من الآية 67 الى الآية 70
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيــات
{الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ* وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِي حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ* كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلادًا فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلَـقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُواْ أُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدنْيَا وَالآخرةِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ* أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وِأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}(67ـ70).
* * *
معاني المفردات
{وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ}: أي يمسكون أموالهم عن إنفاقها في طاعة الله.
{مُّقِيمٌ}: دائم.
{بِخَلاقِهِمْ}: الخلاق: النصيب والحظ.
{حَبِطَتْ}: فسدت.
{وَالْمُؤْتَفِكَاتِ}: جمع مؤتفكة. ائتفكت بهم الأرض أي انقلبت.
* * *
حقيقة المنافقين ووظيفتهم
وهذه جولةٌ في أجواء المنافقين والمنافقات في خصائصهم البارزة التي تحكم كل أوضاعهم السلبيّة في ما يفعلون أو يتركون، في مقابلةٍ بينهم وبين المؤمنين، لتتضح الصورة لدينا من موقع التمايز البارز في الأقوال والأفعال والمواقف، ثم ليعرف الناس نهاياتهم في ما ينتظرهم عند الله من شؤون الثواب والعقاب.
{الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ} في عملية ارتباط عضويّ، من خلال ما يمثله مجتمع النفاق من ارتباط بين أفراده في الأفكار والمشاعر والأعمال، {يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ} في مواجهةٍ حادّةٍ للخط الإيماني الذي جاءت به الرسالات في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأن ذلك هو ما يمثله دورهم الشيطانيّ في تخريب الأسس الروحيّة والأخلاقية الاجتماعية، بسبب ما يثيرون من عوامل الريب والتشكيك والتضليل التي تغيّر صورة الأشياء، فتقلب الحق باطلاً والباطل حقّاً، كوسيلةٍ من وسائل تعطيل المسيرة الإيمانيّة في اتجاه الرسالات الإلهيّة.
{وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ} عن الخير والعطاء في سبيل الله، لأنهم يعيشون أنانياتهم الذاتية التي تجعلهم لا يتصورون إلا الآفاق الداخليّة لشخصياتهم المحدودة المهزوزة، فلا يشعرون بأيّة مسؤوليّةٍ تجاه الآخرين الذين يعيشون مشاكل الجوع والحرمان، لأن المشاعر الخيّرة التي تنساب في أعماق الروح، لا بد لها من دوافع روحيّةٍ عميقةٍ تتصل بالإيمان بالله، في ما يوحيه للإنسان من أخلاقية التضحية وروحيّة العطاء، ما يدفعه إلى المزيد من وعي المسؤولية في حركة الإيثار، بعيداً عن العوض الماديّ الذي يحوّل المسألة إلى عمليّةٍ تجاريّةٍ، لأن قصته في معنى الإيمان، هي قصة السموّ الروحي الذي يعيش معه الأمل الكبير بالحصول على الرضا من الله، فذلك هو الربح الكبير عنده، والعوض العظيم لديه. أمّا الذين لا يعيشون الإيمان، فما هي الدوافع التي تثير فيهم روح العطاء، إنهم يفقدون كل شيءٍ يوحي بالخير، لأنهم يفقدون هذا الجو الحميم الذي يرتفع بأرواحهم إلى آفاق الله.
{نَسُواْ اللَّهَ} في ما يفكرون، فكان فكرهم شيطنةً ومكراً، وفي ما يشعرون، فكان شعورهم حقداً وبغضاءً، وفي ما يعملون، فكان عملهم تمرّداً وعصياناً وانحرافاً عن الخط المستقيم، لأنهم عندما فقدوا الله في فكرهم وشعورهم وحياتهم، التقوا بالشيطان من أقرب طريق، لأن أيّة منطقة تخلو من الله، لا بدّ من أن يدخلها الشيطان، {فَنَسِيَهُمْ} بحرمانهم من لطفه ورضوانه ورحمته، إذ لا معنى لنسيان الله للناس، إلا إهماله لهم، واعتبارهم مجرّد كميّاتٍ مهملةٍ لا تعني شيئاً ولا تمثّل شيئاً في ما يفيضه من رحمته ورضوانه وعفوه وغفرانه {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} الذين يجسّدون الفسق واقعاً حيّاً يشير إلى المفهوم العملي للفسق بأوضح صورة، في ما يمثله سلوكهم، وتتكشف عنه نفسيّاتهم، من خبثٍ وتعقيد وانحرافٍ عن طريق الله {وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا} فذلك هو جزاؤهم على كل ما فكروا فيه من الشرّ، وأثاروه من الفساد، ونفّذوه من خطط الهدم والتخريب لقواعد الإيمان في المجتمع كله، تمرّداً على الله، وعصياناً لرسالاته، وإيذاءً لرسوله، {هِيَ حَسْبُهُمْ} في ما تمثله من العقوبة الكافية الوافية على أعمالهم، {وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ} بإبعادهم عن رحمته، وذلك هو غاية الخسران، لأن فقدان الإنسان لرحمة الله، وإبعاده عن ساحة لطفه ورضوانه، لا يعني إلا فقدان الأمل في كل إشراقةٍ للروح في حياته، أو انطلاقةٍ للخير في مصيره. {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} لا زوال له ولا انقطاع.
