من الآية 42 الى الآية 44
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيــات
{إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَـكِن لِّيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ* إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمْرِ وَلَـكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ* وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ}(42ـ44).
* * *
معاني المفردات
{بِالْعُدْوَةِ}: جانب الوادي، أو شفيره.
{الدُّنْيَا}: مؤنّث أدنى، وهو الأقرب.
{الْقُصْوَى}: مؤنث الأقصى، وهو الأبعد.
{وَالرَّكْبُ}: جمع راكب. وقيل هو البعير الذي كان عليه أبو سفيان ابن حرب.
{بَيِّنَةٍ}: حجّة ظاهرة.
{لَّفَشِلْتُمْ}: الفشل: هو ضعف من فزع.
{وَلَتَنَازَعْتُمْ}: التنازع: الاختلاف. وهو من النزع نوع من القلع، كأن المتنازعين ينزع كل منهما الآخر ممّا هو عليه.
* * *
الرعاية الإلهية لمعركة بدر
وهذه بعض الآيات التي تتحدث عن الأجواء التي هيّأها الله ـ سبحانه ـ للمسلمين، من أجل نصرهم على المشركين في بدر، ليحسُّوا برعاية الله لهم في ما يخوضونه من معارك، أو يواجهونه من تحدّيات. {إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا} وهي شفير الوادي الأقرب إلى المدينة، الذي اتخذه المسلمون موقعاً عسكرياً لهم. {وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى} وهي الجانب الأبعد. {وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ} وهم الذين كانوا مع القافلة التي تحمل تجارة قريش بقيادة أبي سفيان، فقد استطاع أن يبتعد إلى الساحل الذي هو أسفل منهم، حتى هرب بها بعيداً عن المسلمين.
{وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ} لأن المسلمين لم يخرجوا لقتال قريش، بل ليتعرضوا للقافلة، كما أن المشركين خرجوا لحماية القافلة، وقد كانت المواجهة بينهما في المعركة غير منتظرةٍ، ودون اتفاق أو تواعدٍ على مكانٍ خاص أو زمانٍ خاص. وربما كان التواعد السابق موجباً للاختلاف في الميعاد، لأن ذلك قد يخلق حالةً من الاستعداد الذي يؤخر أحدهما عن الآخر، وربما يوجب بعض التردد والتراجع لدى الخائفين المترددين، في ما لو علموا أن هناك معركةً حربيةً تنتظرهم في مسيرهم هذا. وقد يكون في هذا الموقع الذي اتخذه المشركون، الذي يتميز بالصلابة والقرب من الماء، والموقع الذي اتخذه المسلمون، الذي يتميز بالرمل المتحرك والبعد عن الماء، إشارةً إلى أنّ النصر لم يكن حاصلاً من الأسباب الطبيعية التي تفرض الانتصار لمراكز القوى، لأنّ القضية كانت عكسيّة، لأن المواقع العسكرية لا توحي بانتصار المسلمين. {وَلَـكِن لِّيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً} فقد أراد ـ سبحانه ـ أن يهيّىء الجوَّ الملائم الذي تتحرك فيه المعركة باتجاه النتائج المفاجئة التي توحي بالرعاية الإلهية في ما تمثله من حجةٍ للإيمان على الكفر، وللمؤمنين على المشركين، {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ}. وربما كان المراد من الهلاك الكفر أو الضلال، باعتباره سبباً للهلاك الأخروي أو الدنيوي، في ما يقتضيه من أوضاعٍ سلبيّةٍ لأصحابه. {وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ} في ما يمثله الإيمان من حياة روحية، في ما يحسّه الإنسان المؤمن من حياةٍ مطمئنة، أو في ما ينتهي إليه من حياة النعيم في الآخرة. فقد أراد الله للمؤمنين أن ينفتحوا على الإيمان من موقع الحجة لهم على الآخرين، كما أراد أن يقيم الحجة على الكافرين في ما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً. {وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ}، فهو الذي يسمع دعوات المؤمنين واستغاثتهم، ويعلم ضعفهم وحاجتهم للتأييد والنصر.
* * *
رؤية النبي للمنام... واستبشار المؤمنين بالنصر
{إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً} وقد رأى النبي في منامه قريشاً وهم قلّة لا يمثلون قوّةً عددية كبيرة، فأخبر المسلمين بما رأى، فاستبشروا بذلك وقوي عزمهم على الدخول في المعركة. {وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ} لأن ذلك يؤدي بهم إلى الخوف الذي يبعث على الهزيمة النفسية، وينتهي بهم إلى الفشل في مسيرتهم هذه، من خلال الضعف الداخلي المسيطر عليهم، ويخلق فيما بينهم حالةً من التنازع بين فريقٍ يدعو إلى الاستمرار في المعركة، وبين فريقٍ يدعو إلى التراجع والانسحاب بفعل العجز عن المواجهة، مما يجعل من الاندفاع معها حالةً انتحارية لا يُقدم عليها العقلاء {وَلَـكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}.
{وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً} لتندفعوا في المعركة من موقع الاستهانة بهم، لتنطلقوا بروحٍ قويةٍ ثابتةٍ {وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ} ليتحركوا نحوكم بروح الاستهانة والتهوّر التي تمنعهم من الاستعداد الذاتي والحذر الشديد، ليساهم ذلك في إتمام عملية النصر، {لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً} في ما يقضيه من انتصار المسلمين على المشركين، على أساس تهيئة الجو النفسي الذي يدفع بالمعركة في الاتجاه المفاجىء لمصلحة المسلمين. {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} لأن بداياتها منه ونهاياتها إليه.
* * *
معركة بدر وإيحاءات الحرب النفسية
وربما نستوحي من ذلك أن من الممكن لقيادة المعركة أن تقوم بعمليةٍ إيحائيةٍ للمقاتلين، من أجل تثبيت أقدامهم، وتطمين أنفسهم، وذلك بإعطاء صورةٍ عن موازين القوى في المعركة، بطريقةٍ مختلفةٍ عن الواقع، في عدد الأعداء وفي طبيعة استعدادهم، وفي الأوضاع السياسية المحيطة بهم، وفي كل القضايا المتصلة بتحضير الأجواء التي تدفع بالمعركة إلى خط النصر، لأن المقاتلين ينتصرون أو ينهزمون بالقوة أو الضعف الداخلي، قبل القوة العسكرية أو الضعف العسكري. ولهذا وجدنا الحرب الإعلامية تحقق الانتصار والهزيمة قبل الدخول في المعركة، في ما تحققه من هزيمةٍ نفسية تضعف معنويات المعركة، أو في ما تحققه من معنويّاتٍ عالية تزيد من فرص النصر.
وعلى ضوء ذلك، نعرف أنّ الإسلام يتحرّك في خط الأسلوب الواقعي في العمل، في نطاق المصلحة الإسلامية العليا، بعيداً عن الأجواء المثالية التي تتجمّد أمام حرفيّات التشريع أو مثاليات الأخلاق... ولعلنا نستطيع أن نقرّر ـ من خلال ذلك ـ أن القيم الأخلاقية الإسلامية ليست مطلقةً، بل هي نسبيّة محدودة بحدود مصلحة الإنسان العامة، في ما تفرضه من الانسجام معها في بعض المواقع أو الابتعاد عنها في مواقع أخرى، مما يدفعنا إلى الابتعاد عن إصدار الأحكام الأخلاقية بشكلٍ مطلق.
تفسير القرآن