من الآية 60 الى الآية 63
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيــات
{وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ* وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ* وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ* وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأرضِ جَمِيعاً مَّآ أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}(60ـ63).
* * *
معاني المفردات
{رِّبَاطِ الْخَيْلِ}: الخيل المرابطة أو المربوطة: الجاهزة للتحرك.
{تُرْهِبُونَ}: تخيفون وتقلقون.
{جَنَحُواْ}: مالوا.
{لِلسَّلْمِ}: السلم: بفتح السين وكسرها، الصلح.
* * *
وأعدوا لهم ما استطعتم من قوّة
{وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} لا بد للحق من قوّةٍ في مواجهة التحديات المضادة، لردع القوى المعادية التي تمنع الحق من ممارسة حريته في الدعوة إلى الإيمان به وبقضاياه، أو تعمل على تحطيم قوّته وتهديم أركانه، لأن أسلوب الرفق والحوار لا ينفع مع الذين لا يؤمنون بهذا الأسلوب، بل يعتبرون العنف القائم على القهر والضغط الماديّ أساساً للسيطرة على الآخرين. ولذلك أراد الله للمؤمنين أن يقوموا بعمليّة إعداد القوة العسكرية بكل ما يملكون من إمكاناتٍ وقدرات مادّية، فليس لهم أن يدّخروا جهداً في هذا السبيل، لأن ذلك هو القاعدة الصلبة التي ترتكز عليها القوة المستقبلة الواثقة بالتماسك والنصر والامتداد، القادرة على ردّ التحدّي بالتحدي المماثل، أو بالأقوى منه...
وإذا كانت القوّة العسكرية في الماضي تتمثل في ما تعارف عليه الناس من أدوات القتال، من السيف والسهم والرمح والدرع، فإن العصور المتأخرة قد استحدثت وسائل أخرى كالبندقية والمدفع والرشاش والدبابة ونحوها، فلا بدّ لنا من أن نحصل على ذلك كله، إذ لا معنى لأن نتحدث عن الوسائل القديمة التي استنفدت أمام الوسائل الجديدة للحرب، ولكن لا بد للقرآن من أن يتحدث للناس بالطريقة التي يفهمونها، وبالأشياء التي يعيشونها، لأنهم المخاطبون بها في البداية، ولهذا عقّب الله ذلك بقوله: {وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ} باعتبار أنها كانت المظهر للقوة العسكرية المتحركة آنذاك. {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ}. وبذلك كان الإعداد للقوة تدبيراً وقائياً يرهب العدو، فيمنعه ذلك من العدوان، ويدفعه إلى الدخول في معاهدات ومواثيق مع المسلمين، أو يجعله خاضعاً للسيطرة الإسلامية، أو يوحي له بالدخول في الإسلام...
وهكذا تكون القوة الكبيرة البارزة سبيلاً من سبل ردع العدو ومنع الحرب، مما يجعل منها ضرورةً سياسيةً وعسكريةً معاً، فيفرض على القائمين على شؤون المسلمين أن لا ينتظروا حالة إعلان الحرب ليستعدوا، بل لا بد لهم من الاستعداد الدائم في كل وقتٍ، وذلك تبعاً للظروف الموضوعية المحيطة بالواقع السياسي والعسكري الموجود من حولهم، من أجل إرهاب عدوّ الله وعدو المسلمين.
{وآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ} أي ممّن هم أقل منهم درجةً في القوة أو في العداوة، أو من غيرهم، {لاَ تَعْلَمُونَهُمُ} لأنكم لا تحيطون بالساحة كلها في ما تختزن من عداواتٍ وتحدياتٍ في الحاضر والمستقبل، ممن يحيط بالمسلمين في أكثر من موقع، ولكن {اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} فيوحي إليكم بضرورة الإعداد الدائم المتحرك، الذي يرصد تصاعد القوة العسكرية للآخرين، والاكتشافات الجديدة لأنواع السلاح التي قد تتغيّر في كل يوم، بحيث تصبح الأسلحة القديمة غير ذات فائدةٍ، مما يفرض تبديلها دائماً بشكل متحرك. وربما يفرض ذلك الإعداد لإنتاج السلاح، لأن مشكلة وجود مصانع الأسلحة في أي بلدٍ آخر غير إسلاميٍّ يفرض كثيراً من الضغوط السياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية على البلد المستورد له، ويجعل نتائج الحرب خاضعةً للسياسة التي يسير عليها البلد المنتج. وهذا ما نلاحظه في العصور المتأخرة التي تحوّل فيها السلاح من تجارةٍ حرةٍ، إلى تجارةٍ موجهةٍ تابعةٍ للموقف السياسي الذي قد يتحرك من أجل الابتزاز السياسي للبلد المستورد، بفرض شروطه الخاصة.
