الآيات 29
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيــة
{قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخر وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}(29).
* * *
معاني المفردات
{الْجِزْيَةَ}: ما يؤخذ من أهل الذمة، وتسميتها بذلك للاجتزاء بها في حقن دمهم.
{صَاغِرُونَ}: الصّاغر هو الراضي بالمنزلة الدنيّة.
* * *
مع أهل الكتاب: القتل، أو الجزية
وانتهى حديث العلاقات مع المشركين، الذين لا يريد الإسلام لهم أن يعيشوا في المجتمع الذي يحكمه المسلمون، لأن هناك تبايناً في مفهوم العقيدة ومفهوم العبادة، فلا مجال للتسامح معهم، إلاّ على أساس التنازل عن الدعوة الحاسمة إلى التوحيد، مما يلغي في الإسلام جدّيته ومصداقيّته، ويحوّل المسألة إلى الأجواء الرسميّة التي لا تحرك الساحة نحو التغيير الجذريّ للواقع، لا سيما إذا لاحظنا ـ في هذا المجال ـ أن الشرك لا يمثل منهجاً فكرياً للحياة، من قاعدة الفكر المسؤول والعلم الصادق، بل هو عبارة عن تقاليد وأوهام وتخيلات، ترهق مسيرة الإنسان، وتُثقل روحه، وتُبعثر جهوده، فلا يكون الضغط عليه لإبعاده عن ساحة الحياة انتقاصاً من قضية الحرية من قريب أو من بعيدٍ، بل يمثل التأكيد عليها من موقع تحرير الفكر الإنساني من الخضوع لعبودية الأوهام والتقاليد والخرافات، وربطه بالحقيقة التوحيديّة المشرقة المنطلقة بالنور والإشراق في رحاب الله.
* * *
إمكانات التعايش مع أهل الكتاب
أمّا أهل الكتاب، فهم الفئة التي تنتمي إلى الكتب السماوية، ولا تواجه قضية الإيمان لتتمرد على المبدأ بشكل مباشر، لأن الكتب التي تؤمن بها، تؤكد الإيمان بالله كحقيقةٍ، وإن كانت تنحرف ببعض التفاصيل؛ في تصورها لشخصية الإله وصفته، وفي تمثُّلها لطبيعة النبوّات وحركتها، وفي إنكارها لبعض الأنبياء وإيمانها لبعضهم الآخر، إلى غير ذلك من الأمور التفصيليّة. ولكن ذلك كله لا يمنع من التعايش بينهم وبين المسلمين، لأن هناك أكثر من قاعدةٍ للقاء، ولأنّ هناك كثيراً من المواقع التي يمكن أن يتحركوا من خلالها للحوار، من خلال ما تشتمل عليه الكتب من مفاهيم وتشريعات متحدةٍ أو متقاربةٍ وما يتمثل في شخصيات الأنبياء من روحانيةٍ وجهادٍ وإيمان، الأمر الذي يجعل الإنسان يشعر بالأجواء المشتركة في القيم الروحية والفكرية والتشريعيّة في حركة المجتمع العمليّة. وبذلك تلتقي الساحة المشتركة بالكثير من الإيجابيّات التي لا تهزمها السلبيّات الأخرى.
