من الآية 49 الى الآية 52
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيــات
{وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ* إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ* قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَولانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ* قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاَ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبِّصُونَ}(49ـ52).
* * *
معاني المفردات
{تَرَبَّصُونَ}: التربص: الانتظار بالشيء.
* * *
قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا
وتتوالى الآيات التي تتحدث عن ملامح المنافقين الذين برزوا كظاهرةٍ انهزاميّةٍ منحرفة في أجواء الاستعداد للمعركة، في ما كانت تمثله من تحدّيات الساحة لكل المظاهر الإيمانيّة التي كانت تختفي خلفها أفكار النفاق ومشاعره. ماذا يقولون، وكيف يفكرون أو يشعرون تجاه الجماعة المسلمة؟
* * *
أساليب التهرب من القتال
{وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي} فهذا الفريق يحاول أن يظهر أمام النبي(ص) بمظهر الإنسان الذي يخاف على نفسه من الوقوع في الفتنة التي تهدّد إيمانه، في ما تتمثل به المعركة من تجربةٍ صعبةٍ يتساقط فيها الضعفاء أمام إغراءات النصر ونتائجه المفرحة، أو أمام مشاكل الحرب وويلاتها المحزنة. فهو لا يريد الذهاب إلى الحرب لئلا يسقط عندها في إيمانه، فيخيّل إليك ـ وأنت تسمعه ـ أنه من المؤمنين الذين يخافون على إيمانهم من السقوط أمام حالات الضعف البشريّ من الرغبة والرهبة، ولذلك، فإنهم يخشون من التجربة الصعبة التي تهدّدهم بالانحراف، فيطلبون من الرسول أن لا يعرّضهم لها، في ما يفرضه عليهم من فروض، أو يحمِّلهم من مسؤوليّات، ولكن الله يكشف زيف هذا المنطق، فإذا كانوا يخشون من نتائج الفتنة، فلأنها تبعد الإنسان عن الله وتمنعه من الحصول على رضاه، فكيف بهم الان، وهم يخضعون للنوازع النفسية التي تدفعهم إلى الابتعاد عن رضاه، في العمل على التمرّد على أمره ونهيه، وفي محاولة التخلّص من المسؤوليّة في المحافظة على سلامة الإسلام والمسلمين، الأمر الذي يجعلهم في مواقع الفتنة بالذات، من حيث يريدون تفاديها في ما يزعمون، {أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ} بسبب ما يمارسونه من الانحراف عن خطّ الإيمان في مواقع الجهاد، وسيتحملون نتائج ذلك في الآخرة {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} فهي تحاصرهم من كل جانب، فلا يهربون منها من جهةٍ، إلاّ ليقعوا فيها من جهةٍ أخرى، وذلك من خلال إحاطة الكفر بجميع دوافعهم وأعمالهم ونتائجها في الوقوف ضد إرادة الله في الحياة من حولهم.
* * *
نوايا المنافقين تجاه النبي
{إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ} لأنهم لا يعيشون انفتاح الإيمان بالمحبة تجاه الرسول والمسلمين، بل يعيشون العقدة المستحكمة التي تنفث الحقد في الداخل، في ما يواجههم من الأزمة الذاتية التي يتحركون فيها بين واقع الكفر في الباطن، ومظهر الإيمان في الظاهر، فيعبرون عن ذلك بالمشاعر القلقة التي تظهر المحبة وتبطن العداوة، فهم يتعقّدون من كل النجاحات التي يحصل عليها المسلمون في حربهم وسلمهم، وفي حركة الإسلام المتقدمة في الحياة، فيستاؤون من ذلك {وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ} يفرحوا بها {يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ} وسيطرنا عليه وعلى نتائجه، فلم نسمح له بأن يفسد ويضيع وينهار، وهو واردٌ على سبيل الكناية التي توحي بالإمساك بالواقع المرتقب الذي يوحي بالقلق والحيرة، فكأنهم أخذوا جانب الحذر وحفظوا خطّ الرجعة، فتجنّبوا نتائج المصيبة {وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ} على ما استطاعوا أن يحفظوا أنفسهم منه مما أصاب النبي والمسلمين من جراحةٍ أو خسارةٍ أو قتل أو فشل. هذا من جهة، ومن جهةٍ أخرى، فإنهم يفرحون من باب الشماتة بالإسلام والمسلمين.
