تفسير القرآن
التوبة / من الآية 7 إلى الآية 11

 من الآية 7 الى الآية 11
 

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيــات

{كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ* كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ* اشْتَرَوْاْ بِـَايَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ* لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ* فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاةَ وَآتَوُاْ الزَّكاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}(7ـ11).

* * *

معاني المفردات

{اسْتَقَامُواْ}: داموا باقين معكم على الطريقة المستقيمة.

{يَظْهَرُوا}: الظهور: العلوّ بالغلبة.

{يَرْقُبُواْ}: يحافظوا.

{إِلاًّ}: الإلّ: العهد.

{ذِمَّةً}: الذمة كناية عن الميثاق الذي يجعل الإنسان في رعايته وحفظه ومسؤوليته وهو مأخوذ من الذم.

* * *

القرآن يتحدث عن حيثيات البراءة

في هذه الآيات حديثٌ عن الحيثيّات التي تبرّر إلغاء المعاهدة القائمة بين المسلمين والمشركين، فليس الموقف حالةً اعتباطيةً تنطلق من موقع الشعور بالقوّة المتعاظمة لدى المسلمين في المنطقة، تماماً كما يفعل الفريق الأقوى ضد الفريق الأضعف، إذا وجد في نفسه القوّة الكافية للسيطرة عليه، بل الموقف يتمثَّل في دراسة السلوك العمليّ لهؤلاء المشركين الذين اتخذوا من المعاهدة غطاءً للحقد الكامن في داخل نفوسهم ضد المسلمين، وللعداوة المتأصلة التي تحاول أن تعبّر عن نفسها بأيّة طريقةٍ ممكنة، في ما تقوم به من الكيد للإسلام والمسلمين، ما جعل من مسألة العهد واستمراره مصدر خطر على مسيرة الإسلام. وقد أوحى الله لرسوله أن يواجه الخوف من خيانة القوم، بما يواجه به حركة الخيانة في صعيد الواقع، لأنّ ذلك هو السبيل العملي لتوفير الحماية للمسلمين، فقد جاء في قوله تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَآءٍ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ} [الأنفال:58]، لأن انتظار الموقف ـ في مثل هذه الأمور ـ حتى يصل إلى مرحلة الخيانة الفعليّة، يجعل المسلمين يفقدون زمام المبادرة، لتكون في يد الآخرين الذين يعدّون العدة لأخذ المسلمين على حين غرّة، بعد إعداد الخطط الكثيرة للانقضاض عليهم. ولهذا كان الموقف، هو أخذ المبادرة عند ظهور بوادر الخيانة بظهور علاماتها الواضحة، وهذا هو ما تعالجه هذه الآيات، بتصوير الحالة الداخليّة لهؤلاء في شعورهم العدائي للمسلمين، وفي سلوكهم النفاقي في علاقاتهم بهم، وفي خطواتهم العملية للصدّ عن سبيل الله، الأمر الذي يحقق لهم في المعاهدة فرصة للتقدم في اتّجاه أهدافهم العدوانية، ويجعل من التعايش بينهم وبين المسلمين شيئاً لا معنى له في حركة الواقع.