ولهذا أقرّ الإسلام التعايش الإسلامي ـ المسيحي، في مجتمع واحد، ولكنه أراد لحكمه أن يكون في المواقع المتقدّمة التي تحكم الساحة كلها، من أجل المحافظة على قوّة القاعدة وسلامة خطّ السير، واستمرار حركة العقيدة في أجواء الدعوة والعمل، من دون حواجز ثابتةٍ، أو مواقف معقّدةٍ. لقد سمح للمجتمع أن يتنوَّع في تصوراته التفصيلية للدين، مع عدم الموافقة على بعض هذه التصورات، ولكنه لم يسمح له أن يكون خارج سلطته وحكمه، لأن المجتمع الذي تتعدد فيه السلطات، سوف يكون محكوماً للتمزق والضعف والفساد، وهذا ما لم يمكن للإسلام أن يسمح به، لأنه يؤدي إلى الخراب والدمار، فلا بد من وحدة السلطة، ولا بد من التقاء جميع أفراد الشعب على أساس الخضوع لتلك السلطة، فكيف يكون الخضوع؟
* * *
تشريع الجزية
إن موضوع الخضوع بالنسبة للمسلمين، يكون بالالتزام بمفاهيم الإسلام في عقيدته وشريعته وأسلوبه في العمل والحياة، في باب النظريّة والتطبيق، لأن ذلك هو معنى الانتماء إلى الإسلام على مستوى الحكم والعقيدة والحياة، تماماً كأيّة أمّةٍ تلتزم بعقيدةٍ معَيّنةٍ ونظامٍ معيّنٍ إذا عاشت في داخل الإطار الذي تحكمه تلك العقيدة وذلك النظام، وأمّا بالنسبة لغير المسلمين، الذين لا يريد الإسلام أن يفرض عليهم أحكامه في كثيرٍ من القضايا العبادية والقتالية والحياتية المتعلقة ببعض الأوضاع والعادات، فلا بدّ له من فرض سلطته بطريقةٍ أخرى، وهي فرض ضريبةٍ تابعةٍ في تقدير كميتها ونوعيتها لتقدير وليّ الأمر الذي يدرس المسألة من موقع مصلحة الإسلام العليا، ودراسته للواقع الذي يعيشه هؤلاء من ناحية واقعهم المالي ونحوه. وليس لهذه الضريبة التي تسمّى بالجزية، أيّ مدلول تعسفيٍّ في ما يتعلق بإنسانية هؤلاء، بل هي على العكس من ذلك، ذات مدلولٍ واقعيّ يتحرك من موقع النظرة إلى الأعباء التي يتحملها الحكم الإسلامي، في ما يحمله من مسؤولية حماية هؤلاء ورعايتهم وتوفير الضمانات الحقيقية لوجودهم، مع عدم تحميلهم أيّة مسؤولية في الدخول في الحروب التي يخوضها المسلمون ضد الآخرين ممن يدينون بدينهم، أو ممن يختلفون عنهم في ذلك، وعدم مطالبتهم بالضرائب الأخرى المفروضة على المسلمين. ولوليّ الأمر أن يعفو عنها في بعض الظروف، وله أن يخفف منها في بعض آخر، ما يعطي المسألة مرونةً تشريعيةً تفسح المجال لكثير من التوسعة والتغيير.
ولسنا هنا من أجل الدخول في عمليةٍ توفيقيّةٍ تبريريّةٍ أو دفاعيّةٍ في الرد على الذين أثاروا النكير على الإسلام في تشريعه الجزية على أهل الكتاب، سواء أكانوا من أهل الكتاب أم من غيرهم، في ما أرادوا به تشوّيه صور التشريع الإسلامي للحياة، بل نحن ـ هنا ـ لاستلهام الواقعية التشريعيّة التي تواجه المسألة من قاعدتها الحقيقيّة، وهي قاعدة التعامل مع الأشياء والأشخاص من خلال دراسة الواقع الذي يريده الإسلام لنفسه ولاستمراره في ما يريده من سلطة الحكم والتشريع والحياة، بالإضافة إلى دراسة حقوق الآخرين بالطريقة التي تتناسب مع أهداف الإسلام الحياتية.
وقد نستطيع التأكيد على الوجه الإيجابي المشرق للتشريع الإسلامي في هذا المجال، حيث راعى في الإنسان غير المسلم مشاعره الدينيّة، إذ قد يضطر إلى محاربة شخص أو جماعة من أهل دينه في ما لو فرض عليه القتال مع المسلمين في معاركهم الموجّهة إلى أمثال هؤلاء، كما جعل لهم الحرّية في ممارسة كل شعائرهم التي يألفونها ويقدّسونها مما لا يتنافى مع النظام العام، وهو ما قد لا نجده في أيّ نظام آخر غير الإسلام.
