من الآية 12 الى الآية 16
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيــات
{وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ* أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَأوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ* قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ* وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ* أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}(12ـ16).
* * *
معاني المفردات
{نَّكَثُواْ}: نقضوا.
{أَيْمَانَهُم}: جمع يمين وهو القسم.
{وَطَعَنُواْ}: الطعن هو الضرب بالرمح وبالقرن وما يجري مجراهما، واستعير للوقيعة.
{وَهَمُّواْ}: الهمّ: مقارنة الفعل بالعزم من غير إيقاع له.
{بَدَأوكُمْ}: البدء فعل الشيء أولاً.
{وَلِيجَةً}: الولوج: الدخول في مضيق. ووليجة الرجل خاصته وبطانته من دون الناس.
* * *
قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم
ويستمر الموقف في مواجهة القضية بطريقة الحسم، فهناك خطرٌ مباشرٌ يواجه الواقع الإسلامي آنذاك، من خلال هؤلاء الذين ينقضون العهد، ويتحدَّون الإسلام في فكره وشريعته، ما يخلق للمسيرة الإسلامية الكثير من حالة الإرباك والفوضى والقلق، ولذلك كانت التعليمات واضحة، بردّ الاعتداء الصادر من هؤلاء، وذلك بإعلان الحرب عليهم من جديد، واعتبار المعاهدات لاغيةً بسبب تصرفاتهم السلبية ضد الإسلام والمسلمين، والإيحاء بأن القضية لا تحتمل المهادنة والتأخير، لأن الخلفيات الكامنة وراء تصرفاتهم، تمثل الخطر الكبير على المستقبل، من جرّاء الروحيّة الحاقدة التي تتحرك في داخلهم في الحاضر، كما كانت في تاريخهم القريب، في الماضي، وهذا هو ما حاولت الآيات أن تثيره في وجه هذه التصرفات، في أسلوب يعتمد على توعية المسلمين، وتوجيههم نحو التأكيد على دراسة القضايا من جميع وجوهها، لا من وجهٍ واحد.
* * *
قتال أئمة الكفر
{وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ} ونقضوا عهودهم ومواثيقهم التي ألزموا بها أنفسهم {وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ} وذلك بالتهجّم عليه بالسبّ والشتم والكلمات غير المسؤولة، في ما يمثّله ذلك من انحرافٍ عن خط الالتزام بالعهد القائم على احترام العقيدة الإسلامية ومراعاة مشاعر المسلمين.
وقد ينبغي لنا أن نفرّق في هذا المجال بين الطعن في الدين الذي يمثل حالةً عدوانيّة، وبين النقد الموضوعي الذي يمثل حالةً فكرية، فإن الإسلام يشجب الأول ويعتبره مظهراً من مظاهر نقض العهد ولوناً من ألوان العدوان، بينما يرحب بالثاني ويدعو الآخرين إليه، من خلال دعوته إلى حركة الحوار الإيجابي بين الفكر الإسلامي والفكر المضاد على أساس الأجواء الفكرية الهادئة.
{فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} وهم قادته الذين يقودون مسيرته في المجتمع ويعملون على تدعيم قواعده. وربّما كان في هذا التأكيد عليهم، إشارةٌ إلى أنهم هُمُ المسؤولون عن كل هذا العدوان الذي يمارسه الناس العاديّون من المشركين، {إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ} لأنهم لا يرتكزون على قاعدةٍ إيمانيّةٍ أو فكريّةٍ لتمنعهم من النقض للعهد، بل ينطلقون ـ في ذلك ـ من الظروف الطارئة الضاغطة، ما يجعل للعوامل التي تخفّف من حالة الضغط، أثراً كبيراً في تصرفاتهم السلبيّة المنحرفة. وقد نستوحي من ذلك أمرين:
الأول: أن مثل هؤلاء لا يبعثون على الثقة في ما يلتزمون به من عهودٍ ومواثيق، لأنهم يفقدون الأساس الداخلي الذي يدفعهم إلى الاستمرار في الالتزام.
الثاني: أن من الضروري مواصلة الضغط عليهم لإخراجهم من واقعهم المنحرف، لأن ذلك هو السبيل الواقعي للانضباط في علاقاتهم مع الآخرين. وبذلك كان إعلان الحرب عليهم المتمثل بالأمر بقتالهم، أسلوب ضغطٍ نفسيٍّ، ليدفعهم ذلك إلى التفكير بالنتائج الصعبة التي تنتظرهم من خلال الحرب {لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ} ويتراجعون عن اللعب والكيد والتآمر على الإسلام والمسلمين، ما يجعل من الموقف حالةً وقائيّةً رادعةً، في ما تفرضه حسابات الواقع الموضوعيّ في الساحة.
