من الآية 72 الى الآية 75
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيات
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ ءَاوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَـئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن ولايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ* وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ* وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ ءَاوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ* وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَـئِكَ مِنكُمْ وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (72ـ75).
* * *
معاني المفردات
{ءَاوَواْ}َ: الإيواء: ضمّ الإنسان غيره إليه بإنزاله عنده وتقريبه إليه.
{أَوْلِيَآءُ}: الولاية: عقد النصرة للموافقة في الديانة.
{فِتْنَةٌ}: الفتنة: أصلها في اللغة: الامتحان. وتستعمل في أشياء منها الكفر والشرك.
{كَرِيمٌ}: فاعل الكرم والجود والشرف العظيم.
* * *
مناسبة النزول
جاء في مجمع البيان: قيل نزلت الآية في الميراث، وكانوا يتوارثون بالهجرة، فجعل الله الميراث للمهاجرين والأنصار دون ذوي الأرحام. وكان الذي آمن ولم يهاجر ولم يرث من أجل أنه لم يهاجر ولم ينصر. وكانوا يعملون بذلك حتى أنزل الله تعالى: {وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} فنسخت هذه الآية وصار الميراث لذوي الأرحام المؤمنين ولا يتوارث أهل ملّتين. عن ابن عباس والحسن وقتادة ومجاهد والسدي[1].
* * *
ضرورة موالاة المؤمنين والامتناع عن موالاة الكافرين
وهذه نهاية المطاف في سورة الأنفال التي كانت بدايتها في أجواء المؤمنين الذين يعيشون الإيمان كموقفٍ للفكر وللروح وللحياة... وجاءت نهايتها لتحدّد ملامح المؤمن ـ الموقف، في مواجهة الكافر ـ الموقف، ولتؤكد الولاية عند كل فريق على أساس الانسجام في الخط والعمل، ولتحدثنا عن المؤمن الذي يعيش الإيمان فكراً ويتهرب من تحمل مسؤولية الموقف، لتؤكد أن لا ولاية بينه وبين المؤمنين الآخرين إلا في نطاقٍ محدودٍ جداً، ولتوحي ـ في نهاية المطاف ـ بأن الساحة جاهزة لاستقبال الطلائع الإيمانية التي تكمل المسيرة في المراحل القادمة، لتكون جزءاً من المسيرة الواحدة التي تتحرك في خطوط متصلة، من نقطة البداية إلى نقطة النهاية، من خلال الفكر الواحد، والخط الواحد، والهدف الواحد على أساس الإيمان بالله الواحد وبرسله وباليوم الآخر.
* * *
الله يقرر الولاية بين المهاجرين والأنصار من المؤمنين
{إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ} من مواقع الضعف إلى مواقع القوة، وتركوا كل ما يربطهم بالدنيا وراءهم ليستقبلوا الآخرة برسالية المؤمن الداعية المجاهد، الذي يبذل كل شيء من أجل الله. {وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} فلم يدّخروا جهداً ولا طاقةً، ولم يتركوا روحاً إلاّ ووجهوها في خط الجهاد في سبيل الله، لأن أملاكهم ووجودهم هي ملك لله... وهؤلاء هم الطليعة الأولى من المهاجرين مع رسول الله إلى المدينة. {وَالَّذِينَ ءَاوَواْ وَّنَصَرُواْ} رسول الله(ص) والمؤمنين المهاجرين معه، وهم الأنصار. {أُوْلَـئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ}، لأن الإيمان بالله والجهاد في سبيله والنصرة لدينه، تمثل العلاقة الوثيقة التي تعلو وتفوق كل علاقةٍ أخرى، بما فيها علاقة القرابة من ناحية العمق والامتداد، ولهذا فإن لبعضهم البعض حق الولاية بالنصرة والمودّة والأمن، فلكل واحدٍ منهم أن يمنح الأمان لأيّ شخصٍ من الكفار، وعلى الآخرين أن ينفذوا ذلك. وهناك فريق آخر، وهم المؤمنون الذين لم يهاجروا، ممن لم يكونوا مستعدين للتضحية بشيءٍ من المال والأرض والنفس، فلم يتحول الإيمان عندهم إلى موقف، بل بقي لديهم مجرّد فكرٍ وشعور.
