى كمال أتاتورك عسكري تركي (1881م ـ 1938م) وُلِد في سلانيك. زعيم الحزب الوطني ومؤسّس تركيا العلمانية وأوّل رئيس لها عام 1923م، نقل تركيا من انتمائها الإسلامي إلى العلمانية الغربية. حارب الدين الإسلامي، واستعمل الأبجديّة اللاتينية عوض العربية في الكتابة التركية.
(3) إذا كان النظام العلماني يحظّر عليهنّ ارتداء الحجاب، فإنّ النساء المحجّبات في تركيا وَجَدْنَ طريقة "للتحايل" على القانون ارتداء الحجاب وتغطية الرأس بشعر مستعار. "وترى حكومة تركيا في الحجاب ما يهدّد علمانية الدولة. ولهذا، فإنّها استخدمت القانون لحظره في المدارس والمكاتب الحكومية. واستنبطت المحجّبات أسلوباً جديداً للتعامل مع الموقف، فلجأنّ إلى الشعر المستعار (الباروكة).. واستناداً إلى القانون فإنّ الغرامة التي قد تُفرض على المحجّبة في المدارس والدوائر الحكومية تصل إلى ربع مرتّبها. أمّا الرجال، فإنّ عقوبة أكثر قسوة تنتظرهم بعد المصادقة على مشروع القانون قريباً، فالسجن لعام مصيرّهم إذا ما اعتمروا عمامة إسلامية" (جريدة السفير 9 حزيران 1998م).
(1) في كانون الثاني عام 1997م، رفض الاتحاد الأوروبي انضمام تركيا إلى المجموعة الأوروبيّة تحت عنوان أنّ تركيا ليس مؤهّلة بعد للدخول في عضوية الاتحاد الأوروبي، وأنَّ أمامها فترة طويلة حتى نتمكّن من ذلك (جريدة الاتحاد الإماراتية). وفي حزيران 1998 كانت قمّة لوكسمبورغ اعترفت بـ أهلية" تركيا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي إلاّ أنّها لم تصنّفها بين الدول المرشّحة الـ 11 الأخرى.. وبعد أن أبعدت من مشروع التوسيع قطعت تركيا حوارها السياسي مع الاتحاد الأوروبي لا سيّما في ما يتعلّق بمسائل حقوق الإنسان وخلافاتها مع اليونان والمشكلة القبرصية (السفير 18 حزيران 1998).
(1) ينتمي الجيش الجمهوري الإيرلندي إلى الكاثوليكيّة ويواجه حرباً مع الجيش البريطاني (بروتستانت). وكانت آخر أعمال العنف في إيرلندا الشمالية عندما ألقيت قنبلة حارقة على منزل بتاريخ 11/7/1998م، قُتل فيها ثلاثة أطفال من عائلة واحدة تتراوح أعمارهم ما بين 9 و11 عاماً، ويُعتقد أنّ متطرّفين بروتستانت قاموا بإلقاء القنبلة احتجاجاً على تقييد السلطات الإيرلندية لمسيراتهم السنوية التي تقوم بها جماعة (اورانج) البروتستانتية وحظرها في الأحياء الكاثوليكيّة (السفير 15/7/1998م).
(1) شيخ الأزهر الشيخ سيد طنطاوي.
(2) في عام 1995م صرّح أحد الحاخامات بأنّ أيّ جنحة تُرتكب ضدّ أيّ جندي يهودي أخطر بكثير من ارتكاب نفس الجنحة ضدّ شخص غير يهودي. فهذه هي تعاليم التوراة. وفي وقت الحرب يوصي بقتل جميع مَنْ هم من غير اليهود، بما فيهم النساء والأطفال هذا هو مبدأ الحرب الشاملة، فإذا ما شعر أحد اليهود بالرأفة تجاه عدوّه على حدّ قوله، يدفع بقيّة اليهود ثمن ذلك حياتهم (مجلة فلسطين الثورة العدد ـ 681 ـ تاريخ 7/11/1996م).
(1) يقول سماحته في معنى الاجتهاد: "إنّه لا يعني الرأي الذي ينطلق من ثقافة الإنسان ومزاجه الخاص فيما يرتابه من مصالح ومفاسد للحياة، ولا يعني التشريع المستقلّ الذي يتحرّك من التجارب المحدودة التي تفرض لهذه المرحلة تشريعاً، يمكن أن نتجاوزه إلى تشريع آخر في مرحلة أخرى.. تماماً كما يفعل المشرّعون الذين يضعون القوانين في المجالس النيابية، في الدول الحاضرة القائمة على أساس أنّ التشريع للأُمّة من خلال ممثّليها.. بل إنّه يعني الرأي المستمدّ من القواعد الشرعية في فهم النصوص الدينية في الكتاب والسُنّة فيما يفهمه المجتهد منها، وفيما يستوحيه ممّا ينسجم مع أجواء النّص وإيحاءاته فلا يمكن له أن يعطي رأياً في مقابل النص، أو يضع حكماً لم يرد به نصّ، ولم تفرضه قاعدة فقهية مستمدّة من الكتاب والسُنّة.. حتى العقل الذي اعتبره بعض المجتهدين دليلاً من أدلّة الأحكام. لا بدّ له أن يتحرّك في نطاق الأفكار القطعيّة التي لا يقترب إليها الشكّ فيما يستفيده من ملاكات الأحكام، فلا مكان للحكم العقلي الظنّي في ذلك من قريب ومن بعيد.. إنّ الاجتهاد الإسلامي، هو اجتهاد في فهم الإسلام، وليس اجتهاداً ذاتياً يستمدّ أفكاره من حركة الواقع، ولا مانع من أن يتغيَّر الحكم الشرعي تَبْعاً لتغيّر الاجتهاد، ولكنّ تغيّر الاجتهاد لا يخضع للتغييرات الحاصلة من الخارج بل من خلال اكتشاف خطأ في الاجتهاد السابق، على أساس خَلَل في فهم النّص أو في تطبيقه، أو في قاعدة شرعيّة هنا، ربّما لا يكون لها مجالٌ في هذا المورد أو ذاك، لأنّ قاعدةً شرعيّة أخرى، هي الأولى في هذا الموضع أو ذاك.. وعلى ضوء ذلك، يبقى الاجتهاد متحرّكاً في نطاق حدود علميّة معيّنة تحفظه عن الانحراف، وتصونه عن الزلَل، وتحرّكه في اتجاه الاكتشاف الأمين للحكم الشرعي الذي أنزله الله في كتابه، أو أوحى به إلى نبيّه، فلا مجال لتطوير الإسلام من خلال الاجتهاد.. بل كلُّ ما هناك أن تجتهد في دراسة مدى انسجام خطوات التطوّر مع خطّ الإسلام في التشريع أو ابتعادها عنه، لنحدّد موقفنا من ذلك على هذا الأساس، لأنّ حكم الله هو القاعدة للحياة، وليست القضية العكس". (من وحي القرآن، ج9، ص 211 ـ 212 ـ 213) الطبعة الأولى ـ دار الزهراء 1404 هـ ـ 1984م.
(1) هذا ما نادى به بعض كبار المسؤولين الرسميّين في لبنان في عام 1997.
(1) نهج البلاغة، ج 2، ص 319.
(2) يتّفق المراقبون على أنّ العوامل المرتبطة بتفاقم النزاعات الداخلية، بين الفصائل الأفغانيّة إثر سقوط النظام الشيوعي في كابول 16 نيسان 1992م، إثر استقالة الرئيس الأفغاني نجيب الله الذي كان يدعم السوفيات حكمه، والفوضى الأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية التي نتجت عن ذلك، والتي أفقدت هذه الفصائل مصداقيّتها، جعلت طلاب المدارس الدينية (طالبان) هؤلاء الذين يمثّلون تياراً تقليدياً داخل الإسلام الأفغاني يحظون في البداية بقبول جماهيري كمجموعة تدَّعي أنّها تحمل الحلّ للأزمة الأفغانية من خلال القرآن والشريعة.. وهكذا تمكّن "طالبان" من دون أي جهد عسكري أن يحتلوا مدينة قندهار في ت2 ـ 1994م، ومدينة هرات القريبة من الحدود الإيرانية في أيلول 1996م ومدينة جلال آباد في أيلول 1996م، ثمّ جاء الاستيلاء على العاصمة كابول في 26 أيلول 1996م.. والجدير بالذكر أنَّ هذه الحركة لم تكن لتبلغ الحجم الذي بلغته لولا الدعم الباكستاني والأميركي وبعض الأطراف العربية الخليجيّة (شؤون الأوسط العدد 59 ك2 ـ 1997م).
(1) خطوات على طريق الإسلام ـ الطبعة الرابعة ـ دار التعارف للمطبوعات 1405 هـ ـ 1985م.
(1) الكافي، ج 1، ص 163.
(2) المصدر نفسه.
(3) الكافي، ج 1، ص 163.
(1) حوارات في الفكر والسياسة والاجتماع: صادر عن دار الملاك، تنسيق السيد نجيب بدر الدين ـ بيروت الطبعة الأولى 1418هـ ـ 1997م.
(1) مفهوم النص: دراسة في علوم القرآن ـ المركز الثقافي العربي ـ بيروت ـ الطبعة الثالثة 1996م، وكانت محكمة مصرية قد قضت في 14 حزيران 1995م بالتفريق بين أبو زيد (53 عاماً) وزوجته لأنه "لا يجوز لمسلمة الزواج من مرتدّ أو البقاء في منزل الزوجية" (جريدة النهار 6/8/1996م).
(1) بحار الأنوار، ج 45، ص 7.
(1) للإطلاع على رأي سماحته حول مشاركة الإسلاميين في الحركة السياسية العامة يُراجع كتاب: (الحركة الإسلامية هموم وقضايا)، الطبعة الأولى ـ دار الملاك ـ 1411 هـ ـ 1990م.
(1) كتاب التوحيد (تأمّلات في الفكر السياسي الإسلامي) الكتاب الرابع سلسلة دورية تصدر عن مجلة التوحيد، إيران ـ قمّ المقدّسة 1416 هـ ـ 1995م.
(2) بحار الأنوار، ج 22، ص 470.
(1) عُقد هذا المؤتمر في طهران ما بين 8 و12 آذارم، بدعوة من المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب، وذلك بمناسبة الذكرى السنوية الأولى لوفاة الأفغاني.
(1) محمد سليم العوا: كانت ومفكّر مصري كتب عن الدولة الإسلامية ونظامها السياسي والتشريع الإسلامي، وهو عضو مجلس أُمناء المنظمة المصرية لحقوق الإنسان.
(1) مفكّر إسلامي مصري معروف، يقيم في قطر.
(1) سقطت بغداد عاصمة الخلافة العباسية بيد هولاكو عام 1258م. وقد كان لنصير الدين الطوسي الذي عانى الكثير حينما اجتاحت جحافل (جنكيزخان) جدّ هولاكو الديار الإسلامية 1228م الفضل الكبير في حفظ دماء المسلمين وتراثهم الفكري، فاستغلّ حاجة هولاكو ـ حفيد جنكيزخان ـ إليه الذي كان حريصاً على أن يكون في معسكره فلكيٌّ عالمٌ بالنجوم، فعزم على كسب ثقته واحترامه، فكان له ما أراد، وصار له من ذلك سبيل لإنقاذ أكبر عدد من الكتب وتجميعها. كما استطاع أن ينجّي من القتل الكثيرين ممّن كانوا سيُقتلون.. ولما استتبّ الأمر لهولاكو خطا نصير الدين الطوسي الخطوة الأولى، فقد أقنعه بأن يعهد إليه بالإشراف على الأوقاف الإسلامية والتصرّف بمواردها بما يراه، فوافق هولاكو، وتزامن ذلك مع إعلانه عن افتتاح مدارس لكلٍّ من الفقه والحديث والطب والفلسفة. وأنّه سيتولّى الإنفاق على طلاب هذه المدارس.. يقول الدكتور علي أكبر فياض: "كان يعيش عن ذلك رجلٌ يُعَدُّ من أكبر المشتغلين بالعلوم العقليّة بعد ابن سينا، ألَا وهو نصير الدين الطوسي. قُدِّر لهذا الرجل العظيم أن يقوم بإنقاذ التراث الإسلامي من أيدي المغو".. ثمّ يموت هولاكو، ولكنّ الإسلام الذي أراد له هولاكو الموت يظلّ صحيح البنية.. متوهّج الفكر، ثمّ يموت ابن هولاكو وخليفته (أبقاخان) والإسلام لا يزال بقيادة الطوسي صامداً، يقاتل ويدعو ويهدي.. ويأتي بعد (أبقاخان) ابن هولاكو الآخر (تكودار) فإذا بالإسلام ينفذ إلى قلبه وعقله، وإذا به يعلن إسلامه، وتًسلم الدولة كلّها بعد ذلك.. وكان الطوسي قد مات سنة 1274م، مات قرير العين، وهو يرى طلائع الظفر مقتحمة الدنيا بموكبها الرائع وبشائر النصر هازجةً بأرفع صوت. مات الطوسي مُودعَاً الأمر إلى تلميذه قطب الدين أبي الثناء محمود بن مسعود الشيرازي، فنهض بالعبء على ما أراده نصير الدين. فلم يجد (تكودار) خيراً من الشيرازي خليفة الطوسي ليكون رسوله إلى العالم العربي والإسلامي.. يقول الأستاذ عبد المتعال الصعيدي: "لم يمت نصير الدين إلاّ بعد أن جدَّد ما بَلِيَ في دولة التتار من العلوم الإسلامية وأحيا ما مات من آمال المسلمين بها" إلى أن يقول: ".. إنَّ الانتصار على التتار لم يكن في الحقيقة بردّهم عن الشام في موقعة "عين جالوت" (هُزم المغول في عين جالوت عام 1260م على يد سيف الدين قطر حاكم مصر) وإنّما كان يفتح قلوبهم إلى الإسلام وهدايتهم له".
وهكذا استطاع نصير الدين الطوسي أن يهزم بالعقل والعلم الدولة الطاغية الباغية، وأن تنجح خططه في تحويل المغول من وثنيّين إلى مسلمين. للاطلاع على هذه الحقبة مراجعة كتاب (المغول بين الوثنية والنصرانية والإسلام) بتصرّف ص: 171 وما بعدها للسيّد حسن السيد محسن الأمين ـ دار التعارف للمطبوعات 1414 هـ ـ 1993م.
