تفسير القرآن
التوبة / الآية 6

 الآية 6
 

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيــة

{وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ}(6).

معاني المفردات

{اسْتَجَارَكَ}: طلب منك الأمان.

{مَأْمَنَهُ}: ديار قومه التي يأمن فيها على نفسه وماله.

* * *

إجارة المشركين المستجيرين

لم تكن البراءة التي أعلنها الله ضد المشركين وسيلةً تعسفيةً لتصفيتهم من ناحيةٍ ذاتية، بل كانت سبيلاً من سبل الضغط عليهم ليتخلصوا من رواسبهم التاريخيّة التي تضغط عليهم، وتمنعهم من الانفتاح على الإيمان والتوحيد والإسلام، ولذلك فقد أفسح لهم المجال ليتفهموا ويتعلموا ويناقشوا ما أشكل عليهم من أمور العقيدة والدين الجديد، فجعل للرسول وللمسلمين معه، أو من بعده، أن يجيروا المشرك الذي يطلب الأمان من أجل أن يسمع كلام الله، فإذا انتهت المهمّة التثقيفيَّة ـ إن صحَّ التعبير ـ فعلى المسلمين أن يُبلغوه مواقع الأمان التي يملك فيها حرية الحركة وحرّية القرار، ثم يكون حاله بعد ذلك حال المشركين الذين يصرّون على الشرك أو الذين ينتقلون إلى خط الإيمان، وهذا هو ما أثاره الله في هذه الآية.

* * *

إبلاغ المأمن لسماع كلام الله

{وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ} بعد مضي الأشهر الأربعة ليسمع دعوة الإسلام من خلال الوحي، وحجّة الرسالة من خلال الحوار {فَأَجِرْهُ} ولا تعرض له بسوء، لأن ذلك هو أحد أهداف الإسلام في إعلان البراءة، في ما يريده من تحطيم الحواجز النفسية التي تحول بين المشركين وبين الانفتاح على الإسلام كدعوةٍ ومنهج حياة. فإذا استجاب أحدهم إلى ذلك، فلا بد من التجاوب معه {حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ} لأن ذلك هو ما يدعو إليه الله عباده، بأن يسمعوا كلامه ويتأملوا فيه ليعرفوا سبيل الهداية ومفتاح الإيمان.

ولعل من البديهيّ أن نقرّر في هذا المجال أن مجرد السماع وحده لا يكفي في إقامة الحجة، إذا احتاج السامع إلى المزيد من الإِيضاح والمناقشة والتفكير، ولذلك فإننا نفهم من سماع كلام الله، المعنى الذي يحقق للسامع كل عناصر القناعة الفكرية، بحيث لا يبقى لديه شيءٌ يريد أن يسأل عنه أو يستوضحه، فإذا لم يذعن بعد ذلك، كان متمرّداً أو جاحداً بلا أساس، لأنَّ القضية ـ في الدعوة ـ ليست مجرد كلمات تُقال أو تُسمع بطريقة تقليديّة جامدة، بل هي قضية عقيدة يُراد لها أن تتركز وتتعمّق في فكر الإنسان وروحه وضميره، أو تشكِّل ضغطاً فكريّاً يعمل على إثارة تطلعات المعرفة في شخصية الإنسان {ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} ليشعر بأن الإسلام لا يريد أن يستغل ضعف موقعه، بل يترك له الحريّة في هذا الموقع، كما ترك له ولغيره الحرية في الأشهر الأربعة {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ} وتلك هي مشكلتهم، إذ يجحدون حقائق الإيمان وينحرفون في ممارسات الانتماء أو العبادة، إنها الجهل الغارق في ظلمات التخلّف في النظرة إلى الأشياء، وفي التعامل مع حركة العلاقات في الحياة. ولهذا كان من مهمّة الدعاة إلى الله أن يعملوا على رفع مستواهم الفكري، وتوجيههم إلى السُّبُل التي تقودهم إلى آفاق المعرفة الواسعة المنفتحة على وحي الله وشريعته.

