من الآية 100 الى الآية 102
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيــات
{وَالسّابِقُونَ الأوّلونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ* وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النَّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ* وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (100ـ102).
* * *
معاني المفردات
{حَوْلَكُم}: المحيطين بكم.
{مَرَدُواْ}: مرنوا على الخروج من الطاعة.
* * *
السابقون والمنافقون
{وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ} الذين سبقوا إلى الإيمان والهجرة والنصرة والجهاد، ووعوا مسؤوليّة الدعوة إلى الله، في الوقت الذي لم يكن هناك للإسلام قوّةٌ، ولم يكن مع الرسول إلا القليل، فلم يستوحشوا لذلك، ولم يخافوا من نتائجه، بل أقبلوا على الساحة إقبال التضحية مستعدين ليقدّموا الحياة كلها قرباناً لله، ليكونوا الروّاد للمسيرة الطويلة، ليتعلم الناس من خلال شجاعتهم كيف يواجهون شجاعة الموقف أمام التحدّي بالقدوة الحسنة. وبذلك استطاعوا أن يدفعوا المسيرة للاستمرار، وأن يصنعوا لهم أتباعاً في الخط والموقف {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ} فساروا على الطريق نفسه المنطلق إلى الله، وأحسنوا الإيمان والعمل من حيث أحسن الأوّلون {رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ} بما أطاعوه وعبدوه وأصلحوا نيّاتهم بين يديه وأخلصوا له العمل الصالح {وَرَضُواْ عَنْهُ} في ما أنعم عليهم من نعمه الوافرة الكثيرة المتتابعة التي لا انقطاع لها ولا أمد {وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} الذي يفتح للإنسان كل رحاب العفو والرضوان والغفران، فيحسّ معه بطمأنينة الروح، وسكينة النفس، وروحانية المشاعر، كما يُقبل ـ بكل كيانه ـ على النعيم الباقي الذي يتقلب فيه تحت ظلال رحمة الله وعفوه ورضوانه، وتلك هي الصورة المشرقة التي توحي للنفس بالإشراق والرضا والسكون، فأين الصورة الثانية؟
* * *
المنافقون من الأعراب
{وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النَّفَاقِ} وأصرّوا عليه، وانطلقوا في هذا الاتجاه من أجل أن يقفوا حاجزاً بين الناس وبين الإيمان، ليفتنوهم عن الدين، ويبعدوهم عن وحيه وهداه. وربما كانت خصوصية أهل المدينة أنهم يواجهون الساحة من خلال نقاط الضعف اليوميّة الموجودة فيها، ويتحركون فيها من خلال الخطوط المتشابكة التي لا تتمكن من الفصل بين لونٍ ولونٍ وموقع وموقع، ما يؤدي إلى الكثير من المرونة في الحركة واللعب على حركة الواقع في استغلالٍ للعواطف والمواقف، {لاَ تَعْلَمُهُمْ} لأنك لا تحيط بالغيب في كثيرٍ من الأجواء المحيطة بك أو البعيدة عنك، مما يحتاج إلى الاطلاع على خفايا الأشياء ودوافعها ونتائجها المستقبليّة مما لا يعلمه إلاّ الله {نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} لأننا نعلم كل خفايا الأوضاع والأسرار {سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ} ربما كان ذلك عذاب الموت وعذاب الحساب في القبر، وربما كان هناك وجهٌ آخر للمسألة غير ذلك في ما ينتظرهم من عذاب الدنيا بشكلٍ متكرّر، {ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} في ما ينتظرهم من عذاب الآخرة.
* * *
المعترفون بذنوبهم
وتأتي الصورة المزدوجة، التي تحمل الجانب المشرق من الصورة، بإزاء الجانب المظلم منها، في ما يمثله العمل الصالح في بعض المجالات، والعمل السيىء في بعض آخر، ولكنها تتحرك، على كل حال من موقع الإيمان الصحيح، الذي إن انحرف الإنسان معه عن الخط المستقيم للعمل، فإنه لا ينحرف من حالة عمقٍ في الذات، بل من حالةٍ طارئةٍ متحركة توحي للإنسان بالغفلة التي قد يعود عنها في وقتٍ قريبٍ {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ} عندما اكتشفوا وجه الخطأ في مسيرتهم، فرجعوا إلى الله في موقف اعترافٍ وابتهال، {خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً} فوقفوا بين موقعٍ يبعث فيهم الأمل، وموقعٍ يقودهم إلى اليأس. ولكن الأمل يتغلب على اليأس، لأن المؤمن لا ييأس من روح الله، فيبقى في خطّ الرحمة والعفو وفي أجواء الأمل، {عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} لأن رحمته سبقت غضبه {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.
تفسير القرآن