تفسير القرآن
التوبة / الآية 28

 الآيات 28
 

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيــة

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَآءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}(28).

معاني المفردات

{نَجَسٌ}: النجس هو كل مستقذر.

{عَيْلَةً}: العيلة: الفقر.

* * *

إنما المشركون نجس

وهذا نداءٌ للمؤمنين، يضع بين المسلمين والمشركين حاجزاً نفسيّاً، يبرّر كل التعاليم الشديدة في مقاطعتهم لهم، والبراءة منهم، ومواجهتهم بالقتال، فإن الشرك يمثل في إيحاءاته ونتائجه العملية القذارة المعنويّة، ويوحي بقذارةٍ روحية، تجعل الإنسان المشرك يعيش في وسخ الفكر والروح والشعور عندما تعيش روحه في آفاق الأصنام لتنسحق أمامها، وعندما يختنق فكره في داخل الصنميّة لينتن في مستنقعاتها، وعندما يتحرك شعوره في قوالب جامدةٍ من الحجر والخشب واللحم والدم، ليس فيها شيء من حيويّة الحياة، ونقاء السموّ، وحركة الإشراق.

إن للفكر طهارته التي تحوّل الإنسان إلى ينبوعٍ ثرٍّ متجدّدٍ يتفجر بروحيّة العطاء وحيوية الحياة، حتى لتشعر أمامه، وأنت تتمثل الكيان الذي يحتويه، بالانجذاب إليه، كما لو كان شيئاً يضمّ روحك بروحه، ويحتوي شعورك في شعوره، وتحس معه بأن كل شيء فيه نظيفٌ، لأنه يتحرك من موقع النظافة الداخليّة التي لم تقترب إليها أوساخ الأخلاق والمشاعر والحركات الخارجية، وأيّة طهارة أروع من نهر الإيمان عندما يتدفق في فكر الإنسان وقلبه، فيعيش الإنسان فيه مع الله؛ مصدر النقاء في كل شيء، وسرّ الطهر في كل حياة، وهكذا يتصل بالأشياء وبالحياة والإنسان، من مواقعها الفطرية الطبيعيّة التي تنطلق من أعماق الوجدان الحيّ الصافي، وكما هو الإيمان يمثّل عمق الطهارة وحقيقة النقاء وينبوع الصفاء، فإن الشرك يمثل النقيض من ذلك، إنه يمثل قذارة الرواسب المتعفنة من خلال ظلمات السنين وأوحال التاريخ التي يعيش معها الإنسان عفن الفكر والروح والشعور.

وإذا كانت القضية في هذا المستوى، فإنَّ من طبيعة هذا الواقع أن لا يقربوا المسجد الحرام الذي جعله الله ساحةً للنقاء وللطهارة، ليتطهر الناس فيها من ذنوبهم وأثقال أخلاقهم وعاداتهم التي تقذّر فيهم معنى الحياة، فكيف يمكن أن يقترب إليها هؤلاء الذين تمثل عبادتهم للأصنام كل معاني القذارة الروحية والفكرية والعمليّة..؟!

* * *

نجاسة المشركين مادية ومعنوية

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} فهم القذارة كلّها، في ما توحي به كلمة النجس، التي هي مصدر يمثّل المعنى الذي إذا نسب إلى الشخص، فإنه يعبّر عن تجسيد هذا الشخص له.

