تفسير القرآن
التوبة / من الآية 90 إلى الآية 93

 من الآية 90 الى الآية 93
 

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيـات

{وَجَآءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ* لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَآءِ وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ* وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنْفِقُونَ* إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَآءُ رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}(90ـ93).

معاني المفردات

{الْمُعَذِّرونَ}: المقصّرون الذين يعتذرون وليس لهم عذر.

{الأعْرَابِ}: الذين يسكنون البادية.

{نَصَحُواْ}: النصح: إخلاص العمل من الغش.

{لاَ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ}: كناية عن إعطاء المركوب من فرس أو بعير أو غير ذلك.

{حَزَناً}: ألماً في القلب.

* * *

وجاء المعذّرون من الأعراب

{وَجَآءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ} وهؤلاء الذين كانوا يسكنون البادية، ممن كانوا يملكون العذر المقبول الذي يبرّر لهم تخلّفهم، ولكنهم لا يستسلمون لذلك، ولا يستقلّون بأخذ العذر لأنفسهم من دون الرجوع إلى القيادة النبويّة، بل يرجعون إلى النبيّ، ليعرضوا عليه ظروفهم وأوضاعهم التي تمثّل عذرهم في التخلف ليأذن لهم على أساس ذلك. {وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} من الأعراب، فلم يشعروا بالحاجة إلى تقديم العذر وأخذ الإذن، لأنهم لا يؤمنون بالله ورسوله في عمق تفكيرهم وشعورهم، وإن أظهروا ذلك في الشكل، {سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ} لعل الضمير يعود إلى الأعراب، الذين جاء ذكرهم في نطاق الحديث عن المعذرين. وبذلك نفهم من الآية أن الله قد أعطى العذر للفئة الأولى ولم يعذر الفئة الثانية في موقفها، لأنها تمثل الموقف المعاند الجاحد المتمرّد، فأنذرهم بأنهم سيصيبهم منه {عَذَابٌ أَلِيمٌ}.

* * *

أعذار التخلف المشروعة

وفي هذا الجوّ، يثير القرآن بعضاً من النماذج التي تملك العذر المشروع للتخلف عن القتال، لأنها لا تملك الطاقة الذاتية التي تساعدها على ذلك، ولا تجد الوسائل العملية التي توصلها إليه، ولكنها تملك الإيمان العميق الذي يدفعها إلى النصح لله ولرسوله، ممن أحسنوا العزم والشعور والعمل.

{لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَآءِ} الذين يعيشون الضعف الجسدي كحالةٍ طبيعيّةٍ لازمةٍ {وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى} الذين يعيشون الضعف الطارىء عن حالة المرض فيمنعهم من المشاركة في القتال، {وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ} حيث كانت الحرب آنذاك مما يتحمّل مسؤوليتها المقاتلون أنفسهم لا السلطة الموجودة في الساحة. فقد لا يكون للمقاتل مالٌ ينفقه على نفسه وعلى الحرب، فليس عليه في هذه الحال، ولا على غيره ممن لا يملكون الطاقة {حَرَجٌ} ولا عقدةٌ، لأن الله قد منحهم الرخصة في عدم خوض المعركة {إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} فعاشوا في أعماقهم ومشاعرهم الإخلاص والجدّية والاهتمام بكل ما يتصل بمسيرة المعركة في الداخل والخارج، وقدّموا النصح، في ما يملكون تقديمه من رأي وخطةٍ وتعاونٍ في غير مجالات القتال، لأن ذلك هو مظهر النصح الذي لا يدّخر جهداً في سبيل الوصول إلى النتائج الكبيرة في المعركة {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ} لأنهم أحسنوا في ما يستطيعون تقديمه، وفي ما يملكون تحريك مشاعرهم نحوه، إذا لم يملكوا تحريك أيديهم وأرجلهم إليه.