(2) ترى الصحافية جوديت ميللر في مقالتها "التحدّي الإسلامي" المنشورة في مجلة (فورين أفيرز) في ربيع 1993م أنّ الإسلام السياسي خطرٌ حقيقي على الغرب، واعتبرت "أنّ كلّ الإسلاميّين ضدّ الغرب، ضدّ أميركا، ضدّ إسرائيل" ورفضت حتى التمييز بين إسلاميين معتدلين وآخرين متطرّفين. وقالت: "إنَّ المر، لا يمكن إلاّ أن يشكّ بصدقية التزام الإسلاميين بالحقيقة والعدالة والديمقراطية، لماذا"؟ تجيب: "بسبب التاريخ العربي والإسلامي" جريدة الحياة 6/12/1996م، من مقالة للكاتب الإسلامي محمد عبد الجبّار، تحت عنوان: "الإسلام والحركة الإسلامية في نظر (بعض) الغرب".
(1) ولد روجيه جان شارل غارودي في 17 تموز 1913م، بمدينة مرسيليا الفرنسية ونشأ في بيئة عمّالية متواضعة، فخلافاً لوالديه الملحدين دينياً اختار غارودي المسيحيّة، وخلافاً لوالديه المحافظين سياسياً اختار الانخراط في الحزب الشيوعي الفرنسي، وكان ذلك سنة 1933. اعتنق المسيحيّة البروتستانتية، وانتمى إلى الحزب الشيوعي.. هذا القرار المزدوج أثار لدى أصدقائه استغراباً، ودفع أباه إلى اعتباره "مجنوناً" ولكنَّ غارودي كان لا يرى في ذلك مانعاً.. درّس الفلسفة بكليّة الآداب باكس ثمّ بكليّة الآداب بستراسبورغ حيث حصل على الإجازة سنة 1936، ثمّ على شهادة المتريز.. ناضل ضدّ سياسة فرنسا الاستعمارية وسجن عام 1940، وقد كان اعتقاله بدعوى خطورته على الأمن، وبقي رهن الاعتقال بالصحراء الجزائرية 33 شهراً، (أيام احتلال فرنسا للجزائر) درس فيها التوراة والإنجيل وكان له أوّل احتكاك بالإسلام. في عام 1953 حاز على شهادة الدكتوراه في الفلسفة.. منذ عام 1968، بدأ بمراجعة نقدية لكلّ أوضاع الغرب، دفعه ذلك لأن يراجع أفكاره، فبدأ بالكتابة والنقد. وهذا ما دفع بالحزب الشيوعي الفرنسي لأن يدين مقالاته. وقد مثّل كتاب "منعطف الاشتراكية الكبير" منعطفاً أساسياً في علاقته بالحزب الشيوعي الذي اعتبر الكتاب مشروعاً تحريفياً.. في عام 1981 أصدر غارودي كتابه (وعود الإسلام) وفي عام 1982، أعلن إسلامه متخلّياً عن فكره الماركسي الشيوعي (روجيه غارودي والمشكلة الدروينية) بتصرّف دار قتيبة ـ الطبعة الأولى 1993.
(2) جورج برنارد شو (1856 ـ 1950) كاتب روائي ومسرحي إيرلندي، ولد في دبلن، له "رجل القدر" و"تلميذ الشيطان" ومؤلّفات سياسية منها: "استحالة الفوضى" حائز على جائزة نوبل للآداب 1925.
(1) في كلمة لسماحته وجّهها إلى المغتربين المسلمين في بلاد الغرب. يقول فيها: "إنَّ الكلمة التي أوجّهها إلى كلِّ إخواني وأخواتي وأبنائي وبناتي من المسلمين في الغرب هي أوّلاً أنَّ عليهم أن يعرفوا أنّ إسلامهم هو سرّ وجودهم وسرّ حياتهم وسرّ مصيرهم. وإنّ عليهم أن يحافظوا على إسلامهم في أنفسهم أكثر ممّا يحافظون على حياتهم. وإنّ عليهم أن يحافظوا على إسلام أولادهم وذلك بإنشاء المدارس التي يربّون فيها أولادهم تربية إسلامية والمحاضن الإسلامية والدينية التي يتنفَّس فيها أولادهم الأجواء الإسلامية، وعليهم أن يتذكّروا قول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم : 6].. وإنّ عليهم أن يحافظوا على إسلامهم في أنفسهم، وذلك بأن يجتمعوا دائماً مع بعضهم حتى يقوّي بعضهم بعضاً، وحتى يكونوا ممّن تواصى بالحقّ وتواصى بالصبر، وليتحرّكوا في خطّ الفلاح. والنقطة الثانية هي أن يكونوا نقطة حيّة مشرقة للإسلام في سلوكهم، حيث أنّني اوصي كلّ هؤلاء من أبناننا وبناتنا أن لا يسمعوا لأيّة فتوى أو لأيّة كلمة تبيح لهم بالاتجار بالمخدرات. وتبيح لهم سرقة أموال عبر المسلمين. فإنّه محرّمٌ بالعنوان الآولي، وإذا كان بعض الناس يُفتون بذلك فإنّه محرّمٌ بالعنوان الثانوي، لأنّ في ذلك إساءةً للإسلام والمسلمين. وقد جاء عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام): "كونوا دعاة للناس بغير ألسنتكم ليروا منك الصدق والخير".
النقطة الثالثة هي أن يحافظوا على أمن البلد الذي يعيشون فيه، وألّا يعرضوه في أيّ جانب من الجوانب إلى الخَلَل لأنّهم ضيوف هذا البلد، ولأنّهم عندما دخلوا إلى هذا البلد فقد أعطوا عهداً على أنفسهم أن يعيشوا كما يعيش الناس فيه من دون أيّة إساءة للأمن العام وللنّاس، ورابعاً أن ينطلقوا من أجل أن يعملوا لاستخدام علاقاتهم في الدعوة إلى الإسلام بكلّ ما يستطيعون من إمكانات وأن يعرفوا بأنّ وجودهم هناك. إنّما هو بفعل الضرورة، وأنّهم لا يجوز لهم البقاء في تلك البلاد، لأنّ ذلك يكون من قبيل "التعرّب بعد الهجرة" (كتاب الندوة الجزء الأول، ص 824)، دار الملاك 1417 هـ ـ 1997م.
(1) الاسلاموفوبيا: "تُصوّر (الاسلاموفوبيا) أنّ الإسلام دينٌ بربري ومتوحّش، يحثّ اتباعه على العنف والإرهاب، ويفرض على مجتمعات المسلمين حالة مزرية من الخمول والكسل بدعوى التوكّل. الأمر الذي جعل التخلُّف قدراً مكتوباً على تلك المجتمعات. بحيث أصبحت عاجزةً عن استيعاب التقدّم والتفاعل مع عناصره، ومن ثَمَّ فإنَّ المسلمين، طبقاً لهذه النظرة، سيظلّون عبئاً على العالم ومصدراً مستمرّاً لإزعاجه وتوتّره، مجلّة "المجلّة" اللندنية، 12/4/1997م، فهمي هويدي.
(2) بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران عام 1979م.
(3) سلمان رشدي، مؤلّف كتاب (آيات شيطانية) والذي نال فيه من شخصية النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، على أثر ذلك أفتى الإمام الخميني (قدّس سرّه) بإهدار دمه لكونه مرتدّاً بتاريخ 14 كانون الثاني 1986م.
(1) عام 1948م.
(2) هذا ما حدث للمفكّر الفرنسي المسلم (روجيه غارودي).
(1) بحار الأنوار، ج 2، ص 56.
(1) كان الرئيس الإيراني السيد محمد خاتمي قد طرح خلال مقابلة مع شبكة (سي.ان.ان) الأميركية في كانون الثاني 1998 فكرة "حوار الحضارات" ودعا إلى مزيد من الاتصالات غير الرسميّة بين إيران وأميركا لكسر "جدار انعدام الثقة" بين البلدين. (السفير، 10 حزيران 1998م).
(1) الكتاب الذي أصدره روجيه غارودي في نيسان 1996م، يحمل عنوان (الأساطير المؤسّسة للسياسة الإسرائيليّة) وقد ترجم هذا الكتاب إلى العربيّة وصدر عن دار عطية في لبنان. وفي هذا الكتاب يكشف غارودي ما فعلته الصهيونية لسنوات طويلة من احتلال للعقول ومصادرة للمفاهيم حتى في أكثر البلدان ديموقراطية، هذا الكتاب دفع بغارودي لأن يقف أمام المحاكم الفرنسية يدافع عن نفسه كرجل حرّ مستقلّ الرأي.
(1) "الرغبة في عدم التصعيد إيرانياً وأوروبياً ناتجة من إدراك الطرفين لأهمية العلاقة بينهما، خصوصاً أنّ الانفتاح على أوروبا سياسياً واقتصادياً وتكنولوجياً هو خيار استراتيجي في السياسة الخارجية الإيرانية. كذلك إنّ الحصار الاقتصادي والتجاري والمالي الذي فرضته الإدارة الأميركية ضدّ إيران كان يمكن ان يترك آثاراً سلبيّة خطيرة في الاقتصاد الإيراني، لولا معارضة الحكومات الأوروبية للسير في ركاب السياسة الأميركية. والحكومات الأوروبية التي ترى أنّها تدفع ثمناً باهظاً بسبب الحصار الاقتصادي المفروض على العراق، لا يمكنها أن تشارك في حصار اقتصادي مماثل يُفرض على إيران التي تُعتبر مستقرّة سياسياً" (شؤون الأوسط العدد 62 أيار 1997م، ص 106 ـ 107).
(2) الإساءة للقيادة العليا في الجمهورية الإسلامية في إيران تمثّلت بالحكم الذي أصدرته محكمة برلين ت2، 1996م، واتّهمت القيادة في إيران بالمسؤولية في قضية "ميكونوس" وهو المقهى الليلي الذي قُتِل فيه بعض الذين كانوا يحيكون المؤامرات ضدّ إيران. وألمانيا التي ترى أنّ قضية "ميكونوس" هي أقلّ أهمية من فتوى قتل سلمان رشدي، ستحرص على استمرار العلاقة مع إيران بسبب التبادل التجاري الكبير بينهما. (شؤون الأوسط العدد 62 أيار 1997م، ص 108 بتصرّف).
(1) معاداة السامية: ردّة فعل طبيعيّة من قِبَل الشعوب العقلانية على طريقة عيش اليهود غير العقلانية، وقد نُسِبت معاداة السامية إلى النمط غير السويّ لوجود اليهود وإلى المخاوف والأهواء التي ولَدها اليهود في الأمم الأخرى (الأصولية اليهودية في إسرائيل): إيان لوستل ص 94 مؤسّسة الدراسات الفلسطينية الطبعة الأولى 1991م.
(1) انعقد المؤتمر الإسلامي في كانون الأول 1997م في دورته الثامنة في طهران بحضور حوالي 55 بلداً إسلامياً شاركوا في الدورة دون تخلّف أحد من رؤساء الدول وأُمرائها وأولياء العهد ورؤساء الحكومات وحشد ضخم من أعضاء الوفود قارب الــ 7000 شخص من كبار المسؤولين في بلادهم، وقد افتتح المؤتمر آية الله السيّد عليّ الخامنئي (مجلّة البلاد 13 ك1، 1997م).
(1) الرئيس الياس الهراوي.
(1) كتبت الكاتبة الألمانية زيغريد هونكه في جريدة الشرق الأوسط الصادرة من لندن بتاريخ 30/10/1996م.
"استقرّ في أذهان السواد الأعظم من الأوروبيّين الإزدراء الأحمق الظالم للعرب الذي يصمهم جهلاً وعدواناً بأنّهم "رعاة الماعز والأغنام الأجلاف لابسوا الخرق المهلهلة" ولا يزال صريخ القوم يحذّرهم من سطوة الإسلام الحربي الذي يتهدَّدهم منذ أوقف الفرنسي "شارل مارتل" زحف المسلمين متحيّناً الفرصة للانقضاض، ولا يزال القوم يروّجون للخرافات السائدة هنا، مثل "استعباد الإسلام للمرأة"، وقل مثل ذلك في عدم "التسامح والسماحة" في الدين الإسلامي ما يطغى منذ قرون ليصبغ أو يشكّل واقع الدعايات المغرضة للواقع والحق (ومنها الإرهاب) والمنادية بالويلات والثبور، وعظائم الأمور، تؤجّج من جديد أجهزة الإعلام الغربي المتباينة من أوارها المسعور، سواء في ذلك بالمحاضرات أو بالصحافة ووسائل البث المسيطرة والسياسة المتحجّرة غير المنصفة".
(1) بحار الأنوار، ج 25، ص 383.
(1) يقول سماحته (دام ظلّه): "عندما نريد أن نفصل الإسلام عن الدولة، فماذا نصنع بهذا الفقه، هل نطرحه في الهواء.. لماذا لا نقابل المفاهيم التي طرحها في حلّ مشكلات الإنسان الجزئية أو العامّة بالمفاهيم التي يطرحها الآخرون؟ إنَّ الإنسان المسلم يشعر بأنَّ عليه أن يعيش الشريعة، حتى في غياب الدولة الإسلامية. ومن هنا، فإنَّ الذين يدعون إلى الدولة الإسلامية وإلى تطبيق الشريعة، يريدون أن يُخرجوا الإنسان المسلم من هذا التمزّق بين ما هو القانون وبين ما هي الشريعة.. فأنت في مجتمع ربويّ لا يجوز أن تكون مرابياً، خلافاً للماركسية التي تقول لك: كن ربويّاً كأعلى المرابين في المجتمع الربويّ، لأنّ المشكلة لا تحلّ إلاّ بالحلّ العام، بينما في الإسلام تُعتبر قضية الربا ليست مربوطةً بالنظام الاقتصادي فحسب، بل مربوطة أيضاً بخُلُقيَة الإنسان في نفسه، فلذلك، نحن نقول إنَّ الإسلام دينٌ يختزن الدولة داخله نحن نقول: إنّ الإسلام دين بالمعنى العقيدي، ومدني بالمعنى التشريعي، فالإسلام يُعتبر نظاماً مدنياً يتّسع لكلّ الحالات المدنية التي يحتاج الإنسان إليها. وينفتح على الحالات الجديدة عندما تقرأ في الفقه الإسلامي العبادات، ثمّ تقرأ كتاب التجارة والإجارة والشركة والمضاربة والمزارعة والمساقاة والزواج والطلاق والجنايات والحدود والتعزيزات والجهاد، وما إلى ذلك، دُلّني على عناوين موجودة في القوانين المعمول بها تختلف عن هذه العناوين الموجودة في الإسلام. لذلك، فالمسلم ـ حتى الجاهل ـ يختزن داخل إيمانه الداخليّ أنّ عليه عندما يواجه أيّة مشكلة أن يسال الفقيه، لأنّه يختزن داخل شخصيّته أنَّ لله حكماً في كلّ موقع من المواقع. ولذلك، فنحن نرفض فصل الدين عن الدولة، كما نرفض فصل الإنسان عن ذاته، إنَّه أشبه شيء بذلك" (الإسلام وفلسطين حوار شامل مع السيّد محمد حسين فضل الله ـ أجرى الحوار محمّد سويد، ص 61، مؤسّسة الدراسات الفلسطينية 1996م).