* * *
الحثّ على قتال الناكثين
وهنا يلتفت الخطاب إلى المسلمين في عملية توعيةٍ للطبيعة العدوانية المتمثلة في شخصية هؤلاء المشركين من أئمة الكفر، وذلك بشرحٍ تفصيليٍّ للواقع الحاضر الذي يعيشونه والتاريخ الماضي الذي عاشوه، لئلا يشعر المسلمون بعقدة الذنب في إلغاء المعاهدات معهم وإعلان البراءة منهم، مما قد يتوهمونه نقضاً للعهد من جانبهم، لأنهم قد ينظرون إلى الموضوع من خلال الجانب المباشر الصريح للنقض، ولا ينظرون إلى الجوانب الخفيّة غير المباشرة منه، ليصلوا أخيراً إلى النتيجة الواقعية، وهي أن هؤلاء القوم هُم الذين ابتعدوا عن خط العهد، ما جعل البراءة منهم أمراً طبيعياً تقتضيه طبيعة الساحة، في ما تفرضه من الحماية للمسيرة الإسلامية.
{أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ} في ما قاموا به من أعمالٍ وأقوالٍ توحي بذلك {وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ} عندما كان في مكة، فتآمروا فيما بينهم على إخراجه وقتله، حتى اضطروه إلى الهجرة {وَهُم بَدَأوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} في معركة بدر التي كانت تمثل العدوان المسلّح الأوّل على جماعة المسلمين، مما يكشف عن الجذور المتأصلة لموقفهم العدوانيّ الحاضر الذي لم ينطلق من حالةٍ طارئةٍ.
* * *
الله أحق بالخشية
{أَتَخْشَوْنَهُمْ} في ما يمثلون من قوّةٍ وسلطةٍ ومالٍ؟ وكيف يخشى المؤمنون مثل هؤلاء الذين لا ترتكز قوّتهم على قاعدةٍ ثابتةٍ في الداخل، بل تتحرك من خلال الأدوات التي يملكونها والظروف الطارئة التي ينتهزونها؟ إنها القوّة الضعيفة التي مهما تعاظمت، فإنها لا تثبت أمام تحديات القوّة المتحركة من موقع الإيمان الصلب الثابت الذي يستمد قوته من الله. وكيف تخشونهم أيُّها المؤمنون، في ما أرادكم الله أن تواجهوه من جهادهم وقتالهم من أجل الإسلام في مسيرته الظافرة التي تعمل من أجل أن يكون الدين كله لله؟ وكيف تتراجعون عن ذلك أو تفكرون بالتراجع، فإذا كان هناك خشيةٌ منهم وممّا لديهم من القوّة، فهناك خشيةٌ من الله، لما ينتظركم من عقابه لو خالفتم تعاليمه وتمرّدتم على أمره ونهيه؟ فوازنوا أمركم بين موقفكم منهم وموقفكم من الله، وستجدون أن الموازنة تقف بكم عند حدود الله {فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ} لأنه مالك كل شيءٍ، وبيده أمر الدنيا والآخرة، في ما تفرضه عقيدة الإيمان وروحية العبوديّة له، مما يجب أن تواجهوه من مواقف الإيمان {إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ} لأن الإيمان ليس كلمةً تقال، بل هو موقفٌ للتضحية والإخلاص والعطاء.
وربما يخطر في البال، أن مواجهة الله لهم بالخشية منهم لا تلتقي بالواقع الذي كان يعيش فيه المسلمون القوّة بعد فتح مكة، بينما كان المشركون يعيشون فيه الضعف كل الضعف، فكيف نفسّر ذلك؟. وقد نجيب على ذلك: أن القضية قد تكون واردةً في معرض الإثارة التي تدفعهم إلى لونٍ من ألوان الحماس الإيماني المنطلق من حالة الشعور بالقوّة، كعنصر من عناصر تثبيت الموقف في نفوسهم. وربما كان هناك نوعٌ من الخوف، باعتبار أن المسألة في موضوع البراءة بدت لهم حاسمةً شاملةً لا تقتصر على فريقٍ دون فريق، بل تشمل المشركين كلهم في موقف مواجهةٍ واسعة، ما قد يوحي بالقلق لبعض المسلمين الذين يلتفتون إلى سعة التواجد البشري للمشركين في الجزيرة العربية، الأمر الذي يوحي إليهم بالخطر الكبير.