* * *
القرآن يصف أهل الكتاب بعدم الإيمان
وهنا يبرز سؤال: كيف يصف القرآن أهل الكتاب بهذه الأوصاف التي لا تتناسب مع طبيعة الانتماء الذي يفترضه ما يتضمنه الكتاب من الإيمان بالله وشرائعه ودينه وباليوم الآخر، وذلك في قوله تعالى في هذه الآية: {قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخر وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ}، واختلف هنا حول المراد بالرسول في قوله {مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} فهل المراد به رسلهم الخاصون كعيسى(ع) بالنسبة للنصارى، وموسى(ع) بالنسبة لليهود.. الخ، أم المراد به محمد(ص)، باعتباره آخر الأنبياء؟؟ ذهب بعض المفسرين أن المقصود به النبي محمد(ص)، ولكنه ـ في ما يبدو ـ لا ينسجم مع جوّ الآية التي تريد التأكيد على عدم التزامهم بالكتاب في ما يشرّعه كتدليلٍ على عدم جدّيتهم في الانتماء مع المحافظة على صفتهم تلك في طبيعة الموقف {وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ} الذي أنزله الله على رسله في إسلام الفكر والقلب والحياة لله، ما يجعل الإنسان في حركةٍ دائمةٍ في خطّ الرسالات الواحد، مهما اختلفت تفاصيلها من خلال اختلاف الزمن الذي يحتوي هذه الرسالة أو تلك، {مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ} من اليهود والنصارى والمجوس، في ما جاءت به بعض الروايات التي تذكر أن لهم كتاباً ونبيّاً قتلوه {حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} من خلال ما يمثله ذلك من الخضوع للسلطة الإسلامية، في مواجهة حالة التمرد والكبرياء التي كانوا يعيشونها قبل ذلك.
* * *
كيف نفسّر ذلك؟
ربما يبدو أن الآية تمثّل حالةً جزئيةً من حالات أهل الكتاب، على أساس أنّ هناك فريقين من أهل الكتاب، فمنهم المؤمنون الذين يلتزمون بالكتاب بكل فكره وشريعته وأسلوبه، ومنهم الذين لا يعيشون الكتاب إلا أمانيَّ، ولا يجدون فيه إلاّ واجهةً للموقع، بعيداً عن عملية الإيمان الحيّ الذي يتحرك في خط الفكر والروح والعمل، وقد جاءت هذه الآية ـ على أساس هذا الرأي ـ لتأمر بقتال الفريق الثاني الذي يمثّل الخطر الكبير على الإسلام والمسلمين، هذا الفريق الذي يتستر بالدين كقناعٍ مزيّف يخفي الحقيقة الواقعية في داخله، وهي الكفر في العقيدة والعمل. وربما نستوحي ذلك من الآيات المتعدّدة التي تتحدث عن هذين الفريقين من أهل الكتاب، كما في قوله تعالى: {مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران:110] وقد نستفيد ذلك من ظهور كلمة «من» التي تفيد التبعيض، لا البيان والتوضيح.
ولكن هناك رأياً آخر يفسر الآية بطريقةٍ أخرى، فيؤكد على أن هذا الحكم شامل لأهل الكتاب بأجمعهم، مستدلاً بالسيرة التي جرى عليها المسلمون منذ عهد الدعوة الأول، في مواجهة أهل الكتاب بطلب الجزية منهم، كشرطٍ لمواطنيتهم واحترام وجودهم في داخل المجتمع الإسلامي، من دون تفريق بين الفئات التي تؤمن بالكتاب كعقيدةٍ، وبين الفئات التي تنتمي إليه كقناع وكواجهة، هذا بالإضافة إلى الروايات التي تدلّ على مثل هذا الشمول.