(2) نهج البلاغة، ج 8، ص 263.
(1) أستاذ الفلسفة في جامعة القاهرة، ولد في مدينة القاهرة في شباط عام 1935م، حصل على الدكتوراه من فرنسا عام 1966، وسافر إلى أميركا كأستاذ زائر في جامعة "تمبل" في فيلادلفيا حتى عام 1975م، دخل في صراع فكري مع جبهة علماء الأزهر حيث انتقدت هذه الأخيرة أفكاره وآراءه حول الإسلام.
(1) رئيس الجمهورية الإسلامية في إيران.
(1) منير فارس: العنف الأصولي، نواب الأرض والسماء، مقالة بعنوان: الحمائم الهاربة، ص 151، الناشر: دار الناقد.
(1) الكاتب فارس في المقالة نفسها التي يحاول فيها النيل من الحركة الإسلامية، يقول: "ويعتقد أصحاب الفكر المثالي والقوّة الظلامية المتطرّفة، بأنّهم على قاب قوسين أو أدنى من إحكام السيطرة على العالم، معتبرين أنّه لا خيار للنجاة وتحقيق العدل إلاّ بالعقيدة الإسلامية.. هكذا وبكلّ بساطة يتوهّم أصحاب الدعوة الطالعة من اليأس والتخلّف الفكري في مجتمع تبعي متخلّف أنّهم سينتصرون"، ص 152.
(2) من كتب الشهيد السيّد الصدر: فلسفتنا، اقتصادنا، البنك اللاربوي في الإسلام وغيرها.
(3) من كتب الشهيد الأستاذ مطهّري: الملحمة الحسينيّة ـ فلسفة الأخلاق ـ الحجاب، وغيرها.
(1) يؤمن صموئيل هينتغتون بالإدعاء الاستشراقي القائل بأنَّ الإسلام بطبعه "عقيدة عدوانية"، ويرى بأنّ "المواجهة ستأتي حتماً من العالم الإسلامي" متخيّلاً سيناريو طغيان موجة كاسحة تمتدُّ عبر الأمم الإسلامية من المغرب إلى باكستان، مُعزّزاً فكرته بالنتيجة المماثلة التي توصّل إليها المستشرق الصهيوني برنارد لويس: "إنّنا نواجه مزاجاً وحركة يتجاوزان كثيراً مستوى القضايا والسياسات والحكومات التي تنتهجها، ولا يقلّ هذا عن كونه صداماً بين الحضارات، ربّما غير عقلاني، لكن لا شكّ في أنّه ردّ فعل تاريخي لخصم قديم لتراثنا اليهودي ـ المسيحي وحاضرنا العلماني، والتوسّع العالمي لهما معاً".. هذه الزبدة كاملة الدّسم من مخيض صموئيل هينتغتون اليهودي: الإسلام خطر على التراث اليهودي (وجود إسرائيل) مربوط بالتراث المسيحي، وهي نفسها الفكرة الصهيونية المروجة لنظريّة تحدّر المسيحيّة عن الجوهر اليهودي، وفي هذا ارتباطهما المصيري بتراث وهويّة واحدة، وكما عند المفكّرين الصهاينة، يتوسّل صموئيل بوحدة التراث المشترك (اليهودي ـ المسيحي) للحضارة الغربية المهيمنة في صناعة عدوّ مشترك: الإسلام (جريدة الشرق الأوسط 5/10/1997م) فرج العشّة.
(1) ألغت المؤسّسة العسكرية في الجزائر نتائج الانتخابات التشريعية التي جرت في نهاية 1991م والتي فازت فيها الجبهة الإسلامية للإنقاذ.
(1) كتب بيار داركور في صحيفة لو فيغارو الفرنسية في منتصف شهر نيسان 1998م مقالاً عن أعمال العنف في الجزائر، جاء فيه: "إنَّ أهم جهاز للرعب والقتل الداخلي في الجزائر الآن هو إدارة الاستخبارات والأمن العسكري التي تضم أربعة أجهزة أمنية داخلية.. وتتبع الإدارة وحدة خاصة معروفة باسم "سرية الموت"، وهذه الوحدة تمارس عمليات خطف وتعذيب وقتل تتمّ في الظلام، ولا يجرؤ أحد على الإشارة إليها، وما تمارسه "سرية الموت" يغطي عادة بيانات الجرائم الوحشية التي تُحمّل مسؤوليتها الجماعات المسلّحة، وهذه الجماعات موجودة لا ريب، لكنّ أكثرها مخترق، ويؤدّي أعمالاً ومهمّات لصالح جهاز الأمن" (شؤون الأوسط العدد 69، سنة 98).
(2) جرت الانتخابات في 24 كانون الأول 1995م، وحاز فيها حزب الرفاه الإسلامي أكثرية أصوات الناخبين.
(1) حُظر حزب الرفاه رسمياً في 16 كانون الثاني 1998م، لكنَّ التفكير في حظره بدأ عملياً منذ أواخر خريف العام 1996م، أي بعد مرور 5 ـ 6 أشهر على تشكيل الائتلاف الحكومي بين اربكان زعيم حزب الرفاه وبين طانسو تشيللر زعيمة حزب الطريق المستقيم.
(2) كانت آخر عملية استهدفت السيّاح الأجانب في مصر (الأقصر) في 17 تشرين الثاني 1997م وقُتِل فيها 69 شخصاً، وقد أوردت المعلومات الصحفية حينها احتمال أن يكون الموساد الإسرائيلي وراء هذه العملية في محاولة لإرباك الوضع السياحي في مصر.
(1) وهذا ما حدث لاحقاً، حيث حُلَّ حزب الرفاه الإسلامي بقرار من المحكمة الدستورية في كانون الثاني 1998م.
(1) جاء في توصيف العولمة: أنَّ "العناصر الأساسية لظاهرة العولمة موجودة في مستويات ثلاثة متداخلة في الاقتصاد والسياسة والثقافة. وأنّ نقّاد العولمة يفضّلون تسمية الأمركة ـ نسبة إلى أميركا ـ كتعبير أكثر دقّة عن واقع الحال. وهذه المستويات الثلاثة تكشف مدى التداخل بين الوهم والحقيقة في ما أنجزته العولمة في ما لا تريد أو لا تستطيع إنجازه" د. طلال عتريسي شؤون الأوسط، العدد 71، نيسان 1998.
(1) أظهر استطلاع للرأي نُشرت نتائجه (20 نيسان 1998م) أنّ حزب "الفضيلة" الإسلامي التركي الذي حلّ محلّ حزب الرفاه المحظور سيفوز بأكبر عدد من الأصوات، وبسبب نشر هذا الاستطلاع عدل (مسعود يلماظ) رئيس الحكومة التركية عن فكرة الانتخابات المسبقة التي كان من المفروض أن تجري في نهاية نيسان 1998م، وأُجِّلَت الانتخابات إلى نهاية العام 2000م.
(1) وذلك عندما تسلّم كمال أتاتورك الحكم في تركيا عام 1923، وحوّلها من الإسلام إلى العلمانية.
(1) أعتقد صانعو القرار التركي ـ ومعظمهم يرتدون الّلباس العسكري، أنّ قيام محور تركي ـ إسرائيلي سوف يساعد في تحسين العلاقات الأميركية ـ التركية، والعلاقات التركية الأوروبية أيضاً. وهو أيضاً سوف يردع اليونان ويضغط على سوريا ويساعد في تحديث الجيش: (شؤون الأوسط، العدد 64 آب 1997م، ص 14).
(1) وذلك على أثر إخراج العراق من الكويت، من قِبَل قوات التحالف الأميركي الأوروبي، ودخول القوات الأميركية والحليفة لها إلى منطقة الخليج في عام 1991.
(1) يقول ميخائيل جورتشاكوف في مقدّمته لطبعة 1996م الروسية في (بروتوكولات حكماء صهيون): "انكشف هذا السرّ تماماً في بداية هذا القرن عندما قام أ.س. نيلوس بنشر بروتوكولات حكماء صهيون في تلك البروتوكولات تمَّت صياغة البرنامج المنظّم لاستيلاء اليهود على العالم" المقتطف الثقافي العدد 180، تموز 1998.
(1) علّق المفكّر الإسلامي الشيخ يوسف القرضاوي على هذه الزيارة بالقول: "كنت أودّ من الشيخ الأكبر أن يرفض لقام الحاخام، ولا يحقّق له أمنيته في اقتحام الأزهر، ويُرجعه خائباً مغيظاً، فإنَّ غيظ الكفّار المحاربين من أهداف المسلم.. لقد قال الشيخ (الطنطاوي) إنَّ الحاخام رجاه ان يقابله، فلم ير بأساً في مقابلته، وكنت أتمنى ألا يحقّق له رجاءه، فهو سيستغلّ هذه الزيارة لصالحه، والأزهر أولى المؤسّسات بألا تمكن الصهاينة من استغلاله"، (جريدة الشرق الأوسط، 7/1/1998م).
(1) إنَّ هذا الاهتزاز في العلاقات الأميركية ـ الأوروبية ناتج من زوال الحرب الباردة التي كان التناقض الرئيسي فيها بين الخصمين الرئيسيّين يطغى على الخلافات والتناقضات بين الحلفاء ويدفعها إلى المقام الخلفي. أمّا اليوم وبعد زوال المعسكر المعادي (الاشتراكي) فقد أخذت تظهر على السطح وتتفاقم التناقضات في صفوف المعسكر الواحد، وتأخذ هذه التناقضات أشكالاً حادّة مختلفة، سواء على شكل صراعات اقتصاديّة وحروب تجارية أو خلافات حول قضايا استراتيجيّة (شؤون الأوسط، العدد 64 آب 1997، ص 125.
(1) "لا بدّ للذين يريدون إنتاج خطاب إسلامي من أن يعيشوا عمق الفكر الإسلامي في جذوره وامتداداته، لأنّ الذين لا يعيشون في هذا العمق من الجذور والامتداد، من الصعب أن يُنتجوا لنا خطاباً إسلامياً، بل سيكون الخطاب خطاباً يحمل اسم الإسلام، ولكنّه يتحرّك في مفردات الجهل والتخلّف ومفردات عناصر الماضي التي ربّما تموت عندما يموت الماضي، ولن تكون شيئاً في الحاضر، لأنّ الذين ينتجون هذا الخطاب لا يعيشون الحاضر" فقرة من محاضرة لسماحة السيّد فضل الله تحت عنوان: (الخطاب الإسلامي: الثوابت والرهانات) بدعوة من المركز الإسلامي الثقافي وملتقى الحوار بتاريخ 10/12/1996م في قاعة الجنان ـ طريق المطار.
(1) البراغماتية: أو "الذرائعيّة" وهي عبارة عن مذهب فلسفي وسياسي يعتبر نجاح العمل هو المعيار الوحيد للحقيقة، فالسياسي البراغماتي لا يتّخذ قراره بوحي من فكرة مسبقة أو أيديولوجيا سياسية محدّدة، بل من خلال النتيجة المثمرة التي قد يؤدّي إليها قراره. (المعجم الفلسفي الجزء الأوّل حرف: الباء) جميل صليبا، الطبعة 1994م، الشركة العالمية للكتاب.
(1) أبو الأعلى المودودي من روّاد الحركة الإسلاميّة في باكستان في الأربعينات من القرن العشرين.
(1) الكافي، ج 2، ص 118.
(2) كان ذلك في إطار حوار جبهة الإنقاذ الإسلامية الجزائرية مع السلطة والمعارضة الجزائرية العلمانية في آب 1994م.
(1) "يروّج لهذه المسألة اليهودي (فوكاياما) ياباني الأصل، أميركي الجنسيّة، رئيس دائرة التخطيط السياسي في الخارجية الأميركية وهو صاحب نظرية نهاية التاريخ، والذي يسوّق لنظرية تفوّق الإنسان الأميركي، وإلى إقرار نموذج أوحد هو النموذج الديمقراطي الليبرالي الأميركي، وقد كان لفوكوياما باعٌ في قرارات البيت الأبيض"، (فوكوياما مسكون بهاجس انتصار الليبرالية الغربية على التحدّيات الثقافية التاريخية المتعاقبة، الفاشية، الشيوعية وأخيراً الإسلام) مجلّة الشاهد آب 1996م، السفير 16/7/1996م.
(1) في 5 تشرين الثاني 1995م، قام اليهودي "ييغال عمير" باغتيال رئيس حكومة الكيان الصهيوني أثناء احتفال لحزب العمل الصهيوني، وقد صرَّح بأنّه قام بعملية الاغتيال لمنع الحكومة الصهيونية من تسليم مزيد من الأراضي للفلسطينيّين.
(1) قام نتنياهو رئيس حكومة العدوّ الصهيوني بزيارة إلى الفاتيكان في كانون الثاني 1997م.
(2) وبالفعل فقد تمّت هذه الزيارة في الموعد المحدّد.
(1) اتّخذ الأمن العام اللبناني قراراً بمنع انتشار الكتاب في تشرين الثاني 1996.
(2) بنيامين نتنياهو.
(1) من لقاء سماحته في دارته في حارة حريك مع طلّاب المدرسة الدينية في صور بتاريخ 30/7/1997م.
