تفسير القرآن
التوبة / من الآية 3 إلى الآية 5

 من الآية 3 الى الآية 5
 

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيــات

{وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ* إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ* فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}(3ـ5).

معاني المفردات

{وَأَذَانٌ}: الإعلام. وقيل إن أصله من النداء الذي يسمع بالأذن ومعناه أوقعه في أذنه.

{تَوَلَّيْتُمْ}: أعرضتم.

{وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ}: ولم يتعاونوا عليكم.

{مُدَّتِهِمْ}: المدة والزمان والحين نظائر. وأصله من مددت الشيء مداً، فكأنه زمان طويل الفسحة.

{انسَلَخَ}: الانسلاخ خروج الشيء مما لابسه. وهنا أي انتهاء الأشهر الحرم.

{وَاحْصُرُوهُمْ}: الحصر: المنع من الخروح من محيط. والحصر والحبس والأسر نظائر.

{مَرْصَدٍ} المرصد: الطريق.

* * *

الإعلان يتحدث عن التفاصيل

وأراد الله لرسوله أن يعلن هذه البراءة بصوت عالٍ في الموسم الأكبر، ليسمعه الناس كلهم، فيكون حجّةً عليهم، في ما أراد الله دعوتهم إليه، أو ما كلفهم بالقيام به، ليكون ذلك هو الحدّ الفاصل بين مرحلتين: مرحلة الصراع بين التوحيد والشرك، في حروب مختلفةٍ في نتائجها بين النصر لهذا والهزيمة لذاك، والتكافؤ في بعض الحالات، ومرحلة هيمنة التوحيد على الساحة كلها، فلا يرتفع إلاّ صوته، ولا تتحرك إلا مسيرته وسراياه، ولا تحكم الناس إلا شريعته، ليفهم الجميع أنّ عهداً جديداً قد بدأ، وأن النتيجة الحاسمة بانتصار الإسلام قد فرضت نفسها على الجوّ كله، وأرسل رسول الله(ص) عليّ بن أبي طالب، ليبلغ عنه هذا النداء، ولأنّ المهمة تحتاج إلى رجل توحي شخصيته بالحسم والقوة، ليتناسب ذلك مع طبيعة القضية، وقرأها لهم وأعلن ـ في ما أعلن ـ أنه لا يطوف بالبيت عريان، ولا يحج بعد العام مشرك، ولا يدخل الجنة إلا مؤمن.

* * *

يوم الحج الأكبر

{وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ} جميعاً من المشركين والمسلمين، ليقوم المشركون بتحديد موقفهم النهائي من نداء الله إليهم، وليستعد المسلمون لتنفيذ حكم الله {يَوْمَ الْحَجِّ الأكْبَرِ} وقد اختلف فيه، فقيل إنه يوم عرفة، وقيل إنه مجموع أيام الحج، وقيل إنه اليوم الثاني من أيام النحر، وقيل إنه يوم النحر، ولعله الأقرب بلحاظ الروايات الواردة عن أئمة أهل البيت(ع) وغيرهم، ولأنه اليوم الذي اجتمع فيه المسلمون والمشركون عامة بمنى. وربما كانت سيرة النبي(ص) في إبلاغ الناس وصاياه، في أيام الحج، أن يقوم فيهم خطيباً في هذا اليوم، كما نلاحظ ذلك في خطبته في حجة الوداع، ما يوحي بأنه يوم التبليغ الأخير في أيام الحج؛ والله العالم.

* * *

القطيعة الكاملة مع المشركين

{أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ} فليس لهم عهد عنده، في ما يوصي به رسوله والمسلمون من الوفاء لهم بالعهد، لأنه لا يريد للشرك أن يعيش مع الإيمان على صعيد واحدٍ، بل يريد له أن يزول من حياة الناس، ولذلك كانت هذه البراءة التشريعيّة تأكيداً للبراءة الحقيقيّة في مقت الله للشرك والمشركين، {وَرَسُولُهُ} بريءٌ منهم، فقد صبر عليهم طويلاً وحاورهم وقاتلهم، وسلك جميع السُّبل التي يمكن أن تردعهم عن ضلالهم وغيّهم، فلم يترك لهم حجةً لما يعتقدونه من شركٍ، ولم يدع لهم عذراً في ما يخوضون به من تمرّدٍ وضلال، فزادوا في ضلالهم وطغيانهم، وعملوا على تدبير المكائد للإسلام والمسلمين، بحيث أصبح وجودهم في داخل المجتمع الإسلامي خطراً على العقيدة، في ما يحاولونه من فتنة المسلمين عن دينهم بالأساليب الملتوية الخادعة، وخطراً على الوجود، في ما كانوا يثيرونه من مشاكل، أو في ما كانوا يتحالفون فيه مع الآخرين من أعداء الإسلام ضد الإسلام والمسلمين، ما جعل من التحرك في اتجاه تصفية المجتمع على أساس التوحيد حالةً ضروريّة للحفاظ على المستقبل الكبير الذي يستهدف بناء الشخصية الإسلامية في الداخل وبناء الدولة الإسلامية في الخارج.

