من الآية 94 الى الآية 96
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيــات
{يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ* سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ* يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ}(94ـ96).
* * *
معاني المفردات
{نَبَّأَنَا}: أخبرنا.
{انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ}: رجعتم إليهم.
{رِجْسٌ}: نجس.
* * *
رفض اعتذار المتخلّفين
ويرجع النبيّ والمسلمون من المعركة ـ وقد تكون معركة تبوك ـ ويشعر المنافقون بالحرج الكبير أمامهم، فكيف يفسّرون تخلّفهم، وكيف يبرّرون موقفهم، وها هم المسلمون يرجعون من دون أن يصيبهم أذىً؟ ويبدأون بالاعتذار والتبريرات من أجل الحصول على الثقة المفقودة من جديد.
* * *
{يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ} ليبرروا مواقفهم {قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ} لأن المسألة عندنا في ما يتعلق بكل الخلّفيات التي تكمن في داخل الموقف، واضحةٌ بيّنة لا تحتمل الشك حتى تسعوا إلى تحصيل القناعة من خلال مواقف الاعتذار والتبرير، {لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ} لأننا نعرف زيف كل كلامكم {قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ} بكل ما تحدثتم فيه وما اتفقتم عليه من الكيد للإسلام والمسلمين، ممّا كنتم تظنون أن السرّ لا يتجاوز أفرادكم {وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} فيما ينطوي وراءه من خلفيَات، وفيما يتحرّك معه من أوضاعٍ وعلاقات {ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} حيث تواجهون الموقف الحاسم أمام الله، هناك في عالم الغيب الذي لا تحسونه الآن، ولكنه يمثل الحضور الواضح الحقيقيّ في عالم الحسّ الذي يفرض نفسه على الإنسان، بعيداً عن كل ضبابيّة الأفكار وغموض المواقف. إنَّه العالم الذي ينكشف فيه كل شيء أمام خالق كل شيء {فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} وستصدمكم المفاجأة غداً، في ما كنتم غافلين عنه من حقيقة الألوهيّة في هيمنتها على كل خفايا النفس وكل أسرارها، فسترون أنكم مكشوفون لله في كل شيء، من أصغر الأشياء إلى أكبرها ومن أضعفها إلى أقواها.
ولن يهدأ قلقهم أمام الحساب العسير الذي ينتظرهم من قِبَل المسلمين، على ما انحرفوا عنه من خطّ الجهاد، فيحاولون أن يواجهوا الموقف بالحلف بالله، ليؤكدوا سلامة موقفهم {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ} أي لتسكتوا عنهم، فلا تواجهوهم بالعتاب والتأنيب والمحاسبة الدقيقة على أعمالهم، فهم لا يطمعون ـ في البداية ـ أن تجدوا لهم العذر الملائم، بل قد يكتفون بالسكوت عن الحديث عن الموضوع من ناحية المبدأ. ويريد الله أن يوجه المسلمين إلى أن ذلك لا يمثّل عقدةً مستعصية، لأنّ الله لا يريد لنا أن نجعل الموضوع شغلنا الشاغل الذي نثيره بمختلف الوسائل، لأن ذلك قد يمنحهم أهميَّةً لا يستحقونها. وقد تكون المصلحة أن يكون الموقف منهم موقف اللاّمبالاة إمعاناً في تحقيرهم وفي إلغاء دورهم المميّز في المجتمع {إِنَّهُمْ رِجْسٌ} في ما تمثله الكلمة من معنى القذارة المعنويّة المتصلة بقذارة الفكر والروح والضمير، ما يوحي بأنّ على الناس أن يواجهوهم من هذا الموقع وبهذه النظرة، تماماً كما هو الموقف أمام القذارة الحسيّة التي تفرض الابتعاد عنها بكل نفورٍ واشمئزاز {وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} انطلاقاً من خط العدل الذي يحاسب الناس على أعمالهم، إن خيراً فخير وإن شراً فشرّ.
{يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ} وهذه هي المرحلة الثانية التي يفكرون في الوصول إليها، فإذا لم يذكرهم المسلمون بسوء، كان ذلك ضمانةً لهم ليدخلوا إلى عواطفهم من أقرب طريق ليحصلوا على الرضا عنهم، ولكن الله يقول للمسلمين إنهم إذا أرادوا تحريك عواطفهم في خط رضاه، فينبغي أن لا يرضوا إلا عمّن يرضى الله عنه، فإذا ابتعدوا عن ذلك، فلا يغيِّرون شيئاً من الموضوع {فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} الذين لم يقف بهم الفسق عند حدود الجانب العملي من الخطيئة، بل تعدّى ذلك إلى الجانب الفكري في خط العقيدة، حيث تحوّل إلى كفرٍ بالله ورسوله واليوم الآخر، فكيف يمكن أن يحصلوا على رضا الله في هذا الجو.. وكيف يمكن للمسلمين أن يفكروا بالرضا عنهم، في الخط الذي لا يرضى به الله عنهم في حساب الدنيا والآخرة؟!
تفسير القرآن