تفسير القرآن
الأنفال / من الآية 31 إلى الآية 38

 من الآية 31 الى الآية 38
 

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيــات

{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آياتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَـذَآ إِنْ هَـذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ* وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَآءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ* وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ* وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَآءهُ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ* وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ* إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَلَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ* لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ* قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِن يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الأوَّلِينِ}(31ـ38).

* * *

معاني المفردات

{أَسَاطِيرُ}:أحاديث، وهي جمع أسطورة، وتغلب على الأخبار الخرافية.

{مُكَآءً}: المُكاء بضم الميم: الصفير؛ والمكاء بصيغة المبالغة: طائر بالحجاز شديد الصفير.

{وَتَصْدِيَةً}: التصدية: التصفيق بضرب اليد على اليد.

{لِيَمِيزَ} التمييز: إخراج الشيء عما يخالفه، وإلحاقه بما يوافقه، بحيث ينفصل عما يخالف.

{فَيَرْكُمَهُ}: الركم: جمع الشيء فوق الشيء؛ وتراكم الأشياء: تراكب بعضها فوق بعض.

{يَنتَهُواْ}: الانتهاء: الإقلاع عن الشيء لأجل النهي.

{سَلَفَ}: تقدّم.

{سُنَّتُ}: السنة هي الطريقة والسيرة.

* * *

مناسبة النزول

في الدر المنثور: «أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن السدي رضي الله عنه قال: كان النضر بن الحارث يختلف إلى الحيرة فيسمع سجع أهلها وكلامهم، فلما قدم إلى مكة سمع كلام النبي صلى الله عليه وسلّم والقرآن، فقال:{قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَـذَآ إِنْ هَـذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ}»[1].

أقول: وهناك بعض روايات اَخر في أن القائل بهذا القول هو النضر ابن الحارث، وقد قتل يوم بدر صبراً.

وفيه: «أخرج البخاري، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال أبو جهل بن هشام: {اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَآءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} فنزلت: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}»[2].

وفيه: «أخرج ابن جرير عن يزيد بن رومان ومحمد بن قيس قالا: قالت قريش بعضها لبعض: محمد(ص) أكرمه الله من بيننا؟ {اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَآءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} الآية، فلما أمسوا ندموا على ما قالوا، فقالوا: غفرانك اللهم، فأنزل الله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} إلى قوله: {لاَ يَعْلَمُونَ}»[3].

وفيه: «أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن سعيد بن جبير(رض) قال: كانت قريش يعارضون النبي(ص) في الطواف، يستهزئون ويصفرون ويصفّقون فنزلت: {وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً}»[4].

وفيه: «أخرج أبو الشيخ عن نبيط ـ وكان من الصحابة (رض) ـ في قوله: {وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ} الآية، قال: كانوا يطوفون بالبيت الحرام وهم يصفرون»[5].

وفيه: «أخرج الطستي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن نافع بن الأزرق قال له: أخبرني عن قوله عز وجل: {إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً}، قال: المكاء: صوت القنبرة، والتصدية: صوت العصافير وهو التصفيق، وذلك أن رسول الله(ص) كان إذا قام إلى الصلاة وهو بمكة كان يصلي قائماً بين الحجر والركن اليماني، فيجيء رجلان من بني سهم يقوم أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله، ويصيح أحدهما كما يصيح المكاء، والآخر يصفق بيده تصدية العصافير ليفسد عليه صلاته»[6].

وفيه : «أخرج ابن إسحاق وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الدلائل كلهم من طريقه قال: حدثني الزهري ومحمد بن يحيى بن حيان، وعاصم بن عمر بن قتادة والحصين بن عبد الرحمن بن عمر، قالوا: لما أُصيبت قريش يوم بدر ورجع فلّهم إلى مكة ورجع أبو سفيان بعيره، مشى عبد الله بن ربيعة وعكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أُميّة في رجال من قريش إلى من كان معه تجارة فقالوا: يا معشر قريش إن محمداً قد وتركم وقتل خياركم فأعينونا بهذا المال على حربه فلعلنا أن ندرك منه ثأراً، ففعلوا، ففيهم ـ كما ذكر عن ابن عباس رضي الله عنهما ـ أنزل الله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} إلى قوله:{وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ}»[7].