(2) نهج البلاغة، ج 18، ص 411.
(1) الشهيد الثاني 911 هـ ـ، الشيخ زين الدين بن عليّ بن أحمد العاملي الشامي، المعروف بالشهيد الثاني، أفضل المتأخرين وأكمل المتبحّرين، نادرة الخلف وبقيّة السلف، مفتي طوائف الأمم (كان يُفتي كلّ مذهب على طبق مذهبهم)، له كتب ورسائل كثيرة في فنون مختلفة ومطالب متشعّبة، راجع أعيان الشيعة، ج 7، ص 144، مقابس الأنوار، ص 15 والدرّ المنثور، ج 2.
(2) بحار الأنوار، ج 2، ص 69.
(1) شرح نهج البلاغة، ج 6، ص 240.
(1) نهج البلاغة، الخطبة 140.
(1) دعاء السحر للإمام زين العابدين (عليه السلام).
(2) يقول السيّد ابن طاووس: أقول وكنت في ليلة جليلة من شهر رمضان.. وأنا أدعو في السحر لمن يجب أو يحسن تقديم الدعاء له ولي ولمن يليق بالتوفيق أن أدعو له فورد على خاطري أنَّ الجاحدين لله جلّ جلاله ولنعمه والمستخفّين بحرمته والمبدَلين لحكمته في عباده وخليقه،، ينبغي أن يُبدأ بالدعاء لهم بالهداية من ضلالتهم، فإنَّ جنايتهم على الربوبيّة والحكمة الإلهيّة والجلالة النبويّة أشدّ من جناية العارفين بالله وبالرسول صلوات الله عليه وآله فيقتضي تعظيم الله وتعظيم جلاله وتعظيم رسوله (عليه السلام) وحقوق هدايته بمقاله وفعاله أن يقدم الدعاء بهداية مَنْ هو أعظم ضرراً وأشدّ خطراً حيث تعذّر أن يُزال ذلك بالجهاد ومنعهم من الإلحاد والفساد. (خطوات على طريق الإسلام) ص 148 ـ 149) الطبعة الخامسة 1406 هـ ـ 1986م، دار التعارف للمطبوعات.
(1) بحار الأنوار، ج 32، ص 448.
(2) نهج البلاغة، ج 2، ص 94.
(1) نهج البلاغة، الكتاب 31.
(2) بحار الأنوار، ج 74، ص 246.
(1) نهج البلاغة، الخطبة 206.
(1) وسائل الشيعة، ج 16، ص 36.
(2) "رأى أحدهم في المنام عالماً معروفاً كان قد تُوفيّ منذ زمن، فسأله عن وضعه، فأجاب: الحمد لله، فأنا أمتلك هنا حديقة غنّاء، ولي من الحور العين الكثير. وقد بُنِيَ لي قصرٌ لا يمكن أن يحلم به مَنْ كان في الحياة الدنيا، وإنّ الملائكة لتروح وتذهب في قصري، ولكنّني حينما أصحو صباحاً، لا أصحو إلاّ على لسع عقربٍ يأتيني كلّ صباح فيبقى الألم في رجلي إلى الصباح التالي ليبادرني بلسعة جديدة. فسأله صاحبنا: ما الذي فعلته في دنياك؟ فأجاب: أسأت إلى أحدهم في القول، واستهانت عليَّ المسألة فنسيت أن أستغفر وأتوب من تلك الإساءة، ولو كنت قد استغفرت وتبت، لكنت قتلت هذه العقرب التي ما فتأت تأتيني كلّ يوم" (الأخلاق البيتيّة) الأستاذ مظاهري، ص 168 دار المحجّة البيضاء ـ الطبعة الأولى 1413 هـ ـ 1993م.
(2) بحار الأنوار، ج 74، ص 204.
(1) الكافي، ج 2، ص 115.
(1) دعاؤه في الظُّلامات.
(1) بحار الأنوار، ج 22، ص 350.
(1) نهج البلاغة، الخطبة 129.
(2) جاء في وصف المتّقين لأمير المؤمنين عليّ (عليه السلام): "فالمتّقون فيها ـ في الدنيا ـ هم أهل الفضائل، منطقهم الصواب وملبسهم الاقتصاد، ومشيهم التواضع، غضّوا أبصارهم عمّا رحم الله عليهم، ووقفوا أسماعهم على العلم النافع لهم.. عظُم الخالق في أنفسهم فصغُر ما دونه في أعينهم، فهم والجنّة كمن قد رآها فهم فيها منعَّمون، وهم والنار كمن قد رآها فهم فيها معذّبون. قلوبهم محزونة، وشرورُهم مأمونة، وأجسادهم نحيفة، وحاجاتهم خفيفة، صبروا أياماً قصيرة أعقبتهم راحة طويلة تجارةٌ مريحة يسّرها لهم ربُّهم أرادتهم الدنيا فلم يريدوها". نهج البلاغة، ج 2، ص 160، مؤسّسة الأعلمي للمطبوعات ـ بيروت.
(1) بحار الأنوار، ج 27، ص 89.
(1) في حديث لسماحته مع مندوب مجلة القدس العربي في دمشق أيار 1998م، يقول: "أمّا مسألة التجديد، فإنّني أخشى أن ينطلق بعض الناس في هذا العنوان من خلال فكرة ضبابيّة. بما هي فكرة الانبهار بالجديد في العالم. أنا لا أعيش عقدة التجديد على مستوى الفكر الإسلامي، ولكنّني أعيش مسؤولية متابعة هذا الفكر الذي ليس من الضروري أن يكون معصوماً، وإن كان ينطلق من عصمة الكتاب والسُنّة، ولا أؤمن أيضاً بأنَّ على الفكر الإسلامي (والمقصود بالفكر الإسلامي، ما توصّل إليه العلماء في اجتهاداتهم فلسفياً أو كلامياً أو فقهياً وليس بما هو نصّ قرآني أو حديث نبويّ ثابت صحيح)، أن يتجمّد على حاله، لأنّه لا يمثّل الحقيقة دائماً في مسألة الاجتهادات، وما دام كذلك علينا أن نجتهد ونجتهد ونستوحي من الأفكار الإنسانية الجديدة ما يمكن أن يُطلَّ بنا على بعض نقاط الضعف في تفكيرنا، أو على نقاط الضعف في تفكير الآخرين. لذلك أنا لست ممّن يدعو إلى التجديد بالمطلق، بل أنا أدعو إلى تجديد مسار استُهْلِك، وما استطاع الفكر المتحرّك أن يكتشف خطأه وعدم قابليّته للحياة".
(1) الكافي، ج 2، ص 435.
(1) بحار الأنوار، ج 6، ص 21.
(2) بحار الأنوار، ج 14، ص 379.
(1) بحار الأنوار، ج 61، ص 129.
(1) يقول سماحته (دام ظلّه): "إنّنا أُمةٌ تُسرع في تمثّل أهدافها تعيش حالة الانفعال والاندفاع، فنحن حينما نواجه هزيمة في حرب، فإنَّ الفكرة التي تعيش في الوجدان العام هي: إمّا إن ننتصر غداً، وإمّا فنحن المهزومون، لأنَّ المسألة هي أنّك لا تدرس ردّ الفعل فيما يحتاجه. المهم ان لا يكون هناك ردّ فعل من دون دراسة عناصره وخصائصه. لهذا نجد أنَّ الارتجال يتحرّك في كثير من مواقفنا".. فقرة من محاضرة ألقاها سماحته في دمشق تحت عنوان: (العنف والرفق في الإسلام) بدعوة من اتحاد الكتّاب العرب بتاريخ 1/12/1997م.
(1) بحار الأنوار، ج 73، ص 278.
(1) بحار الأنوار، ج 100، ص 85.
(2) مستدرك الوسائل، ج 12، ص 188.
(1) نهج البلاغة، ج 170، ص 87، متتعتع: غير متردّد ولا خائف.
(1) سُئِل سماحته: "لا يمكن أن ننكر أنّ الإسلام دعا إلى اعتماد العقل، لكنّنا إذا أطنبنا في تمجيده، فإنّنا نحطّ من قيمة الجانب الغيبي ولو في النصّ الذي يمثّل جانباً قائماً في ذاته في العقيدة الإسلامية، فماذا ترون؟
يجيب سماحته: قلنا بأنَّ الغيب عقلانيٌّ لأنّه وإن لم يدرك العقل خطوطه التفصيليّة، لكنّه يقول بأنّه ممكن، فإذا ثبت لنا من الصادق المصدّق الذي دلَّ العقل على علاقته بالله تعالى من خلال رسالته، فإنَّ الغيب ـ عند ذلك ـ يصبح عقلانياً. وهكذا بالنسبة إلى الوحي وغيره من شؤون الغيب، فليس معنى أن يكون الشيء عقلانيا أن تكون كلّ مفرداته تحت الحسّ، بل أن يكون عقلانياً أي أن لا يرفضه العقل وأن يقبل الوسائل التي ينطلق الإيمان من خلالها، ولذلك فإنَّ إيماننا بالعقل يؤكّد لنا الوحي والنص والغيب باعتبار الأُسس التي ارتكزت عليها هذه المفردات العقيدية في مسألة العقل" (الندوة، ج 3،، ص 445، دار الملاك ـ بيروت 1418 هـ ـ 1998م).
(1) بحار الأنوار، ج 77، ص 298.
(1) الكافي، ج 2، ص 335.
(2) بحار الأنوار، ج 44، ص 139.
(1) نهج البلاغة، قصار الحكم 295.
(2) الصحافي زاهي وهبة.
(2) بحار الأنوار، ج 47، ص 354.
(2) نهج البلاغة، قصار الحكم 439.
(1) الكافي، ج 2، ص 308.
(1) نهج البلاغة، ج 18، ص 411.
(1) كتاب النكاح، ج 1، ص 23، دار الملاك ـ بيروت 1417هـ ـ 1996م.
(2) الكافي، ج 5، ص 344.
(3) التهذيب، ج 7، ص 397.
(4) التهذيب، ج 7، ص 397.
(1) بحار الأنوار، ج 1، ص 188.
(1) نهج البلاغة، الخطبة 11.
(2) بحار الأنوار، ج 13، ص 12.
(3) بحار الأنوار، ج 19، ص 22.
(4) بحار الأنوار، ج 98، ص 227.
(1) الندوة: هو الكتاب الذي يتضمّن مجموعة الندوات الأسبوعية التي تُعقد في حوزة المرتضى (عليه السلام) في منطقة السيدة زينب (عليها السلام) بدمشق، وقد صدر منه حتى الآن (حزيران 1999م) خمسة أجزاء، إعداد الأستاذ عادل القاضي.
(1) مع الحكمة في خطّ الإسلام، صادر عن مؤسّسة الوفاء ـ بيروت ـ الطبعة الأولى، 1406 هـ ـ 1985م.
(1) راجع المصادر التالية حول منكر الضروري وحكمه.
أ ـ المستمسك، ج 1، ص 378.
ب ـ التنقيح في شرح العروة الوثقى، ص 58، وما بعدها.
ج ـ فقه الشيعة، ج 3، ص 99 وما بعدها.
د ـ بحوث في شرح العروة الوثقى، ج 3، ص 291 وما بعدها.
(1) نهج البلاغة، ج 19، ص 28.
(2) بحار الأنوار، ج 77، ص 271.
(3) نهج البلاغة، ج 2، ص 319.
(1) شاعر وأديب سوري الأصل، درَّس في الجامعة اللبنانية ـ كليّة الآداب ويعتبر من الدعاة إلى الحداثة، ويحمل فكراً علمانياً، ويعيش الآن في باليس، وهو من مؤيّدي الحوار العربي ـ الإسرائيلي، حيث قامت حملةٌ ثقافية مستنكرة ضدّ ما يدعو إليه.
(1) بحار الأنوار، ج 96، ص 160.
(1) نهج البلاغة، ج 6، ص 166.
(1) نهج البلاغة، ج 17، ص 151.
(1) الكافي، ج 1، ص 239.
(2) للإطلاع على رأي سماحة السيّد بشكل أشمل في استثمار المناسبات الإسلامية وكيف يمكن أن تجسّد المعاني العميقة التي تتمثّل في وقائعها التاريخيّة أو في الذوات الطيّبة للذين يتمثّلون فيها، وكيف يمكن أن نعيَ قيمة هذه الذكريات ونُحسن توظيفها في سبيل توضيح أهدافها ومعانيها، يُراجع كتاب (قضايانا على ضوء الإسلام)، ص 259 ـ طباعة دار الزهراء ـ بيروت 1405 هـ ـ 1985م، الطبعة السادسة.
(1) مظاهر الاحتفال الحديثة بهذه الأعياد جاءت من الغرب حيث تحمل الكثير من المفردات البعيدة عن المسيحيّة، والتي لم يعرفها المسيحيون الشرقيون وخصوصاً في لبنان إلاّ منذ زمن قريب، وللإطلاع على ذلك، يُراجع كتاب (أحاديث القرية ـ أقاصيص وذكريات) ص 13، مارون عبّود ـ دار مارون عبود طبعة جديدة 1984م.
(1) أنبتها: أنشأها إنشاءً حسناً.
(1) يقول سماحته (دام ظلّه): "للمرأة ـ في حركة الحياة ـ دور الإنسان الذي يُنتج الحياة للإنسان من موقع المعاناة والإحساس والحركة والاحتضان والعطاء الذي لا يقف عند حدّ، وبذلك كانت الأمومة سرّ الإنسان في معنى روحية الجسد ونموّ الطفل ويفاعة الشباب، في حيوية الحنان وحركية العاطفة.
وهي ـ بعدُ ـ الزوجة التي تنفتح على الإنسان الرجل ليجد لديها السكينة والطمأنينة الروحية ودفق العطاء المخضَّب بالمودة والرحمة، وهي الإنسان ـ الطاقة التي تملك معنى النموّ والتقدّم والإبداع في الفكر والعمل، عندما تتهيّأ لها الظروف الواقعية في تفجير طاقاتها في حركة الحياة.
