من الآية 81 الى الآية 87
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيــات
{فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ* فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ* فَإِن رَّجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ* وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ* وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ* وَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُواْ بِاللَّهِ وَجَاهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُنْ مَّعَ الْقَاعِدِينَ* رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ}(81ـ87).
* * *
معاني المفردات
{الْمُخَلَّفُونَ}: خلّفته: تركته خلفي، والمخلّفون: الذي تخلّفوا عن الخروج.
{خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ}: بعده. وقيل مخالفتهم له.
{وَتَزْهَقَ}: تهلك بالموت.
{أُوْلُو الطَّوْلِ}: أي أصحاب المال والقدرة والغنى.
{ذَرْنَا}: دعنا.
{الْخَوَالِفِ}: قال الزجاج: الخوالف: النساء لتخلفهن عن الجهاد[1].
* * *
القرآن يتحدث عن المخلفين
وهذه جولة مع هؤلاء المخلفين الذين استأذنوا النبي في البقاء في المدينة، وتخلّفوا عن الخروج معه، من أجل رصد الحالة النفسية التي كانوا يعيشونها، وعرض أساليبهم في التخذيل والتثبيط عن الخروج للحرب والانطلاق مع خط الجهاد، ثم توجيه النبي إلى ما ينبغي له أن يواجه به هؤلاء من الموقف الحاسم الرافض لكل أعذارهم وأساليبهم، لئلا يظنوا في أنفسهم أنهم استطاعوا استغفال النبي والمسلمين في ما تنطوي عليه نفوسهم، وفي ما يخططون له من أعمال التخريب.
* * *
الفرح للتخلّف عن الجهاد
{فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ} الذين تخلّفوا عن الخروج إلى المعركة {بِمَقْعَدِهِمْ خلافَ رَسُولِ اللَّهِ} أي بعد خروجه ـ على وجه ـ أو مخالفة له ـ على وجهٍ آخر ـ. فها هم يشعرون بأنهم قد نجحوا في أسلوبهم في إقناع النبي بمنحهم الإذن لهم في عدم الخروج، وبذلك ارتفع الحرج عنهم، والذي كانوا سيعيشونه لو لم يأذن لهم النبي(ص)، لأنهم سوف يواجهون إحدى مشكلتين، إمّا التمرّد الذي يفضح واقعهم الداخليّ أمام المسلمين، وإمّا الخروج الذي يعرّضهم للخطر في المعركة، فها هم الآن يجدون أنفسهم وقد تخلّصوا من ذلك كله، فأيّة فرحةٍ هي هذه الفرحة الذاتية في هذه اللحظات السعيدة التي تمثل الربح كله والفرح كله على مستوى الأجواء الملائمة والنتائج الإيجابية للخطة المرسومة. {وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} لأنهم لا يعيشون الإخلاص له، لكي يتحركوا في سبيل الأهداف الكبيرة التي يريدها في خطّ التضحية بالمال والنفس، ولهذا فإن ردّ الفعل الطبيعي لديهم أمام دعوات الجهاد هو المقت والكراهية التي قد يحاولون إخفاءها ولكنهم لا يملكون السبيل إلى ذلك، فيستسلمون للفضيحة عند أوّل بادرةٍ من كلمةٍ أو فعل أو حركةٍ مضادّةٍ.
* * *
التحجج بالحر
وقد أراد الله أن يواجههم بذلك ليعرفوا أنهم لا يملكون أساساً للأمن، في ما يضمرون ويتآمرون. ويبدأ استعراض أساليبهم في تثبيط الناس عن الخروج للجهاد. {وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ} وانتظروا زوال شدّته ومجيء الفصل المعتدل الذي يبرد فيه الجوّ، فيعين الإنسان على تحمّل مشقّة الجهاد، ليخلقوا بذلك حالةً من الارتباك والبلبلة في صفوف المسلمين، وليثيروا في أنفسهم الشعور بالموانع والمشاكل التي تعترضهم في طريق الجهاد، ولكن الله يثير أمامهم وأمام المسلمين مشكلة الحرّ من طريقٍ آخر، وهي قضية الحرّ في الآخرة الذي ينتظرهم في نار جهنّم إذا تخلّفوا عن رسول الله وعصوا أمر الجهاد، فعليهم أن يوازنوا بين حرارة الجو وحرارة النار، فأيّهما يفضلون؟ ولا يتركهم الله ليختاروا وليفكروا في ذلك، بل يعطيهم الفكرة الحاسمة: {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} ويفهمون، ليعرفوا نتائج منطقهم وأسلوبهم في التخذيل والتنفير.
* * *
الضحك القليل مقابل البكاء الكثير
{فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً} في ما يوحيه هذا الفرح الروحيّ الذاتيّ من حالة ضحك، يقهقه فيه النجاح الذي حصلوا عليه. ولكن السؤال هو: إلى متى يمكن أن يستمر هذا الضحك وتبقى هذه القهقهة؟ إنها لن تمتد بهم كثيراً، فستواجههم التحديات التي تفضح كل هذا الزيف، فتواجههم بسلبيّاته المفجعة في الدنيا، وبمشاكله القاتلة في الآخرة، {وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا} على أنفسهم وعلى مصيرهم {جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} من أعمالٍ شريرة وأوضاعٍ سيّئةٍ.
