تفسير القرآن
التوبة / الآية 40

 الآية 40
 

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيــة

{إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}(40).

* * *

مناسبة النزول

روي في الدرّ المنثور عن ابن عباس قال: لما خرج رسول الله(ص) من الليل لحق بغار ثور، قال: وتبعه أبو بكر، فلمّا سمع رسول الله(ص) حسَّه خاف أن يكون الطلب، فلما رأى ذلك أبو بكر تنحنح، فلما سمع ذلك رسول الله عرفه، فقام له حتى تبعه فأتيا الغار، فأصبحت قريش في طلبه، فبعثوا إلى رجل من قافة بني مدلج، فتبع الأثر حتى انتهى إلى الغار وعلى بابه شجرة، فبال في أصلها القائف ثم قال: ما جاز صاحبكم الذي تطلبون هذا المكان...قال: فعند ذلك حزن أبو بكر، فقال له رسول الله(ص): «لا تحزن إن الله معنا»، قال: فمكث هو وأبو بكر في الغار ثلاثة أيام يختلف إليهم بالطعام عامر بن فهيرة وعلي يجهزهم، فاشتروا ثلاثة أباعر من إبل البحرين واستأجر لهم دليلاً، فلما كان بعض الليل في الليلة التالية. أتاهم علي بالإبل والدليل، فركب رسول الله(ص) راحلته وركب أبو بكر أخرى، فتوجهوا نحو المدينة وقد بعثت قريش في طلبه، وفي رواية، وضربت العنكبوت على بابه ـ باب الغار بعشاش بعضها على بعض، وطلبته قريش أشد الطلب حتى انتهت إلى باب الغار، فقال بعضهم: إن عليه العنكبوت قبل ميلاد محمد[1].

* * *

كلمة الله العليا وكلمة الكفر السفلى

وتأتي هذه الآية لتثير أمامهم التفكير بالمعنى الإيماني العميق الذي يوحيه الإيمان بالله، في ما ينصر به رسله، ويدعم به رسالاته، فالله لا يحتاج إلى أيّ عبدٍ من عباده في تحقيق إرادته بالنصر، لأنه وليّ القوّة في الحياة كلها، فلا قوّة لأحدٍ إلاّ بإرادته، ولا سبب للقوّة إلاّ منه. وقد يكون السبب متصلاً بالنواميس الطبيعيّة التي أودعها في الأشياء، وقد يكون مرتبطاً بالأوضاع غير المألوفة في حركة الأسباب. وبذلك، فلا مجال لأحدٍ أن يتصوّر، من موقع وعي الإيمان، أن الناس إذا ابتعدوا عن نصرة النبي، فإنه يفقد مبررات النصر، ليبقى في جميع الظروف تحت رحمة الناس، فيستطيعون من خلال ذلك ممارسة كل ألوان الضغط المادي والمعنوي عليه في ما يريدون منه، وما لا يريدون، فإن الله قادرٌ على أن يحقق القوّة من أكثر من سببٍ غير مألوف، لأنه هو الذي أعطى للأسباب المألوفة سببيتها. وهذا هو ما أكّده في كثير من المواقف التي نصر الله بها نبيّه في ساعات الشدّة، في الوقت الذي كانت كل الظروف العادية منطلقةً في أجواء الهزيمة. وهذا ما تثيره الآية في حديثها عن موقف النبي في ليلة الهجرة، فقد حاصرته قريش من كل جانب، وسدّت عليه كل نوافذ الخروج من بيته بعيداً عن رقابتهم من أجل أن تقضي عليه، ولكن الله أنقذه منهم بطريقةٍ غير عادية، عندما خرج من بيته، تاركاً ابن عمه علياً يبيت في فراشه، ليوهمهم أنه لا يزال هناك، فأغلق الله أبصارهم عنه، عندما رمى التراب فوق رؤوسهم وقرأ عليهم الآية {وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} [يس:9] ومرّ من بينهم فلم يبصره أحد.. وسار بعد ذلك حتى دخل الغار ـ غار ثور ـ في الطريق إلى المدينة، ومعه أبو بكر وتراجع القوم عن ذلك، وردّهم الله على أعقابهم خاسرين، من خلال ما دبّره الله من أسباب غير مألوفةٍ.

* * *

نصرة الله للرسول

{إِلاَّ تَنصُرُوهُ} إن امتنعتم عن نصره فإن الله لا يعجز عن نصره، كما فعل في ليلة الهجرة {فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} وخلّصه من أيدي قريش التي أطبقت على بيته وانتظرت الصباح لتهجم عليه {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ} من موطنه {ثَانِيَ اثْنَيْنِ}، فقد كان معه أبو بكر الذي تواعد وإيّاه على الخروج معاً حتى دخلا الغار، وأقبلت قريش حتى وقفت على بابه، وبدأ الحوار فيما بينهم، بين قائل يحثّهم على الدخول، وبين قائلٍ يدفعهم إلى الرجوع.