* * *

شروط العهد مع المشركين

{كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللَّهِ وَعِندَ رسوله} وللعهد شروطه العملية، ودلالاته النفسية، وخلفياته الفكرية، ما يفرض الإخلاص في الالتزام، والصدق في الكلمة، والطهر في المشاعر، ليوفّر للموقف سلامته وثباته، لتستمر الحياة المشتركة على هذه الأسس التي تمنع من الخيانة، وتدفع إلى الوفاء، وتوحي بالأمن والطمأنينة، وهذا ما لم يتوافر للعهد بين المسلمين وبين فريقٍ من المشركين، في ما يوحي به الواقع النفسي والعملي لهؤلاء، ولهذا جاءت هذه الفقرة من الآية بأسلوب التعجب والاستنكار، لتثير الانطباع بأن القضية غير واقعيةٍ من حيث المبدأ والتفاصيل: {إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} الذين لم تظهر منهم أيّة بادرةٍ سلبيّة ضد الوفاء بالعهد { فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ} في التزامهم بشروط المعاهدة نصّاً وروحاً {فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ} في الوفاء بالتزاماتكم، لأنَّ على المسلم أن يفي بعهده، فلا يكون هو البادىء بالنقض، لأن ذلك يتنافى مع الروحيّة الإيمانية التي يتصف بها في أخلاقه وأفعاله، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} الذين يخافون الله ويراقبونه في أقوالهم وأفعالهم، في الوقوف عند حدود الله التي يريدهم أن يقفوا عندها ولا يتعدّوها، وفي مقدمّة ذلك الوفاء بالعهد للموفين بعهدهم، لأن النقض في مثل هذه الحالات، يوحي بفقدان الثقة بالمسلمين في علاقتهم بالآخرين في نطاق المعاهدات والمواثيق المعقودة بينهم وبين خصومهم من الناس. وهذا هو الذي يجعل من التقوى حركةً روحيّةً في الداخل، تفرض على الإنسان الالتزام بكلمته وموقفه، بعيداً عن صفة الطرف الآخر الذي يكون الالتزام لمصلحته من حيث كونه مسلماً أو غير مسلم، لأن القضية هي قضية أخلاقيته في نفسه، لا في انعكاسها على الآخرين أو في استحقاقهم لها من ناحيةٍ ذاتيةٍ. وهذا هو الذي يحقق للآخرين الحماية في المجتمع الإسلامي، لأن الإسلام يريد لهم أن يتحركوا من خطّةٍ ثابتةٍ، لا من تصرّفات متحركة خاضعة لردود الفعل الطارئة في المشاعر والأفكار، وذلك بأن يكون الأساس هو ردّ الاعتداء ومواجهته، بطريقة دفاعيّةٍ أو وقائيّة.

* * *

مشاعر المشركين تجاه المؤمنين

{كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ} في الحالات التي يجدون في أنفسهم القوّة على المسلمين، فيهاجمونهم ويتغلبون عليهم، {لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً} ـ في ما ينظرون فيه إلى المسلمين من خطورةٍ على أوضاعهم وامتيازاتهم، فيعملون على أساس انتهاز الفرص التي تتيح لهم اللعب على الظروف الطارئة، والمتغيّرات الجديدة، في ما تمثّله سياسة اللف والدوران وحركة النفاق في الحياة {يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ} في ما يثيرونه أمامكم من الأساليب الخادعة، وما يوجهونه إليكم من الكلام المزوّق المزخرف الخادع الذي يظهرون لكم فيه الإخلاص والمحبة {وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ} التي تحمل الحقد والعداوة {وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} في ما يمثله نقض العهد من فسقٍ عمليٍّ، يعيشه كل واحدٍ منهم في أخلاقه الذاتية، فيدفعه ذلك إلى مواجهة العلاقات الإنسانية مع الآخرين، بطريقة معقّدة سلبيّةٍ، ترى كل الحق لنفسها، في ما تريده من امتيازات، وتواجه الآخرين بالواجبات في ما تفرضه عليهم من مسؤوليات، وتأخذ حريتها في فرض المواقع عليهم، بكل ما يتمثل في ذلك من إذلالٍ واضطهاد.

{اشْتَرَوْاْ بِـَايَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً} فلم يحترموا عهدهم، بل حاولوا أن يستغلّوا ذلك في الحصول على مكاسب ذاتية، وباعوا آيات الله بثمنٍ قليلٍ، فلم يقبلوا عليها بالإيمان بها والعمل على هديها، ليربحوا بذلك خير الدنيا والآخرة، بل استبدلوا بها الأطماع والشهوات الآنيّة التي لا بقاء لها ولا امتداد، على كل صعيدٍ، وساروا على نهج ساداتهم من المترفين والمستكبرين الذين لا يريدون لأنفسهم ولأتباعهم إلا الضلال، ليحققوا بذلك لأنفسهم شهواتها، وليحصلوا على المتاع القليل في الدنيا، فضلّوا وأضلّوا وتمرّدوا على الأنبياء والمصلحين {فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ} وأقاموا الحواجز المادية والمعنوية في كل موقعٍ من مواقعهم، ليمنعوا الناس عن الانطلاق بعيداً في السير مع الرسالات الإلهية التي يلتقون فيها بالله في وحيه ورحمته ورضوانه، {إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} وأيّ إساءةٍ أعظم من العمل على تشويه شخصية الإنسان من الداخل، بتزوير فكره، وتحريف منهجه، وبلبلة عواطفه، وإرباك مسيرته، ثم الانطلاق مع مسيرة الكفر والضلال بكل قوّةٍ غاشمة، لمنع الحياة من أن تتكامل في أجواء الإيمان والخير والصلاح من أجل أن تصل إلى الله من أقرب طريق.

