من الآية 36 الى الآية 37
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيتـان
{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَات وَالأَرْضَ مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ* إِنَّمَا النَّسِىءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}(36ـ37).
* * *
معاني المفردات
{كَآفَّةً}: قيل معناه كافّين لهم كما يقاتلونكم كافين، وقيل معناه جماعة كما يقاتلونكم جماعة.
{النَّسِىءُ}: التأخير. وهو شهر كانت تؤخره العرب في الجاهلية بحسب مصلحتهم.
{لِّيُوَاطِئُواْ}: المواطأة: الموافقة.
* * *
أشهر حرّم فيها القتال.. وتحريم النسيء
وهذا حديث لا يبتعد عن أجواء القتال، ولكنه يعيش في بعض تفاصيل الزمن الذي يحلّ فيه القتال أو يحرم، لأن الله قد حدّد في ذلك حدوداً معينة، فلا يجوز للناس أن يتجاوزوها أو يتعدوها بأيّة وسيلةٍ كانت إلا في حال الاضطرار، على ما هو الحال في كل حدود الله التي لم يحلها إلا لمن اضطر إلى تجاوزها.
أمّا تفصيل الموضوع، فقد أراد الله للزمن أن يتحرك في حياة الناس من المواقع الطبيعيّة التي ركّز عليها تكوين الوجود في حركة الشمس والقمر حول الأرض، وهي الشهور القمريّة التي تخضع لأوضاع القمر في عالم الحسّ، وعدّتها اثنا عشر شهراً، وقد أراد الله أن يجعل في أجواء السنة أشهر سلام، حرّم فيها القتال على الناس إلا في حالة ردّ العدوان، وسمّاها الأشهر الحرم، وهي ذو القعدة وذو الحجة ومحرّم ورجب. وقد حاول بعض الناس في الجاهلية أن يقدّموا فيها أو يؤخروا تبعاً لمصالحهم وشهواتهم، فحرّموا ما لم يكن حراماً، وأحلّوا ما لم يكن حلالاً، من غير قاعدةٍ، وعلى غير أساس في ما يرتكز عليه التحريم والتحليل، وهذا ما عالجت الآيتان بعض مظاهره.
* * *
الأشهر الحرم أربعة
{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ} والظاهر أن المراد به كتاب الوجود والتكوين من خلال ما أودعه في الكون من قوانين الوجود التي تنتظم بها الأشياء وتتحرك من خلالها الظواهر، ما اعتبره من الثوابت الكونية التي لا تتغير في طبيعتها، لأن الله أراد منها تركيز القواعد التي تمثل نظام الحياة الزمني الممتد في كل أجواء الكون {يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَات وَالأَرْضَ} وأودع فيها قوانينها الثابتة التي تمثل سننه في الكون {مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} حرّم فيها القتال بين الناس ليعيش الناس بعضاً من الأوقات في حالة سلمٍ وهدنةٍ، ليتنفسوا فيها الهدوء والطمأنينة، وليتخففوا فيها من أثقال الحرب، وليفكّروا فيها في الأسباب التي دعت إلى النزاع والخصام، وإثارة أجواء التنازع والتقاتل، وليرتاحوا من ذلك، فيقودهم الشعور بالراحة إلى التأمل في عواقب الحرب والسلام، وليوازنوا بين هذه وتلك ليخرجوا إلى النتائج الإيجابية الحاسمة التي تثبّت لهم أقدامهم على طريق الخير والنجاح.
* * *
قيمومة الدين الإسلامي
{ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} الذي بدأ الله تشريعه منذ عهد إبراهيم(ع)، وامتدّ في حياة الناس، وتعمّق في وعيهم، واستمرّ في ممارساتهم، حتى أصبحت له حرمة التقاليد الثابتة في كل أوضاعهم، فلم يجرؤ أحد على مواجهته بالإلغاء، أو بتجاوز حدوده، في الوقت الذي ابتعدوا فيه عن كثير من حدود الإيمان وتشريعاته. وقد أقرّ الله هذه الشريعة وأراد للمسلمين في دعوة النبي محمد(ص) أن يأخذوا بها باعتبارها الدين الثابت الذي لا يتغير، لأنه لا ينطلق من حالةٍ طارئةٍ قابلةٍ للزوال تبعاً لزوال ظروفها المحيطة بها، بل من حالةٍ عميقةٍ في عمق المصلحة الإنسانية، ممتدّةٍ بامتدادها، لأنّها مما يقوم به أمر حياتهم، ويثبت به توازن أوضاعهم. فمن أخذ به، فقد أخذ بالسبيل الأقوم الذي يصلح به أمر معيشته، ويرفع به مستوى أمنه وسلامته، ومن ابتعد عنه وانحرف عن خطّه، فقد ظلم نفسه، وأساء إلى طبيعة السلام في حياته، لذلك فإن الله يحذر عباده من أيّة حالةٍ من حالات التمرد عليه {فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ} بالقتال.