* * *
وجوب نصرة المؤمنين غير المهاجرين في حال الاستنصار
{وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن ولايَتِهِم مِّن شَيْءٍ} فليس بينكم وبينهم علاقة، لأن الإيمان وحده غير كافٍ في تعميق العلاقة. {حَتَّى يُهَاجِرُواْ} فيكونوا مع المهاجرين ويتساووا معهم في الولاية. {وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ} على أعداء الإسلام الذين اضطهدوهم واعتدوا عليهم، {فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} لأنهم يملكون ولاية النصرة، فعلى المؤمن أن ينصر أخاه المؤمن على الكافرين المعتدين. {إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ}، لأن الميثاق بينكم وبينهم يمنع من الاعتداء عليهم حتى في هذه الحالة. {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فعليكم أن تراقبوه بشكلٍ دقيق، لأنه يراقبكم بدقّةٍ أكثر ويعرف منكم ما لا تعرفونه من أنفسكم.
* * *
الكفار بعضهم أولياء بعض
{وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ}، لأن وحدة الفكر الكافر في ما تمثله من وحدة الموقف والشعور، تمثّل الموالاة الواقعية في حركة العلاقات الإنسانية.. وهذا ما نلاحظه من الترابط الوثيق بين الكافرين، في ما يشعرون به من وحدة المشاعر والمصالح والتحديات المضادة للإيمان، وفي ما يتحركون به من حركاتٍ وأوضاعٍ سلميةٍ أو حربية. {إِلاَّ تَفْعَلُوهُ} فتركّزوا الولاية على أساس الفكر والخط الواحد في الحياة، {تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ}، لأن إفساح المجال لعوامل أخرى، داخلية أو خارجيةٍ، مما يقوم على وحدة النسب أو اللون، أو العرق أو الأرض... يفسد الواقع ويحوّل المجتمع إلى ما يشبه الفوضى التي تتنوّع وتتعدّد تبعاً لتنوُّع هذه العوامل، مما يفقد الحياة عنصر الوحدة الحقيقي الذي يمثل البرنامج الفكري والعملي للمجتمع، بالإضافة إلى علاقة الروح والفكر والشعور، كأساسٍ لوحدة الموقف.
* * *
المهاجرون والأنصار هم المؤمنون حقاً
{وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ ءَاوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً}، لأنهم هم الذين جسّدوا الإيمان وحوّلوه إلى حركة حياةٍ، وفعل عطاء، وخطّ تضحيةٍ وشهادةٍ… {لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} جزاءً لما هو الإيمان كموقف، ولما هو الجهاد على أكثر من صعيد… ويأتي الجيل الجديد الذي لم يعاصر انطلاقة الدعوة في معاناتها الأولى، في ما تحمّله المسلمون الأوّلون من المهاجرين من تعذيبٍ وتشريد وبذلٍ وعطاء… {وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَـئِكَ مِنكُمْ} لأنهم يؤمنون بما تؤمنون به، ويهاجرون كما تهاجرون، ويجاهدون كما تجاهدون... وهكذا تنطلق الولاية في خط الإيمان والجهاد والهجرة والإيواء والنصرة، لتكوّن القاعدة الصلبة للمجتمع الإسلاميّ القويّ الموحّد.
* * *
أولو الأرحام بعضهم أولى ببعض
{وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ} في ما يتوارثون به، فالأقرب أولى من الأبعد في الإرث، وهذه الآية تقرّر إرث الأقرباء الذين لم تذكرهم آيات الإرث في سورة النساء، كالأخوال والأعمام وأبنائهم... كما استفاد منها مذهب أهل البيت 3 في إعطاء البنت المنفردة، أو الأخت المنفردة، أو الأختين والأخوات... التركة كلها من ناحية الفرض، ومن ناحية القرابة؛ فلا يجوز اشتراك الأخ مع البنت أو الأعمام أو الأخوال مع الأخوات، وهكذا مما تفصّله كتب الفقه… {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.
ــــــــــــــــــ
(1) مجمع البيان، ج:4، ص:862.
تفسير القرآن