* * *

ثقة النبي بالله

واشتد الضغط على مشاعر أبي بكر الذي كان يخشى من الموقف على نفسه وعلى النبي(ص) {إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} يتحاوران، فيتحدث أبو بكر عن أجواء الخوف المدمّر، ولكن النبيّ كان يعيش آفاق النصرة التي وعده الله بها، والله لا يخلف وعده، فكان يشجع أبا بكر على الثبات في الموقف، وعلى الاطمئنان لنصر الله {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} فلو كان الناس بأجمعهم مع الإنسان وكان الله ضده، لم ينفعه ذلك شيئاً، ولو كان الله معه وكان الناس ضدّه لم يضرّه ذلك شيئاً، لأن الله هو الذي يملك القوّة كلها، فلا قوّة لأحد إلا من خلال ما أعطاه، فهو الذي يملك من الإنسان ما لا يملكه الإنسان من نفسه، فإذا أراد رعاية عبدٍ من عباده، برحمته وقوّته ولطفه، فإنه يأخذ بكل أسباب القوّة من خلال الله، وتلك هي الأجواء الروحيّة التي تطوف بالإنسان في ملكوت الله عندما تشتد عليه الأهوال، وتضيق عليه السبل، وتكثر حوله التحدّيات، ويهجم عليه أهل البغي والطغيان، فإذا أحسّ من نفسه ضعفاً أمام ذلك كله، وشعر بالحزن يزحف إلى قلبه، وبالخوف يسيطر على روحه، رجع إلى الله في روحية العبد الخاشع، وذهنيّة الإنسان الملتجىء إليه المعتصم به، فعاش معه في ابتهالاته ودعواته وروحية الصلاة في ضميره، فإذا بالضعف يتبدّل إلى القوّة، وبالخوف يتحول إلى شعورٍ بالأمن، وبالحزن ينطلق إلى الفرح الروحي، ليوحي لنفسه بأنَّ الله معه، ليثبت أمام الزلزال، وليقول لإخوانه الذين يعيشون الاهتزاز الروحي والفكري والعملي أمام عواصف المحنة والبلاء: لا تحزنوا إن الله معنا.

وهذا هو الشعار الذي ينبغي لنا أن نثيره في وعينا وحياتنا ومسيرتنا في إحساس عميق بحضور الله في كل وجودنا، بالمستوى الذي تتمثل لنا فيه عناصر القوّة كأروع ما تكون، في تحرّكاتنا ومنطلقاتنا، انطلاقاً من وعي الرسالة في الرسول، وقوّة الإيمان في النبيّ، وحركة القوّة في الموقف النبويّ المتجسد روحاً وشعوراً وحياةً في أجواء الرسول العظيم.

* * *

نزول السكينة على النبي

{فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} في ما تمثله من طمأنينة روحيّةٍ، وسكونٍ نفسي، وهدوءٍ شعوريّ، فلا اهتزاز ولا خوف ولا ضياع، بل هو الثبات والأمن والهدى الواضح.. إنها سكينة الإيمان الواثق بالله من موقع الإحساس بالحضور الإلهي في كل زمان ومكان كما لو كان يحسّه ويراه. ويتقلب في ألطافه ورضوانه {وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا} بسبب ما أرسله إليه من ملائكته أو من القوى الخفيّة التي تدعمه وتقوّيه وتحميه، مما لم نعلمه من خلال ما نملك من أدوات المعرفة الحسية، ولكنّ الله يعلمه من خلال قدرته التي لا يعجزها شيء وإن عظم.

وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً، وانتصر الرسول في مسيرته، ووصل إلى شاطىء النجاة في رحلته، وأحبط كل كيد الكافرين، وحطّم كل مكائدهم {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى} لأنهم لا يملكون أيّة وسيلةٍ يرتفعون بها إلى الأعلى أمام إرادة الله في ما يريده من النزول بها إلى الأسفل، إذ ليس ثمه كلمةٌ أخرى تعلو كلمته، مهما حاول الكافرون وتآمر المتآمرون {وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا} في مضمونها ومدلولها وآفاقها وحركتها وسموّها، لأنها تحمل في داخلها كل المعاني الكبيرة التي أراد الله للحياة أن تنطلق بها وتعيش معها، في سماوات الوحي والإبداع التي تحلِّق بالإنسان إلى الأعلى فتنقذه من وهدة السقوط ومن وحل الانحطاط، ليعيش مع الله في رحابه الواسعة وآفاقه العليا، {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} فإذا أراد شيئاً أوجده وخلقه، وإذا أراد شيئاً، فإنه يصنعه بحكمته على خير ما يمكن أن يكون الوجود وبأفضل ما تنطلق الحياة، سبحانه وتعالى عما يشركون.

ــــــــــــــــــــ

(1) السيوطي، عبد الرحمن جلال الدين، الدر المنثور في التفسير بالمأثور، دار الفكر، 1993م ـ 1414هـ، ج :4، ص:196.