تفسير القرآن
الأنفال / من الآية 27 إلى الآية 28

 من الآية 27 الى الآية 28
 

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيتــان

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَاناتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ* وَاعْلَمُواْ أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}(27ـ28).

* * *

معاني المفردات

{تَخُونُواْ}: الخيانة: نقض الأمانة التي هي حفظ الأمن لحقّ من الحقوق بعهدٍ أو وصية ونحو ذلك، قال الراغب: الخيانة والنفاق واحد، إلاّ أن الخيانة تقال اعتباراً بالعهد والأمانة، والنفاق يقال اعتباراً بالدِّين، ثم يتداخلان، فالخيانة مخالفة الحق بنقض العهد في السر، ونقيض الخيانة الأمانة، يقال: خنت فلاناً، وخنت أمانة فلان، وعلى ذلك قوله: {لاَ تَخُونُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ}. انتهى[1].

* * *

مناسبة النزول

جاء في مجمع البيان: قال عطاء: سمعت جابر بن عبد الله يقول: إن أبا سفيان خرج من مكة، فأتى جبرائيل(ع) النبي(ص) فقال: إن أبا سفيان في مكان كذا وكذا فاخرجوا إليه واكتموا. قال: فكتب إليه رجل من المنافقين أن محمداً يريدكم فخذوا حذركم، فأنزل الله هذه الآية. وقال السدي: كانوا يسمعون الشيء من النبي(ص) فيفشونه حتى يبلغ المشركين. وقال الكلبيّ والزهري: نزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر الأنصاري، وذلك أن رسول الله(ص) حاصر يهود قريظة إحدى وعشرين ليلة، فسألوا رسول الله(ص) الصلح على ما صالح عليه إخوانهم من بني النضير على أن يسيروا إلى إخوانهم إلى أذرعات وأريحاء من أرض الشام، فأبى أن يعطيهم ذلك رسول الله(ص) إلا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ، فقالوا: أرسل إلينا أبا لبابة، وكان مناصحاً لهم لأن عياله وماله وولده كانت عندهم، فبعثه رسول الله(ص) فأتاهم، فقالوا: ما ترى يا أبا لبابة، أننزل على حكم سعد بن معاذ؟ فأشار أبو لبابة بيده إلى حلقه أنه الذبح فلا تفعلوا. فأتاه جبرائيل(ع) فأخبره بذلك. قال أبو لبابة: فوالله ما زالت قدماي من مكانهما حتى عرفت أني قد خنت الله ورسوله. فنزلت الآية فيه، فلما نزلت شدَّ نفسه على سارية من سواري المسجد وقال: والله لا أذوق طعاماً ولا شراباً حتى أموت أو يتوب الله عليَّ. فمكث سبعة أيام لا يذوق فيها طعاماً ولا شراباً حتى خرَّ مغشيّاً عليه، ثم تاب الله عليه، فقيل له: يا أبا لبابة قد تيب عليك. فقال: لا والله، لا أحل نفسي حتى يكون رسول الله(ص) هو الذي يحلّني. فجاءه فحلَّه بيده، ثم قال أبو لبابة: إن من تمام توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب وأن أنخلع من مالي. فقال النبي(ص): يجزئك الثلث أن تصدّق به. وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله(ع)[2].

ومعنى الرّواية الأولى أقرب للانطباق على ما سنرى في التفسير الذي اعتمدناه للآيتين موضوع البحث. وأما قصة أبي لبابة وتوبته وإن كانت صحيحة وقابلة للانطباق على مضمون الآيتين لا سيما لجهة فتنة الأهل، غير أنها وقعت بعد قصة بدر بوقتٍ كثير. وظاهر الايتين، إذا ما قيستا إلى الآيات السابقة عليهما، نرى أنها جاءت جميعها في سياق واحد، ونزلت بعيد وقعة بدر بقليل، والله العالم.