أما تفسير فقرات الآية، كجوابٍ على السؤال، فيرتكز على أنهم «لا يرون ما هو الحق من أمر التوحيد والمعاد وإن أثبتوا أصل القول بالألوهية، لا لأنّ منهم من ينكر القول بألوهيّة الله سبحانه أو ينكر المعاد، فإنهم قائلون بذلك على ما يحكيه عنهم القرآن، وإن كانت التوراة الحاضرة اليوم لا خبر فيها عن المعاد أصلاً. ويستفيد ذلك من أنه تعالى لم يفرق في كلامه بين الإيمان به والإيمان باليوم الآخر، فالكفر بأحد الأمرين كفر بالله، والكفر بالله كفر بالأمرين جميعاً، وحكم فيمن فرق بين الله ورسله فآمن ببعضٍ دون بعضٍ أنه كافر كما قال: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً* أُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً} [النساء:150 ـ 151] ويتابع صاحب هذا الاتجاه وهو العلامة الطباطبائي في تفسير الميزان فيقول: «فعدّ أهل الكتاب ممن لم يؤمن بنبوّة محمد(ص) كفاراً حقاً وإن كان عندهم إيمان بالله واليوم الآخر، لا بلسان أنهم كفروا بآية من آيات الله وهي آية النبوة، بل بلسان أنهم كفروا بالإيمان بالله، فلم يؤمنوا بالله واليوم الآخر، كما أن المشركين أرباب الأصنام كافرون بالله إذ لم يوحّدوه وإن أثبتوا إلهاً فوق الآلهة. على أنّهم يقررون أمر المبدأ والمعاد تقريراً لا يوافق الحق بوجهٍ، كقولهم بأن المسيح ابن الله وعزيراً ابن الله يضاهئون في ذلك قول الذين كفروا من أرباب الأصنام والأوثان، أن من الآلهة من هو إله أب إله، ومن هو إله ابن إله وقول اليهود في المعاد بالكرامة، وقول النصارى بالتفدية»[1].
* * *
الكفر العملي والكفر النظري
ولكن هذا الرأي لا ينسجم مع ظهور الآية في نفي الإيمان بالله واليوم الآخر، لأن الظاهر منها نفي هذا الإيمان من خلال المبدأ لا من خلال التفاصيل، ولا بد لنا من أن نفرّق في التعبير القرآني بين كلمة الكافر بشكلٍ مطلق، وبين الكافر بالله واليوم الآخر، فإن من الممكن إطلاق الكلمة الأولى على الذين ينحرفون في تفاصيل الإيمان بالله أو بالنبوّة، من خلال ما يعبر عنه ذلك من رفض للحقيقة الواضحة. أمّا الكلمة الأولى، فلا تنطبق إلا على الجحود بالأساس، إذا أردنا للتعبير أن يجري على سبيل الحقيقة، وليس في الآية التي ذكرناها دليل على الدعوى، لأنها تتحدث عن هؤلاء الذين يضمرون في داخلهم الكفر، ويحاولون اللعب على مسألة الإيمان بالأسلوب المتلوّن الذي يوحي بارتباطه برسول دون رسول، في الوقت الذي لا يعيشون الإيمان بالأساس، وإن تظاهروا به.
ولهذا فإننا لا نجد في هذا الاستظهار انسجاماً مع ظهور الآية بحسب المفهوم العرفيّ منها.
ونستقرب منها أن تكون في مجال إعطاء صورةٍ عن الواقع الذي يعيشه هؤلاء الناس الذين لا يرتبطون بقضيّة الإيمان بشكل جدّي، بل يعتبرونه واجهةً لحياتهم، بعيداً عن قضية الالتزام بالمضمون، ليبقى لهم الشكل فقط. ولهذا فإنهم لا يقفون أمام الحرمات التي حرّمها الله عليهم، بل يتجاوزونها ويتلاعبون بها في عملية لفٍّ ودوران، ولا يدينون بدين الحق الذي يمثل حقائق الرسالة الإلهية من خلال ما تشتمل عليه من مبادىء وتفاصيل، ولهذا لم يكن وجودهم في داخل المجتمع الإسلامي أمراً طبيعياً من دون ضوابط عمليّة تحدّد لهم حدودهم وتعرّفهم أصول العلاقات التي تربطهم بهذا المجتمع، ما لهم من حقوق وما عليهم من واجبات، فكانت الجزية هي المظهر للإخضاع لسلطة الحكم من خلال الشروط العادلة الواقعية التي تحفظهم في عقيدتهم وإنسانيتهم، بالطرق التي لا تتنافى مع النظام العام.
