تفسير القرآن
التوبة / من الآية 75 إلى الآية 78

 من الآية 75 الى الآية 78
 

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيـات

{وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ* فَلَمَّآ آتَاهُمْ مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ* فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ* أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلاّمُ الْغُيُوبِ}(75ـ78).

معاني المفردات

{عَاهَدَ}: المعاهدة هي أن تقول: علي عهد الله لأفعلنّ كذا، فإنه يكون بذلك قد عقد على نفسه وجوب ما ذكره.

{وَنَجْوَاهُمْ}: النجوى: الكلام الخفي.

* * *

ومنهم من عاهد الله.. فنقض العهد

وهذا نموذجٌ آخر من نماذج الملامح الاستعراضية الإيمانية التي كانوا يحاولون ـ من خلالها ـ الإيحاء للمؤمنين بإخلاصهم لله، وجدّيتهم في الوقوف عند أمره ونهيه، في ما يفرضه عليهم من العطاء في سبيله، والتضحية بالمال من أجله، ولكنهم يتراجعون عن ذلك كله أمام التجربة الحيّة، ليتبيّن للناس أنهم كانوا يواجهون الموقف بالكلام الكاذب الذي لا يحمل في مستقبله الواعد أيّ معنى حقيقي على صعيد الواقع، ما يؤكد حقيقة النفاق الكامنة في نفوسهم، التي تتحرك من مواقع الوعد الكاذب لله ولعباده، الذي يثير الحياة في هذه الفجوة العميقة بين ما هو القول، وما هو الفعل.

* * *

نقض العهد نتيجة عدم التقوى

{وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ} فهم يعتذرون عن عدم قيامهم بواجب الصدقة بالعجز المالي، ولولاه لما تأخروا عنه في أيّ حال من الأحوال، فلو أن الله رزقهم من واسع فضله، لقاموا بالصدقة على أحسن حال، ولساروا على خط الصلاح، في ما يواجه به الصالحون الموقف في العمل على تحقيق القضايا العملية التي توحي برضا الله، {وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ} في ما يوحي به العطاء والبذل في سبيل الله من معنى الصلاح {فَلَمَّآ آتَاهُمْ مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ} لأن العهد لم يكن منطلقاً من حالة تقوى وموقف إيمان، بل من حالةٍ استعراضيّةٍ تمنحهم فرصة الهروب من الموقف الصعب آنذاك من جهة، وتهيىء لهم الظهور بمظهر التقوى والصلاح من جهة أخرى، فإذا جاءت التجربة الحيّة التي تتحدى فيهم صدق الموقف، سقطوا أمامها، وامتنعوا عن الوفاء بما عاهدوا الله عليه، وبخلوا بالمال الذي رزقهم الله إياه {وَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ} عن كل ما قالوه، وعن كل ما التزموا به.

نقض العهد يعقبه نفاق في القلب

{فَأَعْقَبَهُمْ} ذلك {نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ} ممتداً في امتداد الحياة بهم {إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} يوم القيامة عندما يلاقون الله غداً، فيكشف ما أضمروه من زيف، وما عاشوه من نفاق، مما قد خفي أمره على الناس في الدنيا، {بِمَآ أَخْلَفُواْ اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ} لأن القضية لم تكن مجرّد حالةٍ طارئةٍ في فعل معيّن، بل كانت منطلقةٍ من عُقدةٍ مرضيّةٍ كامنةٍ في النفس، باعثة على إخلاف الوعد عن سابق قصد وتصوُّر وتصميم، {وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ} باعتبار أن الكذب يمنحهم فرصة الهروب من المواقف الحاسمة التي تتحدى فيهم حركة الإيمان في حركة الإنسان في الواقع. وهكذا يهربون من موقعٍ إلى موقعٍ، في عملية اختباء واختفاءٍ وتراجع عن الكلمات والعهود والمواقف، في غفلةٍ عن انكشاف أمرهم عند الله. {أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} في ما يفكرون به في داخل ضمائرهم، ويتناجون به ـ بطريقةٍ سريّةٍ ـ فيما بينهم، في ما يحاولونه من اللعب على المواقف والكلمات، فكيف يغفلون عن هذه الحقيقة، ويتصرفون في الحياة بعيداً عنها، فإذا كانوا يملكون إخفاء أمرهم عن الناس في ما يملكون غطاءه، فكيف يملكون إخفاء ذلك عن الله الذي يعلم سرهم ونجواهم {وَأَنَّ اللَّهَ عَلامُ الْغُيُوبِ} فلا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء من شؤون خلقه في كل أمورهم الظاهرة والخفيّة.