وهذه قاعدةٌ عامّةٌ في جميع المجالات العامة لحركة الإنسان في أجواء المسؤولية، إذا كان عمله متحركاً في طريق الإحسان إلى الأفراد والمجتمعات، ولذا اعتبرها الفقهاء أساساً تشريعيّاً في كثيرٍ من الموارد التي قد تتحقق فيها الخسارة من تصرفٍ شخصيٍ تجاه آخر، فلا يُحكم بضمانه إذا كان محسناً له في هذا العمل، وإن كان فيه إساءةٌ له من حيث النتائج {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.

{وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ} لأنهم لا يجدون الدابة التي تحملهم إلى أرض المعركة، في ما كانوا يحتاجون فيه إلى الراحلة لبعد المسافة التي لا يستطيع الإنسان أن يقطعها سيراً على الأقدام، فجاؤوا إلى النبي ليدبّر لهم أمر ذلك، ولكنه لم يستطع تحقيق طلبهم {قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} لأن الظروف المادية لا تسمح بذلك، {تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنْفِقُونَ} لأنهم يعيشون مسؤولية الإيمان بعمق، فيحاولون بكل جهدهم أن يزيلوا الحواجز التي تمنعهم من التقدم، ويرفعوا الموانع التي تؤخرهم عن المشاركة، ولهذا فإنهم يتألّمون ويحزنون إذا لم يصلوا إلى تحقيق ذلك. إنها روحيّة الإنسان الذي يعيش الإيمان كمسؤوليّةٍ، ويحب ممارسة مسؤوليته بلهفةٍ وشوقٍ، فلا يرتاح لأيّ شيء يعطّل مسيرته في هذا الاتجاه. إنه يحاول ويحاول تذليل الصعوبات، فإذا لم يوفق في ذلك، عاش القضيّة شعوراً في العمق، يوحي لقلبه بالحزن، ولعينيه بالدموع، وهذا ما يقدّره الله لهم حقّ التقدير، ولهذا فإنه يعفيهم من أيّ شعور بالإحباط والتعقيد أمام أجواء الساحة، فلم يجعل لأحد سبيلاً عليهم من أيّة جهةٍ في موقع القيادة وفي موقع القاعدة.

* * *

الإعتذار غير المشروع

{إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَآءُ} يملكون المال الذي يستطيعون معه أن يحققوا لأنفسهم كل وسائل المعركة، ويزيلوا كل الحواجز التي تفصلهم عن الوصول إلى الهدف، في ما يحتاج الأمر فيه إلى مالٍ {رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ} العاجزين المتقاعدين أو المخالفين، لأنّهم لا يملكون الطموحات الروحية والإيمانية التي يحصلون من خلالها على الدرجة العالية عند الله في الإيمان والجهاد، لتحركهم خطوةً نحو بذل الجهد في اتجاه ذلك. {وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} فأغلقها عن كل وعيٍ وانفتاح وعمق، من خلال سننه التي أودعها في حركة الإنسان في الكون، التي تربط بين النتائج ومقدماتها، فإذا أغلق الإنسان على نفسه نافذة الضوء التي تتدفق بالشعاع، ومنع فكره من أن يتحرك في اتجاه المعرفة، وأبعد روحه عن الاغتراف من ينابيع الإيمان، وسدّ أذنيه عن سماع كل ما يوجهه إلى الهدى ويبعده عن الردى، وأغمض عينيه عن رؤية كل ما يذكِّره بالله والخير والحياة، فإذا عاش ذلك كله في النطاق الضيّق الذي يحبس نفسه فيه، كان ذلك سبباً في أن يختم الله على قلبه، لأن القلب لا يملك عند ذلك أيّ مجال للانفتاح. {فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} شيئاً من حركة المسؤولية وفاعليّتها وأريحيّتها، فانغلقوا عن كل شيء من حولهم، فلم يعرفوا الساحة في نتائجها المستقبلية، ولم يفهموا قصة المصير في ما يعلمون وفي ما لا يعلمون.