وربما كان لنا أن نستوحي ـ في هذا الاتجاه ـ أنّ علينا أن نقوم بحملةٍ تربويةٍ تثقيفيةٍ عامةٍ للشعوب المتخلِّفة التي استطاع التخلُّف أن يغرقها في ظلمات الجهل ويقودها ـ من خلال ذلك ـ إلى عقائد الكفر والضلال، ما يجعل من التعليم الذي يتيح للإنسان أن يفكّر ويتأمّل ويناقش، سبيلاً للوصول إلى الإيمان، كمبدأ في بدايات الطريق، أو للتأكيد على ثباته واستمراره في حركة الدعوة الممتدة في الحياة. وبذلك يمكن لنا أن نعرف قيمة الخروج من الوضع التقليدي للدعوة الذي لا يدرس المشكلة في مسألة الكفر والإيمان من جذورها التي تتدخل فيها بشكلٍ غير مباشرٍ، بل يقتصر على مواجهتها بطريقةٍ مباشرةٍ بعيدةٍ عن العمق والامتداد.

* * *

الحوار المفتوح للاهتداء إلى الحقيقة

وقد استطاع الإسلام أن ينجح في هذا الأسلوب الضاغط على مجتمع الشرك ومسيرته، فلم يمض وقتٌ قصير إلا وكان المشركون يدخلون في الإسلام تحت تأثير هذا الجوّ الحاسم، من البراءة الحاسمة التي انطلقت من الله ورسوله، ما يجعل لها قوّة التأثير على الشعور والوجدان، ويدفع بالإنسان المشرك إلى التفكير بطريقةٍ حازمةٍ، لا تحتمل الكثير من حالات اللاّمبالاة أو الاسترخاء أو اللف والدوران. ولم تنقل لنا السيرة، عن حالاتٍ معينة، قليلةٍ أو كثيرة، اضطُرَّ المسلمون فيها إلى أن يواجهوا مشركاً متمرّداً، بعمليّة قتلٍ أو ملاحقةٍ أو حبس، بل رأينا القضية تتحرك في الاتجاه الصحيح بطريقةٍ طبيعيّة هادئةٍ.

وقد لا يكون البعض من هؤلاء مقتنعاً بالإسلام كل الاقتناع، لا لشبهةٍ دخلت في فكره، بل لأنه لا يريد أن يخضع حياته لالتزام دينيٍّ معين، كما نجده في الكثيرين الذين يريدون أن يعيشوا الحياة خارج نطاق الانتماء، ليأخذوا حريتهم في ما يشتهون أن يفعلوه أو يتركوه، ولكن الإسلام كان يريد لأمثال هؤلاء أن يعيشوا الانفتاح على الإسلام من خلال الأجواء النظيفة الطاهرة التي تخضع لسيطرة الإسلام، بعيداً عن أيّة سيطرة أخرى ضاغطة في اتجاه تنمية الكفر والشرك في نفوس المشركين والكافرين، ما يقودهم إلى المزيد من التفكير والتأمل الذي ينتهي بهم إلى الإسلام في نهاية المطاف. وقد وجدنا بعضاً من هؤلاء ممن حسُن إسلامه وقوي إيمانه، بعد أن اكتشف الجانب المشرق في الإسلام الذي يضيء فكره وروحه وقلبه، وابتعد عن الأجواء المضادّة المظلمة التي تثير فيه الكثير من هواجس الانحراف والضلال.

