تفسير القرآن
الأنفال / من الآية 64 إلى الآية 66

 من الآية 64 الى الآية 66
 

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيات

{يا أَيُّهَا النَّبيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ* يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ وَإِن يَكُنْ مُّنكُمْ مِّاْئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ* الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُن مِّنكُمْ مِّاْئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} (64ـ66).

* * *

معاني المفردات

{اتَّبَعَكَ}: الاتباع: موافقة الدّاعي في ما يدعو إليه من أجل دعائه.

{حَرِّضِ}: والتحريض والحضّ والحثّ بمعنى، وهو الترغيب في الفعل بما يبعث على المبادرة إليه.

{يَفْقَهُونَ}:الفقه: أبلغ وأغزر من الفهم.

{خَفَّفَ}: رفع المشقّة.

{ضَعْفاً}: الضعف بكسر الضاد من المضاعفة، أي زيادة الشيء مثله في المقدار، وبفتحها وضمها ضد القوة المادية والمعنوية وقيل: الضم يختصّ بضعف العقل.

* * *

مناسبة النزول

في تفسير الميزان نقلاً عن تفسير القمّي قال: «قال: كان الحكم في أوّل النبوّة في أصحاب رسول الله(ص) أن الرجل الواحد وجب عليه أن يقاتل عشرة من الكفار، فإن هرب منهم، فهو الفار من الزحف، والمائة يقاتلون ألفاً.

ثم علم الله أن فيهم ضعفاً لا يقدرون على ذلك فأنزل الله: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُن مِّنكُمْ مِّاْئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ} ففرض عليهم أن يقاتل أقل رجل من المؤمنين رجلين من الكفار. فإن فرّ منهما فهو الفارّ من الزحف. وإن كانوا ثلاثة من الكفّار وواحداً من المسلمين، ففرّ المسلم منهم، فليس هو الفارّ من الزحف»[1].

* * *

الله هو كافي النبي من كل سوء

{يَا أيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ} فهو كافيك من كل أحدٍ، فلا تحتاج معه إلى أحدٍ من الناس، ولا تخاف من أيِّ شيء ومن أي إنسان. {وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} فهم معك في رسالتك وفي جهادك، وهم القاعدة الصلبة القوية التي تتحرك من خلالها في طريق الدعوة والفتح، فليذهب الكافرون أو ليقفوا ضدك، فلن يستطيعوا أن يقدِّموا أو يؤخِّروا شيئاً في الساحة. وقد قيل إن المعنى يكفيك الله، ويكفي من اتبعك من المؤمنين من كل سوء، فلا تخافوا من الاندفاع في المعركة، لأن الله سوف ينجيكم من كل الأعداء. وهو قريبٌ من خلال جوّ الآيات، ولكن الأول أقرب من خلال نظم الآية؛ والله العالم.

* * *

تحريض المؤمنين على القتال والصبر

{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} فإن المعركة الفاصلة بين الإيمان والشرك تفرض تقوية الموقف، وشدَّ العزيمة، وشحذ الهمم، ولا بدّ للنبي من أن يقوم بدور فاعل في حثّ المؤمنين على القتال، لا سيما مع القوة القليلة عدداً وعدةً التي يملكها المسلمون في مقابل كثرة العدد والعدة لدى المشركين. وقد أراد الله لنبيّه أن يدعوهم للصبر الذي يدفعهم إلى مواجهة الالام والمشاكل والتحديات التي تفرضها المعركة، بروحٍ قويّةٍ راضيةٍ مطمئنةٍ فرِحةٍ بالجهد الذي تقدمه أمام الله، ليستنفروا كل طاقاتهم، ويحوِّلوها إلى طاقةٍ واحدةٍ مضاعفةٍ، بحيث يتحرك الواحد منهم في مقابل عشرة رجال {إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ}. ولا بد في ذلك من جهدٍ عظيم في المعاناة، وفي الاستعداد النفسي الداخلي المنطلق من وعي الإيمان، وقوة الثقة بالله وبما عنده من الثواب، مما يجعل الإنسان يقابل الموت بدون اكتراث، ويجابه الأعداء بكل قوة.

{وَإِن يَكُنْ مُّنكُمْ مِّاْئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ} ولا يعقلون الأسس التي يرتكز عليها النجاح في الدنيا والآخرة، ولا يعرفون أنّ هؤلاء الذين يعبدونهم من دون الله لا ينفعونهم شيئاً لأنهم لا يملكون لأنفسهم نفعاً، ولا يدفعون عنها ضرّاً... ومن خلال ذلك، فهم لا يحملون عمق الفكرة التي تهزُّ وجدانهم وتطهّر مشاعرهم، وتثير في داخلهم الامتداد في حركة الحياة أمام قضية المصير، ولذا فإنهم لا يملكون روح الثبات في المعركة، لأنهم لا يرتبطون بالهدف الحقيقي الذي يبدأ من موقع الفكر والروح ليمتد في ساحة المعركة، ممَّا يجعلهم لا يملكون أساساً للقوة، كما يجعل هذه الدعوة الإلهية ـ في ما يريده من مستوى المواجهة ـ دعوةً واقعية تتحرك في دائرة الإمكانات المعقولة للمؤمن القويِّ الواعي في صبره، الصابر في كل تطلّعاته ومواقفه... وربما كان هذا التفصيل في ذكر العشرين في مقابل المائتين، وفي ذكر المائة في مقابل الألف، للتأكيد عليهم في أن عددهم ـ في معركة بدر ـ الذي يبلغ الثلاثمائة والثلاثة عشر رجلاً، يتفوق في القوة الصابرة، على عدد الألف الذي يبلغه جيش قريش، لأنه سيتحول إلى أكثر من ثلاثة آلاف رجل يقابلون ألف رجل؛ والله العالم.

* * *

التدرج في رفع المستوى الروحي لدى المؤمنين

{الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً} من خلال التجربة الأولى التي تمارسونها في أول معركة مع قريش، ومن خلال الوسائل المحدودة التي تملكونها في حساب القوّة المادية، بالإضافة إلى نقاط الضعف الذاتية المتحكّمة في واقعكم الداخلي، وغير ذلك مما يفرض التدرُّج في رفع المستوى الروحي لدى المؤمنين، لأن حيويَّة الصبر لا تنمو ولا تتعاظم إلا في نطاق الظروف الموضوعية الذاتية المنسجمة مع الواقع الداخلي من الوعي والفكر والإرادة، الذي يتطور بطريقةٍ تدريجيّة. ولهذا أراد الله ـ في البداية ـ أن يطرح الفكرة في نداء الدعوة النبوية على أساس المستوى الأعلى في عملية إيحائيةٍ في ما ينتظره منهم من قوة الموقف مما يمكن أن يصلوا إليه ـ ولو بعد حين ـ ثم أعطاهم الفرصة في تخفيف المستوى المطلوب، لتكون بدايةً طبيعيةً للنمو في حركة تصعيد القوة في الداخل وفي خط المواجهة، بحيث يكون المؤمن الواحد في مواجهة اثنين من الكافرين، من خلال عامل الصبر الذي يشتد، فيشدّ عزيمة الإنسان في الاندفاع في حركة المعركة. {فَإِن يَكُن مِّنكُمْ مِّاْئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ} وإرادته وعنايته. {وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} الثابتين على مواقعهم بالثبات في مواقفهم، وبالإصرار على قضيتهم حتى بلوغ الأهداف الكبيرة.

ـــــــــــــــــــ

(1) تفسير الميزان، ج:9، ص:135ـ136.