وفيه: «أخرج ابن سعد، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن عساكر عن سعيد بن جبير في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} الآية، قال: نزلت في أبي سفيان بن حرب، استأجر يوم اَحد ألفين من الأحابيش من بني كنانة يقاتل بهم رسول الله(ص) سوى من استجاش من العرب، فأنزل الله فيه هذه الآية، وهم الذين قال فيهم كعب بن مالك رضي الله عنه:

وجئنا إلى موج من البحر وسطه أحابيش منهم حاسر ومقنـع»

ثلاثـة آلاف ونحـن نصـيـةٌ ثلاث مئين إن كثرن فأربع[8]

* * *

من ملامح المجتمع الكافر

وهذه صورة حيّة للأسلوب الذي كان يستخدمه الكافرون في مواجهة الرسول والرسالة، وللجوّ العدواني الذي كانوا يثيرونه ضدّهما... وكيف واجههم الله بوعيده بإنزال العذاب عليهم في الآخرة، وبدحر مخططاتهم في الدنيا، وبكشف كل أوضاعهم المنحرفة الضالة.

* * *

استهانة الكفّار بآيات الله تعالى

{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آياتُنَا} في ما كان يتلوه عليهم رسول الله من وحي الله، ليتأملوا وليفكروا في معانيه ليهتدوا به، {قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا} في طريقةٍ توحي بالاستخفاف واللاّمبالاة، كمن يحاول أن ينتهي من الموضوع بشكل سريع، ولهذا فهو يحاول أن لا يدخل في حوارٍ للوصول إلى النتيجة الحاسمة، فيلقي الكلام من دون تفكير. {لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَـذَآ}، لأن ما تقدمه لنا ـ يا محمد ـ مجرد كلام، كالكلام الذي نحدث به بعضنا بعضاً، فليس فيه شيء غير مألوف بما تعوّد الأنبياء أن يقدّموه إلى الناس. {إِنْ هَـذَآ إِلاَّ أَسَـطِيرُ الأَوَّلِينَ } في ما كانوا يتحدثون به من خرافاتٍ لا تمثل شيئاً من الحقيقة. وهكذا نجد أنهم لا يريدون للمسألة أن تأخذ الطابع الجديّ للنقاش وللحوار المفيد.

{وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَآءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ السَّمَآءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}. لقد كان أهل مكة يؤمنون بالله، ولكنهم كانوا يشركون بعبادته غيره، في ما صنعوه من الأصنام التي يعتبرونها قريبةً من الله في ما تختزن ـ في داخلها ـ من أسرارٍ، وبذلك فإنها تقرِّبهم إلى الله زلفى. ولهذا فإنهم يتوجهون إلى الله من موقع الواثق بصحة عقيدته في ما يعبد من هذه الأصنام، والعارف ـ من خلال ما كان يسمعه من أحاديث الأنبياء ـ بأن التمرد على الحق الصادر من الأنبياء، يؤدي إلى عذاب إلهيٍّ دنيوي من نوع إمطار الحجارة من السماء عليهم، أو ما أشبه ذلك من العذاب، كإنزال الصاعقة، أو النار الهابطة من السماء، أو غير ذلك مما كان يحلُّ على الأمم السالفة.

