تفسير القرآن
العلق / من الآية 6 إلى الآية 8

 من الآية 6 الى الآية 8
 

الآيــات

{كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى* أَن رآه اسْتَغْنَى* إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} (6ـ8).

* * *

معاني المفردات

{لَيَطْغَى}: الطغيان: تجاوز الحد والقدر.

* * *

الغنى من أسباب الطغيان

{كَلاَّ} كلمة ردع للإيحاء الذي قد تنطق به أجواء الآيات السابقة التي يتمثل من خلالها الإنسان في سلوكه المنحرف عن طاعة ربه، عندما يفكر بها فلا يشكرها، ويبتعد عن الخطّ المستقيم. وهذا ما تستعيده الآيتان التاليتان، اللتان تقدّمان نموذجاً حياً لهذا الإنسان.

{إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى} ويتجاوز حدوده الإنسانية في ما يملك من القدرة، وفي ما يخضع له من الأوضاع، وفي ما يعيشه من حاجته المطلقة إلى ربه في كل شيء، سواءٌ في أصل وجوده أو حركته، وفي كل شروطهما، في الهواء الذي يتنفسه، والماء الذي يشربه، والغذاء الذي يتغذى به، واللباس الذي يلبسه، والأرض التي يسكنها، فيغفل عن ذلك كله، ويستغرق في ذاته، فلا يتطلع إلى ما حوله ومن حوله. {أَن رآهُ اسْتَغْنَى} ما المراد بهذه الكلمة؟ هل المراد بها الغنى المتمثّل بالمال الوفير، يدفع الإنسان إلى الطغيان، باعتبار أن المال الذي يؤمّن للإنسان كل حاجاته وشهواته يخرجه عن طوره، ويخلّ بتوازنه، ويدفعه إلى تجاوز حدوده الطبيعية، في نظرته إلى نفسه وإلى غيره، حيث يجد حجمه كبيراً بشكلٍ غير معقول، كما يستضعف غيره في تعاليه على الناس، أو أن المراد بها الاستغناء عن الله، والشعور بالاستقلال عنه، لأنه يستغرق في ما لديه من النعم، في المال والصحة، والأمن والقوّة والفرص الحاصلة عنده، فينسى ربّه، ويخيّل إليه أنه لا يحتاج إليه لاستغراقه في سجن ذاته الذي لا يرى فيه إلا ذاته؟

وربما كان من ذلك، بعض الناس الذين يملكون قوّة العلم التي يستطيعون من خلالها أن ينتجوا كل أدوات الدمار، وأن يصعدوا إلى أعالي الفضاء، وأن ينزلوا إلى أعماق البحار، وأن يملأوا الأرض بالوسائل التي تملأ حياة الإنسان بما يحتاجه في الاكتفاء الذاتي في وسائل العيش، وأدوات الراحة، فيعيشون الشعور بالقوة المطلقة، ويستغرقون في التفكير المادي، فلا ينفتحون على الغيب، ولا يفكِّرون بالموت، ولا يلتفتون إلى نقاط الضعف الكامنة في وجودهم، حتى يفاجئهم ذلك كله.

* * *

الناس خاضعون لربِّ العالمين

{إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} فهذه هي الحقيقة الإيمانية التي تفرض نفسها على كل مخلوقٍ حيٍّ مسؤولٍ، فالناس في الدنيا خاضعون في ضعفهم وقوتهم لتقدير الله وتدبيره وإرادته، فلا يملكون شيئاً لأنفسهم من نفعٍ أو ضررٍ، ولا استقلال لهم في شيءٍ من ذلك، ولا استغناء لهم عنه، بل هو السرُّ في وجودهم بكل دقائقه، لأنه الخالق لهم، والمدبّر لأمورهم، ولن تنتهي حاجتهم إليه بالموت، لأن الله سيبعثهم من جديد، وسيواجهون الموقف أمامه ليقدِّموا حساب أعمالهم، وليسألهم عن طغيانهم النفسي والعملي، في ما أولاهم من النعم التي كان من المفروض أن يفهموا عمق الحاجة إليه من خلالها، بدلاً من أن يخيّل إليهم غناهم عنه واستقلالهم بأنفسهم، فلا يجدون لذلك جواباً، وستقوم الحجة عليهم من الله ليواجهوا الموقف الصعب الذي يؤدي بهم إلى النار، إذا لم يغفر لهم ذلك.