* * *
التسليم لله بقضائه وقدره
{قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} فقد قدّر الله للحياة أوضاعها، من خلال ما أودعه من أسباب ذلك كله، وجعل النتائج السلبية والإيجابيّة محكومةً لذلك. ولذلك فإن المسألة لا تخضع لتمنِّيات الأصدقاء أو لشماتة الأعداء، فلا يملك أحدٌ من أمر ذلك شيئاً، لأنهم لا يملكون لأنفسهم وللآخرين ضرّاً ولا نفعاً إلا بالله. أمّا المؤمنون به، الواثقون برحمته وقدرته وحكمته، فإنهم يواجهون الحياة من موقع الطمأنينة الواثقة بالله وبسننه الكونيّة التي أجرى عليها حركة الكون في تقديره وتدبيره، ولهذا فإنهم ينطلقون من قاعدة الثقة الواعية، في دراسة دورهم الفاعل في ما يفعلون ويتركون، فإذا قاموا بما يجب عليهم من مسؤوليات من خلال قدرتهم، واجهوا المستقبل بثقةٍ، وتحمّلوا كل نتائجه بصبر، وانطلقوا مع حركته بوعي وإيمانٍ لثقتهم بتدبير الله في ما لا يملكون أمره ولا يبلغون مداه، فيتقبلون كل شيءٍ لله وبالله ومع الله، في كل شيء، {هُوَ مَولانَا} الذي يملك ولاية أمورنا، فعلينا أن نطيعه في ما يأمر به وينهى عنه، ونستسلم لتدبيره في ما يهيمن عليه من شؤون الحياة بما تفرضه حكمته ورحمته، {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} ليسلّموا له كل شيءٍ في حركة المستقبل المجهول الذي قد يوحي إليهم بالخوف في ما يجهلون من أسراره، ولكن الإيمان يحمل إليهم الطمأنينة من خلال ما يوحيه الإيمان بالله والثقة به.
وذلك هو سرّ العقيدة الإسلامية بالقضاء والقدر في استسلام المؤمن لقضاء الله وقدره من موقع الوعي للعقيدة بالله، فليس هو استسلام الإنسان المهزوم بإرادته، الخائف من مسؤوليته، بل هو استسلام الثقة بالله في ما يجهله، بعد انطلاقه من مواقع الإرادة المسؤولة التي تحرّك الحياة من حوله في ما يمكنه أن يعمل، ليترك الأشياء الآخرى التي لا يستطيع عملها لله، على أساس الثقة المطلقة بحكمته في كل شيء، وبذلك فإن العقيدة تثبّت له أقدامه على الأرض التي يحاول القلق الذاتيّ والخوف الوجداني من المجهول، أن يهزها من تحت أقدامه، وتوحي له بالثبات والاستقرار والاطمئنان.
* * *
التربص بإحدى الحسنيين
{قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاَ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} النصر أو الشهادة، فماذا تنتظرون منا عندما نخوض الحرب، فليست هناك سيئةٌ تفرحون بها، أو حسنةٌ تتألّمون منها، لتواجهوا الموقف من موقع النتائج السلبيّة أو الإيجابية من خلال مشاعركم الذاتيّة، بل القضية بالنسبة إلينا، تمثِّل الخير كله والحسنة كلها، لأن النصر إذا حصل، كان التجسيد الحيّ للنتائج الإيجابيّة على مستوى الحياة الدنيا، أمَّا إذا كانت النتيجة هي الشهادة، فإنها تمثل الفرح الروحي الذي يؤدّي بنا إلى الحصول على لطف الله وثوابه في الآخرة، فليست هناك مشكلةٌ بالنسبة إلينا، بل هي الحسنة على كل حالٍ. تلك هي القضية بالنسبة إلينا، فلا موقع للشماتة في ما تواجهون به نتائج الفشل عندنا، لأننا نتطلع إلى القضية من جانبها المشرق، إذا كنتم تتطلعون إليها من جانبها المظلم. أمّا أنتم، فماذا تنتظرون، وماذا ننتظر بكم؟ إنَّكم اليائسون من روح الله، المتمرّدون على أوامره ونواهيه، المتحركون في الحياة على أساس الأسباب الماديّة المحدودة التي لا تحمل أيّ أفقٍ ممدود خارج نطاق المألوف في آفاقها. إنّكم اللاعبون بالحياة وبالمسؤولية وبالإيمان، فماذا ننتظر بكم جزاءً لأعمالكم وأوضاعكم؟ {وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ} وننتظر بكم {أَن يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ} في الآخرة عقاباً على معاصيكم في الدنيا {أَوْ بِأَيْدِينَا} في ما نواجهكم به من عقوبات تستحقونها، بعد افتضاح أمركم وانطلاقة المواجهة الحاسمة بيننا وبينكم، {فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبِّصُونَ} لنعلم ـ من خلال ذلك الانتظار المتبادل ـ لمن الحق ولمن الأمر، ولمن العاقبة الطيّبة والنتيجة الجيّدة.
تفسير القرآن