من الآية 24 الى الآية 26
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيـات
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ* وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ* وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأرضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}(24ـ26).
* * *
معاني المفردات
{يَحُولُ}: الحيلولة: التخلل وسطاً.
{وَقَلْبِهِ}: «القلب: العضو المعروف. ويستعمل كثيراً في القرآن الكريم في الأمر الذي يدرك به الإنسان، ويظهر به أحكام عواطفه الباطنة كالحب والبغض والخوف والرجاء والتمني والقلق.. ونحو ذلك. فالقلب هو الذي يقضي ويحكم، وهو الذي يحب شيئاً ويبغض آخر، وهو الذي يخاف ويرجو ويتمنى، ويسرّ ويحزن، وهو في الحقيقة: النفس الإنسانية تفعل بما جهزت به من القوى والعواطف الباطنة»[1].
{مُّسْتَضْعَفُونَ}: الاستضعاف: عدُّ الشيء ضعيفاً بتوهين أمره.
{يَتَخَطَّفَكُمُ}: التخطف والخطف والاختطاف: أخذ الشيء بسرعة انتزاع.
{فَآوَاكُمْ}: الإيواء: جعل الإنسان ذا مأوى ومسكن يرجع إليه ويأوي.
{وَأَيَّدَكُم}: التأييد: من الأيد وهو القوّة.
* * *
الإيمان موقفٌ للحياة
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ} وهذا هو النداء الثاني للمؤمنين، الذي يريد أن يثير فيهم روح الإيمان ومعناه وحركته في داخلهم، ليوحي إليهم بأنه ليس مجرّد فكرٍ مجرَّد، بل هو موقفٌ للحياة. {اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ}، فإن ذلك هو المظهر الحيّ للإيمان، في ما يفرضه من الاستسلام لله في ما يأمر به أو ينهى عنه، والطاعة لرسوله باعتبار أنها المظهر لطاعة الله {إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}، لأن الإسلام هو دعوةٌ إلى الحياة، في ما أراده للإنسان من حركةٍ ووحيٍ ونموٍّ وانطلاق، من خلال مفاهيمه الواسعة الشاملة التي تفتح آفاقه على الكون كله، ليكون ساحةً لفكره، ومنطلقاً لعمله، وتجربةً لمسؤوليته، ممّا يجعل منه طاقةً حيّةً متحركةً في أكثر من اتّجاه، ومن خلال شريعته التي تنظّم له حياته في ما يأكل ويشرب ويستمتع، وفي ما يعيش من علاقاتٍ، فيتحقق له التوازن في ذلك كله، فلا تنحرف حياته إلى خط السلبيّة التي تهمل كل شيءٍ حولها، ولا تتطرف في خط الإيجابية حتى تغلق على نفسها كل بابٍ للحرّية... وهكذا يمتد التوازن في ما بين النزعة المادية والنزعة الروحية، إلى الانسجام بين الشخصية الفردية والشخصية الاجتماعية، فيحسب لكل شيءٍ حسابه، ويضع كل شيءٍ في موضعه على أساس الحكمة والاتزان، وذلك هو معنى الحياة في حركة الشخصية، لأن الإخلال بالتوازن يؤدّي إلى الانحراف في اتجاه الهلاك، في ما يثيره من الارتباك في حركة المصير.
