المقدمة
سورة الأنفال
مدنية، وآياتها خمس وسبعون
سبب التسمية
سميت السورة بـ «الأنفال» لورود هذه الكلمة في بدايتها، كمحور لسؤال وجّهه المسلمون إلى الرسول حولها لاختلاف آرائهم في شأنها.
والأنفال ـ في اللغة ـ هي الزيادة على الشيء، ومنه سميت الصلوات غير الواجبة نوافل، باعتبارها زيادةً على الفريضة.
وقد اختلفت كلمات المفسّرين في المراد من الكلمة، فذكر بعضهم أنها غنائم معركة بدر، وذكر بعض آخر أنها كل ما كان من فتحٍ لم يقاتل عليه، ولم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، كبطون الأودية، ورؤوس الجبال، والأرض الموات ونحوها... وربما أطلقها البعض على مطلق غنائم الحرب، على أساس أننا لا نفهم أيّة خصوصيةٍ لمعركة بدر.
* * *
مناسبة النزول
جاء في الدر المنثور عن عبادة بن الصامت قال: «خرجنا مع رسول الله(ص) فشهدت معه بدراً، فالتقى الناس فهزم الله العدو، فانطلقت طائفة في آثارهم منهزمون يقتلون، وأكبت طائفةٌ على العسكر يحوزونه ويجمعونه، وأحدقت طائفةٌ برسول الله(ص) لا يصيب العدوّ منه غرّة، حتى إذا كان الليل، وفاءَ الناس بعضهم إلى بعض، قال الذين جمعوا الغنائم: نحن حويناها وجمعناها، فليس لأحدٍ فيها نصيب، وقال الذين خرجوا في طلب العدو: لستم بأحقّ بها منّا، نحن نفينا عنها العدو وهزمناهم، وقال الذين أحدقوا برسول الله(ص): لستم بأحق بها منّا، نحن أحدقنا برسول الله(ص)، وخفنا أن يصيب العدو منه غرّة واشتغلنا به، فنزلت: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ} فقسّمها رسول الله(ص) بين المسلمين»[1].
وجاء في الكافي باسناده عن العبد الصالح الإمام موسى بن جعفر الكاظم(ع)، قال: «الأنفال كل أرض خربة قد باد أهلها، وكل أرض لم يوجف عليها بخيلٍ ولا ركاب، ولكن صالحوا صلحاً وأعطوا بأيديهم على غير قتال، وله ـ يعني للوالي ـ رؤوس الجبال وبطون الأودية والآجام وكل أرض ميتة لا رب لها، وله صوافي الملوك: ما كان في أيديهم من غير وجه الغصب، لأن الغصب كله مردود، وهو وارث من لا وارث له يعول من لا حيلة له»[2].
* * *
ربما كان جوّ السورة يوحي بأن المقصود بالكلمة هو الغنائم، لأنها هي التي كانت موضع الخلاف الذي صار أساساً للتنازع. أما الرواية الواردة عن الإمام الكاظم(ع)، فقد لا تكون تفسيراً للكلمة من خلال مورد الآية، بل قد تكون تعميماً للكلمة لغير هذا المورد، من خلال التقاء الحكم في الجميع على قاعدةٍ واحدةٍ.
وربّما كانت المسألة واردةً في أجواء بعيدةٍ عن حالة الحرب، في ما كان يدور بين المسلمين من الحديث عن هذه الأراضي المترامية التي لا مالك لها، أو التي لم يقاتلوا عليها، وغير ذلك مما عُدّ من الأنفال.
وقد تكون الأحاديث الواردة في أسباب النزول اجتهاداً يأخذ صفة الرواية، لا سيما إذا لاحظنا أن الروايات مختلفة في الحديث عن طبيعة التفاصيل، وأن قصة معركة بدر المعروفة تختلف في تفاصيلها عما ورد في روايات أسباب النزول، هذا بالإضافة إلى أن التدقيق في مدلول اللام في قوله {لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} قد يوحي بالمعنى الذي لا يلتقي بالرواية الواردة في أسباب النزول، مما قد يأتي الحديث عنه في ما يرد من حديث التفسير؛ والله العالم...
* * *
موضوع السورة
في هذه السورة حديثٌ طويلٌ متنوعٌ عن معركة بدر في الأجواء التي سبقت الإعداد لها، وفي الحالة النفسية التي كان يعيشها المسلمون إزاءها، وفي حركة المعركة في أجواء الغيب تارةً، وفي آفاق الواقع أخرى، وفي نهاياتها ونتائجها على مستوى أوضاع الأسرى والغنائم أو على مستوى الحالة الروحية التي عاشوها بعد ذلك.
