من الآية 50 الى الآية 54
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيـات
{وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْملائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ* ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِّلْعَبِيدِ* كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ* ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ* كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَآ آلَ فِرْعَونَ وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ} (50ـ54).
* * *
معاني المفردات
{يَتَوَفَّى}: التوفّي أخذ الحقّ بتمامه. ويستعمل في كلامه، تعالى، كثيراً بمعنى قبض الروح.
{وَأَدْبَارَهُمْ}: ظهورهم.
{كَدَأْبِ}: الدأب والديدن: العادة، وهي العمل الذي يدوم ويجري عليه الإنسان، والطريقة التي يسلكها.
* * *
حالة قبض الملائكة لأرواح الكافرين
ويصور لنا الله حالة قبض الملائكة لأرواح الكافرين وما يتمثل فيها من عنف وإهانةٍ وتحقير. {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلائِكَةُ} في بدرٍ وفي غير بدر، {يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} فيحيطون بهم من خلفهم ومن قدّامهم بالضرب، كنايةً عن السخط الذي يشعرون به ضدّهم في كفرهم بالله وتمرّدهم عليه. ويقولون لهم، وهم يدفعونهم إلى النار ليواجهوا عذابها: {وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ} الذي يحرق أجسادكم، {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} من أعمال شريرة، ومن اختيارات فاسدةٍ، ومن كفرٍ وضلالٍ وكبرياء... {وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِّلْعَبِيدِ} فلا يعاقبهم إلا بعد إقامة الحجة عليهم، في ما يقدّم لهم من براهين، وما يمكّنهم به من قوى. وتلك هي سنته في خلقه الذين يكفرون به ويتمرّدون عليه في الماضي والحاضر.
{كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} فقد كان ديدنهم وطريقتهم أنهم {كَفَرُواْ بِآياتِ اللَّهِ}، واستمرّوا في خط الكفر والضلال والإضلال يتعمقون فيه ويمتدون... {فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ} التي جنوها واكتسبوها. {إِنَّ اللَّهَ قَوِىٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ} فكيف يأمن عقابه الكافرون والمتمردون؟!
* * *
تغيير النعم خاضع للسلوك العملي للناس
{ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ}. وتلك هي سنّة الله في عباده، فإن نعم الله التي ينزلها على عباده، في ما تقتضيه رحمته وحكمته، لا تتغير ولا تتبدّل ما دامت النيات خالصةً، والخطوات مستقيمة على النهج الذي يحبه الله ويرضاه، فلا ينزل عذابه في الدنيا، ولا عقابه في الآخرة، إلا بعد أن يغيروا ما بأنفسهم، في ما يواجهون به الأنبياء والدعاة إلى الله من جحودٍ وكفرانٍ وتمرّدٍ وعصيانٍ، وما يفسدون به الحياة بعد إصلاحها، ولذلك فإن الأمم السابقة لم تتعرض للعذاب أو للبلاء، إلاّ بعد وصولها إلى المدى الذي يمثل الخطورة على مسيرة الإيمان والمؤمنين في ما يواجهونه من التحديات والتعديات في هذا المجال.
وهكذا نستطيع أن نعرف أن تغيير النعم وزوالها خاضعٌ للسلوك العملي للناس، في ما يفعلون ويتركون. فإذا أرادوا بقاء النعمة، فعليهم الاستمرار في الانفتاح على الله وفي الإخلاص له ولعباده، لأن ذلك هو السبيل الذي تتحرك فيه النعم في حياتهم. ولكن ليس معنى ذلك أن هناك حتميّةً في تغيير الواقع عند تغيير النيّات والأعمال، فقد تقتضي حكمة الله أن يبقي لبعض عباده نعمتهم، مع اختلاف نواياهم وأعمالهم، لأن هناك جانباً آخر يفرض بقاءها واستمرارها. وتلك هي أسرار الله في خلقه، لا يعلمها إلا هو. {وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} يسمع كل شيء ويعلم بكل شيء، فلا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات والأرض.
{كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بآيَاتِ رَبِّهِمْ}، وكانوا يتقلّبون في نعم الله، في ما يملكونه من ثروات وإمكانياتٍ، وما يتقلبون به من رخاءٍ وجاهٍ وسلطان، ولكنهم لم يشكروا الله على ذلك، عندما أرسل رسوله موسى بآياته ليخرجهم من ظلمات الضلال إلى نور الهدى، فتمرّدوا واستكبروا وكذبوا بآيات الله. {فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَآ آلَ فِرْعَونَ وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ}. سواء كانوا في مواقع المسؤولية فأضلوا وضلوا، أو كانوا في القاعدة فظلموا أنفسهم باتّباع الظالمين والمستكبرين، ولم يستجيبوا لرب العالمين.
تفسير القرآن