من الآية 5 الى الآية 8
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيات
{كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ* يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ * وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ* لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ}(5ـ8).
* * *
معاني المفردات
{يُجَادِلُونَكَ}: المجادلة: المنازعة التي يفتل بها عن مذهب إلى مذهب، وأصل الجدل: شدّة الفتل.
{يُسَاقُونَ}: السَّوق: الحثّ على المسير.
{الشَّوْكَةِ}: الحدّ والقوة.
{دَابِرَ} الأمر: آخره. ودابر القوم: عقبهم.
* * *
كيف واجه المسلمون الدعوة إلى معركة بدر؟
في هذه الآيات عرضٌ للأجواء النفسية التي كانت تسود الواقع الإسلامي، عندما انطلقت دعوة النبي محمد(ص) إلى الخروج معه من أجل مواجهة قريش بالضغط الاقتصادي، وذلك بالتعرّض للقافلة التجارية التي كان يقودها أبو سفيان، لمصادرتها والاستيلاء عليها، ومنع قريش من حرية التحرك في الطريق التجاري بين مكة والشام، كوسيلةٍ من وسائل إضعافها، وكنوعٍ من استعراض القوّة الإسلاميّة في منطقةٍ تتميّز بعدم الخضوع إلا للقوّة... وقد كانت هذه الفرصة الوحيدة آنذاك للمواجهة بطريقةٍ غير مباشرة، لأنَّ في ذلك تحدياً بالقوة للهيمنة القرشية على المنطقة التي كانت تتحرك من أجل السيطرة على الإسلام. وقد تثاقل فريق من المؤمنين، في الاستجابة لنداء النبيّ ودعوته، وكرهوا الخروج معه، لأنهم كانوا لا يزالون يهابون القوة القرشية، ويخافون مواجهتها. وربما كانوا يعتقدون أن الوقت لا يزال مبكراً للدخول في معركةٍ عسكرية مع قريش، لأن المسلمين لم يكونوا قد استجمعوا قوتهم بالمستوى الذي يمكنهم من الانتصار، أو يضمن لهم عدم الهزيمة ـ على الأقل ـ الأمر الذي يجعل من هذه العملية، شيئاً يشبه العملية الانتحارية. وهذا ما توحي به هذه الآيات.
* * *
الخروج إلى قافلة قريش بأمر الله تعالى
{كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ} ربما كان موقع التشبيه ـ بالكاف ـ على أساس التعلّق بما يدل عليه قوله تعالى: {قُلِ الأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ}، والتقدير ـ كما يقول صاحب تفسير الميزان ـ «أنَّ الله حكم بكون الأنفال له ولرسوله بالحق مع كراهتهم له، كما أخرجك من بيتك بالحق مع كراهة فريقٍ منهم له، فللجميع حق يترتب عليه من مصلحة دينهم ودنياهم ما هم غافلون عنه»[1]. وهذا الوجه معقولٌ، ولكنه غير ظاهر من الكلام بطريقةٍ واضحةٍ. أما كلمة «بالحق»، فقد توحي لنا بالهدف الذي كان يحكم التحرك النبوي في اتجاه القافلة القرشية، فقد كان بأمر الله لا برأي شخصيّ للنبيّ. وإذا كانت المسألة كذلك، فإن الله لا يأمر إلا بالحركة المرتكزة على أساس الحق في ما تمثله الكلمة من الارتباط بالهدف الكبير من قوة الإسلام وانتشار أمره وثبات مواقعه.