* * *
قتل المشرك وشفاء صدر المؤمن
{قَاتِلُوهُمْ} فذلك هو الأمر الحاسم الذي يلغي وجود الشرك كقوّة في الجزيرة العربية، ويزيل تأثيره من النفوس، ويدفع الناس إلى شجاعة الموقف الذي يدعوهم إلى الإيمان، ولكن يمنعهم من ذلك خوفهم من المشركين، {يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} لأنكم تنفِّذون إرادة الله في جهادكم وقتالكم لهم، {وَيُخْزِهِمْ} بهزيمتهم المنكرة المنتظرة أمامكم {وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ} بإيمانكم وثباتكم وجهادكم في سبيل الله {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ} في ما لاقوه من التعسف والاضطهاد والإذلال والتشريد من جماعة المشركين، من أجل أن يفتنوهم عن دينهم. وقد ينبغي لنا أن نؤكد على أن شفاء صدور هؤلاء المؤمنين لا ينطلق من عقدةٍ ذاتيةٍ مكبوتةٍ، لتبتعد المسألة عندهم عن الأجواء الرسالية العامة، بل ينطلق من حالةٍ إيمانيّةٍ عميقة، لأنهم اضطهدوا وشُرّدوا وعُذِّبوا من أجل الله، فكانت مشاعرهم المضادّة للمشركين بعيدة عن الجانب الشخصي، لأنها متصلةً بالجانب الرسالي في حركته المرتبطة بالجانب السلبي أو الإيجابي من العلاقات الإنسانية {وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} في ما كانوا يشعرون به من الاختناق الروحي إزاء الواقع الممتد للشرك والمشركين {وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَن يَشَآءُ} ممن أسلم قلبه وفكره وموقفه لله وأناب إليه وانطلق في الخطوات المستقيمة التي تتحرك في طريق الحق، فإن الله يقبل التوبة عن عباده، إذا انطلقت من مواقع الإيمان المنفتح والقناعة المطمئنة {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} فقد أحاط بخفايا النفوس، بكل ما تضمره وتظهره، وقدّر الأشياء بحكمته في حركة الوجود، وفي تنظيم الأمور، وفي مغفرته ورحمته للخاطئين المذنبين الذين أراد لهم من خلال التوبة أن يصحّحوا أخطاءهم وينفتحوا على الطريق المشرق في درب الرسالات المستقيم.
* * *
اختبار الإيمان
{أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ} بمواجهة التجربة الصعبة التي يقف فيها الإنسان على الأرض المهتزَّة تحت أقدامه، ليرى الذين يثبتون في مواقف الاهتزاز، فلا يستسلمون لنقاط الضعف، بل يعملون على تحويلها إلى نقاط قوّة، بالصبر الواعي والإرادة الحاسمة، والفكرة الحرّة، حيث تتعمَّق أقدامهم في الأرض الصلبة، وترتبط أفكارهم بالأفق الرحب من الحياة في نطاق الرسالة، وتتصل أرواحهم بالله، في ما يلتقون عليه من علاقات فكريةٍ أو روحيةٍ أو إنسانيةٍ. فليس هناك إلا الله، الإله الواحد الذي تتجه إليه العبادة، وتخشع كل القلوب له، وليس هناك في قيادة الرسالة، في خط الحياة، إلا الرسول الذي لا ينطلق إلا عن الله في كلِّ ما ينطق به، ولا يشرّع إلا شريعة الله، وليس هناك في حركة العلاقات إلا العلاقة بالمؤمنين الذين يتعاونون على الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، ويتواصون بالحق، ويتواصون بالصبر والمرحمة، ويجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، أولئك هم المجاهدون، الذين يخلصون لروحية الجهاد قبل أن ينطلقوا في حركته.
{وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً} فهؤلاء المؤمنون هم الذين لم ينفتحوا على غير الله ورسوله والمؤمنين من بطانة السوء التي تتحرك في أجواء الباطل وآفاقه. وهناك في الجانب الآخر من التجربة، ما يريد الله أن يظهره من الخلفيات الداخلية لعباده، ليميز الخبيث من الطيب، ويتمثل هذا بالذين يتساقطون أمام الزلزال النفسي والروحي والجسدي، في ما تقدّم لهم الدنيا من أطايبها وأطماعها وشهواتها، وفي ما تحذّرهم منه من تضحياتها وجهادها وآلامها، وما تثيره أمامهم من مخاوفها وأوهامها، حتى يشعروا أن الأرض تميد بهم، وأنهم سائرون إلى قرار سحيق، فيحاولون التعلق بأيّ شيء يبعدهم عن الهلاك في ما يتوهمون، ولكنهم يظلون في عملية تساقطٍ وتراجع، فلا يبقى لهم إلا الأشباح والأوهام والفراغ الهائل في متاهات الضياع. إن الدين تجربةٌ مستمرةٌ في حركة الإنسان أمام تحديات الواقع، ولا بد للإنسان المؤمن من أن يواجه الموقف من موقع المسؤولية أمام الله في ما يريده الله وما لا يريده، لأن ذلك يتصل بقضية المصير في الدنيا والآخرة، فلا مجال لأيّة نتيجةٍ إيجابيةٍ أو سلبية إلا على أساس التجربة الواقعية على مستوى الحياة الفردية والاجتماعية، ولا مجال للتهرب من ذلك بطريقة اللف والدوران، لأن الله هو المطلّع على خفايا الأشياء ودقائقها، فلا يعزب عن علمه مثقال ذرّة في الأرض ولا في السماء {وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}.
تفسير القرآن