تفسير القرآن
التوبة / من الآية 38 إلى الآية 39

 من الآية 38 الى الآية 39
 

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيتـان

{يا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأرضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخرةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخرةِ إِلاَّ قَلِيلٌ* إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}(38ـ39).

* * *

معاني المفردات

{انفِرُواْ}: النفر: الخروج إلى الشيء لأمر هيج عليه.

{اثَّاقَلْتُمْ}: التثاقل: تعاطي إظهار ثقل النفس. وهنا بمعنى: جذبتكم الأرض إليها كما لو كانت هناك أثقال شديدة تشدكم إلى الأسفل.

* * *

تعبئة المسلمين للقتال

وتنفتح المعركة بين المسلمين والكافرين في ساحة المواجهة الحاسمة الصعبة في أكثر من صعيدٍ، ويبدأ الرسول الدعوة إلى الجهاد بأساليب عديدة، من أجل أن يتحوّل الموقف لدى المسلمين إلى ما يشبه حالة الاستنفار القصوى التي تجمع الجميع في خطّ المواجهة، لأنّ قضيّة الجهاد في الإسلام ليست من القضايا الجانبيّة التي تحتمل الوقوف منها موقف اللاّمبالاة أو الهروب، بل هي من القضايا المصيرية التي يجب أن يواجهها المؤمن بإيجابيّةٍ منفتحةٍ ومواقف ثابتةٍ، ولكن بعض المسلمين القلِقين في إيمانهم الضعفاء في إرادتهم، يحاولون التهرب من الانطلاق بعيداً في هذا الخط، خوفاً من نتائجه على الحياة، ويحاولون التماس الأعذار لأنفسهم في ذلك كله. وهذا هو الذي جعل القرآن يوجِّه إليهم اللوم والإنذار بشدّة، من أجل أن يثير فيهم مكامن الشعور العميق ليهزّها من الأعماق في عملية توعيةٍ وإيحاءٍ. فكيف عالج القرآن ذلك؟

* * *

لوم على التثاقل للقتال

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ} في النداء الذي يوجّهه رسول الله إلى المسلمين عند اشتداد المشاكل، وقسوة التحديات، وصعوبة الأوضاع الإسلامية، إذا دهمهم خطر يهددهم ويهدد وجودهم وحرّيتهم، فكان لا بدّ من مواجهته بالقوى المسلمة التي تتجمع في وحدة الموقف لتجابه ذلك كله في وقفة التحدي المضادّ الذي يصرخ بهم {انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} واخرجوا إلى الجهاد لتقاتلوا أعداء الله من أجل الحصول على رضاه في تحقيق إرادته في الحياة {اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأرضِ} فجذبتكم إليها كما لو كانت هناك أثقال شديدة تشدّكُمْ إلى الأسفل، من الإخلاد إلى الأرض والاستكانة إليها، والاستسلام لقضاياها المادية، وقيمتها الحيوانيّة، والتطلع إلى شهواتها كغايةٍ تتطلع إليها الحياة، بعيداً عن كل عوامل السموّ والانفتاح التي تجعل الإنسان يحلّق في السماء حيث النور والخير والإيمان، كآفاق للحياة والحركة والانطلاق، في ما يوحيه ذلك من التمرّد على كلّ هذه الأثقال المادية التي تثقل قلبه وروحه وضميره، وفي ما يثيره في نفسه من معانٍ روحيّةٍ تمدّه بالإشراق والحب والإيمان. {أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا} واستسلمتم لها في عملية استبدال واقتناعٍ بنتائجها، كما لو كانت كل شيء في حركة الحياة {مِنَ الآخرةِ} أي بدلاً من الآخرة.

* * *

ميزان الدنيا في الآخرة

ولكن ما هي النتائج الحقيقية الحاسمة، وما هو حجم هذا البدل في مقياس الأهداف؟ {فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي إذا نسب إلى نعيم الآخرة {إِلاَّ قَلِيلٌ} فإن متاع الدنيا زائل، أما نعيم الآخرة فباقٍ ما بقيت السماوات والأرض، فلا مجال للموازنة بينهما، لأن الميزان سيختلّ لمصلحة الآخرة ضد مصلحة الدنيا. وهكذا يريد القرآن للإنسان ـ من خلال هذه الآية ـ أن يفكر بالمسألة بعيداً عن الضغوط الخارجية في النتائج السلبيّة لتفضيل الدنيا على الآخرة في مواجهة النتائج الإيجابية على مستوى الربح الحقيقي في تفضيل الآخرة على الدنيا. ثم يثير المسألة من ناحية الوعيد، ليفكر في النتائج على مستوى ما يُقدم عليه من أوضاع العذاب في الآخرة ليحسب حساب المصير في دقّةٍ وعمقٍ وإيمان.

* * *

التهديد بالعذاب على عدم النفور

{إِلاَّ تَنفِرُواْ} وتستجيبوا لله في ما يأمركم به من الجهاد، فتقعدوا في بيوتكم في حالة كسل وخوف واسترخاء {يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} جزاءً لتمردكم على الله قبل ذلك، فإن الله لا يعذّب قوماً حتى يقيم عليهم الحجة {وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} لا يتثاقلون عند الدعوة إلى الجهاد، لأنهم يتحركون في الحياة من مواقع القاعدة الإيمانية التي تحكم كل تصوراتهم وأعمالهم وعلاقاتهم على أساسٍ من وعي المسؤولية أمام الله، في ما يعيشون من محبة الله وخوفه، وبذلك فهم يجدون الحياة، في مفهومهم لموقعها الحقيقي من شخصيتهم، هبة الله التي يملك أمر استمرارها، كما يملك أمر إزالتها من أجل غايات الحياة التي أراد الله لها أن تعيش من أجلها، فليس لهم أن يمتنعوا عما يريده لهم من ذلك كله، لأن الأمر كله بيده، وهذا ما ينبغي لكم أن تعيشوه وتواجهوه وتنتظروه، فلا تعتبروا المسألة مقتصرة عليكم، فلستم أوّل الناس الذين يدعوهم الرسول إلى الجهاد، ولستم آخرهم، بل أنتم مجرد مرحلةٍ طارئةٍ من مراحل المسيرة الإسلامية الطويلة، التي قد تتأثّر بعض الشيء بالمواقف السلبيّة التي يقفها السائرون في الطريق، ولكن ذلك لا يلغيها ولا يجمّدها. {وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا} لأنّ لله عباداً صالحين مجاهدين يعملون من أجل حمل المسؤولية ومتابعتها بكل صدقٍ وعزيمةٍ وإصرارٍ، ولا بدّ لهم من أن يتحركوا في الخط الطويل ويسيروا على طبيعة المنهج {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فلا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، لأن الأشياء كلها ملكه وفي قبضته، فلا مجال إلاّ له في كل شيء ومع كل شيء وأمام كل شيء، بالمعنى الذي يجعل العقول والعيون والمشاعر محدّقةً بجلاله في عملية وعيٍ متحرك، وذلك هو سر إخراج المؤمنين من الظلمات إلى النور في ما يريد الله سبحانه أن يخرجهم منه، إلى إشراقة النور في الحياة، من خلال رسالاته التي أراد لرسله أن يعرّفوها للناس، ويؤكدوها في دعوتهم التي تنطلق في أجواء الرسالات، ويحركوها في وعي الناس، لتثير فيهم الشعور الواعي بقدرة الله المطلقة التي تحميهم من الانسحاق أمام نقاط ضعفهم في مواجهة قوّة الآخرين، ليجدوا في ارتباطهم بالله القوّة كلها، في الزمن كله.