ولعل من الواضح أن الأمر بالضحك القليل والبكاء الكثير، ليس وارداً مورد التكليف والإلزام، بل مورد التنديد والتوعية بالنتائج السلبية لكل مواقفهم وأعمالهم، فليس هناك إلا الفرح الطارىء السريع الذي لا يستقر في عمق الواقع ولا يحمل لهم في مصيرهم إلا البكاء الكثير الطويل، فليس لهم أن يستسلموا لما هم فيه، بل عليهم أن ينتظروا ما يقبلون عليه من مشاكل وآلام.
* * *
رفض خروج المنافقين
{فَإِن رَّجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ} في جولةٍ أخرى في معركة الحق والباطل {فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ} ليثبتوا إخلاصهم في الظاهر، بعد انكشاف أمر جماعتهم في الجولة الأولى، ليحصلوا على الثقة الجديدة من أجل أن يتآمروا من جديد، من مواقع هذه الثقة التي يستطيعون ـ من خلالها ـ أن يكيدوا للإسلام والمسلمين بكل حرّيةٍ وثقةٍ وامتداد، {فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَدًا} ولن أمنحكم هذه الفرصة التي تدخلكم في صفوف المجاهدين الذين يحصلون على امتياز القيمة العليا الكبيرة في حركة الإنسان في الحياة، لأنكم لا تعيشون روحيّة الجهاد في العمق الروحي من شخصيتكم، فكيف تحملون قيمته؟ {وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوًّا} لأن الذين يقاتلون العدوّ هم الذين يثبتون في المعركة من خلال إيمانهم برسالة المعركة، في طبيعة الساحة وفي تحديد مواقع الأعداء في مجالات الهجوم والدفاع. وهذا ما لم تعيشوه في فكركم، ولذلك فلا أمان لكم أن تواجهوا أعداء الله بقوّة وأنتم تنظرون إليهم نظرة الصديق إلى الصديق، فلا مجال لكم في حركة المعركة {إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} فكيف يمكن لنا أن نعيد الثقة المفقودة بكم من دون أساسٍ ثابت، {فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ} المتخلّفين عن عذر أو عن غير عذر.
* * *
إخراج المنافق من أحكام الإسلام
{وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} في عملية تكريمٍ واسترحامٍ له كما تفعل مع المسلمين المخلصين الذين تشيعهم إلى قبورهم بعد أن تصلي عليهم، {إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ} فلم يتعلقوا من الإسلام بشيءٍ في واقعهم الفكري والروحي والعملي. فكيف يمكن أن تعاملهم معاملة المسلمين الذين أخلصوا لله عهده وساروا على هداه وانطلقوا ـ في الحياة ـ مع أوامره ونواهيه؟!
{وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَولادُهُمْ} في ما يمكن أن يثيره ذلك من مشاعر تعظيم في النفس، أو ما يمكن أن يخطر في البال عنده، من اعتبار ذلك تكريماً من الله لهم، في ما يظنه البعض، من أن النعمة تمثل نوعاً من أنواع كرامة الله لعبده، إنها ليست كذلك، بل قد تكون اختباراً أو عقاباً أو ما شابه ذلك، {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا} في ما تثيره من مشاكل ومتاعب وآلام لا تتناسب مع طبيعة الفرح الذي يحصل عليه الإنسان من خلالها، {وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ} في نهاية المطاف {وَهُمْ كَافِرُونَ} لا يتعلّقون من رحمة الله بشيءٍ، لأنّهم لم يحصلوا من هذا الزهو بالمال والولد، إلا المزيد من الطغيان والتمرّد والكفر والعصيان، فأدى بهم ذلك إلى سوء العاقبة، وهو الموت على حالة الكفر، وماذا بعد الكفر إلا النار والدمار.
* * *
اعتذار أولي القوة عن الخروج
وتعود الآيات لتؤكد تمرّدهم وابتعادهم عن خط الطاعة لله ولرسوله، {وَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُواْ بِاللَّهِ وَجَاهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ} واجهوا هذا المأزق الجديد بالتهرب من المسؤولية، ومحاولة الحصول على تبريرٍ ظاهريّ للتخلف، {اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُو الطَّوْلِ منهم} والحول والقوّة {وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين} حتى لا يصابوا بأذى أو ضرر أو خطر على الحياة {رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ} المتخلفين من أصحاب الأعذار الذين لا يملكون أيّة حيلةٍ للمواجهة وللمجاهدة، {وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ} عندما أغلقوها عن ذكر الله وعن وعي الإيمان في روحيته وفكره {فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ} ولا يفهمون نتائج الأمر كله في كل شيء.
ـــــــــــــــــ
(1) مجمع البيان، ج:5، ص:76.
تفسير القرآن