* * *
أهداف الإسلام للإنسان هي أهداف الحياة عينها
أمّا أهداف الإسلام في ما يريده للإنسان من أهداف وجوده، فإنّها أهداف الحياة في امتداد المعرفة وعمقها، في كلّ ما تختزنه من أسرار وتثيره من قضايا وتواجهه من أحداث، وفي ما تستوعبه من معلومات، حتى لتدعوه إلى الإحاطة بكل شيءٍ من حوله، فلا يغيب عنه شيء في ذلك كله، وفي معنى الحرية التي تجعل للإرادة حريتها، بعيداً عن الضغوط الداخلية أو الخارجية، في انطلاقةٍ شجاعةٍ تتمرّد على كل نوازعها وتحدياتها وأوضاعها، وفي حركة الرسالة في حياته، ليواجه الحياة من موقع الرسالة التي تتطلع إلى كل زاويةٍ من زواياها، لتحرك فيها القيم الروحية التي تبني للإنسان إنسانيته، وتحقق للحياة معناها، فلا تتجمّد حياته عند حدود حاجاته، بل تتحرك إلى البعيد البعيد في نطاق القضايا الكبيرة من أهدافه... وهكذا تكون التضحية بالحياة لوناً من ألوان حركة الحياة، لأن الروح تحيى في أهدافها، كما يحيى الجسد في حاجاته. وهذا ما أراد القرآن الكريم الإيحاء به عندما اعتبر العلم والإيمان والجهاد والشهادة مظهراً من مظاهر الحياة، ولذلك كانت الاستجابة إلى الله وإلى الرسول استجابةً للجانب الحي من حركة الرسالة في الحياة. وهذا ما ينبغي لنا أن نستوحيه في ما نلتقي به من أحكام الشريعة وأسرارها وقضاياها، لنكتشف ـ في ذلك كله ـ كيف تستوعب الشريعة الحياة، وكيف تخضع الحياة لدعوة الشريعة في ما تريد أن تحقّقه من أهداف، أو تواجهه من مشاكل وحلول.
* * *
الله يحول بين المرء وقلبه
{وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ}. ربما كان ذلك كنايةً عن الهيمنة الإلهية على الإنسان، فله السلطة عليه بما لا يملكه من نفسه، فهو قادر على أن يغيّر له فكره في أي جانب من الجوانب، ويحول بينه وبينه. وهذا من أوضح مظاهر السلطة والقدرة، لأن أعلى مظاهر القدرة هي السيطرة على الداخل الذي يختصّ أمره بالإنسان نفسه، لأنّ الناس ـ عادةً ـ لا يملكون الضّغط إلاّ على الجانب الخارجي من الإنسان، وهو الجسد، أمّا الفكر، فلا يملك الناس الضغط عليه إلا من خلال الوسائل العادية التي لا تخرج الإنسان عن اختياره. فإذا كان الله يملك عليه ذلك، فمعناه أنه أقرب إليه من ذاته وأنه يعرف منه ما لا يعرفه ـ هو ـ من نفسه، فلا بدّ له من أن يراقبه ويخافه ويراعيه في كل أموره... {وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} في يوم القيامة، فيحاسبكم بما اطّلع عليه من أعمالكم، مما لا تملكون الحجّة فيه على التخلّص، لأنه المطّلع على الجانب الخفيّ منها، وهو جانب النية التي تطبع العمل بطابعها من خيرٍ أو شرٍ.
