من الآية 19 الى الآية 22
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيــات
{أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخر وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ* الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ* يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ* خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}(19ـ22).
* * *
معاني المفردات
{سِقَايَةَ الْحَاجِّ}: سقيهم الماء. وكانت السقاية لبني هاشم.
{يُبَشِّرُهُمْ} : البشارة، دلالة على ما يظهر به السرور في بشرة الوجه.
{وَرِضْوَانٍ}: الرضوان: الرّضا الكثير.
* * *
مناسبة النزول
ذكر المفسرون أن هذه الآيات نزلت في علي بن أبي طالب(ع) والعباس بن عبد المطلب وطلحة بن شيبة، وذلك أنهم افتخروا فقال طلحة: أنا صاحب البيت وبيدي مفتاحه ولو أشاء بتُّ فيه، وقال العباس: أنا صاحب السقاية والقائم عليها، وقال علي(ع): ما أدري ما تقولان، لقد صلّيت إلى القبلة ستة أشهر قبل الناس وأنا صاحب الجهاد...
وقد تعددت الروايات في ذلك بأساليب مختلفة... وقد أشرنا أكثر من مرة إلى أن أسباب النزول تمثل النماذج الحيّة للفكرة العامة التي تريد الآيات أن تثيرها في الناس من خلال حركة الواقع الذي عاشت الآية في أجوائه، ما يجعل للآية الامتداد في نطاق الفكرة العامة.
* * *
لا مقارنة بين ووظائف خدمة الحج
وينطلق القرآن ليركز في داخل الشخصية الإنسانية الإسلاميّة القيم الروحية الواقعية الجديدة، التي تؤكد على جانب المضمون بعيداً عن الشكل، وتوحي للناس بأن القيمة الحقيقيّة المميّزة هي للذين يتحركون في الحياة في خط الإيمان بالله واليوم الآخر، باعتبار أن ذلك هو الأساس في بناء الحياة على قاعدة المسؤولية التي تتحرك في خطين: خطّ الإحساس بالألوهية الخالقة القادرة المهيمنة على الوجود كله، في ما يوحيه ذلك من الالتزام بالمنهج الشامل الذي وضعه للحياة، وخط الشعور بالنتائج الإيجابية أو السلبية للعمل المستقيم أو المنحرف في مواقف الحساب في اليوم الآخر بين يدي الله. ثم هي للمجاهدين في سبيل الله الذين يقدّمون كل ما يملكون من مالٍ وجاهٍ وحياةٍ، من أجل استقامة الحياة على درب الله في كل القضايا التي تتحرك في آفاقها، وذلك هو الذي يحقق للحياة أهدافها الكبيرة التي يريدها الله لها، ويدفعها إلى الأمام، والذي يرفع مستواها إلى آفاقه. وهذه هي القيمة الكبيرة للإنسان في ما تؤكده من إنسانية الإنسان ورساليّته، ولا مجال للمقارنة بينها وبين أيّ عملٍ من الأعمال الآخرى التي قد تكون وجهاً من وجوه الخير، ولكنها لا تمثل الامتداد والعمق في حياة الإنسان، وفي مصيره.