* * *

الدعوة إلى التوبة

{فَإِن تُبْتُمْ} ودخلتم في ما دخل فيه المسلمون من توحيد الله من خلال الحجة القاطعة والبيِّنة الواضحة التي قدّمها لكم الرسول، ورفضتم الشرك، الذي لم تعتقدوه على أساس قناعةٍ وجدانيّة، ولم تمارسوه على أساس حجّةٍ عقليّةٍ، بل كانت القضية أنَّه عقيدة الآباء وعادات المجتمع، ما يجعل من عملية الضغط على التراجع عنه، قضيّةً لا تتصل بالحرية في العقيدة، بل بمسألة تحرير الإنسان من الخرافة الضاغطة على وجدانه، من خلال الأجواء المنحرفة المحيطة به مما لا يرجع إلى وعيٍ للفكرة، أو وضوح في الرؤية، {فَهُوَ خَيْرٌ} لأنه يفتح لكم الآفاق الواسعة التي تنفتحون فيها على وحدانية الله المطلقة التي تشمل كل شيء، في ما يقودكم إليه الوجدان الصافي من أن كل شيء في الوجود مخلوق له، وأنه ليس هناك أحدٌ أقرب إليه من أحدٍ من ناحيةٍ ذاتيةٍ، فليس هناك إلا العمل. وإذا كانت هناك من شفاعةٍ، فإنها لا تنطلق من رغبة الشفيع الخاصة، بل هي بأمره ورضاه، فلا معنى لأن تتوجه إلى المخلوق بطلب الشفاعة.

وفي ضوء ذلك، كان التوحيد يمثل الصفاء الروحي الذي يعيش معه الإنسان في حركة الإيمان المطلق بعيداً عن كل التعقيدات الخانقة التي تجر معها المزيد من العادات والتقاليد والأجواء الضاغطة على الفكر والروح والشعور، وبذلك كان خيراً لهم من ناحية السلام الروحي الداخليّ، كما هو خيرٌ لهم في الانسجام الفكري العملي، مع المسيرة الإسلامية التي يتحرك فيها المجتمع المسلم على أساس المسؤولية والمساواة بين أفراده في ما ينطلقون به من علاقاتٍ، وما يعيشونه من تكافلٍ وتضامنٍ ومشاعر، وهو خيرٌ لهم في الآخرة، لأنه يمثل النجاة من عذاب الله، والحصول على رضاه، لأن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء.

* * *

الله لا يعجزه شيء

{وَإِن تَوَلَّيْتُمْ} وأعرضتم عن هذه الدعوة المفتوحة الهادية، وأصررتم على التمرّد، في شعورٍ طاغٍ بالقوّة والاستعلاء، بأنكم قادرون على المواجهة، وسائرون إلى النصر، {فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ} الذي لا يفوته أحد من خلقه، مهما حاول الفرار، في الدنيا والآخرة، لأنه لا يفر من مكان إلى مكان آخر إلا وجد الله عنده في ذلك المكان، لأنه مالك السموات والأرض، فماذا يملكون من قوّةٍ ليواجهوا الله بها، وهو خالق القوّة، وهو المالك لكل ما يملكونه؟! وعليكم أن تدركوا هذه الحقيقة بوعيٍ، لئلا يخدعكم الخادعون المضلِّلون عن أنفسكم، وعن حركة الواقع في حياتكم. أمّا إذا كنتم تعتبرون إمهال الله لكم دليل عجز، فاعلموا أن الله يمهل عباده، ليقيم عليهم الحجة، وليفسح لهم المجال للتراجع، حتّى إذا قامت عليهم الحجة، ولم يتراجعوا ـ من خلالها ـ عما يخوضون فيه من ضلال، أخذهم الله أخذ عزيز مقتدر.

* * *

تبشير الكافرين بالعذاب

ثم تلتفت الآية إلى النبي محمد(ص) لتوحي إليه بأن ينذرهم بعذاب الله: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} في ما تحمله كلمة البشارة من معنى السخرية بهم، لأنهم كانوا ينتظرون النتائج السارّة من خلال أعمالهم وإشراكهم.

* * *

استثناء المعاهدين من البراءة

{إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ} جاء في مجمع البيان عن الفراء: استثنى الله تعالى من براءته وبراءة رسوله من المشركين قوماً من بني كنانه وبني ضمرة كان قد بقي من أجلهم تسعة أشهر أمر بإتمامها لهم لأنهم لم يظاهروا على المؤمنين ولم ينقضوا عهد رسول الله(ص). وقال ابن عباس، عنى به كل من كان بينه وبين رسول الله(ص) عهدٌ قبل براءة. ويعلّق صاحب المجمع: وينبغي أن يكون ابن عباس أراد بذلك من كان بينه وبينه عقد هدنة ولم يتعرض له بعداوةٍ ولا ظاهر عليه عدوّاً، لأن النبي(ص) صالح أهل هجر وأهل البحرين وأيلة ودومة الجندل وله عهودٌ بالصلح والجزية ولم ينبذ إليهم بنقض عهدٍ ولا حاربهم بعد، وكانوا أهل ذمة إلى أن مضى لسبيله(ص) ووفى لهم بذلك من بعده[1].