وقد عاش هذا الإنسان ـ الأنثى الكثير من التعقيدات التاريخيّة في حياتها، في تعامل الآخرين معها، وفي نظرتهم إليها واضطهادهم لإنسانيّتها وتحويلها إلى كميّة مهملة، فلا دور لها سوى خدمة الإنسان ـ الذكر وإنتاج الذُريّة له. من دون أن يكون لها أيّ دور فاعل حتى في موقع حياتها الخاصة التي لا تملك منها أن تريد أو لا تريد، لأنّها الإنسان القاصر أبداً الذي هو في الدرجة الدونيّة أو الثانية من الإنسانية. ولعلّ قضية قرارها في الزواج واستقلالها فيه، هي القضية الأساس في حياتها، لأنَّ الكثير من المجتمعات لا تزال تُبعدها عن حريّة الإرادة في اتّخاذ قرارها السلبي والإيجابي، وربّما امتدّ هذا إلى المسألة الفقهية بطريقة وبأخرى. وهناك قضايا أخرى تتّصل بالجوانب الحيويّة من شخصيّتها الإنسانية في إدارتها لأمورها التعليميّة والاقتصادية والاجتماعية، ممّا يحتاج إلى علاج حيويّ للوصول إلى قاعدة ثابتة على جميع المستويات" (من مقدّمة كتاب: دنيا المرأة) دار الملاك ـ بيروت الطبعة الأولى 1418 هـ ـ 1997م.
(1) دنيا المرأة، حوار سهام حميّة ـ دار الملاك ـ بيروت، الطبعة الأولى 1418 هـ ـ 1997م.
(1) الكافي، ج 5، ص 9.
(1) الجدل البيزنطي: هو الجدل العقيم الذي لا يُوصل إلى نتيجة، وتروي المحكيّات الشعبيّة ومن باب الطرفة أنَّ علماء، بيزنطة كانوا يتناقشون فيما بينهم حول أصل الدجاجة وأصل البيضة، والعدو واقف على الأبواب يهدّد بيزنطة بالسقوط.
(1) نهج البلاغة، ج 16، ص 93.
(2) الكافي، ج 5، ص 63.
(1) الحقّ المبين في تصويب المجتهدين للشيخ جعفر كاشف الغطاء (1154 هـ ـ 1227م).
(2) حاول الشيخ جعفر كاشف الغطاء في هذا الكتاب (الحقّ المبين) تخطئة الإخباريين في اعتمادهم على ما لا يصحّ الاعتماد عليه في مقام استنباط الحكم الشرعي، والتي منها الأحلام حيث قال: "ومنها الاستناد إلى الأطياف التي رآها جماعة من الأتقياء ونقلوا أنّهم رأوا الأئمّة الأمناء (عليهم السلام) في المنام فمنعوهم عن شرب (التنباك)... وبعضها مقرون بالمعجز، كما نُقل أنّه رأى شخص في حرم الحسين (عليه السلام) قد قلب وجهه عن محلّه ودار إلى غير مقرّه فسُئِل عن ذلك، فقال رأيت الإمام (عليه السلام) فقال لي: لِمَ تشرب التنباك فضربني بكفّه وهذا أثر ضربته (المنع عن تدخين التنباك)، وفيه أنَّ الأحلام لا تكون شواهد الأحكام باتفاقِ علماء أهل الإسلام، وما ورد من قولهم (عليهم السلام): "مَنْ رآنا فقد رآنا" ليس فيه دلالة إلاّ على رؤيا من رأى صورهم على ما هي عليه، على أنّه قد يقع الاشتباه في المنام في فهم الكلام ثمّ إنّها معارضة برؤيا شيخنا الفتوني (رحمه الله) فقد نُقِلَ أنّه رأى الصاحب (عليه السلام)، (الإمام المهدي عجّل الله فرجه الشريف) في مجلس وبيده قليان (غليون) على نحو ما عند العجم يشرب به فانتزعه من فمه الشريف وسلّمه إلى الشيخ (دلالة على جواز التدخين)، ورؤيا شيخنا المقدّس الشيخ حسين الحمايسي، فإنّه نقل لي أنّه رأى نفسه في المنام داخل الروضة الشريفة الحسينيّة قال: فبينما أنا واقف إذ رأيت سيّد الشهداء (عليه السلام) قد خرج من الضريح المبارك فأوّل ما خطر في بالي أن أسأله عن شرب دخان التنباك هل هو حرام أو حلال، فقال في الجواب: "حلال لكنّا لا نشربه" الحقّ المبين، ص 82 ـ 83 الطبعة الحجرية.
(1) بحار الأنوار، ج 7، ص 121.
(1) في رمضان 1416 هـ ، انتشرت في بيروت ظاهرة "الخِيَم الرمضانية" وقد أُنشئت هذه الخِيَم لتقام فيها سهوات الغناء تحت حُجّة "الترويح عن الصائمين"، حيث استفزّت مشاعر المؤمنين لما كان يتخلّلها من تصرُّفات لا تتناسب وحرمة الشهر الشريف.
(1) مع افتتاح مسجد الإمامين الحسنين (عليهما السلام) في حارة حريك، الضاحية الجنوبية من بيروت بتاريخ 29 ذي الحُجّة 1416 هـ الموافق 17/5/1996م، تكثَّفت فيه النشاطات التبليغية والثقافية التي يرعاها سماحة السيّد (رضوان الله عليه) والتي يحضرها جمهور كثيف من المؤمنين، ومن النشاطات السنوية إحياء ليالي القدر المباركة التي بدأ إحياؤها في رمضان 1417 هـ حيث يحضرها عشرات الألوف من الرجال والنساء وكافة شرائح المجتمع على مدى ليالي القدر المباركة.
(1) ظهر هذا المذنّب لأول مرّة سنة 1835م.
(1) الكافي، ج 2، ص 470.
(2) بحار الأنوار، ج 93، ص 300.
(1) دعاء الإمام زين العابدين (عليه السلام) في التفزّع ـ الصحيفة السجّادية.
(1) وهي مناجاة مرويّة عن الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، وهي موجودة في كتب الأدعية المعتبرة.
(2) بحار الأنوار، ج 58، ص 39.
(1) بحار الأنوار، ج 98، ص 226.
(1) يقول سماحة السيّد (رضوان الله عليه): "إنَّ الدعاء حاجة ذاتية طبيعيّة للإنسان المؤمن بالله، يحسّ بها في
داخله تماماً، كما يحسّ بلذعة الجوع عند حاجته إلى الطعام، وحرارة العطش عند حاجته إلى الماء، فهو جوع الإنسان للحنان، وللسلام الذي يملأ قلبه بالحياة، وروحه بالنور.. فهناك حالات يشعر الإنسان فيها ـ أمام قسوة الحياة، وضغط المشاكل وتراكم الأزمات الداخلية والخارجية ـ أنّه بحاجة إلى التعبير عن الآلام التي تمزّق ذاته، والمشاعر التي تجيش في نفسه، دون أن يجرح كبرياءه، أو يهدر كرامته.. وهنا يأتي دور الدعاء الذي يسمح للإنسان أن يتنفَّس بكرامة ومحبّة، وللروح أن تنطلق بعزّة وحنان فيفتح قلب الإنسان على ربّه، وينطلق بروحه إلى الله حيث السلام والطمأنينة، والحياة الوادعة الرضيّة المطمئنّة التي تجعل الإنسان يغفو على هدهدات الأمل، عبر لفتات الرحمة، ونبضات الرضوان.. إنَّ الإنسان يتحوّل ـ آنذاك ـ إلى طفل في روحه، يعيش طفولة الروح بكلّ بساطتها، وصفائها، وعفويّتها وتمرّدها الساذج عندما يجلس بين يديّ الله في إيمان محبّب، وديعٍ واثقٍ بالفوز، مطمئن للفَرَج" من كتاب (قضايانا على ضوء الإسلام)، ص 320 ـ دار الزهراء ـ بيروت ـ الطبعة السادسة 1405 هـ ـ 1985م.
(2) دعاء السَّحَر للإمام زين العابدين (عليه السلام) المعروف بدعاء أبي حمزة الثمالي.
(1) جاء في "من وحي القرآن"، ج 24، ص 290 لسماحته: "أمّا مجيء الله إلى أجواء القيامة كما يجيء الملك في الوضع المتجسّد المحسوس فهو أمرٌ غير متصوَّر، لأنَّ الله {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيء} [الشورى: 11]، ولذلك، فلا بدّ من حمله على أمر الله، أو هيمنته وإشرافه على الوضع كلّه، ممّا يجعل من حضوره الذي يوحي به المجيء حضوراً معنوياً باعتبار أنّه أقوى حضور، فهو في عالم الغيب أعظم من كلِّ موجود في حضوره في عالم الحسّ، ويقف الملائكة صفّاً صفّاً في وقفة استعداد لتلقّي أمر الله فيما يعهده إليهم من المهمّات في يوم القيامة.
1) ـ (2 المختصر والمطوّل من الكتب البلاغية المطوّلة التي كان يدور عليها رحى الدراسات الحوزويّة القديمة، وهما شرح على كتاب (تلخيص المفتاح في علوم البلاغة) وأحدهما اختصار للآخر، وكلاهما من وضع العلامة التفتازاني وهو لغوي وُلِدَ في تفتازان (خراسان) وتوفي في سمرقند عام 1389 للميلاد.
(1) السيد عبد الهادي الشيرازي (قدّس سرّه)، 1305 هـ ـ 1382 هـ، ولد في سامراء وهاجر إلى النجف الأشرف، ودرس على كبار أساتذتها، وقد نشط في التدريس وبرع حتى أصبح واحداً من أعلام الإمامية، كما تصدّى للتقليد والمرجعيّة بعد وفاة السيّد أبي الحسن الأصفهاني (قدّس سرّه) وقد كان تحفّظ أولاً إلى أنَّ إلحاح كثير من المؤمنين فرض عليه أن يطبع رسالته العملية، ثمّ اتّسعت مرجعيّته بمرور الأعوام حتى أصبح واحداً من المراجع الكبار في العالم الإسلامي، وممّا يجدر ذكره أنَّ لسمعته التقوائية أثراً في إكساب شخصيّته مزيداً من الأهمية، وقد ترك عدّة مؤلّفات (موسوعة النجف الأشرف، ج 12، ص 9) وكتاب (نقباء البشر من طبقات إعلام الشيعة)، ج 3، ص 1250، وص 1255.
(2) يقول سماحة السيّد (رضوان الله تعالى عليه): "... وهكذا، كنّا نتنفَّس الشعر، وبالتالي ، تأثّرت بهذا الجوّ (جوّ النجف الأشرف العلمي والأدبي) ولم أعرف نفسي إلاّ شاعراً، فقد نظمت الشعر وأنا في سنّ العاشرة.. وأذكر بعض الأبيات التي قلتها وأنا في العاشرة من عمري:
والدين وهو عقيدة شعَّت على أُفق الوجود
ومبادئ توحي لنا روح التضامن والصمود
عرّفتنا فيه الحياة بما حواه من البنود
وأريتنا أنّ الإخاء من الهدى بيت القصيد
وأذكر أنّني جئت لبنان أوّل مرّة في سنة 1952م لزيارة أقاربي، إذ أنّني ولدت في العراق، وكنت في نحو السادسة عشرة أو السابعة عشرة من عمري آنذاك، وصدُف أن كان ثمّة مناسبة، هي وفاة المرحوم السيّد محسن الأمين، وهو من العلماء الكبار المعروفين، فأقيم له احتفال أربعيني ضخم في بيروت في شارع قصقص، وكان بين الحضور شخصيات كبيرة، صحافية وإسلامية وسياسية. وقد ألقيتُ قصيدة هناك، ولفتت حداثة سنّي الأنظار، وكان ضمن هذه القصيدة أبيات تدعو إلى الوحدة الإسلامية، أذكر منها:
فالمسلمون لبعضهم في الدين كالصرح المشيد
لا طائفية بينهم ترمي العقائد بالجحود
والدين روح برّة تحنو على كلِّ العبيد
تهفو لتوحيد الصفوف ودفع غائلة الحقود
عاش الموحِّد في ظلال الحقّ في أُفق الخلود
اقتطعنا هذا النصّ من كتاب (مرجعيات) الإسلام وفلسطين حوار شامل مع السيّد محمد حسين فضل الله أجرى الحوار محمود سويد، مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة ـ الطبعة الأولى، الطبعة الأولى، ت2/1995م.
(2) السيّد أبو الحسن الأصفهاني (قدّس سرّه) 1284 هــ ـ 1365 هــ ، عالم جليل ومرجع عام للإمامية في عصره، يُراجع طبقات أعلام الشيعة، نقباء البشر، ج1، ص 41.
(3) الميرزا السيّد علي القاضي 1285 هـ ـ 1366 هـ ، من أعلام المعقول والعرفان في النجف الأشرف في عصره، درس على السيّد أحمد الكربلائي، راجع موسوعة النجف الأشرف، الجزء الثاني، ص 87.
(1) الشيخ صدرا البادكوبي (1316 هـ ـ 1392 هـ)، من أبرز أساتذة الفلسفة في النجف الأشرف في هذا العصر، وقد مارس تدريس الفلسفة في الحوزة العلمية في النجف لأكثر من أربعين عامً، ولم يتوقّف عن ذلك حتى وفاته، وكان سماحة السيّد فضل الله، والشهيد السيّد محمد باقر الصدق (قدّس سرّه) من تلامذته. تميَّز بخلقه الرفيع وتواضعه الجمّ، توفي في 11 شعبان 1392 هـ، ودفن بوادي السلام في النجف الأشرف، وله تعليقات على بعض الكتب الفلسفية (موسوعة النجف الأشرف، ج 8، ص 96).
(2) الشيخ محمد حسين الأصفهاني بالكمباني (1296 ـ 1361 هـ)، فقيه أصولي، فيلسوف متبحّر في علوم المعقول، وكان تدريسه للأصول يمتزج بالفلسفة حتى يغدو البحث بحثاً فلسفياً خالصاً، ويخرج عن كونه أصولياً، وقد درَّس المنظومة درساً خاصاً لتلميذه السيّد الخوئي (قدّس سرّه)، له مؤلّفات عديدة منها: شرح على الكفاية، اسمه نهاية الدراية (طبقات أعلام الشيعة، ج 2، ص 560) الطبعة الثانية (أوفست عن طبعة النجف الأولى).
