تفسير القرآن
الأنفال / من الآية 15 إلى الآية 19

 من الآية 15 الى الآية 19
 

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيـات

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ* وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ* فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِىَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاَءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ* ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ* إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ وَلَن تُغْنِىَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ}(15ـ19).

* * *

معاني المفردات

{زَحْفاً}: الزحف: الدنو قليلاً قليلاً.

{الأَدْبَارَ}: جمع دبر وهو الخلف، والمراد به الهزيمة.

{مُتَحَرِّفاً}: المتحرّف للقتال هو الذي يكرّ بعد أن يفرّ يُري عدوه أنه منهزم، ثم يعطف عليه.

{مُتَحَيِّزاً}: منحازاً.

{وَمَأْوَاهُ}: ملجأه.

{مُوهِنُ}: مضعف.

* * *

مناسبة النزول

في الدر المنثور: «أخرج ابن جرير عن محمد بن قيس ومحمد بن كعب القرظيّ ـ رضي الله عنهما ـ قالا: لما دنا القوم بعضهم من بعض، أخذ رسول الله(ص) قبضة من تراب فرمى بها في وجوه القوم، وقال: شاهت الوجوه فدخلت في أعينهم كلهم، وأقبل أصحاب رسول الله(ص) يقتلونهم، وكانت هزيمتهم في رمية رسول الله(ص)، فأنزل الله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللَّهَ رَمَى} إلى قوله {سَمِيعٌ عَلِيمٌ}»[1].

وفيه أيضاً : «أخرج ابن أبي شيبة، وأحمد وعبد بن حميد، والنسائي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه، وابن منده، والحاكم، وصححه والبيهقي في الدلائل عن ابن شهاب، عن عبد الله بن ثعلبة بن صغير: أن أبا جهل قال حين التقى القوم: اللهم أقطعنا للرحم وآتانا بما لا نعرف فأحنه الغداة، فكان ذلك استفتاحاً منه، فنزلت: {إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الْفَتْحُ} الآية[2].

* * *

الفرار من الزحف... من الكبائر

وتستمر الآيات في أجواء المعارك التي يخوضها المسلمون دفاعاً عن الحقّ وهجوماً على الباطل، فتثير أمامهم قضية الفرار من الزحف، فتعتبره من الكبائر التي يُستَحقُّ عليها دخول النار. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ}، ولا تنهزموا أمامهم وتستدبروهم، {وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} أي ظهره في حالة لقاء العدوّ، {إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ} وذلك إذا أراد الانتقال من جهة إلى أخرى في عمليةٍ تراجعيةٍ تمويهيةٍ، يحاول من خلالها الالتفاف على العدوّ والهجوم عليه من جديد على أساس خطةٍ عسكريةٍ مدروسةٍ {أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ} فينحاز إلى جماعته وجبهته، ليقاتل من موقعٍ قويّ، لا من حالة فردية... {فَقَدْ بآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ}. أي رجع بسخط الله، {وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}، لأنّ هذه المعصية ليست كبقيّة المعاصي الفردية المحدودة التي تتصل بالحياة الخاصة للعاصي، بل تمتد لتهزم المسيرة الإسلامية كلها، عندما يقع المسلمون في قبضة الهزيمة التي يختارونها في مواقف الضعف الداخلي الذي ينطلق من حبّ الحياة وكراهة الموت.

وقد جاء في حديث الفضل بن شاذان، أن الإمام علي بن موسى الرضا(ع) كتب من جواب مسائله: «وحرّم الله الفرار من الزحف، لما فيه من الوهن في الدين، والاستخفاف بالرسل والأئمة العادلة(ع)، وترك نصرتهم على الأعداء، والعقوبة لهم على إنكار ما دعوا إليه من الإقرار بالربوبية وإظهار العدل وترك الجور وإماتة الفساد، لما في ذلك من جرأةِ العدو على المسلمين، وما يكون في ذلك من السبي والقتل وإبطال دين الله ـ عز وجل ـ، وغيره من الفساد»[3].

* * *

لا ظفر إلا بالله وحده

{فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللَّهَ رَمَى}... وهذا هو خط الإيمان الذي يريد الله من المؤمن أن يعيشه في فكره وشعوره، في كل حالات النصر والنجاح، في حركة الحياة وفي ساحة الصراع، وذلك بأن لا يعتقد في نفسه القوّة الذاتية المستقلّة عن الله، في ما يمدّه به من عناصر القوة، بل يعتقد بأنه يتصرف عن أمره، ويتقلّب في تدبيره، ويتحرك بقوّته، فإذا قتل العدو فإنما يقتله بنصر الله وقوته التي أمده بها، فكأن الله هو الذي قتله؛ وإذا رماه بسهم، فكأن الله رماه، فهو ـ سبحانه ـ الفاعل الحقيقي للأشياء والقوة الحقيقية التي تتحرك بها، لا بمعنى إلغاء الاختيار والإرادة الإنسانية في الفعل، بل بمعنى إلغاء الذاتية المستقلة للإنسان في أعماله، في ما تنطلق به من عوامل القوة.