وإذا كان البعض من الناس يثير مسألة الحرية أمام مثل هذه الإجراءات الضاغطة التي يضغط بها التشريع الإسلامي على المشركين، فإننا نحاول أن نثير أمامهم الفكرة التي تقرر أن قضية الحرية في معتقدات الإنسان، في ما يحتاجه من عناصر الإقناع والاقتناع، بالكلمة والأسلوب والجوّ، الذي يهيىء للحوار الإيجابي المنفتح، هي قضيةٌ مكفولةً في الإسلام بشكلٍ حاسمٍ، فللإنسان الحرية في مواجهة كل علامات الاستفهام في نفسه، لتكون له الأجوبة الكافية الشافية من قِبَل القائمين على شؤون الدعوة والعاملين في مجالاتها الفكرية، حتى لا يبقى هناك شيءٌ غامضٌ يوحي له بالقلق والحيرة، لأن الله يريد لعباده، أن لا تكون لهم الحجة عليه، في ما يريدون معرفته، مما يريدهم أن يؤمنوا به.

أمّا الحريّة بالمعنى المطلق، الذي يريد الإنسان ـ من خلاله ـ أن يثير فكره، في كل الساحات، أو أن يستسلم لبعض الحالات المعقّدة، التي لا تخضع لحالةٍ فكريةٍ، فإن الإسلام يرى أن مصلحة الإنسان في الحياة تفرض بعض التحفظات والقيود والضغوط التي تساهم في تصحيح المسار من جهة، وتمنع عملية الإفساد من جهةٍ أخرى. ولكن ذلك لن يكون خاضعاً لنزوة شخصٍ معينٍ، أو لتحكُّم سلطةٍ خاصة، بل هو خاضع للأوضاع التشريعية في الخطوط العامة للإسلام، وللأوضاع التطبيقية في ما يمارسه القائمون على شؤون المسلمين من أولي الأمر الذين ينطلقون من مواقع الإسلام، في ثقافةٍ واسعة عميقة، والتزام عمليّ دقيق، وفهم واعٍ للواقع، فإذا أخطأوا، ردّتهم الأمة إلى مواقع الإسلام بالأساليب الإسلامية الحاسمة.

* * *

سياسة المواجهة مع المشركين

وربما كان لنا أن نستفيد من تشريع المعاهدة بين المشركين والمسلمين في البداية ثم العمل على إلغائها، لأسباب محدّدة، أن قضية الإلغاء ليست حكماً في أصل التشريع، بحيث يقف حاجزاً في المستقبل بينهم ضدّ أية علاقةٍ سلميّةٍ على أسسٍ سليمةٍ لا تتنافى مع المصلحة الإسلامية العليا، بل هو حكمٌ محدّدٌ في نطاق مرحلةٍ معيّنة مع مشركي جزيرة العرب الذين كانت لهم أوضاعهم السلبيّة وتصرفاتهم العدوانية التي تمثل لوناً من ألوان خيانة العهد المعقود بينهم وبين المسلمين، ما يوحي بأن البراءة المعلنة هي حكم ولايةٍ رسولية، لا حكم تشريع، فقد مارسه النبي(ص) بصفته حاكماً لا بصفته مشرّعاً.

وربما استفاد ذلك بعض المفسرين ـ وهو العلامة الطباطبائي في الميزان[1] ـ من نسبة البراءة إلى الرسول، بالإضافة إلى نسبتها إلى الله، إذ لو كان الأمر تشريعاً كما هو التشريع، لاقتصر الأمر على النسبة إلى الله، لأنه هو الذي يملك التشريع وحده، وليس للرسول إلا صفة التبليغ.

وقد نستطيع مناقشة هذا الاستنتاج بأن ذلك لا يمثل أساساً لهذا الرأي، لأن من الممكن أن يكون إسناد الأمر إلى الرسول، بالإضافة إلى الله سبحانه، منطلقاً من أن مثل هذا التشريع ينطلق من معنىً يتصل بالله، من حيث تشريعه له، ويرتبط بالنبيّ من جهةٍ أخرى باعتبار أنه طرفٌ في إبرام المعاهدة وإلغائها، ما يجعل من نسبة البراءة إلى الرسول، كشيءٍ صادرٍ عنه، من خلال ارتباط طبيعته به، وفي ما يمثله واقع العلاقة بينه وبين المشركين من ممارسةٍ عملية للتشريع في بدايته ونهايته. وفي ضوء ذلك، لا نجد التفسير لهذا الاستنتاج صحيحاً.