وربّما كان الأسلوب القرآني في حديثه المتنوع عن أهل الكتاب، شاهداً على ذلك، فقد جاء حافلاً بالآيات التي تعطي لنا صورة المجتمع الذي لا يعيش جدّية الإيمان، بل يمارسه بطريقةٍ شكليةٍ انتهازيّة، ويوحي لنا، بأن مظاهر التمرّد على الحقائق وعلى الأنبياء، تمثل الدليل الواضح على أنهم يفقدون في داخلهم واقعية الإيمان، لأن الذي يعيش الإيمان حقيقةً في الداخل، لا يهرب من الدعوة إلى التفكير والحوار، ولا يواجه النبوات والأنبياء بالتمرّد والعدوان، بل يحاول الوقوف من ذلك موقف الإنسان الذي يريد أن يفحص المسألة من موقع الباحث عن الحقيقة.
إننا نفهم من الآية أنها تريد أن تفرّق بين واقع الممارسة وشكلية الانتماء، لتبيّن الهوّة العميقة التي تفصل بينهما، ولهذا جاء التعبير بقوله: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ} للإيحاء بأنهم لم يأخذوه بشكل عمليّ.
هذا من الجانب التفسيري للآية، أمّا ما نلاحظه من شمول الحكم بأخذ الجزية من الجميع، فقد يرجع إلى دليل آخر في ما نستفيده من غير الآية. وقد يرجع إلى اعتبار الظاهرة البارزة في مجتمعهم، كأساسٍ لتغليب الحكم على الجميع، باعتبار أن التفريق بين فريقٍ وفريقٍ في مجتمعٍ مختلطٍ لا يعتبر أمراً عمليّاً. وربما استوحينا الموضوع من دراسة طبيعة هذا الإجراء الذي لا يراد من خلاله السيطرة الذاتية التي تتحرك من موقع العقدة، بل يراد منه السيطرة من خلال التنظيم، لأن المجتمع الذي تحكمه عقيدةٌ معينةٌ، بحيث يكون الحكم فيه ملتزماً بخطٍّ معيّنٍ، لا بد من أن يملك حكم أفراده الذين يؤمنون بتلك العقيدة، من خلال التزامهم العقيديّ الذي يحركهم نحو الطاعة والخضوع للنظام، أمّا الأفراد الذين لا يؤمنون بها، ولا يجدون أيّة حالةٍ دينيّةٍ أو فكريّةٍ تفرض عليهم الالتزام، فلا بد من أن يحكمهم من خلال إخضاعهم للسلطة على أساس حالةٍ تعاقديّةٍ لا يكون فيها الحكم مجرد طرف اختياريّ في التعاقد في مواجهة الطرف الآخر، بل يكون الطرف الأقوى الذي يفرض السلطة على الطرف الآخر من دون الإساءة إلى حقوقه الطبيعية في الحياة الكريمة الخاضعة للحكم المسؤول.
وبهذا نفهم كيف ينبغي للمسألة التنفيذية والتشريعية في هذا المجال، أن تكون شاملةً لأهل الكتاب بأجمعهم، ليطبّق عليهم حكم القانون في القضايا المتصلة بالصالح العام، وليمارسوا حريتهم العبادية والعملية في ما لا يتنافى مع الصالح العام، مع ملاحظة الاستمرار في الانفتاح على الجانب الفكري للمسألة من خلال الحوار، فلا يضطهدهم فكرياً ليفرض عليهم الانتماء، بل يعمل دائماً على مخاطبة هذا الفكر المتميّز عنه من موقعٍ فكريٍّ، وليس هناك إلاّ تطبيق القانون من أجل سلامة الجميع، وبهذا يمكن استفادة بعض موارد الحكم من خلال مدلول الآية، كما يمكن استفادة البعض الآخر من الأجواء الواقعية المحيطة بهذا المدلول.
