تفسير القرآن
الأنفال / من الآية 67 إلى الآية 71

 من الآية 67 الى الآية 71
 

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيـات

{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأرض تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخرةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ* لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَآ أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ* فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حلالاً طَيِّباً وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ* يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأسْرَى إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّآ أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ* وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ اللَّهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}(67ـ71).

* * *

معاني المفردات

{أَسْرَى}: جمع أسير. الأسر: الشدّ على المحارب وأخذه.

{يُثْخِنَ}: الثخن ـ بالكسر فالفتح ـ الغلظ، ومنه قولهم: أثخنته الجراح وأثخنة المرض. قال الراغب في المفردات: يقال: ثخن الشيء فهو ثخين إذا غلظ فلم يسل ولم يستمر في ذهابه، ومنه استعير قولهم: أثخنته ضرباً واستخفافاً، قال الله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ}، {حَتَّى إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّواْ الْوَثَاقَ} [محمد:4] [1]، فالمراد بإثخان النبي في الأرض استقرار دينه بين الناس كأنه شيء غليظ انجمد فثبت، بعدما كان رقيقاً سائلاً مخشيّ الزوال بالسيلان[2].

{عَرَضَ}: العرض ما يطرأ على الشيء ويسرع فيه الزوال، ولذلك سمي به متاع الدنيا لدثوره وزواله عما قليل.

{حَلالاً}: الحلال: وصف من الحل مقابل العقد والحرمة، كأن الشيء الحلال كان معقوداً عليه محروماً منه فحل بعد ذلك.

{طَيِّباً}: هو الملائم للطبع.

{لَمَسَّكُمْ}: لأصابكم.

* * *

مناسبة النزول

جاء في مجمع البيان: «كان القتلى من المشركين يوم بدر سبعين، قتل منهم علي بن أبي طالب(ع) سبعة وعشرين. وكان الأسرى أيضاً سبعين ولم يؤسر أحد من أصحاب النبي(ص)، فجمعوا الأسارى، وقرنوهم في الحبال، وساقوهم على أقدامهم. وقتل من أصحاب رسول الله تسعة رجال منهم سعد بن خيثمة. وكان من النقباء من الأوس. وعن محمد بن إسحاق قال: استشهد من المسلمين يوم بدر أحد عشر رجلاً، أربعة من قريش وسبعة من الأنصار، وقيل ثمانية، وقتل من المشركين بضعة وأربعون رجلاً. وعن ابن عباس قال: لما أمسى رسول الله(ص) يوم بدر والناس محبوسون بالوثاق، بات ساهراً أول الليلة، فقال له أصحابه: ما لك لا تنام؟ فقال(ص): سمعت أنين عمي العباس في وثاقه فأطلقوه فسكت، فنام رسول الله(ص). وروى عبيدة السلماني عن رسول الله(ص) أنه قال لأصحابه يوم بدر في أسارى: إن شئتم قتلتموهم وإن شئتم فاديتموهم، واستشهد منكم بعدتهم. وكانت الأسارى سبعين، فقالوا: بل نأخذ الفداء فنستمتع به، ونتقوى به على عدونا، وليستشهد منا بعدتهم. قال عبيدة: طلبوا الخيرتين كلتيهما، فقتل منهم يوم أُحد سبعون. وفي كتاب علي بن إبراهيم: لما قتل رسول الله(ص) النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط، خافت الأنصار أن يقتل الأسارى، فقالوا: يا رسول الله، قتلنا سبعين وهم قومك وأسرتك، أتجذّا أصلهم[3]، فخذ يا رسول الله منهم الفداء، وقد كانوا أخذوا ما وجدوه من الغنائم في عسكر قريش، فلما طلبوا إليه وسألوه نزلت الآية {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى}»[4].

* * *

القرآن يثير مسألة الأسرى في بدر

لقد جاءت هذه الآيات لتثير قضية الأسرى في معركة بدر، من حيث المبدأ في شرعية ما قام به المسلمون من أسر المشركين من أجل الحصول على الفدية، في الوقت الذي كان الهدف من المعركة هو تحطيم قوة الشرك؛ ثم لتتحدث عن بعض التفاصيل الفرعية في الحديث عن الأسرى.