* * *
أمر بقتال كافة المشركين
{وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً} بجميع فصائلهم وعشائرهم {كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً} بجميع تجمعاتكم، فلا يتركون أحداً من شرّهم وعدوانهم، فإن ذلك هو السبيل للقضاء على الشرك، بالقضاء على كل عوامل نموّه وتطوّره وسيطرته على حركة الواقع الفكري والعملي، كأسلوب دفاعيٍّ من جهةٍ، ووقائيّ من جهةٍ أخرى، من أجل أن يكون الدين كله لله، وأن تنطلق المسيرة الإسلامية في الاتجاه السليم، {وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} الذين يقفون عند حدود الله في ما يأمرهم به أو ينهاهم عنه، والذين يخافون عقابه، ويرجون ثوابه، ويحبون طاعته التي تؤدي إلى رضاه، ويرفضون معصيته التي تؤدي إلى سخطه، فيأخذون بأسباب القتال في الزمن الذي أراد الله لهم فيه القتال، ويتوقفون عن ذلك في ما لم يرد لهم فيه القتال.
* * *
النسيء زيادة في الكفر
{إِنَّمَا النَّسِىءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْر} وامتدادٌ فيه بتغيير شريعة الله من عند أنفسهم في ما لم يأذن به الله، فيتصرّفون من خلال ذلك، على أساس أنه الشريعة التي يريد الله أن يُطاع من خلالها، وبذلك فإنهم يضيفون إلى كفرهم بالله وبتوحيده كفراً بحدود الشريعة ونظامها.
أمّا النسيء، فالمراد به ما كانت تفعله العرب في الجاهلية، فإنهم ربما كانوا يؤخرون حرمة بعض الأشهر الحرم إلى غيره، تبعاً لمصالحهم في الحرب والسلم، فإذا كانت مصلحتهم في الحرب جعلوا محرّمهم صفراً، واعتبروا صفراً في السنة الثانية محرّماً، يمنعون فيه أنفسهم من القتال عوضاً عما مضى، فهم لا يرفضون الشريعة من الأساس، بل يحاولون أن يتلاعبوا بعملية توقيتها وتحديدها في التقديم والتأخير، الأمر الذي يؤدي إلى فقدان الأساس الذي يرتكز عليه التشريع في إقامة الحياة على قواعد ثابتةٍ يخضع لها الجميع من دون تمييز ومن دون إشكال. {يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ} أي الناس الآخرون في ما يفرضونه عليهم من هذا التغيير في حدود الله والتجاوز لها، {يُحِلُّونَهُ عَامًا} فيرون محرّماً صفراً في هذه السنة {وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا} فيجرونه على ما كان عليه ويضيفون إليه بدله في العام القابل { لِّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ} ليوافقوا العدد المحرّم وإن ابتعدوا عن المضمون التشريعي له، فتبقى الأشهر الأربعة في السنة موقع تحريم، ولكن في أشهر أخرى غير ما شرّعها الله، {فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ} من دون أن يأخذوا إذناً في ذلك، فيشرّعون لأنفسهم ظلماً وضلالاً {زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ} فخيّل إليهم ـ في ما زيَّنه لهم الشيطان ـ أنهم يملكون أمر ذلك كله، لأن المهم هو العدد، بعيداً عن خصوصية هذا الشهر أو ذاك، لأن الزمن يشبه بعضه بعضاً، فلا مانع من وجهة نظرهم أن نقدم ما أخّره الله أو نؤخر ما قدمه {وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} بإجبارهم على الهدى،لأنه قد أقام عليهم الحجة بدلالتهم إلى طريق الهدى من خلال ما عقلوه وسمعوه من الأنبياء من وحي الله في آياته، فإذا انحرفوا إلى طرق الضلال، وظلموا أنفسهم بالسير فيها، فإن الله يتركهم لأنفسهم ولا يهديهم سواء السبيل من جديد.
تفسير القرآن