تفسير القرآن
الليل / من الآية 12 إلى الآية 21

 من الأية 21 الى الآية 21
 

الآيــات

{إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى* وَإِنَّ لَنَا لَلاَْخِرَةَ وَالاُْولَ* فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى* لاَ يَصْلاهَآ إِلاَّ الأَشْقَى* الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى* وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى* الَّذِي يُؤْتِى مَالَهُ يَتَزَكَّى* وَمَا لاَِحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى * إِلاَّ ابْتِغَآءَ وَجْهِ رَبِّهِ الاَْعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} (12ـ21).

* * *

معاني المفردات

{تَلَظَّى}: تتلهَّب.

{وَتَوَلَّى}: أعرض.

* * *

إن علينا للهدى

{إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى} فنحن نصوغ شخصية الإنسان صياغة عقلانيةً بحيث ينفتح بعقله على كل قضايا العقيدة من موقع انفتاحه على الحقيقة، ليهتدي بذلك إلى المنهج الحق إذا استعمل عقله وحرَّكه في اتجاه التفكير في مواجهة الشبهات، أو في حل المشاكل الفكرية التي يثيرونها ضد العقيدة الحقة، أو في الإجابة عن كل علامات الاستفهام في هذا الاتجاه. فالعقل هو الذي يمثل الرسول الداخلي الذي يدعو الناس إلى الله، وهو الذي يمثِّل الحجة التي يحتج بها الله على عباده، في حين يتصدى الوحي إلى معالي القضايا التي لا يستقل العقل بإدراك تفاصيلها، أو لا يملك الوسائل للوصول إليها، لتكتمل للإنسان، بالعقل والوحي، عملية هدايته.

وهذا هو الأقرب في المراد من تكفُّل الله للناس بالهداية، فلا مجال للاعتراض على الآية بأنها دالّةٌ على الجبر، باعتبار أن مفادها هو أن الله جعل الهدى عليه، بمعنى أنه يلتزم حصول الهداية للناس بإرادته التي لا تتخلف عن مراده، لأن المسألة هي تهيئة أسبابها التي إذا أخذ الناس بها من ناحية الفكر اهتدوا بها من موقعٍ الاختيار الحرّ، وإذا لم يأخذوا بها ضلّوا، وفي كلا الحالين، فإن الله قد أعطى للعقل هداه وللناس هدايتهم.

* * *

الأولى مزرعة الآخرة

{وَإِنَّ لَنَا لَلآَْخِرَةَ وَالأولَى} فهو الذي خلق هذه وتلك، وهو الذي جعل من الأولى مزرعةً للآخرة، ودبّر لهذه نظامها، ولتلك أوضاعها، وجعل للمحسن في الدنيا ثوابه في نعيم الجنة في الآخرة، وللمسيء فيها عقابه في عذاب النار في الآخرة. وفي ضوء ذلك، لا بد للإنسان من أن يتوكّل على الله، ويعمل للحصول على رضاه من خلال عمله، ويتطلع إلى الحصول على ثوابه في الآخرة.

{فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى} وتشتعل بلهيبها المحرق {لاَ يَصْلاهَآ إِلاَّ الأَشْقَى} الذي بلغ الذروة في شقوته من خلال عمق التنكر لربه، والتمرد على رسله، هذا {الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} لأنه يعيش أجواء الرفض للرسالة قبل أن يستوعب فكرها ومنهجها وشريعتها، من خلال رفضه للالتزام بالاستقامة في الخط، لأنه يريد أن يأخذ حريته في السير وفق هواه، ما يجعل من تكذيبه للرسول وإعراضه عن الرسالة معنى في العقدة الذاتية المستحكمة، لا خطّاً في الفكر المضادّ، لأن المفكر لا يعرض عن أيّة فكرة، بل يُقبل على الدخول في نقاشٍ حولها، ليكون قبوله عن وعي، ورفضه عن موقف للفكر في نتائج الحوار. وإذا كانت العقدة الخبيثة تتحول إلى حالة عدوانية في السلوك، فإن من الطبيعي أن يكون مصيره صورةً لعمله، فإن الذي يهيّىء النار الحاقدة في الشعور ضد الإيمان والمؤمنين، لا بد من أن يلتقي في الآخرة بالنار التي أعدها الله للكافرين.

* * *

وسيجنّبُها الأتقى

{وَسَيُجَنَّبُهَا الاَْتْقَى} الذي بلغ الدرجة العليا في تقواه من خلال إيمانه بربه وطاعته له، والتزامه بخطِّه المستقيم، ونهجه القويم، وانفتاحه على آلام الناس المحرومين واهتمامه بحاجاتهم، في ما أعطاه الله من نعمه {الَّذِي يُؤْتِى مَالَهُ يَتَزَكَّى} فهو يمنح ماله لهؤلاء لأنه يريد أن يصل إلى التزكية الروحية التي تطهِّر كيانه من كل خبثٍ ومن كل بخلٍ، ليبلغ بذلك الدرجة العليا عند ربه، لأنه لا يتطلع إلا إلى الله في كل أعماله وأقواله، {وَمَا لأِحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى} فهو لا يرى لأحدٍ فضلاً عليه في أيّة نعمة من نعمه، ولذا فإنه لا يرى نفسه معنيّاً بتقديم أيّة خدمةٍ لأيِّ إنسانٍ ليتقرب إليه، ليحصل على رضاه، {إِلاَّ ابْتِغَآءَ وَجْهِ رَبِّهِ الاَْعْلَى} فهو يعمل كل ما يعمله، ويقوم بكل ما يقوم به من فروض الطاعة والعبادة ابتغاءً لوجه الله، وطلباً للحصول على مرضاته في كل شيء.

{وَلَسَوْفَ يَرْضَى} فإن الله يمنح رضوانه للأتقياء الذين يعيشون الحياة كلها خوفاً من الله، ومحبّةً له، وإخلاصاً لمقامه العظيم. وهذا ما ينبغي للإنسان أن يعيشه في وعيه وفي داخل ذاته، ليعرف كيف يحرّك كل نشاطاته في سبيل رضى الله.