تفسير القرآن
التوبة / من الآية 53 إلى الآية 57

 من الآية 53 الى الآية 57
 

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيــات

{قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ* وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ* فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ* وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَـكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ* لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ}(53ـ57).

* * *

معاني المفردات

{طَوْعاً}: الطوع: الانقياد بإرادة لم يحمل عليها.

{كَرْهاً}: الكرْه: المشقة التي تنال الإنسان من خارجٍ في ما تحمل عليه بإكراه.

{وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ}: أي تهلك وتذهب بالموت.

{يَفْرَقُونَ}: فَرِقَ فَرَقاً: جزع واشتد خوفه.

{مَلْجَأً}: موضعاً يتحصّن فيه.

{مَغَارَاتٍ}: جمع «مغارة» من غار الشيء في الشيء، يغور إذا دخل منه في موضع يستره.

{يَجْمَحُونَ}: يسرعون.

* * *

فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم

ويحاول هؤلاء أن يؤكدوا مواقفهم التي توحي للآخرين من المسلمين بالثقة بهم، وذلك بإنفاق المال في الموارد التي تمثل الصدقة والإنفاق في سبيل الله، ولكن الله يرفض ذلك منهم، ويؤكد لهم وللمسلمين، بأن مثل هذا الإنفاق غير مقبول لديه. ولذا فإنه لا يحقق لهم أيّة نتيجةٍ إيجابية في مواقع القيمة الإيمانية لدى الله أو لدى المسلمين، لأن للإنفاق شروطاً تنطلق من داخل الروح التي تعيش في شخصية المنفق، في إيمانه بالله وإخلاصه لرسالته ولعباده المؤمنين، وهذا ما لم يتحقق في أمثال هؤلاء.

* * *

لا تقبل نفقة من دون إيمان

{قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً} فلا جدوى من ذلك ولا أثر له، ولا فرق بين أن ينطلق من موقع الاختيار والرخاء أو من موقع الكراهة {لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ} ولن تؤجروا عليه عند الله، ولن تحصلوا على رضاه، {إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ} في أعمالكم وأوضاعكم وعلاقاتكم المنحرفة {وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ} فلم يؤمنوا من قاعدة الإخلاص والقناعة والجدّية، بل كان الأمر بالنسبة إليهم تمثيلاً في تمثيل، {وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى} لأنها لا تتحرك من حالةٍ روحيّةٍ منفتحةٍ على الله، في ما تمثله من معراج المؤمن بروحه إلى الله في صلاته، بل كانت تتحرك من أداء الدور التمثيلي الذي يخدع البسطاء ليخيّل إليهم أنهم سائرون في خط الإيمان، ما يؤدي إلى أن تكون حركتهم في الصلاة حركة الإنسان الكسول الذي ينطلق بتثاقلٍ وجهدٍ كبيرٍ، لأنه يفقد الواقع الحقيقي الذي يحقق له العمق والنشاط والامتداد، {وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ} فلا مجال للحديث عن إنفاقٍ طوعيٍّ، إلاّ من خلال الفرضيّة التي لا تخضع للواقع لأنهم يفقدون الدوافع الإيمانيّة للإنفاق، فلا يتحرك فيهم إلا لتحقيق الأغراض المشبوهة التي تصوّرهم بصورة الإيمان من موقع الخداع والحيلة، ولكن دون جدوى.

* * *

الأموال والأولاد.. مظاهر خادعة

{فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلادُهُمْ} مهما أعطتهم من ضخامة الموقع لدى الناس، أو جمال الصورة لدى أنفسهم، فإن الأموال لا تمثل قيمةً كبيرةً، كما أن الأولاد لا يمثلون امتيازاً وتشريعاً، لأن القيمة تتمثل من خلال ما يقوم به الإنسان من جهدٍ مفيد على مستوى الحياة يرفع مستواه بإرادته واختياره. أمّا الامتياز الذي يحصل عليه، فهو ناشىء من قيمة المعرفة لديه وحركة العمل في نفسه، وهما مفقودان لدى هؤلاء، {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}، في ما يواجههم من مشاكل ومصائب وبلايا، في جمع المال وتربية الأولاد، وتعقيد الأوضاع والعلاقات المتعلقة بهما، ما يجعل من ذلك مصدر عذابٍ حقيقيٍّ، يفقد معه الإنسان لذّة امتلاكه لهما، ويمتد الأمر بهم في الاشتغال بمشاكل الأولاد والأموال، في حالات الفرح والحزن واللذة والألم، حتى يبتعدوا بذلك عن الله، ويعرضوا عن ذكره، ويغفلوا عن النتائج السلبيّة التي تنتظرهم في الآخرة عذاباً وعقاباً، ويفقدوا كل فرصةٍ للإيمان، حتى يأتيهم الموت، وهم غافلون {وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} بالله واليوم الآخر، جاحدون لتعاليمه وشرائعه، فيلاقيهم العذاب من حيث لا يشعرون.

* * *

الحلف بالله لتغطية حقيقة الكفر

{وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ} عندما يشعرون بعلامات الاستفهام تحاصرهم من كل جانب، في لفتات العيون، وهمسات الظنون، أو يواجهون الحذر الذي يتمثل في علاقات المؤمنين بهم، حيث يحذّر كل واحدٍ منهم أخاه، من هؤلاء المنافقين الذين لا يوحون بالثقة، من أجل الابتعاد عنهم، والإعراض عنهم، ومواجهتهم بالشك والريبة والحذر، فيحاولون أن يقدّموا أيمانهم أمامهم ليؤكدوا انسجامهم مع المجتمع في خطّ الإيمان ليكونوا جزءاً منه، ولكن الله يؤكد خلاف ذلك، {وَمَا هُم مِّنكُمْ} لأن صفة المجتمع المؤمن هو الشجاعة في مواجهة العدوّ، والقوّة في الوقوف أمام التحديات، وليس ذلك موجوداً لديهم، {وَلَـكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} ويخافون من لقاء العدو، في أيّ حالٍ من الأحوال {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً} يلجأون إليه عندما يهاجمهم العدو ويتبعهم، {أَوْ مَغَارَاتٍ} يختفون في داخلها في عملية اختباء واختفاء {أَوْ مُدَّخَلاً} يدخلون فيه مما ينطلقون فيه من سُبُل النجاة {لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ} وانصرفوا نحوه {وَهُمْ يَجْمَحُونَ} أي يسرعون إليه لا يصرفهم عنه شيء، لأنهم لا يجدون في أنفسهم أيّ أساس للشعور بالقوّة والثبات على الموقف، لأنهم لا يتعلقون من لقاء الله ورضوانه بشيء، ولا يجدون في داخل ذواتهم الانطلاقة الحقيقية للقوّة، فكيف يمكن أن يعيشوا روح هذا الثبات من قريبٍ أو من بعيد؟!