* * *

نقض العهود والذمم

{لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً} لأنهم لا يجدون في العهود التي أعطوها، ملزماً لهم في حساب المسؤولية، بل يجدون فيها فرصةً سانحةً لخداعهم والاحتيال عليهم من خلال الإيحاء لهم بعلاقات الأمن، فهم يعيشون روحيّة العدوان، وينتهزون الفرصة للخيانة، ليمارسوها بطريقةٍ مباشرةٍ أو غير مباشرةٍ، مما لا يجعل من نقض العهد معهم في مثل هذا الجو حالة عدوانٍ عليهم، بل الأمر بالعكس من ذلك، في ما يمثلونه من عدوانٍ على الحياة وعلى الناس، {وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ} الذين لا مكان لهم في ساحة المجتمع الذي يحترم عهوده ومواثيقه، وإرادة الخير في الإنسان. وتلك هي القضية، في مواقع الشرك الحاقد المتمرّد المعتدي.

* * *

شروط الدخول في الإيمان

أمّا إذا تغيّرت الحال وابتعدوا عن ذلك، وشعروا بالإيمان، فكراً يتحرك في ممارساتهم، وهدفاً ينطلق في أهدافهم، فإن الموقف يتغيّر، وسيكونون تماماً كالمؤمنين المخلصين الملتزمين، {فَإِن تَابُواْ} عن الشرك والضلال {وَأَقَامُواْ الصَّلاةَ} التي تمثل صدق التوبة وعمق الإيمان وصفاء الروحيّة الخاشعة أمام الله وحركة العبودية له، المنطلقة مع جوّ الحرية أمام الآخرين، {وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ} التي توحي بروحية الإنسان المؤمن الذي يتحسس آلام الحرمان في حياة الناس، فيعبد الله بالعطاء الذي يقدمه إليهم، في ما يمثله العطاء من تزكيةٍ للنفس، ومن إخلاصٍ لله، بالإخلاص لعباده المستضعفين، وتلك هي علامة الإيمان الذي لا يتحرك في الشعور فقط ليكون مجرد خاطرةٍ في الفكر أو نبضةٍ في القلب، بل يتسع ويمتد ليكون خطاً في الحياة، وممارسةً في العمل. وفي هذا دلالة على أن الممارسة شرط في دخول المجتمع المؤمن الذي يتقبل الإنسان من خلال عمله المتحرك من وحي إيمانه، فإذا تحقق ذلك لهم، {فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} لأنهم يعتقدون ما تعتقدونه، ويعملون ما تعملونه، ويتحركون في الأهداف التي تتحركون إليها.

وتلك هي خصائص الأخوّة الدينيّة، التي هي أعمق أنواع الأخوّة، لأن فيها يتآخى الفكر والشعور، وتتصل خطوات الفكر بخطوات العمل، ما يجعل من المسألة قضيّةً تشمل الكيان الإنساني كلّه. وذلك هو الخط الذي يريد الله للإنسانية أن تسير عليه، وهو المنهج الذي يريد لها أن تنهجه في كل مجالاتها الروحية والعملية في ما يفصِّله من آياته التي توضّح لهم السبيل، حتى لا يبقى هناك مجالٌ لخطأٍ في اجتهاد، أو اشتباه في رؤية {وَنُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} في ما توحي به الروح العلمية من وعيٍ وتفكير وتدبّر، يتحسس فيه الإنسان مسؤولية المعرفة من خلال تحسسه لمسؤوليات الحياة.