من الآية 9 الى الآية 19
الآيــات
{أَرَأَيْتَ الَّذِي ينْهَى* عَبْداً إِذَا صَلَّى* أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى* أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى* أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى* أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى * كَلاَّ لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعا بِالنَّاصِيَةِ* نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ* فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ* سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ * كَلاَّ لاَ تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب} (9ـ19).
* * *
معاني المفردات
{لَنَسْفَعاً}: السفع: الجذب بشدة.
{بِالنَّاصِيَةِ}: الناصية: شعر مقدم الرأس.
{نَادِيَهُ}: أي أهل ناديه، يعني عشيرته.
* * *
مناسبة النزول
قوله تعالى:{فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ*سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} قيل إنها «نزلت في أبي جهل ـ في ما رواه عبد العزيز بن هند عن ابن عباس ـ قال: كان النبي (صلى الله عليه وسلّم) يصلِّي، فجاء أبو جهل، فقال: ألم أنهك عن هذا التصرف؟ فانصرف إليه النبي (صلى الله عليه وسلّم)، فزبره، فقال أبو جهل: والله، إنك لتعلم ما بها نادٍ أكثر مني، فأنزل الله تعالى: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ*سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} قال ابن عباس: والله لو دعا ناديه لأخذته زبانية الله تبارك وتعالى»[1].
وإذا صحّت هذه الرواية، فإنها لا تختص بأبي جهل، بل يكون مجرد نموذج لهذا الإنسان الذي يكفر بالله، أو يشرك به، ويستهين به وبعبادته، ويعمل على زجر الإنسان الذي يقف بين يدي ربه خاشعاً خاضعاً له معترفاً بعبوديته له، معبّراً عن إخلاصه وتعظيمه لقدسه وجلاله.
* * *
من نماذج الكفرة الطغاة
وهذا نموذجٌ من الناس الذين يعيشون الطغيان في شخصياتهم، فينصبون أنفسهم قيّمين على الناس، حيث يطلبون منهم أن يطيعوهم في كل شيءٍ، بعيداً عما إذا كان ذلك حقاً أو باطلاً، لأن المسألة لديهم هي أن يحقِّقوا ذواتهم في المجتمع بتأكيد إرادتهم في إسقاط إرادة الناس من حولهم، لتكون الكلمة كلمتهم في كل شيء.
{أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى*عَبْداً إِذَا صَلَّى} وهذا هو ما نلاحظه لدى الكثيرين من الناس في كل زمانٍ ومكانٍ، ممن يتعقّدون من الإيمان والمؤمنين، فيعملون على ممارسة كل ألوان الاضطهاد عليهم، لإبعادهم عن الصلاة التي هي المظهر العملي الحيّ للإيمان، وللعبادة المنفتحة على الله بكل كلمةٍ من كلماتها، وكل حركةٍ من حركاتها، الأمر الذي يجعلها معراجاً للمؤمن، يعرج ـ من خلالها ـ بروحه إلى الله.
{أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى} أي إن كان هذا الإنسان الذي يصلي، ويأتي هذا المنحرف الضالّ لينهاه عن صلاته، أرأيت إن كان سائراً في خط الهدى، {أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى} في دعوته إلى الله، وفي أمره للناس بالتقوى، كيف يواجه الموقف الذي يقفه منه؟ وهل يعرف ما هي النتائج السلبية الصعبة التي ستحدث له من خلال ذلك؟
{أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى} هناك تفسيرٌ آخر، بأن يكون الضمير راجعاً إلى الناهي، لو كان من المهتدين الآمرين بالتقوى، وهو يعلم بأن الله يراه، ماذا كان يجب أن يفعله، وهل ينهى هذا العبد عن الصلاة أو يأمره بها؟ وهو معنى غير واضحٍ من سياق الآيات.
{أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} ويطّلع على كل نشاطه الاستكباريّ التخريبـي في ما ينهى به عن عبادة الله، فكيف يأخذ حريته في ذلك، وكيف لا يخاف من عقاب الله في يوم القيامة؟
* * *
مصير من ينهى عن المعروف
{كَلاَّ} فليس الأمر كما يتوهم من هذا الشعور المطمئن بالنتائج الإيجابية لمصلحته، {لَئِن لَّمْ يَنتَهِ} عن سلوكه الطاغي {لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ* نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} الناصية شعر الجبهة، والسفع الجذب بشدّةٍ، وكانت العرب تأنف من الشد بالناصية، أو الجرّ بها، وتعتبره مظهراً للإذلال والتحقير، لأنه من شؤون الحيوان لا الإنسان، ومعناه، فليرتدع هذا الإنسان عن غيِّه، وإلاَّ فسنشدّه إلى جهنم بناصيته.
{فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ} أي مجلسه، والمراد به قومه وأتباعه الذين يحضرون مجلسه ويؤيدونه ويدافعون عنه، فليدعهم لينقذوه من عذاب جهنم {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} وهم الملائكة الموكّلون بالعذاب في النار ليدفعوهم إليها. وهذا هو جزاؤه وعقابه في مصيره المحتوم. {كَلاَّ} لن ينالك بسوء، ولن يستطيع أن يدفع عن نفسه أيّ لونٍ من ألوان العذاب.
* * *
الاقتراب من الله والسجود له
{لاَ تُطِعْهُ} في ما ينهاك عنه من الصلاة، مهما هدّد وتوعّد، {وَاسْجُدْ} لله وحده، فإن أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، لأن السجود هو المظهر الحيّ للخضوع لله تعالى بكل مراتبه.
{وَاقْتَرِب} لأن الاستغراق في معنى العبودية، الذي يمثله السجود، هو الذي يجعل العبد قريباً إلى الله وبكلّ كيانه الروحي والجسدي، وهذا هو غاية خشية المتّقين، وإخلاص العابدين.
وإذا كان هذا الخطاب موجّهاً إلى النبي(ص) حسب رواية أسباب النزول، فإنه لا يختص به، بل يشمل كل المسلمين المؤمنين المصلين السائرين على الهدى الآمرين بالتقوى، وبالتالي، فإن عليهم أن يتمردوا على كل أنواع الضغوط التي تمارس بحقهم لحملهم على ترك صلاتهم، أو لينحرفوا عن خطّ الهدى إلى خط الضلال، أو ليأمروا بالمعصية، وأن يؤكدوا هذا التمرد بالإصرار على السجود العلني لله كمظهرٍ من مظاهر الثبات على الرسالة، وأن يعملوا على الاقتراب من الله في أفكارهم وأوضاعهم وأقوالهم وأفعالهم وعلاقاتهم في مواجهة خطة الكافرين التي تريد إبعادهم عن الله وعن كل وحيه ورسالاته.
ــــــــــــــــــــ
(1) الواحدي، علي بن أحمد، أسباب النزول، دار الفكر، 1414هـ ـ 1994م، ص:254. وقد ذكرت الرواية أيضاً في تفسير الطبري.
تفسير القرآن