تفسير القرآن
التوبة / من الآية 1 إلى الآية 2

 من الآية 1 الى الآية 2
 

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيتـان

{بَرَآءةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ * فَسِيحُواْ في الأرضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ}(1ـ2).

* * *

معاني المفردات

{بَرَآءةٌ}: إعذار وإنذار.

{فَسِيحُواْ}: السيح: السير على مهل.

{مُعْجِزِي اللَّهِ}: جعل الله عاجزاً غير قادر.

{مُخْزِي}: خزي الرجل، لحقه انكسار إما من نفسه وإما من غيره. وهنا الخزي من الله.

* * *

القرآن يعلن البراءة من المشركين

لقد عاش المشركون في أجواء السلم مع المسلمين مدّة من الزمن، بعد حروب طويلةٍ بينهم، على أساس العهد الذي عقدوه مع الرسول(ص) بأن لا يعرض لهم بسوء، ولا يعرضوا له وللمسلمين بسوء، وأن يأخذوا حريتهم في حج بيت الله، وفي كل المجالات العامّة والخاصّة التي تفرضها طبيعة حياتهم وأوضاعهم، في ما يتعلق بعبادتهم ومعاملاتهم وارتباطاتهم بالأحلاف والمواثيق مع الآخرين، تماماً كما لو لم يكن الشرك مشكلةً للفكر وللحياة.

ومرّت الأيّام، وانطلق الإسلام يفرض نفسه على الجزيرة العربيّة في انطلاقته الروحية والفكرية والعملية، في دعوته إلى عبادة الله الواحد، وفي انطلاقته في تنظيم الحياة في قضاياها الكبيرة والصغيرة، في ما يتصل بالحياة الفرديّة والاجتماعية، وبدأ الناس يدخلون في دين الله أفواجاً، من خلال الوعي والقناعة والإيمان، ولم يرتح المشركون لهذا الواقع، ولكنهم لم يواجهوه مواجهةً مباشرةً، لأنهم لا يملكون القدرة على ذلك، فكانت الدسائس التي تكيد للإسلام والمسلمين، من خلال ما كان يظهر من خيانةٍ أو من مشاريع مستقبليّةٍ للخيانة، وكانوا يخفون بعضاً من ذلك، يتهامسون به ويتناجون، وكانوا يظهرون بغضهم عند أوّل بادرة ضعفٍ يلمحونها هنا وهناك في حركة الإسلام والمسلمين، وكان النبي يراقب ذلك من قريب أو من بعيد، وكان المسلمون يرصدون ذلك ويلاحظونه، وكانوا يتألمون من ذلك ويبصرون ويتحرّجون من مواجهتهم بالعنف، لأنهم لا يزالون في عهدٍ معهم، والله لا يريد للمؤمنين أن ينقضوا عهودهم.

وربّما كانت الفكرة التي أوحت بتلك العهود التي أعطاها المسلمون لهم مما أوجب الله عليهم الوفاء به، هي أن الله أراد لهم أن ينفتحوا على الإسلام من خلال أجواء الحرية التي يأوون إلى كنفها، ويستريحون إلى ظلّها في دعةٍ واطمئنان، بعيداً عن أيِّ ضغطٍ نفسيٍّ أو أمني، ليفكروا في قضية الإيمان من موقع الحريّة الفكريّة إذا أرادوا أن يحصلوا على القناعة من خلال الفكر، وكان الإسلام واثقاً من النتيجة الحاسمة في حركة الإيمان في الداخل من خلال ذلك، لأن بيّناته واضحة، وحججه ثابتة، كل ذلك قائم على أساس العقل وما تقود إليه الفطرة، ولكنهم لم يزدادوا إلا طغياناً وتمرّداً وكيداً للإسلام والمسلمين، لأن الشرك لم ينطلق لديهم من حالةٍ فكريةٍ عقلانية، يخضعون فيها لشبهةٍ في العقيدة أو مشكلة في الفكر، بل كان منطلقاً من عقدة جهلٍ، وحالة تخلّفٍ، ونزعة كبرياءٍ، توحي لهم بالامتداد في الكفر والغيّ والضلال. وبذلك لم تكن القضية مرتبطة بمسألة الحرية في الإيمان أو الكفر، بل بالعقدة المرضيّة التي يرفضون من خلالها الحوار والتفكير، ويمتنعون عن تحريك أدوات المعرفة التي منحهم الله إيّاها، في طريق الوصول إلى حقيقة المعرفة.