* * *
بعض المؤمنين يكرهون الخروج
{وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} لهذا الخروج، نتيجة تجمّع عناصر الضعف الإنساني لديهم، كحبِّ الراحة، وحبِّ الحياة، والخوف من النتائج السلبية... مما يبعدهم عن معنى الإيمان الذي يفرض عليهم الالتزام بأمر الله ونهيه. {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ} فقد كان الموقف محرجاً بالنسبة إليهم، فها هو النبي يتأهّب للخروج عازماً على تنفيذ المهمة الموكولة إليه، مهما كلّفه ذلك من تضحياتٍ ومصاعب، لأن القضية واضحة لديه في ما يترتب عليها من نتائج إيجابية لمصلحة الإسلام والمسلمين، الأمر الذي يحقق للساحة الثبات والصلابة والقوة... فماذا يفعلون؟ هل يتمردون على أمره؟ وهذا غير ممكن، لأنه يؤدي بهم إلى الابتعاد عن خط الطاعة والانقياد الذي التزموا بالسير عليه في إيمانهم بالإسلام، وبيعتهم للرسول. إذاً لا بد من الدخول في جدالٍ طويل مرير مع الرسول، ليثبتوا له خطأ التصور للنتائج الإيجابية، ولينقلوا إليه مخاوفهم في ما ينتظرونه من نتائج سلبيةٍ. ودخلوا معه في جدال صعب، وربما أعادوا عليه أحاديث قريش في قوتها وخيلائها وعزتها وعظمتها... وربما قال له بعضهم: «إن هذه قريش ما ذُلّت منذ عزت». وكانوا يؤكدون له ذلك، والنبي يستمع إليهم، ولكنه لا يلقي بالاً لكل ما يقولونه، لأنه قد عزم الأمر، ولم يعد هناك مجالٌ للتفكير أمام وضوح الرؤية للحق.
{كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ}. وتلك هي حالتهم النفسية المتوتّرة لما كانوا يعيشونه من رعب وفزع، تماماً كما هي حال المحكوم بالإعدام الذي يمشي إلى الموت أمام جلاّديه، فهو يتطلع إلى المصير المحتوم بعينيه الخائفتين الغائمتين... وتتردد في مشاعرهم القلقة كلمة الخوف الساحق. إنها قريش، كيف نقاتل قريش بكل قوتها وجبروتها؟ إنه الموت الذي نواجهه ويواجهنا من دون أيّة فرصةٍ للهرب. وذلك هو الفريق الذي لا يمثل الغالبيّة الكبيرة من المسلمين. وهذا ما يحدثنا عنه ابن الأثير في تاريخه، في سياق حديثه عن تفاصيل معركة بدر: «فأقبل رسول الله(ص) على أصحابه وقال: هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها، ثم استشار أصحابه، فقال أبو بكر فأحسن، ثم قال عمر فأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو، فقال: يا رسول الله امضِ لما أمرك الله فنحن معك، والله لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَا هُنَا قاعِدُونَ} [المائدة: 24]، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون. فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد ـ يعني مدينة الحبشة ـ لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه. فدعا له بخير، ثم قال رسول الله(ص): أشيروا عليّ أيها الناس. وإنما يريد الأنصار لأنهم كانوا عدته للناس، وخاف أن لا تكون الأنصار ترى عليها نصرته إلا ممن دهمه بالمدينة، وليس عليهم أن يسير بهم. فقال له سعد بن معاذ: لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: أجل. قال: قد آمنا بك وصدّقناك، وأعطيناك عهودنا، فامض يا رسول الله لما أمرت، فوالذي بعثك بالحق، إن استعرضت بنا هذا البحر فخضته لنخوضنه معك، وما نكره أن تكون تلقى العدو بنا غداً. إننا لصبرٌ عند الحرب، صدقٌ عند اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله. فسار رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال: أبشروا، فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين»[2]...
* * *
الله يعد المسلمين إحدى الطائفتين
{وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ}. فقد بشّرهم رسول الله(ص) أنهم سيلتقون بالطائفة التي تصاحب القافلة المحمّلة بالأموال، أو بالطائفة المقاتلة التي تحمل السلاح، وهي المقصودة بذات الشوكة ـ أي ذات السلاح ـ وستكون لهم إحداهما، إما بالحصول على المال والاستيلاء على القافلة، وإمّا بالانتصار على الفئة المقاتلة. وهكذا أرادهم الله أن ينطلقوا إلى المعركة بروح الثقة بالحصول على النتائج الإيجابية على أيّة حال، سواء كانت المعركة معركة المواجهة مع الذين يحمون القافلة التجارية، أو كانت معركة المواجهة مع الفصائل المقاتلة من قريش. {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ}... لأنهم كانوا يودون عدم الدخول في معركة مسلّحة، لأن النصر فيها لا يتحقق ـ عادة ـ بدون خسائر، لا سيما إذا كان العدو قوياً في عدده وعدّته، وكان المقاتلون ضعفاء فيهما معاً، كما كان عليه حال المسلمين في معركة بدر.