* * *
نتيجة النفاق.. عذاب مقيم
وتلك هي مسيرة النفاق في الحاضر التي ترتبط بمسيرته في التاريخ، في المقدّمات والنتائج، {كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَولادًا فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ} ونصيبهم من الدنيا وسارت بهم الحياة كما يشتهون، {فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخلاقِكُمْ} ونصيبكم من الدنيا في ما تشتمل عليه من لذائذ وشهوات {كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُواْ} من الكفر والنفاق والاستهزاء بالرسل والرسالات والإمعان في الباطل قولاً وعملاً، فماذا كانت نتائجهم في حساب الأرباح والخسائر؟ ليس هناك شيءٌ على مستوى الأرباح في الدنيا والآخرة، فلم يحصلوا على شيءٍ مقابل كل ما عانوه وما خاضوا فيه، {أُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدنْيَا وَالآخرةِ} فلم يبق منها شيء، بطلت في كل نتائجها، لأن الكفر يهدم كل عمل من أعمال الخير السابقة لو كان لهم شيء من ذلك، فلا يستحقون عليه ثواباً في الآخرة، ولا يحصلون منها على نتيجةٍ مرضيةٍ في الدنيا، في ما يحصل منه الناس من نتائج معنويةٍ أو ماديّةٍ على ما يقدمونه من عمل أو يبذلونه من جهدٍ، {وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} الذين خسروا أنفسهم وفقدوا مصيرهم، فإذا كان مصير أولئك هو ذلك، فهل يكون مصيركم أفضل من مصيرهم، وأنتم تسيرون على الخط نفسه الذي ساروا عليه، وتسعون إلى نفس الأهداف التي استهدفوها، وتخوضون في الباطل الذي خاضوه، وتتمردون على الله في كل شيء؟!
* * *
الاعتبار بمن مضى من الكفار
{أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وِأَصْحَابِ مَدْيَنَ} قوم شعيب {وَالْمُؤْتَفِكَاتِ} وهي القرى التي انقلبت بأهلها، وهم قوم لوط، {أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} التي توضّح لهم السبيل وتدلّهم على مواقع الهدى، فجحدوا وكفروا وتمردوا، فعذبهم الله بذنوبهم، بمختلف ألوان العذاب، وأهلكهم، {فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ} وهو الغني عن ظلم عباده لأنه القوي الذي لا يحتاج أحداً، إنما يحتاج الظلم الضعيف، والله قادر على أن يصل إلى ما يريد، بما يريد، {وَلَـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} بما عصوا به الله وانحرفوا عن طريقه، بعد أن أقام عليهم الحجة من جميع الجهات. إن ذلك التاريخ الذي يمثل سيرة هؤلاء، من خلال ما يمثله من النتائج السلبيّة لكل هذا الخط المنحرف المتمرّد، هو الصورة التي يجب أن تتمثلوا فيها النتائج الوخيمة لكل ما تقبلون عليه في مستقبل حياتكم، ولذلك فإن عليكم أن تتراجعوا عن خط الانحراف لئلا تقعوا في ما وقعوا فيه، وتنتهوا إلى ما انتهوا إليه، لأن الله يعامل الآخرين بما عامل به الأوّلين من موقع عدله الذي لا يعجزه أحد، في أيّ زمان ومكان.
تفسير القرآن