من الآية 25 الى الآية 27
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيــات
{لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ* ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذلِكَ جزاءُ الْكَافِرِينَ* ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}(25ـ27).
معاني المفردات
{مَوَاطِنَ}: الموطن: الموضع الذي يقيم فيه صاحبه.
{حُنَيْنٍ}: اسم وادٍ بين مكة والطائف.
{سَكِينَتَهُ}: السكينة: الطمأنينة.
* * *
يوم حنين.. للعبرة والتأمل
ويعود الحديث إلى أجواء القتال، ولكن الله يريد للنبيّ وللمؤمنين، أن تظلَّ عيونهم محدّقةً بالجانب الغيبيّ من ألطافه، وقلوبهم متّصلة بالقوّة المستمدّة منه، فللإنسان دوره في الحياة في ما يملك من وسائل الحركة وعناصر القوّة وآفاق الفكر، فقد ينتصر تارةً، وقد ينهزم أخرى، ولكن الدور الأساس في كل شيء، هو لما يفيضه الله عليه من أسباب النصر، أو لما يبتليه به من عوامل الهزيمة، فلا يجوز له أن يستسلم للجانب الماديّ بعيداً عن الجانب الغيبيّ، لأنه هو الذي يمنحه حيويّته، ويحقق له الامتداد في مداه، حتى يبلغ غايته، ويحوّله من عنصرٍ جامدٍ محدود إلى عنصر متحرّكٍ منطلقٍ مفتوحٍ. فالله هو مع كل شيء ووراء كل شيء، فله الأمر كله، وبيده الوجود كله، وهذا هو معنى الإيمان المنفتح عندما يحل في فكر الإنسان وقلبه وضميره، فيوحي له بالارتباط العميق بالله، فيلجأ إليه في حالة الرخاء كما يلجأ إليه في حالة الشدّة، ويرجع إليه في مواطن القوّة كما يرجع إليه في مواطن الضعف، لأنه فوق ذلك كله، وذلك هو سرّ الفتح الكبير في روح المؤمن الذي يتحوّل إلى الفتح الكبير في حياته، في وعيه لعظمة الله ورحمته وقدرته في حركة الحياة.
* * *
الكثرة لا توجب النصر
{لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ} وهي المعارك التي خاضها المسلمون ضد المشركين وأهل الكتاب من اليهود، وقالوا إنها ثمانون، وكان المسلمون يعانون من ضعف العدد والعدّة، وكان النصر من الله، من خلال ما كانوا يحصلون عليه من الإمدادات الغيبيّة وغيرها مما يساهم في عملية النصر، {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ} عندما هاجم المسلمون ـ بقيادة رسول الله(ص) ـ هوازن وثقيف في وادي حنين {إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} فقد كانوا في ما تقوله بعض الروايات، اثني عشر ألفاً أو أقل من ذلك، حتى قال بعضهم حين رأى هذا الجمع الغفير من الناس، لن نغلب اليوم عن قلّة، فاستسلموا لهذه القوّة العددية، وأغفلوا الجوانب الأخرى من القوّة، بما تفرضه الحرب من طبيعة الدقة في الاستعداد والتخطيط والحركة، وفي ما يوحي به الإيمان من الاعتماد على الله في قضية النصر، فكانت الهزيمة بعد ساعة ـ في ما قيل ـ عندما خرجت عليهم كتائب هوازن من كل ناحية، وانهزمت بنو سليم وكانوا في المقدمة، وانهزم من وراؤهم، وخلّى الله تعالى بينهم وبين عدوهم لإعجابهم بكثرتهم {فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً} ولم تنفعكم في أيّ نصر {وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} فلم تجدوا أمام الهزيمة المنكرة مكاناً تلجأون إليه، لأن القوم لاحقوكم في كل مكان {ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ} منهزمين.
ولكن الله أرادها درساً للعبرة، ولم يردها هزيمةً نهائيةً، فقد ذكر أهل التفسير، أن عليّاً(ع) بقي ومعه الراية يقاتلهم في نفر قليل، ومرّ المنهزمون برسول الله(ص) لا يلوون على شيء، ولما رأى هزيمة القوم عنه، قال للعباس بن عبد المطلب وكان جهوريّاً صيّتاً: اصعد هذا الظرب «وهو التل الصغير» فنادِ: يا معشر المهاجرين والأنصار، يا أصحاب سورة البقرة، يا أهل بيعة الشجرة، إلى أين تفرون، هذا رسول الله ، فلما سمع المسلمون صوت العباس تراجعوا وقالوا لبيك وتبادر الأنصار خاصة، وقاتلوا المشركين حتى قال رسول الله(ص): الآن حمي الوطيس ونزل النصر من عند الله تعالى وانهزمت هوازن هزيمةً قبيحةً، فمرّوا في كل وجهٍ ولم يزل المسلمون في آثارهم.
{ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ} وهي رحمته التي تجلب الطمأنينة والسكون والهدوء إلى النفس، حتى تشعر بالراحة والاستقرار {عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} بعد حالة الخوف والفزع، فرجعوا إليهم وقاتلوهم، بما عاشوه من القوّة الروحيّة الجديدة التي وهبها الله لهم، فتحوّلت إلى قوّةٍ في الموقف {وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا} من الملائكة، وهو ما ذكرته كتب التفسير، وما توحي به أجواء الآية {وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} وذلك بما عانوه من القتل والأسر وسبي الأولاد والنساء {وَذلِكَ جَزَآءُ الْكَافِرِينَ} المتمردين على الله ورسوله {ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَن يَشَآءُ}، ممن يرجع إلى الإيمان بعد الكفر، وإلى الطاعة بعد المعصية، وإلى الاستقامة بعد الانحراف، لأن الله قد فتح للناس باب التوبة والإنابة ليرجعوا إليه بعد المعصية، في عملية تقويمٍ للموقف وتصحيح للفكر، وعودةٍ للإيمان، وانتصار على الضعف، وهو العالم بالذين يستحقون المغفرة والرحمة، لأنه المطلع على دواخلهم وتاريخهم العملي {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.
تفسير القرآن