ولذلك فإنهم وجّهوا هذا الدعاء إلى الله بروحيّة التحدّي للرسول الذي يريدون إظهاره بمظهر المدّعي للنبوّة من غير أساس، لأنه لو كان صادقاً في ما يدّعيه، لكان تكذيبهم له موجباً لنزول العذاب عليهم، كما هي سنَّةُ الله مع الأُمم السابقة المكذّبة للأنبياء. ولكن الله يرد عليهم ـ بطريقةٍ غير مباشرة ـ بأن الله لن يعامل هذه الأمة، بما كان يعامل به الأمم السابقة من أساليب العذاب غير المألوف، والخارق للعادة، لأن الله لم يرد للأمّة أن تنتهي بالعذاب، بمجرد قيامها بالتمرُّد والكفران، بل يريد لها الامتداد من خلال حركة الرسول السائرة أبداً في خط الأمل الكبير بانتصار الإيمان على الكفر، وغلبة الهدى على الضلال... ولذلك فإن الله ـ سبحانه ـ أراد له أن يصبر ويواصل الدعوة تلو الدعوة، والأسلوب تلو الأسلوب؛ فإذا أخفق أسلوبٌ في مرحلة، فإن هناك أسلوباً آخر ينتظر التحرك في مرحلةٍ أخرى.

* * *

وجود النبي(ص) مانع لنزول العذاب

وإذا ابتعدت جماعةٌ عن خط الدعوة إلى الله، فإن هناك جماعةً أخرى تقترب منه في عمليّة إيمان ولقاء. وبذلك كانت المسيرة مستمرةً مع رسول الله، فلا مجال ـ معه ـ للعذاب، لأنه يعني نهاية المسيرة {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ}. أما إذا غاب رسول الله عن الدنيا، ولاقى وجه ربّه، فسيبقى ـ بعده ـ مستغفرون، يستغفرون الله في كل صباحٍ ومساء، ويبتهلون إليه في خشوع الإخلاص، وسيرفع الله العذاب عن الأمة كرامةً لهؤلاء المستغفرين، لأن الله يريد للجانب الخيِّر في الحياة أن يبقى ويمتد من أجل أن يهيمن على جانب الشر فيها، ولو بعد حين. {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}.

* * *

تأخير عذاب الكفّار ليوم القيامة

{وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}. ربما كان هذا التأكيد على عذاب الله لهم ناشئاً من استحقاقهم للعذاب، لولا وجود رسول الله بينهم. ولكن الله يؤخر عذابهم إلى يوم القيامة، فقد صدوا عن المسجد الحرام كل المؤمنين، فهم كانوا يضطهدونهم في مكة، ويمنعون من كانوا خارجها من المجيء إليها للحج والعمرة. وقد فسر البعض العذاب هنا بالقتل الذي نزل بهم في معركة بدرٍ وغيرها، ويؤيد ذلك أن الله عبّر عن القتل بالعذاب في قوله تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} [التوبة:14]، ولكن هذا غير واضح من سياق الآية؛ والله العالم.

* * *

أولياء الله هم المتقون

{وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَآءهُ} لأنهم أشركوا بالله غيره، ودنسوا الكعبة بأصنامهم، وابتعدوا في مفاهيمهم وتقاليدهم عن خط الرسالات، وأقبلوا على أفكار الجاهلية وعاداتها، مما جعلهم بعيدين عن الله وعن بيت الله... { إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ} الذين يخافون الله ويؤمنون به، ويعبدونه، ويعمرون مساجده بالعبادة والعلم والتقوى، فتتحول ـ من خلالهم ـ إلى أجواء خاشعة من الروحانية والإيمان؛ لأن قضية المساجد ليست قضية امتياز يتوارثه الأبناء عن الآباء للزعامة والوجاهة، بل هي قضية رسالة وتقوى وعبادة، وهذا ما يتحمل مسؤوليته المتقون الذين أُبعدوا عن دورهم الطبيعي في هذه المجالات {وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}.

ثم يلتفت إلى ما كانت تقوم به قريش من مظاهر العبادة في البيت الحرام، فيصوّر لنا ذلك بصورة الألعوبة التي لا تمثل أيّ معنىً من معاني العبادة.