* * *
درسٌ قرآنيّ في كيفية الاستعداد للقتال
وهكذا نعرف من خلال ذلك، أن الاستعداد للقتال لم يكن منسجماً مع الحالة النفسية الكارهة للقتال، المحبّة للسلامة. وتلك هي نقطة الضعف الكامنة في الداخل، التي كانت تستيقظ في بعض الحالات، لتثير فيهم نوعاً من التردُّد والاهتزاز الذي لا يلبث إلاّ قليلاً، ثم يفعل الإيمان فعله، ليثبِّت المؤمنين ويقودهم إلى المسيرة الظافرة في طريق الجهاد والشهادة. وهكذا يثير القرآن ـ في آياته ـ الأجواء الذاتية في داخل المسلمين وخارجهم، فيحدّثنا عن نقاط الضعف، في حديث توعيةٍ وتنبيهٍ وتحذير، من أجل مراقبة ذلك كلّه في أنفسنا، لنواجه حالات الاهتزاز الداخلي والخارجي بالمزيد من عوامل التركيز والتثبيت، فإن الإنسان الذي لا يكتشف نقاط ضعفه، لا يستطيع تنمية عناصر قوته، لأن الهروب من وعي المشكلة لا يهزمها، بل يعقّدها ويشلُّ فيها إمكانية الحلّ... وهذا هو السبيل الذي يريد الإسلام للمسلم أن يسير فيه: أن يواجه الواقع كما هو، فيعترف بسلبياته وإيجابياته. ثم يعالج السلبيات من مواقع الإيجابيات، لينتهي إلى النصر والفلاح من موقع المواجهة القوية، بكل ما تستلزمه من آلام وتضحيات، لأن ذلك هو الوسيلة الفعلية لإحقاق الحق وتحويله إلى قوةٍ متحركة في الواقع.
* * *
إرادة الله تعالى إحقاق الحق وقطع دابر الكافرين
{وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} ويثبّته بوحيه وسننه في الكون، ليكون هو المهيمن على حركة الحياة، وتكون قيادته الرسولية هي الحاكمة لها في كلّ خطوط السير. {وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ} ويستأصلهم باستئصال قوّتهم العسكرية والسياسية، ويهدم عنادهم وكبرياءهم، ويهزم كل مواقع التحدي التي يواجهون بها المسلمين. ولا بدّ للوصول إلى هذا الهدف، من معارك ضارية يقف فيها المسلمون في خط المواجهة للكافرين المعتدين، لأن القوة لا بد من أن تجابه بالقوة، كما أن عملية النصر ليست دعاءً يدعو به الداعون في مواقف الخشوع في الصلاة، وليست تمنياتٍ يحلم بها الحالمون في ما يعيشونه من أحلام اليقظة والمنام، بل هي موقف صمودٍ وصبرٍ وهجومٍ ودفاعٍ ومواقف للتحدّي المضاد الذي يرد التحديات ويواجهها بتحدّياتٍ مماثلة، فإذا عاش الإنسان حالة الضعف قليلاً في تلك المواقع، كان الدعاء سبيل قوّة روحية يستمدها من ارتباطه بالله، وكان النصر حلماً روحياً يتحرك في خط الواقع وحركته، في تطلّعٍ خاشع نحو الغيب القادم من لطف الله ورحمته.
{لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} ويجعله القوة الوحيدة التي تحكم الساحة، في ما يوحي به من فكر، وما يركز من مفاهيم وما يشرّع من شريعة... {وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ} ويهدمه في جميع مجالاته الفكرية والروحية والعملية، في خط العقيدة والسياسة والاقتصاد والاجتماع في حالة الحرب والسلم، من موقع الإرادة التي تريد للحق أن ينتصر، وللباطل أن ينكسر في معارك الحق والباطل في كل ساحات الصراع، من خلال جهاد المجاهدين، ودعوة الداعين... {وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} الذين يعيشون الحياة للجريمة، لتكون الجريمة أداةً لتحقيق المطامع الذاتية، على حساب المبادىء الخيّرة القائمة على الحق والإيمان.
ـــــــــــــــ
(1) تفسير الميزان، ج:9، ص:13.
(2) ابن الأثير، أبو الحسن، علي بن عبد الواحد، الكامل في التاريخ، دار الفكر، بيروت ـ لبنان، 1398هـ ـ 1978م، ج:2، ص:83 ـ 84.
تفسير القرآن