وربما كان من الملاحظ أن الجزية لم تذكر في القرآن إلاّ في هذه السورة، في هذه الآية تحديداً، ما قد يوحي بأن القرآن كان يركِّز الموضوع من ناحية المبدأ، من خلال معالجة الحالة القائمة في المجتمع الأوّل للدعوة، لتكون نقطة الانطلاق للتشريع الذي تتكفله السنّة النبويّة، في ما يلهم الله به نبيّه من تفاصيل الشريعة، وهذا باب يمكن لنا أن نفتحه في دراستنا القرآنية، لنقف ـ من خلاله ـ حيث يقف النص القرآني في مدلوله، فلا نحمّله أكثر مما يتحمّل، اعتماداً على أن التشريع يتّسع لأكثر ممّا يتسع له النص، ما يؤدِّي إلى التأويل، أو توسيع المعنى بعيداً عن ظاهر اللفظ، بل نترك الأمر في تكامل التشريع إلى السنّة التي جاءت لتعطينا توضيح ما أجمله القرآن، وتوسيع ما شرّعه من حيث المبدأ. إنها ملاحظةٌ للتفكير وللمناقشة في ما نرجو أن نصل به إلى النتائج الصحيحة في الفهم القرآني الصحيح؛ والله العالم.
* * *
القتال لبسط القانون لا للإخضاع
ومن خلال ذلك، نستطيع أن نستوحي الفكرة الإسلامية، التي تضع مسألة الدعوة إلى القتال في نطاقها الطبيعي المعقول، فلا تكون عمليّة سيطرةٍ غاشمةٍ للقوّة ضد حريّة الإنسان وإرادته، بل تكون عملية إخضاع قانونيّ للسلطة الحاكمة في عمليةٍ تنظيميّةٍ دقيقةٍ. وهذا ما يمكننا أن نفهمه بقليل من التفصيل.
إن علينا أن ندرس الأسلوب العملي الذي يحاول الإسلام من خلاله إخضاع الناس لحكمه، فهو يعمل ـ في البداية ـ على أن يخطط الطريق للوصول بهم إلى قناعاته الفكرية والعمليّة على أساس الدعوة إلى التأمل والتفكير والمناقشة والحوار الجدّي الذي يثير أمام الفكر مختلف القضايا المطروحة لدراستها بطريقة موضوعيّة هادئةٍ، ليكون الرفض أو التأييد من مواقع الفكر الذي لا يتعقّد من أيّة علامة استفهام ترتسم أمام الطروحات العقيديّة أو النتائج الأخيرة، بل يظل مع أجواء المعرفة التي يعتبرها حقّاً لطالبها حتى يصل إلى القناعة، بشرط أن تكون القضية قضية المعرفة، لا قضيّة العناد، لأن مسألة العناد لا تتصل بقضية الحرّية، بل ترتبط بقضية العقدة المتأصّلة في النفس، المتحركة في خلفيّات العدوان.
* * *
القتال إجراء وقائي
فإذا لم يصل البحث إلى نتيجةٍ، ولم يمكن الوصول إلى قناعات مشتركة حول القاعدة العقيدية التي يرتكز عليها الحكم، سواءٌ كان ذلك عن عدم اقتناع أو عناد، كان من حق الحكم الشرعي أن يحمي وجوده واستمراره وتوازنه، وذلك بإخضاع هؤلاء للالتزام بمشروعية السلطة في الجانب العمليّ منها، إمّا بالدخول في النطاق الرسميّ للعقيدة، وذلك بإظهار الإسلام باعتباره الشكل القانونيّ للاعتراف بشرعيّة الالتزام بالقانون كله، أو بدفع الضريبة المحدّدة بقانونٍ معيّن ـ وهي تسمى الجزية ـ في مقابل تحمّل الدولة مسؤولية رعايتهم وحمايتهم من كل عدوانٍ أو إساءةٍ أو انتهاكٍ لحرمتهم، وذلك بإدخالهم في ذمّة المسلمين وعهدهم، مع إعفائهم من كل الالتزامات التي لا تتناسب مع التزامهم الديني، كإدخالهم في الجيش الذي يحارب بعض إخوانهم في دينهم، أو لا يتناسب مع مصلحة النظام بشكل عام. فإذا لم يوافقوا على ذلك ورفضوا كل أساس للالتزام بالشروط المطلوبة لصفة المواطن، كان ذلك دليلاً على أنّهم قد أعلنوا التمرّد على الإسلام والمسلمين، وعند ذلك يجوز قتالهم، لمنع التمرّد والتعدّي على نظام الأمّة، حتى يدفعوا الجزية تحت ضغط القوّة، بعد أن امتنعوا عن دفعها المعبّر عن حالة السلم مع الدولة، بالرضا والقبول.