{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ}. هذا تنديدٌ من الله بالمسلمين الذين قاتلوا في بدر، وما قاموا به من أسر الكثيرين من المشركين، وعدم اللجوء إلى قتلهم في المعركة، وذلك من أجل الحصول على الفداء، ليستفيدوا به في تقوية أنفسهم مالياً. وتلك نقطة ضعفٍ يسجلها الله عليهم في هذا الاتجاه، فإن المقاتل الذي يشعر بخطورة القوة الكبرى المهيمنة على شؤون الناس بالظلم والسيطرة، لا يعيش في المعركة هاجس النفع المادي، بقدر ما يعيش هاجس القضاء عليها، بالقضاء على كل رموزها لئلاّ تكون فتنة ويكون الدين لله... لا سيّما في المرحلة الصعبة التي خاض فيها المسلمون المعركة غير المتكافئة ضد قريش وانتصروا فيها، ممّا يفرض التفكير في إضعاف أيّة مبادرةٍ مستقبليةٍ لمعركةٍ جديدةٍ، في ما يمكن أن تفكر به قريش من هجومٍ جديد ثأراً لنفسها. ولكنها التجربة الأولى للمسلمين الذين كانوا يخوضون فيها معركة الوجود واللاوجود للإسلام. فخاضوها على الطريقة التي كانوا يخوضون فيها معاركهم الخاصة سابقاً، في قتل البعض، والإبقاء على البعض الآخر من أجل الفداء، فكانت هذه الآية تناقش المسألة من زاوية المصلحة الإسلامية العليا في حركة الأنبياء، فليس للنبي الداخل في معركةٍ من معارك الإيمان والكفر، أن يكون له أسرى، حتى يتمكن في الأرض ويستقر ويثبِّت أقدامه، لينطلق ـ بعد ذلك ـ من موقع قوة، بعيداً عن إمكانات التحرّك المضاد من قِبَل الأعداء.

{تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} الذي يزول بسرعة {وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخرةَ} فهي التي ينبغي لهم أن يستهدفوها في معاركهم، تحقيقاً لمرضاة الله بتحقيق غاياته التي أقام عليها حركة المعركة، فإن المؤمن يريد ما يريده الله، ويحب ما يحبه، ويتجرد عن النوازع الذاتية والمنافع الشخصية... {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} فلا يُغلب في ما يريده، ولا يعبث في ما يشرّعه من أحكام وما يبيِّنه من تعاليم... {لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ} في عدم تعذيبكم وإهلاككم، لأنه أراد أن يفسح لكم المجال من أجل أن تتعمّقوا في المعرفة التي تفتح لكم باب التجربة الحية الواعية، التي تتعامل مع النتائج المستقبلية للأحداث بدلاً من النتائج الحاضرة السريعة، ولولا ذلك اللطف الإلهي الذي شملكم بعفوه ورحمته، {لَمَسَّكُمْ فِيمَآ أَخَذْتُمْ} من الأسرى، {عَذَابٌ عَظِيمٌ }، لأن القضية تتعلق بالخطورة الكبيرة التي يمثلها هذا التصرف الخاطىء، في نتائجها السلبية على الموقف.

* * *

سؤالان تثيرهما الآية

وهنا سؤالان:

الأول: كيف يستحقّ هؤلاء العذاب العظيم في ما لم يتقدم إليهم فيه نهيٌ من الله؟ فان العقاب لا يصح عقلاً بدون بيان صادر من الله. فنحن نعرف أن القضية جديدة عليهم، فلم يتحدث التشريع إليهم بتحريم أخذ الأسرى؟!

والجواب عنه بأحد وجهين:

الأول: إن الآية واردةٌ في مقام الحديث عن عظمة الخطأ الذي يستوجب ـ بطبيعته ـ العذاب العظيم، لا في مقام التهديد لهم بالعذاب. وقد يكون رفع العذاب عنهم لوجود المانع فيه من جهة عدم البيان.

الثاني: إنهم قد يستحقّون العذاب لأنهم لا يملكون حرية التصرف في المعركة من دون استشارة النبي في ذلك بصفته القيادية، في ما يُصدر من أوامر ونواهٍ تتعلق بسير الحرب، وبصفته الرسالية في ما يبيّنه من تشريعات تتعلق بأحكام المقاتلين مع الأعداء في ساحة القتال، وليس لهم أن يعتذروا عن تصرفهم الخاطىء بالقاعدة العقلية بقبح العقاب من دون بيان، لأن موردها صورة ما بعد الفحص والسؤال وعدم الوصول إلى نتيجةٍ معه، لا صورة ما قبل السؤال مع التمكن منه، فإن التصرف المحرَّم في ذاته غير مبررٍ في هذا المجال، فهم يستحقون العقاب في ما أخطأوا به، ولكن الله رفعه عنهم برحمته ولطفه.

