تفسير القرآن
الأنفال / الآية 30

 الآية 30
 

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيــة

{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}(30).

* * *

معاني المفردات

{يَمْكُرُ}: قال الراغب: المكر صرف الغير عما يقصده بحيلة، وذلك ضربان: مكرٌ محمود وذلك أن يتحرى به فعل جميل، وعلى ذلك قال: {وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} ومذموم: وهو أن يتحرى به فعل قبيح، قال: {وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّىءُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ} [فاطر:43]، {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ}. {فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ }[النمل:51]، وقال في الأمرين: {وَمَكَرُواْ مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً} [النمل:50]، وقال بعضهم: من مكر الله إمهال العبد وتمكينه من أعراض الدنيا؛ ولذلك قال أمير المؤمنين (رضي الله عنه): من وُسع عليه دنياه ولم يعلم أنه مكر به فهو مخدوعٌ عن عقله[1].

{لِيُثْبِتُوكَ}: في المجمع: الإثبات: الحبس، يقال: رماه فأثبته، أي حبسه مكانه. وأثبته في الحرب، أذا جرحه جراحة مثقلة[2].

* * *

مناسبة النزول

جاء في الدر المنثور للسيوطي، عن ابن عباس(رضي الله عنها) في قوله: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ} قال: تشاورت قريش ليلة بمكة فقال بعضهم: إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق ـ يريدون النبي(ص) ـ وقال بعضهم: بل اقتلوه، وقال بعضهم: بل أخرجوه.. فأطلع الله نبيه على ذلك، فبات عليّ رضي الله عنه على فراش النبيّ(ص)، وخرج النبي حتى لحق بالغار، وبات المشركون يحرسون علياً رض الله عنه يحسبونه النبي(ص). فلمّا أصبحوا ثاروا إليه، فلما رأوه عليّاً رضي الله عنه رد الله مكرهم، فقالوا: أين صاحبك هذا؟ قال: لا أدري. فاقتصّوا أثره، فلمّا بلغوا الجبل، اختلط عليهم، فصعدوا في الجبل، فرأوا على بابه نسج العنكبوت، فقالوا: لو دخل هنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه، فمكث فيه ثلاث ليال[3].

* * *

قريش تتآمر على النبي قبل الهجرة

وهذا حديث عن الأجواء التي سبقت الهجرة النبويّة من مكة إلى المدينة وهيّأت لها. فقد ضاقت قريش ذرعاً بالنبي، بعد أن استنفدت كل الأساليب التي حاولت من خلالها الضغط عليه نفسياً وجسدياً من أجل أن يترك دعوته، ويبتعد عن مواجهة الفكر الإشراكي في خططه ووسائله وأهدافه، ولكنه صمد أمام عوامل الترغيب والترهيب، والإيذاء والتنكيل، والشتم والاضطهاد، فاجتمعوا في مؤتمر تآمريٍ ضمّ كبار القوم، فقال قائلهم: نثبته في بيت ونوثقه، وقال آخر: بل نقتله، وقال ثالث: بل نخرجه من بلادنا... واختلف الرأي فيما بينهم. ثم اتفقوا على أن يقتلوه بمشاركة كل بطون قريش، حتى يضيع دمه فيما بينهم. ولكن الله أطلع نبيه على ذلك، وأمره بالهجرة إلى المدينة، حيث كان قد أعدّ للأمر عدّته في ما اتفق عليه مع الأوس والخزرج على أن ينطلقوا معه في خط الدعوة إلى الله والجهاد في سبيله، فيمنعونه مما يمنعون به أنفسهم وأهليهم وأموالهم... وهكذا أبطل الله مكرهم وتدبيرهم الخبيث بأقوى منه، حيث خطط لنبيه طريق الهجرة بكل دقّةٍ ونجاح، وانطلق الإسلام من خلال ذلك انطلاقته الكبرى في خط الدعوة والجهاد من خلال الرحمة والقوة.

{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} على ضوء ما تقدم من معنى «المكر» في «معاني المفردات»، فإن الكلمة لا تدل على معنى سيّىء ليقول قائل إن نسبة المكر إلى الله جارية على سبيل المحاكاة ورد الفعل لا على سبيل الحقيقة. {لِيُثْبِتُوكَ} الإثبات الحبس... {أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} من مكة، {وَيَمْكُرُونَ} في ما يدبرونه من خطط للقضاء على النبي وعلى دعوته {وَيَمْكُرُ اللَّهُ} بما يدبّره من إبطال كيدهم ومكرهم، وبما يسهله لرسوله من الوصول إلى أهدافه، {وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} وخير المدبّرين، فإذا أراد شيئاً هيّأ أسبابه..

ـــــــــــــــــ

(1) مفردات الراغب، ص:491.

(2) مجمع البيان، ج:4، ص:826.

(3) الدر المنثور، ج:4، ص:50ـ51.