ولعل هذا الخط في تأكيد القيمة الروحيّة الإنسانيّة، وعدم اعتبار الأعمال الاستعراضية أساساً للقيمة، يُبعد الكثيرين ممن يريدون تأكيد إيمانهم وروحيتهم من خلال القيام بأعمالٍ عمرانيّة للمساجد أو للمؤسسات الخيرية أو توزيع الصدقات، ويحاولون من خلال ذلك أن يتخذوا لأنفسهم موقعاً متقدماً في الساحة الاجتماعيّة، وربما يعملون، أو يعمل أتباعهم، على تفضيلهم على العاملين في خط التغيير الفكري والاجتماعي والسياسي، من الجذور الضاربة في عمق الواقع الإنساني، على أساس هدى الله المنطلق من رسالاته. وقد نستوحي من هذا الخط القرآني، النهج العملي الذي يمنع الكثيرين من هؤلاء الاستعراضيين أن يخدعوا المجتمع عن واقعهم المزيّف بالمشاريع الخيرية البارزة، وذلك عندما يفهم المجتمع القرآني أن مثل هذه الأمور لا تمثل قيمةً في نفسها إلا بمقدار ما تكشف عنه من روحٍ طيّبةً ونيَّةٍ صالحة
* * *
الأفضلية عند الله للإيمان والجهاد
{أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ} بما كان يفعله البعض من سقي الحجاج الماء في الموسم {وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} بما كان يقوم به البعض الآخر من عمارته {كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخر وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} فكانت حياته من أجل الحياة كلها والحق كله، في حركة الإيمان وانطلاقة الجهاد. {لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ} لأن الله ينظر إلى الناس من خلال دوافعهم ومنطلقاتهم وآفاقهم الروحيّة في ما تمثله من الإخلاص له والإذعان لعبوديته. فلا يمكن أن يساوي بين الإنسان الذي يعيش الأفق الضيق في الأعمال الجزئية المحدودة، وبين الإنسان الذي يعيش الأفق الواسع في أجواء الحياة كلها. فكيف تساوون بين هذين النموذجين من الناس، أو تحاولون تفضيل الفريق الأول على الفريق الثاني؟! إنه الظلم للحقيقة وللمجاهدين في سبيله. وهذا هو الضلال بعينه، الذي يبتعد فيه الإنسان عن أجواء الهدى، فإذا انطلقتم في هذا الجو، فسيترككم الله لأنفسكم، لأنكم اخترتم ذلك من دون حجّة {وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} الذين ابتعدوا عن الهدى باختيارهم وانحرفوا عن طريق الله من غير أساس، وأهملوا طاعته، وتركوا هداه إلى غيره، بعد أن عرّفهم النهج السوي والصراط المستقيم.
* * *
الهجرة في سبيل الله
{الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ} وتحمّلوا ما تحملوه من هجرة الوطن، إلى حيث يملك الإنسان حرية الحركة في الدعوة والجهاد ويبتعد عن مواطن الضغط الذي قد يعرّضه للفتنة في دينه، وذلك دليل الإخلاص العظيم لله، لأنه يمثل التمرّد على كل العواطف الذاتية والخصائص الحميمة، من أجل الله وحده، {وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ} في ما بذلوه من أموالهم للدعوة والجهاد، ومن خلال ما واجهوه من أخطاء مادية ومعنوية في هذا الاتجاه، حيث فقدوا أيّ معنىً للجانب الشخصي في حياتهم، وتحولوا إلى عنصر متحرك في نطاق الجوانب العامة المتصلة بالله وبالحياة، أولئك {أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ} من كل النماذج الأخرى التي قد تعمل الخير في المجالات المحدودة {وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} برحمته ورضوانه وجنته {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ} والرحمة تمثل لطف الله ورعايته وعنايته في الحياة الدنيا والآخرة، ويوحي الرضوان بمعانٍ روحيّة تنساب في مشاعرهم روحاً وأمناً وطمأنينة، بينما تشير الجنات إلى ما ينتظركم من السعادة الروحيّة والمادية التي تثير فيهم كل مشاعر الغبطة والسرور {خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً} فلا موت ولا فناء، بل هي الحياة الممتدة إلى ما شاء الله لها من الامتداد {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} في ما يمنحه لعباده الصالحين المجاهدين من جزاءٍ على ما عملوه وما جاهدوا فيه مما يتناسب مع روعة الإخلاص وعظمة الموقف.
وقد سبق لنا الذكر أثناء الكلام على مناسبة نزول هذه الآيات، أن المفسرين أوردوا أن هذه الآيات نزلت في علي بن أبي طالب(ع) ، فلتراجع في محلها.
تفسير القرآن