أمّا تفسيرنا له، فينطلق من دراسة طبيعة الموضوع الذي يتحرك فيه هذا الحكم، وهو موضوع المعاهدة، فإنه يُعتبر من الأعمال الإجرائية المتحركة التي تتعلق بالعلاقات العملية في حركة الحكم الإسلامي، الخاضعة للمصلحة الإسلامية، التي تختلف حسب اختلاف ظروف الواقع الذي يعيشه المسلمون في ميزان القوى في الحياة، ما قد يفرض عليهم نوعاً من العلاقات السلميّة مع الآخرين على أساس المرحلة القصيرة أو الطويلة، وبذلك يكون الرفض التشريعي لذلك بعيداً عن واقعيّة النظرة الإسلامية لمتطلبات الساحة، لأنها تحتاج إلى الكثير من حرية الحركة لحماية المسيرة الإسلامية.

وقد يكون هذا الاتجاه منسجماً مع طبيعة الحرب التي أعلنها الإسلام ضد الشرك في الحياة من حيث الأساس، لأنّ الحرب ليست دائماً بالمواجهة في ساحة القتال، أو بالمقاطعة في حركة العلاقات، بل قد تحتاج إلى الأساليب السلميّة التي قد تحقق من النتائج الإيجابية لمصلحة الإسلام ما لا يحققه القتال، وربما كانت الحرب الفكرية والسياسية أقوى من الحرب بالسلاح، وربما كانت الحرب مصدر خطرٍ على الإسلام والمسلمين في بعض المراحل، فكيف يمكن لتشريعٍ شاملٍ لكل الحياة، أن يُعلن الحرب الدائمة على الآخرين من المشركين؟!

إن الإسلام دين دعوة، ولا بد لذلك من أن ينطلق في أسلوبه، على مستوى السلم والحرب، من مصلحة الدعوة في ما تحتاجه من حرية الحركة، التي تفرض السلم تارةً، والحرب أخرى.

وقد نستطيع استيحاء ذلك من الآيات التالية التي تتحدث عن حيثيات البراءة وإلغاء المعاهدات بالطريقة التي تجعل القرار في مستوى المرحلة والظروف الموضوعية الموجودة آنذاك، المتمثلة بالقوّة الإسلامية القادرة على ممارسة الضغط على المشركين في دور انحسار قوّتهم، وبالأوضاع السلبيّة التي كان المشركون يتحركون فيها ضد الإسلام والمسلمين بالتآمر والكيد لهم بمختلف الأساليب. وربما تتضح الصورة، في ما يأتي من حديثٍ، بطريقةٍ أكثر وضوحاً وأقرب تفسيراً.

إننا لا نفهم من الآيات أنها جاءت لتنسخ حكماً، بل كل ما هناك أنَّها نزلت لتلغي اتفاقاً وقراراً، وربما كان للنداء، الذي نادى به الإمام علي(ع) في ما تحدثت به الروايات، فقد جاء فيه: «لا يحج بعد العام مشرك..»[2]، دلالةٌ على أنَّ القضيّة تتصل بالحالة الموجودة في ذلك الوقت على مستوى المنطقة، ما جعل المسألة مسألة إبعادهم عن المسجد الحرام وعن أجواء العبادات الإسلامية.

إنها ملاحظات نُسجلها للتأمل والتفكير وللمناقشة، على ضوء الأجواء القرآنية للمسألة، والله العالم بحقائق أحكامه وآياته.

ــــــــــــــــ

(1) الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، ط:1، 1411هـ ـ 1991م، ج:9، ص:150.

(2) المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار، دار إحياء التراث العربي، ط:1، 1412هـ ـ 1992م، ج:35، ص:580، باب:9، رواية:22.