وقد كانت المعركة في بدر مظهراً من مظاهر الإمداد الإلهي الغيبي في ما أثاره الله في أجواء المعركة، وفي مشاعر المسلمين، وفي امتلاء قلوب الكافرين بالرعب، مما جعل من موقف المسلمين فيها موقف قوة، بعد أن كان موقف ضعف في ما كانوا يعانونه من أحوالٍ نفسية أمام قلة العدد والعدة، مما يجعل من اختيارهم ظلاًّ لإرادة الله واختياره بشكل واضحٍ، وهذا ما أراده القرآن في أسلوب التربية القرآنية من ربط الأشياء الصغيرة والكبيرة والسلبية والإيجابية ـ في واقع الكون وفي حركة الحياة والإنسان ـ بالله، لتتأكد ـ من خلال ذلك ـ عقيدة التوحيد الخالص التي لا تتصور شيئاً إلا وتتصور الله معه، لتحس بأن الكون كله هو الظل، وأنّ الله هو النور، وهو الحقيقة، وهو الذي يكفي من كل شيءٍ ولا يكفي منه شيء، وهو على كل شيء قدير...

{وَلِيُبْلِىَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاَءً حَسَنًا}، في ما يمتحنهم به من النصر الكبير الذي أمدّهم به بلطفه وبقوته. وهذا البلاء الحسن هو الذي يوحي لهم بنعمة الإيمان ودوره في بناء شخصيتهم على أساس العزّة والحرّية، بالإضافة إلى الغنائم التي غنموها، والمكاسب التي حصلوا عليها. {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} يسمع استغاثتهم ودعواتهم وابتهالاتهم في حالات الشدة، ويعلم ضعفهم وبلواهم وحاجتهم إليه في أوقات الاهتزاز والخوف.

{ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ} في ما يدبرونه أو يخطّطونه لهزيمة المؤمنين وإضعافهم، من أجل إضعاف الإيمان في الحياة. فقد ينجحون في بعض المراحل والمواقع، ولكن النهاية هي الفشل والهزيمة. {إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الْفَتْحُ}. ربّما كان الأقرب إلى جوّ كلمات هذه الآية، أن يكون الخطاب للكافرين، وذلك من خلال الحديث عنهم في الآية السابقة، بأنّ الله موهن كيدهم، فقد ورد في بعض الروايات: أن أبا جهل كان يطلب من الله الفتح، فكان الجواب على ذلك: إنكم إذا طلبتم الفتح، فهذا هو الفتح، ولكنه ليس الفتح الذي تريدونه، بل هو الفتح للمسلمين الذين حملوا رسالة الله، ونصروا دينه بصدقٍ وإخلاصٍ.

* * *

الله يحض الكافرين على كفّ شرورهم ويحذرهم نفسه

{وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ}، لأن كل هذه المكائد التي تكيدونها لله ولرسوله وللمؤمنين، ستكون وبالاً عليكم، لأن الله سيبطل كيدكم في نهاية المطاف، فإذا انتهيتم عن ذلك، وغيّرتم وبدّلتم، وسرتم على الصراط المستقيم، كان ذلك خيراً لكم، لأنّه يوفر عليكم الجهد والعناء والهزيمة في الدنيا، كما يدفع عنكم الذل والخزي والعذاب في الآخرة. {وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ}، لنوهن كيدكم، ونبطل خططكم العدوانية، ونهزمكم شر هزيمة... {وَلَن تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ} ـ جماعتكم ـ {شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ}، لأن النصر ليس مع الكثرة دائماً، بل قد يكون حليف القلة المنطلقة من مواقع الإيمان الحق. {وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} فيمدّهم بالقوّة، ويؤيّدهم بالنصر. وماذا تفيدكم قوتكم وكثرتكم إذا كان الله مع المؤمنين ضدّكم؟!

ـــــــــــــــــ

(1) الدر المنثور، ج:4، ص:40.

(2) (م.ن)، ج:4، ص:42.

(3) البحار، م:3، ج:6، ص:67، باب:23، رواية:2.