تفسير القرآن
التوبة / المقدمة

 المقدمة

سورة التوبة

من وحي القرآن ج 11

وقفة مع بعض خصوصيات السورة

سبب تسميتها التوبة

لقد انطلقت الأسماء القرآنية للسور، من خلال الحديث في بعض آياتها عن موضوع معيّن، قد تكون له أهميته في حركة الفكرة في السورة، أو في شخصية بارزة ذات تأثير في تاريخ الدعوة، أو في تاريخ الحياة، أو في غير ذلك من الأمور التي يُراد إثارة الاهتمام بها، لتحقيق هدفٍ معيّنٍ، أو حالةٍ معيّنة.

وفي هذه السورة، كانت التوبة هدفاً قرآنياً في كل ما أُثير فيها من مواضيع تتعلق بالموقف الحاسم من المشركين وأهل الكتاب، المنافقين والمنحرفين عن بعض خطوط المسيرة، لأنها تؤكد في ذلك كله على موقف الرفض لكل هذه الفئات، على أساس الرفض للخطوط المضادة أو المنحرفة أو القلِقة التي يمثلها خط السير لديها، ما يوحي لها بضرورة التراجع عن ذلك، بالرجوع إلى خط الإِيمان والإِسلام وخط الاستقامة والاتّزان، وبذلك كانت آيات السورة دعوةً إلى التوبة، بشكلٍ غير مباشر

وقد ذكرت فيها التوبة في أكثر من آية، في ما تحدث الله به عن التائبين العابدين الحامدين السائحين الراكعين الساجدين الآمرين بالمعروف والنّاهين عن المنكر الحافظين لحدود الله، كنموذجٍ للمؤمنين الذين يتحرك الإيمان في داخلهم رفضاً لكل الاتجاهات المضادّة، وانسجاماً مع كل حركة الخط المستقيم في الحياة الذي يلتقي بالسلبيّة في جانب، وبالإيجابية في جانب آخر.

كما تحدّث الله عن الثلاثة الذين خُلِّفُوا ورجعوا إلى الله بالتوبة، فتاب عليهم، وعن توبة الله على النبي والمهاجرين والأنصار من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم، كما تحدث عن الذين لا يعيشون روح التوبة من المنافقين الذين في قلوبهم مرض وماتوا وهم كافرون، وعن الذين لا يريدون أن يستغفروا أو يستغفر لهم رسول الله تمرّداً وتعنّتاً واستكباراً، فلا يغفر الله لهم.

وهكذا كان ختام السورة توبةً خالصةً لله في مواجهة كل حالات الإِعراض التي يعيشها الكافرون والمنافقون، ليعلن النبيّ من خلال ذلك بأن الله حسبه، لا إله إلا هو، عليه التوكل، وهو رب العرش العظيم.

* * *

سبب تسميتها براءة؟

وقد أطلق عليها اسم براءة، وذلك من خلال افتتاحيتها التي تمثلت بهذا الحدث البارز الذي واجه به الله ورسوله المشركين، بالبراءة منهم ومقاطعتهم والإعلان لهم بتحريم الحج عليهم وإخراجهم من دار الإسلام، وذلك للإيحاء بأن السورة تتضمن الدعوة إلى هذه البراءة، لا من هذه الجماعة من المشركين فحسب، بل من كل النماذج من الكافرين والمنافقين الذين يواجهون الإسلام بطريقة مباشرة، أو بأسلوب الخداع والتضليل واللف والدوران، وذلك هو الموقف الحاسم الذي يمثّله الخط الإيمانيّ المتحرك في حياة الإنسان، الذي يرفض في الفكر والموقف كل ما هو غير إسلامي، وذلك للتأكيد على الخطوط الفاصلة التي تميّز المسلم عن غيره في فكر الحياة وحركتها.

* * *

هل هي سورة مستقلة؟

قال بعضهم إنها امتداد لسورة الأنفال، وبذلك علّل عدم ذكر البسملة في أولها كما هو نهج بقية السور، ولكن الظاهر أنها سورة مستقلة، لأن التنظيم القرآني للسور الذي تلقّاه المسلمون يداً بيد، اعتبرها سورةً واحدة، وليست جزءاً من سورة، كما أن دراسة النظم القرآني للسورتين يوحي بذلك، أما إهمال البسملة فيها، فله حديثٌ آخر وتفسيرٌ آخر.

* * *

لماذا تركت البسملة في بدايتها؟

لم يرد للبسملة ذكر في بداية السورة، وربما كان السبب في ذلك، أنها كانت إعلاناً للبراءة والقطيعة والحرب في بعض المجالات، ولعل من الطبيعي أن البسملة في معناها الذي يوحي بالرحمة، لا تتناسب مع ذلك كله، فكان المناسب إهمالها، والله العالم.