(1) يقول سماحته: أعطِ الحريّة للباطل تحجّمه، وأعطِ الحرية للضلال تحاصرها.. لأنَّ الباطل عندما يتحرّك في ساحة من الساحات، هناك أكثر من فكر يواجهه، ولا يفرض نفسه على المشاعر الحميمة للناس، يكون فكراً مجرّد فكر، قد يقبله الآخرون، وقد لا يقبلونه، ولكن إذا اضطهدته، ومنعت الناس من أن يقرأوه، ولاحقت الذين يلتزمونه بشكلٍ أو بآخر، فإنّ معنى ذلك، أنّ الباطل سوف يأخذ معنى الشهادة، وسيكون "الفكر الشهيد" الذي لا يحمل أيّة قداسة للشهادة، لأنَّ الناس تتعاطف مع المضطهدين، لا الناس المطضهِدين.. لذلك نحن نعطي الباطل قوّته، عندما نمنعه حريّته، ولكنّنا عندما نعطيه الحريّة، ثمّ نأخذ حريّتنا في مناقشته بالأساليب العلمية الموضوعية، فإنّه إذا لم يبتعد عن الساحة تماماً، سينكمش وسيأخذ مكاناً صغيراً له في الساحة.. من كتاب (للإنسان والحياة) إعداج شفيق الموسوي، ص 62، دار الملاك، الطبعة الثانية 1418 هـ ـ 1997م.
ويذهب إلى هذا الرأي أيضاً الرئيس الإيراني السيّد محمد خاتمي حيث يقول: "لم يرضَ الإسلام على مدى تاريخه الباهر باستراتيجيّة المنع في الميدان الثقافي والفكري، وإذا كانت هذه الاستراتيجيّة قد مورست يوماً ما، باسم الإسلام بحقّ المجتمع، فإنّها انتهت إلى الهزيمة، ملحقةً أضراراً لا دافع لها.. لقد كان الإسلام يستقبل الأفكار المخالفة والمعارضة بصدرٍ رحب، وكان المفكّرون العظام وأبناء المجتمع يواجهون أفكار الآخرين برحابة صدر وثقة عالية بالنفس، ويستفيدون من محاسنها ويدعون مساوئها تنسحق وتتلاشى في حركة النظام الفكري والقيمي الإسلامي، وبذلك استطاعوا أن يزيدوا من استحكام البنية الفكرية للمجتمع الإسلامي" جريدة السفية 27/5/1997 من كتاب (اللُّجّة): المشهد الثقافي في إيران: مخاوف وآمال، صادر عن دار الجديد ـ بيروت.
(1) نهج البلاغة، الخطبة 132.
(2) بحار الأنوار، ج 1، ص 136.
(1) بحار الأنوار، ج 73، ص 378.
(1) وقد ورد ذلك أيضاً عن الإمام الصادق (عليه السلام) المستدرك ج 8، ص 329.
(1) الكافي، ج 2، ص 87.
(2) الكافي، ج 1، ص 41.
(1) بحار الأنوار، ج 91، ص 264.
(1) يقول سماحته (رضوان الله عليه): ".. وهكذا، فإنّني أنصح للشباب المسلم أن يأخذ بأسباب العلم والمعرفة، لأنَّ الصراع بيننا وبين الآخرين صراع حضاري. نحن نريد أن نكون مسلمين، نعيش الحضارة الإسلامية التي تتفاعل مع كلّ الحضارات بما لا يتنافى مع مبادئها. نحن نعتبر أنّ قوّة العلم هي القوّة التي يمكن أن تتحوّل إلى قوّة عسكرية واقتصادية وثقافية وأمنية، وما إلى ذلك. من لا يملك علم الحياة بكلّ فنونها لا يستطيع أن يتّخذ لنفسه موقعاً متقدّماً في ساحات الحياة. لذلك أطلب منهم أن يأخذوا بأسباب العلم، وأن يرتفعوا إلى أعلى درجاته من خلال إمكاناتهم.. وبالتالي، فإنَّ عليهم أن يعرفوا بأنَّ الحياة هي حركة حريّة بقدر ما هي حركة عدالة، وعليهم وهم ينفتحون على الله أن يعيشوا مع الله صفة القويّ العزيز العادل الرحمن الرحيم، انطلاقاً من الحديث النبويّ الشريف: "تخلَّقوا بأخلاق الله". علينا أن ننطلق لنكون الأقوياء، لأنَّ هذا عالم لا يحترم إلاّ الأقوياء، علينا أن ننطلق لنكون العلماء، لأنّ هذا عالم لا يمكن للجهلاء أن يجدوا مكاناً فيه. علينا أن ننطلق لنكون الأعزّاء الأحرار، لأنّ الذين يعيشون الذلَّ والعبودية ستسحقهم أقدام الفاتحين كلّهم، وإذا كان الله هو الرحمن الرحيم، فعلينا أن نكون الرحماء حتى ننفتح على الله وننفتح على الإنسان من خلال الله" (الإسلام وفلسطين) حوار شامل مع السيّد محمد حسين فضل الله، أجرى الحوار محمود سويد ـ مؤسّسة الدراسات الفلسطينية ص 62 الطبعة الأولى ت2، 1995م.
(1) نهج البلاغة، ج 26، ص 84.
(1) نهج البلاغة، ج 16، ص 62.
(1) للإطّلاع على نماذج من هذه الاختلافات، يُراجع كتاب (تصحيح اعتقادات الإمامية) للشيخ المفيد محمد بن محمد بن النعمان (رضي الله عنه) المتوفّى 60 هـ، الذي انتقد فيه عقائد شيخه الصدوق أبي جعفر محمد بن عليّ بن بابويه (رضي الله عنه) المتوفّى سنة 371 هـ، دار المفيد ـ بيروت، الطبعة الثانية 1414 هـ ـ 1993 م.
(1) بحار الأنوار، ج 1، ص 213.
(1) بحار الأنوار، ج 44، ص 383.
(1) تمّت الزيارة في آب 1997م.
(1) بحار الأنوار، ج 27، ص 89.
(2) بحار الأنوار، ج 27، ص 95.
(1) بحار الأنوار، ج 71، ص 344.
(1) هاؤم، خذوا.
(1) الكافي، ج 1، ص 78.
(1) يقول سماحته: "وهكذا يبقى الإنسان في كَبَد عندما يريد أن ينال رضا الله، فيما يبذله من نفسه وماله وفكره وحياته في سبيل تحقيق الأهداف الكبيرة التي يحبّها الله ويريد له أن يَبْلُغَها، أو يتحرّك في الطريق التي تتّجه إليها، أو فيما يعمل على تأكيد فكره ليبلّغه للناس، وليتحمل كلّ النتائج السلبيّة التي تصيب ذاته في سبيل ذلك، وليعيش واقع الصراع الفكري كما يعيش في واقع الصراع السياسي والعسكري من أجل أن يحقّق قوّته، وللواقع السياسي والعسكري امتداده وثباته واستمراره.
إنَّ الكدح في سبيل الحياة، ومعاناة الآلام الكبيرة من أجل الأهداف، ومقاساة الأتعاب الشديدة والجهد القاسي في الطريق إلى إبقاء الحركيّة في خطّ المسؤولية.. هي الحقيقة الوجوديّة التي يعيشها الإنسان في كلِّ أوضاعه وفي كلّ مراحله.. حتى يموت، فبالجهد يُولد، وبالجهد يعيش ويموت.. وهذه هي قضية خلق الإنسان على الطريقة التي يريد الله له فيها أن يعيش المسؤولية، ليعتبر الحياة كدحاً مسؤولاً، لا استرخاءً عبثيّاً، وليعيش الإحساس بالقدرة الإلهيّة التي صاغت وجوده على طريقتها، وتريد منه أن يستشعر هيمنة القدرة عليه في كلّ مواقع ذاته وحركته". (من وحي القرآن)، ج 24، ص 304 ـ 305، دار الزهراء ـ بيروت.
(1) شرح نهج البلاغة، ج 6، ص 340.
(1) يقول سماحته: العطاء هو إحدى القِيَم الإنسانية التي أراد الله للإنسان أن يعيشها في حياته كخُلُق أصيل من سمات الشخصية التي يتّصف بها بحيث تصدر منه المواقف بشكل عفويّ، فيعطي الإنسان لأنّه يُحسّ بالحاجة إلى ذلك من خلال إنسانيّته التي تدفعه إلى ذلك.. وإذا أعطى فإنَّه لا يختار الأشياء التي تعافُّها (ترفضها) نفسه ويكرهها طبعه فيمنحها للآخرين، لأنَّ ذلك ليس مظهراً للعطاء، بل هو وسيلةً من وسائل التخلّص من هذه الأشياء باسم العطاء.. بل يختار الأشياء التي يحبُّها ويريدها ممّا هو أُثيرُ عنده وقريبٌ إلى حاجاته وضروراته، فإنَّ ذلك يحمل معنى التضحية التي يتمثّل فيها روح العطاء السمح بأعلى مظاهرها.. وقد جاء في مجمع البيان، أنَّ عليّاً (عليه السلام) اشترى ثوباً فأعجبه، فتصدّق به وقال: "سمعت رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) يقول: من آثر على نفسه أثره الله يوم القيامة بالجنّة، ومَنْ أحبَّ شيئاً فجعله لله، قال الله يوم القيامة: قد كان العباد يكافوك فيما بينهم بالمعروف وأنا أكافيك اليوم بالجنّة" وعن الحسين بن عليّ والصادق (عليهما السلام) أنَّهما كانا يتصدّقان بالسُّكر ويقولان: إنّه أحبّ الأشياء إلينا، وقد قال الله تعالى: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران : 92] من وحي القرآن، ج 6، ص 94 ـ 95.
(1) يقول سماحته: وهؤلاء موجودون ـ الأخسرون أعمالاً ـ في كلِّ زمان ومكان. في أحد فريقين: الفريق الأول: الناس الذين يخضعون للتوجيه السيّء، والتخطيط الشرّير، فيحملون الفكر الشيطاني في حركة العقيدة ومنهج الحياة في أجواء الخديعة والتضليل، فيقدّسونه ويعظّمونه ويرون فيه الخلاص كلّ الخلاص، والنجاح كلّ النجاح، لأنّهم عاشوا تحت ضغط هذا الفكر وفي دائرة الحصار النفسي التي أحاطت بهم من كلّ جانب، فلم تترك لهم نافذة يُطِلُّون منها على الاحتمال المضادّ، والفكر الآخر.
الفريق الثاني: الناس الذين يعرفون الحقّ ولكنّهم يتمرّدون عليه، ويعملون على أساس الانحراف عنه، لأنَّه لا يتّفق مع أطماعهم، ولا يخضع لشهواتهم، ولا يحقّق لهم امتيازاتهم في الحياة، ولذلك فهم يحاولون أن يلتمسوا لأنفسهم طريقاً آخر، ويحملوا في أفكارهم فكراً آخر.. يتكلّفون فيه الإيحاء لأنفسهم لإقناعها بأنّه سبيل النجاة، لأنّه يحقّق لهم أمانيهم وأحلامهم في الحياة الرخيّة السعيدة، والعيش العزيز الكريم، ويبقون يلفّون ويدورون حتى تتعمّق الفكرة في داخل قناعاتهم من موقع الغفلة العميقة عن حركة الحقيقة في داخلها.. وربّما كان الكافرون من هذا الفريق، لأنَّ القرآن لا يجد الكفر ناشئاً من حالة شبهةٍ مضادّة، بل من حالة فكرةٍ متبنّاة من خلال الأهواء والمطامع، وهذا ما أرادت الآية التالية أن تثيره كنموذج لهؤلاء الناس الضائعين الذين يحسبون أنّهم يُحسنون صنعاً {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ} [الكهف : 105] من وحي القرآن، ج 14، ص 419 ـ 420 دار الزهراء ـ بيروت.
(2) بحار الأنوار، ج 70، ص 72.
(1) النفخ: أي أنَّ الله بعد أن سوّى الإنسان جعله ذا نَفْس حيّةٍ إنسانية (مختصر الميزان في تفسير القرآن).
(1) وذلك عندما أمره الله بذبح ولده إسماعيل (عليه السلام) فقال سبحانه: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات : 102].
(1) يقول سماحته: "أكَّد الله سبحانه عليهما ـ على موسى وهارون ـ في اختيار الأسلوب اللّين في الكلمة والجوّ، والابتعاد عن طبيعة الإثارة في ذلك {فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً} [طه : 44] لا خشونة فيه ولا عنف ولا إثارة {لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ} عندما يقوده الأسلوب الحكيم إلى التفكير {أَوْ يَخْشَى} عندما يثير شعورَه الإحساسُ بالخوف أمام قضية المصير فيما ينتظره من عذاب الله.. وربّما يكون التحدّث عن الغاية بكلمة "لعلَّ" التي توحي بالترقّب لحصول التذكّر والخشية، انطلاقاً من دراسة طبيعة تأثير الأسلوب في هذه النتيجة من ناحية موضوعيّة، بعيداً عن الجانب الذاتي الخاص في الشخص المدعوّ، فإنَّ الأساليب الرقيقة الهادئة التي تتعامل مع الأشخاص من موقع الدراسة الواعية لكلّ العوامل المؤثّرة في أفكارهم ومشاعرهم، لا بدّ أن تؤدّي إلى ذلك بنتيجة كبيرة. وعلى هذا الأساس، فإنّ المسألة لا تخرج عن طبيعتها بوجود بعض العوامل في حياة هذا الشخص أو ذاك، لأنَّ المبدأ يبقى قائماً في علاقة النتائج بالمقدّمات بالنسبة الغالبية.. وقد لا يرد في هذا المجال الإعتراض الذي يقول كيف يقدّم الله المسألة بأسلوب الترقّب الذي يعني إمكانية التذكّر والخشية لفرعون، مع أنّ الله يعلم بأنَّ فرعون لا يقبل الانفعال بالكلمات الهادئة الرسالية التي يلقيها موسى وهارون عليه.. إنّ المسألة، في ملاحظتنا للموضوع، هي أنَّ الترجّي كان بلحاظ طبيعة الأسلوب لا بلحاظ خصوصيّة الشخص والموقع. (من وحي القرآن، ج 15، ص 117 ـ 118).