* * *

اختلاف الفقهاء حول المقصود بالنجاسة

وقد اختلف الفقهاء في المقصود بالنجاسة، فهل هي النجاسة المادية التي تترك أثرها على الجسد، ويترتب عليها أحكام النجاسة، أم هي النجاسة المعنوية التي توحي بالحاجز النفسي الذي يفصل المسلمين عنهم، في ما تمثله قذارة الفكر الشركي والممارسة العبادية للأصنام، ما يبعدهم عن الأجواء الروحية العبادية التي تعيشها أماكن العبادة التي أعدها الله للعاكفين والركع السجود الذين يعيشون وحدة الله في العقيدة وفي العبادة، من خلال وجود المشركين هناك؟

ولعلَّ المعنى الثاني أقرب إلى جوّ الآية من خلال الفقرة التالية: {فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـذَا} فإن مضمونها لا يتناسب مع النجاسة المادية، ولذا لا يلتزم الفقهاء بحرمة إدخال النجاسات إلى المسجد الحرام إذا لم يستلزم هتكاً، كالدم أو البول الموضوع في قارورة، أو جلد الميتة أو لحمها ونحو ذلك، ولهذا ناقش في دلالتها على النجاسة، الفقهاءُ الذين يرون نجاسة المشرك، ولكن من خلال دليل آخر، لأن الآية من خلال ما أشرنا إليه، لا توحي إلا بالتنافر الروحي والمعنوي بين ما يمثله المشركون من عبادة الأصنام، وما يمثله المسجد الحرام من عبادة الله الواحد. وقد كانت هذه السنة التي نزلت فيها الآية آخر سنةٍ لتواجد المشركين في المسجد الحرام، أو في مكة، على الرأي الذي يرى أن كلمة الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ تتسع لمكة كما ربما تدل عليه الآية الكريمة: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ}َ [الإسراء:1] فإنه من المعروف أن النبيّ قد أسريَ به من دار أم هاني بنت أبي طالب. وما يؤيد إرادة القذارة المعنوية من كلمة «نجس» وإرادة مكة من «المسجد الحرام»، أنه لو كانت النجاسة المادية هي المدلول للكلمة، لما كان هناك أية مناسبة لقول {بَعْدَ عَامِهِمْ هَـذَا} الذي يوحي بأنه لا مانع من دخولهم المسجد بنجاستهم قبل نهاية العام، لأن حكم النجاسة المادية في إبعاد المسجد عنها أمر فوري، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن الفقرة التالية: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} توحي بأن المسألة تتصل بخروج المشركين من مكة ومنعهم من العودة إليها للحج أو لغيره، الأمر الذي يتصل بالجانب الاقتصادي السلبي الذي يتصوره المسلمون مما لا دخل للنجاسة فيه من قريب أو من بعيد وعلى ضوء هذا، فلا يكون لهذه الآية أي ظهور في نجاسة المشركين ليتعدى الكافر الملحد بالأولوية القطعية.

* * *

خوف الفقر

{وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً} أي إذا خشيتم من انقطاعهم عن الحج، بسبب هذا التشريع، فقراً وحاجة من خلال تعطيل الأسواق التي كانوا يحركونها بالشراء والبيع، ونقصان التجارة التي كانوا يمارسونها، فلا تحملوا همّاً لذلك، لأن الله قد تكفّل بالرزق لعباده، فإذا أغلق عنهم باباً فسوف يفتح لهم أبواباً أخرى في ما قدّره للحياة من التوازن الاقتصادي الذي يريد فيه أن يجمع للناس الجانب الروحي والفكري من الحياة بالإضافة إلى الجانب المادي، ليحصلوا على النتائج الإيجابية للواقع من جميع الجوانب. وهذا هو الذي يجب أن يدخلوه في حساباتهم عندما يتحدثون عن موازين الربح والخسارة في الأشياء، فلا يتعقدوا من بعض القيود التي يفرضها الله عليهم في تجارتهم، أو التي يحدّد لهم فيها علاقاتهم بالآخرين وبالأوضاع العامة من حولهم {فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَآءَ} من خلال ما يفتحه لكم من مجالات جديدة للرزق والعمل {إِنَّ اللَّهَ عَلِيم} بما يصلح أموركم ويفسدها {حَكِيمٌ} بما يخطط لحياتكم من تشريعات، وما يخلقه لكم من أوضاعٍ متنوعةٍ متصلةٍ بحركة حياتكم في الداخل والخارج.