تفسير القرآن
التوبة / من الآية 17 إلى الآية 18

 من الآية 17 الى الآية 18
 

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيتــان

{مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ أُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ* إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخر وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَـئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ}(17ـ18).

معاني المفردات

{يَعْمُرُواْ}: العمارة أن يجدد ما استرمّ من الأبنية، ومنه اعتمر إذا زار، لأنه يجدّد بالزيارة ما استرمّ من الحال.

{مَسَاجِدَ}: الأصل في المسجد هو موضع السجود في العرف، ويعبّر به عن البيت المهيأ لصلاة الجماعة فيه.

* * *

منع المشركين من إعمار المساجد

كان المشركون يترددون على المسجد الحرام في مكة، ويحجون إلى البيت الحرام ويطوفون به، في ما توارثُوه من عبادة الحج من عهد إبراهيم عليه السلام. ولكنهم كانوا يمارسون عبادة الأصنام التي نصبوها على جدران الكعبة، وبذلك كان الجوّ هناك جوّ شركٍ في العبادة، ما يتنافى مع الأجواء الروحية التوحيدية التي يريد الله لزوّار مسجده أن يعيشوها في إخلاص العبادة له، ورفض كل عبادةٍ لغيره، سواءٌ أكانت وسيلةً للتقرب إليه، مما كان المشركون يعتقدونه في تلك الأصنام من القداسة الذاتية حيث تقرّبهم إلى الله زلفى، أم كانت مستقلّة في العبادة في ما يعتقده بعضهم من معاني الألوهية في داخلها، فالمسجد هو بيت الله، فلا مجال فيه إلا لعبادته.

وهذا هو ما أراد الله لنبيه أن يعلنه، في إعلان البراءة، من منع المشركين من الحج بعد ذلك العام، في ما نادى به الإمام علي(ع) من قوله: «لا يحج بعد العام مشرك»، وهذا هو ما نفهمه من هاتين الآيتين.

{مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله} والمراد من العمارة ـ هنا على الظاهر ـ هو عمارتها بالتواجد فيها وممارسة شؤون العبادة التي يبتعدون فيها عن روح التوحيد، وليس المراد عمارتها بالعمل على تشييدها، لأن ذلك لا يتناسب مع أجواء الآيات، {شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ} بالله الواحد، لأن ذلك هو ما تمثّله عبادة الأصنام التي تعتبر شهادةً فعليّةً بالكفر الذي يبعد عن روحية المساجد التي هي إخلاص العبادة لله ـ وحده ـ {أُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} فلا قيمة لها عند الله، لأنه لا يغفر أن يشرك به، لأن الشرك يمثل تمرداً عليه وإساءة لقدس جلاله {وَفِى النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ} فذلك هو الجزاء العادل لهؤلاء الذين يعيشون في نعم الله الذي خلقهم وأوجدهم من عدم، ثم يواجهونه بالتمرّد عليه والانصراف عنه إلى غيره، في ما يسيء إلى الإنسان والحياة، مما يُخرج الشرك عن أن يكون عملاً فردياً خاصاً ليتحول إلى عمل يتصل بسلامة المجتمع في تصوراته المنحرفة وسلوكه الأعوج.

* * *

المساجد يعمرها المؤمنون

{إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخر وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ} فهذا هو النموذج الإنساني الذي يحقق للمساجد رسالتها، ويعطيها معناها، ويحركها في الاتجاه الروحي الذي يجعل أبواباً مفتوحة على الحياة المتحركة من خلال الله وباسمه، لينطلق الإنسان على أساس ذلك، عاملاً في أرض الله في الأجواء الروحيّة التي يختزنها في أعماقه من روحيّة الإيمان في المسجد. فقصة المسجد، ليست في هذه الأحجار الجامدة التي تمثل سقفه وحيطانه، وليست في هذه الأشكال المزخرفة التي توحي بعظمة الفن وروعة الإبداع، بل هي في الإنسان الذي يعمر المسجد بالعبادة المنطلقة من الفكر الإيماني، والشعور الروحي، والممارسة الخيّرة، حيث يتحول المسجد إلى ساحةٍ للانطلاق الإنساني من أجل بناء الحياة على قواعد الحقّ والقوّة والعدل، من خلال ما يثيره من عمق الروحيّة الواقعية التي تصنع الإنسان المسؤول الفاعل، الذي يعطي الحياة من نفسه وطاقاته أكثر مما يأخذ منها، لأنه لا يجد فيها الفرصة السانحة للعبث واللهو وممارسة الشهوات، بل يجد فيها الموقع المتقدم الذي يمارس فيه مسؤوليته كعبادةٍ خالصةٍ بين يدي الله. وبهذا كان الإيمان بالله واليوم الآخر وجهاً من وجوه حركة الإنسان في الداخل، التي تدفع حركته في الخارج إقامةً للصلاة وإيتاءً للزكاة، كما كانت الخشية من الله، والتحرر من كل خوف من غيره، عنصر قوّة في رفض كل أشكال العبادة المنحرفة لآِلهة الأرض الذين اعتبرهم المنحرفون آلهةً من دون الله وكل المناهج الضالّة التي سار عليها الناس بعيداً عن المنهج الذي يريد الله للحياة أن تنطلق منه وتسير عليه. وهذا هو الذي يحقق للإنسان حريته بعمقٍ، ويعطي للمسجد أجواء الحرية التي يتنفسها المصلّون والمتعبدون ليخرجوا إلى الحياة من خلال المسجد بفكر حُرٍّ، وإرادةٍ حُرّةٍ، وموقفٍ يجسد الحرية كمنهج حياة، وكحركة واقع.

{فَعَسَى أُوْلَـئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ} لأن ذلك هو سبيل الهدى الواضح. وربما كان التعبير بكلمة «عسى» التي لا توحي باليقين بالنتائج، إيحاءً للإنسان بأن عليه أن يظل في موقف الترقب والحذر في قناعاته وممارساته، فلا يستسلم لذلك كله في اعتبار النتائج المصيرية حاسمةً، فلعل هناك شيئاً خفيّاً في الداخل لم يلتفت إليه، ولعل هناك حالةً مَرَضيّةً لم يشعر بها، ما يجعله واقفاً بين الخوف والرجاء، والبحث الدائب من أجل تعميق الإيمان في نفسه، وتصحيح التجربة في موقفه.