وقد نلاحظ أن السورة لا تتحدث عن المعركة كقصّةٍ تلاحق التفاصيل التي تثير الفضول وتبهر النفوس، بل تتحدث عنها كتجربةٍ جديدةٍ تشتمل على السلبيات والإيجابيات، وعلى نقاط الضعف ونقاط القوة... وقد أكّدت السورة على كل هذه العناصر في عملية تقييم ودراسةٍ ونقدٍ وتوعيةٍ من أجل أن يقوم المسلمون بتنمية إيجابيات القوة، وتحويل السلبيات في نقاط الضعف إلى مصدر قوّةٍ. ولذلك فإنها لم تعمل على إخفاء نقاط الضعف، كما يفعل المنتصرون الذين لا يطرحون النتائج إلا من خلال الصورة المشرقة للأشياء، أما الصور القاتمة فإنهم يضعونها بعيداً عن العيون، لأنهم لا يريدون إلا إثارة الزهو في الساحة من خلال مظاهر النصر؛ ولكن الله يريد للمعركة أن تكون تجربةً حيةً للإنسان، تبني له شخصيته في ما تعطيه من دروسٍ وعبرٍ، وما تثيره في داخله من إيحاءات وأفكار، لتكون خطوةً متقدّمةً في اتجاه التغيير. ولا تبقى مجرد نصر تاريخي يتذكره الإنسان كمجد من أمجاد الماضي، كلّما احتاج إلى ذكرى الانتصارات التاريخية التي يريد أن يهرب إليها من هزائم الحاضر.
إنّ الإنسان هو محور الحياة في الإسلام فلكي نصنع للحياة قاعدةً قويةً صلبةً، لا بد من أن نعمل على صناعة الشخصية الإنسانية على أساسٍ قويٍّ منفتحٍ، لنحقق للحياة هدفها الكبير، ولنمارس تحريك كل الطاقات في هذا الاتجاه... وهذا ما يجعلنا نفكر أنّ موضوع الانتصارات ليس موضوع مجدٍ ذاتيٍّ للزهو والخيلاء، بل هو خطوةٌ متقدمةٌ نحو الهدف الكبير، ولذا فإنّ من المفروض أن يرصد السائرون نحوه نقاط الضعف والقوة، من أجل تصحيح المسار عند الخطأ، وتثبيت الأقدام عند الاهتزاز. وهذا ما أثاره القرآن في هذه السورة التي نزلت ـ في ما يبدو ـ بعد المعركة، من أجل أن يتعلّم المسلمون القيام بعملية التقييم لما حدث، ليأخذوا منه الدرس للمستقبل في الأحداث القادمة، فقد حدّثهم عن الوسائل الروحية التي تنمي إيمانهم بالله وعلاقتهم به، وعن تأثيرات الصبر كقيمةٍ أخلاقيةٍ من قيم الحياة التي تتدخل في تنمية القوّة وتطويرها ومضاعفتها، وعن العلاقة الوثيقة بين الجوانب الروحية والجهادية، فكلما انفتحت روح الإنسان على آفاق الإيمان، كلما انفتح له درب جديد للجهاد، وتحركت في حياته عزيمة القوّة والثبات.
وهكذا أفاضت السورة في الحديث عن الخط الإسلامي لقضايا الحرب والسلم، لتؤكد الحقيقة الإنسانية في اعتبار السلم أساساً لحركة الحياة، إذا توفرت لها العناصر اللازمة لاستمرار مبادئها في الخط السليم، لأن الحرب ليست حالةً طبيعيّةً تحكم علاقة الإنسان بالإنسان، بل هي حالة طارئةٌ تحكم الواقع من أجل مواجهة التحدّيات الصعبة في قضايا الحق والباطل، لئلا تسقط الحياة في قبضة الباطل. وكانت هناك تفاصيل متعددة للأجواء التي ينبغي أن تسود الحياة الإسلامية في علاقات المسلمين ببعضهم البعض، وفي التزامهم بالدقّة والانضباط والسرّية والإخلاص لأمانة المسؤولية، ومواجهتهم الموقف بروحٍ جماعيَّةٍ في عملية التزامٍ وولايةٍ وانفتاحٍ على المستقبل في كل خطوات الحاضر، ذلك هو الأسلوب القرآني الذي يتحرك في معالجة القضية في أكثر من اتجاه، فنرى الجانب العسكري يلتقي بالجانب الروحي، كما نلاحظ ارتباط الجانب الاجتماعي بالجانب الأخلاقي، لأن الشخصية الإنسانية ليست أحادية الاتجاه، فلا يمكن أن نواجه عملية البناء فيها بأسلوب التجزيئية التي تبحث كل حالة فيها على حدة، بل لا بد لك من أن تتحرك فيها من موقع الوحدة التي تمتزج فيها كل عناصر الشخصية المتداخلة في عملية الحركة والوجود. وهذا ما يمثله خط التوازن في حركة الشخصية الإسلامية، فليس هناك جانب ماديٌّ منفصلٌ عن الجانب الروحي، وليست هناك حالةٌ فرديةٌ منفصلةٌ عن الحالة الاجتماعية. وقد يكون أسلوب السورة الرائع في معالجة قضية الحرب والسلم من أوضح الأمثلة على هذا الخط.
تفسير القرآن