(1) يقول سماحته أيضاً في تفسير هذه الآية: "قال يا قوم ليس بي سفاهة.." لأنَّ للسفاهة مقاييس وعلامات تخضع للاهتزاز في الفكرة أو في الشخصيّة.. فماذا وجدتم في أفكاري من ضعف، وماذا اكتشفتم في شخصيّتي من اهتزاز؟ هل ناقشتم طريقتي في الدعوة، ومنهجي في الفكر، وأسلوبي في العمل. وهل درستم هذه الطروحات التي أطرحها عليكم في آفاق الإيمان؟ إنَّكم لم تفعلوا ذلك كلّه.. فكيف تحكمون بغير هلم.. لقد قالها هذا النبيّ بكلّ روح هادئة عقلانية، توحي إلينا بأنّنا إذا كنّا نتحرّك في أجواء الدعوة إلى الله، فإنَّ علينا أن نواجه أسلوب السباب والإتّهام اللامسؤول، بالأسلوب الهادئ الذي يعمل على إثارة التفكير في عقول هؤلاء الشاتمين والمتّهمين، فإنَّ ذلك قد يتحوّل إلى صدمة عقلانية تقودهم إلى الموضوعيّة في حكمهم على الأشياء والأشخاص الذين لا يشعرون بأنّهم يتحرّكون من مواقع ذاتية، فيما يواجههم من ردود الفعل السلبيّة القاسية، بل يتحرّكون من موقعٍ رساليّ لا يتشنَّج ولا يتعقَّد، بل ينتظر تحطيم مقاومة هؤلاء الناس الضالين، بالإصرار على الموقف الهادئ الذي يدفعهم في نهاية المطاف إلى احترام الفكرة الهادئة من خلال احترامه للعقل الهادئ الذي يوحي به الموقف الرساليّ الواعي. (من وحي القرآن، ج 1، ص 98).
(1) بحار الأنوار، ج 70، ص 338.
(1) بحار الأنوار، ج 16، ص 235.
(1) الحيوان: المصدر والحياة الدائمة الكاملة، وفي الأصل الحيوان، كلّ ما فيه حياة (القاموس العصري للقرآن الكريم).
(1) نهج البلاغة، قصار الحكم، 330.
(2) الذَّرَب: السليط اللّسان (معجم متن اللغة).
(3) نهج البلاغة، قصار الحكم 411.
(1) وسائل الشيعة، ج 2، ص 433.
(2) رفاتاً: التراب. وقال المبرّد: كلّ شيء مدقوق مُبالَغٌ في دقّه حتى انسحق، فهو رفات (التبيان للشيخ الطوسي المجلّد السادس، ص 486).
(1) بحار الأنوار، ج 100، ص 96.
(1) نهج البلاغة، ج 18، ص 344.
(2) بحار الأنوار، ج 67، ص 111.
(3) بحار الأنوار، ج 70، ص 209.
(1) بحار الأنوار، ج 47، ص 54.
(1) بحار الأنوار، ج 8، ص 38.
(1) نهج البلاغة، قصار الحكم 439.
(2) نهج البلاغة، الكتاب 66.
(1) بحار الأنوار، ج 2، ص 94.
(1) بحار الأنوار، ج 93، ص 378.
(1) التهذيب، ج 6، ص 135.
(2) التهذيب، ج 4، ص 186.
(3) بحار الأنوار، ج 78، ص 82.
(1) وسائل الشيعة، ج 12، ص 274.
(1) بحار الأنوار، ج 21، ص 279.
(1) جاء في القرآن الكريم: {فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران : 61].
المباهلة: قيل في معنى الابتهال قولان: أحدهما، الإلتعان: بهله الله أي لعنه وعليه بهلة الله، الثاني (نبتهل) ندعو بهلاك الكاذب (تفسير التبيان: الطوسي المجلّد 2، ص 485)، مؤسّسة الأعلمي للمطبوعات ـ بيروت.
(2) يقول سماحته (دام ظلّه).
إنَّ فاطمة (عليها السلام) وهي ابنة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلّم) كانت في الوقت نفسه، لا تترك دقيقة من وقتها، إلاّ وتحرّكها من أجل القيام بمسؤوليّتها، ولهذا، فإنَّ علينا أن نفكّر في الحياة بأنّنا مخلوقون للعمل وللمسؤولية، لنجعل كلّ عمل وطاقة من طاقاتنا في خدمة الله وفي خدمة الناس، وفي خدمة الحياة.. من فاطمة (عليها السلام) نتعلَّم أنّه عندما يكون الإنسان في موقع متقدّم في المجتمع، فليس له أن يعيش بعيداً عن مسؤوليّته.. نتعلّم من فاطمة (عليها السلام) التي عاشت كلّ وقتها، وصرفت كلّ جهدها، وعاشت كلّ دورها، وانفتحت على ربِّها، وعلى الإسلام، وعلى الرسالة، وعلى حياتها الخاصة، ولم تَدَعْ جانباً يطغى على جانب، نتعلّم كيف نكون قريبن إلى الله.. وكيف نكون منفتحين عليه.. وكيف نجعل حياتنا في خدمة الله.. وفي خدمة الإسلام، (في رحاب أهل البيت) إعداد السيّد سليم الحسني، ص 230 ـ 231 ـ دار الملاك ـ بيروت ـ الطبعة الثانية.
(1) يقول السيّد الأمين (قدّس سرّه): "وجزم بتشيّعه الأستاذ ماسينيون المستشرق الإفرنسي، ونحن نوافق على استظهار تشيّعه" أعيان الشيعة، المجلّد الثاني، ص 515 ـ دار التعارف للمطبوعات ـ بيروت.
(1) الكافي، ج 1، ص 53.
(1) الأصول العامة للفقه المقارن ـ السيّد محمد تقي الحكيم ـ دار الأندلس، الطبعة الثانية 1979 م، ص 148.
(1) للاطلاع على أطروحة المرجعية والمرجعيّة المؤسّسة لسماحة السيّد فضل الله، يراجع كتاب (آراء في المرجعية الشيعيّة) دار الروضة بيروت 1415 هـ ـ 1994 م، وذلك تحت العنوانين التاليين: المرجعيّة الواقع والمقتضى ص 111. والمرجعيّة الدينية أمام الاتجاهات الفقهيّة ص 305.
(2) في لقاء لآية السيّد الخامنئي (حفظه الله) مع المبلّغين، يقول: إنَّ العصر الحاضر، هو عصر حكم الإسلام، وليس مقبولاً منّا اليوم أيّ عذر، فإن كان عملنا متعثّراً في موضع ما، فإنّنا كنّا نعتذر في عهد الطاغوت (محمد رضا بهلوي) بأنّنا لا نمتلك الوسائل والأدوات لأداء عملنا، أمّا اليوم، فإنَّ علماء الدين لا يمكنهم أن يقولوا ذلك، فإذا لم يؤدّ اليوم وسطنا العلمي والديني، أي هذا الوسط العلمائي عمله حقَّ أدائه في ما يتعلّق بمقتضيات العصر وحاجة البلد والمجتمع والعالم الإسلامي، فإنَّه لا يمتلك عذراً أمام الله، كما أنَّنا لا نمتلك عذراً أيضاً أمام التاريخ، والأجيال القادمة سوف تضع علينا علامات استفهام جديّة (التبليغ والمبلّغون ـ مركز الدراسات والأبحاث الإسلامية)، ص 29.
(1) المرحوم المقدّس السيّد عبد الرؤوف فضل الله: (1325 هـ) فقيه كبير، وعالم أصولي، مجتهد، شاعر، مجيد، له التبحُّر الواسع في علمي الفقه والأصول واللّغة والأدب، مع تضلّع وافر في علمي التفسير والحديث، وهو شاعر رقيق ذو مواهب عالية، وذهنه خصب.. هاجر إلى النجف الأشرف وتتلمذ على الميرزا فتّاح الشهيدي، والسيّد أبي الحسن الأصفهاني، والميرزا محمد حسين النائيني والسيّد عبد الهادي الشيرازي، وبلغ مرتبة عالية من الفضل والكمال، وتصدّى للتدريس، وكان ملازماً لأخيه (المرحوم المقدّس السيّد محمّد سعيد فضل الله) وبعد وفاة أخيه، عاد إلى جبل عامل، وواصل جهاده العلمي، وتصدّى للإمامة والقضايا الشرعية، وكان على جانب كبير من الورع والزهد والتقوى والعرفان والأخلاق، إلى أن تُوفي (رحمه الله) في سنة 1984 م، ودُفن في النجف الأشرف (أعيان الشيعة، الجزء الثالث من المستدركات، ص 119) و(شعراء الغري) الجزء الخامس، ص 358 (معارف الرجال، الجزء الثالث، ص 188) ونقباء البشر من طبقات أعلام الشيعة، ص 824، (معجم رجال الفكر والأدب في النجف خلاف ألف عام) الجزء الثاني، ص 941.
(1) على أثر ما قام به المرحوم السيّد محسن الأمين (قدّس سرّه) من تنقية المجالس الحسينيّة ممّا هو بعيدٌ عن النهضة الحسينيّة، قام حرّاس التخلّف بشتمه ورميه بكلّ الصفات المذمومة، وعن هذه الفترة كتب الأستاذ جعفر الخليلي (صاحب جريدة الهاتف العراقية): "... والفرق بين السيّد محسن وغيره هو أنَّ السيّد محسن لم يكتفِ بالكتابة والوعظ والإرشاد بل راح يعمل على قدر الطاقة لتنزيه الدين من الشوائب والقضاء على كلّ تعقيد، والعمل على تنشئة جيل صالح منذ أن ذهب إلى دمشق، فتوجّه إلى تأليف كتب أدبية وأخلاقية مدرسية، وتأليف كتب خاصة بتاريخ سيرة الحسين (عليه السلام) وعَرَضَها عرضاً مجرّداً من الشوائب والأكاذيب، لاتّخاذها مصدراً لخطباء المنابر الحسينيّة، ثمّ عمل لقيام المدرسة المحسنيّة في دمشق، وأوّل عمل قام به هو تحريم الضرب بالسيوف والسلاسل في يوم عاشوراء ومقاومة الذين يستعملون الطبول والصنوج والأبواق وغيرها.. فكان هذا أوّل عمل اتّخذ منه مخالفوه لذريعة مهاجمته.. فبعثت هذه المخالفة في نفس السيّد محسن روحاً جديدة زادته حماسة وثورة في وجه القائلين بجواز الضرب بالسيف على الرؤوس في يوم عاشوراء فأصدر (رسالة التنزيه).. واتّجه الجميع إلى كبار العلماء يستفتونهم في أمر الضرب بالسيف، فأفتى المرحوم السيّد أبو الحسن الأصفهاني بحرمة الضرب بالسيف، (ووقف بجانب السيّد الأمين) وانقسم الناس إلى طائفتين على ما اصطلح عليه العوام: علويين وأمويين، وكان الأمويون هم أتباع السيّد محسن الأمين".. (ثورة التنزيه إعداد: محمد القاسم الحسيني النجفي ـ ص 58 وما يليها ـ دار الجديد ـ بيروت 1996م).
وكتب الشيخ جعفر المهاجر في جريدة السفير 15/7/1996: ".. لكنَّ الذين أوصلوا المعركة الناشبة في "الشام" إلى مداها وخرجوا بها عن كلِّ ما هو مقبول، هم خطباء المنبر الحسيني في "العراق" فهؤلاء ما إن تلقّوا أصداء السجال الدائر عندنا حتى أطلقوا من على منابرهم حملة قاسية على السيّد الأمين، لم توفّر وسيلة من وسائل التشنيع الخالي من الورع إلاّ ارتكبتها، حتى لقد قال قائلهم:
يا راكباً أما مررت بجلّق فابصقْ بوجه أمينها المتزندق
و(جلَق) دمشق حيث كان يقيم السيّد الأمين، وأمينها (السيّد الأمين).
فلمّا وصل الخبر إلى مسامع جدّنا الشيخ حبيب آل إبراهيم رحمات الله عليه، وكان يومذاك يقيم فيها (مدينة العمارة في العراق) قال للنّاس في مسجد: (في بلدكم مُزِّق القرآن، وفي بلدكم شُتِم السيّد محسن الأمين، يشير إلى ما كان ارتكبه أحد المبشّرين البروتستانت في المدينة قبل سنوات أيام الانتداب الإنكليزي"، ويعلّق الباحث السيّد محمد الحسيني في كتابه: هوامش نقدية ص 117، الطبعة الرابعة 1419 هـ ـ 1998م دار الملاك. "وأين السيّد الأمين وذكره الحسن وأين شاتموه".
(1) لا تقفُ: لا تتبع.
(2) نهج البلاغة: قصار الحكم 360.
(3) يقول الإمام الخميني (قدّس سرّه): "إنّ بعض الرجعيين المتظاهرين بالقدسيّة يعتبرون كلّ شيءٍ حراماً، وليس بوسع أحد أن يقف بوجههم، إنَّ الحرارة التي تجرّعها أبوكم الشيخ ـ يقصد نفسه (قدّس سرّه) ـ من هؤلاء المتحجّرين لم يتجرّعها مطلقاً من كلّ الضغوط والصعوبات الأخرى" صحيفة النور، ج 21، ص 19.
(1) الكافي، ج 2، ص 308.
