تفسير القرآن
التوبة / من الآية 61 إلى الآية 63

 من الآية 61 الى الآية 63
 

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيــات

{وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ* يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ* أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ}(61ـ63).

* * *

معاني المفردات

{أُذُنٌ}: الأذن: الجارحة، ويستعار لمن كثر استماعه وقوله لما يسمع.

{يُحَادِدِ}: المحادّة: مجاوزة الحدّ بالمخالفة.

{الْخِزْيُ}: الهوان.

* * *

مناسبة النزول

جاء في تفسير القمي في سبب نزول الآية، قال: إن عبد الله بن نبتل كان منافقاً وكان يقعد إلى رسول الله(ص) فيسمع كلامه وينقله إلى المنافقين، فينمُّ عليه، فنزل جبرئيل على رسول الله(ص) فقال: يا محمد إن رجلاً من المنافقين ينمُّ وينقل حديثك إلى المنافقين، فقال رسول الله(ص): من هو؟ قال: الرجل الأسود الوجه الكثير شعر الرأس ينظر بعينين كأنهما قدران، وينطق بلسان شيطان، فدعاه رسول الله(ص) فأخبره، فحلف أنه لم يفعل، فقال رسول الله(ص): قد قبلت منك فلا تفعل، فرجع إلى أصحابه فقال: إن محمداً أذن، أخبره الله أني أنمّ عليه وأنقل أخباره فقبله، وأخبرته أني لم أقل ولم أفعل فقبله[1].

* * *

من أساليب إيذاء المنافقين للنبي(ص)

وتتنوّع أساليبهم في إرباك المجتمع الإسلامي بالكلمات غير المسؤولة التي يوجهونها إلى النبيّ من أجل أن يخففوا من تقديس الناس له، وذلك بتصويره بصورة الإنسان الذي لا يملك موقفاً ثابتاً في نظرته للأشياء وتقييمه للناس وحكمه على الواقع، ما يجعل من موقعه الذي يمثل الهدى للناس في أمور دينهم ودنياهم، موقعاً قلقاً مهتزّاً يبعث على اهتزاز الثقة به، ويثير القلق حول طبيعة قيادته الروحيّة والعملية للناس.. فكيف كان ذلك، وما هو ردّ الله عليهم؟

* * *

إيذاء النبي(ص) بالقول إنه أذن

{وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ} بمعنى أنه يسمع من كل أحدٍ ويقبل منه ما يقول، وربما كان الكلام من شخص مناقضاً للكلام من شخصٍ آخر، فيقبل الحديث منهما معاً.

{قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ} فهو لا يقبل ما يسمع من الناس عن اقتناع، بل كل ما هناك أنه يظهر القبول لئلا يحرج المعتذر أو يكذّب القائل، انطلاقاً من سماحته وحسن أخلاقه {يُؤْمِنُ بِاللَّهِ} فيصدّقه في ما يوحي به إليه {وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} بمعنى أنه يظهر التصديق لهم. فالمسألة ليست منطلقة من قناعةٍ بالواقع، بل من مراعاة مواقفهم ومواقعهم، فهو يؤمن لأجلهم، وتلك هي سيرة النبيّ في خلقه العظيم الذي يريد أن يوحي للمؤمنين الذين يعيشون معه، بإمكانية التراجع من دون إحراجٍ لهم أو تعقيد لعلاقتهم به، كما أنه يعمل على أساس أن يكون الأذن التي يستمع بها إليهم جميعاً، فيصغي لهذا، ويسمع لذاك، ليدخل السرور عليهم، وليوفّق فيما بينهم، وليسهّل لهم سبيل اللقاء على أكثر من طريق.

{وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ} في أسلوبه العملي الذي يجمع به كلمتهم، ويفتح به قلوبهم، ويوحي إليهم بالخير والرحمة والإيمان. {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} لأن في إيذائهم له إيذاءً لله، في ما يمثله الرسول من موقع يرتبط بالله، وفي ما يعنيه هذا التصرّف من عقدةٍ نفاقيّةٍ ضد الإسلام بالذات، الذي يتحول، بطريقةٍ غير مباشرةٍ، إلى عقدةٍ ضد الله سبحانه وتعالى، ما يجعل المسألة مسألة تمرّد وعصيان وطغيان.

* * *

تبرير الخطأ بالحلف بالله

{يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ} في مواقف الشك الذي توجّهونه نحوهم، وفي مجالات العتاب الذي تثيرونه في وجوههم، ويلهثون وراءكم من أجل أن يؤكدوا لكم أنهم في مستوى الثقة، فيحلفون لكم بالأيمان المغلّظة، ليحصلوا على رضاكم عنهم وثقتكم بهم، وتلك هي صفة المنافقين الذين يعيشون الهمّ الكبير لأقل بادرة شكٍّ في سلوكهم لدى الآخرين، لأن القضية عندهم هي الحصول على رضا المجتمع، فإذا فقدوا ذلك، فقدوا الأساس الذي يرتكزون عليه في حياتهم العامة {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يرضوه} لأنه هو الضمانة الوحيدة للنجاة في الدنيا والآخرة، في ما تمثله قضية المصير التي ترتبط بالخط الذي يتصل بالله ورسوله، ويحقق رضاهما عن السائرين عليه، أمّا رضا الناس، فإنه لا يمثل شيئاً حقيقياً في ميزان القيمة الروحيّة، كما أنه لا يشكِّل أيّة ضمانةٍ كبيرةٍ على مستوى الآخرة، وذلك هو ما يمثله موقف الإيمان الذي لا يتطلع فيه المؤمن إلاّ إلى الله، لأن قيمة الناس عنده لا تخضع إلا لعلاقتهم بالله، فهو الأساس لأية علاقةٍ بكل ما عداه، فمنه تنطلق الفكرة، وعنده تتحرك العاطفة، وفي رحابه تنشأ العلاقة بالآخرين، {إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ} بما يمثله الإيمان من عمق وامتدادٍ.

وماذا لدى هؤلاء في آفاقهم التي يطوفون بها، وفي مواقفهم التي يحددونها، عندما يتخذون الموقع العدواني في مواجهة الله ورسوله، هل يعرفون نتائج ذلك؟ هل يعلمون ماذا يحدث لهم من خلال هذا السلوك؟

* * *

جزاء من يحادد الله ورسوله

{أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} فيتجاوز الحد بالمخالفة والمعاداة لهما {فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا} لأن ذلك هو الجزاء العادل لمثل هذا الموقف الذي يوحي بنكران الجميل وكفران النعمة وجحود الحقيقة. {ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ} الذي يمثل العار كله في النهايات السوداء للمصير.

ــــــــــــــــــ

(1) تفسير الميزان، ج:9، ص:333.