وفي ضوء ذلك، نفهم أنه لا مجال للقتال في الحالات التي ينطلق منها التراضي بينهم وبين المسلمين بدفع الضريبة والاحتكام إلى عقد الذمّة، الذي يحفظ لهم صفة المواطنية بأفضل طريق.
* * *
الجانب الإنساني في الجزية
وربّما أثيرت أمام هذه الضريبة بعض الشبهات التي تتحدث عن الانتقاص من صفة الإنسانية والمواطنية لهذا الإنسان الذي لا يدين بدين الدولة، عندما يُفرض عليه أن يدفع الجزية صاغراً، ما لا يتناسب مع الأجواء التي تلتقي بالعدالة والحرية والمساواة في الإسلام؟
ولكنَّنا لا نرى في هذا الجانب من التشريع أي انتقاص من إنسانية هذا الإنسان، كما ذهبنا في كلامنا عن تشريع الجزية في الصفحات السابقة ونضيف هنا، إمعاناً في البيان، أنه ربما كان هذا التشريع بعض تأكيد على هذه الإنسانية، إذ قد نلاحظ ـ في هذا المجال ـ أن الإسلام لم يفرض عليه كثيراً من الضرائب المفروضة على المسلمين، ولم يحمّله الكثير من مسؤولياتهم التي لا تتناسب مع صفته الدينيّة كالقتال ونحوه، وجعل له في مقابل هذه الضريبة «الجزية»، حق الحماية والرعاية والمواطنية العامّة التي يكون له فيها ما للمسلمين من حرمات إنسانية، وعليه ما عليهم من مسؤولياتٍ بشكلٍ محدودٍ، تماماً كأية ضريبة داخليةٍ تفرض على المواطنين. وإذا كان قد أبعده عن بعض مواقع المسؤولية في الدولة، فليس ذلك من خلال التأكيد على اضطهاد دوره، بل لأن الدولة ترتكز على قاعدةٍ معيّنةٍ من الالتزام العقيديّ، يفرض على القائم بشؤونها في المواقع المتقدمة أو الحيويّة أن يكون ملتزماً بفكر العقيدة ورسالتها وخطواتها العمليّة ومخلصاً لأهدافها، فليس من الطبيعيّ أن يوضع فيها الرافض لرسالتها، البعيد عن التزامها. وهذا أمرٌ لا يقتصر على الإسلام بل يشمل كل دولةٍ ملتزمةٍ.
وربما كانت وجهة نظر هؤلاء منطلقة من واقع الدولة التي لا تنطلق من قاعدة الالتزام كأساسٍ للانتماء والحكم، بل من واقع الوجود البشري فيها، بعيداً عن أيّة فكرةٍ أو عقيدةٍ، ما يجعل من حق كل فرد في الدولة أن يتسلم الحكم في أيّ موقع من مواقعه، بل ربما كان من حقه أن يفرض ـ بطريقة وبأخرى ـ رأيه على الآخرين عند تسلّمه الحكم بوسائله الخاصّة. ونحن لا نؤمن بالدولة من هذا المنطلق، ولذلك فإن دراسة المعنى الإنساني وغير الإنساني في هذا التشريع أو ذاك، لا يخضع لمقياس واقع الدولة الآن، بل لمقياس الصفة الفكرية التي تطبع الدولة بطابعها الفكري والسياسي.
ـــــــــــــــــــ
(1) تفسير الميزان، ج:9، ص:245 ـ 246.
تفسير القرآن