* * *
ضرورة توفير مقوّمات القوة على كلِّ صعيد
وإذا كان جوّ الآية يوحي بوجوب الاستعداد للحصول على القوّة العسكرية، فإننا نستوحي منها ضرورة الإعداد للقوة من نوعٍ آخر، مما تحتاجه الأمة في تطورها العلمي والاجتماعي والاقتصادي في موقعها السياسي بين الأمم الأخرى، لأن ذلك يحقق لها الاكتفاء الذاتي أو التفوق الواقعي، الذي يفسح لها المجال للتحرك بقوة من موقع استغنائها عن الآخرين، أو من موقع حاجة الآخرين إليها، فنستطيع بذلك أن نتخلّص من الضغوط التي تقيد حريتها في الحركة، أو تفرض الضغوط التي تحتاجها في علاقاتها بالآخرين، وهذا ما يُلزم الأمة ـ بجميع أفرادها ـ أن تستنفر كل طاقاتها في سبيل الوصول إلى المستوى المتقدم في كل المجالات التي تُمثِّل أساس القوة في الحياة، ولتتخلص من كل نقاط الضعف المفروضة عليها من الداخل والخارج، فذلك هو السبيل الأفضل لانطلاقة الإسلام بقوّةٍ في حياة الناس في عالمٍ لا يفهم إلا بلغة القوة. فالحق الذي لا يستند إلى القوة لا يرتكز على أساسٍ ثابتٍ متين.
وإذا كان الوصول إلى هذا المستوى من القوة يحتاج إلى الكثير من المال، فإن على الأمة أن تساهم في ذلك على جميع المستويات، وأن تعتبر ذلك إنفاقاً في سبيل الله، لأن رفع المستوى العلمي والعسكري والاقتصادي للأمة هو من أفضل السبل العملية التي تؤدي إلى تدعيم الحق وتفتح طريق الانتصار في المعركة الطويلة ضد الكفر والكافرين... وقد أراد الله أن يوحي للمؤمنين بأنه سيعوضهم عما أنفقوه في هذا السبيل في الدنيا والآخرة {وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} فتأخذونه وافياً غير منقوص، {وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} بل تجدون العدل كله، والخير كله، والرحمة الواسعة التي تفتح لكم أبواب الحياة على آفاق الفلاح والنجاح.
* * *
السلام للمسالمين
{وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} إذا مالوا للسلام وأقبلوا عليه، وأبدوا كل الاستعداد للعيش بسلام مع المؤمنين في نطاق المعاهدات والمواثيق، فلا ترفض ذلك، بل حاول أن تستجيب له، وتؤكد رغبتك فيه لتعرِّفهم بأن الحرب في الإسلام لا تنطلق من عقدةٍ، بل من قاعدةٍ فكرية على مستوى مصلحة الإنسان والحياة، فتكون الحرب سبيلاً لإعادة التوازن إلى الساحة لمصلحة الخير، وعندما تقف قوة الكفر لتمنع الإيمان من ممارسة حريته في الدعوة إلى الله، فتكون الحرب هي الطريق التي يسلكها المؤمنون لاستعادة حريتها... وهكذا في كل موقف من مواقف الظالمين والمستكبرين الذين يريدون أن يقهروا الضعفاء بظلمهم، ويذلُّوهم باستكبارهم.
أما إذا أراد الآخرون أن يفتحوا صفحة جديدةً للسلم، ويفسحوا المجال للحوار مع المسلمين، ليكون هو الوسيلة الفضلى للصراع على مستوى الفكر، أو على مستوى الواقع، فإن الإسلام يفتح ساحته للحوار، وآفاقه للسلام، ولكن لا بد من دراسة الظروف والشروط والمعطيات على أساس الحاضر والمستقبل، لئلا تكون المسألة مسألة استغفالٍ وخديعةٍ، تتخذ من السلام ستاراً تختفي خلفه، وتستعد من خلاله لهجمةٍ مستقبليّةٍ قويّةٍ، تستفيد من فرص السلام لمصلحة الحرب. فإذا أعد وليّ الأمر العدة لذلك كله، فإن له أن يطمئن لما فعل، على أساس وضوح الرؤية، ولا يلقي بالاً للتهاويل ولاحتمالات الخوف التي قد تثور في النفس، لتثير القلق والارتباك في المسيرة، بل لا بد من التوكل على الله أمام كل تهاويل الغيب الذي لا يعلمه إلا الله... وهذا هو خط التوكّل الذي يرتكز على دراسة كل ظروف الواقع ومعطياته، وكل شروط العمل ومقتضياته، وكل الوسائل الواقعية للوصول إلى الأهداف... ثم يستقبل الغيب بروحٍ واثقةٍ بالله، متوكلةٍ عليه، مطمئنةٍ لرحمته التي ينشرها على عباده، الذين يأخذون بتعاليمه ويسيرون على هدى سننه في الكون، في ربط النتائج بمقدّماتها، والمسبّبات بأسبابها... وهذا ما أراده لرسوله في قوله ـ سبحانه ـ :{وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} فإنه لا يخذل من توكّل عليه، وسلّم أمره له.
{إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} الذي يسمع دعوات عباده في ما يحتاجون إليه، ويعلم أوضاعهم في ما يحيطهم به من لطفه ورحمته...
* * *
الله يحمي النبي من كيد الكافرين
{وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ} بالأساليب الملتوية والمظاهر الخادعة، ليقوموا بعملية تحضيرٍ لهجوم مفاجىءٍ، يستغلّون فيه حالة الاسترخاء التي يوحي بها السلم، {فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ} الذي يحميك من كل المفاجآت غير المحسوبة في المستقبل، كما حماك في الماضي، على أساس أن تستكمل كل الحسابات لكل ما يحيط بك ولما يطرأ عليك، مما تستطيع أن تتعرف أبعاده. فلا تخف من كل ما يواجهونك به من أساليب الخداع، فإن الله يكفيك منها، وتذكر لطف الله بك {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ}، في ما أمدّك به من قوة، وهيّأه لك من أسباب، {وَبِالْمُؤْمِنِينَ } الذين آمنوا بك واتبعوك، وواجهوا التحديات الصعبة معك، وجاهدوا في سبيل الله بقيادتك، واجتمعت قلوبهم على الإخلاص لك، وتناسوا كل خلافات ماضيهم، وكل أحقاد تاريخهم المليء بالحروب والمنازعات... فقد كان ذلك كله بلطفٍ من الله عليك، وتأييدٍ لك.
{وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} في ما أودعه فيها من عناصر المودة والرحمة والشعور بالمسؤولية الإنسانية الروحية، على أساس الإيمان النابض بالمحبة والحياة، حتى تحوّلت كل تلك المجموعات المتنافرة في ذاتها، المختلفة في طبيعتها، إلى وحدةٍ روحية إيمانية، تماماً كما عبر الله عنهم {رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29] وكما قال عنهم رسول الله(ص): «مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى بعضه تداعى سائره بالسهر والحمى»[1]... وتلك هي الإلفة التي يرعاها الله برعايته، ويشملها بلطفه، فإنها تنمو من خلال الينابيع الروحية التي تتفجّر في الفكر والشعور حتى تتحول ـ في القلب وفي الروح ـ إلى نهرٍ كبير يمتد في حياة المؤمنين جميعاً في نطاق المجتمع المؤمن المتكامل الواحد...
* * *
الله هو المؤلّف بين القلوب
{لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأرضِ جَمِيعاً مَّآ أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} لأن المال لا يستطيع أن ينفذ إلى أعماق الروح وآفاق الشعور، إلا إذا تحول إلى حالةٍ حميمة، تحمل في داخلها بعضاً من نبضات الشعور وخفقات العاطفة، ليتحوّل المال إلى معنًى يتمثل في العطاء، في البعد الإنساني الذي يحترم في الإنسان إنسانيته، ويوحي إليه بالمعاني الحلوة المشرقة، وعند ذلك يفقد العنصر المادي ليتحول إلى عنصرٍ روحيٍّ. أما المال الذي يتحرك في العلاقات كثمن لها، تماماً كما هي السلع المعروضة في السوق، فإنه قد يعطي صاحبه موقعاً متقدماً في حركة الواقع، وقد يحصل على بعض الامتداد في آفاق الربح، ولكنه لن يستطيع أن يمنحه قلباً وروحاً وحياة ووحدة شعور، ولذلك لم يستطع المال أن يحقق إنسانية العلاقة بين الأغنياء والفقراء، أو بين الحاكمين والمحكومين، ولكن الفكر والإيمان والخير استطاعت أن توحّد القلوب، وتقارب بين المواقف. {وَلَـكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ}، لأن بيده أسرار القلوب، وخفايا النفوس، وأعماق الأرواح، يقلِّبها كيف يشاء ويحوِّلها كما يريد. {إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}، فلا يغلب في عزته، ولا يُعارض في حكمته، فمن إرادته تكون الأشياء، ومن حكمته تأخذ طريقها إلى مواقع الهدى والنجاح.
ـــــــــــــــــ
(1) البحار، م:20، ج:58، ص:91 ـ 92، باب:43، رواية:29.
تفسير القرآن