* * *
تحذيرٌ للمسلمين من التساهل في أمر المنازعات الداخليّة
{وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً}[2]. إنها الدّعوة لأن يواجه المؤمنون المشاكل الفردية والاجتماعية الناشئة من بعض الانحرافات الفكرية والعملية التي تؤدّي إلى نتائج سلبيةٍ في حركة الحياة، وذلك بالتعامل معها من موقع المسؤولية العامة الواعية للقاعدة الاجتماعية التي تحكم مسيرة المجتمع في سلبيّاته وإيجابيّاته، فلا تقتصر في تأثيراته على الناس الذين يقومون بها، بل تمتد إلى كل أفراد المجتمع، لأن علاقات الناس ومصالحهم متشابكة. ولهذا فإننا نجد الخلافات التي تحدث في دائرةٍ ضيقة من دوائر المجتمع، لا تقتصر على تلك الدائرة، بل تتعداها إلى بقية الدوائر التي تتصل بها، أو تتأثر بها شعورياً أو فكرياً، مما قد يدخل في نطاق العدوى، أو التفاعل اللاشعوري بحكم الترابط الوثيق بين أفراده. ولهذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هو الطابع الحركي للمجتمع الإسلامي، في ما يدفع إليه من تحمُّل مسؤولية الآخرين في ما ينحرفون به، حتى في المجالات البعيدة عن واقع الآمرين والناهين، لأن القضية لا تخص الفاعلين المنحرفين، بل تمتد إلى بقية قطاعات المجتمع بطريقةٍ وبأُخرى، فلا يمكن لأفراده أن يواجهوه مواجهة اللامبالاة تحت شعار تقييد حرية الآخرين الفردية، لأن هناك نوعاً من أنواع حرية الأفراد قد يلغي حرية المجتمع كله. وهذا ما عبَّرت عنه الكلمة المأثورة: «لتأمرنّ بالمعروف، ولتنهُنَّ عن المنكر، أو لَيسلّطنَّ الله شراركم على خياركم فيدعو خياركم، فلا يستجاب لهم»[3].. وهذا ما أرادت هذه الفقرة من الآية أن تشير إليه، فتحذّر المؤمنين من الفتنة التي إذا انطلقت، فإنها لا تصيب الذين أثاروها وأوقدوا نارها من هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم وظلموا الناس، بل تتعداهم إلى غيرهم، كنتيجةٍ طبيعيةٍ لترابط القضايا والمشاكل الاجتماعية، ووحدة مصير أفراد المجتمع.
* * *
دعوة المسلمين لتذكر نعم الله عليهم
وإذا كان التحذير متوجّهاً إلى المجتمع ككلّ في مواجهة الفتنة التي يثيرها الظالمون، فإنه يتوجّه إلى هؤلاء الذين يثيرونها بشكل أكيد، لأنّ المسؤولية الكبرى هي مسؤوليتهم بالذات في ما يتحملونه من النتائج السلبية في الدنيا والآخرة. {وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}، فاحذروا أيها المؤمنون عقاب الله. {وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأرضِ} في مكّة أمام قوّة قريش وجبروتها، {تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ} في ما يمثّل ضعفكم في العدّة والعدد، بحيث كنتم عرضةً للاختطاف في ما يمثله ذلك من ذلٍّ ومهانةٍ واستضعاف.
ولكنّ هذا الواقع قد تبدل إلى واقعٍ جديد بعد الهجرة، فقد أعطاكم الله القوّة من خلال دينه، وهيّأ لكم الأرض الطيّبة التي استقبلتكم بكل محبّةٍ وإيمان؛ {فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ} في ما قدّمه لكم من وسائل النصر، وأثاره فيكم من روح القوة... {وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ} من خلال ما وسّعه عليكم من رزقه الحلال الطيب من مختلف الأشكال والألوان، بعد المعاناة الطويلة التي لاقيتموها في مكّة من ضيق العيش، وجشوبة المأكل. {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} الله على ذلك كلّه، بالسير على هداه، والعمل على رضاه، والجهاد في سبيله، فإنّ ذلك هو التجسيد الحيّ للشكر العملي على نعم الله الوافرة وألطافه الرضيّة، ورحمته الواسعة.
ـــــــــــــــــــ
(1) تفسير الميزان، ج:9، ص:46.
(2) قرأ عليّ والباقر(ع) وكذا زيد بن ثابت والربيع بن أنس وأبو العالية ـ على ما في المجتمع ـ: لتصيبنّ باللام ونون التوكيد الثقيلة، والقراءة المشهورة: لا تصيبن بلا النافية ونون التوكيد الثقيلة. [انظر: مجمع البيان، ج:4، ص:818].
وعلى كل تقدير، فمآل المعنى واحد كما سنرى في سياق تفسيرنا لهذه الآية المباركة، لجهة ما تحمله من تحذير للمسلمين من الاستهانة أو الاستخفاف بموضوع الخلافات الداخلية التي تهدد وحدتهم.
(3) البحار، م:32، ج:90، ص:465، باب:24، رواية:21.
تفسير القرآن