تفسير القرآن
الأنفال / من الآية 1 إلى الآية 4

 من الآية 1 الى الآية 4
 

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيـات

{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ* إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ* الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ* أُوْلـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}(1ـ4).

* * *

معاني المفردات

{الأَنفَالِ}: جمع نفل، وهو الزيادة على الشيء. وقيل النّفل: العطية.

{وَجِلَتْ}: الوجل: الخوف.

* * *

المسلمون يسألون.. والجواب يتحرك في تنمية الشخصية

للسؤال في القرآن دورٌ تربويٌ روحيٌّ يتعدى جانب تقديم المعرفة المجرّدة للسائل في نطاق الجواب، ليكون منطلقاً للنصح والموعظة والدعوة إلى الالتزام بخط الإيمان، وليدخل بالتالي في تحديد المفاهيم الإسلامية للإنسان المسلم بطريقةٍ واضحة حاسمة. وهذا ما نستوحيه من هذه الآيات.

{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ} وقد قدّمنا أن الروايات الواردة في مناسبة النزول ذكرت وجود حالة خلافٍ بين المسلمين في معركة بدر في توزيع الغنائم بين المقاتلين، الذين كانوا يتوزعون الأدوار بين مقاتل للعدو، وبين مدافعٍ عن رسول الله، وبين جامعٍ للغنائم، فكان أن رجعوا إلى رسول الله يسألونه عن الحكم في ذلك. وربما كان إطلاق الأنفال ـ التي تعني الزيادات ـ على الغنائم باعتبار أنها مما لا يختصّ بها أحدٌ من ناحيةٍ ذاتيةٍ. وقد أشرنا إلى أن هناك وجهاً آخر للكلمة يشمل كل الأراضي التي لا مالك لها، وغير ذلك من الأمور. وقد يكون مثل هذا الوجه نوعاً من توسيع مساحة المفهوم حكماً، باعتبار شمول الحكم الثابت في مدلول الكلمة، أو في موردها، لما هو خارجٌ عن مدلولها أو موردها، أو تعميماً للكلمة في مفهومها باعتبار القاعدة المعروفة: إن السؤال لا يخصّص الجواب، وإن المورد لا يخصّص الوارد.

{قُلِ الأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} ما معنى أن تكون الأنفال لله وللرسول؟ ربما يقال: إن المعنى هو أن يكون أمرها راجعاً لله وللرسول، في مواجهة الفكرة القائلة بأنّها من شؤون المقاتلين الذين قاتلوا، أو دافعوا، أو غنموا، كأمرٍ واقعٍ… ولكنّ هناك فكرةً أخرى، وهي أنها ملكٌ لله وللرسول بمعنى الاختصاص بهما من ناحيةٍ قانونية، فتكون مصارفها أو توزيعها من الشؤون التابعة للملك، تماماً كما يتصرف المالك في ملكه، مما هو من مسؤوليته العامة أو الخاصة. وعلى ضوء هذا، كانت الأراضي الداخلة في مفهوم الأنفال ملكاً لله وللرسول. إلا أن هذا قد لا ينسجم مع الحكم الثابت للغنائم التي هي للمقاتلين، في ما عدا الخمس الذي جُعل فيه سهمٌ لله وللرسول بالإضافة إلى الفئات الأخرى، والمفروض أنها مورد الآية، كما ذكر في مناسبة النزول. ولهذا التزم جماعة بنسخ هذه الآية بآية الخمس؛ فلا بد للخروج من هذا المأزق من التزام أحد أمرين، فإما القول بأن المقصود من الأنفال غير الغنائم، وذلك بطرح الروايات الدالّة على ذلك؛ وإما القول بأن المقصود من جعلها لله وللرسول، هو إيكال أمرها إليه بعيداً عن اقتراح المقترحين، ونزاع المتنازعين، فليس للمقاتلين أو الغانمين أن يقرّروا شيئاً من ذلك في ما يؤخذ، وما لا يؤخذ، أو في تحديد المستحق وغير المستحق، كما يوحي به نزاعهم. وبذلك كانت آية الخمس واردةً في مورد التحديد للمسألة، كما كانت أحاديث الأنفال في غير الغنائم مبينةً لحدود الحكم الشرعي فيها، وتحقيق الأمر في ملكية الله والرسول موكولٌ إلى الأبحاث الفقهية، فليُطلب من هناك.