* * *

ضلال سعي الكفار لإبطال دعوة الله

{وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً} فقد كانت صلاتهم نوعاً من أنواع العبث الذي يمارسونه صفيراً بأفواههم وتصفيقاً بأيديهم، من دون خشوع أو خضوع. {فَذُوقُواْ الْعَذَابَ} في جهنم {بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} بالله ورسالاته. وتبقى نشاطاتهم في ما ينفقون من أموالهم في سبيل أنانيتهم ومطامعهم ومخططاتهم المشبوهة في إبعاد الناس عن طريق الله، وفي تدبير المكائد للمؤمنين، أملاً في الانتصار والوصول إلى ما يريدون أو يستهدفون... ولكن الله يكشف لنا عن النتائج السلبية التي يحصلون عليها من ذلك، بالمستوى الذي يحوّل كل جهودهم إلى حسراتٍ وهزائم.

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} في ما يبذلونه في المعارك التي يثيرونها ضد الإسلام والمسلمين. {فَسَيُنفِقُونَهَا} ويخسرونها، لأنهم لن يربحوا منها شيئاً. {ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً} لأنهم يرونها تتبدّد وتذوب بين أيديهم من دون فائدةٍ. وتلك هي روحية الإنسان الذي يبذل ما يبذل من جهد في سبيل جمع المال، ليضمن من خلاله تحقيق أغراضه وأمانيه. وإذا به يجد نفسه وجهاً لوجه أمام الخسارة الفادحة التي تحطم كل أحلامه وكل مستقبله. {ثُمَّ يُغْلَبُونَ}، فتجتمع لديهم الخسارة المادية والخسارة المعنوية. وماذا بعد ذلك؟ هل تقف الخسارة عند هذا الحد؟ إن الآخرة تنتظرهم بعذابها. {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} ليلاقوا جزاء أعمالهم، ويعيشوا الحسرة العظمى التي لا حسرة بعدها.

* * *

الخبثاء مركومون في جهنم

وهكذا يريد الله من الإنسان تجسيد خصائصه الذاتية، في نشاطاته وعلاقاته ومعاملاته ومواقفه، وإظهارها {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} في الصفات الخبيثة الشريرة التي تتمثل في الأول، وفي العاقبة الخاسرة الوخيمة التي تواجه الخبيث؛ وفي الصفات الطيبة الخيّرة المتمثلة في الثاني، وفي العاقبة الرابحة المشرقة التي تواجه الطيب في الدنيا والآخرة… {وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً} بأن يجمع الخبثاء في يوم القيامة، ويلقيهم بعضهم فوق بعض {فَيَجْعَلَهُ} أي الخبيث {فِي جَهَنَّمَ} تماماً كما يلقي حزمة الحطب فيجعلها وقوداً للنار. {أُوْلَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} وأيّ خسارة أعظم من الخسارة الخالدة، التي يفقد الإنسان معها كل أمل بالربح في المستقبل القريب والبعيد؟!

ويختم الله هذا الفصل بتوجيه الأمر للنبي، بأن يطرح على هؤلاء الكافرين النصيحة الإلهية الحاسمة، في ما يجب أن يفكروا به للحاضر والمستقبل. {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ} ويسلموا في تفكيرهم ومنهجهم العملي للحياة، ويرجعوا إلى الله في كل شيء {يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ} من ذنوبهم، لأن الله يغفر للمؤمن كل ما جناه في زمان كفره. {وَإِن يَعُودُواْ} إلى ما كانوا عليه من التمرد والعصيان والصد عن سبيل الله، ومحاربة الله ورسوله {فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الأوَّلِينِ} الذين كذّبوا وتمرّدوا وواجهوا الأنبياء بالمحاربة، ونصر الله رسله عليهم ومزّقهم شرّ ممزّق.

ـــــــــــــــــــ

(1) الدر المنثور، ج:4، ص:54.

(2) الدر المنثور، ج:4، ص:55.

(3) (م.ن)، ج:4، ص:55ـ56.

(4) (م.ن)، ج:4، ص:61.

(5) (م.ن)، ج:4، ص:61.

(6) الدر المنثور، ج:4، ص:61.

(7) (م.ن)، ج:4، ص:63.

(8) (م.ن)، ج:4، ص:63.