تفسير القرآن
التوبة / من الآية 97 إلى الآية 99

 من الآية 97 إلى الآية 99
 

بسم الله الرحمن ارحيم

الآيــات

{الأعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ* وَمِنَ الأعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ* وَمِنَ الاْعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخر وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (97ـ99)..

* * *

معاني المفردات

{وَأَجْدَرُ}: أحرى وأولى.

{مَغْرَمًا}: المغرم: الغرم. وهو نزول نائبة بالمال من غير خيانة.

{وَيَتَرَبَّصُ}: التربص: الانتظار.

{الدَّوَائِرَ}: جمع دائرة، وهي من حوادث الدهر.

{قُرُبَاتٍ}: القربة: طلب الثواب والكرامة من الله تعالى بحسن الطاعة.

الأعراب.. كافرون ومؤمنون

وينطلق القرآن ليتابع حركة الواقع على الأرض، من خلال النماذج الحيّة المنحرفة والمستقيمة، الكافرة والمؤمنة، ليتعلم الناس مواجهة الفكرة من خلال النموذج الحي المتحرك في الساحة، فيتحدث لنا عن الأعراب الذين يسكنون البادية، حيث المصالح الذاتية الضيقة هي التي تتحرك في وجودهم بعيداً عن الأهداف الكبيرة الشاملة، فيقودهم ذلك إلى الكفر والنفاق والانحراف عن الخط المستقيم الذي يتمثل في حدود الله.

* * *

الأعراب أشد كفراً ونفاقاً

{الأعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا} لأن الإنسان كلما اشتدَّ جهله وابتعد عن مواقع المعرفة، كلما ضاق أفقه عن استيعاب القضايا الكبيرة واشتد به التعصب للضلال، لأن الجهل يمنع الإنسان من الانفتاح على الحوار من مواقع الفكر، فيلجأ إلى التعصب الذميم الخانق الذي يغلق عنه أبواب التسامح. وإذا اصطدم بالواقع في بعض مراحله، وفرضت عليه الأجواء المحيطة به في مراكز القوّة أن يخضع للحق بعيداً عن مزاجه، يلجأ إلى النفاق الذي يحاول من خلاله تغطية مواقفه الحقيقيّة، وكلما اشتد الضغط أكثر كلما ازداد نفاقه، وهذا هو ما جعلهم أشد كفراً ونفاقاً من غيرهم. فالحضارة تمنح الإنسان نوعاً من المرونة التي تفتح فكره وتهذّب أسلوبه، وتنطلق به في الاتجاه السليم الذي قد لا يصل به إلى الخط المستقيم، ولكنه لا يحشره في الزاوية، حيث الأفق المحدود الذي يؤدي به إلى الاختناق {وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} من مفاهيم وشرائع وأساليب للفكر والعمل والحياة، لأن ذلك يفرض عليهم الأقتراب إلى مصادر المعرفة التي تقرّبهم إلى خطّ الالتزام من موقع الفكر والمعاناة، مما يدفعهم إلى معرفة الفواصل بين خط الإسلام وخط الكفر، أو بين خط الاستقامة وخط الانحراف، {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} في ما يوحي لرسوله مما يتناسب مع حاجة الناس إلى الهداية وينسجم مع مصالحهم الحقيقية في الحياة.

{وَمِنَ الأعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا} فينفق ليوحي للآخرين بانسجامه مع الخط الإسلامي في الإنفاق والعطاء، ولكنه عندما يجلس إلى نفسه أو إلى قومه، فإنه يعتبره غرامةً وخسارةً، لأنه لا يجد هناك أيّ عوضٍ عمّا أنفق في ما يعتقده من قضايا الجزاء، الذي لا يفهم منه إلا الجانب المادي من التعويض، أمّا ثواب الله ورضوانه، فهو حديث خرافة، {وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ} التي تدور على المسلمين، فينتظرون غلبة المشركين عليكم، ليأخذوا حرّيتهم في ما يريدون أن يعملوا أو في ما لا يريدونه. {عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السَّوْءِ} أي دارت عليهم دائرة السوء، في ما يبعث الله لهم من عذابه وعقابه، وذلك على أسلوب الدعاء، {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} فهو يسمع نجواهم في ما يتناجون به من السوء، ويعلم ضمائرهم في ما يضمرونه من شرّ. وتلك هي الصورة المظلمة من مواقع الأعراب في موقفهم تجاه الله ورسوله والمسلمين.

* * *

ومن الأعراب مؤمنون

ولكن هل هذه هي كل الصورة، أم أنَّ هناك وجهاً آخر مشرقاً يفيض بالنور والخير والإيمان؟ إن الله يطرح علينا النموذج الآخر من الصورة، الذي يعطينا الفكرة في أن البداوة لا تعني الحكم بالإعدام على كل انطلاقات الضوء في العقول والأفكار والمشاعر، بل ربما تكتشف في عمقها الإنساني وصفاء شعورها الروحي، ما يدفعها إلى العطاء والبذل والتضحية قربةً إلى الله.

{وَمِنَ الأعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخر} ولا يتجمد إيمانه في نفسه، كفكرٍ يعيش الجانب النظريّ من الإيمان من دون أن يلامس الحياة بحركةٍ عمليّةٍ تطبيقيّةٍ، بل يحاول أن يؤكد نفسه بالمعاناة الروحيّة المتحركة في خطّ الواقع {وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللَّهِ} في ما يتقرب به الناس إلى الله في عبادة العطاء {وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ} في ما ينبغي الحصول عليه من دعوات الرسول له بالخير عند الله، وهذا هو المراد من الصلوات هنا. ويؤكد الله حصولهم على ذلك كله، {أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ} لأنه تقبّل منهم نفقاتهم الخالصة المنطلقة من روح الإيمان وعمقه، {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} يغفر لهم ذنوبهم، ويرحم خشوعهم وخضوعهم وابتهالاتهم في أجواء الرحمة.