(2) في كلمة لسماحته في قمّ المقدّسة يقول (دام ظلّه): "إنّنا في الموقع الذي نقف فيه مع كلِّ المسلمين الحركيين في العالم، ومع الجمهورية الإسلامية، ومع القيادة الإسلامية الرشيدة في كلّ المواقف في العالم.. نؤكّد أنّنا سنبقى نقف بكلّ قوّة وبكلّ صلابة، مهما بلغت التحدّيات والمشاكل، ومهما انطلقت الكلمات غير المسؤولة.. فليس عندنا وقتٌ لنردَّ على أحد، أو لنناقش أحداً أو لندخل في جدال مع أحد.. إنَّنا أمُّ الصبي، إنَّنا نقول كما قالت تلك المرأة لنبيّ الله سليمان (عليه السلام) عندما تنازعت مع امرأة أخرى، واحتكمتا إليه، وعندما أراد سليمان بلباقته أن يُظهر الحقيقة، قال: الصلح سيّد الأحكام، تعالوا نقسم الطفل نصفين، لكلٍّ منهما نصف، لأنَّ التنصيف هو مظهر الصلح. وانطلقت أم الولد فزعةً ملتاعة مرعوبةً: أعطها إيّاه، المهم أن يبقى ولدي، وليس من المهم أن يكون عندي، إنّنا على هذا الموقف وسنبقى مستمرّين عليه.. نحن نقول: المهم عندنا ـ أيُّها الأحبّة ـ أن يبقى الإسلام، وأن تبقى الحريّة والعدالة في العالم الإسلامي، المهم أن نبقى أقوياء من أجل مواجهة كلّ الذين يريدون أن يُسقطوا قوّتنا.. أن نبقى أعزّاء ضدّ الذين يريدون أن يذلّونا.. أن نبقى مع قضايانا الكبرى التي يُراد تصفيها الآن من خلال تصفية القضية الفلسطينية، وقضية كشمير، وقضية أفغانستان وكلّ القضايا، نحن مشغولون بالقضايا الإسلامية على كلّ المستويات، فليطمئنوا ولا يحسبنَّ أحدٌ أنّه في دفاعه عن أهل البيت (عليهم السلام) وولايتهم يزايد علينا فهم كلُّ حياتنا، وهم كلُّ روحنا، ونحن أولادهم، ولذلك نتحمَّل كلّ المسؤولية" (مجلّة رؤى ومواقف، الحلقة الثالثة، ص 30 ـ 31، 1417 هـ ـ 1997م، دار الملاك).
(1) في رسالة أبويّة من الإمام الخميني (قدّس سرّه) وهي معروفة باسم (بلسم الروح) إلى ولده السيّد أحمد (رحمه الله) يقول فيها: "بني: أحياناً أرى أنّك تُظهر الانزعاج والقلق من التّهم المؤلمة وترويج الشائعات الكاذبة.. أوّلاً، يجب أن أقول لك.. ما دمتَ حيّاً وتتحرّك ويراك الآخرون منشأ تأثير، فإنَّ الانتقاد والتهمة واختلاق الشائعات ضدّك أمورٌ لا يمكن اجتنابها.. العُقد كثيرة.. والتوقّعات المتزايدة وألوان الحسد كثيرة.. مَنْ كان له دورٌ فاعل حتى إذا كان لله مائة بالمئة فلن يمكنه أن يكون بعيداً عن تجريح أصحاب الأهواء السيّئة. أنا شخصياً أعرف عالِماً جليلاً تقيّاً، لم يكن يُقال عنه طيلة الفترة التي سبقت وصوله إلى رئاسة جزئية إلاّ الخير ـ نوعاً ما ـ وتقريباً كان مقبولاً عند أهل العلم وغيرهم.. بمجرّد أن توجَّهت النفوس إليه وحصل على مكانة دنيويّة، ولو أنّها لا تكاد تُذكر بالنسبة إلى مقامه (المعنوي) أصبح مورداً للتهمة والأذى وأنواع الحسد وغَلَت (مراجل) العُقد ضدّه، وظلَّ حاله كذلك طيلة الفترة التي أمضاها على قيد الحياة" وصايا عرفانية، ص 58 ـ 59 الإمام الخميني ـ بيروت ـ الطبعة الأولى 1998م.
(1) صدرت عام 1379 هـ، وممّا قاله السيّد الشهيد (قدّس سرّه) عنها: "وأمّا واقع (الأضواء) هنا فهو واقع المجلّة المجاهدة في سبيل الله.. وأُسرة الأضواء التي لا غبار عليها وجه من الوجوه موردٌ للاطمئنان الكامل" من كتاب الشهيد الصدر: سنوات المحنة وأيام الحصار: الشيخ محمد رضا النعماني، ص 158.
وبناءً على رغبة بعض المثقّفين جُمِعت مقالات سماحة السيّد فضل الله التي كُتبت في مجلّة (الأضواء) النجفيّة في كتاب واحد، وهو بعنوان: "قضايانا على ضوء الإسلام"، وطُبع الكتاب 7 مرّات وآخر طبعة كانت عام 1416 هـ ـ 1996م، دار الملاك.
(1) إنَّ ضريبة الوعي ضريبة كبيرة يتحمّل صاحبها الكثير من المعاناة بسبب ما يُقدم عليه حرَّاس التخلّف، جاء في كتاب (الشهيد الصدر: سنوات المحنة وأيّام الحصار): "أمّا المشاكل والعقبات التي واجهها (رضوان الله عليه) بعد التصدّي (للمرجعيّة)، فلا تكاد تُحصى بكثرتها وتنوّعها، وبعضها مصدره السلطة، والآخر مصدره المجتمع الذي عاش فيه، وبعض الجهات في الحوزة.. إنَّ أهمّ معاناة كان يعيشها الشهيد الصدر (رحمه الله) هي عدم قدرة الحوزة على استيعابه، وفقدان الفهم الكافي له في مجتمعه، فكان يشعر بغربة قاتلة في ظلّ تلك الأجواء التي جعلته بين الحين والآخر يتمنَّى الموت، كان يقول حينما تتراكم عليه المشاكل الناشئة من هذا الوضع: "لقد بلغت من الكِبَر ما بلغه أبي وأخي، فَلِمَ لا يعاجلني الموت ويريحني". وكان (رضوان الله عليه) صبوراً كتوماً، لا يشتكي، ولكن في بعض الأحيان كان الصبر يعيا أمام عِظَم المشاكل، فتصدر منه تلك الأنّات واللوعات، والله يعلم إلى أيّ مدى كان الهمّ يتصاعد، فيضطر إلى الشكوى، بل أيّ مشاكل كانت تلك التي لا يطيقها ذلك القلب الكبير. كان الشهيد الصدر (رضوان الله عليه) يسعى لأحداث تغيير في كيان الحوزة والمرجعيّة من الأساس، بما يلبّي الحاجات الحاضرة والمستقبليّة، وبما ينسجم مع متطلّبات العصر والحياة، ويحقّق للمرجعيّة والحوزة الحماية الكاملة والاستقرار الثابت... وكان (رحمه الله) حينما تبلغه الاتّهامات والإفتراءات التي تُوجّه إليه من قِبَل بعض الأطراف في الحوزة يقول: "إنَّ السلطة ما استهدفتني من بين المراجع الآخرين إلاّ بسبب ظروفي وأوضاعي الخاصة، وإلاّ فإنَّ هدفها أكبر وأشمل. إنّها استهدفت الوجود العام كلّه، المرجعيّات كلّها، والحوزات كلذها".. لقد عانى السيّد الشهيد (رحمه الله) الكثير ممّا يصعب سرده في هذه المذكرات المبنيّة على الاختصار، إنَّ هناك الكثير ممّا ينبغي أن يُذْكَر ـ وسوف يُذكر إن شاء الله في المستقبل ـ وأتذكّر أنَّ أحد العلماء جاء إلى بيت السيّد الشهيد وكان يتكلَّم بانفعال وعصبيّة ويحاسب السيّد الشهيد على تصدّيه للمرجعيّة، وطبعه للفتاوى الواضحة" (الشهيد الصدر: سنوات المحنة وأيّام الحصار)، ص 174 وما بعدها، الشيخ محمد رضا النعماني.
(1) الصحافي أحمد بزّون.
(1) الاجتهاد الجواهري هو الاجتهاد القائم على أساس علم الأصول وقواعده والتي هي مأخوذة من روايات أهل البيت (عليهم السلام) في مقابل حركة الإخباريين وفي مقابل الجمود على ظاهر الأحاديث والروايات والمعبّر عنهم بأهل الظاهر، وأيضاً في مقابل الأخذ بالرأي والاستحسان والقياس. والمنهج الجواهري نسبةً إلى الشيخ محمد حسن الجواهري المُتوفّى سنة 1266 هـ صاحب (جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام) وهو دورة فقهيّة استدلاليّة كاملة، والكتاب عبارة عن شرح مَزْجي للشرائع.
(2) طهارة الكتابي في فتوى السيّد الحكيم (قدّس سرّه) بحث فقهي استدلالي يستعرض موقف التشريع الإسلامي من الكتابيّين من حيث الطهارة والنجاسة: الشيخ محمد إبراهيم الجنّاتي ـ دار الأضواء ـ بيروت 1406 هـ ـ 1986م.
(3) الشهيد الأوّل (734 هـ ـ 786 هـ) هو الفقيه المحقّق والمجتهد والورع أبو عبد الله شمس الدين محمد بن مكّي المعروف بالشهيد على الإطلاق، وهو من أكبر فقهاء الشيعة، له مؤلّفات كثيرة، منها اللّمعة الدمشقية وغيرها (ترجمة: أعيان الشيعة، ج 10، ص 59 ـ 64).
(1) منهاج الصالحين القسم الثاني ـ السيّد السيستاني ـ دار المؤرّخ العربي، بيروت مسألة 26. وقد جاء في نصّ الفتوى: "يجوز النظر إلى النساء المبتذلات ـ اللاتي لا ينتهين إذا نُهين عن التكشُّف، بشرط عدم التلذُّذ الشهوي ولا الريبة، ولا فرق في ذلك بين نساء الكفّاء وغيرهن، كما لا فرق فيه بين الوجه والكفين وبين سائر ما جرت عادتهنَّ على عدم ستره من بقيّة أعضاء البدن" وكذلك راجع (منهاج الصالحين) السيّد الخوئي مسألة (1232) من كتاب النكاح ـ دار التراث الإسلامي ـ الطبعة الرابعة 1395 هـ ـ 1975م.
(2) العروة الوثقى، ج 2، ص 634 مسألة 27، "يجوز النظر إلى نساء أهل الذِّمّة بل مطلق الكفّار مع عدم التلذُّذ والريبة أي خوف الوقوع في الحرام والاقتصار على المقدار الذي جرت عادتهنَّ على عدم ستره، وقد يلحق بهم نساء أهل البوادي والقرى من الأعراف وغيرهم". وراجع (تحرير الوسيلة) للإمام الخميني ـ المعاملات، طبعة سفارة الجمهورية الإسلامية الإيرانية ـ دمشق مسألة 27، ص 219.
(1) كتاب النكاح، ج 1، ص 59 وما بعدها، دار الملاك ـ بيروت ـ الطبعة الأولى 1417 هـ ـ 1996 م.
(1) فقه الإمام جعفر الصادق: الشيخ محمد جواد مغنية، الجزء الثالث بحث (المكاسب المحرَّمة) دار التيّار الجديد ويُفهم من بحث الشيخ الأنصاري حول المسألة في كتابه الشهير (المكاسب) أنّ حرمة الرسم والنحت وصناعة التماثيل مختصّة بما إذا كان قصد الراسم والناحت محاكاة خلق الله والتشبّه به سبحانه، وأمّا إذا تجرّد الرسم عن ذلك، فلا حرمة عندئذٍ، وإن كان ذلك مجرّد استقراب، ولذا، فالقول بالحرمة لا ينافي القول بالحليّة عندئذٍ، لأنَّ اختلاف الداعي يوجب التعدُّد، فحتى لو قلنا بالحليّة، لكن لو قصد المكلّف من خلال النحت والرسم، أنَّه هو الخالق لصورته، فلا إشكال في الحرمة، لأنَّ هذا الذي يؤدّي إلى روح الوثنيّة.
(1) جاء في إحدى الدراسات أنَّ الختان عُرْفٌ إفريقي انتقل إلى جماعات إسلامية من العام 742 م، فطبَّقته على أكثر من 100 مليون امرأة في جنوب الصحراء الإفريقيّة، وكان يمكن أن يطبّق بهدوء، على مئة مليون إمرأة أخرى هناك لولا صدى صرخات الرعب التي أطلقتها الطفلة المصرية علاء حمزة طوال دقيقتين على يد أحد الحلاقين وبدأ الدم ينزف منها بغزارة. (وقد تمَّ عرض ذلك على شبكة C.N.N) وعقبت ذلك سيول من المواقف التي تعارض أو تؤيّد ختان المرأة، ووسط كلّ تلك المواقف يبدو أن البلاد الإفريقية الحارة لن تتخلّى بسهولة عن العادة التي طبَّقتها مئات الأعوام.. والغريب أنَّ الفتيات الإفريقيات ينتظرن يوم إجراء العمليّة لهنَّ رغم الألم الجسدي والنفسي اللّذين يتعرَّضن لهما. وتضيف الدراسة أنّ 6 آلاف أنثى يختنَّ يومياً في العالم، فيخضعن لمبضع ينزع أجزاءً لها دورها الوظيفي في جهاز المرأة التناسلي، ويترك في الضحية ألماً نفسياً وجسدياً لا يُمحى (مجلّة النجوى الصادرة بتاريخ 11/8/1997 م).
(2) فقه الحياة، مؤسّسة العارف، الطبعة الثالثة، 1418 هـ ـ 1997 م، ص 216.
(1) الكافي، ج 5، ص 347.
(1) نهج البلاغة، ج 18، ص 230.
(1) صراط النجاة، ج 2، دار المحجّة البيضاء الطبعة الأولى، 1416 هـ ـ 1996 م، مسألة 962، ص 307 ومسألة 968 ص 308.
(2) جامع المدارك، ج 3، ص 27 وما بعدها.
(1) صراط النجاة، ج 1، دار المحجّة البيضاء الطبعة الأولى 1416 هـ ـ 1996 م، مسألة 1030، ص 375.
(1 - 2) غير باغٍ ولا عادٍ: غير ظالم ولا متجاوز حدّه.
(1) صراط النجاة، ج 2، مسألة 1226، ومسألة 1232، دار المحجّة البيضاء ـ الطبعة الأولى 1416 هـ ـ 1996.
(1) الإملاق: الفقر.
(2) بحار الأنوار، ج 67، ص 314.
(1) ج 3، ص 555، مَنْ لا يحضره الفقيه.
(1) وسائل الشيعة، ج 20، ص 50.
(1) مَن لا يحضره الفقيه، ج 4، ص 400.
(1) محاريب: وهي بيوت الشريعة وقيل هي القصور والمساجد (مجمع البيان ـ الطبرسي ج 8، ص 382 دار إحياء التراث العربي).
(2) جفان كالجواب: صحاف كالحياض التي يُجبى فيها الماء، أي يُجمع.
(3) قدور راسيات: قدور للطعام ثابتات.
(4) دابة الأرض: الأرْضة.
(5) منسأته: عصاه.