من الآية 79 الى الآية 80
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيـات
{الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ* اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}(89ـ80).
* * *
معاني المفردات
{يَلْمِزُونَ}: يعيبون.
{الْمُطَّوِّعِينَ}: المتطوعين، الذين يتطوعون بالعطاء.
* * *
مناسبة النـزول
جاء في أسباب النزول، في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ} الآية، أخرج البخاري ومسلم وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه وأبو نعيم في المعرفة عن ابن مسعود قال: لما نزلت آية الصدقة كنّا نتحامل على ظهورنا، فجاء رجلٌ فتصدق بشيءٍ كثير فقالوا: مُراءٍ، وجاء أبو عقيل بنصف صاعٍ، فقال المنافقون: إنَّ الله لغنيٌّ عن صدقة هذا، فنزلت الآية[1].
وهكذا نجد في هذا الحديث كيف كان هؤلاء المنافقون يعملون على بلبلة الموقف في المجتمع الإسلامي، من أجل أن يمتنع المسلمون الذين يندفعون إلى التضحية بأموالهم عن ذلك، عندما يعيشون الإيحاء بأنه لا يلقى أيّ صدى في التقييم الإيماني، بل قد يلقى أصداءً مضادة، وذلك من خلال اتهامهم بالرياء أو الإيحاء لهم بأن مثل ذلك لا جدوى له، لأن الله لا يحتاج صدقة الناس لإعلاء دينه، أو لمعونة عباده، ما يؤدّي إلى ضعف المواقف، واهتزاز المواقع وابتعاد المسلمين عن الاندفاع في المشاركة في العمل الاجتماعي والجهادي العامّ. وبهذا نستطيع أن نحكم على حجم الجريمة التي يقوم بها هؤلاء في هذا السبيل، ونعرف من خلال ذلك خلفيّات هذه الأعمال، في ما تنطوي عليه قلوبهم من الكفر بالله والتمرّد على رسوله.
* * *
السخرية من المتصدقين
{الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ} أي يعيبونهم ويرمونهم بالتهم الباطلة، ويوجهون إليهم الكلمات غير المسؤولة عندما ينفقون أموالهم في سبيل الله قربةً إليه تعالى من موقع الروح الإيمانية في العطاء لا سيّما هؤلاء الذين لا يملكون المال الكثير {وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ} من هؤلاء الفقراء المعسرين الذين لا يجدون سعةً في المال، بل كل ما عندهم هو جهدهم الذي يقدمونه ليدفعوا عوضه للعمل في سبيل الله {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ} بمختلف الأساليب الساخرة {سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} لأنهم يحسبون أنفسهم في موقع القوّة في ذلك وهم في مواقع الضعف، ويخيّل إليهم أنهم يمثلون الذكاء وهم يمثلون الغباء، لأنهم لا يبلغون ما يريدون من كل ذلك، فيضيع جهدهم هباءً، ما يدعو إلى السخرية من جهةٍ، أو يجسِّد واقع السخرية بهم من جهة أخرى {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} جزاء سخريتهم بالمؤمنين وتمرّدهم على الله ورسوله.
* * *
استغفار النبي لا ينفع المنافقين
وربما سعى البعض منهم أو من غيرهم لدى النبي أن يستغفر لهم بعد انكشاف أمرهم ليكون ذلك أساساً لشرعية موقعهم في المجتمع المسلم، وربما كانت المسألة مطروحةً في الذهن على أساسٍ نظريٍ حول إمكانات ذلك من حيث المبدأ، في مجال تقييم تصرفاتهم في حساب غفران الله لهم ذلك من خلال استغفار النبي لهم في ما لو حدث ذلك، ولكن الله أغلق الباب كله عليهم، لأن القضية في ذلك ليست قضية خطيئة يمكن أن يتوب الله على فاعلها مع استغفاره أو استغفار النبي له، بل هي قضية الإيمان من الأساس، فإن هؤلاء المنافقين لا يؤمنون بالله والرسول في عمق أنفسهم، فكيف يمكن أن تنالهم المغفرة {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} فالنتيجة واحدة، لأنهم لا يملكون قابلية الحصول على المغفرة {إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} والظاهر أن الرقم هنا لا مدلول له من حيث الخصوصية، بل ربما كان وارداً على سبيل المبالغة في الكثرة، {فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} في ما أضمروه في نفوسهم من معاني الكفر بشكل مباشر أو غير مباشر، وبذلك فإنهم لا يملكون قاعدةً للمغفرة، {وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} أمثال هؤلاء الذين تجاوزوا الحدّ في التمرّد والانحراف ورفضوا هداية الله ورسوله، في ما لديهم من وسائلها وأدواتها، وبذلك أهملهم الله، ففقدوا روح الهداية.
ـــــــــــــــــــــ
(1) الدر المنثور، ج:4، ص:249.
تفسير القرآن