السؤال الثاني: إن الآية ربما توحي بأنها موجهةٌ إلى النبي، كما يظهر من قوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} فقد يستفاد منها أن الخطاب متوجهٌ إليه، للتنبيه بأن عليه أن يسلك سلوك الأنبياء من قبله في ما كانوا يخوضونه من معارك، لأنه ليس بدعاً من الأنبياء، وبذلك فليس له سنّةٌ غير سنّتهم. وإذا كان الأمر كذلك، فقد يتنافى هذا مع مبدأ العصمة في ما توحي به من مخالفةٍ للتعاليم الإلهية بعد العلم، لأنه لا بد له من أن يكون على معرفةٍ بالمبدأ العام للحرب، مما قد بيَّنه الله له، إذ لا يمكن أن ينطلق في حربٍ لا يعرف أحكامها؟!

والجواب عن ذلك، أنه لم يظهر من الآية أنَّ الخطاب موجّهٌ إلى النبي(ص)، بل هو موجّهٌ للمقاتلين الذين أسروا المشركين طمعاً بالفداء. أمّا الحديث عن النبي في فقرة: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ}، فربما يكون من جهة أنه قائد المعركة الذي يتحرك الجيش باسمه، وينعكس وضع المعركة عليه، لأنها تُنسب إليه، مما يحمِّل المسلمين مسؤولية ما يقومون به من أعمالٍ وتصرفات غير مسؤولة، فكأنّ الله يريد أن يقول لهم: إذا لم يكن من سنّة الأنبياء أن يكون لهم أسرى في بدايات التحرك، فكيف تريدون للنبي أن يكون له ذلك؟! وهذا ما يظهر من جوِّ الآيات التي تتحدث عن المسلمين آنذاك، بأنهم يفكرون بالدنيا وبمتاعها أكثر مما يفكرون بالآخرة، كما في قوله تعالى: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخرةَ}. مما لا يتناسب مع روحية النبي(ص) الذي جاء من أجل أن يقرب الناس من الآخرة ويبعدهم عن الدنيا.

* * *

الله يبيح للمسلمين ما أخذوا من غنائم

{فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً} فقد عفا الله عنكم ورضي عليكم، وأباح لكم ما غنمتموه من الحلال الطيب مما حصلتم عليه من المعركة أو من الفداء، {وَاتَّقُواْ اللَّهَ} فيه وفي ما تستقبلون من أعمال، وما تحصلون عليه من أموال... {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}. في ما يفيضه عليكم من رحمته وغفرانه.

* * *

النظرة الرسالية للأسرى

{يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّآ أُخِذَ مِنكُمْ}. إن الإسلام لا ينظر إلى الأسرى نظرة القوي القاهر الذي يعتبرهم كميةً مهملة، أو مجرد شيءٍ يحقق للمسلمين الربح، بل ينظر إليهم نظرةً إنسانيةً رسالية. ولهذا فإن الله يريد للنبي أن يخاطبهم بروح الداعية الرسالي، الذي يحاول أن يفتح قلوبهم على الخير ليفكروا بالمستقبل من هذا الموقع، فيدخلوا مع أنفسهم في عملية تأمُّل ومحاسبةٍ في ما كانوا يسيرون فيه من طرق الضلال، وما يجب أن يواجهوه من مسؤولية الإيمان، ليقول لهم ـ بعد ذلك ـ {إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً} من الدخول في الإسلام، والإخلاص لله، والامتناع عن الأعمال العدوانية التي تسيء إلى الناس {يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّآ أُخِذَ مِنكُمْ} من المال، في ما يرزقكم من رزقه، ويشملكم به من عنايته. {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} ذنوبكم إذا تبتم منها، ورجعتم عن الخط المنحرف إلى الخط المستقيم. {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} لا يغلق باب عفوه عمن تاب إليه، ولا يطرد من رحمته من التجأ إليه.

* * *

الله يطمئن نبيه لجهة خوفه من خيانة المشركين

{وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ} في ما يضمرونه من الشر، وما يعدّونه من الخطط العدوانية للعودة إلى الحرب، ومقاومة المؤمنين، والاعتداء على الرسالة، فلا تخشَ من ذلك ولا تحمل له هماً، لأنهم لن يكونوا القوة التي لا تقهر، كما أنها ليست أوّل خيانةٍ لهم، فقد اعتادوها حتى سرت في دمائهم ومشاعرهم. {فَقَدْ خَانُواْ اللَّهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ} وأقدرك عليهم، وهو قادرٌ على أن يهزمهم مرةً ثانية. {وَاللَّهُ عَلِيمٌ} بما يضمرون ويخططون {حَكِيمٌ} في ما يدبر لهم من خططٍ مضادّةٍ تحبط كل ما صنعوه من قبل، وما يصنعونه بعد ذلك.

ــــــــــــــــ

(1) مفردات الراغب، ص:75.

(2) تفسير الميزان، ج:9، ص:137.

(3) جذّه: قطعه مستأصلاً.

(4) مجمع البيان، ج:4، ص:858ـ859.