تفسير القرآن
العلق / المقدمة + من الآية 1 إلى الآية 5

 المقدمة +من الآية 1 الى الآية 5
 

سورة العلق
مكية، وآياتها تسع عشرة

في أجواء السورة

تحضّ هذه السورة المكية على القراءة باعتبارها السبيل إلى المعرفة، لكن ليس مطلق قراءة، إنما القراءة المسؤولة التي لا تتحرك باسم الذين يحوّلون المعرفة إلى انحرافٍ بالإنسان عن الخط المستقيم، بل تتحرك باسم الله الذي {خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ} حتى حوّله إلى خلقٍ سويٍّ عاقلٍ منفتحٍ على الحياة كلها، باسم الربّ الأكرم الذي يمنح عباده بكرمه كل خيرٍ وبركة، ويقودهم إلى المعرفة بواسطة القلم الذي يكتب كل الوحي الذي ينزل من الله على رسله ليتعلّموه وليحفظوه، ولتحفظ المعرفة مكتوبةً للأجيال. ولكنَّ هناك الذي يطغى إذا حصل على الغنى الذي يؤدي به إلى الشعور بالاستقلال، فلا يفكر بالله الذي يرجع إليه العباد كلهم في الآخرة. كما أن هناك الذي ينهى {عَبْداً إِذَا صَلَّى} فكيف به إذا كان هذا العبد {عَلَى الْهُدَى* أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى}، وكيف به إذا {كَذَّبَ وَتَوَلَّى}، وفي الوقت الذي علم بأن الله يراه.

فلا بدّ له أن ينتهي عن ذلك، وإلا فسنجذبه بناصيته الكاذبة الخاطئة، وليدعُ جماعته إذا أراد، فإننا سندعو زبانية جهنم ليلقوه في النار، فلا يجد ناصراً ولا معيناً، فلا تلتفت إليه ـ يا محمد ـ ولا تطعه في ما يقول، واسجد لربِّك واقترب منه، فإن القرب منه هو الأساس في الفلاح والنجاح.

ــــــــــــــــــ

الآيــات

{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ* اقْرَأْ وَرَبُّكَ الاَْكْرَمُ* الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (1ـ5).

* * *

معاني المفردات

{عَلَقٍ}: العلقة: القطعة الجامدة من الدّم التي تعلق لرطوبتها بما تمرّ به.

* * *

مناسبة النزول

جاء في الدر المنثور: «أخرج عبد الرزاق، وأحمد، وعبد بن حميد، والبخاري، ومسلم، وابن جرير، وابن الأنباري في المصاحف، وابن مردويه، والبيهقي من طريق ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت: أوّل ما بدىء به رسول الله (صلى الله عليه وسلّم) من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلاَّ جاءت مثل فلق الصبح.

ثم حُبِّب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء، فيتحنث فيه ـ وهو التعبد ـ الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزوّد لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارىء، قال: فأخذني فغطّني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: «اقرأ» فقلت: ما أنا بقارىء، قال: فأخذني فغطّني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارىء. قال: فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ*خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ*اقْرَأْ وَرَبُّكَ الاَْكْرَمُ*الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} الآية. فرجع بها رسول الله (صلى الله عليه وسلّم) يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد، فقال: زمّلوني زمّلوني، فزمّلوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: لقد خشيت على نفسي، فقالت خديجة: كلا، والله ما يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكَلَّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق.

فانطلقت به خديجة حتى أتت ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ـ ابن عم خديجةـ وكان امرءاً قد تنصّر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخاً كبيراً قد عمي، فقالت له خديجة: يا بن عم، اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: يا بن أخي، ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله (صلى الله عليه وسلّم) خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس الذي أنزل الله على موسى، يا ليتني أكون فيها جذعاً، يا ليتني أكون فيها حيّاً إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلّم) : أومخرجيّ هم؟ قال: نعم، لم يأتِ رجل قطّ بمثل ما جئت به إلا عودِيَ، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزّراً، ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي»[1].

وروى الطبري بإسناده عن عبد الله بن الزبير، قال:

«قال رسول الله (صلى الله عليه وسلّم): فجاءني ـ وأنا نائم ـ بنمط من ديباج فيه كتاب، فقال: اقرأ، فقلت: ما أقرأ، فغتَّني حتى ظننت أنه الموت، ثم أرسلني فقال: اقرأ. فقلت: ما أقرأ؟ وما أقول ذلك إلا افتداءً من أن يعود إلي بمثل ما صنع بي، قال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ..} إلى قوله: {عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}، قال: فقرأته. ثم انتهى، ثم انصرف عني وهببت من نومي، وكأنما كتب في قلبي كتاباً، قال: ولم يكن من خلق الله أبغض عليّ من شاعرٍ أو مجنون، كنت لا أطيق أن أنظر إليهما، قال: قلت: إن الأبعد ـ يعني نفسه ـ لشاعرٌ أو مجنون، لا تحدّث بها عني قريش أبداً، لأعمدنّ إلى حالقٍ من الجبل فلأطرحنَّ نفسي منه، فلأقتلنّها، فلأستريحنَّ، قال: فخرجت أريد ذلك، حتى إذا كنت في وسط الجبل، سمعت صوتاً من السماء يقول: يا محمد، أنت رسول الله وأنا جبريل. قال: فرفعت رأسي إلى السماء، فإذا جبريل في صورة رجل صافٍّ قدميه في أفق السماء يقول: يا محمد، أنت رسول الله وأنا جبريل. قال: قال: فوقفت أنظر إليه وشغلني ذلك عما أردت، فما أتقدم وما أتأخر، وجعلت أصرف وجهي عنه في آفاق السماء، فلا أنظر في ناحيةٍ منها إلاَّ رأيته كذلك، فما زلت واقفاً ما أتقدم أمامي، ولا أرجع ورائي، حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي حتى بلغوا مكة ورجعوا إليها وأنا واقفٌ في مكاني. ثم انصرف عني وانصرفت راجعاً إلى أهلي..».

* * *

ملاحظات على روايات النزول

ولنا ملاحظات حول هذين الخبرين:

الملاحظة الأولى: إن الروايات مختلفة في نقل صورة البداية للبعثة النبوية، لأن هناك روايات أخرى مختلفة المضمون عن هذين الخبرين، ما يجعلنا لا نثق بأيّ مضمونٍ منها، وقد نلاحظ في الخبر الأول أن لقاء جبريل به كان في اليقظة، بينما هو في الخبر الثاني يتحدث عن أنه كان في حالة النوم.

الملاحظة الثانية: إن حديث جبريل معه في النوم عن الآيات المنزلة لم يكن يوحي بتحوّله إلى شخصية شاعر، أو حدوث عارضٍ من الجنون له، ليعاني ـ في نفسه ـ هذا الهاجس من تقمّصه لهاتين الشخصيتين البغيضتين إلى نفسه، لأن الحلم لا يؤثر أيّ تأثيرٍ سلبيٍّ على حركة الشخصية في الواقع، حتى لو كان هناك ما يوحي بذلك، لأن اختلاف حالة اليقظة عن حالة النوم أمرٌ بديهيٌّ للوجدان الشخصي، ثم ما هو معنى أن تترك هذه المسألة تأثيرها السلبي على نفسه ليقرر أن يلقي نفسه من حالقٍ ليستريح، من دون وجود أيّ شيءٍ حقيقيّ في الواقع، لولا نداء جبريل له، وإرسال خديجة في طلبه؟ وكيف هي صورة الشخصية النبوية التي اختارها الله لرسالته، في هذه الصورة المهزوزة الخائفة التي لا تملك التماسك والثبات!

الملاحظة الثالثة: إن حديث النبي(ص) مع خديجة في خشيته على نفسه من الجنون، وجوابها له في تعداد صفاته التي لا بد من أن يحبه الله من خلالها، يدلّ على أنها كانت أكثر وعياً للمسألة منه، وأكثر معرفة بالله في رعايته لعباده الصالحين، وهذا مما يتنافى مع شخصية النبي المعروفة بالمستوى الكبير من المعرفة التي اكتسبها من تأملاته الروحية في غار حراء ومن ألطاف الله المحيطة به في رعايته له.

الملاحظة الرابعة: إن النبي(ص) كان بحاجةٍ إلى أن يأخذ الثقة برسالته من ورقة الذي هو رجل نصرانيّ، ليؤكد له بأن هذا هو الناموس الذي جاء به موسى(ع)، ولا ندري كيف عرف هذا الرجل هذا الموضوع من خلال حديث النبي له عن تجربته الرسالية التي لا تشبه شيئاً مما حدث لموسى(ع)، ولا توحي بأيّ شيءٍ مماثل، مع ملاحظة أن الاطلاع على التوراة لا يفرض معرفة هذه التفاصيل التي لم تذكر فيها، وما ذكر لا يعدو التبشير به، لا كيفية إرساله.

الملاحظة الخامسة: ما ذكره صاحب مجمع البيان تعليقاً على هذه الأجواء التي ورد ما يشبهها في تفسير سورة المدثر قال: «لأن الله تعالى لا يوحي إلى رسوله إلا بالبراهين النيّرة والآيات البينة الدالة على أن ما يوحى إليه إنما هو من الله تعالى، فلا يحتاج إلى شيءٍ سواها، ولا يفزع ولا يفرق»[2].