* * *

أغراض السورة

وقد انطلقت هذه السورة لتحدِّد للمسلمين المسار العملي الذي يتحركون فيه، في علاقاتهم مع المشركين وأهل الكتاب، ولتحسم الوضع كله مع المشركين، فتلغي معاهداتهم وتمنعهم من الحج، وتؤكد إنهاء الصلة بينهم وبين المسلمين، فلا علاقة ولا ولاية، لأن القضية ليست قضية فكرٍ يواجه فكراً، فيلتقيان في جانبٍ ويفترقان في جانب آخر، بل هي قضية خرافات وأوهام تحكم المجتمع كله، لتهدم روحيته وتضيّق أفقه وتبعده عن الأفق المشرق للحياة. ولذلك حاول الإسلام أن يبعد الشرك عن الساحة، فيخيّر المشركين بين الاستسلام للإسلام وبين الخروج من أرض المسلمين، وتحت طائلة المسؤولية، بإعلان القتال عليهم فيما لو خالفوا ذلك. أمّا أهل الكتاب، فقد نظِّمت العلاقة بينهم وبين المسلمين بالطريقة التي تحمي إنسانيتهم وتفتح لهم آفاق الفكر والحوار مع المسلمين، لتكون العلاقة قائمة على أساس ثابتٍ من العلم والإيمان، فإذا رفضوا الإسلام ولم يذعنوا له ولم يقتنعوا به، فإن الإسلام لا يعرض لهم بسوء، ولكنه يريد لهم أن يعيشوا مع المسلمين ضمن أوضاعٍ محددة يعلنون من خلالها خضوعهم لسلطة الإسلام في أرضه ومجتمعه، في مقابل أن يحميهم من كل اعتداءٍ عليهم، وكانت الجزية رمزاً لذلك.

ثم أثارت السورة الوضع الداخلي الذي كان يعيشه المسلمون، فيما كان يواجه البعض منهم دعوة النبي إليهم للخروج معه للحرب في غزوة تبوك، وكيف كانوا يتساقطون أمام هذه التجربة، فيترددون أو يرفضون، ويتثاقلون، ويتخلفون عن الخروج معه، تحت تأثير تبريرات لا تثبت أمام النقد، ولا ترتكز على أساس، كما تحدثت عن المنافقين في أساليبهم الملتوية في التخطيط لإرباك المجتمع الإسلامي، وتعقيد مسيرته، وتضليل أفراده، مما كان يريد القرآن أن يثيره أمام المسلمين في تلك المرحلة، وفي جميع المراحل، من أجل أن ينتبهوا إلى طبيعة اللعبة الخبيثة التي يلعبها مجتمع النفاق في إِبعاد المسلمين عن دينهم الحق، وتحويلهم إلى فرقٍ متناثرةٍ متناحرةٍ بعيدةٍ عن الله وعن الرسول.

وهكذا انطلقت السورة لتبرز ملامح ذلك الجوّ، ثم تحرّكت في هذه الزاوية أو تلك، لتعالج قضيةً جانبيةً هنا، ومفهوماً أساسياً هناك، ولتشير إلى بعض اللمحات الروحية والنفسية، في محاولةٍ لتجميع العناصر الحيّة لتكامل المجتمع في إيجابياته، في ما تتحرك به علاقات الناس مع بعضهم البعض في الداخل والخارج، لتوجيههم إلى ما يقوّي أواصر المودة بينهم، ولإبعادهم عما يثير الخلاف في داخلهم، ولمحاولة دفعهم إلى الانطلاق في مراقبة كل عوامل الخوف واليأس والقلق والحيرة، وفي مواجهة كل التحديات المثيرة للضعف وللذل والهوان، وفي تحريك الساحة نحو خط الجهاد الذي يمثل القوّة الحقيقية التي تحوّل المسلمين إلى طاقةٍ حيّةٍ متحركةٍ متحدّيةٍ، في وعي كبير للساحة، وفي ارتباطٍ وثيقٍ بالهدف، وفي تعميقٍ للفكر السليم وللتجربة الهادفة.

وبهذا كانت هذه السورة، في مقاصدها وموضوعاتها، ولمحاتها وإيحاءاتها، سورةً حركيةً، يشعر فيها القارىء بالحركة المتنوعة في أكثر من صعيد، لما تثيره من أفكار ومشاعر، وما تؤكده أو تدعو إليه من مواقف، وفي ما تقدمه من نماذج الواقع الذي عاشه مجتمع الرسالة الأوّل، من أجل أن تواجهه المجتمعات الإسلامية اللاحقة بالدراسة والتأمل، حتى تتعرف إلى سلبياته وإيجابياته، فتتجنب ما ينبغي تجنّبه منه، وتأخذها ما ينبغي أخذه.

وتلك هي قصة القرآن في جميع سوره وآياته، التي تهدف إلى صنع الإنسان الجديد على صورة الإسلام في فكره وعقيدته وشريعته ومفاهيمه ومجتمعه، لتحقّق للإسلام أهدافه في الحياة، من خلال التجربة الإنسانية الواعية التي تعمّق للحياة وعيها لله وتجعل كل طاقاتها في خدمته.