الظاهر من أجواء الآيات، أن الذين أُعلنت البراءة منهم، هم الذين عاهدهم رسول الله(ص) معاهدةً عامّة من دون تحديد موعدٍ معيّن، على أساس التعايش الذي أراد من خلاله إنهاء حالة الحرب بينه وبينهم، ليتفرّغ لترتيب المجتمع المسلم من الداخل، وليحاول هدايتهم من موقع السلم، في ما ينفتحون عليه من أجواء الإسلام الروحية التي تثير فيهم مشاعر الهدى والخير والإيمان، ولكنهم لم يستريحوا لهذا العهد، بل حاولوا الخيانة والتآمر مع الآخرين ضد الإسلام والمسلمين. أمّا الذين كانت لهم مدّة محدودة، ممن انسجموا مع الالتزامات التي ينص عليها العهد، واستمروا على ذلك، فهم في أمان رسول الله، الذي أراده الله من نبيه البقاء معهم ما دام الآخرون ملتزمين به. ولعلنا نستفيد ذلك من الفقرات التالية: {ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً} مما أعطوكم من المواثيق والعهود، فلم ينقضوا شيئاً منها، ولم يُخلّوا بشرطٍ أو التزامٍ، {وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً} أي لم يتآمروا مع أحد من أعداء الإسلام فيعاونوهم عليكم، {فَأَتِمُّواْ} إليهم {عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} التي حددتموها لهم، أمَّا الذين لم تحدّدوا لهم مدّة، أو الذين خانوا العهد، فأعلنوا البراءة منهم، لأن الله الذي بيده أمر عباده لا يريد للمعاهدة العامة أن تستمر بين المسلمين والمشركين، لأن التعايش بينهم لا يحقق صلاحاً للإنسان وللحقيقة وللحياة، ما يجعل من المسألة مسألة خير للناس، في ما يريد لهم من نتائج إيجابيةٍ على مستوى الدنيا والآخرة، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} الذين يراقبون الله فيلتزمون بأوامره ونواهيه، في ما يريد لهم أن يعملوه أو لا يعملوه.

* * *

الأشهر الحرم

{فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ} وهي المدة التي حرّم القتال فيها وجعل الله للمشركين أن يسيحوا في الأرض آمنين، لأن ذلك هو الظاهر من جوّ الآيات. أمّا ما ذكره بعضهم من أن المراد بها الأشهر الحرم المعروفة، وهي ذو القعدة وذو الحجة ومحرم ورجب، فلا دليل عليه إلا من خلال كلمة «الحرم» التي تنصرف إلى هذه الأشهر، في ما قيل، ولكن القرائن المحيطة بالموضوع تصرف اللفظ إلى ما قلناه؛ والله العالم. {فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} بعد أن قامت عليهم الحجة وانتهى وقت الإنذار، من دون أن يرجعوا إلى الحق والصواب {وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} وهو كناية ـ في ما يظهر ـ عن إغلاق الطرق عليهم ومحاصرتهم من جميع الجهات. وبذلك لا تكون القضية قضية التخيير بين القتل والحبس كما قيل، بل قضية القتل فيمن وجد منهم من دون عناء، وقضية الملاحقة فيمن هرب أو اختفى، ليقام عليه حدّ الله بعد أخذه وحصره، {فَإِن تَابُواْ} عن الشرك والتزموا بأحكام الإسلام، {وَأَقَامُواْ} التي تمثل الإخلاص في عبادة الله والبعد عن كل شرك، {وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ} التي توحي بالصدق في الالتزام، لأن بذل المال يعبر عن معنى التضحية والعطاء والإخلاص لله، {فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ} ولا تعرضوا لهم بسوء. وربما نستوحي من هذه الفقرة، أن على المسلمين إذا أخذوا المشركين، أن لا يبادروهم بالقتل، بل ينبغي لهم أن يدخلوا معهم في حوارٍ جديد حول التزامهم بالإسلام وتراجعهم عن خط الشرك، وذلك كآخر محاولةٍ في هذا الاتجاه، فإذا أذعنوا وتراجعوا عما هم فيه، فلا سبيل لهم عليهم، ما دام الله قد قبلهم وأدخلهم في أمانه وشملهم برضوانه {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.

ـــــــــــــــ

(1) الطبرسي، أبو علي الفضل بن الحسن، مجمع البيان في تفسير القرآن، دار إحياء التراث العربي، ط:1،1412هـ ـ 1992م، ج:5، ص:10.