وجاء في تفسير الميزان ـ للعلاّمة الطباطبائي ـ تعليقاً على هذه الرواية قال: «والقصة لا تخلو من شيءٍ، وأهون ما فيها من الإشكال، شكُّ النبي(ص) في كون ما شاهده وحياً إلهياً من ملك سماويٍّ ألقى إليه كلام الله، وتردُّده، بل ظنّه أنه من مسِّ الشياطين بالجنون، وأشكل منه سكون نفسه في كونه نبوّةً إلى قول رجلٍ نصرانيّ مترهّب، وقد قال تعالى: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي} [الأنعام:57]، وأيّ حجةٍ بيّنةٍ في قول ورقة؟ وقال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108] فهل بصيرته(ص) هي سكون نفسه إلى قول ورقة؟ وبصيرة من اتبعه سكون أنفسهم إلى سكون نفسه إلى ما لا حجة فيه قاطعة؟ وقال تعالى: {إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ} [النساء:163]، فهل كان اعتمادهم في نبوّتهم على مثل ما تقصُّه هذه القصة؟

والحقّ أن وحي النبوّة والرسالة يلازم اليقين من النبي والرسول بكونه من الله تعالى، على ما ورد عن أئمة أهل البيت(ع)»[3].

* * *

دور ورقة في كتابات بعض النصارى

وقد أثارت هذه القصة الكثير من تعليقات بعض الكتّاب لدى النصارى الذين حاولوا أن يجعلوها شاهداً على أن رسالة الإسلام كانت من إيحاء ورقة الذي لا بد من أن يكون حدَّث النبي ببعض أحاديث التوراة والإنجيل، بالمستوى الذي استطاع فيه أن يحصل على استيعاب كبير لثقافة النصرانية واليهودية، ليبدأ نشاطه الرسالي في دين الإسلام من خلال ذلك. وبذلك اعتبر الإسلام بدعةً نصرانيةً في حركة تحريفٍ وابتداعٍ.

ولكننا نلاحظ على ذلك، أن هؤلاء الذين انطلقوا من هذه الرواية للقصة، ليطلقوا لخيالهم العنان في البناء عليها في إرجاع الإسلام إلى إيحاء ورقة النصراني، لم يلاحظوا أن الرواية تؤكد على وفاة ورقة في وقتٍ قريب من الحادثة، كما تتحدث عن إيمانه به، وأمنيته بأن يمتد به العمر لينصره نصراً مؤزراً، ما لا يجعل هناك أية فرصةٍ للمزيد من الدراسة عليه، ولكنه خيال هؤلاء الكتاب الذين حاولوا إثارة مثل هذه التخيلات التي يريدون من خلالها الإساءة إلى أصالة الإسلام وإلى صدق الوحي، كما أننا نرى فيها خيالات القصّاصين والرواة الذين أرادوا أن يضعوا على لسان الصحابة أو زوجات النبي، بعض ما يرضي خيالات الناس لهذا الحدث العظيم من دون التفاتٍ إلى ملامح الكذب في مثل هذه القصة، مع ملاحظة مهمّةٍ، وهي أن اختلاف هذه الروايات بشكلٍ واضح يوحي بالخلفيات التي تكمن وراء ذلك؛ والله العالم.

* * *

القراءة مبتدأ المعرفة

{اقْرَأْ}لأن القراءة هي مبتدأ معرفتك بالرسالة.. كما هي الدعوة إلى أن يكون هذا الدين انطلاقةً في آفاق العلم الذي ينطلق من القراءة الواسعة في كتاب الله المفتوح الذي ينطق بالأسرار المخزونة في الأعماق، أو المعلّقة في السماء، أو المنفتحة على عالم الإنسان. ويلاحظ أن الرواية كانت توحي بالقراءة للكلمة المسموعة لا المكتوبة، فلا تنافي كونه أمّياً، ولكن المعرفة التي يدعو الله الإنسان ـ النبي، والإنسان ـ غير النبي، إلى الأخذ بها من خلال القراءة، هي المعرفة التي تبدأ باسم الله، لتقول له:

{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} فإذا كان الله هو الذي بدأ خلق الوجود كله، فلا بد من أن تبدأ القراءة باسمه، لأنه الذي أعطاك نعمة ذلك، وهو الذي يريدك أن تجعل القراءة أساساً للوصول إلى المعرفة الخيّرة، التي تبني الحياة ولا تهدمها، وتقترب من الله ولا تبتعد عنه، لتكون المعرفة منسجمةً مع خطّ وحيه، ومع الغاية التي خلق الخلق من أجلها، في الذوبان في عمق المعنى الكوني المنفتح على عبادة الله الذي {خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ} وهو الدم الجامد الذي تحوَّل بقدرة الله إلى هذا الإنسان السويّ العاقل، المستقيم في خلقته وفي إرادته وفي كل أسرار حياته. فهل تعرف كيف تستوحي من ذلك أن القراءة لا بد من أن تكون باسمه، لتنسجم المعرفة الناشئة منها، مع النظام الكوني والإنساني الذي أراده أن يتوازن في وجوده وفي حركته وفي سنن الله المودعة فيه؟