وهكذا أراد الله لهذا الجوّ الهادىء الذي ينعمون به، ولتلك الحرية التي ينطلقون معها، ولهذا الاسترخاء الأمني الذي يعيشون فيه، أن ينتهي بإنهاء العهود التي تحقق لهم ذلك كله، ليبدأ هناك عهد جديد للإسلام، الذي انطلقت عقيدته من قاعدة التوحيد، فلا يبقى معها للشرك موضع في أيّ مكان يتحرك فيه الإسلام، ولا مجال بعد ذلك إلا له، وإلاّ فالمواجهة الحاسمة في ساحة القتال، فكانت هذه البراءة، التي توحي بالانفصال التام، فلا مجال لأيّ لقاءٍ أو رعايةٍ أو عناية أو عهد، ولا موقع لأيّة مسالمةٍ، بل هو البعد الفاصل الذي يطردهم عن ساحة أمن الله ورسوله، ويدفعهم إلى الوقوف وجهاً لوجه في ساحة الخطر، فكما لا مكان للّقاء بين التوحيد كمبدأ، والشرك كعقيدة، لأنهما متضادان يطرد أحدهما الآخر، فلا مكان للسّلم بين المؤمنين والمشركين، لأن مواقفهما مختلفة في التوجهات والأهداف.

* * *

براءة من الله ورسوله

{بَرَآءَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} لأنهما الأساس في التشريع والحكم والولاية، في ما يتحرك به الناس، أو يقفون عنده، فالله هو الذي يوحي ويشرّع، والنبيّ هو الذي يخطّط من خلال ذلك سياسته ودعوته وينفذ، فكان لا بد للمسلمين في براءتهم من المشركين ومن عهودهم، من أساس ينطلقون منه، فكانت هذه البراءة الصادرة من الله ورسوله الموجهة إلى المسلمين، في ما تشتمل عليه من الإنذار الحاسم {إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ} بإنهاء العهود المعقودة بينهم وبين المسلمين. ولكن الله أعطاهم مُهلةً للتفكير في الأمر في ما يريدون أن يختاروه من الإيمان بالإسلام والسير على هداه الذي يكفل لهم الأمن في الدنيا والآخرة، أو البقاء على الشرك الذي يقودهم إلى الهلاك في الدارين معاً، فلم يأمر بمعاجلتهم بالمواجهة، بل أبقى لهم الأمن وحريّة الحركة في أيّ مكان يذهبون إليه، ليعرّفهم بأن ذلك لم ينطلق من عقدةٍ تبحث عن التنفيس، بل من خطةٍ تتحرك في اتجاه العدل {فَسِيحُواْ فِي الأرضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} وكلمة السياحة تمثل حرّية التحرك في الانطلاق بعيداً عن مواقع الخطر بالسفر إلى بلادٍ لا سلطة للإسلام فيها، أو البقاء في أماكنهم ليتدبروا أمرهم في ما يقررونه من قرارٍ، أو يتخذونه من موقف {وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ} فإن الله لا يعجزه أحدٌ في ملكه، فلا تفكروا بأن الفرار من مواقع الخطر، يمكن أن يحقق لكم الأمن من عذاب الله ويبعدكم عن ساحة قدرته، فإن الله قادرٌ على أن يسلّط عباده المؤمنين عليكم في الدنيا، وأن يذيقكم عذاب الخزي في الآخرة إذا أصريتم على الشرك {وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ} في الدنيا والآخرة.

وقد اختلفت كلمات المفسرين في هذه الأربعة أشهر من أين تبدأ، هل هي من يوم الحج الأكبر أو هي من يوم العشرين من ذي العقدة، أو من أول شوّال، لأن الآيات نزلت فيها؟ والأقرب إلى جوّ الآية، هو القول الأوّل، لأن يوم الحج الأكبر هو يوم الإبلاغ والإيذان، فكان من الأنسب أن تبدأ المهلة منه لتتناسب مع التوسعة وإتمام الحجة، ومن المعروف أن يوم النحر هو يوم الحج الأكبر، ما يجعل بدايتها من العاشر من ذي الحجة ونهايتها في العاشر من ربيع الثاني، والله العالم.