* * *

نهي إلهيّ عن خيانة أمانته ورسوله والمؤمنين

وهذا هو النداء الثالث الذي يدعو المؤمنين إلى اعتبار الإيمان عهداً بين المؤمن وبين الله ورسوله، بإخلاص العبودية لله، وإسلام الحياة كلها له، وإخلاص الالتزام بالشريعة التي جاء بها رسوله، والعمل على تحقيق الأهداف الكبرى التي أراد الله للحياة أن ترتكز عليها في مضمونها الروحي والماديّ، وفي حركتها الجهادية في مواجهة كل تحديات الباطل، من أجل إقامة الحق في واقع الإنسان، كما يدعوهم إلى الإخلاص للأمانات الفردية والاجتماعية، في ما يأتمن به الأفراد بعضهم البعض في قضايا المال والعرض والنفس والسرّ، وفي ما يتحملونه في نطاق المجتمع من مسؤولياتٍ سياسية أو اجتماعية واقتصادية وعسكرية، ممّا يعتبر في مستوى الأمانة العامّة، من أجل سلامة الأمة في قضية المصير. وبذلك يكون الفرد المؤمن، هو الفرد الأمين على قضايا الناس والحياة، ويكون المجتمع المؤمن هو المجتمع الذي يعتبر الأمانة بمثابة المسؤولية عن كلّ شيء يتّصل بالآخرين في إطار طاقاته، والقاعدة الصلبة التي يرتكز عليها وجوده، بينما يعتبر الخيانة الفردية والجماعية خارجةً عن الخط المستقيم، ومنفصلةً عن البناء المتماسك للوجود الإيمانيّ الإنسانيّ في الحياة.

وهذا ما أثارته الآية الكريمة في هذا النداء: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ} في ما يوحي به الإيمان من عمق الالتزام وامتداده وقوّته. {لاَ تَخُونُواْ اللَّهَ} في ما تفرضه حقيقة الألوهية والوحدانية من إخلاص العبودية له {وَالرَّسُولَ} في ما يعنيه الإيمان بالرسالة من الالتزام بالمفاهيم العامة التي تدعو إليها، والتعاليم الشرعية التي تأمر بالخير، وتنهى عن الشر، وتدفع إلى الحق، وتُبعد عن الباطل، فإن خيانة الله والرسول في ذلك تعني الكفر والضلال... {وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ} فإن الله يريد للحياة الاجتماعية أن ترتكز على الثقة المتبادلة بين الأفراد، القائمة على الإخلاص في حمل الأمانة وفي تأديتها إلى أهلها، من دون فرق بين الأمانات الشخصية المتمثلة بالالتزامات الذاتية التعاقدية بين الأفراد، وبين الأمانات العامة المتمثلة بالتشريعات الإلهية في المسؤوليات التي حملها الله للناس. {وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} قيمة العهد الإلهي والرسالي في خط الإيمان، والعقد الفردي والجماعي في دائرة الأمانة، وإذا كنتم تعلمون ذلك، فإن العلم يمثّل الحجة البالغة التي لا تملكون معها أيّ لونٍ من ألوان العذر في ما لو انحرفتم عن الطريق المستقيم.

* * *

تحذير مبطن من فتنة الأموال والأبناء

{وَاعْلَمُواْ أَنَّمَآ أَمْوَلُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ}. فليست الأموال امتيازاً ذاتياً للطغيان والتجبّر، وليس الأولاد منحةً شخصية للشعور بالقوة والخيلاء، بل هي أمانة في مستوى المسؤولية، ونعمةٌ في مستوى الامتحان. فقد أراد للأموال أن تكون من حلال وأن تصرف في الحلال، كما أراد للأولاد أن يكونوا مؤمنين صالحين عاملين بما يرضي الله ويصلح الناس. فهي فتنةٌ، يُفتن الإنسان بها ويُختبر، ليُعرف ما إذا كان يقوم فيها بما يستوجب مرضاة الله أو بما يستوجب سخطه، فإذا قام الإنسان فيها بطاعة الله، فإنه سيحصل على الثواب الكبير منه. {وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } لمن آمن به وأخلص له الإيمان والطاعة. وهكذا يعتبر القرآن ملكية المال وظيفةً إنسانية، من أجل تحويله إلى طاقة حيّةٍ منتجةٍ من أجل بناء الحياة والإنسان، كما يعتبر الأُبوَّة للأولاد رسالةً يؤديّ أحد الأبوين ـ أو كلاهما ـ من خلالها مهمّته، ويقوم بدوره في تربية الأعضاء الفاعلين للأمة الذين يعملون من أجل المعاني الروحية والإنسانية التي جاءت بها الرسالات الإلهية إلى العالم.

ــــــــــــــــ

    (1) مفردات الراغب، ص:162.

    (2) مجمع البيان، ج:4، ص:823ـ824.