* * *

الإسلام ينطلق من عمق المعرفة

{اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ} إنه التأكيد الذي يكرر الكلمة ليؤكد الفكرة، للإيحاء بأن هذا الدين الجديد ينطلق من عمق المعرفة المتمثلة بالقراءة كوسيلةٍ من وسائل الانفتاح عليها، كما يوحي بأن الرسالة ستنطلق في كتابٍ تتكامل آياته في كل فكر الرسالة وشريعتها ومنهجها الموحى به من الله. وإذا كان المطلوب من النبي أن يقرأ من خلال إلهام الله له، ومن سماع الوحي من جبريل، فإنّ المطلوب من المؤمنين، ومن الناس جميعاً، أن يقرأوا القرآن بعد أن يكتمل نزوله، لينطلقوا منه إلى كلِّ مواقع الحقيقة الإلهية في العقيدة والتشريع. ثم كانت الجملة الاعتراضية التي تعمل على وضع الكلمة الخطاب في نطاق الرحمة الإلهية التي تفيض بكل كرم الرب الأكرم الذي انطلق كرمه على عباده، وهو الأكرم الذي لا يبلغ أحد كرمه، ولا أيّة صفةٍ من صفاته، لأنه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]. ومن مظاهر كرمه ارتفاعه بالإنسان إلى المستوى الرفيع في المعرفة الذي ينفتح به على كل حقائق الحياة. إنه {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} الذي يحفظ للإنسانية كل العلم الصادر من الوحي أو المنطلق من فكر الإنسان، في ما هو التأمل، وفي ما هي التجربة، ليبقى زاداً لكل جيلٍ، ومنطلقاً لكلّ تقدّم وتطوّر في تكامل الفكر ونمو التجربة في ما هو العلم الإلهيِّ، وفي ما هو العلم الإنساني العقلي والتجريبـي، لمواجهة كل ظلام الجهل الذي يطبق على مصير الإنسان ليفرض عليه التخلّف في كل مواقعه.

* * *

علَّم الإنسان ما لم يعلم

{عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} فقد ولد الإنسان صفحةً بيضاء لا يملك أيّ حرفٍ للمعرفة في ذاته، في ما هي تفاصيل الوجود، وكليات الحقائق وجزئياتها، ثم أعطاه الله العقل، وزوَّده بالحواسّ، وقدّم إليه مفردات العلم في ما يتحرك في عالم الحسّ، ثم أعانه على ترتيب ذلك من أجل أن ينتج علماً جديداً، ومن ثَمَّ، يتحرك في دائرةٍ أخرى لينتج علماً آخر، أو فكراً آخر، ومن خلال ذلك، تتوسع علامات الاستفهام لتبحث عن الأجوبة في فكرٍ جديدٍ وبحثٍ جديد... وهكذا تتطور حركة العلم، لتتطور معها آفاقه، ليعلم {الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} من خلال الموهبة والإحساس والعقل والإرادة التي قدّرها الله في عمق شخصيته، وفي سرّ وجوده.

وهكذا نجد أن هذه الآيات التي نزلت في بداية الرسالة، كما هو المشهور بين المفسرين، أو بعدها بقليل، كما هو المعروف لدى بعضٍ منهم، تضع أمام الإنسان عنوان هذه الرسالة وهي القراءة باعتبارها دليلاً للمعرفة، والكتابة التي هي سر خلود المعرفة وامتدادها في ما يخط بها القلم ما أنتجه الإنسان، وما حصل عليه بالوحي من علوم، ثم تحدد له الحقيقة الإيمانية، وهي أن الله هو الذي خلق الإنسان من علق، وطوّر هذه القطعة الجامدة من الدم لتتحوّل إلى إنسان سويّ عاقلٍ مفكرٍ مريدٍ منفتحٍ على المعرفة من خلال الحواسّ الخمس والعقل الذي يتحرك في دائرتها، وأن الله هو الذي علم الإنسان ما لم يعلم. وإذا عرفنا أن الله قد تحدث عن خلق الإنسان كمظهرٍ لعظمته، وعن علم الإنسان، كمظهرٍ آخر، فإن معنى ذلك، أن الله يريد من الإنسان أن يختزن في وعيه أن العلم يمثل القيمة العظيمة الكبيرة التي تدلّ على سرّ قدرته، كما تدلّ على سرّ نعمته في حياة الإنسان الذي لا بد له أن يشكر هذه النعمة فيحوّل علمه إلى خدمة الله والحياة.

ـــــــــــــــــ

(1) الدر المنثور، ج:8، ص:561.

(2) مجمع البيان، ج:10، ص:579 ـ 580.

(3) تفسير الميزان، ج:20، ص:376 ـ 377.