* * *

الله يدعو المسلمين لإصلاح ذات بينهم

{فَاتَّقُواْ اللَّهَ} فإن التقوى هي التي تعرِّف الإنسان حدوده في ما يملك وما لا يملك، وهي التي توحي له بضبط الخلافات الحاصلة بينه وبين الناس، والبعد عن الأجواء الذاتية والعدوانية التي تسيء إلى إنسانيّة العلاقات وسلام الحياة.. {وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ}، أي الحالة السيّئة الممزّقة الواقعة بينكم، من خلال التفاهم على النقاط المشتركة التي يمكن أن تكون أساساً للِّقاء في الفكر والعمل، فإن ذلك هو السبيل لرأب الصدع، وردم الهوّة، وإصلاح الفساد، وتركيز العلاقات على قاعدةٍ ثابتةٍ، لأن اكتشاف مواطن اللقاء هو الذي يقود إلى حلّ مواطن الخلاف. {وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}، فذلك هو الخطّ المستقيم الذي يحفظ للإنسان المؤمن خطواته من الزلل، ويصونه من الانحراف، ويؤمن لحركته التوازن في مواجهة تعقيدات الحياة وتشابك الخطوط التي تحفل بها. فتكون طاعة الله في ما يشرعه، وطاعة الرسول في ما يفصّله ويطبّقه، هي النهج السليم الذي يمثّل الخطّ الفاصل بين الهدى والضلال. {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } لأن الإيمان ليس فكراً مجرّداً يحدد للإنسان خط النظرية فحسب، بل هو ممارسة عملية فاعلة، في انطلاقته من أجل تغيير ذاته، وتغيير الحياة على أساس تلك النظرية.

* * *

من هم المؤمنون؟

وفي ضوء ذلك، كانت الجوانب الروحية والعملية هي التي تقدّم صورة المؤمن ـ النموذج ـ في ما جاءت به الآيات التالية: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}، وعاشت الشعور بالخشية منه، في ما يتمثلونه من عظمة الله في مظاهر قدرته في خلقه، وفي وحدانيته ووجوده، بالمستوى الذي يشعرون معه بأنّ الكون كلّه ظلٌّ لوجوده، فهو الحقيقة وكل ما عداه خيال... ولكنّ هذا الوجل لا يمثّل حالة انسحاقٍ يلغي في الإنسان الإرادة، بل يمثّل حالة المسؤولية التي تحرك إرادته في الجانب المشرق من الحياة، عندما توحي له بأن حركته ليست محكومةً لمزاجه أو مزاج الآخرين، بل هي خاضعةٌ للقوّة المهيمنة التي تخطّط لإرادته كما تخطط لفكره، وبذلك كان الخوف من الله حافظاً لإنسانيته من الانحراف تحت تأثير الضغوط، ورادعاً له من الخضوع للشهوات والنزوات المنحرفة، وموجّهاً له للسير في الخط المستقيم... {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً}، وذلك في ما تنفتح به أفكارهم وأرواحهم ومشاعرهم على الوحي النازل من الله على رسوله، فيتأمّلون في آياته، ويستمعون إليها في وعي المؤمن وروح المفكّر، فيطوفون معها في آفاق الحياة، ويحلّقون من خلالها في رحاب الله، ويعيشون حركة المعرفة في مفاهيمها الشاملة، وفي تأمّلاتهم العميقة، وفي مشاهداتهم ونظراتهم المتنوّعة... فيزدادون إيماناً في عملية ارتفاعٍ وعمقٍ...

تلك هي قصة المؤمنين في إيمانهم، فهم لا يتجمّدون أمام عناصر المعرفة الأولى، ولا يعيشون حرفيّة الكلمات، ولا يختنقون في الزوايا المحدودة للمفاهيم، بل يظلّون في رحلةٍ دائمةٍ نحو المعرفة التي تنمي الإيمان وتطوِّره، يستنفرون من أجلها كل طاقاتهم، ويفتحون لها قلوبهم، فيستزيدون مما يقرأون ويسمعون، ويُزيدون في ما يفكرون ويحاورون، حتى تكون آخر جرعة من المعرفة الإيمانية لديهم، هي آخر لحظة من حياتهم.

{وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}، فهم يسيرون في كل دروب الحياة، وعيونهم مشدودةٌ للسماء، وقلوبهم مفتوحة لله، لا يهزمهم خوف، ولا يثيرهم قلق، كل خطواتهم مدروسةٌ في الدرب الذي يقطعونه، وفي الهدف الذي يتوجهون إليه. وكل طاقاتهم مستنفرةٌ متحركةٌ من أجل تحقيق الشروط الموضوعية للوسائل والأهداف، لا يعيشون الاتكالية واللامبالاة والسلبية في أوضاع الحياة ومشاعرهم، بل يعيشون المسؤولية والإيجابية والحركة المستمرة، حتى إذا واجهوا بعض المصاعب والشدائد والتحديات في أجواء الحاضر والمستقبل، ووقفوا في بعض المراحل أمام احتمالات المجهول، في ما يمكن أن يهدم مشاريعهم، أو يهزم مسيرتهم، أو يوقعهم في مهاوي الخطر، لجأوا إلى الله، وأسلموا أمرهم إليه، في ما لا يملكون الانتصار عليه بالقوة والفكر، وتوكلوا عليه، لتجتمع في داخل نفوسهم عناصر الثقة بالمستقبل، من خلال حركة الإرادة معه في أفكارهم وأعمالهم في ما يستطيعون، ومن خلال حركة الثقة بالله في أجواء الغيب في ما لا يستطيعون، وذلك هو معنى التوكل في شخصية المؤمن؛ حركةٌ في الفكر والإرادة في نطاق الإمكانات، وثقةٌ بالله في عمليّة استسلامٍ لإرادته وقدرته في نطاق الغيب.

{الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاة} بما تجسّده من خضوعٍ لله، واعترافٍ بالعبودية له في جميع مظاهرها وأشكالها… {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} بما يمثله الإنفاق من روحية العطاء في امتداده في حياة الناس، وتأكيده على الشخصية الإنسانية التي لا تعيش الشعور بالذاتية في ما تملكه من طاقاتٍ، بل تحسّ بالمشاركة للآخرين في ذلك كله، لأنه رزق الله الذي أراد لعباده أن لا يحتكروه لأنفسهم، في ما اقتضت حكمته من توزيع أرزاق عباده، على أساس أن يكون رزق بعضهم في يد البعض الآخر، مما يجعل من قضية العطاء حالةً تبادليّةً، فلكلِّ شخص طاقةٌ يعطيها للآخرين، وللآخرين طاقاتٌ يمنحونها له... وهكذا كانت حركة المجتمع في شخصية الفرد، في اتجاه حركة الفرد في شخصية المجتمع، في تفاعل وتعاون وعطاء...

وربما كان اختيار هذه الصفات في الحديث عن المؤمنين، لأنها تمثل العناصر البارزة في حركة الإيمان في الداخل، في هذا الخوف الدائم من الله، وفي هذا النمو الحي للإيمان في أجواء المعرفة، وفي هذه الثقة المطلقة بالله أمام المجهول في ما توحي به من وعي للمسؤولية والانضباط أمام روحية الخوف، ومن تطلعٍ دائم إلى المعرفة كأساسٍ لتنمية الإيمان، ومن شجاعةٍ وجرأة أمام تحديات المجهول، كما أنها تمثل حركة الإيمان في العبادة في الصلاة، من حيث هي المظهر الحي للاعتراف بالعبودية لله، التي هي أساس الحرية في شخصية الإنسان أمام الآخرين، وفي الإنفاق من حيث هو الامتداد الإنساني في حياة الآخرين، في ما يملك من مالٍ وعلمٍ وجاهٍ وطاقةٍ حيّةٍ متحركة في خط الواقع، ليكون ذلك كله أساساً للتطور والنموّ في شخصية الإنسان المسلم في الجوانب الأخرى، التي يتكامل بها الإنسان، وتتقدم بها الحياة.

{أُوْلـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً} الذين صدقوا الله وعده وعهده، وأخلصوا له العمل، فجزاهم الله عن ذلك أفضل الجزاء. {لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ} تبعاً لدرجاتهم في الإيمان وفي العمل، {وَمَغْفِرَةٌ} لما أخطأوا فيه. {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} في ما رزقهم من مالٍ وصحةٍ وعافيةٍ وأولادٍ وجاهٍ، ومن طيبات الحياة الدنيا ولذاتها، مما يعيش فيه المؤمن الشعور برعاية الله له، وكرامته عليه، وذلك هو إحساس المؤمن أمام نعمة الله عليه، فهو يعيش معها الجوّ الحميم الكريم الذي يعبّر عن محبة الله له، كما يستوحي منها الشعور بالمسؤولية في الشكر الروحي والعمليّ لله في جميع ذلك.

ـــــــــــــــ

(1) الدر المنثور، ج:4، ص:5.

(2) الكافي، ج:1، ص539، رواية:4.